ص -288- الأب خالق ما يرى وما لا يرى وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم فإنكم تقولون المسيح هو الله وتقولون هو ابن الله كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه وكفركم بذلك وليس هذا هذا قول طائفة وهذا قول طائفة كما يقوله بعض الناس بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات. والذات ليست هي الصفة وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام كما تفسرون الأقنوم بذلك فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة والكلام سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم هو مع الحياة قائم بالأب والصفة ليست عين الموصوف بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام.
والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم وبرب واحد يسوع المسيح عطف الصفة وأن هذا هو الأب كما قال إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب فهذا إله واحد والعطف لتغاير الصفة فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا إلهان بل ثلاثة وهو واحد فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر بل قالوا وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق فصرحوا بأنه رب وأنه إله حق من إله حق وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول.
وقالوا مع ذلك إنه مولود من الأب قبل كل الدهور وأنه مولود غير مخلوق.(4/337)
ص -289- فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت فإن الناسوت مخلوق.
وهم يقولون إن الكلمة هي المتولدة من الأب والكلمة صفة المتكلم وقائمة به والكلام ليس برب ولا بإله بل هو كلام الرب الإله كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والآله ثم قلتم مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا وأنه مساو الأب في الجوهر والمساوى ليس هو المساوي.
وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول وهوصريح بإثبات إلهين ويقولون مع ذلك إنه إله واحد جوهر واحد ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات فإن الجوهر هو الذات وليس هنا جوهران أحدهما مجرد عن العلم والآخر متصف به حتى يقال إن أحدهما مساو للآخر بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن أكمل من الأب وهو الذات مع العلم والأب بعض الابن.
وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة والذات المجردة بعض ذلك فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس.
ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الأب مسجود له ممجد ناطق في الأنبياء فإن كان المنبثق ربا حيا فهذا إثبات إله ثالث وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى.
ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له والمسجود له هو الإله المعبود وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالثبجميع الأنبياء فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت وأنه إله تام وإنسان تام كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة.(4/338)
ص -290- وحلول روح القدس كلاهما أقنوم.
وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى وحلول الصفة دون الذات فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي ويكون كل نبي هو رب العالمين ويقال مع ذلك هو ابنه وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره ولا يجوز التفريق بين المتماثلين وليس لهم أن يقولوا الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص ولا نص في غيره لوجوه.
أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك كما قد تبين.
الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه كلفظ الابن ولفظ حلول روح القدس فيه ونحو ذلك.
الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلايلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام.
وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر وجب التسوية بين المتماثلين كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي.
ويكفر من كذبه لأنه نبي فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه.
الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير فيلزم تجويز ذلك في الغير إذ لا دليل على انتفائه كما يقولون إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره على قولهم وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك.
الخامس: أنه لو لم يقع ذلك لكنه جائز عندهم إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من(4/339)
ص -291- ونصفه ناسوتا وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه والمحالات التي تلزم النصارى أكثرمن بعض الوجوه.
الوجه الثاني: قولهم ولا يلزمنا إذا قلنا هذه عبادة ثلاثة آلهة بلإله واحد كما لا يلزمنا إذا قلنا الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي ولا إذا قلنا النار وحرها وضوءها ثلاث نيران ولا إذا قلنا الشمس وضوؤها وشعاها ثلاث شموس.
فيقال هذا تمثيل باطل لوجوه.
أحدها أن حر النار وضؤها القائم بها ليس نارا من نار ولا جوهرا من جوهر ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر وكذلك نطق الإنسان ليس هو إنسانا من إنسان ولا هو مساو الإنسان في الجوهر وكذلك الشمس وضوؤها القائم بها وشعاعها القائم بها ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه وأنتم قلتم إله حق من إله حق فقلتم في الأمانة نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مساوي الأب في الجوهر وقلتم في روح القدس إنه رب ممجد مسجود له فأثبتم ثلاثة أرباب.
والثاني أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران وهذا مباين لها ليس قائما بها ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر فيكون النور جوهرا قائما بنفسه وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه.
ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها ولا جوهرا قائما بنفسه فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه لكان قولهم حقا وتمثيلهم.(4/340)
ص -292- مطابقا ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله ليس هو نفس كلمة الله.
الوجه الثالث: أن قولهم الشمس وشعاعها وضوؤها إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها وبالشعاع ما ينفصل عنها فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها إذ كلاهما يقوم بها وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين فلا يكون التمثيل بها مطابقا وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما ما يقوم بها أو كلاهما ما ينفصل عنها فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ وبعضهم يقول الشمس وحرها وضوؤها كما يقولون مثل ذلك في النار.
وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها فإن هذا لم يقم عليه دليل وكثير من العقلاء ينكره ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة وهو قول أرسطو وأتباعه.
وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه فإن أرادوا بالروح حياته فليس هذا هو مفهوم الروح وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان وليس هذا قول أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى بل هو كفر عندهم فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل.
والوجه الرابع: أن التمثيل أما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر أو بما هو مباين لذلك كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه(4/341)
ص -293- الجواهر فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس وضوء منقلب وليس صفة قائمة بالشمس والنار.
وإذا أريد بما حل في المسيح هذا وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} وقال تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها لكن ليس هو نفس صفة الله وإن كان من الناس من يقول بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد فهذا القول خطأ فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره وبلغ كلام غيره يقال هذا علم فلان وكلامه لأن هذا الثاني بلغه عنه والمقصود هو علم الأول(4/342)
وكلامه مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني وإن كان قد يكون مثله وقد يكون الأول هو(4/343)
ص -294- المقصود بالثاني مثل من بلغ كلام غيره فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ.
وصفات المبلغ كحركته وصوته التي بها يحصل التبليغ ليس هو نفس المقصود وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه.
لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة ويقولون إن المسيح خالق ورازق وهو خالق آدم ومريم وهو ولد آدم ومريم وهو خالق لهم بلاهوته ابن لهما بناسوته.
ويقولون هو ابن الله وهو الله بلاهوته ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد والله كفرهم بقولهم{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ونحو ذلك.
وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس صفات الله كما أن هذهصفات لهذه المخلوقات.
قيل لهم أولا لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس أن تقولوا مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم ولا حياة الله إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل.
والبائن عن الله ليس صفة لله فضلا عن أن يكون هو الخالق فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس صفة الرب ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا(4/344)
مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها وجعلتموها جواهرا أربابا ثم قلتم إله واحد فضللتم(4/345)
ص -295- ضلالا مثلثا في التثليث وضلالا مثلثا في الاتحاد.
وقيل لكم ثانيا إذا جعلتم ذلك صفات لله كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها امتنع أن تحل بغيرها وامتنع معالحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله وجعلتم ما يحل به إلها خالقا بل هو الإله الخالق ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار نارا ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس شمسا ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه هو نفس زيد فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم مخالفا لتمثيلكم.
وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق.
ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف وتارة بحلول النار في الحديد وتارة بالنفس والبدن وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه لو انخرق وعاؤه لتبدد وهو محيط به ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش ولا إلى غيره أو يحيط به شيء من الموجودات إذ هو الظاهر فليس فوقه شيء.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيءوأنت الظاهر فليس فوقك شيء" وأنت الباطن فليس دونك شيء فهو غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين فهو مستو على عرشه كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش.(4/346)
ص -296- والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط لحاجته إليه والله غني عن كل ما سواه وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.
وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه بل كما خاطب موسى من الشجرة فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل كما بسط في موضعه.
وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقى في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به فهذا استحالة بلا حلول والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار وكذلك إذا ألقيت في الماء فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء وهو الذي يأكل ويشرب وهذا من أعظم الكفر.
ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره فهو لازم لهم وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن فإن النفس تتألم تألم البدن وتستحيل صفاتها بكونها في البدن وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه وأن يكون مستحيلا لمااكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس وأما قولهم إذ لم نهمل ما تسلمناه ولم نرفض ما تقلدناه فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح إنا لا نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام.(4/347)
ص -297- وجواب الطائفتين من وجهين.
أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم والشرع الذي شرع لكم وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام.
والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر والرسول الآخر الذي أرسل إليكم ومن كذب ما أنزل إليه من ربه والرسول الذي أرسل إليه كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول وكتاب غير مبدل فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه.(4/348)
ص -298- فصل.
وأما قولهم ولنا هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم.
فيقال لا يصح استشهادهم بهذا الكتاب واستدلالهم بوجه من الوجوه فإن الذي قد جاء به قد تواتر عنه أنه أخبر أنه مرسل إليهم وأنهم كفار إذا لم يؤمنوا به مستحقون للجهاد ومن لم يستحل جهادهم فهو كافر والقرآن مملوء بكفرهم فإن كان هذا رسولا من الله وقد أخبر بكفرهم ثبت أنهم كفار.
فإن الرسول لا يقول على الله إلا حقا لا يكذب على الله في شيء ومن كذب على الله ولو في كلمة واحدة فهو من الكذابين المفترين على الله الكذب مستحق لعقوبة الكذابين كما قال قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} سورة يونس الآيتان.
فمتى كانت(4/349)
كلمة من كلمات هذا الكتاب كذبا على الله لم يكن كتاب الله ولم يكن جاء به رسول الله فإن الكاذب قد يصدق في أكثر ما يقوله لكن إذا كذب في بعض ما يقوله كان كاذبا والله تعالى لا يرسل من يكذب عليه فإن المخلوق لا يرضى أن(4/350)
ص -299- يرسل من يعلم أنه يكذب عليه ولو فعل ذلك دل على جهله أو عجزه فكيف يرسل رب العالمين من يعلم أنه يكذب عليه.
وحينئذ فمتى كذبوا بكلمة واحدة مما في الكتاب لم يصح استشهادهم واستدلالهم بشيء مما في الكتاب وإن صدقوا بالكتاب كله لزمهم الإيمان بما جاء به واتباع شريعته والاعتراف بكفر الذين كذبوه وكفر الذين يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة.
وهذا بخلاف من آمن بالرسول ولم يثبت عنده بعض ما نقل عنه أو لم يعرف معناه فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه بالرسول.
فالمسلمون إذا كذبوا ببعض ما نقل عن موسى والمسيح فهو لطعنهم في الناقل لا في النبي المنقول عنه.
وأما النصارى فيعلمون أن محمدا جاء بالقرآن فطعنهم في بعضه طعن في الرسول نفسه وكفر به وليس هذا بمنزلة ما مثلوا به من الوثيقة التي كتب وفاؤها في ظهرها فإن الذي له الدين أقر بالاستيفاء المسقط له فلم يبق هناك حق له يدعيه بخلاف ما يخبر به الذي يقول إنه رسول الله فإنه يقول إن الله أنزل علي هذا الكتاب كله وأرسلني بكذا وكذا إلى كذا وكذا فإن كذب في شيء مما أخبر به عن الله لم يكن الله أرسله فإن الذي أرسله هو الذي جعله يبلغ عنه ما يقوله بلا زيادة ولا نقص وإرسال الله للرسول يتضمن شيئين.
إنشاء الله للرسالة والله حكيم وهو أعلم حيث يجعل رسالاته لا يجعلها إلا فيمن هو من أكمل الخلق وأصدقهم.
ويتضمن إخبار الله عنه بأنه صادق عليه فيما يبلغه عنه مما يقول إن الله أرسله به فكما صدقه ب المعجزات في قوله إنه أرسلني فقد صدقه بما يقول إنه أرسلني به إذ التصديق بكونه أرسله من غير معرفة بصدقه فيما يخبر به لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الإرسال.(4/351)
ص -300- والله تعالى عليم بما يشهد به لمن أرسله بخلاف المخلوق الذي يبعث من يظنه يصدق فيما يبلغه عنه فيظهر أنه كذب عليه والله يعلم عواقب الأمور والرسالة صادرة من علمه وحكمته وهو عليم حكيم ومن يكذب على الله ولو في كلمة لم يبلغ عنه ما يقوله على هذا الوجه فلا يكون رسوله.
ولهذا اتفق أهل الملل على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله لا يكذبون عليه عمدا ولا خطأ فإن هذا مقصود الرسالة فكان تمثيل هذا بالوثيقة تمثيلا باطلا فإن المدعى للإسقاط لم يدع كلاما متناقضا بل قال أقررت بهذا الدين ثم وفيتك إياه وأنت تقر بوفائه وإقرارك مكتوب في ظهرها فليس لك أن تحتج بإقراري بالدين دون إقرارك بالوفاء بل أما أن تعتبر ما في الوثيقة من إقراري وإقرارك وإما أن تبطل الأمرين المتعارضين.
وهذا كلام عدل كالشريكين المتفاوضين مثل شريكي العنان إذا قال لصاحبه إن حصل ربح فهو لي ولك وإن لم يحصل ربح فلا لي ولا لك.
وكذلك البائع والمؤاجر الذي يقول إن كان بيننا معاوضة فعليك تسليم ما بذلته وعلي تسليم ما بذلته لا يستحق هذا إلا بهذا فهذا كله كلام عادل وإنصاف بخلاف الشخص الذي يقال فيه إنه رسول الله والكتاب الذي يقال إنه كلام الله وأن الله أنزله فإن هذا إن كان رسولا صادقا فجميع ما بلغه من الله حق وإن كان كاذبا لم يكن الله أرسله فجميع ما بلغه عن الله كذب على الله فلا يجوز بمجرد خبره أن ينسب إلى الله شيء ولا يحتج بما يخبر به عن الله على شيء.
ألا ترى أن من ادعى الرسالة وعلم أنه كاذب كالأسود العنسي ومسيلمة(4/352)
ص -301- الكذاب وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء لا يجوز لأحد أن يحتج بشيء مما ذكروا أن الله أرسلهم به وإن كان ذلك القول قد علم أنه حق من جهة أخرى فإنه قد علم بكذبهم أن الله لم يرسلهم فأي شيء قالوا إن الله أنزله عليهم كانوا كاذبين فيه ومتى علم أنه كاذب في نفس الخبر المعين لم يجز أن يحتج بجنس الذي علم أنه كذب فيه.
وكذلك لو قال رجل عندي أن موسى أو داود أو المسيح كذبوا على الله في بعض ما يخبرون به عن الله كانوا بمنزلة من لم يرسلهم الله بشيء لكن كذبوا في قولهم إن الله أرسلهم فإذا أراد مع هذا أن يحتج بما ينقل من التوراة والزبور والإنجيل عن الله كان متناقضا وكان احتجاجه باطلا غير مقبول بل لو قال أنا أشك في بعض ما أخبروا به عن الله هل كذبوا فيه أم لا كان كذلك شكا في أن الله أرسلهم فإن من أرسله الله لا يكذب في شيء لا خطأ ولا عمدا ومع شكه فيذلك لا يجوز أن يحتج بشيء مما ينقلونه عن الله لتجويز ان يكونوا كاذبين في نفس ذلك الذي نقلوه عن الله وليس هذا مثل رسول الواحد من الآدميين فإنه قد يكون أرسله ثم أن الرسول صدق في بعض ما بلغه عن مرسله وكذب في البعض.
ويجوز على الآدمي أن يرسل من يكذب عليه لعدم علمه بكذبه أو عدم حكمته في إرساله.
وأما الرب تعالى فلا يجوز أن يرسل نبيا يكذب عليه لا عمدا ولا خطأ وكذلك الشاهد والمخبر الذي قد علم أنه تارة يصدق وتارة يكذب يمكن أن يستدل ببعض أخباره الذي يظهر فيها صدقه لدلالات تقترن بذلك بخلاف الرسول فإنه إذا كذب كذبة واحدة امتنع أن يكون الله أرسله فصار جميع ما يبلغه عن الله هو كاذب في(4/353)
ص -302- أن الله أرسله به فكذبه في كلمة واحدة يوجب أنه كاذب في جميع ما بلغه عن الله وأن جميع ما حكاه ورواه عن الله قد كذب فيه وإن قدر أن ذلك الكلام في نفسه حق لكن تبليغه عن الله ونقله وروايته وحكايته عن الله كذب على الله وقد أخبر الله أنه ينسخ ما يلقيه الشيطان مما يناقض مقصود التبليغ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} سورة الحج.
وإن قالوا خبره يناقض بعضه بعضا كان الجواب من وجهين.
أحدهما: أن هذا أيضا إن كان حقا فإنه يقدح في رسالته فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به وإن كان باطلا لم يرد عليه.
فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب في غاية الفساد وهو جمع بين النقيضين واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب.
وإذا كانت النتيجة تستلزم فساد بعض مقدمات الدليل بطل الاستدلال بذلك الدليل الذي لا يصح إلا بصحة مقدماته فإذا كانت مقدمته لا تصح إلا مع فساد نتيجته ونتيجه مستلزمة لفساد مقدمته كان الجمع بين صحة(4/354)
المقدمة والنتيجة جمعا بين النقيضين.
وكذلك من استدل بشيء من الكتاب على ما يناقض ما في الكتاب كاستدلال النصارى بآيات فيه على صحة دينهم كان تناقضا فإنه إن صح ذلك الدليل بأن(4/355)
ص -303- مدح دينهم مع ذمه كان متناقضا والكتاب المتناقض لا يكون كتاب الله.
وإن فسد أحدهما أما فساد دينهم وإما فساد مدحه فالكتاب الذي فيه فساد لا يكون كتاب الله فيلزم أن لا يكون كتاب الله على التقديرين فلا يصح الاستدلال به من جهة كونه خبر الله وأما الاستدلال به من جهة كون المتكلم به رجلا عالما حكيما وهذا لا يفيد العلم إذ ليس معصوما إلا الأنبياء عليهم السلام.
والنصارى يجوزون أن يكون معصوما غير الأنبياء فبتقدير أن يكون كذلك فهو حجة عليهم وإن قالوا هو رجل عالم ليس برسول من الله قيل لهم فهذا قوله ليس بحجة لجواز أن يخطئ ولكن يعتضد بقوله وأما إذا ادعى أن الله أرسله وهو لم يرسله بهذا الكتاب كله فهذا كذاب لايحتج بشيء من كلامه ولا يكون مثل هذا عدلا فضلا عن أن يكون حكيما بل هو من الذين افتروا على الله كذبا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.
والجواب الثاني: أنا قد بينا أن ما ذكروه لا يناقض شيئا مما أخبر به وأنه ليس في هذا الكتاب تناقض يحتجون به بوجه من الوجوه.
وأما قولهم وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة.
فيقال بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وخبر الله حق ووعد الله صدق والله لا يخلف الميعاد فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم.
ثم لما بعث الله محمدا بالدين الذي بعث به المسيح وسائر الأنبياء قبله وكان محمد مصدقا لما جاء به المسيح وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد صارت أمة محمد أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته وكذبوه فيما بشر به فجعل الله أمة محمد فوق النصارى إلى يوم القيامة.
كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم(4/356)
القيامة والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا(4/357)
ص -304- متبعين المسيح لكنهم أتبع لهم من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه فإنهم كذبوه أولا وكذبوا محمدا ثانيا فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود.
والمؤمنون أمة محمد هم المتبعون للمسيح عليه السلام ومن سواهم كافر به فأمة محمد فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة.
ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم وأخذوا منهم خيار الأرض الأرض المقدسة وما حولها من مصر والجزيرة وأرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم.
ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح عليه السلام والمسلمون كفارا به لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى.(4/358)
ص -305- فصل.
قالوا وأما تجسم كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء وتجسدها بإنسان مخلوق وهو الذي أخذ من مريم العذراء المصطفاة التي فضلت على نساء العالمين واتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة وخاطب الناس كما خاطب الله موسى النبي من العوسجة ففعل المعجز بلاهوته وأظهر العجز بناسوته والفعلان هما من المسيح الواحد.
والجواب: إن في هذا الكلام من أنواع الكذب والكفر والتناقض أمورا كثيرة وذلك يظهر بوجوه.
الأول: أن قولهم كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء كلام متناقض فإن الخالق هو الإله الخالق وهو خلق الأشياء بكلامه وهو قوله كن فالخالق لم يخلق به الأشياء بل هو خلقها والكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها بل خلق الخالق الأشياء والفرق بين الخالق والمخلوق وبين ما به خلق الخالق معقول.
وهؤلاء جعلوا الخالق هو الذي به خلقت المخلوقات فجعلوا الكلمة هي الخالق وجعلوا المخلوقات خلقت بها وإيضاح هذا أن الكلمة إن كانت مجرد الصفة فإن الصفة ليست خالقة وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق ليس هذا هو المخلوق به.
والثاني: قولهم تجسدها بإنسان مخلوق وقولهم تجسم كلمة الله فإن قولهم تجسمت وتجسدت يقتضي أن الكلمة صارت جسدا وجسما بالإنسان المخلوق وذلك يقتضي انقلابها جسدا وجسما وهذا يقتضي استحالتها وتغيرها وهم قالوا اتحادا بريا من تغير واستحالة.
الثالث قولهم اتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة كلام متناقض أيضا فإن الاتحاد يصير الاثنين واحدا فيقال قبل الاتحاد كان اللاهوت جوهرا والناسوت جوهرا آخر.(4/359)
ص -306- وإن شئت قلت كان هذا شيئا وهذا شيئا أو هذا عينا قائمة بنفسها وهذا عينا قائمة بنفسها فبعد الاتحاد أما أن يكونا اثنين كما كانا أو صار الاثنان واحدا فإن كانا اثنين كما كانا فلا اتحاد بل هما متعددان كما كانا متعددين وإن كانا قد صارا شيئا واحدا فإن كان هذا الواحد هو أحدهما فالآخر قد عدم وهذا عدم لأحدهما لا اتحاده وإن كان هذا الذي صار واحدا ليس هو أحدهما فلا بد من تغييرهما واستحالتهما وإلا فلو كانا بعد الاتحاد اثنين باقيين بصفاتهما لم يكن هناك اتحاد.
فإذا قيل اتحد اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة كان هذا كلاما متناقضا ينقض بعضه بعضا فإن هذا إنما يكون مع التمدد والمباينة لا مع الاتحاد يوضح ذلك أنه إذا اتحد الماء واللبن أو الماء والخمر ونحو ذلك كان الحاصل من اتحادهما شيئا ثالثا ليس ماء محضا ولا لبنا محضا بل هو نوع ثالث وكل من من الماء واللبن قد استحال وتغير واختلط وأما اتحاد بدون ذلك فغير معقول.
ولهذا عظم اضطراب النصارى في هذا الموضع وكثر اختلافهم وصار كل منهم يرد على الآخر ما يقوله ويقول هو قولا يكون مردودا فكانت أقوالهم كلها باطلة مردودة إذ كانوا قد اشتركوا في أصل فاسد يستلزم أحد أمور كلها باطلة فأي شيء أخذ من تلك اللوازم كان باطلا ولا بد له منها فيأخذ هذا بعض اللوازم فيرده الآخر ويأخذ الآخر لازما آخر فيرده الآخر.
وهذا شأن جميع المقالات الباطلة إذا اشترك فيها طائفة لزمها لوازم باطلة وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم فإنه إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو أن يقال كثير من النصارى يقول إنهما بعد الاتحاد جوهر واحد وطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وهذا القول يضاف إلى اليعقوبية.
ويقولون إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كما يختلط الماء واللبن والماء والخمر وهذا القول هو حقيقة الاتحاد لا يعقلالاتحاد إلا هكذا لكن(4/360)
فساده ظاهر لعقول الناس فإذا كان هذا لازما لقول النصارى وفساده ظاهرا كان فساد اللازم يدل على فساد الملزوم فإن حقيقة هذا القول أن الذي كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط والذي ضرب(4/361)
ص -307- وبصق في وجهه ووضع الشوك على رأسه هو رب العالمين.
ونفس تصور هذا القول مما يوجب العلم ببطلانه وتنزيه الله عن ذلك وأن قائله من أعظم المفترين على الله قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
الوجه الخامس: قولهم وخاطب الناس كما خاطب الله موسى من العوسجة يوجب أن يكون الذين كلمهم المسيح ممن آمن به وكفر به بمنزلة موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما.
ومعلوم أن تكليم الله لموسى عليه الصلاة والسلام مما فضله به على غيره من النبيين فإن كان آحاد الناس بمنزلة موسى بن عمران لزم أن يكون كل من آحاد الناس في ذلك بمنزلة موسى بن عمران وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل
الوجه السادس: أنه من المعلوم أن خطاب الله لأنبيائه ورسله أفضل من خطابه لمن ليس بنبي ولا رسول والمسيح عليه السلام لم يكلم عامة النبيين والمرسلين بل لم يكلم إلا ناسا منهم من آمن به ومنهم من كفر به.
والتحقيق أنه لم يكلم أحدا من رسل الله ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله وهذا باطل ولو سلم فلم يكلم إلا اثني عشر رسولا وقد بعث الله قبله رسلا كثيرين وقد روى في حديث أبي ذر أن عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقد قال الله في القرآن: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ(4/362)
إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ}.
وفي الحديث الذي في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل" وهذه السبعون سواء(4/363)
ص -308- كانت هي التي هداها أو هي الجميع فإنه يدل على كثرة الرسل ولم يكلم الله أحدا من هؤلاء من بشر حل فيه فلو كان المكلم للناس في عيسى هو الله لكان تكليم الله للذين كلمهم عيسى من الكفار والمؤمنين أكمل من تكليمه رسل الله الذين أرسلهم.
الوجه السابع: أن الناسوت ناسوت المسيح هو من جنس سائر النواسيت والإنسان لا يستطيع أن يرى الله في الدنيا كما أخبر بذلك موسى وعيسى ومحمد فإذا لم يستطع أن يراه كان أن لا يستطيع الاتصال به ومماسته فضلا عن الاتحاد به أولى وأحرى.
الوجه الثامن: أن الله لما كلم موسى عليه السلام من الشجرة كان الكلام المسموع مخالفا لما يسمع من كلام الناس ولهذا لم تطق بنو إسرائيل سماع ذلك الصوت بل قالوا لموسى صف لنا ذلك وهذا عندهم في التوراة.
كما روى الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل فيما رواه من حديث الزهري قال لما سمع موسى كلام الله قال يا رب هذا الكلام الذي أسمع هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من هذا لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي(4/364)
ص -309- تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله.
وأما المسيح عليه السلام فكان كل أحد يسمع صوته كصوت سائر الناس لم يتميز عنهم بما يوجب أن يكونوا سمعوا كلام الله كما سمعه موسى بن عمران.
الوجه التاسع: أن الجني إذا حل في الإنسي كما يحل في المصروع ويتكلم على لسانه فإنه يتغير الكلام ويعرف الحاضرون أنه ليس هو كلام الإنسي مع أنه يتكلم بلسان الإنسي وحركة أعضائه فيعلم أن الصوت حصل بحركة بدن الإنسي مع العلم بأنه قد تغير تغيرا خالف به المعهود من كلام الإنسي والإنسان الذي حل فيه الجني يغيب عنه عقله ولا يشعر بما تكلم الجني على لسانه فرب العالمين سبحانه وتعالى لو حل في بشر واتحد به و تكلم بكلامه وكان الكلام المسموع كلام الله المسموع منه لكان يظهر من الفرق بين ذلك وبين المعهود من كلام الإنسي ما هو في غاية الظهور وكان يتغير حال الإنسي غاية التغير فإن الرب عز وجل لما تجلى للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فإذا كان البدن الإنسي لا يثبت لتجليه للجبل فكيف يثبت لحلوله فيه وتكلمه على لسانه من غير تغير في البدن.
وقد كان الوحي والملائكة إذا نزلت على الأنبياء في باطنهم يظهر التغير في أبدانهم فكان النبي إذا نزل عليه الوحي ثقل حتى يبرك به البعير وإن كان فخذه على فخذ أحد ثقل حتى كاد يرضه.
وفي الصحيحين عن عائشة أن الحارث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال: "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة(4/365)
ص -310- ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
وموسى عليه السلام لما سمع كلام الله مقت الآدميين لما وقر في سمعه من كلام الله وكان النور يظهر على وجهه حتى كان يتبرقع والمسيح عند النصارى قد اتحد به اللاهوت من حين علقت به مريم ولم يزل متحدا به وهو حمل في بطنها يعظم اتحاده به كلما كبر ثم كذلك كان متحدا به وهو صبي إلى أن رفع إلى السماء وقعد عن يمين أبيه وهو متحد به عندهم واللاهوت والناسوت جميعا ومع هذا لم يتغير بدن المسيح تغيرا يناسب ذلك ولا ظهر من الأنوار ما يناسب ذلك بل عندهم أن المسيح قبل أن يعمده يوحنا ويرى شبه الحمامة نازلا عليه لم يظهر بل كان كآحاد الناس وأول ما ظهر من قلب الماء خمرا.
وموسى عليه السلام بمجرد ما سمع الكلام ظهر عليه النور وأين سمع الكلام من الاتحاد به.
وموسى لما سمع الكلام وكلمه الله من الشجرة نزلت الملائكة وظهر له من آيات الله وعظمته ما يناسب تكليم الله عز وجل.
والرب دائما عند النصارى متحد ببدن المسيح ولم يظهر من آيات الربوبية والعظمة إلا ما يظهر أكثر منه لبعض الأنبياء.
الوجه العاشر: أن المخاطب للناس إن كان هو مجموع اللاهوت والناسوت فكلامه صريح في أنه مخلوق مربوب يدعو ويسأل والمجموع ليس بمخلوق يسأل الله ويعبده وإن كان هو اللاهوت وحدهكما يقتضيه كلامهم هذا فهو أبعد وأبعد وإن كان هو الناسوت وحده فلم يكن اللاهوت مخاطبا للناس ولم يكلم الله الناس من الناسوت كما كلم الله موسى من الشجرة.(4/366)
ص -311- وأيضا فلم يكن فرق بين حقيقة كلام الناسوت وكلام اللاهوت وكلام المسيح الصريح في أنه مخلوق كثير وهم يقرون به لكن يقولون ذلك كلام الناسوت فيقال لهم حينئذ فالمخاطب للناس هو الناسوت دون اللاهوت وأنتم قلتم أن الله خاطب الخلق من بدن المسيح كما خاطب موسى من الشجرة.
والخطاب الذي سمعه موسى من الشجرة هو كله كلام اللاهوت والكلام الذي كان يسمع من المسيح ليس فيه شيء يختص باللاهوت بل عامته صريح في أنه كلام الناسوت.
الوجه الحادي عشر: أن الله لما كلم موسى من الشجرة كان الكلام كلام الله وحده لم يكن للشجرة كلاما أصلا بوجه من الوجوه فإن كان هذا المثل مطابقا كان الذي يكلم الناس من ناسوت المسيح هو اللاهوت وحده.
ومعلوم أن في الإنجيل وغيره من النصوص الصريحة ما يدل على أن الناسوت كان هو المتكلم مما يبين الفرق الواضح بين هذا وهذا.
الوجه الثاني عشر: أن الذي نادى موسى من الشجرة لم يتكلم إلا بكلام الربوبية فقال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}.
وسائر ما تكلم به كله يقتضي أنه كلام رب العالمين وأما المتكلم على لسان المسيح فلم يقل كلمة من هذا أصلا بل كان في كلامه من الإقرار بأنه رسول وأنه مخلوق محتاج وأنه ابن البشر وغير ذلك مما يناقض من كل وجه كلام المنادي لموسى من الشجرة فمن سوى بين هذا وهذا كان قد سوى بين رب العالمين وبين إنسان منالآدميين وهو أضل من الذين قال الله فيهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فإن أولئك جعلوهم أندادا لله في بعض الأمور مع اعترافهم بأنهم مخلوقون وهؤلاء(4/367)
ص -312- الضلال جعلوا هذا الإنسان الذي يتكلم هو رب العالمين الذي كلم موسى من الشجرة وقالوا إن هذا الذي كلم العباد هو ذاك الذي نادى موسى من الشجرة.
الوجه الثالث عشر: أن يقال معلوم أن الله أجل وأعظم وأكبر من رسله بما لا يقدر المخلوق قدره فلو كان هو الذي كلم الخلق على لسان المسيح وكان الحواريون رسله الذين سمعوا كلامه منه بلا واسطة لكان الحواريون أما مثل موسى وإما أعظم.
ومعلوم أن المسيح نفسه لم تكن له آيات مثل آيات موسى فضلا عن الحواريين فإن أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء كإلياس وغيره.
وأهل الكتاب عندهم في كتبهم أن غير المسيح أحيا الله على يديه الموتى وموسى بن عمران من جملة آياته العصا التي انقلبت فصارت ثعبانا مبينا حتى بلعت الحبال والعصي التي للسحرة وكان غير مرة يلقيها فتصير ثعبانا ثم يمسكها فتعود عصاومعلوم أن هذه آية لم تكن لغيره وهي أعظم من إحياء الموتى فإن الإنسان كانت فيه الحياة فإذا عاش فقد عاد إلى مثل حاله الأول والله تعالى يحيي الموتى بإقامتهم من قبورهم وقد أحيا غير واحد من الموتى في الدنيا.
وأما انقلاب خشبة تصير حيوانا ثم تعود خشبة مرة بعد مرة وتبتلع الحبال والعصي فهذا أعجب من حياة الميت.
وأيضا فالله قد أخبر أنه أحيا من الموتى على يد موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أعظم ممن أحياهم على يد المسيح قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا(4/368)
ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
وأيضا فموسى عليه الصلاة والسلام كان يخرج يده بيضاء من غير سوء وهذا(4/369)
ص -313- أعظم من إبراء أثر البرص الذي فعله المسيح عليه السلام فإن البرص مرض معتاد وإنما العجب الإبراء منه وأما بياض اليد من غير برص ثم عودها إلى حالها الأول ففيه أمران عجيبان لا يعرف لهما نظير.
وأيضا فموسى فلق الله له البحر حتى عبر فيه بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده وهذا أمر باهر فيه من عظمة هذه الآية ومن إهلاك الله لعدو موسى ما لم يكن مثله للمسيح.
وأيضا فموسى كان الله يطعمهم على يده المن والسلوى مع كثرة بني إسرائيل ويفجر لهم بضربه للحجر كل يوم اثني عشر عينا يكفيهم.
وهذا أعظم من إنزال المسيح عليه السلام للمائدة ومن قلب الماء خمرا ونحو ذلك مما يحكى عنه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكان لموسى في عدوه من القمل والضفادع والدم وسائر ما لم يكن مثله للمسيح فلو كان الحواريون رسلا قد كلمهم الله مثل ما كلم موسى من الشجرة كانوا مثل موسى فكيف والمسيح نفسه لم يكن له آيات مثل آيات موسى ولو كان المسيح هو اللاهوت الذي كلم موسى لكان يظهر من قدرته أعظم مما أظهره على يد موسى فإنه لم يحل في بدن موسى ولا كان اللاهوت يكلم الخلق من موسى كما يزعمه هؤلاء في المسيح ومع هذه ف التي أيد بها عبده موسى تلك العظيمة فكيف تكون آياته إذا كان هو نفسه الذي قد حل في بدن المسيح وهو الذي يخاطب الناس على لسان المسيح.
الوجه الرابع عشر: أن يقال إن قولهم إن الله خاطب الناس في المسيح كما خاطب موسى النبي من العوسجة من أبطل الباطل فإن الله باتفاق الأمم كلها لم يحل في الشجرة ولم يتحد بها كما يزعمون هم أنه حل بالمسيح واتحد به فإنه عندهم حل بباطن المسيح بل وبظاهره واتحد به باطنا وظاهرا والرب تعالى لم يكن في باطن الشجرة ولا حل فيها ولا اتحد بها وقول الله إنه كلمه منها وناداه منها كقوله أنه: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ}.(4/370)
ص -314- وذلك مثل قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}.
وفي البقعة المباركة ونحو ذلك وليس في شيء من ذلك أنالرب تعالى حل في باطن الوادي المقدس أو البقعة المباركة أو الجانب الأيمن ولا أنه اتحد بشيء من ذلك ولا صار هو وشيء من ذلك جوهرا واحدا ولا شخصا واحدا كما يقول بعض النصارى إن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا وبعضهم يقول صارا شخصا واحدا بل ولا قال أحد أنه حل في شيء من ذلك كحلول الماء في اللبن أو النار في الحديد كما يقول بعضهم إن اللاهوت حل في الناسوت كذلك ولو قدر أن بعض الناس قد قال شيئا من المقالات التي لا تدل عليها الكتب الإلهية ولا تعلم بالعقل لم يكن قوله حجة إذ لا يحتج إلا بنقل ثابت عن الأنبياء أو بما يعلم بالعقل.
الوجه الخامس عشر: أن الذي كلم موسى وناداه هو الله رب العالمين وتكليمه له من الشجرة من جنس ما أخبر بنزوله إلى السماء الدنيا ونزوله يوم القيامة لحساب الخلق والكلام على ذلك مبسوط في غير هذا الموضع.
وأما حلوله في البشر أو اتحاده به فيمتنع من وجوه كثيرة عقلا وسمعا مع أنه لم يخبر به نبي.
وما تقوله النصارى في غاية التناقض فإنهم يزعمون أن المسيح هو الكلمة وهو الخالق لأن الكلمة والذات شيء واحد فلا يفرقون بين الصفة والموصوف ثم يقولون المتحد بالمسيح هو الكلمة دون الذات التي يسمونها الأب ويقولون مع ذلك إنه لم يتبعض ولم يتجزأ.
ومعلوم بصريح العقل أن الكلمة التي هي الصفة لا يمكن مفارقتها للموصوف فلا تتحد وتحل دون الموصوف لا سيما والمتحد الحال عندهم هو الخالق فيجب أن يكون هو الأب وهم لا يقولون المتحد الحال هو الأب بل هو الابن وإذا قالوا إن الابن هو المتحد الحال دون الأب فالمتحد ليس هو الذي ما اتحد والابن اتحد والأب ما اتحد(4/371)
ص -315- ويقولون إن المتحد اتخذ عيسى حجابا احتجب به ومسكنا يسكن فيه خاطب الناس فيه ويقولون في ذلك إنه اتحد به الأب لم يحتجب به ولم يسكن فيه ولم يتحد به فلزم قطعا أن يكون منه شيء اتحد ومنه شيء لم يتحد فالأب لم يتحد والابن اتحد وهذا يناقض قولهم لم يتبعض ويبطل تمثيلهم بالمخاطب من الشجرة فإن ذاك هو الله رب العالمين ليس هو الابن دون الأب مع ما ذكر من الفروق الكثيرة المبينة التي تبين بطلان تمثيل هذا بهذا.
الوجه السادس عشر: أن الرب عز وجل إذا تكلم تكلم بكلام الربوبية فلو كان في المسيح اللاهوت الذي أرسل موسى وغيره لم يخضع لموسى ولتوراته ويذكر أنه إنما جاء ليكملها لا لينقضها ولا كان يقوم بشرائعها فإن رب العالمين أعظم وأجل من ذلك بل لو كان ملكا من الملائكة لم يفعل مثل ذلك فكيف برب العالمين.
وإذا قالت النصارى فعل ذلك خوفا من بني إسرائيل أو خوفا أن يكذبوه كان عذرهم أقبح من ذنبهم فرب العالمين ممن يخاف سبحانه وتعالى.
وموسى لما كان فرعون يكذبه كان يظهر من يذل بها فرعون وقومه مع عتوه وعتو قومه ولم تكن بنو إسرائيل أعتى من فرعون وقومه فلو كان هو رب العالمين كان ما يؤيد به نفسه من أعظم مما يؤيد به عبده موسى.
ومن عجائب النصارى أنهم يدعون فيه الإلهية مع ادعائهم فيه غاية العجز حتى صلب.
وأما المسلمون فيقولون هو رسول مؤيد لم يصلب وهذه سنة الله سبحانه في رسله فإنه يؤيدهم وينصرهم على عدوهم كما نصر نوحا وإبراهيم ومحمدا صلوات الله عليهم وسلامه فإذا كان لا يجوز أن يكون رسولا مغلوبا فكيف يكون ربا مغلوبا مصلوبا.
الوجه السابع عشر: قولهم فعل المعجزات بلاهوته وأظهر العجز بناسوته.(4/372)
ص -316- فيقال لهم إن الله فعل من المعجزات ما هو أعظم من المعجزات التي ظهرت على يد المسيح عليه السلام ولم يكن متحدا بشيء من البشر فأي ضرورة له إلى أن يتحد بالبشر إذا فعل معجزات دون ذلك.
الوجه الثامن عشر: أن المسيح ظهرت على يديه معجزات كما ظهر لسائر المرسلين ومعجزات بعضهم أعظم من معجزاته ومع هذا فلم تكن المعجزات دليلا على اتحاد اللاهوت بالنبي الذي ظهرت على يديه فعلم أن الاستدلال بظهور المعجزات على يديه في غاية الفساد.
الوجه التاسع عشر: أن اللاهوت إن كان متحدا بالناسوت لم يتميز فعله عن فعل الناسوت فإنهما إذا صارا شيئا واحدا كان كل ما فعله من عجز ومعجز هو ذلك الواحد كالأمثال التي يضربونها لله سبحانه وتعالى فإنهم يمثلون ذلك بالنار مع الحديد والماء مع اللبن والخمر ومعلوم أن الحديدة إذا أدخلت النار حتى صارت بيضاء كالنار البيضاء ففعلها فعل واحد ليس لها فعلان متميزان أحدهما بالحديد والآخر بالنار بل فيها قوة الحديد وقوة النار بل فيها قوة ثالثة ليست قوة الحديد ولا قوة النار إذ ليست حديدا محضا ولا نارا محضا.
وكذلك الماء إذا اختلط باللبن والخمر فالمتحد منهما شيء واحد فعله فعل واحد منه ما ليس ماء محضا ولا لبنا محضا لا يقول عاقل أن له فعلين يتميز أحدهما عن الآخر فعل بكونه لبنا محضا وفعل بكون ماء محضا فقولهم بالاتحاد يوجب استحالة اللاهوت بالناسوت وأن يصير فعل المتحد شيئا واحدا.
وإن كان اللاهوت لم يتحد به فهما اثنان شخصان وجوهران وطبيعتان ومشيئتان وليس هذا دين النصارى مع أن حلول الرب عز وجل في البشر ممتنع كما قد بسط(4/373)
ص -317- في موضوع آخر.
وكذلك إذا مثلوه بالنفس مع البدن فإن النفس تتغير صفاتها بمفارقة البدن وكذلك البدن تتغير صفاته بمفارقة الروح له.
والإنسان الذي نفخت فيه الروح فصارت بدنا فيه الروح هو نوع ثالث ليس فيه بدن محض وروح محض حتى يقال إنه يفعل كذا ببدنه وكذا بنفسه بل أفعاله تشترك فيها الروح فهو إذا أكل وشرب فالروح تتلذذ بالأكل والشرب وبها صار آكلا شاربا وإلا فالبدن الميت لا يأكل ولا يشرب وإذا نظر واستدل وسمع ورأى وتعلم فالنفس فعلت ذلك بالبدن والبدن يظهر فيه ذلك والروح وحدها لا تفعل ذلك وعندهم أن فعل اللاهوت بعد الاتحاد كفعله قبله وكذلك فعل الناسوت وهذا يناقض الاتحاد.
والقول بهذا مع الاتحاد في غاية التناقض والفساد ولا يعقل نظير هذا في شيء من الموجودات ونفس المتكلم بهذا من النصارى لا يتصور ما يقول ولا يمكنه أن يمثله بشيء معقول.(4/374)
ص -318- فصل.
قالوا وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.
وهذا يوافق قولنا إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا أي بالناسوت الذي أخذ من مريم وكلمة الله وروحه المتحدة فيه وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين وأيضا قال في سورة النساء: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.
فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل عليها ألم ولا عرض وقال أيضا: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء.
وقال أيضا في سورة النساء: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}.
فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة وعلى هذا القياس نقول إن المسيح صلب وتألم بناسوته ولم يصلب ولا تألم بلاهوته.
والجواب من وجوه.
أحدها: أن يقال دعواهم على محمد أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد الذي يعلم من دينه بالاضطرار كما يعلم من دينه تصديق المسيح عليه السلام وإثبات رسالته فلو ادعى(4/375)
ص -319- اليهود على محمد أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول إنه رب العالمين وأن اللاهوت اتحد بالناسوت ومحمد قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
و قولة تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ(4/376)
وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} سورة المائدة(4/377)
ص -320- وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة.
وقال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ(4/378)
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} سورة الزخرف.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} سورة المائدة.
فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به بقوله أن اعبدوا الله ربي وربكم وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنهأو في تفسير كلامه أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.
ثم طلب لنفسه السلام فقال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}.
والنصارى يقولون علينا منه السلام كما تقوله الغالية فيمن يدعون فية الإلهية(4/379)
ص -321- كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم.
الوجه الثاني: أن يقال إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل إنما قال: {ا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقال المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقال تعال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء.
فذم الله اليهود بأشياء منها قولهم على مريم بهتانا عظيما حيث زعموا أنها بغي ومنها قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله.
قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.
وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه.
ولم يذكر النصارى لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم بل كان الحواريون خائفين غائبين(4/380)
فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب.
قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.
فنفى عنه القتل ثم قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.(4/381)
ص -322- وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف كما قيل أنه قبل موت محمد وهو أضعف فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وإن قيل المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة لم يكن فيهذا فائدة فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به ولأنه قال قبل موته ولم يقل بعد موته ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
وقوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فعل مقسم عليه وهذا إنما يكون في المستقبل فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به لم يقل{لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ}.
وأيضا فإنه قال وإن من أهل الكتاب وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى.
والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني وهذا خلاف الواقع وهو لما قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به لا إيمان من كان منهم ميتا.
وهذا كما يقال إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال الا مكة والمدينة أي من المدائن الموجودة حينئذ وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس(4/382)
بكذاب ولا هو رب العالمين.(4/383)
ص -323- فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته كما قال تعالى: في آية أخرى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} سورة الزخرف.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية".
وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت.
وكذلك قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره.
ولفظ التوفي في لغة العرب معناه الاستيفاء والقبض وذلك ثلاثة أنواع أحدها توفي النوم والثاني: توفي الموت والثالث: توفي(4/384)
الروح والبدن جميعا فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم ويخرج منهم الغائط والبول والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض ليست حاله(4/385)
ص -324- كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم والغائط والبول ونحو ذلك.
الوجه الثالث: قولهم إنه عني بموته عن موت الناسوت كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم عني بتوفيته عن توفي الناسوت وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت فليس هناك شيء غيره لم يتوف والله تعالى قال{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}.
فالمتوفى هو المرفوع إلى الله وقولهم إن المرفوع هو اللاهوت مخالف لنص القرآن لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}.
هو تكذيب لليهود في قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}.
واليهود لم يدعوا قتل لاهوت ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت.
وقد زعموا أنهم قتلوه فقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه وإنما هو الناسوت فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل وهو الذي رفع والنصارى معترفون برفع الناسوت لكن يزعمون أنه صلب وأقام في القبر أما يوما وإما ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} معناه أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل إذ لا حجة معهم بذلك.
ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون لم يصلب فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره كما دل عليه القرآن وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس(4/386)
أنا(4/387)
ص -325- أعرفه فعرفوه وقول من قال معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف.
الوجه الرابع: أنه قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
فلو كان المرفوع هو اللاهوت لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته إني أرفعك إلي وكذلك قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} فالمسيح عندهم هو الله.
ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه وإذا قالوا هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما مما هو من كلام الله الذي قال فيه إليه يصعد الكلم الطيب بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع.
الوجه الخامس: قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.
دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر كقوله إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها.(4/388)
ص -326- فصل.
قالوا وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي}.
فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي.
بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه.
وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره لأنه حيث قال وتخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت
والجواب أن جميع ما يحتجون به من هذه وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى.
إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه.
وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.(4/389)
ص -327- وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادتة باستعماله فيه وحمل كلامة على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه.
فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم فإذا عرف هذا فنقول.
الجواب عما ذكروه هنا من وجوه.
أحدها أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ولا خلقا عاما كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال تعالى: سورة الحشر { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.
فذكر نفسه بأنه الخالق البارئ المصور ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا(4/390)
نبيا وكذلك قال تعالى: {ال اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.(4/391)
ص -328- ووصف نفسه بأنه رب العالمين وبأنه مالك يوم الدين وأنه له الملك وله الحمد وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى.
وأما المسيح عليه السلام فقال فيه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} وقال المسيح عن نفسه: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}.
فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك.
الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير والمراد به تصويره بصورة الطير وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير وغير الطير من الحيوانات ولكن هذا التصوير محرم بخلاف تصوير المسيح فإن الله أذن له فيه.
والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين فإن هذا مشترك وقد لعن النبي المصورين وقال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون".
الوجه الثالث: أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ}.
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ(4/392)
الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} سورة المائدة.(4/393)
ص -329- وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء وصريح بأن الآذن غير المأذون له والمعلم ليس هو المعلم والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه كما ليس هو والدته.
الوجه الرابع: أنهم قالوا أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ثم قالوا في قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ففرق بين المسيح وبين الله وبين أن الله هو الآذن للمسيح وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.
الوجه الخامس: أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه فإنهم يقولون هو إلة واحد وهو الخالق قكيف يحتاج أن يأذن لنفسة وينعم على نفسه.
الوجه السادس: أن الخالق أما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات فإن كان هو الكلام فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ولو لم تتحد بالناسوت واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا فكيف وهو ممتنع.
فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه.
وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين وعندهم هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل شيء والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه.
الوجه السابع: قولهم فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي: "بكلمة الله خلقت(4/394)
السماوات والأرض".(4/395)
ص -330- يقال لهم هذا النص عن داود حجة عليكم كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم فإن داود عليه السلام قال بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ولم يقل إن كلمة الله هي الخالقة كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض أمر ظاهر معروف كالفرق بين القادر والقدرة فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته وليست القدرة هي الخالقة وكذلك الفرق بين المريد والإرادة فإن الله خلق الأشياء بمشيئته وليست مشيئته هي الخالقة.
وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته فالناس كلهم يقولون يا الله يا ربنا يا خالقنا ارحمنا واغفر لنا ولا يقول أحد يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ولا يا قادرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه وليست صفاته هي الخالقة.
الوجه الثامن: أن قول داود عليه السلام بكلمة الله خلقت السماوات والأرض يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء أن الله يقول للشيء كن فيكون وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله ليكن كذا ليكن كذا.
الوجه التاسع: قولهم لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه إن أرادوا بكلمته كلامه وبروحه حياته فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة اللة بأنها روح اللة فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه فإن الله لا شريك له.
ولهذا لما قال الله تعالى الله خالق كل شيء دخل كل ما سواه في مخلوقاته ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له بل أسماؤه الحسنى متناولة(4/396)
لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن(4/397)
ص -331- يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال فإن تلك لا حقيقة لها ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته فيمتنع تحقق ذاته دونها ولهذا لا يقال الله وعلمه خلق والله وقدرته خلق.
وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق وإن شئت قلت إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله فتلك داخلة في مسمى اسمه وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت.
الوجه العاشر: أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا والاتحاد فعل حادث عندهم فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ولكن غايتهم أن يقولوا أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح.(4/398)
ص -332- فصل.
قالوا وقال أيضا في موضع آخر: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}.
فأعنى بقوله مثل عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر ها هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط.
كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة فكذلك جسد السيد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة وكما أن جسد آدم ذاق الموت فكذلك جسد المسيح ذاق الموت وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي إذ يقول أليس هذا الأب الذي خلقك وبراك واقتناك قيل وعلى لسان داود النبي روحك القدس لا تنزع مني وأيضا على لسان داود النبي بكلمة الله تشددت السماوات وبروح فاه جميع قواهن وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين بل خالق واحد الأب ونطقه أي كلمته وروحه أي حياته.
والجواب من وجوه.
أحدها أن قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى كما قال(4/399)
ص -333- تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر وخلق سائر الخلق من ذكرو أنثى وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع آدم وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا وهو أصل خلق حواء.
فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان وهو سبحانه خلق آدم من تراب ثم قال له كن فيكون لما نفخ فيه من روحه فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له كن فيكون ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتا وناسوتا بل كله ناسوت فكذلك المسيح كله ناسوت والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي نصارى نجران وناظروه في المسيح وأنزل الله فيه ما أنزل فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى فكذب الله الطائفتين هؤلاء في غلوهم فية وهؤلاء في ذمهم له.
وقال عقب هذه الآية: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} سورة آل عمران.
وقد امتثل النبي قول الله(4/400)
فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم(4/401)
ص -334- لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثم كتب النبي إلى هرقل ملك الروم بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} إلى آخرها.
وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر ويقرأ في الأولى بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وهذا كله يبين به أن المسيح عبد ليس بإله وأنه مخلوق كما خلق آدم وقد أمر أن يباهل من قال إنه إله فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين فإن كان النصارى كاذبين في قولهم هو الله حقت اللعنة عليهم وإن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذبا حقت اللعنة عليه وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.
والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق نكلوا عن المباهلة وقد قال عقب ذلك: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تكذيبا للنصارى الذين يقولون هو إله حق من إله حق فكيف يقال إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت وبهذا ظهر الجواب عن قولهم قال في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فأعنى بقوله عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر ها هنا اسم المسيحإنما ذكر عيسى فقط فإنه يقال عيسى هو المسيح بدليل أنه قال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.
فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم والذي هو ابن من مريم هو الناسوت وقال: {إِنَّمَا(4/402)
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ(4/403)
ص -335- وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} سورة النساء.
وقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} الوجه الثاني: أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك وأن المسيح لم يمت بعد وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين.
فإن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوت وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكتفى في مقابلتها بالمنع.
لكن نقول في الوجه الثالث: إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن وهذا تشبيه اليعقوبية وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم وهذا تشبيه الملكانية وغيرهم.
ومعلوم أنه لا يصل إلى الماء شيء إلا وصل إلى اللبن فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب بالنفس فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم له وإيلامهم له والصلب الذي ادعوه.
وهذا لازم(4/404)
على القول بالاتحاد فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الأخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد.(4/405)
ص -336- الرابع: أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السماوات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة وجعلوة له مسكنا ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول إلهي إلهي لم تركتني وهم يقولون الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت كما سمع موسى كلام الله من الشجرة ويقولون هما شخص واحد ويقول بعضهم لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدة.
والكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت وهو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به وأيضا فهم يقولون إن اللاهوت والناسوت شخص واحد فمع القول بأنهما شخص واحد أما أن يكون مستغيثا وإما أن يكون مستغاثا به وإما أن يكون داعيا وإما أن يكون مدعوا فإذا قالوا إن الداعي هو غير المدعو لزم أن يكونا اثنين لا واحدا وإذا قالوا هما واحد فالداعي هو المدعو.
الوجه الخامس: أن يقال لا يخلو أما أن يقولوا إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم على ناسوته وإما أن يقولوا لم يكن قادرا فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمينوأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين وهذا أعظم من قولهم إن لله ولدا وأنه بخيل وأنه فقير ونحو ذلك مما يسب به الكفار رب العالمين.
وإن قالوا كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به وهذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء والناسوت عندهم استغاث وقال إلهي إلهي لماذا تركتني وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة وهم يذكرون من(4/406)
جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره ويقول بعضهم مشيئتهما واحدة فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت بل لو يشاء(4/407)
ص -337- اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين وقد اتفقا على المكر بالعدو ولم يجزع الناسوت كما جرى ليوسف معأخيه لما وافقه على أنه يحمل الصواع في رحله ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصواع في رحله كما جزع إخوته حيث لم يعلموا وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية.
الوجه السادس: قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم لأن عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياة.
الوجه السابع: قولهم وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كامل.
فيقال لهم أما قول الله في القرآن فهو حق ولكن ضللتم في تأويليه كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء وما بلغوه عن الله وذلك أن الله تعالى قال: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورة آل عمران.
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس هو ما يقوله النصارى(4/408)
ص -338- منها أنه قال بكلمة منه وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات تقتضي أنه كلمة من كلمات الله ليس هو كلامه كله كما يقول النصارى.
ومنها أنه يبين مراده بقوله بكلمة منه وأنه مخلوق حيث قال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقال تعالى: في سورة كهيعص: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له كن فيكون وهذا تفسير كونه كلمة منه.
وقال اسمه المسيح عيسى بن مريم أخبر أنه ابن مريم وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين وهذه كلها صفة مخلوق والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك وقالت مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}.
فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى.
وقال في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ(4/409)
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} سورة النساء.
فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم وأن يقولوا على الله غير الحق وبين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلىمريم وروح منه وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله فبين أنه رسولة ونهاهم أن يقولوا ثلاثة وقال: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ(4/410)
ص -339- وَاحِدٌ} وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ثم قال سبحانه أن يكون له ولد فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى ثم قال له ما في السماوات وما في الأرض فأخبر أن ذلك ملك له ليس فيه شيء من ذاته ثم قال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون أي لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع هذا البيان الواضح الجلي هل يظن ظان أن مراده بقوله وكلمته أنه إله خالق أو أنه صفة لله قائمة به وأن قوله وروح منه المراد به أنه حياته أو روحه منفصلة عن ذاته.
ثم نقول أيضا أما قوله وكلمته فقد بين مراده أنه خلقه بكن وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله هذا خلق الله ويقال درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ولهذا يسمى المأمور به أمرا والمقدور قدرة وقدرا والمعلوم علما والمرحوم به رحمة كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وقال إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فيها يتراحم الخلق ويتعاطفون وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها الخلق" ويقال للمطر هذه قدرة عظيمة ويقال غفر الله لك علمه فيك أي معلومه فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب.
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة فقالت النصارى القرآن كلام الله غير(4/411)
ص -340- مخلوق والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق وقالت الجهمية المسيح كلمة الله وهو مخلوق والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا وأجاب أحمد وغيره بأن المسيح نفسه ليس هو كلاما فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر ولا مولود من امرأة ولكن المسيح خلق بالكلام وأما القرآن فهو نفسه كلام الله فأين هذا من هذا.
وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وما من عاقل إذا سمع قوله تعالى: في المسيح عليه السلام أنه كلمته ألقاها إلى مريم إلا يعلم أنه ليس المراد أن المسيح نفسه كلام الله ولا أنه صفة الله ولا خالق.
ثم يقال للنصارى فلو قدر أن المسيح نفس الكلام فالكلام ليس بخالق فإن القرآن كلام الله وليس بخالق والتوراة كلام الله وليست بخالقة وكلمات الله كثيرة وليس منها شيء خالق فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقا فكيف وليس هو الكلام وإنما خلق بالكلمة وخص باسم الكلمة فإنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره بل خرج عن العادة فخلق بالكلمة من غير السنة المعروفة في البشر.
وقوله بروح منه لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}.
فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة.
فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا(4/412)
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ(4/413)
ص -341- رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}.
وقد قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وقال: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}.
فأخبر أنه نفخ في مريم من روحه كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه وقد بين أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا حملته.
فهذا الروح الذي أرسله الله إليها ليهب لها غلاما زكيا مخلوق وهو روح القدس الذي خلق المسيح منه ومن مريم فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل منه وهو روح القدس وقوله عن المسيح وروح منه خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح فحبلت به من ذلك النفخ وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر فامتاز بأن حبلت به من نفخ الروح فلهذا سمى روحا منه.
ولهذا قال طائفة من المفسرين روح منه أي رسول منه سماه باسم الروح الرسول الذي نفخ فيها فكما يسمى كلمة يسمىروحا لأنه كون بالكلمة لا كما يخلق الآدميون غيره ويسمى روحا لأنه حبلت به أمه بنفخ الروح الذي نفخ فيها لم تحبل به من ذكر كغيره من الآدميين وعلى هذا فيقال لما خلق من نفخ الروح ومن مريم سمى روحا بخلاف سائر الآدميين فإنه يخلق من ذكر وأنثى ثم ينفخ فيه الروح بعد مضي أربعة أشهر.
والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ولو اقتصروا على هذا وفسروا روح القدس بالملك الذي نفخ فيها وهو روح الله لكان هذا موافقا لما أخبر الله(4/414)
ص -342- به لكنهم جعلوا روح القدس حياة الله وجعلوه ربا وتناقضوا في ذلك فإنه على هذا كان ينبغي فيه أقنومان أقنوم الكلمة وأقنوم الروح وهم يقولون ليس فيه إلا أقنوم الكلمة وكما يسمى المسيح كلمة لأنه خلق بالكلمة يسمى روحا لأنه حل به من الروح.
فإن قيل فقد قال في القرآن: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدا وقال في المسيح وروح منه قيل هذا بمنزلة سائر المضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها كان مخلوقا وإن كان صفة مضافا إلى الله كعلمه وكلامه ونحو ذلك كان إضافة صفة وكذلك ما كان منه إن كان عينا قائمة أو صفة قائمة بغيرها كما في السماوات والأرض والنعم والروح الذي أرسله إلى مريم وقال إنما أنا رسول ربك كان مخلوقا وإن كان صفة لا تقوم بنفسها ولا يتصف بها المخلوق كالقرآن لم يكن مخلوقا فإن ذلك قائم بالله وما يقوم بالله لا يكون مخلوقا والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة في سائر كتب الله وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم كما أخبر الله عنهم بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.
والآية نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعا ثم قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وفيها قولان وقراءتان منهم من يقف عند قوله إلا الله ويقول الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل(4/415)
المتشابه لا يعلمه إلا الله.
ومنهم من لا يقف بل يصل بذلك قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
ويقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وكلا القولين مأثور عن طائفة من(4/416)
ص -343- السلف وهؤلاء يقولون قد يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا}.
أي قائلين وكلا القولين حق باعتبار فإن لفظ التأويل يراد به التفسير ومعرفة معانيه.
والراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن قال الحسن البصري لم ينزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها.
وقد يعنى بالتأويل ما استأثر الله بعلمه من كيفية ما أخبر به عن نفسه وعن اليوم الآخر ووقت الساعة ونزول عيسى ونحو ذلك فهذا التأويل لا يعلمه إلا الله وأما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز وجل.
ولكن طائفة من المتأخرين خصوا لفظ التأويل بهذا بل لفظ التأويل في كتاب الله يراد به ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ}.
ومنه تأويل الرؤيا كقول يوسف الصديق: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ}.
وكقوله: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه ليس للنصارى حجة لا في ظاهر النصوص ولا في باطنها كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.
والكلمة عندهم هي جوهر وهي رب لا يخلق بها الخالق بل هي الخالقة لكل شيء كما قالوا في كتابهم إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم والله تعالى قد أخبر أنه سبحانه ألقاها إلى مريم والرب سبحانه هو الخالق والكلمة التي ألقاها ليست خالقة إذ الخالق لا يلقيه شيء بل هو يلقي غيره وكلمات الله(4/417)
نوعان كونية ودينية(4/418)
ص -344- فالكونية كقوله للشيء كن فيكون.
والدينية أمره وشرعه الذي جاءت به الرسل وكذلك أمره وإرادته وإذنه وإرساله وبعثه ينقسم إلى هذين القسمين وقد ذكر الله تعالى إلقاء القول في غير هذا وقد قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} وقال تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وألقوا إلى الله يومئذ السلم} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.
وأما لقنته القول ولقيته فتلقاه فذلك إذا أردت أن تحفظه بخلاف ما إذا ألقيته إليه فإن هذا يقوله فيما يخاطبه به وإن لم يحفظه كمن ألقيت إليه القول بخلاف القول إنكم لكاذبون وألقوا إليهم السلام وليس هنا إلا خطاب سمعوه لم يحصل نفس صفة المتكلم في المخاطب فكذلك مريم إذا ألقى الله كلمته إليها وهي قول كن لم يلزم أن تكون نفس صفته القائمة به حلت في مريم كما لم يلزم أن تكون صفته القائمة به حلت في سائر من ألقى إليه كلامه كما لا تحصل صفة كل متكلم فيمن يلقى إليه كلامه.(4/419)
ص -345- فصل.
وأما قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان.
طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه.
وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.
فيقال لهم كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه ولا قول معقول ولا قول دل عليه كتاب بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى كاليعقوبية والملكانية والنسطورية ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة كثيرة الاختلاف.
ولهذا يقال لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد كما هو مذكور في أمانتهم لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح.
فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول كان فيهم من يخالفهم في ذلك.
وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه كما(4/420)
ص -346- نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسمالأنصاري وغيرهما أن القديم واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم وأنهم يعنون بالأقنوم الوجود والحياة والعلم.
ونقلوا عنهم أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين بل هما صفتان نفسيتان للجوهر قالوا ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض قال وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس فيعنون بالأب الوجود وبالابن المسيح والكلمة وربما سمو العلم كلمة والكلمة علما ويعبرون عن الحياة بالروح قال ولا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم من صفات الفعل ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن.
قالوا ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية قالوا إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج(4/421)
ص -347- الخمر الماء أو اللبن قالوا وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية قالوا فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة.
وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما وقالوا وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة والنقش في الخاتم.
ومنهم من قال ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول قالوا وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيمفذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم.
ولا يقال إنه هي وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم وآخرون قالوا هو الأقانيم.
قالوا وافترقت النصارى من وجه آخر فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه وذلك أنهم قالوا الكلمة إله والروح إله والأب إله والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله إله واحد.
قالوا وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا كذلك اتخذ عيسى ابنا.
قالوا وهؤلاء يقال لهم الأريوسية فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين وهذا قول لمن قاله من النصارى وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم مثل قوله إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا بل المسيح مع ما تدرع به ابن فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية وخلاف ما تضمنته أمانتهم إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور وهذا صفة اللاهوت عندهم وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم صفة فعل وهذا قول طائفة منهم ومن اليهود وكثير منهم أو أكثرهم يقولون إن كلام الله غير مخلوق وينكرون على من يقول إنه مخلوق(4/422)
ص -348- ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه فقالوا اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية متفقة في الجوهرية.
وقال آخرون ليست مختلفة في الأقنومية بل متغايرة وقال فريق منهم إن كل واحد منها لا هو الآخر ولا هو غيره وليست متغايرة ولا مختلفة وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية فإنهم قالوا إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم وزعموا أن الجوهر هو الأب والأقانيم الحياة وهي روح القدس والقدرة والعلم وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتا وناسوتا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن.
واختلفوا أيضا فقالت النسطورية إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.
وقالت اليعقوبية لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا.
واختلفوا هاهنا فقال بعضهم الجوهر المحدث صار قديما وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر.
وقالت الملكانية إن المسيح جوهران أقنوم واحد وحكى عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد وقالت الأريوسية إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل وأنه نبي وحكى عن بعضهم.(4/423)
ص -349- أنه ابن الله على التسمية والتقريب.
واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم فقالت طائفة منهم إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه وقالت طائفة منهم إنها حلت في مريم من غير ممازجة كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.
قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم هي جواهر وقال قوم هي خواص وقال قوم هي صفات وقال قوم هي أشخاص والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح والروح هي الحياة واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.
قالوا واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل هذا قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج وقال قوم من اليعقوبية هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما وكذلك الخمر باللبن.
وقال قوم منهم الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا وقال قوم منهم الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة وكظهور الطابع في المطبوع مثل الخاتم في الشمع وقال قوم منهم الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة كما نقول الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة وكما نقول إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها وقالت الملكانية الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة.(4/424)
ص -350- وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر ابن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما وقال أبو محمد بن حزم النصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيسا بالأسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس هذا.
قال ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة وكان يقول لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس قال وكان منهم أصحاب مقدنيوس كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله وأن روح القدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذلك قال وكان منهم البربرانية وهم يقولون إن عيسى وأمه إلهان من دون(4/425)
ص -351- الله تعالى قال وهذه الفرق قد بادت وعمدتهم اليوم ثلاث فرق وأعظمها فرق الملكانية وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى إفريقية وصقلية والأندلس وجمهور الشام وقولهم أن الله تعالى عن قولهم ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس كلها لم تزل وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم.
وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء إلا أنهم قالوا إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان وأن الله لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس(4/426)
ص -352- وخراسان وهم منسوبون إلى نسطور وكان بطرياركا بالقسطنطينية.
وقالت اليعقوبية إن المسيح هو الله نفسه وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلامدبر والفلك بلا مدبر ثم قام ورجع كما كان والله تعالى عاد محدثا والمحدث عاد قديما والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة وملوك الأمتين المذكورتين.
قلت ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه بان لي عواره ونفرت نفسي من قبوله وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة.(4/427)
ص -353- وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين الذي لا ابتداء له ولا انتهاء ولا ضد ولا ند ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال بل كيف شاء وبأن قال لها كوني فكانت على ما قدر وأراد وهو العليم القدير الرؤوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء وهو الغالب فلا يغلب والجواد فلا يبخل لا يفوته مطلوب ولا تخفى عليه خافية يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وكل مذكور أو موهوم هو منه وكل ذلك به وكل له قانتون ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نفرق بين أحد منهم ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.
قال وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم والتلبث على إبرام الأمر ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته فلما لم أجد للحق مدفعا ولا للشك فيه موضعا ولا للأناة والتلبث وجها خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر(4/428)
ومحل وعز ومتصرف في عمل فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة وسريرة صادقة ويقين ثابت فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا(4/429)
ص -354- أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
قال ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.
قال ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية يقولون إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعيتين إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص والواحد هو المسيح وهو إله كله وإنسان كله وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا إن مريم ولدت الله تعالى الله عما يقولون وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت أو على الأرض لانشقت أو على الجبال لانهدت فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم.
قال ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود وهو شخص واحد لم يزد عدده(4/430)
ص -355- وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت مات وقالوا إن الله لم يمت والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته فهو إله تام بجوهر لاهوته وإنسان تام بجوهر ناسوته وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.
قال فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله تعالى الله عما يقول الظالمون وقالوا إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات وأن الله لم يمت فكيف يكون ميتا لم يمت وقائما قاعدا في حال واحدة وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع.
قال ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء والناسوت يقبل الزيادة والنقصان فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.(4/431)
ص -356- وقالوا إن مريم ولدت المسيح بناسوته وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته.
وقال فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون وأنه تألم وصلب ومات وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر فقالوا إن المسيح شخص واحد و طبيعتان فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت ثم عادوا إلى قول اليعقوبية فقالوا إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك مات بالجسد وأن الله لم يمت والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته فكيف يكون ميت لم يمت وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين للاهوت والناسوت قد مات فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما.
فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات.
قلت ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا ويقولون هو شخص واحد ثم يقولون إن رب العالمين إله واحد وأقنوم واحد وجوهر واحد وهو ثلاثة أقانيم فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين ومع هذا هما عندهم شخص واحد أقنوم واحد وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا(4/432)
الأقنوم بالصفة أو الشخص أو الذات مع الصفة أو أي شيء قالوه.(4/433)
ص -357- وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه بل كانوا ضلالا جهالا بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل.
ثم قال الحسن بن أيوب ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليه الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين.
وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع وخير وشر وحاجة وغنى.
قال: وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط وهل يصح هذا عند أهل النظر أو ليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح وكذلك الحمل بهما جميعا وأن يكون البطن قد حواهما.
قال فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة(4/434)
ص -358- والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة قسطنطينية وكانوا ثلثمائة وثمانية عشر رجلا يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر البشر ومنأجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبية روح ومجيئه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.
قال فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها وبذل المهج فيها وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية.
وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب قال فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه ولا أن يدفع ما(4/435)
ص -359- صرح به فإنكم إن قلتم إن المقتول المصلوب هو الله فمريم على قولكم ولدت الله سبحانه وتعالى عما يقولون وإن قلتم: أنه إنسان فمريم ولدت إنسانا وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم فاختاروا أي القولين شئتم فإن فيه نقض الدين.
قال وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم وهي امرأة آدمية ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية وصحة وسقم وخوف وأمن وتعلم وتعليم لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف وصلب وقتل فهل تقبل العقول ما يقولون منأن إلها نال عباده منه مثل ما تذكرون أنه نيل منه.
فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به وحلت الروح فيه وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله ووجدنا الكتب تنبىء بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد.
وقيل لما كان الملوك(4/436)
المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر(4/437)
ص -360- الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم فلم يهربوا من الموت وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد والاستتار وإخفاء أشخاصهم وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا وهم بعض الآدميين التابعين له لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم.
قال ثم نقول قولا آخر قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه لا يقع في شيء منها شك ولا طعن ولا زيادة ولا نقصان وهي أصل أمر المسيح عندكم.
فأولها: البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام.
والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله.
والثالثة: النداء المسموع من السماء.
والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه.
والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها السلام عليك أيتها الممتلئة نعما ربنا معك أيتها المباركة في النساء فلما رأته مريم ذعرت منه فقال لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا ويسمى ابن الله العلي ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد فقالت مريم أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل قال له الملك إن روح القدس يأتيك أو قال يحل فيك وقوة العلي تحبلك من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا ويسمى ابن الله العلي.(4/438)
ص -361- قال فلم نر الملك قال لها إن الذي تلدين هو خالقك وهو الرب كما سميتموه بل أزال الشك في ذلك بأن قال إن الله الرب يعطية كرسي أبيه داود ويصطفيه ويكرمه وأن داود النبي أبوه وأنه يسمى ابن الله وما قال أيضا أنه يكون ملكا على الأرض وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله بالمحبة وقول المسيح أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم في غير موضع من الإنجيل ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها متى التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل لستم أنتم متكلمين بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم.
فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام إنه يكون ملكا على آل يعقوب فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق ومعنى قول جبريل عليه السلام لمريم ربنا معك مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء إني معكم فقد قال ليوشع بن نون إني أكون معك كما كنت مع موسى عبدي فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل(4/439)
ص -362- في دينه على هذه السبيل.
قال وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح وشهادة يحيى له فإن متى قال في إنجيله إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة وسمع نداء من السماء إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول والمفعول مخلوق وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه وما زال يقول إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع ويفعل ما حد له ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثم قال وقد وجدنا المسيح عليه السلام أحتاج إلى تكميل أمرة بمعمودية يحيى له فصار إليه لذلك وسأله إياه فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب وقال لوقا التلميذ في إنجيله إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله أنت ذلك الذي تجيء أو نتوقع غيرك فكان جواب المسيح لرسله أن ارجعوا(4/440)
ص -363- فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون وزمن ينهضون وصم يسمعون فطوبى لمن لم يغتر بي أو يذل في أمري.
قال فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز وجل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله قد شك فيه فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية ولا قال إني خالقك وخالق كل شيء كما في شريعة إيمانكم بل حذر الغلط في أمره والاغترار ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء.
قال ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال هو أقوى مني وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه ولم يقل إنه خالقي وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا كما قال المسيح في يحيى إنه ما قامت النساء عن مثله.
قال فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة لأن المسيح عليه السلام يقول إنه مربوب مبعوث ويقول جبريل إنه مكرم مصطفى وأن أباه داود وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب(4/441)
ص -364- وينادي مناد من السماء بمثل ذلك ويشهد يحيى بن زكريا على مثله وتقولون بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه ويقول المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه وتقولون بل رازق النعم وواهبها ويقول إن الله أرسله وتقولون بل هو الذي نزل لخلاصنا وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم ويحتمل الخطيئة ويربط الشيطان فقد وجدنا الخلاص لم يقع والخطيئة قائمة لم تزل والشيطان أعتى ما كان يربط بل سلطه الله عليه على ما تقولون فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه وقال لة في بعض أحواله معه إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا فقال له المسيح مجيبا له إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز بل بكل كلمة تخرج من الله ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس وأقامه على قرنة الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك لئلا تعثر رجلك بالحجر قال يسوع ومكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها وقال له إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك قال لة المسيح اغرب أيها الشيطان فإنه مكتوب اسجد للرب إلهك ولا تعبد شيئا سواه ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر وأطلق السبيل للمسيح وقال أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه ولما قال أمرنا أن لا نجرب الله وأن نسجد للرب ولا نعبد شيئا سواه وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه(4/442)
ص -365- قبل أن يربط عن أمته قال فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا وكثر اختلافها واشتد تناقضها واضطرابها.
قال ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر ثم أقام مولودا وتغذى باللبن ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آله الربوبية ولا أمر يوجب هذا المحل ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق ولا سطع منه نور ولا ظهرت له سكينة ولا حفته الملائكة بالتهليل ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران والتبس وجهة النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قربمنه فقال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق من صعقته استغفر ربه فتاب عليه وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.
وقال داود يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها ما لك أيها البحر هاربا وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل وما لكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء ثم قال كالمجيب عنهم من قدام الرب تزلزلت البقاع.(4/443)
ص -366- قال فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء والاضطجاع على أكتاف الرياح والاستغناء عن المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك ويمنع الآدميين من نفسه وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق.
قال ووجدناكم تقولون أن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه لأنه تولد من الأب وظهر منه فلم نقف على معنى ذلك لأن شريعة إيمانكم تقول إن الروح أيضا تخرج من الأب فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن لأنها تخرج عن الله تعالى وإلا فما الفرق بينهما.
قال ولم نفهم أيضا قولكم أن الابن تجسد من روح القدس وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال أو ما علتم أن الغير السابق المدبر فاعل والمسبوق المدبر مفعول به فالابن إذن دون الروح وليس مثله لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.
قال وإن كان المسيح من روح القدس كما قال جبريل الملك لأمه مريم فلم سميتموه كلمة الله وابنه ولم تسموه روحه فإنما قال لها الملك إن الذي تلدين من روح القدس والروح غير الابن ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس وإن روح القدس ساقه إلى البر وإن روح القدس نزل عليه ولم تثلثون به في(4/444)
ص -367- إيمانكم فتقولون نؤمن بالأب والابن والروح القدس.
قال ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية إن لله علما وحكمة هما الابن وحياة هي الروح قديمين ولعلمه وحياته ذات كذات الله وذلك أن علم الله له علم وحياة ولحياته التي هي روحه علم وحياة وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم يصلي في كنائسهم ويستن بسننهم لا يدعى دينا غير دينهم ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته ثم صعد إلى السماء.
وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم إن المسيح جوهران وأقنومان جوهر قديم وجوهر حديث ولكل جوهر أقنوم على حياله وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين فهو واحد يقوم بثلاثة معان وثلاثة لها معنى واحد كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان القرص والحر والنور فالمسيح هو الله وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد
فكان معنى قولكم هذا أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه.(4/445)
ص -368- فيفتح دعاءه ويقول ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين ثم يختم صلاته بمثل ذلك فهذا تصريح بالشرك وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.
قال ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم إن مريم ولدت الله عز اللة وجل عن ذلك وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق وأنه ولد من مريم فما معنى المنافرة وما الفرق وما تنكرون من قولهم إن المقتول المصلوب هو الله عز اللة وجل عن ذلك.
وشريعة إيمانكم تقول نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك بيلاطس النبطي ودفن وقام في اليوم الثالث أليس هذا إقرارا بمثل قولهم فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.
فإنكم إن قلتم إن المقتول المصلوب هو الله فإن مريم عندكم ولدت الله.
وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا وبطلت الشريعة فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم ثم عبتم على الملكانية قولهم إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما وقلتم بأن له أقنومين لكل جوهر أقنوم على حياله ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا فإنه هيكل لابن الله الأزلي ونحن لا نفرق بينهما فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية وما معنى الافتراق وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.
فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا فالقول ما قال يعقوب وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى(4/446)
ص -369- آخرها وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع وهو إله حق من إله حقمن جوهر أبيه وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده وهو الذي نزل لخلاصكم فتجسد وحملته مريم وولدته وقتل وصلب فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.
قال وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه فأخذت بالمشكل اليسير وجعلت له ما أحبت من التأويل وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل.
قال فأما احتجاجكم بالشمس وأنها شيء واحد له ثلاثة معان وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها فإن ذلك تمويه لا يصح لأن نورا الشمس لا يحد بحد الشمس وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما ولا يتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة ولا يقال إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس كما قالت الشريعة في المسيح إنه إله حق من إله حق منجوهر أبيه لكان ما قلتم له مثلا تاما والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه والحجة منكم فيه باطلة.
قال ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام فإن العجب ليطول من هذا القول وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبىء به المشاهدة ويدعو الناس إليها فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه فالذين(4/447)
قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين لأن لا خاطئ بعد(4/448)
ص -370- مجيئه ولا خطيئة.
وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط ويسكر ويكذب ويركب كل ما نهى عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين ولا مأثومين.
فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان وهو أن يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغيوفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه وفي بعض التسابيح بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت وانطفأت فتن الشيطان ودرست آثارها فأي خطيئة بطلت وأي فتنة للشيطان انطفأت أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله.
قال فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع.
وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول حيث يقول المسيح فيه ما أكثر من يقول لي يوم القيامة يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان فأقول اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون فما عرفتكم قط فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا ووضعهم لكم ما وضعوا ومثله قوله إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل(4/449)
ص -371- الميسرة إني جعت فلم تطعموني وعطشت فلم تسقوني وكنت غريبا فلم تأووني ومحبوسا فلم تزوروني ومريضا فلم تعودوني فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا.
وأقول لأهل الميمنة فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم فمن قال إن الخطيئة قد بطلت فقد بهت وقد خالف قول المسيح وكان هو من الكاذبين.
وقال و يا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة حيث ينسبونه إلى الربوبية وينحلونه اللاهوتية ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم بماذا ساغ ذلك لكم وما الحجة فيه عندكم.
هل قالت كتب النبوات فيه ذلك أو هل قاله عن نفسه أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه ومن كتب الإنجيل وبينه قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد مثلكم ومربوب معكم ومرسل من عند ربه وربكم ومبدي ما أمر به فيكم وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه.
وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل ونبي له قوة وفضل فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت ولو كان كما تقولون لأفصح عن نفسه بأنه إله كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبلة ولا كتب تلامذته ولا حكى عنهم ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم ولا قول يحيى بن زكريا.
قال فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء وصعد إلى السماء وصير الماء خمرا وكثر القليل فيجب الآن أن ينظر إلى(4/450)
ص -372- كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها وإلا فما الفرق.
فمن ذلك أن كتاب سفر الملوك يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية وأن حزقيال أحيا بشرا كثيرا ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها.
وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما ولم يكن واحد منهم بذلك إلها وأما إبراء الأبرص فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع عليه السلام ليبرئه من برصه فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف(4/451)
ص -373- بباب اليسع أياما لا يؤذن له فقبل لليسع إن ببابك رجلا يقال له نعمان وهو أجل عظماء الروم به برص وقد قصدك لتبرئه من مرضه فإن أذنت له دخل إليك فلم يأذن له وقال لرجل من أصحابه اخرج إلى هذا الرجل فقل له ينغمس في الأردن سبع مرات فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع ففعل ذلك فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده فأتبعه خادم ليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إلية يطلب منه مالا فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا ورجع فأخفى ذلك وستره.
ثم دخل إلى اليسع فلما مثل بين يديه قال له تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا إذ فعلت الذي فعلت به فليصر برصه عليك وعلى نسلك فبرص ذلك الخادم على المكان.
قال فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا وأبرص صحيحا وهو أعظم مما فعل المسيح عليه السلام فلم يكن في فعله ذلك إلها.
قال وأما قولكم أنه مشى على الماء فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام صار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه ودفع عمامته إلى اليسع فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعا ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها.
قال وأما قولكم أنه صير الماء خمرا فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه فلما أراد الانصراف قال لها هل لك من حاجة(4/452)
ص -374- فقالت المرأة يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل.
فقال لها اليسع اجمعي كل ما عندك من الآنية واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم ففعلت ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال اتركيه ليلتك هذه ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا فباعوه فقضوا دينهم وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا ولم يكن اليسع بذلك إلها.
وأما قولكم المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد ومات الخلق ضرا وهزلا وكان الناس في ضيق فقال للأرملة هل عندك طعام فقالت والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة أردت أن أخبزه لطفل لي وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط.
فقال لها أحضريه فلا عليك فأتته به فبارك عليه فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح لأن إلياس كثر القليل وأدامه والمسيح كثر القليل في وقت واحد ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها.
قال فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم ونقول لكم أيضا كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء وما الحجة في ذلك.
قال وإن قلتم: أن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية
قيل لكم وكذلك سبيل المسيح سبيل سائر الأنبياء قد كان يدعو ويتضرع ويعترف(4/453)
ص -375- بربوبية الله ويقر له بالعبودية فمن ذلك أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيى رجلا يقال له العازر فقال يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا وقال بزعمكم وهو على الخشبة إلهي إلهي لم تركتني وقال يا أبي اغفر لليهود ما يعملون فإنهم لا يدرون ما يصنعون.
وقال في إنجيل متى يا أبي أحمدك وقال يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس ولكن ليس كما أريد أنا فلتكن مشيئتك وقال أيضا أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم مني وقال لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي وقال يعني نفسه لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله.
وقال إن الله لم يلد ولم يولد ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يره أحد من خلقه ولا يراه أحد إلا مات.(4/454)
ص -376- والمسيح قد أكل وشرب وولد ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.
قلت وعامة ما ذكرة هذا عن الكتب تعترف به النصارى ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ فنازعه هنا في قوله لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده وقال هذا إنما قاله المسيح للحواريين وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ لم يولد ولم يأكل ولم يشرب.
قال وقال في إنجيل يوحنا إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني انا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل ولكن كل شيء كالذي علمني أبي وقال في موضع آخر من عند الله أرسلت معلما وقال لأصحابه اخرجوا بنا من هذه المدينة فإن النبي لا يجل في مدينته وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه فقال لها المسيح صدقت طوبى لك وقال لتلامذته كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم.
قال فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب و مبعوث وقال لتلامذته إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي.
فبين ها هنا في غير موضع أنه نبي مرسل وأن سبيله مع الله سبيلهم معه وقال متى(4/455)
ص -377- التلميذ في إنجيله يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز وجل هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي أنا واضع روحي عليه ويدعو الأمم إلى الحق فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.
وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني وقال في موضع آخر إن أبي أجل وأعظم مني وقال أيضا كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا أنا الكرم وأبي هو الفلاح وقال يوحنا كما للأب حياة في جوهره فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه قال فالمعطي خلاف المعطى لا محالة والفاعل خلاف المفعول.
قال وقال المسيح في إنجيل يوحنا إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي لكانت شهادتي باطلة لكن غيري يشهد لي فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني وقال المسيح لبني إسرائيل تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي(4/456)
ص -378- سمعت الله يقوله.
قال وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني قال فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا أو أكثر.
قال وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون أنا لست بمجنون ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي بل مدح أبي لأني أعرفه ولو قلت إني لا أعرفه لكنت كذابا مثلكم بل أعرفه وأتمسك بأمره قال وقال داود في مزموره المائة وعشرة قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك عصا العظمة تبعث الرب من صهيون ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكيز داق.
قال فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت وقد أبان داود في مخاطبته أن لربه الذي(4/457)
ص -379- ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه ومنحه ذلك وشهد عليه إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليز داق قلت قالوا وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق قال فأما قوله من البدىء ولدتك فهو يشبه قول داود تبنني على نفسه من البدء ذكرتك وهديت كل أعمالك وبعضهم يقول لفظ النص إن الرب يبعث عصاه من صهيون.
قال وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه وأنكم أسلمتموه وقتلتموه فأقام الله يسوع هذا من بين الأموات.
قال فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه(4/458)
ص -380- وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل.
قال وقال في هذا الموضع اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا ومسيحا قال فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت لأنه يقول أن الله جعله ربا ومسيحا والمجعول مخلوق مفعول قال أبو نصر وإنما سمى ناصري لأن أمه كانت من قرية يقال لها ناصرة في الأردن وبها سميت النصرانية.
قال وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا قال داود في مزمور مئة وخمسة وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه وربا على بنيه ومسلطا على فتيانه.
وقال لوقا في آخر إنجيله إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه ما بالكما محزونين فقالا كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري فإنه رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة أخذوه وقتلوه على قولهم فيه(4/459)
ص -381- قال فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا وألبسته المجد والكرامات وقال في المزمور الثاني قال لي الرب أنت ابني وأنا اليوم ولدتك سلني فأعطيك فقوله ولدتك دليل على أنه حديث غير قديم وكل حادث فهو مخلوق ثم أكد ذلك بقوله اليوم فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم ودل بقوله سلني فأعطيك على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية قال فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته وبطلان ما يدعونه من ربوبيته ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى فإذا كانت الشهادات منه على نفسه ومن الأنبياء عليه ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول وتنكره النفوس وتنفر منه القلوب الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله.
قال وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت.
قال فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله أبي وأبيكم ويا أبي وبعثني أبي قلنا فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا وقد سماكم الله جميعا بنيه وأنتم لستم في مثل حاله.(4/460)
ص -382- ومن ذلك أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة أنت ابني بكري وقال لداود في الزبور أنت ابني وحبيبي وقال المسيح في الإنجيل للحواريين أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فسمى الحواريين أبناء الله وأقر بأن له إلها هو الله ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا وإلا فما الفرق.
قال فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم والمسيح ابن الله على الحقيقة تعالى الله عن ذلك.
قلنا يجوز لمعارض أن يعارضكم فيقول لكم ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة والمسيح ابن رحمة وما الفرق.
فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أن المسيح جاء إلى مقعد فقال قم قم فقد غفرت لك فقام الرجل ولم يدع الله في ذلك الوقت.
قلنا لكم هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت ولم يدع الله في ذلك الوقت وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في الأردن من غير دعاء ولا تضرع على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع وسأل مسائل قد تقدم ذكرها.
وقال في بعض الإنجيل يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي واعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني.
فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل قم فقد(4/461)
ص -383- غفرت لك والله هو الذي يغفر الذنوب.
قلنا فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى أخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم.
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد فالملك إذا إله لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أن الله سماه ربا فقال ابن البشر رب السبت.
قلنا فهذه التوراة تخبر بأن لوطا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمى في الكتب ربا من يوسف وغيره فإن كان المسيح إلها لأنه سمى ربا فهؤلاء إذا آلهة لأنهم سموا بمثل ذلك.
فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح فقال أشعيا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانويل وتفسيره معنا إلهنا.
قلنا إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس وإن كان الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام قد جعلتك لهارون إلها وجعلته لك نبيا.(4/462)
ص -384- وقال في موضع آخر قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة كلكم آلهة ومن العلية تدعون.
فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه.
قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح أنه إله لأمته على هذا المعنى وإلا فما الفرق.
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل من رآني فقد رأى أبي وأنا وأبي واحد.
قلنا: إن قوله أنا وأبي واحد إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله كما يقول رسول الرجل أنا ومن أرسلني واحد ويقول الوكيل أنا ومن وكلني واحد لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجتة ويطالب له بحقوقه وكذلك قوله من رآني فقد رأى أبي يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي.
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل أنا قبل إبراهيم فكيف يكون قبل إبراهيم وإنما هو من ولده ولكن لما قال قبل إبراهيم علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية.
قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض فما الفرق بينه وبين من قال إن سليمان ابن الله وأنه إنما قال أنا قبل الدنيا بالإلهية وقد قال داود أيضا في الزبور "ذكرتك يا رب من البدء وهديت بكل(4/463)
ص -385- أعمالك"
فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول لأنهما من ولد إسرائيل وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا.
قلنا وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول لأنه من ولد إبراهيم ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم فإن تأولتم تأولنا وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود وإلا فما الفرق.
وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني عمانويل لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن إلهنا معنا يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا.
ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح لأنه مخصوص بمعناه.
فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح.
قلنا: لكم فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس وهي قوة تفعل الآيات فأضاف القوة إلى إلياس فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه فما الفرق بينكم وبين من قال إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش فإن هذا دليل على أنه إله قلنا لكم فما الفرق بينكم وبين من قال إن اليسع إله واحتج في ذلك بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم(4/464)
ص -386- فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش فاليسع إله لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.
فإن قلتم: أن المسيح كان من غير فحل قلنا لكم قد كان ذلك وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية لأن القدرة فيذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب وخلق بشر من تراب وأعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل فما الفرق.
قال وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية وإضافتكم إليه الإلهية وقد وصفناها على حقائقها عندكم وقبلنا فيها قولكم وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم.
قال وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن أيضا ولكن الأب وحده يعرفه قال فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه وأنه خلافه وأعلا منه وقد بين بقوله أحد عمومه بذلك الخلق جميعا ثم قال ولا الملائكة وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض ثم قال ولا(4/465)
ص -387- الابن وله من القوة ما ليس لغيره وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية وأنه هو الله ومن جوهر أبيه تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا ولو كان إلها كما يقولون لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.
قلت مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه فقال ولا الملائكة الذين في السماء ثم قال ولا الابن يعرفه وأن الأب وحده يعرفه فنفى معرفة الابن وأثبت أن الأب وحده يعرفه ومراده بالابن المسيح فعرف أن المسيح لا يعرفه وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت فإن اللاهوت يعلم كل شيء وقد دل ذلك على أن قوله عمدوا الناس باسم الأب والابن المراد به الناسوت وحده كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان وحملوا عليها كلام المسيح وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.
قلت: فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ(4/466)
تناسبها بنوع مناسبة(4/467)
ص -388- وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره ولا هو قادر أن يفعل بمشيئه ولا يقيم الناس من قبورهم فقالوا خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي والإحداث الزماني.
فالأول: هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان.
والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن ثم قالوا ونحن نقول إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي وهو أن ذلك معلوم له لم يزل معه.
فيقال لهم لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات ويبطل تعريف الأنبياء للناس فكيف وهو باطل في صريح المعقول كما هو باطل في صحيح المنقول فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم(4/468)
موافقون لهم والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله(4/469)
ص -389- خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة وفي التوراة أنها شجرة العليق.
وأخبرت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية تسعى ويخبر بأن الله فلق البحر فقالت الملاحدة إن الشيء الثابت يسمى طورا فإنه ثابت كالجبل والقلوب تسمى أودية وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام والوادي قلب موسى والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج والبحر الذي فلقه هو بحر العلم والعصا كانت حجته غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم وعصيا يقهرون بها من يجادلونه.
أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير.
فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية التي هي علمه أو حكمته ابنا وسموها أيضا كلمة وسموا صفته القديمة الأزلية التي هي حياته روح القدس وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه بل ولاسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه(4/470)
ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده كما يقال ابن السبيل لمن ولدته(4/471)
ص -390- الطريق فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده.
ويقال لبعض الطير ابن الماء لأنه يجيء من جهة الماء ويقال كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم كما ذكروا أن المسيح قال أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وفي التوراة أن الله قال ليعقوب أنت ابني بكري.
ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح وهو المحبة له والاصطفاء له والرحمة له وكان المعنى مفهوما عند الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه وهو من الألفاظ المتشابهة فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل.
وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات وأن الملائكة بناته وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون العقول العشرة هي بنوه والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى فنزه الله عن أن يتخذ ولدا كما نزهه عن أن يكون له ولد والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته فأما الممكن المقدور فيقول لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة كما نزهته عن صفات النقص كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ(4/472)
عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.(4/473)
ص -391- وقال تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.
كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}.
وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
وقال تعالى: عن المؤمنين {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}.
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}.
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
فكما نزه نفسه عن الولادة نزه نفسه عن اتخاذ الولد.
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا(4/474)
لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون}.(4/475)
ص -392- وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله أنى يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله أني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا وهو يرزقهم ويعافيهم".
ولهذا كان معاذ بن جبل يقول لا ترحموا النصارى فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد سدا للذريعة كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها لئلا يشبه عباد الشمس والقمر فكانت بسدها للأبواب التي تجعل لله فيها الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع كما سدت غير ذلك من الذرائع مثل تحريمها قليل المسكر لأنه يجر إلى كثيره فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.(4/476)
ص -393- مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد.
فإذا كان مراد المسيح عليه السلام بالابن هو الناسوت وهو لم يسم اللاهوت ابنا وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق وإن قالوا مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل وكذب وهو أيضا مناقض لقولهم.
فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده وأنه لا يعلم ما يعلمه الله وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت كما يتأوله عليه بعض النصارى لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم بل نفى علم ما سوى الأب به وهذا مناقض لقولهم من كل وجه(4/477)
ص -394- فصل
قال الحسن بن أيوب ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له أيها الخير فقال ليس الخير إلا الله وحده قلت وبعضهم يترجمه أيها الصالح فقال ليس الصالح إلا الله وحده قال ومثله قوله في الإنجيل إني لم آت لأعمل بمشيئتي لكن بمشيئته من أرسلني قال ولو كانت له مشيئة لاهوتية كما يقولون لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك.
قال ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ويدين الناسيوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم ويتولى الحكم بينهم وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية وهي الكلمة وقد عادت إلى الله كما بدت منه فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها.
قال ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها هي أصل ما وضعتموه من(4/478)
ص -395- عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت ما هو ومن أين أخذتموه ومن أمركم به وفي أي كتاب نزل وأي نبي تنبأ به أو أي قول للمسيح تدعونه فيه وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا عل قول متى التلميذ على المسيح عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس.
قال وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم صلاة فلان القديس تكون معك ومعنى الصلاة الدعاء واسم فلان النبي يعينك على أمورك.
وكما قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ}.
يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة.
قال وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح.
وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته كما يقولون في المسيح أنه جالس عن يمين أبيه فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي(4/479)
ص -396- فحكمته الكلمة وهي المسيح وروحه روح القدس وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير.
وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية.
قال وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا عنه مفروزا عنه فكيف يصح على هذا القول قياس أو يصح به عقد دين تقولون مرة مجتمع ومرة منفصل وما شبهتموه به من الشمس فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به.(4/480)
ص -397- على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن متى التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه سيروا في البلاد وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي والحي ينقسم لناطق ولا ناطق.
وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية.
فنقول لكم في ذلك إذا كان الحي له حياة ونطق فأخبرونا عنه أتقولون أنه قادر عزيز أم عاجز ذليل.
فإن قلتم: لا بل هو قادر عزيز قلنا فأثبتوا له قدرة وعزة كما أثبتم له حياة وحكمة فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه قلنا لكم وكذلك فقولوا إنه حي بنفسه وناطق بنفسه ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث أو إثبات التخميس وإلا فما الفرق وهيهات من فرق.
وقال الحسن بن أيوب أيضا إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما لا يثبت لكم به حجة ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال متى التلميذ إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال ماذا يقول الناس في أني ابن البشر فقالوا منهم من يقول إنك يوحنا المعمداني وآخرون يقولون إنك أرميا أو أحد الأنبياء فقال لهم يسوع فأنتم ماذا تقولون فأجابه سمعان الصفا وهو رئيسهم(4/481)
ص -398- فقال أنت المسيح ابن الله الحق فأجابه المسيح وقال طوبى لك يا سمعان ابن يونان إنه لم يطلعك على هذا لحم ولا دم ولكن أبي الذي السماء.
وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال إن سمعان أجابه فقال أنت مسيح الله ولم يقل ابن الله فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال.
وقوله إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى النبوة ونجعله مثل من سمى في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل أنت ابني بكرى وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه.
ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به قوله في علم الساعة أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له أيها العالم الصالح أي(4/482)
ص -399- الأعمال خير لي الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين فقال له لم تقول لي صالحا ليس الصالح إلا الله وحده فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك.
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه فقال لها المسيح صدقت طوبى لك ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل فقال أمرنا أن لا نجرب الرب ثم سامه أن يسجد له فقال أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده ولا نعبد سواه ثم صلاته في غير وقت لله وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد.
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم وهي مدينة بيت المقدس على الأتان لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة ثم قوله في بعض الإنجيل أخرجوا بنا من هذه المدينة فإن النبي لا يبجل في مدينته وفي موضع آخر أنه قال لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه.
وقوله في بعض خطبه إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنهلا يعطى إلا آية يونس كما كان يونس لأهل نينوى كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل رجال(4/483)
ص -400- نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم لأنهم تابوا على قول يونس النبي وإن هاهنا أفضل من يونس.
ثم قول داود في نبوته عليه من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته دون الملائكة قليلا ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة.
ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم امضوا فإني ألحق بكم فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا ما هذا الحال ويح ومن الغرق صاحوا فقال لهم يسوع اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو فأجابه شمعون الصفا وقال له يا رب إن كنت أنت هو فاذن لي آتيك على الماء فقال له تعال فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه فلم يستطع وجعل يغرق فصاح وقال يا رب أغثني فبسط يده يسوع فأخذه وقال له لم تشككت يا قليل الأمانة قال فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها.
وقال في الإنجيل وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا من الجموع لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي.(4/484)
ص -401- وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا وكانت من تلامذته مع ابنيها فقال لها ما تريدين قالت أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك فقال ليس إلى ذلك سبيل لأنه ليس لي أن أعطيه ولكن من وعد له من أبي.
قال الحسن بن أيوب فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم ما رضيتم بقوله في نفسه ولا بقول تلامذته فيه ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم.
فبينوا لنا حجتكم في ذلك وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه.
قال ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي فبين أن الله عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في(4/485)
ص -402- ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته وهذا ما لا شك لكم فيه وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه وفي الأكل والشرب والنعيم هناك ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر ولكن كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون ولم يقل إني قادر أن أدفعهم عن نفسي ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني كما يقول من له القدرة والأمر.
قال ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام إنه مولود من أبيه أزلي ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به ولا تجترىء النفوس على ركوب الشبهات فيه والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود وإن كان مولودا فليس بأزلي لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر.
ومعنى المولود أنه حادث مفعول وكل مفعول فله أول فكيفما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة.
قال ونسألكم أيضا عن واحدة لم سميتم الأب أبا والابن ابنا فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه إذ كان قديما مثله وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا(4/486)
ص -403- عالما عزيزا فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول ولد من أبيه وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه فصار الأب باعثا والابن مبعوثا والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا.
ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح أن متى التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم فنسبه إلى من كان منه على الصحة ولم يقل إنه ابن الله ولا إنه إله من إله كما يقولون فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية فقد نسق متى على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا.
ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.
قال ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان أن يسوع المسيح بكر الخلائق فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز وهو محقق لقولنا في عبوديته وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق.
كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة ولأن من المحال أن يقول قائل بكر ولد آدم ملك من الملائكة وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع وبكر المخلوقات ليس بمخلوق.
وقد قال الله تعالى في التوراة يا ابني بكري أي إسرائيل وقال في موضع(4/487)
ص -404- آخر إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول.
قال وقلتم إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا وإن كان غير موجود وإنما هو حادث لم يكن فهو مخلوق كما قلنا.
قال ومما يبين قولنا في خلق المسيح أن هذا الاسم إنما وقع له لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله وأن ماسحه الله إلهه وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله من أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك عهد الرب لداود بالحق ولا يرجع عنه يعني بمسيحه نفسه لأن الله مسحه للنبوة والملك وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره فسمى نفسه مسيح الله.
قال وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من(4/488)
ص -405- أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم فأخذوا بذلك التأويل الفاسد وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل ويستدل على ما غاب بما حضر وعلى ما أشكل بما ظهر فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه فيكتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه وأنه ليس كما تأولوه.
ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال أنا بأبي وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه قال يوحنا في إنجيله إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا كما أنا شيء واحد وكما أنك أرسلتني إلى العالم وكذلك أرسلهم أنا أيضا ثم قال بعد هذا أيضا إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا كما أنا شيء واحد فأنا بهم وأنت بي.
قال هو معنى ذلك أنه قال أنت معي وأنت لي كما أنا مع تلاميذي ولهم.
قلت أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم وأعلمهم والباء للسببية فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم وقوله ليكونوا شيئا واحدا أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم وهذا مفسر وقد قال ليكونوا هم شيئا واحدا كما أنا شيء واحد فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه.(4/489)
ص -406- وهذا يبين أن قوله كما أنا شيء واحد أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك لم يرد بذلك اتحاد ذاته به كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه.
قال أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم كما أن أباه به لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه وأن أباه به إلى مشاركته في اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل وهذا ما لا يكون ولا يجترىء على القول به أحد.
قال ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحدا يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف فمنهم من يقول إنه عبد ومنهم من يقول إنه إله ومنهم من يقول إنه ولد ومنهم من يقول إنه أقنوم وطبيعة ومنهم من يقول إنه أقنومان وطبيعتان.
وكل منهم يكفر صاحبه ويقول إن الحق في يده وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله لة المتأولون بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم سبحانه أنى يكون له ولد.
قال الحسن بن أيوب وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم مما عقدتم به شريعة إيمانكم ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها(4/490)
ص -407- فيها ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.
وهذا أيضا من سوء الاختيار وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها.
فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه إلا أهل ملل النصرانية فقط.
وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم ومثل اختلاف المسلمين في القدر.
فمنهم من قال به ومنهم من دفعه.
وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد.
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد لا يشكون فيه وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه.
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود.
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا ثم عرض عليهم دين النصرانية لوجب أن يتوقفوا عنه إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه.
ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله.
فأما قولنا في باب التوحيد واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل(4/491)
ص -408- الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان وكل منهم يقر به ويرجع إليه.
إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد ومنهم من يدخل العلل فيه بأن يقول ثلاثة ترجع إلى واحد وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها.
وكل منهم مقر بقولنا وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها وأنه واحد لا شريك له.
فقد صح عقدنا بلا شك منكم ولا من أحد من الأمم فيهولا في شيء منه بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه.
والحمد لله رب العالمين على توفيقه وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين إنه على كل شيء قدير وكل مستصعب عليه يسير وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رؤوف رحيم اهـ.
قلت هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم فنقله لقولهم أصح من نقل غيره.
وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك.
ونحن نذكر مع ذلك كلام من نقل مذاهبهم من أئمتهم المنتصرين لدين النصرانية ونذكر ما ذكروه من حججهم مثل ابن البطريق بترك الإسكندرية فإنه صنف كتابه الذي سماه نظم الجوهر وذكر فيه أخبار النصارى ومجامعهم واختلافهم وسبب(4/492)
ص -409- إحداثهم ما أحدثوه مع انتصاره لقول الملكية والرد على من خالفهم.
قال سعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية في تاريخه المعروف عند النصارى الذي سماه نظم الجوهر وذكر فيه مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأخبار ملوك الروم وأصحاب الكراسي برومية وقسطنطينية وغيرهما ووصف دين النصرانية وفرق أهلها وهو ملكي رد على سائر طوائف النصارى لما ذكر مولد المسيح صلوات الله عليه وأنه ولد في عهد ملك الروم قيصر المسمى أغسطس لثنتين وأربعين سنة من ملكه قال وملك ستا وخمسين سنة قال وملك بعدة ابنه طيباريوس قيصر برومية وللمسيح خمس عشرة سنة.
وكان لقيصر هذا صديق يقال له بلاطس من قرية على شط البحر الذي تحت قسطنطينية ويسمى ذلك البحر السطس ولذلك يسمى بلاطس النبطي فولاه على أرض يهوذا.(4/493)
ص -410- قال وفي خمس عشرة سنة من ملك طيباريوس قيصر هذا ظهر يحيى ابن زكريا المعمداني فعمد اليهود في الأردن لغفران الخطايا.
فجاء المسيح إلى يحيى بن زكريا فعمده يحيى في الأردن ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة وذكر قصة قتل يحيى وقصة الصلب المعروفة عند النصارى. إلى أن قال وكتب بلاطس إلى طيباريوس الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعل تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى.
فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية فلم يتابعه أصحابه على ذلك وملك اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر. وذكر أن في عصره بنيت مدينة طبرية مشتقة من اسمه.
قال وملك بعده قيصر آخر أربع سنين وثلاثة أشهر قتل بلاطس وولى شخصا كان شديدا على تلاميذ المسيح وقتل رئيس الشهداء والشمامسة فرجم بالحجارة حتى مات.
وذكر أنه لقي التلاميذ من اليهود ومن الروم شدة شديدة وقتل منهم خلق كثيرة وأنه مات هذا وولي بعده قيصر آخر وفي زمنه وقع جوع ووباء وفي زمنه كتب متى وبين إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس وفسره من العبرانية إلى الرومية يوحنا صاحب الإنجيل.
قال وفي تسع سنين من ملكه كان مرقس صاحب الإنجيل بمدينة الإسكندرية يدعوا الناس إلى الإيمان بالمسيح وأنه أول شخص جعل بطريركا على(4/494)
ص -411- الاسكندرية وأنه صير معه اثني عشر قسيسا وأمرهم إذا مات البطريرك أن يختاروا واحدا من الاثني عشر قسيسا ويضع الاثنا عشر قسيسا أيديهم على رأسه ويباركونه ويصلحونه بطريركا ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا ويصيرونه معهم بدل القسيس الذي أصلحوه بتركا ليكون اثني عشر أبدا.
فلم يزل رسمهم بالإسكندرية على هذا إلى زمن الثلاثمائة وثمانية عشر.
فأمرهم بطريرك الاسكندرية الذي كان من جملة الثلاثمائة وثمانية عشر أن لا يفعل هذا فيما بعد ومنع أن يصلح الأقساء البترك بل يختاروا من أي بلد كان رجلا فاضلا وإذا مات البترك اجتمع الأساقفة فأصلحوا البترك من أي بلد كان من أولئك الأقسة أو من غيرهم.
فانقطع الرسم الأول من إصلاح الأقساء البترك وجعل التيسير لهم في إصلاح البترك بابا ثم سمى بترك الإسكندرية بابا ومعناه الجدومن حنانيا الذي أصلحه مرقس البشير إلى حادي عشر بطركا بالاسكندرية لم يكن في عمل مصر أسقف ولم يكن البطاركة قبله أصلحوا أسقفا وأن العامة لما سمعت الأساقفة يسمون البطريرك أبا قالوا إذا كنا نحن نسمي الأسقف أبا والأسقف يسمى البطريك أبا فيجب علينا أن نسمي البطريرك بابا أي الجد(4/495)
ص -412- إذ كان أبا لأبينا فسمي بطريرك الإسكندرية من وقت هرقل بابا أي الجد.
قال وخرج مرقس إلى برقة يدعو الناس إلى الإيمان بالسيد المسيح ومات قلوديوس قيصر وملك بعده ابنه نارون ثلاث عشرة سنة.
قال وهو أول من أهاج على النصارى الشر والبلاء والعذاب.
قال وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين الإنجيل إنجيل مرقس عن مرقس بمدينة رومية ونسبه إلى مرقس.
قال وفي عصر هذا الملك كتب لوقا إنجيله بالرومية إلى رجل شريف من عظماء الروم يقال له فوفيلا فكتب له أيضا الأبركسس الذي فيه أخبار التلاميذ.
وقد كان لوقا البشير صاحب بولس الرسول يقول في بعض رسائله أن لوقا الطبيب يقول عليكم السلام.
وقال وأخذ ثارون قيصر لبطرس فصلبه منكسا ثم قتله لأن بطرس قال له إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائما وضرب عنق بولس الرسول بالسيف.
وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة
قال وكان مرقس صاحب الإنجيل بالإسكندرية وبرقة يدعو الناس إلى الإيمان(4/496)
ص -413- فأقام سبع سنين.
وفي أول سنة من ملك نارون قيصر قتل مرقس بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار وذكر بعده عدة قياصرة وذكر أن طيطس خرب البيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم وقتل كل من كان فيها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهم الصخور.
وخرب المدينة والهيكل وأضرم بها النار وأحصى القتلى على يديه فكانوا ثلاثة آلاف ألف.
وذكر عدة قياصرة بعد ذلك وأنه ولي واحد منهم خمس عشرة سنة يقال له ذوما طيانوس وكان شديدا جدا على اليهود وأنه بلغه أن النصارى يقولون أن المسيح ملكهم وأن ملكه إلى الدهر.
فغضب غضبا شديدا وأمر بقتل النصارى وأن لا يكون في ملكه نصراني وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فسمع بهذا فخاف وهرب إلى أفسس.
ثم إنه أمر بأكرامهم وترك الاعتراض عليهم.
ثم تولى بعده قيصر آخر سنة وبعض أخرى ثم ملك آخر بعده تسع عشرة سنة يسمى طرايانوس.
قال وهذا الملك أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا وقتل شهداء كثيرة(4/497)
ص -414- وقتل بطريرك إنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله مائة وعشرون سنة وأمر أن يستعبد النصارى إذ ليس لهم دين ولا شريعة فلشدة ما استعبد النصارى وغلظ ما نالهم من القتل رحمتهم الروم وشهد وزراء الملك عنده أن النصارى لهم شريعة ودين وأنه لا يحل أن يستعبدوا فكف عنهم الأذية.
قال وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية في جزيرة يقال لها تيمرا من أرض الروم من أرض أثينة في عصر رجل من عظماء الروم فيلسوف يقال له مومودس.
قال وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس.
فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا فبلغ الخبر طيباريوس قيصر فوجه بقائد من قواده بجيش عظيم إلى بيت المقدس فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة قال وخرج على قيصر هذا خارجي مقاتل ببابل فخرج إليه بنفسه فوقعت بينهم حرب شديدة وقتل من الفريقين خلق عظيم وقتل قيصر في الحرب.
وملك بعده أندريانوس قيصر عشرين سنة فخرج إلى ذلك الخارجي ببابل فهزمه وصار إلى مصر فلقي منه أهل مصر شدة شديدة وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا وأصاب إيليا ابنه علة في بدنه فكان ينفذ إلى البلدان(4/498)
ص -415- يطلب شفاء لعلته فوصفوا له بيت المقدس.
فلما وافاها رآها خرابا ليس فيها أحد إلا كنيسة للنصارى فأمر أن تبنى المدينة وتحصن بحصن قوي.
فلما سمع اليهود أقبلوا من كل بلد وكل مدينة فما كان إلا زمان قليل حتى امتلأت منهم المدينة فلما كثروا ملكوا عليهم ملكا.
فاتصل الخبر بإيليا بن قيصر اندريانوس فوجه إليهم بقائد من قواده مع خلق كثير فحاصر المدينة فمات كل من فيها من الجوع والعطش ثم فتحها فقتل من اليهود ما لا يحصى وهدم الحصن وخرب المدينة حتى صيرها صحراء.
قال وهذا آخر خراب بيت المقدس وهرب من اليهود من هرب إلى مصر وإلى الشام وإلى الجبال وإلى الغور.
وأمر الملك أن لا يسكن المدينة يهودي وأن يقتل اليهود ويستأصلوا وأن يسكن المدينة اليونانيون ويبنوا على باب الهيكل برجا ويجعل فوقه ألواحا ويكتبوا عليه اسم إيليا الملك وذلك من ثمان سنين من ملكه.
قال والبرج اليوم على باب مدينة القدس وسمي محراب داود.
قال فسمى بيت المقدس إلى هذا الوقت إيليا.
فمن الخراب الأول الذي أخربه طيطس إلى هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة.
وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين فنظروا إلى النصارى يأتون إلى تلك المزبلة التي فيها القبر والأقرانيون فيصلون فمنعوهم من ذلك.
وبنى اليونانيون على تلك المزبلة هيكلا على اسم الزهرة فلم يقدر أحد من النصارى بعد ذلك أن يقرب ذلك الموضع.
قال ثم مات إيليا الملك وملك بعده أنطونيوس قيصر برومية اثنين(4/499)
ص -416- وعشرين سنة.
قال وفي إحدى عشرة سنة من ملكه صير يهودا أسقفا على بيت المقدس فأقام سنتين ومات.
قال فمن يعقوب أسقف المقدس الأول إلى يهودا أسقف بيت المقدس هذا كانت الأساقفة الذين صيروا على بيت المقدس مختونين.
وذكر أنه ولي بعد هذا قيصر آخر اسمه مرقس تسع عشرة سنة وأنه أثار على النصار بلاء عظيما وحزنا شديدا واستشهد في زمانه شهداء كثيرون قال وكان في أيامه جوع شديد ووباء عظيم لم تمطر السماء سنين وكاد الملك وجميع أهل مملكته أن يهلكوا من الجوع.
فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا فأمطر الله عليهم مطرا عظيما وارتفع الوباء والقحط.
قال وكان بأيامه بأرض اليونانيين مغنوس الحكيم.
قال وفي خمس سنين من ملكه صير لولياثوس بطريركا وهو أول بطريرك أصلح الأساقفة في عمل مصر أقام ثلاثا وأربعين سنة ومات(4/500)
ص -417- فصل
قال وفي ذلك العصر كتب بطريرك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبطرك إنطاكية وبطرك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود فوضعوا في ذلك كتبا كثيرة على ما هو عليه اليوم.
قال وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود سيدنا المسيح إلى السماء إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ويفطرون كما فعل سيدنا يسوع المسيح لأن سيدنا المسيح لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها صائما أربعين يوما وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح.
فوضع هؤلاء البطاركة حسابا للفصح ليصوم النصارى أربعين يوما ويكون فطرهم يوم الفصح ليتم فرحهم بذلك.
قلت فقد أخبر عن المسيح أنه لما صام أربعين يوما عقب المعمودية وكان يعيد مع اليهود في عيدهم لا يعيد عقب صومه شاركه النصارى في ذلك مدة فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمودية ويعيدون مع اليهود العيد.
ثم إنهم بعد هذا ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عقب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود فيكون عيدهم مع عيد اليهود وهو فصح المسيح(5/1)
ص -418- ويكون ذلك وقت قيامته من قبره.
قال ومات مرقص الملك وملك بعده قمودوس قيصر برومية اثني عشرة سنة وفي أيامه كان في أرض اليونانيين في مدينة أفرغامس جالينوس الحكيم صاحب صناعة الطب.
وذكر جالينوس في فهرست كتبه أنه ربى قمودوس الملك وذكر جالينوس في المقالة الأولى من الكتاب المعروف بكتاب أخلاق النفس أنه كان في عصر قمودوس الملك رجل يقال له بولس طلبه قمودوس الملك ليقتله فهرب منه وكان له غلامان فقبضهما الملك فضربهما الملك وطلب منهما أن يدلاه على مولاهما فلم يفعلا لكرم أنفسهما ونخوتهما وشدة محاماتهما على مولاهما فقتلهما وأن من الإسكندر إلى بولس خمسمائة سنة وست عشرة سنة وذلك في السنة التاسعة من ملك قمودوس قيصر فهذا ما ذكر جالينوس.
قال وكان أيضا في أيام ديمقراطيس الحكيم.
قلت هذه المدة أكثر مما ذكره سعيد هذا فإنه لم يذكر من المسيح إلى هنا مائتا سنة بل ذكر إلى الخراب مائة وثلاثة وعشرين سنة وقد تقدم ذكره لديمقراطيس قبل هذا قال وفي عشر سنين من ملكه ظهرت الفرس فغلبت على بابل وأمدوا(5/2)
ص -419- فارس وتملك أزدشير بن ساسان بابل من أهل أصطخر وهو أول ملك ملك على فارس في المرة الثانية.
قال ومات قمودوس قيصر ملك الروم وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ثم آخر وملك بعده برومية سويرس قيصر سبع عشرة سنة وذلك في أربع سنين من ملك أزدشير.
وكان هذا الملك شديدا قد أثار على النصارى بلاء عظيما وعذابا كبيرا وقتل كل عالم منهم وقتل خلقا كثيرا واستشهد في أيامه خلق كثير من النصارى في كل موضع ثم قتل كل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية هيكلا وسماه هيكل الآلهة.
وملك بعده قيصر وهو أنطونيوس الأصلع ست سنين وملك بعده قيصر آخر ثلاث عشرة سنة كانت النصارى في أيامه في هدوء وسلامه وكانت أمه تحب النصارى وفي أيامه سمى بطرك الإسكندرية بابا أي الجد وملك بعده قيصر آخر ثلاث سنين وهذا أثار على النصارى بلاء طويلا وحزنا عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية فلما سمع أسقف بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي.(5/3)
ص -420- قال: ومات قيصر هذا في السنة الثانية من ملك بهرام بن هرمز وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ثم بعده آخر أربع سنين واسمه غرديانوس وفي ثلاث سنين من ملكه مات بهرام بن هرمز وملك بعده بهرام بن بهرام على الفرس تسع عشرة سنة.
وفي أيامه ظهر رجل فارسي يقال له ماني فأظهر دين المانية وزعم أنه نبي فأخذه بهرام بن بهرام ملك الفرس فشقه نصفين وأخذ من أصحابه وممن يقول بقوله مائتي رجل فغرس رؤوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا منكسين.
وملك بعد قيصر هذا فيلبس قيصرا برومية سبع سنين وآمن بالسيد المسيح ووثب عليه قائد من قواده فقتله.
ثم ملك بعده قيصر آخر اسمه داقنوس وهو دقيانوس وذلك من عشر سنين من ملك بهرام بن بهرام فلقي النصارى منه حزنا طويلا وعذابا شديدا وقتل منهم من لا يحصى واستشهد في أيامه من الشهداء خلق كثير وقتل بطرق رومية ثم خرج إلى مدينة أفسس فبنى في وسطها هيكلا عظيما وصير فيه الأصنام وأمر أن يسجد للأصنام ويذبح لها ومن لم يفعل ذلك قتل فقتل من النصارى بأفسس خلقا عظيما وصلبهم على الحصن واتخذ من أولاد عظماء أفسس سبعة غلمان من خواصه وعلى كسوته وقدمهم على جميع من عنده وذكر أسماءهم أسماء أصحاب أهل الكهف.
قال وهؤلاء السبعة الغلمان لم يسجدوا للأصنام فأعلموا الملك بخبرهم فأمر بحبسهم ثم خرج إلى بعض المواضع وأطلق سبيلهم إلى حين رجوعه.(5/4)
ص -421- فلما خرج من المدينة أخذ الغلمان كل ما لهم فتصدقوا به ثم خرجوا إلى جبل عظيم يقال له جاوس شرقي أفسس فيه كهف كبير فاختفوا في الكهف فكان واحد منهم في كل يوم يتنكر ويدخل المدينة فيسمع ما يقول الناس في شأنهم ويشتري لهم طعاما ويرجع فيعلمهم.
فقدم دقيانوس الملك فسأل عنهم فقيل له إنهم في جبل جاوس في الكهف مختفين.
فأمر الملك أن يبنى باب الكهف عليهم ليموتوا وصب الله عليهم النعاس فناموا كالأموات وأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس وكتب فيها خبرهم وقصتهم مع دقيانوس الملك وصير الصفيحة في صندوق نحاس ودفنه داخل الكهف وبنى الكهف.
ومات الملك دقيانوس قيصر وملك بعده قيصران برومية سنتين ثم قيصر آخر اسمه غنيونوس خمس عشرة سنة وملك بعده قيصر آخر سنة واحدة ومات وذلك من ثلاث سنين من ملك هرمز.
وفي أول سنة من ملك هذا صير بولس بطركا على أنطاكية ويسمى بولوس الشمشاطي قال وهو الذي ابتدع دين البوليانية فسمي التابعون لدينه والقائلون بمقالته بوليانيين.
قال وكانت مقالته أن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره فإن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله(5/5)
ص -422- وقال إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ولا نؤمن بالكلمة ولا بروح القدس.
قال وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة بولس فأوجبوا على هذا الشمشاطي اللعن فلعنوه ولعنوا من يقول مقالته وانصرفوا.
قال وبعده ملك قيصر آخر ست سنين اسمه أوراغوس قيصر.
قال وكان النصارى بالإسكندرية في أيامه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ولم يكن يظهر بترك بالإسكندرية لئلا يقتلوهم.
فلما صار نارون بطركا ظهر ولم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة حنا ومار مريم وملك بعده قيصران ثم قيصر اسمه فاروس وذلك في تسع سنين من ملك سابور بن هرمز وكان شديدا على النصارى قتل الأخوين قزمان ودميان الشهيدين وملك بعده دقيطيانوس.
قال فمن خراب طيطس لبيت المقدس إلى ملك دقيطيانوس مائتان وست سنين ومن مولد سيدنا المسيح إلى دقيطيانوس مائتان وست وسبعون سنة ومن الإسكندر إلى دقيطيانوس خمسمائة وخمس وتسعون سنة ومن سبي بابل إلى دقيطيانوس ألف وثلاثمائة وخمس وثلاثون سنة ومن داود إلى دقيطيانوس ألف وتسعمائة وإحدى(5/6)
ص -423- وأربعون سنة.
قال وملك دقيطيانوس في إحدى عشرة سنة من ملكسابور بن هرمز ملك الفرس وملك معه اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة وهؤلاء أثاروا على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا وعذابا أليما وشدة شديدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الأموال واستشهدوا ألوفا من الشهداء وعذبوا ماري جرجس أصناف العذاب وقتلوه بفلسطين وقتلوا ماري مينا وماري بقطر وأيتماخوس ومركورس وغيرهما.
قال وفي عشر سنين من ملكهما صير بطرس بطركا على الإسكندرية فأقام عشر سنين وقتلوفي عشرين سنة من ملكهما ضرب عنق بطرس هذا البطرك بالإسكندرية.
قال وكان لبطرس تلميذان اسم أحدهما أشلا والآخر الأكصندروس وكان بالإسكندرية رجل يقال له أوريوس يقول إن الأب وحده الله الفرد والابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب إذ لم يكن الابن.
فقال بطرس البطرك لتلميذيه إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله فإني(5/7)
ص -424- رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب فقلت له يا سيدي من شق ثوبك فقال لي أريوس فاحذروا أن تقبلوه ويدخل معكم الكنيسة كنيسة الله.
قال وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير أشيلا بطركا على الإسكندرية فأقام ستة أشهر ومات.
وكان أريوس قد استعان على أشلا بأصدقائه فأورى أنه قد رجع عن تلك المقالة فقبله أشلا وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا قال وأما دقيطيانوس الملك فكان يطلب النصارى فيقتلهم.
فبينما هو يسير في طلبهم إذ بلغ إلى موضع يقال له ملطية فصب الله عليه نقمته فوقع في علل عظيمة وأمراض عظيمة حتى ذاب جسمه وكان الدود يتساقط من بدنه إلى الأرض وسقط لسانه من حنكه ومات.
وملك بعده قيصران أحدهما المشرق والشام وأرض الروم والآخر رومية ونحوها وكان أحدهما اسمه علانيوس والآخر مقصطيوس فكانا كالسباع الضارية على النصارى وأثارا عليهم البلاء والجلاء وما لا يصفه واصف وفعلا بهم ما لم يفعله أحد من الملوك قبلهم.
وملك معهما على بزنطية وما والاها قسطس أبو قسطنطين وكان رجلا دينا مبغضا للأصنام محبا للنصارى.
فخرج قسطس إلى ناحية الجزيرة والرها فنزل في قرية من قرى الرها يقال لها(5/8)
ص -425- كفرجاث فنظر فيها امرأة حسنة جميلة يقال لها هيلانة وكانت قد تنصرت على يدي أسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب.
وولدت هيلانة قسطنطين فتربى بالرها وتعلم حكم اليونانيين وكان غلاما حسن الوجه قليل الشر وديعا محبا للحكمة.
وأما علانيوس فكان رجلا وحشيا شديد البأس مبغضا للنصارى جدا كثير القتل لهم محبا للنساء ولم يترك للنصارى بنتا بكرا إلا أخذها وأفسدها وقتلها وكذلك أصحابه وهكذا كانوا يفعلون بالنصارى وكان النصارى في شدة شديدة جدا معهم.
وبلغه خبر قسطنطين وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم والخير.
وأخبره الحكماء الذين له والمنجمون أن قسطنطين سيملك ملكا عظيما فهم بقتله وعلم قسطنطين بذلك فهرب من الرها وذهب إلى مدينة بزنطية ووصل إلى أبيه قسطس فسلم إليه الملك.
وبعد قليل مات قسطس وصب الله على علانيوس الملك عللا عظيمة حتى تقطع لحمه وتهرأ وبقي مطروحا لا يقدر أحد أن يقترب منه.
فعجب الناس مما ناله ورحمه أعداؤه مما حل به.
فرجع إلى نفسه وقال لعل هذا الذي بي مما أقتل النصارى.
فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس وأن يكرموهم ولا يؤذوهم ويسألونهم أن يدعوا له في صلاتهم.
فصلى النصارى على الملك ودعوا له فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل مما كان عليه من الصحة والقوة.
فلما صح وقوي رجع إلى أشر مما كان عليه من الردى.
وكتب إلى جميع عماله أن يقتلوا النصارى ولا يعيش في مملكته نصراني ولا يسكنوا مدينة ولا قرية له.(5/9)
ص -426- فمن كثرة القتلى كانوا يحملون على العجل ويرمون بهم في البحار والصحارى وقتل مار جرجس وأخاه بمدينة قباذوقية وهما من أهلها وقتل بربارة وذكر حربا جرت بينه وبين سابور لما تنكر سابور وجاء إليه متنكرا وعرفه.
قال وأما مقسطيوس فكان شريرا على أهل رومية واستبعد كل من كان برومية وخاصة النصارى فكان ينهب أموالهم ويقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم.
فلما سمع أهل رومية بملك قسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة كتب رؤساء رومية إلى قسطنطين يسألونه ويطلبون إليه أن يخلصهم من عبودية مقسطيوس عدو الله.
فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا ولا يدري كيف يصنع.
فبينما هو متفكر إذ ظهر له من نصف النهار في السماء صليب من كواكب تضيء مكتوبا حوله بهذا تغلب.
فقال لأصحابه رأيتم ما رأيت قالوا نعم.
فآمن من ذلك الوقت بالنصرانية وذلك لست سنين من بعد موت أبيه فتجهر قسطنطين واستعد لمحاربة مقسطيوس ملك رومية وعمل صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند وخرج يريد مقسطيوس.
فلما سمع مقسطيوس أن قسطنطين قد وافاه لمحاربته استعد لحربه وعقد جسرا على النهر الذي قدام رومية وخرج مع جميع أصحابه يحارب قسطنطين.
فأعطى قسطنطين النصرة عليه فقتل من أصحاب مقسطيوس مقتلة عظيمة وهرب مقسطيوس وغرق هو وأصحابه حتى امتلأ البحر وهو النهر الذي عند رومية غرقى وقتلى.(5/10)
ص -427- وخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب وكل أنواع اللهو واللعب فلقوا قسطنطين وفرحوا فرحا عظيما.
فلما دخل المدينة أمر أن تدفن أجساد النصارى الشهداء المصاليب وكل من كان من النصارى هرب أو نفاه مقسطيوس يرجع إلى بلده وموضعه ومن أخذ له شيء رد إليه.
وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب ويفرحون.
فلما سمع الخبر علانيوس جمع ما قدر عليه وتجهز لقتال قسطنطين فلما عاينه انهزموا من بين يديه وأخذهم بالسيف وقتل منهم مقتلة عظيمة ومنهم من أسر ومنهم من استأمن.
وأفلت علانيوس عريانا فلم يزل يتقوى موضعا موضعا حتى وافى مدينته فجمع الكهنة والسحرة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين.
وصب الله على علانيوس نارا في جوفه حتى كانت أحشاؤه تتقطع من الحر الذي كان يجده في جوفه وسقط على الأرض وتهرأ لحمه على عظمه ومات.
وملك قسطنطين الدنيا في هدوء وسلامة وذلك في إحدى وأربعين سنة من ملك سابور بن هرمز ملك الفرس.
قال وتنصر قسطنطين في مدينة يقال لها نيقوميديا وذلك في اثني عشرة سنة من ملكه وأمر ببناء الكنائس في كل بلد وأن يخرج من بيت المال الخراج مما يعمل به أبنية الكنائس
قال وفي خمس سنين من ملكه صير الأكصندروس بطريركا على الإسكندرية وهو تلميذ بطركها بطرس الذي قتل(5/11)
ص -428- وهو رفيق أشلا فأقام ست عشرة سنة وفي خمس عشرة سنة من رياسته كان المجمع بمدينة نيقية الذي رتبت فيها الأمانة الأرثذكسية.
فمنع الأكصندروس بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه وقال إن أريوس ملعون لأن بطرس البترك قبل أن يستشهد قال انا إن الله لعن أريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة.
وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر أسقف يرى رأي أريوس فلعنه أيضا.
وكان بالإسكندرية هيكل عظيم كانت كلاوبطرة الملكة بنته على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس عظيم يسمى ميكائيل وكان أهل الإسكندرية ومصر في اثني عشر يوما في شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون الذبائح الكثيرة.
فلما صار هذا بطركا على الإسكندرية وظهرت النصرانية أراد أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح.
فامتنع عليه أهل الإسكندرية فاحتال لهم بأن قال إن هذا صنم لا منفعة فيه ولا مضرة(5/12)
ص -429- فلو صيرتم العيد لميكائيل الملاك وجعلتم هذه الذبائح له كان أنفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم فأجابوه إلى ذلك.
فكسر الصنم وأصلح منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل وهي الكنيسة التي تسمى قيسارية احترقت بالنار وقت موافاة الجيوش من المغاربة القرامطة مع المسمى أبو عبيد الله وكان معه أمير من أصحابه يسمى حباسة وذلك في خلافة المعتضد بالله.
وكان عامله على مصر يومئذ مولاه المعروف بتكين الحاجب رجل تركي فنفر إلى المغاربة وجاءه مدد من الشرق مع الخادم الملقب مونس الأستاذ فهرب منه أبو عبيد الله وحباسة وجنودهما وصير العيد لميكائيل الملك والذبائح.
وإلى اليوم القبط بمصر والإسكندرية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك ويذبحون فيه الذبائح الكثيرة وكذلك الملكية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك وصار رسما إلى اليوم.(5/13)
ص -430- قال فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين الملك.
وقال أريوس إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما.
وسأل الملك أن يشخص الأكصندروس بطرك الإسكندرية ليناظره قدام الملك.
فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية فأشخص البطرك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره فقال قسطنطين لأريوس اشرح مقالتك قال أريوس أقول إن الأب كان إذ لم يكن الابن ثم الله أحدث الابن فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله إذ يقول وهب لي سلطانا على السماء والأرض فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك.
ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا.
فالمسيح الآن معنيان كلمة وجسد إلا أنهما جميعا مخلوقان.
قال فأجابه عند ذلك بطرك الإسكندرية وقال تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا.
قال أريوس بل عبادة من خلقنا.
قال له البطرك فإن كان خالقنا الابن كما وصفت وكان الابن مخلوقا فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الأب الخالق للابن كفرا وعبادة الابن المخلوق إيمانا وذلك من أقبح الأقاويل.
فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البطرك وشنع عندهم مقالة أريوس ودار بينهما أيضا مسائل كثيرة. فأمر قسطنطين البطرك الأكصندروس أن يلعن أريوس وكل من قال بمقالته.
فقال له بل يوجه الملك فيشخص البطاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونضع فيه(5/14)
ص -431- قضية ونلعن أريوس ونشرح الدين ونوضحه للناس.
فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة زيقية بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان.
فمنهم من يقول المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية ويسمون المريميين ومنهم من كان يقول إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها وهي مقالة سبارينون وأشياعه.
ومنهم من كان يقول لم تحبل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهي مقالة ألبان وأشياعه.
ومنهم من كان يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره وأن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه المحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله ويقولون إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد يسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهي مقالة بولص الشمشاطي بطرك أنطاكية وأشياعه وهم البوليانيون.
ومنهم من كان يقول بثلاثة آلهة لم يزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون وأشياعه وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين وأنكروا بطرس السليح.(5/15)
ص -432- ومنهم من كان يقول ربنا هو المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا.
قال فلما سمع قسطنطين الملك مقالاتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه.
فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد فناظروا بقية الأساقفة المختلفين فأفلجوا عليهم حججهم وأظهروا الدين المستقيم وكان أيضا باقي الأساقفة مختلفي الأديان والآراء.
وصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا خاصا عظيما وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم وقال لهم قد سلطتكم اليوم على المملكة لتصنعوا ما بدا لكم لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين.
فباركوا على الملك وقلدوه سيفه وقالوا له أظهر دين النصرانية وذب عنه ووضعوا له أربعين كتابا فيها السنن والشرائع وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها.
وكان رئيس المجمع والمقدم فيه الأكصندروس بطريرك الإسكندرية وبطرك الإنطاكية وأسقف بيت المقدس.
ووجه بطرك رومية من عنده رجلين فاتفقوا على نفي أريوس وأصحابه ولعنوهم وكل من قال مقالته ووضعوا تلك الأمانة وثبتوا أن الابن مولود من الأب قبل كل الخلائق وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق.
واتفقوا على أن يكون فصح النصارى في يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود وأن لا يكون فصح اليهود مع فصح النصارى في يوم واحد وثبتوا ما وضعه من تقدم ذكره(5/16)
ص -433- من حساب الصوم والفصح وأن يكون فطر النصارى يوم فصحهم يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود.
لأن النصارى كما قلنا من قبل كانوا إذا عيدوا عيد الحميم وهو عيد الغطاس صاموا من الغد أربعين يوما ويفطرون.
فإذا كان عيد اليهود عيدوا معهم الفصح فصيروا يوم الفصح للفطر ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء لأنه كان إذا اختير واحد أسقفا وكانت له زوجة تبيت معه ولم تنتح عنه ما خلا البطاركة فإنه لم يكن لهم نساء ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا بطركا له زوجة.
قال وانصرفوا مكرمين محظوظين وذلك في سبع عشرة سنة من ملك قسطنطين.
قال وسن قسطنطين الملك ثلاث سنن.
أحدها: كسر الأصنام وقتل كل من يعبدها.
والثانية: أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى ويكونون أمراء وقواد والثالثة أن يقيم الناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ولا يكون فيها حرب.
قال وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة المقدسة.
فقالت هيلانة أم قسطنطين للملك إني نذرت أن أصير إلى بيت المقدس فأطلب المواضع المقدسة فأبنيها فدفع الملك إليها أموالا كثيرة جزيلة.
وسارت إلى بيت المقدس مع أسقف بيت المقدس فلما وصلت لم يكن لها حرص ولا همة إلا طلب الصليب.(5/17)
ص -434- فجمعت اليهود والسكان في بيت المقدس واختارت منهم عشرة ومن العشرة ثلاثة كان واحد منهم يقال له يهوذا فسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا وقالوا ليس عندنا علم منه ولا خبرة بالموضع.
فأمرت بهم فطرحتهم في جب ليس فيه ماء فأقاموا سبعة أيام لم يطعموا ولم يسقوا فقال أحدهم الذي اسمه يهوذا لصاحبيه إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب هذه المرأة وإن جده عرف أباه.
فصاح الاثنان من الجب أخرجونا حتى نعلم الملكة بحال هذا الرجل فأخرجوهم فأخبروا الملكة بما قال لهما يهوذا فأمرت بضربه بالسياط فأقر أنه يعرف الموضع فخرج حتى جاء إلى الموضع الذي فيه المقبرة والأقرانيون وكانت مزبلة عظيمة هناك فصلى وقال اللهم إن كان في هذا الموضع المقبرة فأسألك أن تزلزل المكان وتخرج منه دخانا حتى نؤمن فزلزل الموضع وخرج منه دخان كما سأل فآمن.
فأمرت هيلانة بكنس الموضع من التراب فظهرت المقبرة والأقرانيون ووجد ثلاثة صلبان قالت هيلانة كيف لنا أن نعلم بصليب السيد المسيح وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد يئس منه فوضع الصليب الأول عليه والثاني والثالث فقام المريض وليس به شيء يكره.
فعلمت هيلانة أنه الصليب الذي لسيدنا المسيح فجعلته في غلاف من ذهب وحملته معها وجملته بما تقدر عليه وأظهرت كل ما كان مدفونا من آثار سيدنا المسيح وحملته إلى ابنها قسطنطين وبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب والأقرانيون وكنيسة قسطنطين وانصرفت وأمرت أسقف بيت المقدس أن يبني باقي الكنائس وذلك في اثنين وعشرين سنة من ملك قسطنطين.
قال فمن ميلاد سيدنا المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة وذكر أنه بعد هذا اجتمعوا بمجمع عظيم ببيت المقدس.
وكان معهم رجل قد دسه بطرك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بطرك الإسكندرية وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس وكان يرى رأيه ويقول(5/18)
ص -435- بمقالته فقام هذا الرجل واسمه مانيوس فقال إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق الأشياء ولكن قال به خلقت الأشياء لأن كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال سيدنا المسيح في الإنجيل المقدس كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء فقال به كانت الحياة والحياة نور البشر وقال في هذا العالم والعالم به تكون فأخبر أن الأشياء به تكونت ولم يخبر أنها كونت له قال فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وظلموه وحرموه ظلما وعدوانا.
فرد عليه بطرك الإسكندرية وقال أما أريوس فلم يكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال إن الابن خالق الأشياء دون الأب.
وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا فقد يجب أن يكون ما خلق منها شيئا وفي ذلك تكذيب للمسيح قوله الأب يخلق وأنا أخلق وقال إن أنا لم أعمل عمل أبيفلا تصدقوني وقال كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته.
فدل على أنه يحيي ويخلق وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق وإنما خلقت به دون أن يكون خالقا له وأما قولك إن الأشياء كونت به فإنما كنا لا نشك أن المسيح حي فعال وكان قد دل بقوله إثما أفعل الخلق والحياة كان قولك به كونت الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها فكانت به مكونة ولو لم يكن ذلك كذلك لتناقض القولان.
قال ورد عليه أيضا فقال أما قول من قال من أصحاب أريوس إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن والإرادة للأب والتكوين للابن فإن ذلك يفسد أيضا إذ كان الابن(5/19)
ص -436- عنده مخلوقا فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه وذلك أن هذا أراد وفعل وذاك أراد ولم يفعل فهذا أوفر حظا في فعله من ذاك ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار فإن كان مجهولا فلا شيء له في الفعل وإن كان مختارا فجائز أن يطاع وجائز أن يعصى وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب وهذا أشنع في القول.
قال ورد عليه أيضا وقال إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق فالمخلوق غير الخالق بلا شك فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به والمحتاج إلى غيره منقوص والخالق يتعالى عن هذا كله.
قال فلما دحض بطرك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم تحيروا وخجلوا فوثبوا على بطرك الإسكندرية فضربوه حتى كاد أن يقتل فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين وهرب بطرك الإسكندرية المحتج على أصحاب أريوس وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون وسار إلى الملك فأعلمه بالخبر فصرفه الملك إلى الإسكندرية(5/20)
ص -437- فصل
قال وأمر الملك أن لا يسكن يهودي بيت المقدس ولا يجوز بها ومن لم يتنصر يقتل فتنصر من اليهود خلق كثير وظهر دين النصرانية.
فقيل لقسطنطين الملك إن اليهود يتنصرون من فزع القتل وهم على دينهم قال الملك كيف لنا أن نعلم ذلك منهم.
قال بولس البترك إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتطعمهم منها فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية.
فقال الملك إذا كان الخنزير في التوراة حراما فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه للناس.
فقال له بولس البترك إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة وجاء بناموس آخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل وفي إنجيله المقدس أن كل ما يدخل البطن ليس بحرام ولا ينجس وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه
وقال بولس الرسول في رسالته إلى أهل مدينة فورينيوس الأولى الطعام للبطن آلته لها والبطن للطعام وله يلعن ومكتوب في الإبركسس يعني أخبار الحواريين أن بطرس رئيس الحواريين كان في مدينة يافا(5/21)
ص -438- في منزل رجل دباغ يقال له سيمون وأنه صعد إلى المنزل ليصلي وقت ست ساعات من النهار فوقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت وإذا إزار قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض.
وفيه كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والذئاب وغير ذلك من طير السماء وسمع صوتا يقول له يا بطرس قم فاذبح وكل فقال بطرس يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط فجاء صوت ثان كل ما طهره الله فليس بنجس وفي نسخة أخرى ما طهره الله فلا تنجسه أنت.
ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء فعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه.
فبهذا المنظر وبما قال سيدنا المسيح في إنجيله المقدس أمر بطرس وبولس أن نأكل كل ذي أربع قوائم من الخنزير وغيره من جميع الحيوان حلالا لنا.
فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا صغارا وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير فمن لم يأكل منه يقتل فقتل لأجل ذلك خلق كثير
قال سعيد وكان لقسطنطين ثلاثة أولاد أكبرهم قسطنطين بن قسطنطين(5/22)
ص -439- وذلك حين ملك أزدشير بن سابور بن هرمز على الفرس وملك بعده سابور بن سابور لخمس سنين من ملك قسطنطين.
قال وفي ذلك العصر اجتمع أصحاب أريوس وكل من قال بمقالته إلى الملك قسطنطين فحملوا له دينهم ومقالتهم وقالوا إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم إن الابن متفق مع الأب في الجوهر فتأمر أن لا يقال هذا فإنه خطأ فأراد الملك أن يفعل ذلك.
قال وفي ذلك العصر ظهر على الأقرانيون وهو الجلجلة نصف النهار صليب من نور من الأرض إلى السماء يفوق ضوؤه ضوء الشمس فكان يبلغ إلى طور زيتا فرأى ذلك كل من كان في بيت المقدس من كبير وصغير فكتب أسقف بيت المقدس إلى قسطنطين بن قسطنطين بالخبر وقال في أيام أبيك السعيد ظهر صليب كواكب من السماء في نصف النهار وفي أيامك ظهر أيها الملك على الأقرانيون صليب من نور يفوق نوره نور الشمس في نصف النهار.
وكتب إليه أن لا يقبل قول أصحاب أريوس فإنهم حائدون عن الحق كفار قد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولعنوا كل من يقول بمقالتهم فقيل قوله.
قال وفي ذلك الوقت غلبت مقالة أريوس على قسطنطينية وأنطاكية وبابل والإسكندرية.
فسمى التابعون لأريوس والقائلون بمقالته أريوسيين مشتقا من اسمه.
قال وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين صير على أنطاكية بطرك أريوسي ثم بعده آخر أريوسي ثم بعده آخر مناني وصير على قسطنطينية بترك مناني(5/23)
ص -440- قال ففي عشر سنين من ملكه صير على قسطنطينية بطرك وكان يقول روح القدس مخلوقة وأقام عشر سنين ومات.
ونقل بعد ذلك بطرك أنطاكية فصير على قسطنطينية وكان منانيا.
قال وأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريوسيين ومنانيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى وصيروا على إسكندرية بترك منانيا.
وفي ذلك الزمان قدم من القسطنطينية إلى الإسكندرية قائد وكان أريوسيا فنفى الملكي وأقام بطركا أريوسيا.
فلما خرج القائد قتل الملكيون ذلك البترك الأريوسي وأحرقوه بالنارومات الملك قسطنطين بن قسطنطين وله في الملك أربع وعشرون سنة.
وملك بعده يوليانوس الملك الكافر على الروم سنين وأراد أن يرد الناس إلى عبادة الأصنام وقتل من الشهداء خلقا كثيرا.
وفي أول سنة من ملكه وثب الأريوسيون ببيت المقدس على أسقفها الملكي الذي كتب بظهور الصليب ليقتلوه فهرب منهم فصيروا أسقفا أريوسيا.
قال وفي ثاني سنة من ملكه صير على أنطاكية بطركا على الأمانة أقام خمسا وعشرين سنة.
وفي إحدى وعشرين سنة من رياسته كان المجمع الثاني بقسطنطينية.(5/24)
ص -441- قال وكان في عصره أهل مدينة نيريار كلهم صابئون فوضع أسقف نيريار ميمرا في ميلاد المسيح ويقول في ابتدائه الميمر السيد ولد مختونا فخذوا المسيح من السماء واستقبلوه على الأرض فلما قرأه عليهم استهزأوا به وأقبلوا يضحكون منه فلما كان عيد الحميم وضع ميمرا في عيد الحميم هتك فيه دين الصابئين وفضحهم فيه ومكن فيه دين النصرانية.
قال وكان في عصر يوليانوس الملك الكافر أول راهب سكن برية مصر وبنى الديارات وجمع الرهبان.
وكان آخر بالشام وهو أول من سكن برية الأردن وجمع الرهبان وبنى الديارات.
قال وخرج هذا الملك الكافر لقتال سابور ملك الفرس فلسوء مذهبه ورداءة دينه وما أراد أن يأخذ بعبادة الأصنام ظفر به ملكالفرس فقتله وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.
وذكر أسقف قيسارية أنه كان جالسا في محرابه وحذاؤه لوح فيه صورة ماري مركورس الشاهد فنظر إلى اللوح فلم ير فيه صورة الشاهد فعجب من ذلك إذ غابت فلم يكن إلا ساعة حتى عادت صورة الشاهد إلى اللوح وفي طرف الحربة المصورة التي في يد الشاهد شبيه بالدم فتعجب من ذلك وبقي متحيرا حتى بلغه أن الملك الكافر(5/25)
ص -442- قتل في الحرب.
فعلم أن ماري مركوس الشاهد قتله لشدة بغضه الذي كان للنصارى وما كان عزم عليه من عبادة الأصنام.
وذكر بعد هذا جماعة من البتاركة والأساقفة كان بعضهم أريوسيا وبعضهم منانيا وبعضهم ملكيا وذكر فتنا بينهم وتعصب كل طائفة لبتركها حتى يقتل بعضهم بعضا وينفي بعضهم بعضا.
وذكر أنه اختلفت آراء النصارى وكثرت مقالاتهم وغلبت عليهم مقالة أريوس وأنهم ملكوا عليهم ملكا اسمه تذوس وأن الوزراء والقواد اجتمعوا إليه ذاكرين أن مقالات الناس اختلفت وفسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومقدينوس فينظر الملك في هذا ويذب عن النصرانية ويوضح الأمانة المستقيمة.
وكتب إلى بطرك إسكندرية وأنطاكية ورومية وأسقف بيت المقدس فحضروا مع أساقفتهم بقسطنطينية إلا بطرك رومية فإنه كتب وأنفذ بالأمانة المستقيمة.
فاجتمع بقسطنطينية ماية وخمسون أسقفا وكان المقدم البطاركة الثلاثة فدفع الملك إليهم كتاب بطرك رومية فكان صحيحا موافقا وكان يزعم أن روح القدس إله ولكن مخلوق مصنوع.
فقال بطرك الإسكندرية ليس روح القدس عندي معنى غير حياته فإذا قلنا إن روح(5/26)
ص -443- القدس مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة وإذا قلنا إن حياته مخلوقة فقد زعمنا أنه غير حي وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا ومن كفر وجب عليه اللعن.
فاتفقوا على لعن مقدونيوس فلعنوه وأشياعه ولعنوا البطاركة الذين كانوا بعده يقولون بقوله ولعنوا أسقف لونيه وأشياعه ولعنوا بوليناريوس وأشياعه لأنه كان يقول إن الأب والابن وجه واحد.
ولعنوا بوليناريوس وأشياعه لأنه كان يقول إن جسد سيدنا المسيح بغير فعل.
وثبتوا أن روح القدس خالقة غير مخلوقة إله حق وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة واحدة.
وزاد في الأمانة التي وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا في مدينة نيقية وبروح القدس المحيي المميت المنبثق من الأب وثبتوا أن الأب وحده والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص في وحدانية واحدة وكيان واحد وثلاثة أقانيم إله واحد جوهر واحد طبيعة واحدة.
وثبتوا أن جسد سيدنا المسيح بنفس ناطقة عقلية.
قال فمن المجمع الأول إلى هذا المجمع الثاني ثمان وخمسون سنة.
قال وأطلق بطرك الإسكندرية للبطاركة والأساقفة والرهبان أكل اللحم من أجل المنانية ليعرف المناني منهم لأن المنانية لايرون أكل اللحم ولا شيئا من الحيوان البتة.
وكان أكثر أساقفة مصر منانية فأكل بطاركة مصر وأسقفهم اللحم.
وأما بطاركة رومية وقسطنطينية وأساقفتها ورهبانها فلم يأكلوا اللحم وأكلوا بدل اللحم السمك وأقاموه مقام اللحم إذ كان حيوانا.(5/27)
ص -444- قال سعيد بن البطريق لم يطلق أكل اللحم على أنهم يعتاضون منه بالسمك إذ ليس بذبيحة ويمنعون أكل اللحم إذ كان قد أخطأ الذين أقاموا السمك مقام اللحم وسيدنا المسيح فقد أكلا للحم فوجب ضرورة أكل اللحم اقتداء بالسيد المسيح ولو يوما واحدا في السنة ليزيلوا الشك من مذهب المنانية.
قال وفي الأبركسس مكتوبا ما نظره بطرس السليح بيافا من تنزل السبنية وفيها كل ذي أربع قوائم ولهذا الحكم كل من لم يأكل اللحم مخالف لشريعة النصرانية ومضاهاه لمذهب الصابئة الروم وهم لا يغتسلون إلى اليوم لأن المنانية لا يرون الغسل بالماء فلما طال بهم الزمان أقاموه على هذه السنة.
وقال قوم إنما تركوا الغسل بالماء لشدة برد بلادهم وبرد الماء عندهم وأنه لا يتهيأ لهم بالجملة أن يقربوا الماء في الشتاء لثلجه وبرده فصار سنة جارية شتاء وصيفا.
والمنانية صنفان السماعون والصديقون.
فالسماعون يصومون في كل شهر أياما معلومة.
والصديقون يصومون الدهر كله ولا يأكلون إلا ما نبت من الأرض فلما تنصروا خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيعلم بهم فجعلوا لأنفسهم صياما فصاموا الميلاد والحواريين.
فلما طال بهم الزمان وتربوا في هذا الصوم أكلوا اللحم فتبعتهم في ذلك النساطرة واليعاقبة والمارونية وصارت سنة استحسنتها الملكية فتبعوهم وخاصة المقيمون ببلاد الإسلام.(5/28)
ص -445- وأما الروم فما تركوا أكل اللحم في أيام صوم الميلاد وصوم الحواريين وتلك الأيام التي يظن أنها من جملة الصوم الكبير.
فمن أحب أن يصوم الميلاد والحواريين والسيدة ولا يأكل لحما فليس بواجب وليس لأحد قطع اللحم طول السنة إلا في صوم الأربعين المقدسة فقط ومن فعل بضد ذلك مخالف راجع إلى أصحاب الآراء المختلفة.
قال وفي ثمان سنين من ملك ثذوس ظهرت الفتية الذين كانوا هربوا من ذاقيوس الملك واختفوا في الكهف وذلك أن الرعاة على طول الزمان كانوا إذا جازوا بذلك الموضع الذي هو الكهف قلعوا الطوب المبني على باب الكهف حتى عاد مفتوحا كالباب.
فلما انتبهت الفتية توهموا أنهم كانوا نياما ليلة واحدة فقالوا لصاحبهم الذي كان يذهب يبتاع لهم الطعام امض واشتر لنا طعاما واستعلم خبر ذاقنوس.
فلما خرج إلى باب الكهف نظر إلى البنيان والهدم ثم مضى حتى بلغ باب المدينة وهي أفسس فرأى باب المدينة عليه صليب كبير منصوب فأنكر ذلك في نفسه وقال أحسب أني نائم فأقبل يمسح عينيه وينظر يمينا وشمالا هل يرى من يعرفه فلم ير فبقي متحيرا وقال لعلي أخطأت الطريق ولعل هذه مدينة أخرى.
ثم دخل المدينة فدفع دراهم مما كان معه عليها صورة ذاقيوس الملك فأنكر عليه وقالوا لعله أصاب كنزا ثم قالوا من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلناك فلم يكلمهم.
وصاح الناس فاجتمع إليه خلق كثير وكلموه فلم يكلمهم فصاروا به إلى بطريق المدينة وكلمه فلم يتكلم فهدده فلم يتكلم فجاء إلى أسقف المدينة فكلمه وخوفه وقال إنك إن لم تكلمني وتقل لي من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلتك وإنما كان يمتنع من الكلام خوفا من ذاقيوس الملك.(5/29)
ص -446- فقالوا له إنه قد مات وملك بعده جماعة ملوك فضربوه حتى آلمه الضرب فخبرهم بحاله على جليتها.
فقالوا له إن دقيانوس قد مات وملك بعده ملوك كثيرة والملك اليوم ثذوس الكبير وقد ظهر دين النصرانية.
ثم سار معهم إلى الكهف فنظروا إلى أصحابه والصندوق النحاس الذي في الصحيفة الرصاص مكتوب فيها قصتهم وخبرهم.
فكثر تعجبهم وكتبوا إلى الملك يعلمونه بخبرهم فركب وسار إلى مدينة أفسس فنظر إليهم وكلمهم.
وبعد ثلاثة أيام دخل إليهم فوجدهم أمواتا فأمر أن يتركوا في الكهف ولا يخرجوا ولكن يدفنوا فيه وتبنى عليهم كنيسة وتسمى بأسمائهم ويعيد لها عيد في كل سنة في ذلك اليوم وانصرف إلى قسطنطينية.
قال فمن وقت هرب الفتية من ذاقيوس إلى الكهف إلى الوقت الذي ظهروا فيه وماتوا مائة وسبع أو تسعة وأربعون سنة.
قلت هذا مما أخطأ فيه فإن الله تعالى أخبر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا لكن بعض المفسرين زعموا أن هذا قول بعض أهل الكتاب لقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وليس كذلك فإن الله لم يذكر هذا عن أهل الكتاب بل ذكره كلاما منه تعالى.
قال سعيد وفي زمنه كانت قصة بترك قسطنطينية يوحنا الملقب ب فم الذهب وتولى بعده ابنه ثذوس الصغير اثنين وأربعين سنة لإحدى عشرة سنة من ملك يزدجرد بن بهرام.(5/30)
ص -447- وفي زمنه جعل نسطورس الذي تنسب إليه مقالة النسطورية بطركا على قسطنطينية.
قال وكان نسطورس يقول إن مريم العذراء ليست بوالدة إلها على الحقيقة ولذلك كان اثنان.
أحدهما الذي هو إله مولود من الأب والآخر الذي هو إنسان مولود من مريم وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه مسيح بالمحبة متوحد مع ابن إله ويقال له إله وابن إله ليس بالحقيقة ولكن موهبة واتفاق الاسمين والكرامة شبيها بأحد الأنبياء.
فبلغ قوله بطرك الإسكندرية فأنكر ذلك وكتب إليه يقبح عليه فعله ومقالته ويعرفه فساد ما هو عليه ويسأله الرجوع إلى الحق فجرت بينهما رسائل كثيرة ولم يرجع نسطورس عن مقالته.
فكتب إلى بطرك أنطاكية يسأله أن يكتب إلى نسطورس ويعرفه قبح فعله ورأيه وفساد مقالته ويسأله الرجوع إلى الحق.
فكتب إلى نسطورس إن هو لم يرجع اجتمعوا ولعنوه وجرت بينهما رسائل كثيرة فلم يرجع.
فكتبوا إلى بطرك رومية وأنطاكية وبطرك بيت المقدس أن يجتمعوا في مدينة أفسس لينظروا في مقالة نسطورس.
فاجتمع بالمدينة مايتا أسقف مقدمهم بطرك الإسكندرية وتأخر بطرك أنطاكية فلم ينتظروه وبعثوا إلى نسطورس فلم يحضر معهم فنظروا في مقالته وأوجبوا عليه اللعن فلعنوه ونفوه وثبتوا أن مريم العذراء والدة الإله وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحدة في الأقنوم.
وهذا هو خلاف المحبة لأن نسطورس كان يقول إن التحيد أي الاتحاد اتفاق الوجهين وأما التحيد أي الاتحاد المستقيم فإنما هو أن يكون أقنوما واحدا من طبيعتين.
فلما لعنوا نسطورس قدم يوحنا بطرك أنطاكية فلما وجدهم قد لعنوه قبل حضوره(5/31)
ص -448- غضب وقال: ظلمتم نسطورس ولعنتموه باطلا وتعصب مع نسطورس فجمع الأساقفة الذين قدموا معه فقطع بطرك إسكندرية وقطع أسقف أفسس.
فلما رأى أصحاب بطرك إسكندرية قبح فعاله وقع بينهم شر عظيم وخرجوا من أفسس وصار أصحاب بطرك إسكندرية والمشرقيون حزبين فلم يزل ثذوس الملك حتى أصلح بينهم.
وكتب المشرقيون صحيفة وثبتوا فيها الأمانة الصحيحة وقالوا فيها إن مريم العذراء القديسة ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأقروا بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد ولعنوا نسطورس ووجهوا بالصحيفة إلى بطرك إسكندرية فقبل الصحيفة وأجابهم عنها بموافقتهم على ذلك.
وقال قوم لما قبل صحيفة المشرقيين بدا له ولم يقبل طبيعتين ووجها واحدا.
قال سعيد بن البطريق وهم في ذلك كاذبون لأن كتبه تنطق بذلك.
ثم أرسل نسخة صحيفة المشرقيين إلى جماعة من الأساقفة يعلمهم أن المشرقيين رجعوا إلى الإيمان وأنهم غير موافقين لنسطورس.
قال فمن المجمع الثاني إلى المائة والخمسين أسقفا المجتمعين بمدينة قسطنطين ولعنوا مقدونيوس إلى هذا المجمع المائتين أسقفا المجتمعين بأفسس على نسطورس إحدى وخمسون سنة قال ولما نفي نسطورس صار إلى مصر فأقام بضيعة في صعيد مصر يقال لها أخميم ومات ودفن بها.
وكانت مقالته قد اندرست فأحياها من بعده بزمن طويل مطران نصيبين في عصر بوسيطيانوس ملك الروم وقباد بن فيروز ملك الفرس فبثها بالمشرق فلذلك كثر(5/32)
ص -449- النسطورية بالمشرق وخاصة أرض فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة.
قال سعيد بن البطريق رأيت أن أرد على النسطورية في هذا الموضع وأبين بطلان قولهم وفساده لأن النسطورية في عصرنا هذا خالفوا قول نسطور القديم وزعموا أن نسطور كان يقول إن المسيح جوهران وأقنومان إله تام بأقنومه وجوهره وإنسان تام بأقنومه وجوهره.
وإن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته لأن الأب عندهم ولد إلها ولم يلد إنسانا ومريم ولدت إنسانا ولم تلد إلها فيقال لهم إن كان الأمر على ما تقولون فالمسيح مسيحان وابنان فمسيح إله وابن إله ومسيح إنسان وابن إنسان لأنه لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده.
فإن كانت ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا.
فإن كان جسمانيا فهو غير الذي ولده الأب وذلك يوجب أن يكون مسيحان.
وإن كان روحانيا فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد.
والدليل على ذلك صفيحة الحديد التي تتحد بها النار فإنها سيف واحد تحرف وتمنع وتقطع وتضيء.
ولا يجوز أن يكون من الجهة الحديدية هي المحرقة المضيئة من غير جهة النار إذ كان ما لم يكن فيه نار من الحديد غير محرق.
ولا الجهة النارية هي القاطعة المانعة إذ كان شأن النار الإضاءة والإحراق لا القطع.
فقد ثبت بهذا وصح ما تعتقده الملكية من أن المسيح أقنوم واحد وبان زيف قول النسطورية إن المسيح أقنومان
قلت يقال لهذا إن قول النسطورية والملكية وإن كانا باطلين فقول الملكية أشد بطلانا وأعظم كفرا وتناقضا(5/33)
ص -450- وما ذكره هذا باطل.
أما قوله لو كان الأمر على ما تقولون فالمسيح مسيحان.
فيقال له هذا إنما يلزم أن لو كان اللاهوت بمجرده يسمى مسيحا فإن النسطورية وافقوهم على باطل وهو أن الرب ولد إلها وهذا باطل ولم يقل أحد قط من الأنبياء لا في الإنجيل ولا غيره إن صفة الله القائمة به مولودة ولا أن الرب له مولود قديم أزلي.
ولكن إذا قدر أن الأمر كذلك فصفة الله لم يسمها أحد مسيحا.
فإذا قدر أن اللاهوت والناسوت جوهران أقنومان لا اتحاد بينهما لم يلزم أن يكون اللاهوت مسيحا ولا هناك مسيح هو إله ولا مسيح هو ابن إله.
وقد تقدم عن نسطور أنه كان يقول إن هذا الإنسان الذي نقول إنه مسيح متوحد بالمحبة مع ابن إله ويقال له إله وابن إله ليس بالحقيقة ولكن موهبه.
فقد صرح بأن المسيح هو الإنسان فقط دون اللاهوت وأن المسيح ليس بإله ولا ابن إله في الحقيقة.
فبطل ما ألزمه إياه من أنه يلزم أن يكون هنا مسيحان.
وأما قوله لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده.
فيقال بل ولدت المسيح وهو الإنسان وهو غير اللاهوت الذي تزعمون أن الأب ولده وليس في ذلك مسيحان بل مسيح واحد إنسان مخلوق.
وأيضا فقوله فإن كان ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا فإن كان روحانيا فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد تقسيم باطل وحجة فاسدة داحضة.
فإن مريم لم تلد ولادة روحانية بل خرج الولد من فرجها كما تخرج أولاد النساء من فروجهن سواء كانت عذرتها باقية أو لم تكن.
وأما ما ذكره من التمثيل بصفيحة الحديد فلو قدر أنه مثل مطابق لم يدل على صحة(5/34)
ص -451- قولهم بل غايته أنه يدل على إمكانه.
فأين الدليل على أن هذا هو الواقع فليس فيه ما يدل على صحة قول الملكية وفساد قول خصومهم فكيف وهو تمثيل غير مطابق.
فإن الحديد إذا اتحدت به النار كان الحديد قد استحال عن صفته فلم يبق حديدا محضا وليست نارا محضا والخشب وغيره إذا أحرق وصار نارا فليس هو خشبا محضا وليس هو نارا محضة بسيطة.
فمن شأن الشيئين إذا اتحدا أن يستحيل كل منها إلى جوهر ثالث وطبيعة ثالثة ليست لا هذا ولا هذا كالماء واللبن إذا اتحدا فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا وطبيعة ثالثة لا لبنا محضا ولا ماء محضا وكذلك النار مع الحديد أو الخشب أو غير ذلك فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا ليس حديدا محضا ولا خشبا محضا ولا نارا محضة لكن الحديد إذا برد هو حديد لكنة تغيرت حقيقته فالنار تلينه وتذهب خبثه ولا يبقى بعد اتحاده بالنار كما كان قبل والخشب يصير فحما وهو جوهر ثالث إذ كان من طبع النار أنها تؤثر في كل جسد بحسبه فتؤثر في الحديد بحسبه وفي الخشب بحسبه.
وكل شيئين اتحدا فإنهما يصيران جوهرا ثالثا وأقنوما ثالثا وطبيعة ثالثة.
فإن كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا كما زعموا فقد استحالت صفة اللاهوت واستحالت صفة الناسوت فلم يبق اللاهوت لاهوتا ولا الناسوت ناسوتا بل صارا جوهرا ثالثا لا لاهوت ولا ناسوت وهم ينكرون هذا القول وهو باطل.
فإن رب العالمين لا يتبدل ولا تستحيل صفاته بصفات المحدثات ولا ينقلب القديم ولا شيء من صفاته محدثا ولا يستحيل القديم الرب الخالق والمخلوق المحدث إلى شيء ثالث.
بل صفات الرب التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها لا تتبدل ولا تنقلب ولا(5/35)
ص -452- تستحيل فضلا عن أن تستحيل إلى أمر ثالث.
ثم هذا الثالث إن كان قديما خالقا صار هنا خالقين قديمين.
وإن كان مخلوقا محدثا كان الخالق قد صار مخلوقا محدثا ومعلوم أن استحالة الخالق إلى خالق آخر أو إلى مخلوق ممتنع ظاهر الامتناع.
ومما يوضح هذا أن ما مثلوا به من الحديدة المحماة بالنار هي جوهر ثالث يجري على نارها ما يجري على حديدها فإذا طرقت فالتطريق واقع على نارها كما هو واقع على حديدها وكذلك إذا مدت وكذلك إذا بصق عليها وكذلك إذا ألقيت في الماء.
فإن كان هذا التمثيل مطابقا لزم أن يكون ما حل بالناسوت قد حل باللاهوت.
فيكون رب العالمين هو الذي يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وهو الذي صفع عندهم وبصق في وجهه وجعل الشوك على رأسه وضرب بالسياط وصلب ومات وتألم كما يحكى مثل هذا عن اليعقوبية.
وهذا لازم لكل من قال بالاتحاد حتى النسطورية إن قالوا إنهما متحدان بالمشيئة بمعنى أن مشيئة هذا عين مشيئة هذا.
بخلاف ما إذا قالوا إن مشيئته موافقة لمشيئته ليست إياها ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ(5/36)
الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
فذكر سبحانه وتعالى أنهما كانا يأكلان الطعام لأن ذلك من أظهر الأدلة على أنهما مخلوقان مربوبان إذ الخالق أحد صمد لا يأكل ولا يشرب.
وذكر مريم مع المسيح لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر فعبدها كما عبد المسيح.
والذين لا يقولون بهذا كثير منهم يطلب منها كل ما يطلب من الله حتى يقول لها:(5/37)
ص -453- اغفري لي وارحميني وغير ذلك بناء على أنها تشفع في ذلك إلى ابنها.
فتارة يقولون يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله وتارة يسألونها الحوائج التي تطلب من الله ولا يذكرون شفاعة وآخرون يعبدونها كما يعبدون المسيح.
وقد ذكر سعيد بن البطريق هذا عنهم لما ذكر اجتماعهم عند قسطنطين بنيقية.
قال وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان.
فمنهم من يقول المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم المريمانيون ويسمون المريمانية كذلك قال ابن حزم وقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
وهو سبحانه لم يحك هذا عن جميع النصارى بل سأل المسيح سؤالا يقرع به من اتخذه وأمه إلهين من دون الله.
قال ابن البطريق ويقال للنسطورية أيضا أخبرونا عن الناسوت التي اتحدت بها اللاهوت وسمى مسيحا هل لم يزل مسيحا منذ كان في بطن مريم إلى حين وضعته وأرضعته وشب وصلب وقتل أم كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا.
فإن قالوا: لم يكن مسيحا وهو في بطن مريم وإنما ولدت مريم إنسانا كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا تركوا قولهم وكذبوا الإنجيل وبولص وجميع كتب الكنيسة وخرجوا عن مقالة النصرانية.
وإن قالوا إن اللاهوت اتحد في الناسوت(5/38)
عند الحمل وأنه كان مسيحا وهو محمول ومولود ومرضع إلى أن صلب وقتل قد أقروا أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا(5/39)
ص -454- أقنوما واحدا.
فيقال له هذا التقسيم يدل على بطلان قول النصارى الذي ابتدعه طوائفهم الثلاثة وغيرهم فإن الاتحاد يزعمون أنه كان من حين حملت به مريم وأنه كان ينمو قليلا قليلا كنمو جسد المسيح والاتحاد باطل كما قد قرر غير مرة ولو قدر أنه ممكن لظهر أثر ذلك.
فإن الله لما كلم موسى من الشجرة ظهر من الآيات والعظمة ما دل على ذلك ولذلك كان إذا كلم موسى يظهر آيات ذلك.
وكذلك ما أخبر به في التوراة وغيرها من مصاحبته لبني إسرائيل وهو مما ظهر أثره وإن لم يكن متحدا ولا حالا في شيء من ذلك.
ولما تجلى من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران بما أنزله من كتبه ظهر آثار ذلك وإن لم تكن ذاته متحدة ولا حالة بفاران ولا طور سينا باتفاق الأمم.
فكيف تكون ذاته متحدة بما في بطن مريم أو حالة فيه ولا يظهر أثر ذلك.
وأيضا فيقال له قد يقول النسطورية له الناسوت كان مسيحا من حين الحمل بمعنى أنه كان طاهرا مقدسا لا بمعنى اتحاد اللاهوت به.
وإن قالوا المسيح اسم اللاهوت والناسوت جميعا فيقال ليس في كتب الأنبياء ما يقتضي هذا والنسطورية يسلمون ذلك لكن قد يقولون إن المسيح اسم لهما كما أن الإنسان اسم للروح والجسد.
ثم قد يقال لجسد الإنسان الميت هذا الإنسان فيقال وهو في بطن مريم أمه قبل نفخ الروح فيه هذا الجنين وهذا الحمل فكذلك إذا قيل له مسيح بدون اللاهوت.
وأيضا فقد تقول النساطرة باقتران اللاهوت من حين الحمل ولا يلزم أن يكون قد ولدت إلها إذ لم يقولوا بالاتحاد بل قالوا هما جوهران أقنومان ولدت أحدهما ولم تلد الآخر كما تقول الملكية معهم إنه صلب أحدهما ولم يصلب الآخر ومات أحدهما ولم يمت الآخر وتألم أحدهما ولم يتألم الآخر.
فكيف جوز الملكية حين الموت أن يحل الموت والصلب والأكل والشرب وسائر الأمور البشرية بأحد الجوهرين دون الآخر ولم يجوزوا حين الولادة أن تلد مريم أحد الجوهرين دون الآخر وهل هذا إلا من تناقضهم(5/40)
كقولهم جميعا إنه صعد إلى السماء(5/41)
ص -455- وقعد عن يمين أبيه مع قولهم إن اللاهوت مع الناسوت قعد عن يمين الأب.
ويقولون مع ذلك إن اللاهوت القاعد عن يمين الآخر هو ذلك الآخر وهما جوهر واحد وإله واحد مع قوله إنه إله حق من إله حق فمناقضتهم كثيرة.
ولا ريب أن قول النسطورية أيضا متناقض لكن لا يمكن أن نصحح قول الملكية دون قولهم بل قول الملكية أعظم فسادا وتناقضا.
فالنسطورية يقولون الإله لم يولد ولم يصلب.
واليعقوبية يقولون ولد وصلب.
والملكية يقولون ولد ولم يصلب.
ومتى جاز أن يولد جاز أن يموت ويصلب وإن لم يجز أن يصلب ويموت لم يجز أن يولد فتجويز أحدهما ومنع الآخر تناقض.
ويقال للملكية أنتم تقولون إن اللاهوت اتحد بالناسوت عند الحمل وكان مسيحا وهو مصفوع ومصلوب وميت ومتألم وتقولون هذا كان بالناسوت دون اللاهوت فهذا التناقض من جنس تناقض النساطرة.
قال ابن البطريق ويقال للنساطرة أيضا متى اتحدت الكلمة بالإنسان أقبل الولادة أم في حال الولادة.
فإن قالوا: قبل الولادة قلنا لهم قبل الولادة قبل الحمل أو قبل الولادة وهو حمل.
فإن قالوا: قبل الولادة وقبل الحمل فقد زعموا أنه اتحد قبل أن يكون إنسانا وقبل أن يصور فإن كان كذلك فسد قول النسطورية إن القديم اتحد بإنسان جزئي لأن الإنسان الجزئي إنما كان إنسانا جزئيا لما صار مصورا بشريا.
فيقال له هذا السؤال لازم للطوائف الثلاثة فإنهم يقولون بالاتحاد أعظم من النساطرة.
فإن قيل هم يقولون إنه اتحد بإنسان كلي كان هذا من أفسد الأقاويل فإن المسيح(5/42)
ص -456- بشر معين جزئي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه لم يكن إنسانا كليا ثم قال ويلزمهم أن يزعموا أن اللاهوت قد كان حل مع الناسوت تسعة أشهر ونحوها من بدء الحمل مقيما معه في الموضع الذي يحمل فيه الجنين ثم ولدا معا وهذا خلاف قولهم إن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته.
فيقال قد يقولون إنه ولد الناسوت دون اللاهوت كما يقول الملكية إنه صلب الناسوت دون اللاهوت.
وإن كان هذا متناقضا فالنساطرة أقل تناقضا لأن الملكية يقولون إنهما شخص واحد أقنوم واحد فقد اتحد أحدهما بالآخر.
فإذا جاز مع هذا أن يفارق أحدهما الآخر في الأكل والشرب والصلب والموت فمن قال إنهما جوهران أقنومان هو أولى أن يقول ولدت أحدهما دون الآخر.
ثم قال وإن قالوا اتحد به وهو حمل صورة تامة.
قلنا لهم فقد كان الإله حملا قبل الولادة وإذا جاز أن يحمل جاز أن يولد.
فيقال هم لا يقولون بأنهما صارا شخصا واحدا أقنوما واحدا بل يقولون جوهران أقنومان وحينئذ فلا يقولون حملت بإله ولا ولدت إلها كما لا يقول الملكية صلب اللاهوت ومات اللاهوت مع قولهم بأن اللاهوت والناسوت اتحدا.
قال فإن قالوا: كان الاتحاد في حال الولادة.
قلنا: فقد ولدت مريم الكلمة إذا مع الإنسان والكلمة عندنا وعندهم إله فقد ولدت مريم إلها.
فإن قالوا: نعم قلنا فإذا جاز أن يولد فلم لا يجوز أن يكون حملا فإذا أجازوا ذلك تركوا قولهم وإن لم يجيزوه قلنا فما الفرق بين أن يكون مولودا وبين أن يكون محمولا فإن قالوا: ليس الإله مولودا ولم يكن الاتحاد قبل الولادة وهو أن يكون محمولا ولا في حال كونه ولدا في حال الولادة.(5/43)
ص -457- قلنا: فهذا نقض قولكم إن مريم ولدت المسيح لأن المسيح عندكم ليس هو الإنسان وحده ومريم عندكم إنما ولدت الإنسان وحده.
وإذا كان المسيح ليس هو الإنسان وحده وعندكم إنما ولدت الإنسان وحده قبل الاتحاد فإنما ولدت إذا ما ليس بمسيح إذ كان إنما كان مسيحا بالاتحاد وكان الاتحاد بعد الولادة فإنما كان مسيحا بعد الولادة.
فإذا كان هذا عندكم فاسدا وكانت مريم ولدت المسيح فمريم لم تلد الإنسان وحده وهذا يوجب أنها قد ولدت الإله مع الإنسان ويوجب أن الاتحاد كان قبل الولادة قال فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية من أن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وصح أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا.
قال ويقال لهم إذا زعمتم أن المسيح جوهران جوهر قديم وجوهر محدث ثم زعمتم أن مريم ولدت المسيح فقد أقررتم أن مريم ولدت هذين الجوهرين اللذين هما المسيح وإذا ولدتهما وأحدهما إله فقد ولدت إلها قديما ولا يجوز أن تلد إلا ما كان محمولا فهذا يوجب أنها قد كانت حاملة لذلك الإله.
فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية أن مريم لم تحمل إلها ولم تلده وصح ما تعتقده الملكية أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا وابنا واحدا أقنوما واحدا.
فيقال له ليس هذا التناقض من النسطورية بأعظم من تناقض الملكية فإنهم مع قولهم باتحاد اللاهوت والناسوت وأنهما شخص واحد يقولون إن أحدهما كان يأكل ويشرب ويصوم ويصلي ويتصرف وأنه أخذ وصفع ووضع الشوك على رأسه وصلب وتألم ومات دون الآخر.
فإذا كان قول النسطورية متناقضا فقول الملكية أعظم تناقضا فإذا منعوا أن تحمل المرأة وتلد الناسوت دون اللاهوت لأجل الاتحاد الذي بينهما وجب أن يمنعوا أن يأكل ويشرب ويصلب ويقتل أحدهما دون الآخر لأجل الاتحاد بطريق الأولى.
وكون الصلب والقتل أعظم منافاة للربوبية من حمل مريم به وولادته إياه لا يمنع كون كل ذلك ممتنعا على الله.
ومن جوز عقله أن يكون رب العالمين خرج من فرج مريم(5/44)
وهي بكر فقد جعل رب(5/45)
ص -458- العالمين يخرج من ثقب صغير وهذا أعظم ما يكون من الامتناع.
ومن جوز عليه هذا جوز عليه أن يخرج من كل ثقب مثل ذلك الثقب وأكبر منه وجوز أن يخرج رب العالمين من فم كل حيوان وفرجه ومن شقوق الأبواب وغير ذلك من الثقوب.
وإن قالوا ذاك مكان طاهر قيل أفواه الأنبياء والصالحين أطهر من كل فرج في العالم فيجوز أن يخرج من فم كل نبي وولي لله ومن أذنه ومن أنفه فإن هذه الخروق والثقوب أفضل من فروج النساء تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فهؤلاء النصارى يقولون إن كون الله مولودا من فرج مريم غير كونه مولودا في الأزل من الأب بل هما ولادتان روحانية وجسمانية.
وهم إذا طولبوا بتفهيم ما يقولونه وقيل لهم هذا لا يتصور أن يكون رب العالمين يخرج من ثقب ضيق لا فرج ولا فم ولا أذن ولا غير ذلك من الأثقاب قالوا هذا فوق العقل واعترفوا بأن هذا لا يتصوره العقل.
فيقال لهم هذا الكلام لم يقله نبي من الأنبياء ولم ينطق به نبي من الأنبياء بأن مريم حملت برب العالمين وولدته بل ولا نطقنبي من الأنبياء بأن الله مولود ولا شيء من صفاته مولود لا علمه ولا حياته ولا غير ذلك.
ولا نطق نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره بأن الله اتحد بشيء من المخلوقات.
وليس في الإنجيل وغيره مما ينقل عن الأنبياء شيء من ذلك بل غاية ما فيها كلمات مجملة متشابهة كقوله أنا وأبي واحد كما قال الله لمحمد: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}.
وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
فإذا قال بعض ملاحدة المسلمين من الشيعة أو المتصوفة(5/46)
ص -459- أو غيرهم إن الله اتحد بمحمد لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}.
كان هذا من جنس قول النصارى.
والآية لم تدل على ذلك بل مبايعة الرسول مبايعة لله لأن الرسول أمر بما أمر الله ونهى عما نهى الله عنه.
فليس في كلام الأنبياء أن الله ولا شيئا من صفاته مولود الولادة التي يسمونها ولادة عقلية وروحانية ولا في كتبهم أن شيئا من صفات الله تسمى ابنا لله ولا أن اللاهوت ابن الله فضلا عن أن ينطقوا بأن الله مولود من امرأة ولادة وخرج من فرجها فيكون مولودا ولادة جسمانية.
ولهذا لما تنازعت النصارى في ذلك لم يكن لمن ادعاه على من نفاه حجة من نصوص الأنبياء غاية ما عندهم التمسك بألفاظ متشابهة وتغيير ألفاظ صريحة محكمة تبين أن المولود إنما هو بشر.
فإذا قالوا في الألفاظ المتشابهة لا نعلم مراد الرسول بها كان هذا مما قد يعذرون به فإن المتشابه من النصوص لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.
فإذا قالوا لسنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله كانوا شاهدين على أنفسهم بعدم العلم وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة.
بخلاف القول الذي تكلموا به هم وزعموا أن معناه يدل عليه كلام الأنبياء أو يدل عليه العقل فإن عليهم أن يبينوا معناه الذي عنوه به وعليهم أن يبينوا أنه قد دل على ذلك شرع أو عقل.
فإذا قالوا نفس الكلام الذي قلناه لا نتصور معناه كانوا معترفين أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون وهذا حرام عليهم.
وإن قالوا إن كلام الأنبياء دل على ذلك كان غاية ما عندهم التمسك بالمتشابه وحينئذ فيطالبون بتفسير المتشابه والجمع بينه وبين المحكم على وجه صحيح معلوم وإلا فإذا قالوا هذا فوق العقل لا نفهمه.
قيل لهم فدعوا المتشابه لا تحتجوا به ولا تذكروا له معنى تزعمون أنكم لا تعقلونه.(5/47)
ص -460- فمتى ثبت عن الأنبياء قول وقال قوم إنا لا نفهمه فإنهم يصدقون على أنفسهم وأما إذا فسروا كلام الأنبياء بقول عبروا به على مراد الأنبياء وقالوا هذا مرادهم مع تعبيرهم عنه بعبارات أخرى طولبوا بأن يبينوا ذلك المعنى وقيل لهم إن فهمتم ما قلتموه فبينوه وإن لم تفهموه فلا تتكلموا بلا علم قال سعيد بن البطريق أن أئمة الضلالة أعني نسطوريوس وأرطيوس وديسقورس وسورس ويعقوب البرادعي وأشياعهم الذين أرادوا أن يقيم الزيف والمحال ولم يرجعوا إلى خشية الله وزاغوا عن سبيل الحق لسوء رأيهم فقد تورطوا في بحر الضلالة.
وهم جميعا فيما ارتطموا فيه من ضلالتهم يضمرون جهلا منهم باتحاد لاهوت سيدنا المسيح بناسوته ويتورط كل واحد منهم في وجه من وجوه الخلطة ويتمسك به.
فقد رأيت أن أوضح وجه الخلطة وأبين ذلك لتقف على فساد قولهم إن من عظيم تدبير الله وكمال عدله وجليل رحمته أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء وهي التي من جوهره ليست مخلوقة ولكن مولودة منه قبل كل الدهور ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ولا كانت الكلمة برية منه قط ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزال فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة مختارة من نسل داود اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس روحه الجوهرية حتى جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا من غير نطفة آدمية جرت عليها الخطيئة ومن غير مجامعة بشرية ولا انفكاك عذرة تلك الجارية المقدسة فهو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية التي من صورة الله في الإنسان وشبهه فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه(5/48)
ص -461-
للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم.
واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه فيما يظهر لأهل الأثقال من غليظ الخلق.
وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية ألطف من لطيف الخلق فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله فكانت لها حجابا ولمن هو ألطف منها وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا.
فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحه العاقلة الكلمانية وصارت كلمة الله بقوامها قوأما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقوام من كلمة الله الذي خلقها وكونها لا من شيء لا سبق قبل ذلك في بطن مريم ولا من شيء كان لها من نطفة ولا من غير ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي فذلك القوام معدود معروف مع الناس لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته واحد في الناس بجوهر ناسوته وليس باثنين ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق وجوهر الناسوت المخلوق بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله قبل الأدهار كلها وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس.
قلت فهذا كلام سعيد بن البطريق الذي قرر به دين النصارى وفيه من الباطل ما يطول وصفه لكن نذكر من ذلك وجوها.
الوجه الأول: قوله إن من عظيم تدبير الله أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء من جوهره ليست مخلوقة ولكن مولودة منه فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم فالتحمت من مريم العذراء.
فيقال قد جعلت الكلمة الخالقة وقلت بعد هذا ولا كانت الكلمة برية منه ولا(5/49)
من روحه الخالقة وقلت بعدها فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها(5/50)
ص -462- بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس جميعا خلقا جديدا.
فيقال لهم أخالق العالم عندكم خالق واحد وهو إله واحد أم للعالم ثلاثة آلهة خالقون.
فإن قالوا: إن الخالق واحد وهم ثلاثة آلهة خالقون كما أنهم في كثير من كلامهم يصرحون بثلاثة آلهة وثلاثة خالقين ثم يقولون إله واحد وخالق واحد.
فيقال هذا تناقض ظاهر فأما هذا وأما هذا.
وإذا قلتم الخالق واحد له ثلاث صفات لم ننازعكم في أن الخالق له صفات لكن لا يختص بثلاثة.
فإن قالوا: بثلاثة آلهة خالقين كما قد كثر منهم في كثير من كلامهم بان كفرهم وعظم شركهم وبان أن شركهم أعظم من كل شرك في العالم فغاية المجوس الثنوية إثبات اثنين نور وظلمة وهؤلاء يثبتون ثلاثة.
ثم الأدلة السمعية في التوراة والإنجيل والزبور وسائر كلام الأنبياء مع الأدلة العقلة المبينة لكون الخالق واحدا كثيرة جدا لا يمكن حصرها هنا وإن قالوا إن الخالق واحد له صفات قيل لهم فهذا مناقض لقولكم إنه بعث كلمته الخالقة وقولكم ولا كانت الكلمة برية منه ولا من روحه الخالقة وقولكم فهبطت الكلمة الخالقة وقولكم فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة الروح فهذا يقتضي أن الكلمة خالقة وأن الروح خالقة وأنها خلقت بمسرة الأب الخالق ومؤازرة الروح الخالقة وهذا الخلق هبط والأب لم يهبط.
فإذا كان الخالق واحدا له صفات لم يكن هنا إلا خالق واحد.
الوجه الثاني: قولكم بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه فيقول لها كن فيكون هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما.
لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه ليس كلامة خالقا.
ولا يقول أحد قط إن كلام الله خلق السماوات والأرض.(5/51)
ص -463- والتوراة كلام الله والإنجيل كلام الله ولا يقل أحد إن شيئا من ذلك خلق السماوات والأرض ولا يقول أحدا يا كلام الله اغفر لي وارحمني.
فقول هؤلاء إن كلمته هي الخالقة وإنه خلق بها كلام متناقض.
فإنها إن كانت هي الخالقة لم تكن هي المخلوق به فالمخلوق به ليس هو الخالق.
الوجه الثالث: أن يقال قولكم كلمة الله الخالقة أهي كلام الله كله أم هي بعض كلام الله أم هي المعنى القائم بالذات القديم الأزلي الذي يثبته ابن كلاب أم حروف وأصوات قديمة أزلية كما يقوله بعض الناس أم هي الذات المتكلمة.
فإن كانت هي الذات المتكلمة فهي الأب والرب وتكون هي الموصوفة بالحياة فلا يكون هناك كلام مولود ولا كلمة أرسلت ولا غير ذلك مما ذكره وهذا خلاف قولهم كلهم فإن الكلمة المتحدة بالمسيح ليست هي الأب عندهم.
وإن قالوا بل هي كلام الله كله.
قيل لهم فيكون المسيح هو التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله وهذا لا يقولونه ولم يقله أحد ولا يقوله عاقل.
وإن قالوا إنها هي المعنى الواحد القديم الأزلي أو الحروف والأصوات القديمة الأزلية.
قيل لهم هذان القولان وإن كانا باطلين فإن قلتم: بهما لزمكم أن يكون المسيح هو كلام الله كله فإن هذين عند من يقول بهما هما جميع كلام الله.
والتوراة والإنجيل وسائر كلام الله عبارة عن ذلك المعنى القائم بذات الله وهو الحروف والأصوات القديمة القائمة بالذات عند من يقول بهذين إن قلتم إن المسيح بعض كلمات الله فحينئذ لله كلمات أخر غير المسيح فاجعلوا كل كلمة خلقا كما جعلتم الكلمة المتحدة بالمسيح خالقا إذ كنتم تقولون الكلمة هي الخالقة وهي المخلوق بها فقولوا عن سائر كلمات الله إنها خالقة مخلوق بها وحينئذ فيتعدد الخالق بتعدد كلمات الله.(5/52)
ص -464- وإذا كانت كلمات الله لا نهاية لها كان الخلق خالقون لا نهاية لهم وهذا غاية الباطل والكفر.
وبالجملة أي شيء فسروا به الكلمة تبين به فساد قولهم ولكنهم يتكلمون بما لا يفهمونه ويقولون الكذب والكفر المتناقض وإنما عندهم تقليد من أضلهم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
الوجه الرابع: أن يقال لهم ما لم يعلم بالمعقول فليس في المنقول ما يدل عليه وأنتم لا تدعون أنكم عرفتموه بالعقل لكن بما نقل عن الأنبياء وأنتم قد فسرتم كلمته بعلمه وحكمته وروح القدس بحياته فمن أي نبي تنقلون أن علم الله وحكمته مولودة منه وأنه يسمى ابنا وأن علمه أو حكمته خلق كل شيء وأن حياته خلقت كل شيء وأن علمه خالق وإله ورب وحياته خالقة وإله ورب وليسفي الأنبياء من سمى شيئا من صفات الرب ولدا له ولا ابنا ولا ذكر أن الله ولد شيئا من صفاته فدعواكم أن صفته القديمة الأزلية ولدت مرتين مرة ولادة قديمة أزلية وولادة حادثة من فرج مريم كذب معلوم على الأنبياء لم يقل أحد منهم إن الله ولد ولا إن شيئا من صفاته ولده لا ولادة روحانية ولا ولادة جسمانية.
وهذا وإن أبطل قول الملكية فهو لقول اليعقوبية أشد إبطالا وهو مبطل أيضا لقول النسطورية فإنهم يقولون بالأمانة التي فيها أنه مولود قديم أزلي فإن طوائفهم الثلاثة متفقون على الأمانة التي ابتدعوها في زمن قسطنطين بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من المسيح.
الوجه الخامس: قولكم بعث كلمته الخالقة فهبطت كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء ليست مخلوقة ولكن مولودة منه ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط.
من قال من الأنبياء أنه لم يكن بلا روحه قط أو أن روحه صفة له قديمة أو أنها حياته.
وكلام الأنبياء كله ينطق بأن روح الله وروح القدس(5/53)
ونحو ذلك هو ما ينزله على الأنبياء كالوحي والتأييد أو الملائكة فليست روح الله صفة قائمة به ولا غيرها ولكنها أمر بائن عنه.(5/54)
ص -465- الوجه السادس: أنه إذا كان قد بعث كلمته الخالقة وهبطت والتحمت من مريم فهو نفسه رب العالمين هبط والتحم من مريم أمرب العالمين نفسه لم يهبط ولم يلتحم من مريم وإنما هبط والتحم الكلمة التي أرسلها.
فإن قلتم: هو نفسه هبط والتحم كان الأب الوالد للكلمة هو الذي هبط والتحم وكان الأب هو الكلمة وهذا مناقض لأقوالكم.
وإن قلتم: إن المبعوث الهابط الملتحم ليس هو الأب بل هو كلمة الرب فقد جعلتموه الخالق فيكون هناك خالقان خالق أرسل فهبط والتحم وخالق أرسل ذلك ولم يهبط ولم يلتحم وقد أثبتم خالقا ثالثا وهو الروح وهذا تصريح بثلاثة آلهة خالقين.
الوجه السابع: أنه قال إن الله بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء فمع كونه جعلها خالقة جعل أنه بها خلق كل شيء والذي خلق بها كل شيء هو خالق فجعلها خالقة وجعل خالقا آخر وجعل أحد الخالقين قد خلق الآخر به كل شيء وجعل هذا الخالق قد بعث ذاك الخالق الذي به خلق كل شيء وجعل الكلمة الخالقة احتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا.
وإذا كانت هي الخالقة بمسرة الأب الخالق على الخلق فالأب لم يخلقه بل سر بذلك وروح القدس وازرت ذلك والخالق خلق الخلق.
ومعلوم أنه إذا كان للخالق من يوازره على الخلق لم يكن مستقلا بالخلق بل يكون له فيه شريك.
فهذه الكلمة تارة يقولون هي الخالقة وتارة يقولون خلق بها الخالق فخلقت وتارة يقولون إن روح القدس وازرها في الخلق فهذه أربعة أقوال ينقض بعضها بعضا.
فإن كان الله هو الخالق لكل شيء فالخالق واحد فليس هناك خالق آخر ولا شريك له في الخلق.
والخالق إذا خلق الأشياء بقوله كن لم يكن كلامه خالقا ولو كانت كل كلمة إلها خالقا لكان الآلهة الخالقون كثيرين لا نهاية لهم.
ثم قال ليست بمخلوقة ولكن مولودة منه من قبل كل الدهور.
فيقال من من الأنبياء سمى شيئا من صفات الله مولودا قديما أزليا فكيف يكون(5/55)
ص -466- مولود قديم أزلي وهل يعقل مولود إلا محدثا.
وأيضا فإذا جاز أن تكون الكلمة التي يفسرونها بالعلم أو الحكمة مولودة منه فكذلك حياته مولودة منه وإن كانت حياته منبثقة منه فكلمته منبثقة منه.
فجعل إحدى الصفتين الأزليتين مولودة من الأزل غير منبثقة والأخرى ليست مولودة من الأزل بل منبثقة مع كونه باطلا فهو متناقض وتفريق بين المتماثلين.
فإنه إن جاز أن يقال للصفة القديمة الأزلية إنها مولودة منه فالحياة مولودة وإن جاز أن يقال إنها منبثقة فالكلمة منبثقة.
وأيضا فكون الصفة إلها خالقا وإثبات ثلاثة آلهة خالقين مع قولهم إن الخالق واحد تناقض آخر.
وأيضا فقوله ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط إن إراد بروحه حياته فهذا صحيح لكن من من الأنبياء سمى حياة الله روحه ومن الذي جعل الله روحا قديمة أزلية وهل هذا إلا افتراء على الأنبياء.
وليس لقائل أن يقول إن هذا نزاع لفظي فلا اعتبار به لأن هذا تفسير لكلام الأنبياء فهم الذين تكلموا بروح الله وروح القدس ونحو ذلك ولم يرد أحد بذلك حياة الله قط.
فتسمية حياة الله روحا وتفسير مراد الأنبياء بذلك افتراء على الله ورسله.
الوجه الثامن: قوله فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزول فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة مختارة من نسل داود اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس روحه الجوهرية التي جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا.
فيقال إن الكتب دلت على أن المسيح تجسد من روح القدس ومن مريم العذراء البتول وهكذا هو في الأمانة التي لهم وبهذا أخبر القرآن حيث أخبر في غير موضع أنه نفخ في مريم من روحه مع إخباره أنه أرسل إليها روحه.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا(5/56)
مَكَاناً شَرْقِيّاً إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ(5/57)
ص -467- تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}.
وقال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}.
وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
فالكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا.
لكن دعواكم أن روح القدس روح الله الجوهرية أي حياته القديمة الأزلية أمر مخالف لجميع كتب الله وأنبيائه.
فلم يفسر أحد منهم روح القدس بصفة الله لا جوهرية ولا غير جوهرية ولا قديمة ولا غير قديمة ولا أرادوا بذلك حياة الله.
فقولكم هذا تبديل لكلام الله وكلام أنبيائه ورسله كما أنكم في قولكم إن كلمة الله أو علمه أو حياته مولودة منه وإن صفته القديمة الأزلية هي ابنه مما حرفتم فيه كلام الأنبياء فلم يرد أحد منهم هذا المعنى بهذا اللفظ قط ولم يطلق في جميع الكتب التي عندكم لفظ الابن المولود إلا على محدث مخلوق لا على شيء قديم أزلي لا موصوف ولا صفة لا علم ولا كلام ولا حكمة ولا غير ذلك.
وكل ولادة في الكتب الإلهية التي عندكم وغيرها فهي ولادة حادثة زمانية وكل مولود فهو محدث مخلوق زماني ليس في الكتب ولادة قديمة أزلية ولا مولود قديم أزلي كما أنكم ذكرتم ذلك في امانتكم وغيرها.
فلو كان ما ذكرتموه ممكنا في العقول لم يجز أن تجعلوه موجودا واقعا وتقولوا الأنبياء أرادوا ذلك إلا أن(5/58)
يكونوا بينوا أن ذلك مرادهم.
فإذا كان كلامهم صريحا في أنهم لم يريدوا ذلك والمعقول الصريح يناقض ذلك كان ما قلتموه كذبا على الله وعلى أنبيائه ورسله ومسيحه وكان باطلا في المعقول وكنتم ممن(5/59)
ص -468- قيل فيه.: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}ثم يقال أنتم قلتم إن الكلمة الخالقة هبطت فالتحمت من مريم واحتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها وقلتم إن مريم حملت بالإله الخالق وولدته الذي هو الابن.
فإذا جوزتم أن تكون مريم هي أما للخالق الذي هو الابن حملته وولدته فلم لا يجوز أن تكون زوجة للخالق الذي هو الأب مع أن الخالق التحم من مريم وقد قلتم لم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ولا كانت الكلمة برية منه قط ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره.
فجعلتم الروح خالقة والله الذي هو الأب خالقا والمسيح قد تجسد من الروح الخالقة ومن مريم فكما أن مريم أمه فالروح الخالقة بمنزلة أبيه.
وأيضا فمريم لها اتصال بالأب وبروح القدس وكلاهما أب للمسيح على ما ذكرتموه.
فإذا كانت مريم متصلة بكل واحد ممن جعلتموه أبا للمسيح وقلتم إن الخالق التحم من مريم فهذا أبلغ ما يكون من جعل الخالق زوج مريم.
ومهما فسرتم به اتحاد اللاهوت بناسوت المسيح المخلوق منها كان تفسير التحام اللاهوت بناسوت مريم حتى يصير زوجا لمريم أولى وأحرى وليس في ذلك نقص ولا عيب إلا وفي كون اللاهوت ابن مريم ما هو أبلغ منه في النقص والعيب.
ومعلوم أن أم الإنسان أعلى قدرا عنده من زوجته وأن تسلطه على زوجته أعظم منه على أمه فإن الرجل مالك للزوجة قوام عليها والمرأة أسيرة عند زوجها بخلاف أمه.
فإذا جعلتم اللاهوت الخالق القديم الأزلي ابنا لناسوت مريم بحكم الاتحاد مع كونه خالقا لها بلاهوته وابنا لها بناسوته ولم يكن هذا ممتنعا عندكم ولا قبيحا فأن تكون مريم صاحبة له وزوجة وامرأة بحكم الالتحام بالناسوت أولى وأحرى.
وإن كان هذا ممتنعا وقبيحا فذاك أشد امتناعا وقبحا.
ولهذا ذهب طوائف من النصارى إلى أن مريم امرأة الله وزوجته وقالوا أبلغ من ذلك حتى ذكروا شهوته للنكاح.
ولقد قال بعض أكابر عقلاء الملوك ممن كان(5/60)
نصرانيا إنهم كانوا إذا نبهوا على(5/61)
ص -469- قولهم إن عيسى بن الله لم يفهم من ذلك إلا أن الله أحبل أمه وولدت له المسيح ابنه كما يحبل الرجل المرأة وتلد له الولد فيكون قد انفصل من الله جزء في مريم بعد أن نكحها وذلك الجزء الذي من الله ومن مريم ولدته مريم كما تلد المرأة الولد الذي منها ومن زوجها وقد قالت الجن المؤمنون.: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}فنزهوه عن هذا وهذا وهؤلاء الجن المؤمنون أكمل عقلا ودينا من هؤلاء النصارى.
وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فقوله أنى يكون له ولد تقديره من أين يكون له ولد ف أنى في اللغة بمعنى من أين ذلك وهذا استفهام إنكار.
فبين سبحانه أنه يمتنع أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة مع أنه خالق كل شيء وأن هذا الولد يمتنع أن يكون وأن هذا الامتناع مستقر في صريح المعقول.
ثم إذا كانت الكلمة التي هي الخالق المخلوق به قد حلت في جوف مريم والتحمت من مريم وخلقت منها إنسانا هو المسيح خلقته لنفسها واحتجبت به واتحدت به فهل كان خلقها لهذا الإنسان قبل الاتحاد والاحتجاب أم حين ذلك.
فإنه بعد ذلك ظاهر الامتناع محال أنها بعد الاحتجاب به والاتحاد خلقته بل لا بد أن تكون خلقته قبله أو معه.
فإن كان معه لزم كون المخلوق متحدا بالخالق دائما لم تمر عليه لحظة إلا وهو متحد به.
فإذا أمكن أن يقارن المخلوق خالقه وعندهم أنه أقام تسعة أشهر حملا كعامة الناس وقد ذكر ذلك سعيد بن البطريق هذا فإذا كان كذلك كان الرب متحدا بالمضغة والجماد الذي لا روح فيه.
وإذا جاز عليه هذا جاز أن يتحد بسائر الجمادات وهذا على قول الأكثرين الذين يقولون إن الروح إنما نفخت فيه بعد أربعة أشهر ومن قال أنها نفخت فيه من حين أخذ(5/62)
ص -470- الجسد من مريم وهذا يشبه قول جمهور النصارى الذين يقولون إن المسيح مات وصلب وفارقته الروح الناطقة المنفوخة فيه والإله المتحد به لم يفارقه أبدا فإنهم يقولون إنه من حين اتحد بناسوت المسيح لم يفارقه بل هو الآن متحد به وهو في السماء قاعد عن يمين أبيه وذلك القاعد هو الخالق القديم والأب هو الإله الخالق القديم الأزلي وهما مع ذلك إله واحد.
والمقصود هنا أنهم يقولون باتحاد اللاهوت بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت إلى أن قام من قبره فعادت الروح إليه وحينئذلم يظهر من تلك المضغة شيء من العجائب.
وهم يستدلون على إلهية المسيح بالعجائب مع أنه كان الإله متحدا به قبل أن يظهر العجائب وحينئذ فلا يلزم من عدم ظهور العجائب من شيء الجزم بأن الرب لم يتحد به مع إمكان الاتحاد.
ويلزم أن كل جامد وحي ظهرت منه العجائب أن يكون ذلك دليلا على أن الرب اتحد به.
وحينئذ فعباد العجل أعذر من النصارى وإن كان من عباد الأصنام من يقول إن الصنم خلق السماوات والأرض فهو أعذر من النصارى لأن ظهور العجائب من الحيوان الأعجم والجماد أعظم من ظهورها من الإنسان الناطق لا سيما الأنبياء والرسل فإن الأنبياء والرسل معروفون بظهور العجائب على أيديهم فإذا ظهرت على يد من يقول إني نبي مرسل كانت دليلا على نبوته لا على إلهيته.
والمسيح كان يقول إني نبي مرسل كما ذكر ذلك في الإنجيل في غير موضع فأما الحيوان الأعجم والجماد فلا يجوز أن يكون نبيا.
فإن جاز الاتحاد بالمضغة والجسم المقبور الذي لا روح فيه فاتحاده بالعجل وبالصنم أولى وحينئذ فخوار العجل عجيب منه.(5/63)
ص -471- فاستدلال عباد العجل بذلك على أنه إله خير من استدلال النصارى على إلهية المضغة إن قدر ظهور شيء من العجائب التي قد يستدلون بها وإن كانت تلك لا تدل إلا على نبوته تسليما.
الوجه التاسع: قوله فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها وقوله فكانت مسكنا في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم.
يقال لهم أولا من أين لك أن روح الإنسان ألطف من جميع المخلوقات وأنها ألطف من الملائكة والروح الذي قال الله فيه.
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ}.
وإنها ألطف من الروح التي نفخ في آدم منه بقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}.
وبتقدير أن تكون ألطف فأنت لا تقول إن الاحتجاب والاتحاد كان بروح الإنسان مجردة بل بالجسد الناسوتي الدموي الغليظ وتقول إن الخالق التحم من مريم العذراء فتجعل الخالق قد التحم من لحم مريم ومن رحمها الذي هو لحم ودم وهذه أجساد كثيفة بل جمهورهم يقول إنه اتحد بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت وقبل أن يقوم من قبره.
وحينئذ فقولك فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم وصف ممنوع والتعليل به باطل فإنه لو كان مسكنا للطفه لم يجز أن يسكن إلا في الروح اللطيفة فلما أثبت اتحادا بالجسد الكثيف بطل قولك إنه اتحد بالإنسان للطفه.
الوجه العاشر: قولكم واعلم أنه لا يرى شيئا من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلط منه.
يقال لهم إما أن يكون الله لما اتحد بالمسيح عندكم قد رآه الناس وعاينوه أو لم يره أحد.
فإن قلتم: قد رآه الناس وعاينوه فهذا مخالف للحس والشرع والعقل.(5/64)
ص -472- أما الحس فإن أحدا ممن رأى المسيح لم ير شيئا يتميز به المسيح عن غيره من البشر غير العجائب التي ظهرت على غيره منها ما هو أعظم مما ظهر عليه ولم ير إلا بدن المسيح الظاهر لم ير باطنه لا قلبه ولا كبده ولا طحاله فضلا عن أن يرى روحه فضلا عن أن يرى الملائكة الذين يوحون إليه فضلا عن أن يرى الله إن قدر أنه كان متحدا به أو حالا فيه.
فدعوى المدعي أن من رأى المسيح فقد رأى الله عيانا ببصره في غاية المباهتة والمكابرة والكذب لو قدر أن الله حال فيه أو متحد به.
فإنه من المعلوم أن الملائكة تنزل على المسيح وغيره وتتصل بأرواحهم والناس لا يرون الملائكة بل الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم وإنما يرون جسد المصروع.
وكل إنسان معه قرينه من الملائكة وقرينه من الجن وهو نفسه لا يرى ذلك ولا يراه من حوله.
وتحضره الملائكة وقت الموت ولا يراهم من حوله مع أنه هو يراهم قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
فإذا كانت هذه المخلوقات التي اتفق أهل الملل على اقترانها بالإنسان واتصالها بهم وأن رؤيتها ممكنة لا يراها الناس فكيف يقال إن المسيح الذي لم ير الناس منه إلا ما رأوه من أمثاله من الرسل كإبراهيم وموسى ولم يكن له قط شيء يتميز به عن جنس الرسل فكيف يقال إن الذين رأوه رأوا الله عيانا بأبصارهم وأما الشرع فموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء أخبروا أن أحدا لا يرى الله في الدنيا.
وأما العقل فإن رؤية بعض ملائكة الله أو بعض الجن يظهر لرائيها من الدلائل والأحوال ما يطول وصفه فكيف بمن رأى الله.
والذين رأوا المسيح لم يكن حالهم إلا كحال سائر من رأى الرسل منهم الكافر به المكذب له ومنهم المؤمن به المصدق له بل هم يذكرون من إهانة(5/65)
ناسوته ما لا يعرف عن نظرائه من الرسل مثل ضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وغير ذلك.(5/66)
ص -473- وأيضا فمعلوم أن من رأى الله إما أن يعرف أنه الله أو لا يعرف.
فإن عرف أنه رأى الله كان الذين رأوا المسيح قد علموا أنه الله ولو علموا ذلك لحصل لهم من الاضطراب ما يقصر عنه الخطاب.
وإن كانوا لم يعرفوه فهذا في غاية الامتناع حيث صار رب العالمين لا يميز بينه وبين غيره من مخلوقاته بل يكون كواحد منهم ولا يميز بينه وبينهم ولا يعرف الرائي أن هذا هو الله.
ولوازم هذا القول الفاسدة كثيرة جدا.
وإن قالوا إن الله لم ير لما اتحد بالمسيح وإنما رئي جسد المسيح الذي احتجب به الله فقولهم بعد ذلك واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه كلام لا فائدة فيه إذ كان هذا مثلا ضربوه لله ليبينوا أنه يرى.
فإذا سلموا أنه لم ير لم يكن في هذا المثل فائدة بل كان هذا استدلالا على شيء يعلمون أنه باطل.
وأيضا فما ذكروه من أن اللطيف لا يرى إلا في الغليظ باطل فإن اللطيف كروح الإنسان لا ترى في الدنيا وإن علم وجودها وأحس الإنسان بروحه وصفاتها فرؤيتها بالبصر غير هذا يبين ذلك.
الوجه الحادي عشر: قولهم وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية يعنون النفس الناطقة ألطف من لطيف الخلق فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله فكانت له حجابا وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا.
فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة نفس الإنسان الكاملة لجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية وصارت كلمة الله بقوامها قوأما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقول من كلمة الله الذي خلقها وقومها لا من شيء سبق قبل ذلك في بطن مريم ولا من سبب كان لها من غير(5/67)
ص -474- ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي فيقال لهم هذا الكلام يقتضي أن الخالق احتجب بالنفس الناطقة والنفس الناطقة احتجبت بالبدن.
وأنتم تصرحون بأن نفس الكلمة التي هي الخالق وهي الله عندكم التي خلقت لنفسها إنسانا احتجبت به وقلتم هو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية أي نفسه الناطقة التي هي صورة الله في الإنسان وشبهه فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه.
فصرحتم بأن البدن مع الروح مسكن لله في حلوله واحتجابه وأنه هو الذي خلق ذلك البدن والروح وقلتم إن هذه الكلمة الخالقة المحتجبة التي قلتم إنها الله التحمت من مريم العذراء.
فإذا كان الله الخالق قد التحم من مريم العذراء فمعلوم أن ذلك قبل نفخ النفس الناطقة التي سميتموها الروح الكلمانية في المسيح.
وإذا كان الخالق تعالى قد التحم بجسد لا روح فيه والتحامه به أبلغ من حلوله فيه ثم اتخذ الجسد حجابا قبل نفخ الروح الكلمانية فيه فكيف يقال إنما حل في الروح لا في البدن وهو قد التحم بالبدن واتخذ منه جزءا مسكنا له وحجابا قبل أن ينفخ فيه الروح الكلمانية.
وقلتم أيضا فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية.
وهذا تصريح بأن الخالق خالط الإنسان بجسده ودمه وروحه فكيف تقولون إنما احتجبت بالروح اللطيفة مع تصريحكم بأن الخالق اختلط بالجسد والدم.
وهذا أيضا يناقض قول من قال إنه اتحد به اتحادا بريا من الاختلاط.
فقد صرحتم هنا أنه اختلط به وسيأتي نظائر هذا في كلامهم يصرحون فيه باختلاط اللاهوت بالناسوت.
الوجه الثاني عشر: قولكم غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي(5/68)
ص -475- فذلك القوام معدود معروف مع الناس لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام الكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته واحد من الناس بجوهر ناسوته وليس باثنين ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق وجوهر الناسوت المخلوق بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله من قبل كل الدهور وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس.
فيقال في هذا الكلام بل فيما تقدم ذكره ما يطول تعداده ووصفه من التناقض والفساد والكلام الباطل والكلام الذي تكلم به قائله وهو لا يتصور ما يقول مع سوء التعبير عنه كقوله وهو إياه فيضع الضمير المنفصل موضع المتصل ويعطف أحدهما على الآخر بلا واو عطف إلى أمثال ذلك مما يطول ذكر معانيه وذلك أن قولهم في نفسه باطل لا حقيقة له وهم لم يتصوروا معنى معقولا ثم عبروا عنه حتى يقال قصروا في التعبير بل هم في ضلال وجهل لا يتصورون معقولا ولا يعرفون ما يقولون بل ولا لهم اعتقاد يثبتون عليه في المسيح بل مهما قالوه من بدعهم كان باطلا وكانوا هم معترفون بأنهم لا يفقهون ما يقولون.
لهذا يقولون هذا فوق العقل ويقولون قد اتحد به بشر لا يدرك فما لا يدرك وما هو فوق العقل ليس لأحد أن يعتقده ولا يقوله برأيه.
لكن إذا أخبرت الرسل الصادقون بما يعجز عقل الإنسان عنه علم صدقهم وإن نقل عنهم ناقل ما يعلم بصريح العقل بطلانه علم أنه يكذب عليهم إما في اللفظ والمعنى وأما في أحدهما.
وأما إذا كان هو يقول القول الذي يذكر أنه علم صحته أو أنه فسر به كلام الأنبياء وهو لا يتصور ما يقوله ولا يفقهه فهذا قائل على الله وعلى رسله ما لا يعلم وهذا قد ارتكب أعظم المحرمات قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا(5/69)
بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}وقال تعالى: عن الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.(5/70)
ص -476- وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
وقد اتفق أهل الملل على أن القول على الله بغير علم حرام والله سبحانه نهاهم أن يقولوا على الله إلا الحق فكان هذا نهيا أن يقولوا الباطل سواء علموا أنه باطل أو لم يعلموا.
فإنهم إن لم يعلموا أنه باطل فلم يعلموا أنه حق أيضا إذ الباطل يمتنع أن يعلم أنه حق وإن اعتقد معتقد اعتقادا فاسدا أنه حق فذلك ليس بعلم فلا تقولوا على الله ما لا تعلمون.
وإن علموا أنه باطل فهو أجدر أن لا يقولوه.
وعامة النصارى ضلال لا يعلمون أن ما يقولونه حق بل يقولون على الله ما لا يعلمون.
والمقصود أن الباطل في كلامهم كثير كقولهم فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة.
والمسيح عندهم اسم للاهوت والناسوت جميعا اسم للخالق والمخلوق وأحدهما متحد بالآخر فهو بتوحيد ذلك القوام قوام لكلمة الله الخالقة.
وسواء أريد بذلك أن الناسوت(5/71)
واللاهوت قوام للاهوت أو أن الناسوت قوام للاهوت وهم يمثلون ذلك بالروح والجسد والنار والحديد فيكون كما لو قيل إن الجسد والروح أو الجسد قوام للروح أو النار والحديد أو الحديد قوام للنار.
فيقال الخالق الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هل يكون المحدث المخلوق قواما له فيكون(5/72)
ص -477- المخلوق المصنوع المحدث المفتقر إلى الله من كل وجه قوأما للخالق الغني عنه من كل وجه وهل هذا إلا من أظهر الدور الممتنع.
فإنه من المعلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء أن المخلوق لا قوام له إلا بالخالق فإن كان الخالق قوامه بالمخلوق لزم أن يكون كل من الخالق والمخلوق قوامه بالآخر فيكون كل منهما محتاجا إلى الآخر إذ ما كان قوام الشيء به فإنه محتاج إليه.
وهذا مع كونه يقتضي أن الخالق يحتاج إلى مخلوقه وهو من الكفر الواضح فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل وهذا لازم للنصارى سواء قالوا بالاتحاد أو بالحلول بلا اتحاد وإن كانت فرقهم الثلاث يقولون بنوع من الاتحاد فإنة مع الاتحاد كل من المتحدين لا بد لة من الأخر فهو محتاج إلية كما يمثلون بة في الروح مع البدن والنار مع الحديد.
فإن الروح التي في البدن محتاجة إلى البدن كما أن النار في الحديد محتاجة إلى الحديد.
وكذلك الحلول فإن كل حال محتاج إلى محلول فيه وهو من الكفر الواضح فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل.
فإن ذلك المخلوق إن قدر أنه موجود بنفسه قديم أزلي فليس هو مخلوقا ومع هذا فيمتنع أن يكون كل من القديمين الأزليين محتاجا إلى الآخر سواء قدر أنه فاعل له أو تمام الفاعل له أو كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه لأنه إذا كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه لم يكن موجودا إلا به.
فإن الموجود لا يكون موجودا إلا بوجود لوازمه ولا يتم وجوده إلا به فكل ما قدر أنه محتاج إليه لم يكن موجودا إلا به.
فإذا كان كل من القديمين محتاجا إلى الآخر لزم أن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر وأن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر.
والخالق لا يكون خالقا حتى يكون موجودا ولا يكون موجودا إلا بلوازم وجوده فيلزم أن لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا ولا يكون ذاك موجودا حتى يجعله الآخر موجودا إذ كان جعله لما لم يتم به وجوده يتوقف وجوده عليه(5/73)
فلا يكون موجودا إلا(5/74)
ص -478- به فلا فرق بين أن يحتاج أحدهما إلى الآخر في وجوده أو فيما لا يتم وجوده إلا به وهذا هو الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء.
وأما الدور المعي وهو أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا كالأبوة مع البنوة وكصفات الرب بعضها مع بعض وصفاته مع ذاته فإنه لا يكون عالما إلا مع كونه قادرا ولا يكون عالما قادرا إلا مع كونه حيا ولا يكون حيا إلا مع كونه عالما قادرا ولا تكون صفاته موجودة إلا بذاته ولا ذاته موجودة إلا بصفاته فهذا جائز في المخلوقين اللذين يفتقران إلى الخالق الذي يحدثهما جميعا كالأبوة والبنوة وجائز في الرب الملازم لصفاته تعالى.
وأما إذا قدر قديمان أزليان ربان فاعلان امتنع أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر إذ كان وجوده لا يتم إلا بما يحتاج وجوده إليه ولا يكون فاعلا لشيء إن لم يتم وجوده فيمتنع مع نقص كل منهما عن تمام وجوده أن يكون فاعلا لغيره تمام وجود ذلك الغير ولهذا لم يقل بهذا أحد من الأمم.
ولكن الذي قاله النصارى أنهم جعلوا قوام الخالق تعالى بالمخلوق.
فيقال لهم هذا أيضا ممتنع في صريح العقل أعظم من امتناع قيام كل من الخالقين بالآخر وإن كان هذا أيضا ممتنعا فإن المخلوق مفتقر في جميع أموره إلى الخالق فيمتنع مع فقره في وجوده وتمام وجوده إلى الخالق أن يكون قوام الخالق به لأن ذلك يقتضي أن يكون مقيما له وأن يكون تمام وجوده به فيكون المخلوق لا وجود لشيء منه إلا بالخالق.
فالقدر الذي يقال إنه يقيم به الخالق هو من الخالق والخالق خالقه وخالق كل مخلوق فلا وجود له ولا قيام إلا بالخالق فكيف يكون به قيام الخالق.
وليس هذا كالجوهر وأعراضه اللازمة أو كالمادة والصورة عند من يزعم أن الصورة جوهر إذا كانا متلازمين فإن هذا من باب الدور المعي كالنبوة مع الأبوة وهذا جائز كما تقدم إذ كان الخالق لهما جميعا هو الله.
وأما مع كون كل منهما هو الخالق فهو ممتنع ومع كون أحدهما خالقا والآخر(5/75)
مخلوقا فهو أشد امتناعا.
والرب تعالى غني عن كل ما سواه من كل وجه وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه وهذا معنى اسمه الصمد فإن الصمد الذي يصمد إليه كل شيء لافتقاره إليه وهو غني عن كل شيء لا يصمد إلى شيء ولا يسأله شيئا سبحانه وتعالى فكيف يكون قوامه(5/76)
ص -479- بشيء من المخلوقات.
وهذا الاتحاد الخاص من النصارى يشبه من بعض الوجوه قول أهل الوحدة والاتحاد العام الذين يقولون كما يقوله ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية إن أعيان المخلوقات ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فهي مفتقرة إليه من حيث الوجود المشترك العام وهو وجوده وهو مفتقر إليها من حيث الأعيان الثابتة في العدم وهو ما يختص به كل عين عين فيجعل كل واحد من الخالق والمخلوق مفتقرة إلى الآخر.
ويقولون الوجود واحد ثم يثبتون تعدد الأعيان ويقولون هي مظاهر ومجالي.
فإن كان المظهر والمجلى غير الظاهر فقد ثبت التعدد وإن كان هو إياه فلا تعدد فلهذا يضطرون إلى التناقض كما يضطر إليه النصارى حيث يثبتون الوحدة مع الكثرة وينشدون فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده وهؤلاء بنوا قولهم على أصلين فاسدين.
أحدهما: أن أعيان الممكنات ثابتة في العدم كقول من يقول من أهل الكلام إن المعدوم شيء ثابت في العدم وهذا القول فاسد عند جماهير العقلاء.
وإنما حقيقة الأمر أن المعدوم يراد إيجاده ويتصور ويخبر به ويكتب قبل وجوده فله(5/77)
ص -480- وجود في العلم والقول والخط وأما في الخارج فلا وجود له.
والوجود هو الثبوت فلا ثبوت له في الوجود العيني الخارجي وإنما ثبوته في العلم أي يعلمه العالم قبل وجوده.
والأصل الثاني: أنهم جعلوا نفس وجود رب العالمين الخالق القديم الأزلي الواجب بنفسه هو نفس وجود المربوب المصنوع الممكن كما قال ابن عربي ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه فالأمر للخالق هو المخلوق والأمر المخلوق هو الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة وهو يا أبت افعل ما تؤمر إلى أن قال وما ذبح سوى نفسه وما نكح سوى نفسه.
وقال ومن أسمائه الحسنى العلي على من يكون عليا وما هو إلا هو أو عن ماذا يكون عليا وما ثم إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.
وقد نقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل بماذا عرفت ربك.
قال بجمعه بين الأضداد وقرأ قوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أراد بذلك أنه مجتمع في حقه سبحانه ما يتضاد في حق غيره فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء" فجاء هذا الملحد وفسر قول أبي سعيد بأن المخلوق هو الخالق فقال قال أبو سعيد وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا(5/78)
ص -481- بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من بطن عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عن نفسه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات ولهذا قال بعض النصارى لمن يقول مثل هذا ويحكيه عن شيوخه ويقول إنه مسلم أنتم كفرتمونا لأجل أن قلنا إن الله هو المسيح وشيوخكم يقولون إن الله هو أبو سعيد الخراز والمسيح خير من أبي سعيد.
وهؤلاء يجيبون النصارى بجواب يتبين به أنهم أعظم إلحادا من النصارى.
فيقولون للنصارى أنتم خصصتموه بالمسيح ونحن نقول هو وجود كل شيء لا نخص المسيح.
ولهذا قال بعضهم لأحذق هؤلاء التلمساني الملقب بالعفيف أنت نصيري فقال نصير جزء مني فإن النصيرية أتباع أبي شعيب محمد بن نصير يقولون في علي بن أبي طالب نظير ما يقوله النصارى في المسيح كذلك سائر الغلاة في علي أو في أحد من أهل بيته أو في الإسماعيلية بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر كالحاكم وغيره(5/79)
ص -482- أو في الحلاج أو في بعض من الشيوخ الذين يقولون في واحد من هؤلاء باتحاد اللاهوت به أو حلوله فيه نظير ما تقوله النصارى في المسيح.
وهؤلاء يقولون بأن الحلول والاتحاد محدث وأن القديم حل أو اتحد بالمحدث بعد أن لم يكونا متحدين.
وأما أولئك فيقولون بالوحدة المطلقة فمحققوهم يقولون إنه وجود كل شيء لا يقولون باتحاد وجودين ولا بحلول أحدهما بالآخر.
بل قد يقولون إن الوجود هو ثبوت وجود الحق وثبوت الأشياء اتحدا وكل منهما مفتقر إلى الآخر.
فالحق إذا ظهر كان عبدا والعبد إذا بطن كان ربا.
ويقولون إذا حصل لك التجلي الذاتي وهو هذا لم تضرك عبادة الأوثان ولا غيرها بل يصرحون بأنه عين الأوثان والأنداد وأن أحدا لم يعبد غيره كما يقول ابن عربي مصوبا لقوم نوح الكفار ومكروا مكرا كبارا قال لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله فهذا عين المكر فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا فقالوا في مكرهم لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سوعا ولا يغوث ويعوق ونسرا إذا تركوهم جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء.
فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله كما قال في المحمديين {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي حكم فما حكم(5/80)
ص -483- الله بشيء إلا وقع فالعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصور الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود وصوب هذا الملحد فرعون في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}قال ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم.
قال ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك.
قال فصح قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان فرعون عين الحق.
وصوب أيضا أهل العجل في عبادتهم العجل وزعم أن موسى رضي بذلك فقال ولما كان موسى أعلم بالأمر من هارون لعلمه بأن الله قضى أن لا نعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع كان عتبه على هارون لإنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل من يراه عين كل شيء.
ومن هؤلاء طائفة لا يقولون بثبوت الأعيان في العدم بل يقولون ما ثم وجود إلا وجود الحق.
لكن يفرقون بين المطلق والمعين فيقولون هو الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة كالحيوانية الثابتة في كل حيوان والإنسانية الثابتة في كل إنسان وهذا الذي يسمى الكلي الطبيعي ويسمون هذا الوجود الإحاطة فيقولون هو الوجود المطلق إما بشرط الإطلاق عن كل قيد وهذا يسمى الكلي العقلي.
وهذا عند عامة العقلاء لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ولكن يحكى عن شيعة(5/81)
ص -484- أفلاطون أنهم أثبتوا هذه الكليات المجردة عن الأعيان في الخارج وقالوا إنها قديمة أزلية إنسانية مطلقة وحيوانية مطلقة ويسمونها المثل الأفلاطونية والمثل المعلقة.
وقد رد ذلك عليهم إخوانهم أرسطو وشيعته وجماهير العقلاء وبينوا أن هذه إنما هي متصورة في الأذهان لا موجودة في الأعيان كما يتصور الذهن عددا مطلقا ومقادير مطلقة كالنقطة والخط والسطح والجسم التعليمي ونحو ذلك مما يتصوره الذهن وليس من ذلك شيء في الموجودات الثابتة في الخارج.
وهذا المطلق بشرط الإطلاق يظن هؤلاء ثبوته في الخارج وقد يسمونه الإحاطة وهو الوجود المجرد عن جميع القيود ثم بعده الوجود المطلق لا بشرط وهو العام المنقسم إلى واجب وممكن إلى قديم وحادث ونحو ذلك كانقسام الحيوان إلى ناطق وأعجم.
وهذا المطلق لا بشرط يوجد في الخارج فإن الاسم المفرد يصدق عليه فيقال هذا حيوان هذا إنسان وإن كان الاسم العام شامل لأنواعه وأشخاصه لكن لا يوجد في الخارج إلا مقيدا معينا.
ومن قال إنه يوجد في الخارج كليا فقد غلط فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا شيء معين إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات فيكون كليا مشتركا في الأذهان.
وهؤلاء يجعلون الوجود الواجب هذا وقد يجعلونه بعد هذا فيقولون هذا فرق الواجب.
وهذا الوجود الكلي إذا قيل إنه لا يوجد في الخارج إلا معينا فلا موجود في الخارج سوى الموجودات المعينة المشخصة بما فيها من الصفات القائمة بها.
وإن قدر وجوده في الخارج فهو إما جزء من المعينات وأما صفة لها.(5/82)
ص -485- فعلى الأول لا يكون في الخارج موجود هو رب الموجودات المعينة.
وعلى الثاني يكون رب الموجودات جزءها أو صفة لها.
ومعلوم بصريح العقل أن صفة الشيء القائمة به لا تخلق الموصوف وأن جزء الشيء لا يخلق الشيء بل جزء الشيء جزء من الشيء.
فإذا كان هو الخالق للجملة كان خالقا لنفسه وكان بعض الشيء خالقا لكله.
ومن هؤلاء من يقول إن الرب في العالم كالزبد في اللبن والدهن في السمسم ونحو ذلك فيجعلونه جزءا من العالم المخلوق ونفس تصور هذا يكفي في العلم بفساده.
لكن هؤلاء يقولون لمن تبعهم إن لم تترك العقل والنقل لم يحصل لك التحقيق والتجلي الذي حصل لنا ويقولون ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل.
فقلت لبعضهم إن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أكمل الناس كشفا وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف في عقولهم أنه باطل فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف يعلم بصريح العقل بطلانه علم أن كشفه باطل.
وأما إن كان لم يعلم بطلانه فهذا قد يمكن فيه إصابته وقديم كن خطؤه لأن غير الأنبياء ليس بمعصوم.
وهؤلاء سمعوا باسم الله وقصدوا عبادته ومعرفته فوقفوا على أثره في مصنوعاته فظنوا أنه هو كمن سمع بالشمس فلما أن رأى الشعاع المنبسط في الهواء والأرض ظن أن ذلك هو الشمس ولم يصعد بصره وبصيرته إلى الشمس التي في السماء.
وكذلك هؤلاء لم تصمد بصائر قلوبهم إلى رب العالمين الذي فوق كل شيء المباين لمخلوقاته.
وسر ذلك أنهم يشهدون بقلوبهم وجودا مطلقا بسيطا ليس له اسم خاص كالحي والعليم والقدير ولا له صفة ولا يتميز فيه شيء عن شيء وهذا هو الوجود المشترك.(5/83)
ص -486- لكن هذا الشهود هو في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج وكثير ممن يخاطبهم لا يتصور ما يشهدونه فيظنون أنه لم يفهم ما شهدوه.
وقد خاطبت غير واحد منهم وبينت له أن هذا الذي يشهدونه هو في الذهن وبتقدير أن يكون موجودا في الخارج فهو صفة للموجودات أو جزء منها ويظنون مع ظنهم أنه موجود في الخارج أنه لم يبق في الخارج غير ما شهدوه فإنهم يغيبون عن الحس الذي يدرك المعينات ويغيبون عقولهم عن تصورها حتى لا يميزوا بين موجود وموجود ويقولون الحس فيه تفرقة ثم يشهدون هذا الوجود المطلق مع عزلهم الحس فيظنون أن هذا المطلق هو نفس المعينات وأنه ما بقي موجودا أصلا.
فيقال لهم لو قدر أن الوجود الكلي ثابت في الخارج كليا وأنكم شهدتم ذلك فمعلوم عند كل عاقل أن وجود الكلي المشترك لا يناقض وجود المعين المختص.
فالحيوانية والإنسانية المشتركة المطلقة لا تناقض أعيان الحيوان وأعيان الإنسان وحينئذ فثبوت أعيان الموجودات حاصل في الخارج.
وهب أنكم غبتم عن هذا ولم تشهدوه فالغيبة عن شهود الشيء لا يوجب عدمه في نفسه.
فإذا لم يشهد للعبد الشيء أو لم يرده أو لم يعلمه أو لم يخطر بقلبه أو فنى عن شهوده أو اصطلم أو غاب لم يلزم من ذلك أن يكون الشيء صار في نفسه معدوما فانيا لا حقيقة له بل الفرق ثابت بين أن يعدم الشيء في نفسه ويفنى ويتلاشى وبين أن يعدم شهود الإنسان له وذكره ومعرفته.
وهؤلاء من ضلالهم يظنون أنه إذا فنى شهودهم للموجودات كانت فانية في أنفسها فلم يكن موجودا إلا ما تخيلوه من الوجود المطلق.
ويقولون الكثرة والتفرقة في الحس فإذا فني شهود القلب عن الحس لم يبق تفرقة ولا كثرة ويظنون أن شهود الحس حينئذ خطأ والعقل هو الذي يشهد الكليات والمطلقات(5/84)
ص -487- دون الحس فإذا أبطلوا ما شهده الحس لم يبق معهم إلا الوجود الكلي.
ثم يظنون مع ذلك أنه هو الله فيبقى الرب عندهم وهما وخيالا في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج كما قال بعض حذاقهم وهو التستري صاحب ابن سبعين وهمك هو بتشخيص ما تحته شيء وقال.
ترى الوجود واحدا وأنت ذاك وليس عليك زائد ما ثم سواك وقلت لبعض حذاقهم هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج وأنه عين الموجودات المشهودة فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض وكل شيء.
فاعترف بذلك وقال هذا ما فيه حيلة.
والحس الباطن أو الظاهر إن لم يقترن به العقل الذي يميز بين المحسوس وغيره وإلا دخل فيه من الغلط من جنس ما يدخل على النائم والممرور والمبرسم وغيرهم ممن يحكم بمجرد الحس الذي لا عقل معه.
والبهائم قد تكون أهدى من هؤلاء كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً(5/85)
ص -488- مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}وهؤلاء يصرحون برفض السمع والعقل فدخلوا في قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
ويلزمون أنفسهم الغيبة عن العقل والحس الظاهر والشرع فلهذا يقول أحذقهم التلمساني.
فقل لحسك غب وجدا وذب طربا فيها وقل لزوال العقل لا تزل واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة فإن وجدت لسانا قائلا فقل وهؤلاء لبسط الكلام عليهم موضع آخر.
والمقصود هنا أن النصارى زعموا أن اللاهوت محتاج إلى ما اتحد به من الناسوت وهؤلاء زعموا أن رب العالمين محتاج إلى كل ما سواه من الأعيان الثابتة في العدم.
فإن كل من قال إن رب العالمين اتحد بغيره فكل من المتحدين مفتقر إلى الآخر مع استحالة كل منهما وتغير حقيقته ولا كذلك الحلول المعقول فإن الحلول لا يعقل إلا إذا كان الحال قائما بالمحل محتاج إليه سواء أريد بذلك حلول الصفات والأعراض في الموصوفات والجواهر أو أريد به حلول الأعيان فإن كون أحد الجسمين محلا للآخر كحلول الماء في الظرف هو يوجب افتقاره إليه.
وما يحل في قلوب المؤمنين من معرفة الرب والإيمان به هو قائم بقلوبهم محتاج إليه.
وكذلك ما يثبته الفلاسفة من الهيولي والصورة ويقولون إن الهيولي محل للصورة ويعترفون مع ذلك بان الصورة محتاجة إلى الهيولي.
والقائلون بوحدة الوجود قد يجعلون الخالق مع المخلوقات كالصورة مع الهيولي كما(5/86)
ص -489- يشير إليه ابن سبعين ويقول هو في الماء ماء وفي النار نار وفي كل شيء بصورة ذلك الشيء كما قد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا الكتاب.
وإذا قالوا: إن الرب حل في المسيح كما حل في غيره وهو الحلول الموجود في كلام داود عندهم حيث قالوا أنت تحل في قلوب القديسين فقد عرف أن هذا حلول الإيمان به ومعرفته وهداه ونوره والمثال العلمي كما قد بسط في موضع آخر ولهذا يسمى ظهورا والشعاع الحال على الأرض والهواء عرض قائم بذلك وهو مفتقر إلى الأرض والهواء.
والرسل صلوات الله عليهم أخبروا بأن الله فوق العالم بعبارات متنوعة تارة يقولون هو العلي وهو الأعلى وتارة يقولون هو في السماء كقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}.
وليس مرادهم بذلك أن الله في جوف السماوات أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضا كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقد قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء و أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء" فأخبر أنه لا يكون شيء فوقه.
ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو العرش منه فلا يصير تحت المخلوقات وفي جوفها قط بل العلو عليها صفة لازمة له حيث وجد مخلوق فلا يكون الرب إلا عاليا عليه.
وقول الرسل في السماء أي في العلو ليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك بل السماء العلو وهو إذا كان فوق العرش فهو العلي الأعلى وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورا في شيء من المخلوقات ولا هو في جهة موجودة بل ليس موجودا إلا الخالق(5/87)
ص -490- والمخلوق والخالق بائن عن مخلوقاته عال عليها فليس هو في مخلوق أصلا سواء سمى ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة.
ومن قال إنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه فهو مخطىء.
كما أن من قال ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ومحمد لم يعرج به إلى ربه ولا تصعد الملائكة إليه ولا تنزل الكتب منه ولا يقرب منه شيء ولا يدنو إلى شيء فهو أيضا مخطيء.
ومن سمى ما فوق العالم جهة وجعل العدم المحض جهة وقال هو في جهة بهذا المعنى أي هو نفسه فوق كل شيء فهذا معنى صحيح.
ومن نفى هذا المعنى بقوله ليس في جهة فقد أخطأ.
بل طريق الاعتصام أن ما أثبته الرسل لله أثبت له وما نفته الرسل عن الله نفى عنه.
والألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك لا يطلق نفيا ولا إثباتا إلا بعد بيان المراد.
فمن أراد بما أثبت معنى صحيحا فقد أصاب في المعنى وإن كان في اللفظ خطأ.
ومن أراد بما نفاه معنى صحيحا فقد أصاب في المعنى وإن كان في لفظه خطأ.
وأما من أثبت بلفظه حقا وباطلا أو نفى بلفظه حقا وباطلا فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق مخطىء فيما عناه من الباطل قد لبس الحق بالباطل وجمع في كلامه حقا وباطلا.
والأنبياء كلهم متطابقون على أنه في العلو.
وفي القرآن والسنة ما يقارب ألف دليل على ذلك وفي كلام الأنبياء المتقدمين ما لا يحصى(5/88)
ص -491- فصل
قال سعيد بن البطريق وذلك مثل ما أن الشعاع المولود من عين الشمس الذي يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا وفي بيت من البيوت يكون فيه ضياء بنوره من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا لأنه لم ينقطع من العين ولا من الضوء فكذلك سكن الله في الناسوت من غير أن يفارقه الأب فهو مع الناسوت وهو مع الأب وروح القدس حقا.
فيقال هذا التمثيل لو قدر أنه صحيح فإنما يشبه من بعض الوجوه قول من يقول إنه بذاته في كل مكان كشعاع الشمس الذي يظهر في الهواء والأرض.
وأما النصارى فإنهم يخصونه بناسوت المسيح دون سائر النواسيت ولو مثل بهذا من يقول إنه بذاته في كل مكان لكان باطلا فكيف النصارى فإن الضوء إنما يكون في الهواء وسطوح الأرض لا يكون تحت السقوف والغيران وباطن الأرض ثم هذا التمثيل باطل من وجوه.
أحدها: أن الشعاع ليس متولدا من جرم الشمس ولا شعاع النار متولد من جرم النار بل هو حادث بائن عن جرم الشمس ولكنها سبب في حصوله.
ولهذا يشبه به العلم الحاصل في قلب المتعلم بسبب تعلم العلم من غير أن يكون من ذات علم العالم.
ولهذا يشبه علم العالم بالسراج الذي يقتبس كل أحد من نوره وهو لم ينقص.
بخلاف تولد المولود عن والده فإنه متولد عن عينه.
والشعاع القائم بالهواء والأرض ليس هو قائما بذات الشمس والنار بل هو عرض قائم بمحل آخر والعرض الواحد لا يكون في محلين.
والنصارى يقولون إن الكلمة التي هي علم الله أو حكمته متولدة منه وهي قديمة أزلية والصفة قائمة بالموصوف فالصفة مثل ما يقوم بذات الشمس من استدارة وضوء فذاك صفة(5/89)
ص -492- فإن قالوا: نحن مقصودنا أن حكمة الله وعلمه ونوره أنزله إلى المسيح وأفاضه على المسيح كما يفيض الشعاع عن الشمس.
قيل لهم فهذا قدر مشترك بين المسيح وسائر الأنبياء فلا اختصاص للمسيح بذلك.
الوجه الثاني: قولهم الذي يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا وفي بيت من البيوت يكون فيه حقا من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا.
فيقال لهم الشعاع الذي بين السماء والأرض هو الضوء وهو النور.
فقولكم إن الشعاع يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا يقتضي أنه شعاع وضوء شعاع ونور حدث عن ذلك وهذا غلط بل ليس هنا إلا جرم الشمس التي في السماء وشعاعها وهو الضوء والنور الذي ما بين السماء والأرض.
الثالث: قولكم من غير مفارقة عين الشمس يقتضي أن هذا الشعاع هو مفس ما قام بالشمس وهذا مكابرة للحس والعقل بل الشعاع الذي قام بالهواء والأرض عرض لم يقم بالشمس فقط.
وكل شعاع بقعة فليس هو عين الشعاع الذي في البقعة الأخرى وإن كان هو نظيره ومثله وجنس الشعاع يجمعهما كما أن شعاع هذا السراج ليس هو شعاع هذا السراج وإن قدر اختلاطهما حتى يقوى الضوء ولا حركة هذا الهواء هي حركة هذا الهواء ونظائر ذلك متعددة.
الرابع قولكم كذلك الله سكن في الناسوت من غير أن يفارقه الأب تمثيل باطل فإن الشمس نفسها لم تكن في الهواء والأرض وإنما سكن شعاعها.
فوزانه أن يقال فكذلك سكن نور الله وبرهانه وهداه وروحه.
وهذا إذا قلته فهو منقول عن الأنبياء تنطق كتبهم بأن نور الله وروحه وهداه في قلوب المؤمنين لكن لا اختصاص للمسيح بذلك.
قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}.(5/90)
ص -493- قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المؤمن.
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
الخامس إنكم إذا جعلتم الله نفسه ساكنا في المسيح فوزانه أن تكون الشمس نفسها ساكنة في موضع صغير من الأرض.
وهذا التمثيل يبطل قولكم إن الله أعلا وأعظم وأجل وأكبر والله أجل وأكبر وأعظم من كل شيء والشمس آية من آياته ومخلوق من مخلوقاته ومع هذا فلو قال قائل إن الشمس سكنت في جوف امرأة وخرجت من فرج تلك المرأة لكان كل عاقل يعلم فساد قوله وينسبه إلى الجهل العظيم أو الجنون وسواء قال إن الشمس نفسها نزلت أو لم تنزل.
وأنتم تقولون إن رب العالمين سكن في بطن مريم ويقول أكثركم كالملكية واليعقوبية إنه خرج من فرج مريم.
ولو قال قائل عما هو من أصغر مخلوقات الله كوكب من الكواكب أو جبل من الجبال أو صخرة عظيمة إن ذلك كان في بطن امرأة وخرج من فرجها لضحك الناس من قوله فكيف بمن يدعي مثل ذلك في رب العالمين.
وإذا قالوا: إن الله نزل إلى السماء الدنيا أو نزل إلى الطور وكلم موسى من العليقة أو في عمود الغمام ونحو ذلك فليس في شيء من ذلك أنه اتحد بمخلوق لا سماء ولا طور ولا شجرة ولا كان كلامه قائما بشيء مخلوق لا شجرة ولا غيرها.
وعندهم أنه اتحد بالمسيح وكان صوت المسيح القائم به هو صوت رب العالمين بلا واسطة(5/91)
ص -494- فصل
قال سعيد بن البطريق ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ولا يفارقها العقل الذي ولدها لأن العقل بالكلمة يعرف لأنها فيه والكلمة كلها في العقل الذي ولدها وكلها في نفسها وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه وكلها في نفسها وفي الروح وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت بها.
فيقال هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم لا حجة لكم وذلك يظهر بوجوه.
أحدها أن يقال إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت مثل كتابة الكلام في القرطاس فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن وغير ذلك فإن هذا كله كلام الله وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل الملل بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس وقد قال تعالى في القرآن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
وقال: {يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}.
وقال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
وقال تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}.
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين.
ولو قال قائل يا كلام الله اغفر لي وارحمني أو يا توراة أو يا إنجيل أو يا قرآن اغفر لي(5/92)
ص -495- وارحمني كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء.
وأنتم تقولون المسيح إله خالق وهو يدعى ويعبد فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس.
الثاني: أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم.
وعند بعضهم هو عرض مخلوق يخلقه في غيره.
فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها ليس جوهرا قائما بنفسه.
والمسيح عندكم لاهوته جوهر قائم بنفسه وهو إله حق من إله حق وهو عندكم إله تام وإنسان تام.
فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها.
الثالث: قولكم إن كلمة الإنسان مولودة من عقله لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا.
وأنتم تقولون إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل الدهور وتقولون مع هذا هي إله.
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل فهي بدعة وضلالة في الشرع فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له ولا قال إن صفته متولدة منه ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق لا لصفة الله القديمة فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء.
الرابع: قولكم مولودة من عقله إن أردتم بعقله العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا أو نفسا ناطقة فتلك إنما تقوم بها المعاني وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه.(5/93)
ص -496- من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح.
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان فهو أيضا عرض.
الخامس: أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء ولا أمة من الأمم ولا في لغة من اللغات.
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا إذا كان كلام الإنسان متولدا منه فكلام الله متولد منه.
ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه ولا أنه ابنه ولا أن علمه تولد منه ولا أنه ابنه
السادس: قولكم إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت إلى قولكم الكلمة كلها في العقل الذي ولدها وكلها في القرطاس الذي التحمت به مكابرة ظاهرة معلومة الفساد بصريح العقل فإن وجود الكلام في القلب واللسان ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس بل القائم بقلب المتكلم معان طلب وخبر وعلم وإرادة والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة أو هي حدود أصوات مقطعة وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس.
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به كما تقوم بقلوب المتكلم ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب إما المداد المصور وأما صورة المداد وشكله ويقال على الحرف المنطوق إما الصوت المقطع وأما حد الصوت ومقطعة وصورته.
وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم وبين المداد المرئي بالبصر ولا يقول عاقل إن هذا هو هذا ولا يقال إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم فكيف تقولون إن الكلمة في القرطاس كلها وكلها في العقل الذي ولدها وكلها في نفسها
السابع: أن حرف في التي يسميها النحاة ظرفا يستعمل في كل موضع بالمعنى(5/94)
ص -497- المناسب لذلك الموضع.
فإذا قيل إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم فهذا معنى معقول.
وإذا قيل إن هذا حال في داره أو إن الماء حال في الظرف فهذا معنى آخر.
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها ومنه يقال لمكان القوم المحلة ويقال فلان حل بالمكان الفلاني.
وإذا قيل الشمس والقمر في الماء أو في المرآة أو وجه فلان في المرآة أو كلام فلان في هذا القرطاس فهذا له معنى يفهمه الناس يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها وأنه لم يحل بها ذات ذلك وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك.
وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه ويقولون نظرت في كلام فلان وقرأته وتدبرته وفهمته ورأيته ونحو ذلك كما يقولون رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك.
وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس بل كانت المرآة واسطة في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام فهو المقصود بالرؤية ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب.
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب بل يفرقون بينهما كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات.
فكيف يقال إن هذا هو هذا وأن الكلمة في(5/95)
القرطاس كلها وهي في المتكلم كلها.
الثامن: أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه واللفظ يكتب في القرطاس(5/96)
ص -498- فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ليعرف ما كتب.
فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله هو في القرطاس كله جعل لنفس المعنى هو الخط وهذا باطل
التاسع: أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال إنه قائم به.
ويقال مع ذلك إنه مكتوب في القرطاس ويقال هذا هو كلام فلان بعينه وهذا هو ذاك ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه لم يزد فيه ولم ينقص لم يكتب كلام غيره.
ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت أو نفس المعنى فإن هذا لا يقوله عاقل.
فإن قيل ففي المسلمين من يقول إن كلام الله القديم الأزلي أو كلام الله الذي ليس بمخلوق هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة.
ومن هؤلاء من يقول إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم أو الصوت الذي ليس بمخلوق.
ومنهم من يقول إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق هو في القرطاس وحكى عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد.
ومن هؤلاء من يقول إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك.
فتقول النصارى نحن مثل هؤلاء.
قيل الجواب من وجوه:
أحدهما: أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله وأنزلبه كتبه والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم.
ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة ومنهم جهال ومبتدعة ومنهم من يقول مثل قول النصارى ومنهم من يقول شرا منه فالرد على هؤلاء كلهم والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله(5/97)
ص -499- وما اجتمع عليه عباده المؤمنون فهذا لا يكون إلا حقا وما تنازع فيه المسلمون ففيه حق وباطل.
الوجه الثاني: أن يقال هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه ليس قولهم مثل قول النصارى.
فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة وقالوا إنه إله يخلق ويرزق وإنه اتحد بالمسيح فجعلوا المسيح الذي هو الكلمة عندهم إلها يخلق ويرزق.
وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول إن كلام الله إله يخلق ويرزق.
ولكن محمد وغيره من الرسل عليهم السلام بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به.
فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله هو كلام الله الذي تكلم به وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره ويقولون إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله والمسلمون يقرؤونه ويسمع من القارىء كلام الله لكن يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ويسمعونه من القارىء الذي يقرؤه بصوت نفسه فالكلام كلام البارىء والصوت صوت القارىء.
ويقولون إن الله تكلم به وكلم به موسى وأن موسى سمع نداء الله بأذنه فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك.
فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون إن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا فقتل المسلمون مقدمهم الجعد وصار لهم مقدم يقال(5/98)
ص -500- له الجهم فنسبت إليهم الجهمية نفاة الأسماء والصفات.
تارة يقولون إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى وإنما أطلق ذلك مجازا وتارة يقولون تكلم ويتكلم حقيقة ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره سمعه موسى لا أنه نفسه قام به كلام وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم.
وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة فدعوا إليه مدة وأظهروه وعاقبوا من خالفهم ثم أطفىء ذلك وأظهر ما كان عليه سلف الأمة أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله تكلم هو به منه بدا ليس ببائن منه وليس بمخلوق خلقه في غيره.
ولما أظهر الله هذا والناس يتلون قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}.
صار بعض أهل الأهواء يقول إنما سمع صوت القارئ وصوته مخلوق وهو كلام الله فكلام الله مخلوق.
ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به كما سمعه موسى من الله بلا واسطة وبين أن يسمع من المبلغ عنه.
ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ.
فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه أولى أن يكون هو كلام الله لا كلام المبلغين وإن بلغوه بأصواتهم.
فجاءت طائفة ثانية فقالوا هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا وكلامنا ليس هو كلام الله لأن هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق.
وكان مقصود هؤلاء تحقيق أن كلام الله غير مخلوق فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله ولم يهتدوا إلى أنه وإن كان كلام الله فهو كلام الله مبلغا عنه ليس هو كلامه مسموعا منه ولا يلزم إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله أن يكون الكلام الذي يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله.(5/99)
ص -501- وهؤلاء الذين قالوا ليس هذا كلام الله منهم من قال هو حكاية لكلام الله وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه.
وأهل الحكاية منهم من يقول إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة إما قائما بذاته على قول بعضهم أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم والقائم بذاته معنى واحد.
ومن هؤلاء من قال الحكاية تماثل المحكي عنه فلا نقول هو حكاية بل هو عبارة عنه والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته.
فجاءت طائفة ثالثة فقالت بل قد ثبت أن هذا المسموع كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا المسموع هو الصوت فالصوت غير مخلوق.
ثم من هؤلاء من قال إنه قديم ومنهم من قال ليس بقديم ومنهم من قال يسمع صوت الرب والعبد ومنهم من قال إنما يسمع صوت الرب.
ثم منهم من قال إنه قديم ومنهم من قال إنما يسمعه من العبد.
وهؤلاء منهم من قال إن صوت الرب حل في العباد فضاهوا النصارى.
ومنهم من قال بل نقول ظهر فيه من غير حلول ومنهم من يقول لا يطلق لا هذا ولا هذا.
وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا إمام من أئمة المسلمين كمالك والثوري والأوزاعي(5/100)
ص -502- والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عيينة وغيرهم.
بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق وأن الله أرسل به جبريل فنزل به جبريل على نبيه محمد فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق ولكن كلام الله غير مخلوق ولم يكن السلف يقولون القرآن قديم.
ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله قال السلف والأئمة إنه كلام الله غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته ولا أنه معنى واحد قائم بالذات ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا إنه قديم.
ثم منهم من قال القديم هو معنى واحد قائم(5/101)
ص -503- بالذات هو معنى جميع كلام الله.
وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له.
ومن هؤلاء من قال بل هو قديم وهو حروف أو حروف وأصوات أزلية قديمة وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن.
فقال الناس لهؤلاء خالفتم الشرع والعقل في قولكم إنه قديم وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وفررتم من محذور إلى محذور كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ثم قولكم إنه معنى واحد وهو مدلول جميع العبارات مكابرة للعقل والشرع فإنا نعلم بالاضطرار أنه ليس معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين ولا معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هو معنى سورة الإخلاص.
والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية لم يكن هو توراة موسى.
وقول من قال منكم إنه حروف أو حروف وأصوات أزلية ظاهر الفساد فإن الحروف متعاقبة فيسبق بعضها بعضا والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل والصوت المعين لا يبقى زمانين فكيف يكون قديما أزليا.
والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم لكن قالوا إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه كما دلت على ذلك النصوص.
ولم يقل أحد منهم إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي ولكن قالوا إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء لأن الكلام صفة كمال لا صفة نقص وإنما تكون صفة كمال إذا قام به لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه فإن الموصوف إلا بما قام به لا يتصف بما هو(5/102)
ص -504- بائن عنه فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره ولا بعلم وقدرة قامت بغيره ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره.
والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته.
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته فأما أنه ممتنع أو هو صفة نقص كما يدعى مثل ذلك في المصروع.
وإذا كان كمالا فدوام الكمال له وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن لو قدر أن هذا ممكن فكيف إذا كان ممتنعا.
وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة أنكروها ولم يقروها ولهذا حفظ الله دين الإسلام فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة.
بخلاف أهل الكتاب فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في الحديث الصحيح: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".
فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق ودعوا الناس إلى ذلك ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة فلم يوافقوهم وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل.
ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشر سنة وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره والقول به فصار مخفيا كغيره من البدع وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق فقال القرآن كلام الله غير مخلوق ولكن ألفاظنا بة مخلوقة وتلاوتنا له مخلوقة.
وربما قالوا هذا الذي نقرأه مخلوق أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة.
لكن غلطوا حيث أطلقوا القول أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي(5/103)
يقرؤه المسلمون(5/104)
ص -505- مخلوق ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه فقلنا مثلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى هذا كلام رسول الله أو لقول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
هذا كلام لبيد بن ربيعة ونحو ذلك.
فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله.
فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم وليس هذا صفة له.
والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم إنما يتميز بالمعاني القائمة به وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة.
وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام لا المبلغ عنه فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك.
ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد ألا كلا شيء ما خلا الله باطل فقال هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته لكذبه الناس.
ولو قال هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد لكذبه الناس وقالوا بل هو شعره نفسه ولكن أديته بصوتك بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا وقال آخر مثله فإن الناس يقولون هذا مثل قول فلان كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.
وقال عن القرآن.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}(5/105)
ص -506- ولهذا لو قال قارئ أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد وتلاه نفسه وقال هذا مثله لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا هذا القرآن الذي جاء به هو ليس هو كلام آخر مماثل له.
فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول لم يجز أن يقال ليس هو بكلام الله بل هو مثل له أو حكاية عنه أو عبارة.
وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله فقد تكلم الله به سبحانه لم يخلقه بائنا عنه ولم يجز أن يقال لما هو كلامه إنه مخلوق.
فإذا قيل عن ما يقرؤه المسلمون إنه مخلوق والمخلوق بائن عن الله ليس هو كلامه فقد جعل مخلوقا ليس هو بكلام الله فصار الأمة يقولون هذا كلام الله وهذا غير مخلوق لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله.
والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ لا يراد بها ما به وقع التبليغ.
وقد يراد بهذا الثاني مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل عبدت لله ودعوت الله فليس المراد أن المعبود المدعو هو الاسم الذي هو اللفظ بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ فصار بعضهم يقول الاسم هو غير المسمى حتى قيل لبعضهم أقول دعوت الله فقال لا تقل هكذا ولكن قل دعوت المسمى بالله وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك فالمراد دعوت هذا اللفظ ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني.
فما من شيء عبر عنه باسم إلا والمراد بالاسم هو المسمى فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى.
فمن قال إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى فغلطه واضح.
ومن قال إن المراد بالاسم في مثل قولك دعوت الله وعبدته هو نفس اللفظ فغلطه واضح ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ.
كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ(5/106)
ص -507- وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده.
والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء.
وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة ونطق باسم الله في خطابه وقال قائل أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد.
فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف أن هذا كلام الله.
أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم ولما يوجد في الكتب هذا كلام زيد فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد.
فإذا قيل عن ذلك إنه مخلوق فقد قيل إنه ليس كلام الله ولم يتكلم به.
ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال إنه مخلوق فقد أصاب كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال ليس هذا هو كلام الله بل هو مخلوق فقد أصاب لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ويقولون من قال إنه مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع ومن قال إنه مخلوق هنا فقد يقولون ليس هو كلام الله وهذا خلاف المتواتر عن الرسول وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول.
فإن الناس يعلمون بعقولهم أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا أمرا بأمره مخبرا بخبره لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "في المواسم ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" رواه أبو داود وغيره عن جابر.(5/107)
ص -508- ولما أنزل الله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق هذا كلامك أم كلام صاحبك قال ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.
فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا لفظنا بالقرآن غير مخلوق وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة فأنكر ذلك أحمد وغيره كما أنكر ذلك ابن المبارك وإسحاق بن راهويه والبخاري وغير هؤلاء من أئمة السنة وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرؤونه ويكتبونه غير مخلوق.
فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب متفق غير مختلف وكله صواب ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك.
فمن ابتلي بمن يقول ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد كان كلامه في ذم من يقول هذا مخلوق أكثر من ذمه لمن يقول لفظي مخلوق.
ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق كالبخاري صاحب الصحيح كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق أكثر مع نص أحمد والبخاري وغيرهما على خطأ الطائفتين(5/108)
ص -509- فصل
قال سعيد بن البطريق وليس حلول كلمة الله الخالقة والتحامها بجوهر الناسوت عن انتقال ولا تغير ولا احتيال من واحد من الجوهرين عن كثافة فلا الإلهي احتال أن يكون إلها خالقا ولا الناسي احتال عن أن يكون ناسيا مخلوقا.
والاحتيال والتغير إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين ثقيلين غليظين مثل الماء والخمر أو الماء والعسل أو السمن والعسل والذهب والورق والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك لأن كله ثقيل غليظ وكل ثقل تخالطه ثقلة لا محالة يلزمه التغير حتى يصير إلى ما كانت عليه الأثقال فلا الخمر خمرا ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ولكنهما احتالا جميعا عن جوهرهما فصار إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ولا أحدهما خالص من الفساد والاحتيال عن حاله.
فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت أي استحالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ولا الجسد تغير ولا احتال عن حاله وأفعاله ومثل ما كان تخالط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار قد تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ولا الحديدة تغيرت واحتالت إلى أن تكون نارا تحرق فكذلك تفعل كل خلطة مؤلفة من شيئين مختلفين أحدهما روحاني لطيف والآخر ثقلي غليظ مثل النفس والجسد والنار والحديد ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة فهي لا تتغير ولا تحتال عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل سواد وسخ ونتن ونجس.
قال والخلطة تكون على ثلاثة أوجه:(5/109)
ص -510- أحدها: خلطة باختلاط من الطبيعتين الثقيلتين واحتيالهما وفسادهما مثل خلطة الخمر والماء والخل والعسل والذهب والورق والرصاص والنحاس فإن في ذلك كله وما أشبهه احتيالا وفسادا لأن مزاج الخمر والماء ليس بخمر ولا ماء لاحتيال كل واحد منهما عن طبعه واختلاطهما بفسادهما وتغيرهما عن حالهما وكذلك خلطة الخل والعسل قد صارت لا خلا ولا عسلا لاحتيال كل واحد منهما وخلطة الذهب والورق على مثل ذلك صارت على غير صحة لا من الذهب ولا من الورق وخلطة الورق والنحاس على غير صحة لا من الورق ولا من النحاس فهذا وجه من الوجه الثلاثة.
والوجه الثاني: خلطة افتراق من الطبيعتين الثقيلتين وقد تعرف من تلك الخلطة كل واحدة من الطبيعتين ثابتة في الأخرى بقوامها ووجهها مثل الزيت والماء في قنديل واحد ومثل الكتان والقز في ثوب واحد منسوج بكتان مضلع بقز ومثل صنم نحاس رأسه من ذهب وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين والقوامين مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة لأن طبيعة القلة فخار قوامها قلة وليس بينهما وبين الماء خلطة بل أشد الفرقة.
وكذلك الماء والزيت لولا أن وعاء القنديل الذي هما فيه ضمهما ما اجتمعا.
وكذلك الكتان والقز ليس بينهما خلطة وإن كانا في ثوب واحد ولا بين الذهب والنحاس ولم يسبكا خلطة وإن جمعها صنم واحد.
فهاتان الخلطتان لا تكونا أبدا إلا في أثقات جسمانيات غليظة.
فإن التحم بعضهما ببعض مثلما يذاب الذهب والنحاس ويفرغان جميعا وقعت في وجه خلطة الاحتيال والفساد لأن تلك النقرة ليست بذهب صحيح ولا بنحاس صحيح فإن لم تلحم وألزم بعضها بعضا مثل طوق يكون من نحاس وذهب وقعت من وجه خلطة الافتراق التي لا يحق لها أن تسمى خلطة.
وفي هذين الوجهين وقع نسطورس وأشياعه فلزموا خلطة الاحتيال والفساد فزعموا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية اختلطا في المسيح الواحد فهو ذو قوام واحد(5/110)
بطبيعة واحدة مختلطة من طبيعتين مختلفتين إلهية وناسية فأقروا أنهما قد احتالا والاحتيال فساد.(5/111)
ص -511- وألزموا على هذا القول الكافر طبيعة الله المصائب والموت وصيروا المسيح لا إلها صحيحا ولا إنسانا مثل الذهب والنحاس.
فنسطورس وأشياعه لزموا خلطة الفرقة والانقطاع فزعموا أن المسيح الواحد ذو طبيعتين مختلفتين الإلهية وناسية وذو قوامين معروفين إلهي وناسي فصيروا الفرقة خلطة كالطوق الملون نصفين أحدهما ذهب والآخر نحاس والثوب المبطن ظاهره خز وباطنه قطن ليس بينهما خلطة في طبيعة ولا قوام.
وليس لهم على هذا أن يؤمنوا بمسيح واحد لأن الطوق الملون طوقان والثوب المبطن ثوبان.
فالمسيح مثل ذلك مسيحان واحد إلهي بطبيعته وقوامه مثل قضيب الذهب في الطوق الملون ومثل ظهارة الخز في الثوب المبطن.
والآخر ناسي مثل قضيب النحاس في الطوق وبطانة القطن في الثوب والعجب كل العجب كيف لم يفصل أهل الخلاف والشقاق بين الصنفين كليهما ولم يفهموا أن هاتين الخلقتين أنهما خلقتان ذواتا أثقال جسمانية غليظة ليس فيهما شيء من الخلق الروحاني اللطيف الخفيف ولذلك لا تقدر الأثقال الغليظة على الخروج من هذين الوجهين من وجوه الخلطة لأنهما إن اختلطا خلطة ملتحمة ممتزجة صارت إلى احتيال وفساد وإن قامت على حالها لا تلتحم ولا يمتزج بعضها ببعض فهي على وجه خلطة الافتراق ومنقطعة بعضها من بعض وإن جمعها صنم واحد أو ثوب واحد فليس يوجد لشيء من الأثقال الجسمانية وجه خلطة سوى هذين الوجهين أبدا إما فساد وأما انقطاع إلا أن تكون الخلطة في اثنين أحدهما ثقيل جسماني والآخر لطيف روحاني فإن ذلك هو:
الوجه الثالث: من الخلطة وهي خلطة الحلول بلا اختلاط ولا احتيال ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع لكنها نفاذ الطبيعة الروحانية في الطبيعة الثقيلة السفلية حتى تنتشر في جميعها وتحل بكلها فلا يبقى موضع من الطبيعة الثقيلة السفلية خلوا من الطبيعة الروحانية ولا(5/112)
ص -512- احتيال من الثقيلة الجسمانية عن طبيعتها الغليظة الثقيلة ولا تغيير ولا فساد لإحداهما مثل خلطة النفس والجسد ومثل خلطة النار والحديد في قوام جمرة واحدة فهي جمرة واحدة بالقوام من طبيعة نار ملتحمة مخالطة لطبيعة الحديدة بلا فرقة من انقطاع ولا تخليط احتيال وفساد وقد انتشرت النار في جميع الحديدة ولبستها وأنالت النار الحديدة من قوامها وقوتها حتى أنارت الحديدة وأحرقت ولم تنل النار من ضعف الحديدة شيئا من السواد ولا البرودة.
فعلى هذا الوجه من الخلطة دبرت كلمة الله الخالقة خلطتها للطبيعة البشرية.
فهو مسيح واحد ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الأدهار كلها نور من نور إله حق من إله حق مولود ليس بمخلوق من سوس أبيه وجوهره وطبيعته وهو إياه من مريم العذراء المولود منها في آخر الزمان بقوام واحد قوام ابن الله الوحيد الجامع للطبيعتين كلتيهما الإلهية التي لم تزل في البدء قبل كل بدء والناسية التي كونت في آخر الزمان المقوم بالقوام الأزلي.
فهو مسيح واحد بقوام واحد أزلي ذو طبيعتين إلهية لم تزل وناسية خلقها له والتحم بها من مريم العذراء فقوامه ذلك قوام الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية جامعا لهما بلا اختلاط ولا فساد ولا فرقة انقطاع لم يزل قوام الطبيعة الإلهية ثم هو قوام الطبيعة الناسية قد خلقها وكونها وقومها بقوامه الذي لم يزل يقيم إلا به ولم يعرف إلا له.
والجواب عن هذا الكلام بعد أن يقال إنه تناقض
فجعل هذا تارة اختلاطا وتارة يقول ليس هو اختلاطا أن يقال إنه أولا قد يجعل هذا الحلول والالتحام اختلاطا ويقول إنه لا يكون فيه استحالة ولا تغير ويقول الاستحالة والتغيير إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين غليظين كالماء والخمر فأما إذا كانت من لطيف وكثيف لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال أي استحالة ويقول والخلطة تكون على ثلاثة أوجه ثم يقول أحدهما كالخمر والماء(5/113)
ص -513- والثاني كالزيت والماء والكتان والقز ثم يقول وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين فيجعله من أقسام الخلطة ثم يقول ولا ينبغي أن يسمى خلطة.
وليس المقصود المنازعات اللفظية بل يقول دعواه أن أحد نوعي الاختلاط يكون عن تغير واستحالة بخلاف النوع الآخر الذي هو اختلاط لطيف وغليظ دعوى ممنوعة ولم يقم عليها دليلا بل يقول هي باطلة بل لا يكون الاختلاط بين شيئين إلا مع تغير واستحالة.
وما ذكره من الأمثال والشواهد فهي حجة عليه لقوله فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ولا الجسد تغير واستحال عن حاله وفعاله.
فيقال هذا قول باطل ظاهر البطلان لكن من تصوره فإن الجسد إذا خلا عن النفس مثل ما يكون قبل نفخ الروح فيه وما يكون بعد مفارقة الروح له بالموت بل آدم عليه السلام أبو البشر خلق من تراب وماء وصار صلصالا كالفخار ثم نفخت فيه الروح فصار جسدا هو لحم وعظم وعصب ودم.
فهل يقول عاقل إن جسد آدم قبل النفس وبعدها على صفة واحدة لم يتغير ولم تستحل وذريته من بعده يخلق أحدهم من نطفة ثم علقة ثم مضغة فيكون جسدا ميتا ثم ينفخ فيه الروح فيصير الجسد حيا بعد أن كان ميتا.
وأي تغيير أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة.
ومعلوم بالحس والعقل الفرق بين الحي والميت كما قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
والجسد إذا لم ينفخ فيه الروح فهو موات ليس له حس ولا حركة إرادية ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يعقل ولا يبطش ولا يأكل ولا يشرب ولا يمني ولا ينكح ولا يتفكر ولا يحب ولا يبغض ولا يشتهي ولا يغضب.
فإذا اتصلت به النفس تغيرت أحواله واستحالت صفاته وصار حساسا متحركا(5/114)
ص -514- بالإرادة فكيف يقال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واستحالت عن جوهرها أن تكون نفسا يعرفها بفعالها ولا الجسد تغير ولا استحال عن حاله وأفعاله.
فهل يقول عاقل يتصور ما يقول إن الجسد كان حاله وفعاله مع مفارقة النفس له كحاله وفعاله مع مخالطتها له.
وهل يقول عاقل إن الجسد بعد موته ومفارقة النفس له حاله وفعاله كحاله وفعاله إذا كانت النفس مختلطة به وهو إذا مات كالجماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يبطش ولا يمشي قد جمد دمه واسود ولم يبق سائلا وتغير سحنته ولونه وتغير الجسد بالحياة بعد الموت وبالموت بعد الحياة من أعظم التغيرات والاستحالات.
وكذلك النفس فإن النفس عند اتصالها بالبدن تلتذ بلذته وتتألم بألمه.
فإذا أكل البدن وشرب ونكح واشتم التذت النفس وإذا ضرب البدن وصفع وأهين وحط الشوك على رأسه وبصق في وجهه تألمت النفس بذلك.
فإذا شبهوا اتحاد الرب بالمسيح باتحاد النفس بالبدن وهم يقولون إن المسيح وكل أحد إذا ضرب وصفع وصلب فتألم بدنه تألمت نفسه أيضا.
فإن كل الألم مع نفس المسيح وجسده كالنفس مع الجسد وجب أن يكون الرب يتألم بتألم الناسوت ويجوع بجوعه ويشبع بشبعه فإن ألم الجوع ولذة الشبع يحصل للنفس إذا جاع البدن وشبع.
وأيضا فالمسيح عندهم إله تام وإنسان تام والإله إله قبل الاتحاد والإنسان إنسان قبل الاتحاد.
فهم يقولون إنهما بعد الاتحاد إله تام كما كان وإنسان تام كما كان.
فنظير هذا أن يكون الإنسان المركب من بدن ونفس نفسا تامة وبدنا تاما وأن تكون الحديدة المحماة حديدا تاما ونارا تامة وهو باطل بل الإنسان مركب من نفس وبدن والإنسان اسم لمجموع ليس الإنسان روحا والإنسان بدنا.(5/115)
ص -515- فلو كان الاتحاد حقا لوجب أن يقال إن المسيح نصفه لاهوت ونصفه ناسوت وهو مركب من هذا وهذا.
ولا يقال إن المسيح نفسه إنسان تام والمسيح نفسه إله تام فإن تصور هذا القول على الوجه التام يوجب العلم الضروري حيث جعلوا المسيح الذي هو المبتدأ الموضوع المخبر عنه المحكوم عليه هو إنسان تام وإله تام يوجب أن يكون نفس الإنسان هو نفس الإله.
ولو قيل هذا في مخلوقين فقيل نفس الملك نفس البشر لكان ظاهر البطلان فكيف إذا قيل في رب العالمين لا سيما وكثير من النصارى لا يقولون إن جسد المسيح مخلوق بل يصفون الجميع بالإلهية وهذا مقتضى قول أئمتهم القائلين إن المسيح إله تام لكنهم تناقضوا فقالوا مع ذلك وهو إنسان تام فكأنهم قالوا هو الخالق ليس هو الخالق هو مخلوق ليس هو مخلوق فجمعوا بين النقيضين وهذا حقيقة قول النصارى لا سيما واتحاد اللاهوت بناسوت المسيح عندهم اتحاد لازم لم يفارقه البتة فيكون ذلك أبلغ من الاتحاد العارض ومن أن الرب كان متحدا بجسد لا روح فيه ثم بالجسد مع نفخ الروح فيه ثم بالجسد بعد مفارقة الروح له وحيث دفن في القبر ووضع التراب عليه.
ومعلوم أن الإنسان إذا كانت فيه النفس وجعلت في التراب معه تألمت النفس ألما شديدا ثم تفارق البدن.
ومن العجائب أنهم يقولون إن المسيح صلب ومات ففارقته النفس الناطقة وصار الجسد لا روح فيه واللاهوت مع هذا متحد لم يفارقه وهو في القبر واللاهوت متحد به فيجعلون اتحاده به أبلغ من اتحاد النفس بالبدن والنفس عند اتصالها بالبدن تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن وعند مفارقة البدن تتغير صفاتها وأفعالها.
فإن كان تمثيلهم مطابقا لزم أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله لما اختلط بالمسيح كما تتغير صفات النفس وأفعالها ويكون الرب قبل هذا الاختلاط كالنفس المجردة التي لم تقترن ببدن.(5/116)
ص -516- وأيضا فالنفس والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والفاسدة لهما الثواب وعليهما العقاب والثواب والعقاب على النفس أكمل منه على البدن فإن كان الرب كذلك كان جميع ما يفعله المسيح باختياره فعل الرب كما أن جميع ما يفعله البدن باختيار فعل النفس عن التي تخاطب بالأمر والنهي فيقال لها كلي واشربي وانكحي ولا تأكلي ولا تشربي ولا تنكحي.
فإن كان الرب مع الناسوت كذلك كان الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح وكان الرب هو المصلي الصائم العابد الداعي وبطل قومهم يخلق ويرزق بلاهوته ويأكل ويعبد بناسوته.
فإن النفس والبدن لما اتحدا كانت جميع الأفعال الاختيارية للنفس والبدن فإذا صلى الإنسان وصام ودعا فالنفس والبدن يوصفان بذلك جميعا بل النفس أخص بذلك وكذلك إذا أمر أو نهى فكلاهما موصوف بذلك وكذلك إذا ضرب فألم الضرب يصل إليهما كما تصل إليهما لذة الأكل والجماع.
بل أبلغ من ذلك أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه فإن الإنسي يتغير حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه ليس هو صوته وكلامه المعروف.
وإذا ضرب بدن الإنسي فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ويخرج منه ألم الضرب كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه.
فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي فكيف بنفس الإنسان.
وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد.
فهل يقول عاقل مع هذا الاتحاد إنهما جوهران لكل منهما أفعال اختيارية لا يشركه الآخر فيها.
ويقولون مع قولهم بالاتحاد إن الذي كان يصلي ويصوم ويدعو ويتضرع ويتكلم ويتألم ويضرب ويصلب هو نظير البدن والذي كان يأمر وينهي ويخلق ويرزق هو نظير النفس.(5/117)
ص -517- هذا مع قولهم إن مريم ولدت اللاهوت مع الناسوت وأنه اتحد به مع كونه حيا وقبل حياته وعند مماته والجسد في ذلك كله كسائر أجساد الآدميين لم يظهر فيه شيء من خصائص الرب أصلا بل ولا بعد إتيانه بالآيات فإن تلك كان يجري مثلها وأعظم منها على يد الأنبياء فهذا أقرب أمثالهم وقد ظهر فساده.
وأبعد منه وأشد فسادا تمثيلهم ذلك بالنار والحديد.
ومعلوم عند كل من له خبرة أن النار إذا اتصلت بشيء من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية مثل جسد الإنسان وغيره ومثل الخشب والقصب والقطن وغيره ومثل الحديد والذهب والفضة فإنها تغير ذلك الجسد وتبدل صفاته عما كانت فتحرقه أو تذيبه أو تلينه والنار المختلطة به لا تبقى نارا محضة بل تستحيل وتتغير أيضا.
فقول هؤلاء ومثل ما تختلط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ولا الحديدة تغيرت واستحالت إلى أن تكون نارا تحرق كلام باطل ملبس فإن الجمرة ليست حديدة محضة ولا نارا محضة بل نوعا ثالث.
وقوله لم تتغير النار إلى أن تصير حديدة ولا الحديدة إلى أن تصير نارا تلبيس.
فإن الاختلاط لا يتضمن الاستحالة والتغير كاختلاط الكثيفين الذي سلمه مثل الماء والخمر والماء والعسل والسمن والعسل والذهب والورق والنحاس والرصاص قد قال فيه إنه لا الخمر خمر ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ولكنهما استحالا جميعا عن جوهرهما فصارا إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ولا أحدهما خالصا من الفساد والاستحالة عن حاله.
فيقال له فهذا الذي سلمت فيه الفساد والاستحالة لم يصر الخمر فيه ماء ولا الماء فيه خمرا فكذلك مورد النزاع إذا لم تصر النار حديدة ولا الحديدة نارا لم ينفعك هذا النفي ولم يكن هذا مانعا من الاستحالة إلى نوع ثالث ومن الاستحالة والفساد كما ذكرته في اختلاط الكثيفين فإنه معلوم أن ما خالطته النار واتحدت به غيرته وأحالته وأفسدت(5/118)
صورته الأولى والنار الملتحمة به ليست نارا محضة.(5/119)
ص -518- ومعلوم أيضا أن الجمرة التي ضربتها مثلا للمسيح فقلت إن الله وعيسى اتحدا كاتحاد النار والحديد حتى صارا جمرة فمعلوم أن الجمرة إذا ضربت بالمطرقة أو وضعت في الماء أو مدت فإن هذه الأفعال تقع بالمجموع لا تقع على حديدة بلا نار ولا نار بلا حديدة.
فيلزم من ذلك أن يكون ما حل بالمسيح من ضرب وبصاق في الوجه ووضع الشوك على الرأس ومن أكل وشرب وعبادة ومن مشي وركوب ومن حمل وولادة وغير ذلك مما حل بالمسيح ومن موت إما متقدم وأما متأخر إذا نزل إلى الأرض ومن صلب على قولهم أن يكون جميع ذلك حل بالمسيح الذي هو عندهم إله تام وإنسان تام من غير فرق بين لاهوته ولا ناسوته كما يكون ما يحل بجمرة النار من حمل ووضع وطرق بالمطرقة ومد وتصوير بشكل مخصوص وإلقاء في الماء وغير ذلك حال بمجموع الجمرة لا يقول عاقل إن ذلك يحل بالحديد دون النار بل هو حال بالجمرة المستحيلة من حديدة ونار ومن خشبة ونار وليست حديدة محضة ولا نارا محضة ولا مجموع حديد محض ونار محضة بل جوهر ثالث مستحيل من حديد ونار كسائر ما يستحيل بالاتحاد والاختلاط إلى حقيقة ثالثة.
فلا فرق بين الشيئين إذا اتحدا واختلطا وصارا شيئا واحدا من أن يكونا كثيفين أو يكون أحدهما كثيفا والآخر لطيفا لا بد في ذلك كله أن يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد وأن يكون المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا ليس هو احدهما فقط ولا هو مجموع كل منهما على حاله.
فقولهم إنه مع الاتحاد إنسان تام وإله تام كلام فاسد معلوم الفساد بصريح العقل.
وكلما ضربوا له مثلا كان المثل حجة على فساد قولهم بل مع الاتحاد ليس بإنسان تام ولا إله تام لكنه شيء ثالث مركب من إنسان استحال وتغير وإله استحال وتغير.
وإذا كان كل من هذين باطلا بل إنسانية المسيح باقية تامة كما كانت لم تستحل ولم تتغير ورب العالمين باق بصفات كماله لم يستحل ولم يتصف بشيء من خصائص المخلوقات ولا استحال عما(5/120)
كان عليه قبل ذلك كان قولهم ظاهر الفساد(5/121)
ص -519- فهذا مثلهم الثاني الذي ضربوه لله حيث شبهوا المسيح أو الله مع الإنسان بالنفس مع الجسد وشبهوه بالنار مع الحديد وهذا المثل أشد فسادا وأظهر.
وأما المثل الثالث وهو تمثيل ذلك بالشمس مع الماء والطين فهو أشد فسادا فإنهم قالوا كما تقدم ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة فهي لا تتغير ولا تستحيل عن نورها وبقائها وضوئها مع مخالطتها كل سواد ووسخ ونتن ونجس.
فيقال أما جرم الشمس الذي في السماء فلم يخالط شيئا من الماء والطين ولا اتحد به ولا حل فيه بوجه من الوجوه بل بينهما من البعد ما لا يقدر قدره إلا الله والله تعالى أجل وأعظم وأبعد من مخالطة الإنسان من الشمس للماء والطين.
فإذا كانت الشمس نفسها لم تتحد ولم تختلط ولا حلت في الماء والطين بل ولا بغيرها من المخلوقات فرب العالمين أولى أن ينزه عن الاتحاد والاختلاط والحلول بشيء من المخلوقات.
ولكن شعاع الشمس حل بالماء والطين والهواء وغير ذلك مما يقوم به الشعاع كما يحل شعاع النار في الأرض والحيطان وإن كان نفس جرم النار القائم بنفسه الذي في ذبالة المصباح هو جوهر قائم بنفسه لم تحل ذاته في شيء من تلك المواضع ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء بنفسه المستنير كالشمس والقمر وكالنار قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً}.
وقال: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}.
وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا فهي بالنار أشبه بخلاف القمر فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخينا فلهذا قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً}.
والمقصود هنا أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه كالشمس والقمر والنار ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول ولا صفة قائمة بالأول ولكنه حادث(5/122)
بسببه.(5/123)
ص -520- فالشعاع الذي هو الضوء والنور الحاصل على الماء والطين والهواء وغير ذلك هو عرض قائم بغيره وليس هو متحدا به البتة.
فهذا المثل لو ضربته النسطورية الذين يقولون إن الناسوت واللاهوت جوهران بطبيعتين حل أحدهما بالآخر لكان تمثيلا باطلا فإن الشمس لم تحل بغيرها ولا صارت مشيئتها ومشيئة غيرها واحدة كما تقوله النسطورية بل شعاعها حل بغيره والشعاع حادث وكائن عنها.
فإذا قيل إن ما يكون عن الرب من نوره وروح قدسه وهداه وكلامه ومعرفته يحل بقلوب أنبيائه والمؤمنين من عباده ومثل ذلك بحلول الشعاع بالأرض كان أقرب إلى العقول ولهذا قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}.
قال أبي بن كعب مثل نوره في قلوب المؤمنين بهذا.
وكذلك إذا قيل نوره أو هداه أو كلامه وسمى ذلك روحا يحل في قلوب المؤمنين فهو بهذا الاعتبار والله قد سمى ذلك روحا فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}.
وما جاء في الكتب المتقدمة من أن روح الله أو روح القدس يحل في الأنبياء والمؤمنين فهو حق بهذا الاعتبار.
وإذا قيل كلام الله يحل في قلوب القارئين فهو حق بهذا الاعتبار.
وأما نفس ما يقوم بالرب فلا يتصور أن يقوم هو نفسه بغير الرب بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره.
فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها من شكلها واستدارتها وما قام بها من نور أو غيره أن يقوم بغيرها وكذلك(5/124)
ما قام بجرم النار من حرارة وضوء فلا يقوم بغيرها بل إذا جاورت النار هواء أو غير هواء حصل في ذلك المحل سخونة أخرى غير السخونة(5/125)
ص -521- القائمة بنفس النار تسخن الهواء الذي يجاورها كما تسخن القدر الذي يوقد تحتها النار فيسخن ثم يسخن الماء الذي فيها مع أن سخونة النار باقية فيها وسخونة القدر باقية فيها وسخونة الماء سخونة أخرى حصلت في الماء ليست واحدة من تينك وإن كانت حادثة عنها وجنس السخونة يجمع ذلك كله ولهذا ذكر الإمام أحمد عن السلف أنهم كرهوا أن يتكلم أحد في حلول كلام الله في العباد بنفي أو إثبات فإن لفظ الحلول لفظ مجمل يراد به معنى باطل ويراد به معنى حق.
وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ الحلول بالمعنى الصحيح فتأوله من في قلبه زيغ كالنصارى وأشباههم على المعنى الباطل وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه وكلا الأمرين باطل.
وقد قدمنا أن الناس يقولون أنت في قلبي أو ساكن في قلبي وأنت حال في قلبي ونحو ذلك وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه كما تقدم نظائر ذلك.
والمقصود هنا أن النسطورية لو شبهوا ما يدعونه من اتحاد وحلول بالشعاع مع الطين كان تمثيلهم باطلا فكيف بالملكية الذين هم أعظم باطلا وضلالا فقولهم ومثل الشمس المخالطة للطين والماء وكل رطوبة وحمأة تمثيل باطل من وجوه.
منها أن الشمس نفسها لم تتحد ولم تحل بغيرها بل ذلك شعاعها.
ومنها أن الشعاع نفسه لم يتحد بالماء والطين ولكن حل به وقام به ومنها أن ذلك عام في المخلوقات من وجه وبعباده المؤمنين من وجه لا يختص المسيح به فالمخلوقات كلها مشتركة في أن الله خلقها بمشيئته وقدرته وأنه لا قوام لها إلا به فلا حول ولا قوة إلا به وهي كلها مفتقرة إليه محتاجة إليه مع غناه عنها ولهذا كانت من آيات ربوبيته وشواهد إلهيته.(5/126)
ص -522- ومن سماها مظاهر ومجالي بمعنى أن ذاته نفسها تظهر فيها فهو مفتر على الله ومن أراد بذلك أنه أظهر بها مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته فأراد بالمظاهر والمجالي ما يراد بالدلائل والشواهد فقد أصاب.
وكذلك إذا قال هي آثاره ومقتضى أسمائه وصفاته.
وأما المؤمنون فإن الإيمان بالله ومعرفته ومحبته ونوره وهداه يحل في قلوبهم وهو المثل الأعلى والمثال العلمي فلا اختصاص للمسيح بهذا وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين لا اختصاص للمسيح بذلك.
ومنها أن الشعاع لم يخالط الماء والطين ولا يخالط شيئا من الأعيان ولا ينفذ فيه ولا يتحد به بل يكون على سطحه الظاهر فقط لكن الشعاع يسخن ما يحل فيه فإذا سخن ذلك سخن جوفه بالمجاورة كما يسخن الماء بسخونة القدر من غير أن تكون النار خالطت القدر ولا الماء.
فأين هذا من قولهم إن رب العالمين اتحد بابن امرأة فصار إلها تاما وإنسانا تاما.
وهل يقول عاقل إن الماء والطين صار شعاعا تاما وطينا تاما بل الطين طين لكن أثر الشعاع فيه بتجفيفه لم يتحد به الشعاع ولا نفذ فيه ولا حل في باطنه.
فهذا المثل أبعد عن مذهبهم من تمثيلهم بالنار مع الحديد ومن تمثيلهم بالنفس مع الجسد فإن هناك اتصالا بباطن الحديد والبدن وهنا لم يتصل الشعاع إلا بظاهر الطين وغيره.
وأيضا فالنفس جوهر قائم بنفسه والشعاع عرض وكذلك النار جوهر فالشمس هنا لم تتحد ولم تحل بالطين بل شعاعها بل ولا يوصف الطين باتحاده بالشعاع ولا باختلاط الشعاع بباطنه ولا بحلول الشمس نفسها فيه.
وحينئذ فقول القائل إن الشمس لم تتغير ولم تستحل عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل وسخ ونتن ونجس إن أريد به نفس الشمس أو صفاتها القائمة بها فتلك لم تتحد بغيرها ولا حلت فيه ولا قامت بغيرها.(5/127)
ص -523- فإذا كانت الشمس كذلك ولله المثل الأعلى فهو أولى أن لا يتحد بغيره ولا يحل فيه ولا يقوم بهوإن أريد فشعاعها فشعاها ليس هو الشمس فلا ينفعهم التمثيل به فإنهم يقولون إن الله نفسه اتحد بالمسيح والمسيح عندهم هو رب العالمين مع أنه إنسان تام فهو عندهم إله تام إنسان تام والطين ليس بشعاع تام ولا طين تام والشعاع نفسه لا يخالط شيئا ولكن يقوم به وقيام العرض بالمحل غير مخالطته له فإن المخالطة تكون باختلاط كل من الأمرين بالآخر كاختلاط الماء بالطين ونحو ذلك.
وأما ما يقوم بالسطح الظاهر فلايقال إنه مخالط بجميع الأجزاء فلا يقال للشعاع الذي على الجبال والبحر إنه مخالط لجميع الجبال والبحر ولا لشعاع النار إنه مخالط للحيطان وداخل للأرض وقد تقدم أنهم قسموا هذا الباب ثلاثة أقسام.
أحدها: اختلاط أحد الشيئين بالآخر كالماء والخمر.
والثاني اتصال من غير اختلاط كالماء والزيت والإناء الذي بعضه فضة وبعضه ذهب وقالوا إن هذا لا ينبغي أن يسمى اختلاطا مع افتراق الطبيعتين والقوامين مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة لأن طبيعة الفخار ليس بينها وبين الماء خلطة.
وهذا الفرق موجود في الشعاع والطين بل بينهما من الفرقأشد مما بين الماء والقلة فإن الماء جرم قائم بنفسه وهذا عرض قائم بغيره والجسم بالجسم أشبه من الجسم بالعرض.
والإله عندهم مخالط لجميع ناسوت المسيح لم يخل جزء منه من اتحاد الإله به فأين هذا من هذا.
وإذا قيل إن الشعاع لم يستحل عن نوره ونقائه وضوئه مع مخالطته كل سواد ووسخ ونتن ونجس لم يكن مثلا يطابقه مع أنه لم يخالط الشعاع غيره.
ثم يقال إن أراد بما لم يتغير نفس الشعاع القائم بالمحل فهذا ممنوع فإن الشعاع يتغير بتغير محله فيرى في الأحمر أحمر وفي الأسود أسود وفي الأزرق أزرق حتى أن الزجاج المختلف الألوان إذا صار مطرحا للشعاع ظهر الشعاع متلونا بتلون الزجاج فيرى أحمر(5/128)
ص -524- وأزرق وأصفر.
وقد ضرب أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق لله أمثالا باطلة شر من أمثال النصارى ولهم مثل السوء ولله المثل الأعلى وكان مما ضربوه لله من الأمثال أن شبهوه بالشعاع في الزجاج.
فالأعيان الثابتة في العدم عندهم هي الممكنات ووجود الحق قاض عليها فشبهوا وجوده بالشعاع وأعيانهم بالزجاج وهذا باطل من وجوه.
منها أن القول بأن أعيان الممكنات ثابتة في العدم قول باطلومنها أن قولهم إن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق هو أيضا باطل.
ومنها أن حلول الشعاع بالزجاج يقتضي حلول أحدهما بالآخر وهم ينكرون الحلول ويقولون الوجود واحد.
ومنها أن الشعاع الذي على نفس الزجاج ليس وجوده وجود الزجاج وعندهم وجود الرب وجود الممكنات.
ومنها أن الشعاع الحال بهذا الزجاج ليس هو بعينه ذلك الشعاع الحال بالزجاج الآخر وإن كان نظيره وهؤلاء عندهم أن الوجود واحد بالعين لا يتعدد.
ومنها أن الشعاع عرض مفتقر إلى الزجاج فهو مفتقر إليه افتقار العرض إلى محله فيلزم إذا مثلوا به الرب أن يكون الرب مفتقرا إلى كل ما سواه مع غنى كل ما سواه عنه وهذا قلب كل حقيقة وأعظم كفر بالخالق تعالى فإنه سبحانه الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه.
وكل من قال بحلول الله في شيء من المخلوقات من النصارى وغيرهم يلزمهم أن يكون مفتقرا إلى ما حل فيه فإنه لا حقيقة للحلول إلا هذا.
ولهذا كان ما حل بقلوب المؤمنين من الإيمان والهدى والنور والمعرفة مفتقرا إلى قلوب المؤمنين ولا يقوم إلا بهاوجميع الصور الذهنية القائمة بالأذهان مفتقرة إلى الأذهان لا تقوم إلا بها والشعاع مفتقر إلى محله لا يقوم إلا به وهكذا سائر النظائر.
وهؤلاء الذين شابهوا النصارى وزادوا عليهم من الكفر بقولهم إن وجود الخالق وجود(5/129)
ص -525- كل مخلوق وإنه قائم بأعيان الممكنات يقولون إنه مفتقر إلى الأعيان في وجوده وهي مفتقرة إليه في ثباتها فيجعلون الخالق محتاجا إلى كل مخلوق والمخلوق محتاجا إلى الخالق ويصرحون بذلك كما يصرح بعض النصارى بأن اللاهوت محتاج إلى الناسوت والناسوت محتاج إلى اللاهوت.
ومعلوم أن الله غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه فهو الصمد المستغني عن كل شيء وكل شيء مفتقر إليه.
فمن قال إنه مفتقر إلى مخلوق بوجه ما فهو كاذب مفتر كافر فكيف بمن قال إنه مفتقر إلى كل شيء.
والمثل الذي ضربوه له يقتضي أن يكون مفتقرا إلى غيره وغيره مستغن عنه كالمثل الذي ضربه النصارى له لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع والشعاع مفتقر إلى محله.
فمقتضى هذا التمثيل أن الإله محتاج إلى الإنسان والإنسان مستغن عن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}(5/130)
ص -526- فصل
وهذا الذي قد ذكره هذا البترك سعيد بن البطريق المعظم عند النصارى المحب لهم المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم معظما لدينهم مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه مثل ما ذكره من ظهور الصليب ومن مناظرة أريوس وغير ذلك فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر ويذكر أن أريوس لم يقل قط إن المسيح خالق.
ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى ليس مأخوذا عن المسيح بل هو مما ابتدعه طائفة منهم وخالفهم في ذلك آخرون وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك أن أول ملك أظهر دين النصارى هو قسطنطين وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين.
وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا وكذلك الختان وكذلك تعظيم الصليب.
وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن قسطنطين رأى صورة صليب كواكب.
ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم(5/131)
ص -527- وعبدوا الأوثان فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه.
وكذلك الإزار الذي رآه من رآه والصوت الذي سمعه هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه مع أن هذا الذي ذكروه عن بطرس رئيس الحواريين ليس فيه تحليل كل ما حرم بل قال ما طهره اللة فلا تنجسه وما نجسه الله في التوراة فقد نجسه ولم يطهره إلا أن ينسخه المسيح والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما كما يظنون.
والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة وإنما أحل بعض ما حرم عليهم ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه ويصدق قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
وحينئذ فقول هؤلاء من خالفنا لعناه كلام لا فائدة فيه فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة.
فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ(5/132)
بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقد تقدم ما ذكره سعيد بن البطريق من أخبارهم أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء كما كان بالاسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه ميكائيل فجعلها النصارى كنيسة باسم ميكائيل الملك وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له.(5/133)
ص -528- وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب كالشمس والزهرة وغير ذلك.
فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}(5/134)
ص -529- فصل
وقد حصل بما ذكرناه الجواب عن قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.
وعرف أن هذا قول من أقوال النصارى وأن لهم أقوالا أخر تناقض هذا.
وكل فريق منهم يكفر الآخر إذ كانوا ليسوا على مقالة تلقوها عن المسيح والحواريين بل هي مقالات ابتدعها من ابتدعها منهم فضلوا بها وأضلوا كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
فذكر سبحانه أنهم أضلوا من قبل مبعث محمد والنصارى أمة يلزمهم الضلال الذي أصله الجهل.
ولا يوجد قط من هو نصراني باطنا وظاهرا إلا وهو ضال جاهل بمعبوده وبأصل دينه لا يعرف من يعبد ولا بماذا يعبد مع اجتهاد من يجتهد منهم في العبادة والزهد ومكارم الأخلاق.
ثم يقال على هؤلاء قولهم طبيعتان ويقولون أيضا له مشيئتان ويقولون أيضا إنه شخص لم يزد عدده فإنهم يقولون إنهما اتحدا كما ذكروه في كتابهم هذا لا يقولون بشخصين لئلا يلزمهم القول بأربعة أقانيم.
ومنهم من يقول هما جوهران ومنهم من يقول جوهر واحد.
فإن قالوا: هو جوهر واحد صار قولهم من جنس قول اليعقوبية لا سيما وهم يقولون إن مريم ولدت اللاهوت والناسوت وإن المسيح اسم يجمع اللاهوت والناسوت وهو إله تام وإنسان تام.(5/135)
ص -530- فإذا كان جوهرا واحدا لزم من ذلك أن يكون اللاهوت قد استحال وتغير وكذلك الناسوت فإن الاثنين إذا صارا شيئا واحدا فذلك الشيء الثالث ليس هو إنسانا محضا ولا إلها محضا بل اجتمعت فيه الإنسانية والإلهية مع أنه قد كان الإنسان والإله اثنين متباينين وهما في اصطلاحهم جوهران فإذا صار الجوهران جوهرا واحدا لا جوهرين فقد لزم ضرورة أن يكون هذا الثالث ليس هو إلها محضا ولا إنسانا محضا ولا جوهران إنسانا وإلها فإن هذين جوهران لا جوهر واحد بل هو شيء ثالث اختلط وامتزج واستحال من هذا وهذا فتبدلت حقيقة الاهوت وحقيقة الناسوت حتى صار هذا الجوهر الثالث الذي ليس لاهوتا محضا ولا ناسوتا محضا كسائر ما يعرف من الاتحاد.
فإن كل اثنين اتحدا فصارا جوهرا واحدا فلا بد في ذلك من الاستحالة كما في اتحاد الماء واللبن والخمر وسائر ما يختلط بالماء بخلاف الماء والزيت فإنهما جوهران كما كانا لكن الزيت لاصق بالماء وطفا عليه لم يتحد به ومثل اختلاط النار والحديد فإن الحديد استحال عما كان ولهذا إذا برد عاد إلى ما كان وهكذا اتحاد الهواء مع الماء والتراب حتى يصير بخارا أو غبارا وأمثال ذلك.
وفي الجملة فجميع ما يعرفه الناس من الاتحاد إذا صار الاثنان واحدا وارتفعت الثنوية فلا بد من استحالة الاثنين.
وإذا قيل فيه طبيعة الاثنين ومشيئة الاثنين كما في الماء واللبن قوة الماء وقوة اللبن.
قيل لا بد مع ذلك أن تتغير كل قوة عما كانت عليه فتنكسر الأخرى كما يعرف في سائر صور الاتحاد إذا اتحد هذا مع هذا كسر كل منهما قوة الآخر عما كانت عليه.
كما إذا اتحد الماء البارد بالماء الحار انكسرت قوة الحر وقوة البرد عما كانت فيبقى المتحد مرتبة متوسطة بين البرد المحض والحر المحض.(5/136)
ص -531- وكذلك الماء واللبن وسائر صور الاتحاد وعلى هذا فيجب إذا اتحد أن تتغير قوة اللاهوت وطبيعته ومشيئته عما كانت وتنكسر قوة الناسوت وطبيعته ومشيئته عما كانت عليه ويبقى هذا المتحد ممتزجا من لاهوت وناسوت وذلك يستلزم نقص اللاهوت عما كان وبطلان كماله كما أنه يوجب من كمال الناسوت ما لم يكن.
فكل ما يصفون به الناسوت من اتحاد اللاهوت به فهو مستلزم من نقص اللاهوت وسلب كماله الذي يختص به وبطلان صفاته التامة بحسب ما حصل له من ذلك الناسوت بحكم الاتحاد وإلا فإن كان اللاهوت كما كان فلا اتحاد بوجه من الوجوه بل الناسوت كما كان.
ثم هما اثنان لم يتحد أحدهما بصاحبه ولا صارا شيئا واحدا.
وأيضا فمع كون الجوهر واحدا يجب أن تكون مشيئته واحدة وطبيعته واحدة فإنه لو كان مشيئتين لكان محل إحدى المشيئتين إن كان هو محل الأخرى مع تضاد موجب المشيئتين لزم اجتماع الضدين في محل واحد.
فإن الإرادة الناسوتية تطلب الأكل والشرب وأن تعبد وتصوم وتصلي.
واللاهوتية توجب امتناعه من إرادة هذه الأشياء.
وإرادته أن يخلق ويرزق ويدبر العالم والناسوتية تمتنع من هذه الإرادة.
فإذا قامت الإرادتان والكراهتان بمحل واحد لزم أن يكون ذلك الجوهر الموصوف بهذا وهذا مريدا للشيء ممتنعا من إرادته غير مريد له كارها للشيء غير كاره له وذلك جمع بين النقيضين من وجوه متعددة.
ويمتنع أن يقوم بالموصوف الواحد إرادتان جازمتان بالشيء ونقيضه أو كراهتان جازمتان للشيء أو نقيضه والفعل لا يقع إلا بإرادة جازمة مع القدرة فاللاهوت ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومتى شاء شيئا مشيئة جازمة فإنه على ما شاء قادر.
والناسوت لا يفعل شيئا من خصائص البشرية حتى يريد ذلك إرادة جازمة.
والناسوت يمتنع أن يريد إرادة اللاهوت ويكره ذلك فيصير الشيء الواحد مريدا للشيء(5/137)
ص -532- إرادة جازمة قادرا عليه ليس مريدا له إرادة جازمة بل هو عاجز عنه ويلزم أيضا إذا كانا جوهرا واحدا وقد ولد وصفع وضرب وصلب ومات وتألم أن يكون نفس اللاهوت ضرب وصلب ومات وتألم كما تقوله اليعقوبية وهذا لازم لجميع النصارى وهو موجب عقيدة إيمانهم.
فإن قالوا: بل هما جوهران مع كونهما عندهم شخصا واحدا لا تعدد فيه كما يقوله من يقوله من الملكية كان هذا كلاما متناقضا فإن الشخص الواحد الذي لا تعدد فيه جوهر واحد ولهذا حد بأنه جسم.
وإن شبهوا ذلك بالنفس مع الجسد لزمهم المحدود.
فإن الإنسان كما يقال فيه إنه شخص واحد يقال إنه جوهر واحد بما بينهما من الاتحاد ولهذا يحد بأنه جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق هذا يتناول جسده وروحه وللنفس والبدن مشيئة واحدة.
ومتى شاء الإنسان الفعل مشيئة جازمة مع قدرته عليه فعله ولم يكن معه جوهر آخر له مشيئة غير مشيئته.
فإذا شبهوا اتحاد اللاهوت بالناسوت بهذا لزمهم أن يكونا جوهرا واحدا ومشيئة واحدة وهذا قول اليعقوبية.
ولهذا تألم النفس بما يحدث في الجسد من الآلام ويتألم الجسم الذي هو القلب الصنوبري بما يحدث في النفس من الآلام.
فإذا تألمت النفس تألم قلب الجسد وغير قلب الجسد وكذلك إذا تألم الجسد وإذا صفع الجسد وصلب وبصق في وجهه ووضع الشوك عليه وتألم ومات كان ذلك كله حالا بالنفس ونالها منه إهانة الصفع وألم النزع ما ينالها كما يسلمون لله أنه حل بنفس المسيح وبدنه فإنهم لا يتنازعون أن الإله حل ببدن المسيح ونفسه وإنما يتنازعون في اللاهوت مع أن النفس مفارقة للبدن بالموت.(5/138)
ص -533- واللاهوت عندهم لم يفارق الناسوت بالموت بل صعد إلى السماء.
والمسيح الذي هو إله تام وإنسان تام يقعد عن يمين أبيه وكذلك يجيء يوم القيامة.
وأيضا فالبدن إذا كانت فيه النفس تتغير صفاته وأحكامه وتختلف أحواله باجتماعها وافتراقها والنفس إذا كانت في البدن تختلف صفاتها وأحكامها.
فيلزم أن يكون ناسوت المسيح مخالفا في الصفات والأحكام لسائر النواسيت وأن يكون اللاهوت لما اتحد به تغيرت صفاته وأحكامه وهذا هو الاستحالة والتغير والتبدل للصفات مع أن ناسوت المسيح كان من جنس نواسيت البشر لم يظهر عليه إلا ما ظهر مثله على غيره بل ظهر على غيره من خوارق العادات أكثر مما ظهر عليه.
وبالجملة فأي مثل ضربوه للاتحاد كان حجة عليهم وظهر به فساد قولهم.
وإن قالوا هذا أمر لا يعقل بل هو فوق العقول كان الجواب من وجهين.
أحدهما أنه يجب الفرق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته.
فالأول من محالات العقول والثاني من محارات العقول والرسل يخبرون بالثاني.
وأما الأول فلا يقوله إلا كاذب ولو جاز أن يقول هذا لجاز أن يقال إن الجسم الواحد يكون أبيض أسود في حال واحدة وإنه بعينه يكون في مكانين وإن الشيء الواحد يكون موجودا معدوما في حال واحدة وأمثال ذلك مما يعلم العقل امتناعه.
وقول النصارى مما يعلم بصريح العقل أنه باطل ليس هو مما يعجز عن تصوره.
يوضح هذا أنه لو قال قائل في مريم أم المسيح امرأة الله وزوجته وأنه نكحها نكاحا عقليا كما يقولون إن المسيح ولده ولادة عقلية لم يكن هذا القول أفسد في العقل من قولهم في المسيح كماقد بسطناه في موضعه وهم يكفرون من يقول ذلك ويحتجون بالعقل على فساده.
وإذا قال هذا فوق العقل لم يقبلوه وكذلك كل طائفة من طوائفهم احتجت على الأخرى بالعقل وإذا قالوا: قولنا فوق العقل لم يقبلوا هذا الجواب.
فإن كان هذا جوابا صحيحا فيجب أن لا يبحث في شيء من الإلهيات بالعقل بل(5/139)
ص -534- يقول كل مبطل ما شاء من الباطل ويقول كلامي فوق العقل كما يقول أصحاب الحلول والاتحاد والوحدة الذين يقولون إن وجود الخالق وجود المخلوق ويقولون إن هذا فوق العقل وإنه يعلم بالذوق لا بالسمع ولا بالعقل.
الوجه الثاني: أن يقال ما يعجز العقل عن تصوره إذا أخبرت به الأنبياء عليهم السلام قبل منهم لأنهم يعلمون ما يعجز غيرهم من معرفته.
وهذه الأقوال لم يقل الأنبياء شيئا منها بل نفس فرق النصارى قالوها بآرائهم وزعموا أنهم استنبطوها من بعض ألفاظ الكتب.
فيقال لمن قالها منهم أنت تتصور ما تقول أم لا تتصوره وتفهمه وتعقله فإن قال لا أتصور ما أقول ولا أفقهه ولا أعقله قيل له فقد قلت على الله ما لا تعلم وقفوت ما ليس لك به علم.
ومن أعظم القبائح المحرمة في جميع الشرائع أن يقول الإنسان برأيه على الله قولا لا يتصوره ولا يفهمه.
وجميع العقلاء يعلمون أن من قال قولا وهو لا يتصوره ولا يفقهه فإن قوله مردود عليه غير مقبول منه وإن قوله من الباطل المذموم.
وإن قال قائلهم إني أفقه ما أقول وأتصوره وأعقله قيل له بينه لغيرك حتى يفقهه ويعقله ويتصوره ولا تقل هو فوق العقل بل هو قول قد عقلته وفقهته وهذا تقسيم لا محيد لهم عنه.
فإنهم إن كانوا يفقهون ما يقولون ويعقلونه لزم أن يكون معقولا.
وإن كانوا لا يفقهونه ولا يعقلونه لزم أنهم قالوا على الله ما لا يفقهونه ولا يعقلونه قولا برأيهم وعقلهم لا نقلا لألفاظ الأنبياء فإن من نقل ألفاظ الأنبياء الثابتة عنهم لم يكن عليه أن يفقه ويعقل ما يقول.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" فقد يحفظ الرجل كلاما فيبلغه غيره(5/140)
ص -535- وهو لا يفقه معناه ولا يعقله فمن نقل لفظ التوراة أو الإنجيل أو القرآن أو ألفاظ سائر الأنبياء لم نطالبه ببيان معناه.
بخلاف من ادعى أنه فهم ما قاله الأنبياء وعبر عن ذلك بعبارة أخرى فإنه يقال له إن كنت فهمت ما قالوه فهو معنى واحد عبروا عنه بعبارة وعبرت عنه بعبارة أخرى كالترجمان فهذا يعقل ما يقول ويفقهه.
وإن قال إني لم أفهم كلامهم أو لم أفهم ما قلته فقد اعترف بجهله وضلاله وأنه من الذين لم يفهموا كلام الأنبياء عليهم السلام ولم يفقهوا ما قالوه هم.
فلو قالوا لم نفهم كلام الأنبياء وسكتوا لكانوا أسوة أمثالهم من الجهال بمعاني كلام الأنبياء.
وأما إذا وضعوا عبارة وكلاما ابتدعوه وأمروا الناس باعتقاده وقالوا هذا هو الإيمان والتوحيد وقالوا إنا مع هذا لا نتصور ما قلناه ولا نفقهه ولا نعقله فهؤلاء من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون ويفترون على الله وعلى كتب الله وأنبياء الله بغير علم بل يقولون الكذب المفترى والكفر الواضح ويقولون مع ذلك إنا لا نعقله وهذا حال النصارى بلا ريب.
وهذا الموضع غلط فيه طائفتان من الناس غالية غلت في المعقولات حتى جعلت ما ليس معقولا من المعقول وقدمته على الحس ونصوص الرسول.
وطائفة جفت عنه فردت المعقولات الصريحة وقدمت عليها ما ظنته من السمعيات والحسيات.
وهكذا الناس في السمعيات نوعان وكذلك هم في الحسيات الباطنة والظاهرة نوعان.
فيجب أن يعلم أن الحق لا ينقض بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضا.
بخلاف الباطل فإنه مختلف متناقض كما قال تعالى: في المخالفين للرسل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.
وإن ما علم بمعقول صريح لا يخالفه قط لا خبر صحيح ولا حس صحيح.
وكذلك ما علم بالسمع الصحيح لا يعارضه عقل ولا حس.(5/141)
ص -536- وكذلك ما علم بالحس الصحيح لا يناقضه خبر ولا معقول.
والمقصود هنا الكلام مع من يعارض المعقولات بسمع أو حس.
فنقول لفظ المعقول يراد به المعقول الصريح الذي يعرفه الناس بفطرهم التي فطروا عليها من غير أن يتلقاه بعضهم عن بعضكما يعلمون تماثل المتماثلين واختلاف المختلفين أعني اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد والتباين فإن لفظ الاختلاف يراد به هذا وهذا.
وهذه المعقولات في العلميات والعمليات هي التي ذم الله من خالفها بقوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.
وأما ما يسميه بعض الناس معقولات ويخالفه فيه كثير من العقلاء مثل القول بتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة أو من المادة والصورة وأن ما لا يتناهى من الأمور المتعاقبة شيئا بعد شيء يمتنع وجوده إما في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو أن الكليات موجودة في الخارج جواهر قائمة بأنفسها أو أن لنا دهرا أو مادة هي جوهر عقلي قائم بنفسه أو أنه يمكن وجود جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه ونحو ذلك مما يعده من يعده من النظار أنه عقلياتوينازعهم فيه آخرون.
فليس هذا هو العقليات التي لا يجب لأجلها رد الحس والسمع وتبنى عليها علوم بني آدم بل المعقولات الصحيحة الدقيقة الخفية ترد إلى معقولات بديهية أولية بخلاف العقليات الصريحة مثل كون الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد معا فإن هذا معلوم بفطرة الله التي فطر الناس عليها.
فإذا جاء في الحس أو الخبر الصحيح ما يظن أنه يخالف ذلك مثل أن يرى الشخص الواحد في عرفات وهو في بلده لم يبرح أو يرى قاعدا في مكانه وهو في مكان(5/142)
ص -537- آخر أو يرى أنه أغاث من استغاث به أو جاء طائرا في الهواء مع العلم بأنه في مكانه لم يتغير منه فهذا إنما هو جني تصور بصورة ذلك الشخص ليس هو نفسه فهذا يشبهه ليس هو إياه.
والحسيات إن لم يميز بينها بالعقل وإلا فالحس يغلط كثيرا فكذلك من ادعى فيما حصل له من المكاشفة والمخاطبة أمرا يخالف صريح العقل يعلم أنه غالط فيه كمن قال من القائلين بوحدة الوجود إني أشهد بباطني وجودا مطلقا مجردا عن الأسماء والصفات لا اختصاص فيه ولا قيد البتة فلا يتنازع في هذا كما قد ينازعه بعض الناس.
لكن يقال له من أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض فإن كون ما شهدته بقلبك هو الله أمر لا يدرك بحس القلب وإذا ادعيت أنه حصل لك في الكشف ما يناقض صريح العقل علم أنك غالط كما قال شيخ هؤلاء الملاحدة التلمساني.
يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد عدت عما عن العيان إلى أوهام أخبار
وعين ما أنت تدعوني إليه إذا حققت فيه تراه النهي يا جار
فيقال له وجدك وذوقك لم يفدك إلا شهود وجود مطلق بسيط لكن من أين لك أن هذا هو رب العالمين بل من أين لك أن هذا ثابت في الخارج عن نفسك كليا مطلقا مجردا بل إنما تشهده كليا مطلقا مجردا في نفسك.
ولست تعلم بحس ولا عقل ولا خبر أن هذا هو في الخارج.
كما أن النائم إذا شهد حسه الباطن أشياء لم يكن معه يقين أن هذا في الخارج.
فإذا عاد إليه عقله علم أن هذا كان في خياله في المنام
وكذلك السكران وغيره ممن يضعف عقله فهذا يشهد بحسه الباطن أو الظاهر أشياء وقد ضعف عقله عن كنه ذلك لما ورد عليه وإذا ثاب إليه عقله علم أن ما شهده كان في نفسه وخياله لا في الخارج عن ذلك.(5/143)
ص -538- فكل من أخبر بما يخالف صحيح المنقول أو صريح المعقول يعلم أنه وقع له غلط وإن كان صادقا فيما يشهده في الحس الباطن أو الظاهر لكن الغلط وقع في ظنه الفاسد المخالف لصريح العقل لا في مجرد الحس فإن الحس ليس فيه علم بنفي أو إثبات.
فمن رأى شخصا فليس في الحس إلا رؤيته.
وأما كونه زيدا أو عمرا فهذا لا بد فيه من عقل يميز بين هذا وهذا ولهذا كان الصغير والمجنون والبهيم والسكران والنائم ونحوهم لهم حس ولكن لعدم العقل لا يميزون أن هذا المشهود هو كذا أم كذا بل قد يظنون ظنونا غير مطابقة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُلَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
فالظمآن يرى أن ما ظنه ماء ولم يكن ماء لاشتباهه بالماء والحس لم يغلط لكن غلط عقله.
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه معصومون لا يقولون على الله إلا الحق ولا ينقلون عنه إلا الصدق.
فمن ادعى في أخبارهم ما يناقض صريح المعقول كان كاذبا بل لا بد أن يكون ذلك المعقول ليس بصريح أو ذلك المنقول ليس بصحيح.
فما علم يقينا أنهم أخبروا به يمتنع أن يكون في العقل ما يناقضه.
وما علم يقينا أن العقل حكم به يمتنع أن يكون في أخبارهم ما يناقضه.
وقول أهل الاتحاد من النصارى وغيرهم سواء ادعوا الاتحاد العام أو الخاص قد علم بصريح العقل بطلانه فيمتنع أن يخبر به نبي من الأنبياء بل الأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته لا بما يعلم العقل بطلانه فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
ومن سوى الأنبياء ليس معصوما فقد يغلط ويحصل له في كشفه وحسه وذوقه(5/144)
ص -539- وشهوده أمور يظن فيها ظنونا كاذبةفإذا أخبر مثل هذا بشيء علم بطلانه بصريح العقل علم أنه غالط.
وإذا أخبر غير الأنبياء بما يعجز عقل كثير من الناس عن معرفته لم يلزم أن يكون صادقا ولا كاذبا بل لا نحكم بصدقه ولا كذبه إلا بدليل لاحتمال أن يكون غالطا واحتمال أن يكون قد علم ما يعجز غيره عن معرفته.
وإذا قال القول المعلوم فساده بصريح العقل من ليس بنبي وقال إن هذا فوق العقل أو هذا وراء طور العقل والنقل أو هذا لا نعرفه إن لم نترك العقل والنقل أو قال.
هم معشر حلو النظام وأحرقوا ال سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل قيل وهذا يمتنع أن يقوله نبي أو ينقله صادق عن نبي فإن أقوال الأنبياء لا تناقض العقل الصريح فكيف يقبل هذا ممن ليس بنبي.
وإن قال كما يقوله النصارى أو غيرهم إن هذا دل عليه كلام الأنبياء أو فهمناه من كلام الأنبياء.
قيل لهم الكلام في معاني الألفاظ التي نطقت بها الأنبياء شيء والكلام الذي فهمتموه عنهم شيء آخرولو قدر أن ما ذكرتموه أنتم أو غيركم فهمتموه من كلام الأنبياء ليس مخالفا لصريح العقل لم نجزم بأن قائل ذلك يتصور ما قال بل قد يكون فهم من كلامهم ما لم يريدوه.
فكيف إذا كان هو نفسه لم يتصور ما قال بل هم معترفون بأنه غير معقول له وهو لا يفهمه فكيف إذا كان الذي قاله معلوم الفساد بصريح العقل.
فهذه ثلاث مقدمات لو فهمه ثم قال إني فهمت كلامه لم يكن فهمه حجة.
فكيف إذا قال إني لم أفهمه وإن هذا فوق طور العقل.(5/145)
ص -540- ولو قال هذا لم يكن قوله حجة ولم يجب تصديقه من أن الأنبياء عنوا بكلامهم المعنى الذي اعترف أنه فوق طور العقل فكيف إذا عرف أن ذلك المعنى باطل يمتنع أن يقوله عاقل لا نبي ولا غير نبي(5/146)
ص -541- فصل
قال الحاكي عنهم فقلت لهم إنهم يقولون لنا إذا كان اعتقادكم في الباري تعالى أنه واحد فما حملكم على أن تقولوا أب وابن وروح قدس فتوهمون السامعين أنكم تعتقدون في الله ثلاثة أشخاص مركبة أو ثلاثة آلهة أو ثلاثة أجزاء وأن له ابنا ويظن من لا يعرف اعتقادكم أنكم تريدون بذلك ابن المباضعة والتناسل فتطرقون على أنفسكم تهمة أنتم منها بريئون.
قالوا وهم أيضا لما كان اعتقادهم في الباري جلت عظمته أنه غير ذي جسم وغير ذي جوارح وأعضاء وغير محصور في مكان فما حملهم على أن يقولوا إن له عينين يبصر بهما ويدين يبسطهما وساق ووجهه يوليه إلى كل مكان وجنب وأنه يأتي في ظلل من الغمام فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وذو أعضاء وجوارح وأنه ينتقل من مكان إلى مكان في ظلل من الغمام فيظن من لا يعرف اعتقادهم أنهم يجسمون الباري حتى إن قوما منهم اعتقدوا ذلك واتخذوه مذهبا ومن لم يتحقق اعتقادهم يتهمهم بما هم بريئون منه قال فقلت لهم إنهم يقولون إن العلة في قولهم هذا أن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب وأنه يأتي في ظلل من الغمام فهو أن القرآن نطق به وأن ذلك غير ظاهر اللفظ وكل من يحمل ذلك على ظاهر اللفظ ويعتقد أن الله له عينان ويدان ووجه وجنب وجوارح وأعضاء وأن ذاته تنتقل فهم يلعنونه ويكفرونه فإذا كفروا من يعتقد هذا فليس لمخالفيهم أن يلزموهم هذا بعد أن لا يعتقدوه.
قالوا وكذلك نحن أيضا النصارى العلة في قولنا إن الله ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس أن الإنجيل نطق به والمراد بالأقانيم غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل أو جماع أو مباضعة.(5/147)
ص -542- وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة أو ثلاثة آلهة متفقة أو ثلاثة أجسام مؤلفة أو ثلاثة أجزاء متفرقة أو ثلاثة أشخاص مركبة أو أعراض أو قوى أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه أو بنوة نكاح أو تناسل أو مباضعة أو جماع أو ولادة زوجة أو من بعض الأجسام أو من بعض الملائكة أو من بعض المخلوقين فنحن نلعنه ونكفره ونجرمه.
وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده وإن ألزمونا الشرك والتشبيه لأجل قولنا أب وابن وروحقدس لأن ظاهر ذلك يقتضي التكثير والتشبيه ألزمناهم أيضا نحن التجسيم والتشبيه لقولهم إن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب وأن ذاته تنتقل من مكان إلى مكان وأنه استوى على العرش من بعد أن لم يكن عليه وغير ذلك مما يقتضي ظاهره التجسيم والتشبيه.
والجواب من وجوه.
أحدها: أن يقال من آمن بما جاءت به الرسل وقال ما قالوه من غير تحريف للفظه ولا معناه فهذا لا إنكار عليه بخلاف من ابتدع أقوالا لم تقلها الرسل بل هي تخالف ما قالوه وحرف ما قالوه إما لفظا ومعنى وأما معنى فقط فهذا يستحق الإنكار عليه باتفاق الطوائف.
وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ويتبعون في ذلك أقوال رسله ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل.
{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} لسلامة ما قالوه من النقص والعيب.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل ونفوا عنه(5/148)
التمثيل فأتوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.
فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات كان معطلا ومن جعلها مثل صفات(5/149)
ص -543- المخلوقين كان ممثلا والمعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما.
وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وهو رد على الممثلة.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وهو رد على المعطلة فوصفته الرسل بأنه حي منزه عن الموت عليم منزه عن الجهل قدير قوي عزيز منزه عن العجز والضعف والذل واللغوب سميع بصير منزه عن الصم والعمى غني منزه عن الفقر جواد منزه عن البخل حكيم حليم منزه عن السفه صادق منزه عن الكذب إلى سائر صفات الكمال مثل وصفه بأنه ودود رحيم لطيف وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
فالصمد اسم يتضمن إثبات صفات الكمال ونفي النقائص وهو العليم الكامل في علمه القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته.
ولنا مصنف مبسوط في تفسير هذه السورة وآخر في بيان أنها تعادل ثلث القرآن وذكرنا كلام علماء المسلمين من الصحابة والتابعين في معنى الصمد وأن عامة ما قالوه حق كقول من قال منهم إن الصمد الذي لا جوف له ومن قال منهم إنه السيد الذي انتهى سؤدده كما قيل إنه المستغني عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه وكما قيل إنه العليم الكامل في علمه والقدير الكامل في قدرته إلى سائر صفات الكمال.
وذكر تعالى في هذه السورة أنه أحد ليس له كفوا أحد فنفى بذلك أن يكون شيئا من(5/150)
ص -544- الأشياء له كفوا وبين أنه أحد لا نظير له.
وقال في آية أخرى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}.
وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}.
وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}.
وما ورد في القرآن والسنة من إثبات صفات الله فقد ورد في التوراة وغيرها من كتب الله مثل ذلك.
فهو أمر اتفقت عليه الرسل وأهل الكتاب في ذلك كالمسلمين وإذا كان كذلك فهم في أمانتهم لم يقولوا ما قاله المسيح والأنبياء بل ابتدعوا اعتقادا لا يوجد في كلام الأنبياء فليس في كلام الأنبياء لا المسيح ولا غيره ذكر أقانيم لله لا ثلاثة ولا أكثر ولا إثبات ثلاث صفات ولا تسمية شيء من صفات الله ابنا لله ولا ربا ولا تسمية حياته روحا ولا أن لله ابنا هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه خالق كما أن الله خالق إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر لم تنقل عن نبي من الأنبياء.
فقالوا في شريعة إيمانهم نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لايرى وهذا حق.
ثم قالوا وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلايق كلها مولود ليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه نور من نور مساو للأب في الجوهر الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء البتول وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
ونؤمن بروح القدس المحيي وروح الحق المنبثق من أبيه أو الذي خرج من أبيه روح محييه.(5/151)
ص -545- فأين في كلام الأنبياء أن شيئا من صفات الله أو من مخلوقاته يقال فيه إنه أقنوم وإنه حق من إله حق من جوهر أبيه وإنه مساو لله في الجوهر وإنه خالق خلق كل شيء وإنه قعد عن يمين الله فوق العرش وإنه الذي يقضي بين الناس يوم القيامة.
وأين في كلام الأنبياء أن لله ولدا قديما أزليا.
ومن الذي سمى كلام الله أو علمه أو حكمته مولودا له أو ابنا له أو شيئا من صفاته مولودا له أو ابنا له.
ومن الذي قال من الأنبياء إنه مولود وهو مع ذلك قديم أزلي.
وأين في كلامهم أن لله أقنوما ثالثا هو حياته ويسمى بروح القدس وأنه أيضا رب حي محيي.
فلو كان النصارى آمنوا بنصوص الأنبياء كما آمن المؤمنون لم يكن عليهم ملام.
ومن اعترض على نصوص الأنبياء كان لفساد فهمه ونقص معرفته.
ولكن هم ابتدعوا أقوالا وعقائد ليست منصوصة عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وفيها كفر ظاهر وتناقض بين.
فلو قدر أنهم أرادوا بها معنى صحيحا لم يكن لأحد أن يبتدع كلاما لم يأت به نبي يدل على الكفر المتناقض الذي يخالف الشرع والعقل ويقول إني أردت به معنى صحيحا من غير أن يكون لفظه دالا على ذلك فكيف والمراد الذي يفسرون به كلامهم فاسد متناقض كما تقدم.
فهم ابتدعوا أقوالا منكرة وفسروها بتفسير منكر فكان الرد عليهم من كل واحد من الوجهين وهم في ذلك نظير بعض ملاحدة المسلمين الذين يعتقدون إلهية بعض أهل البيت أو بعض المشايخ ويصفون الله بصفات لم ينطق بها كتاب وهؤلاء ملحدون عند المسلمين.
بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله الذين آمنوا بما قالت الأنبياء ولم يبتدعوا أقوالا(5/152)
ص -546- لم يأت بها الأنبياء وجعلوها أصل دينهم.
الوجه الثاني: أن يقال ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم.
فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن ولا في الحديث ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائفهم يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين حيث قالوا عنهم إنهم يقولون إن لله عينين يبصر بهما ويدين يبسطهما وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان وجنبا.
ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم تركيبا زعموا أن المسلمين يطلقونه.
وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه فإن الله تعالى قال في كتابه.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}.
واليهود أرادوا بقولهم يد الله مغلولة أنه بخيل فكذبهم الله في ذلك وبين أنه جواد لا يبخل فأخبر أن يديه مبسوطتان كما قال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}.
فبسط اليدين المراد به الجواد والعطاء ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.
ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء فلما قالت اليهود يد الله مغلولة وأرادوا بذلك أنه بخيل كذبهم الله في ذلك وبين أنه جواد ماجد.
وإثبات اليدين له موجود في التوراة وسائر النبوات كما هو موجود في القرآن.
فلم يكن في هذا شيء يخالف ما جاءت به الرسل ولا ما يناقض العقل وقد قال تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}.
فأخبر أنه خلق آدم بيديه وجاءت الأحاديث الصحيحة توافق ذلك.
وأما لفظ العينين فليس هو في القرآن ولكن جاء فيه حديث.(5/153)
ص -547- وذكر الأشعري عن أهل السنة والحديث أنهم يقولون إن لله عينين.
ولكن الذي جاء في القرآن: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}{و وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}.
وأما قولهم له وجه يوليه إلى كل مكان فليس هذا في القرآن ولكن في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
وهذا قد قال فيه طائفة من السلف فثم قبلة الله أي فثم جهة الله والجهة كالوعد والعدة والوزن والزنة.
والمراد بوجه الله وجهة الله الوجه والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة كما قال في أول الآية.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}.
ثم قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}فإذا كان لله المشرق والمغرب ولكل وجهة هو موليها وقوله موليها أي متوليها أم مستقبلها فهذا كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي فأينما تستقبلوا فثم وجهه الله وقد قيل إنه يدل على صفة الله لكن يدل على أن ثم وجه لله وأن العباد أينما يولون فثم وجه الله فهم الذين يولون ويستقبلون لا أنه هو يولي وجهه إلى كل مكان فهذا تحريف منهم للفظ القرآن عن معناه وكذب على المسلمين.
ومن قال بالقول الثاني من المسلمين فإن ذلك يقتضي أن الله محيط بالعالم كله كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع.
إذ المقصود هنا بيان ضلال هؤلاء في دينهم(5/154)
فيما ابتدعوا من الكفر والتثليث والاتحاد دون الذين آمنوا بالله ورسله وما أخبرت به الرسل عن الله تبارك وتعالى.
وأما قولهم وجنب فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من(5/155)
ص -548- طوائف المسلمين أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى اللهصفة له بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق كقوله تعالى:{نَاقَةُ اللَّهِ} و {عِبَادَ اللَّهِ} بل وكذلك {رَوْحِ اللَّهِ} عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.
ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك كان صفة له.
وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}.
والتفريط ليس في شيء من صفات الله عز وجل.
والإنسان إذا قال فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه.
فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه بل ذلك التفريط لم يلاصقه فكيف يظن أن ظاهره في حق الله أن التفريط كان في ذاته.
وجنب الشيء وجانبه قد يراد به منتهاه وحده ويسمى جنب الإنسان جنبا بهذا الاعتبار قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب".
وإذا قدر أن الإضافة هنا تتضمن صفة الله كان الكلام في هذا كالكلام في سائر ما يضاف إليه تعالى من الصفات وفي التوراة من ذلك نظير ما في القرآن.(5/156)
ص -549- وهذا يتبين بالوجه الثالث: وهو أن يقال ما في القرآن والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وصف الله بهذه الصفات التي يسميها بعض الناس تجسيما هو مثل ما في التوراة وسائر كتب الأنبياء وهذا الذي في التوراة وكتب الأنبياء ليس مما أحدثه أهل الكتابولو كانوا هم ابتدعوا ذلك ووصفوا الخالق بما يمتنع عليه من التجسيم لكان النبي ذمهم على ذلك كما ذمهم على ما وصفوه به من النقائص في مثل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}.
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}.
فنفى عنه اللغوب الذي يظن في لفظ الاستراحة الذي في التوراة فإن فيها أن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح في يوم السبت فظن بعض الناس أنه تعب فاستراح.
ثم من علماء المسلمين من قال إن هذا اللفظ حرفوا معناه دون لفظه وهذا لفظ التوراة المنزلة قاله ابن قتيبةوغيره وقالوا معناه ثم ترك الخلق فعبر عن ذلك بلفظ استراح.
ومنهم من قال بل حرفوا لفظه كما قال أبو بكر الأنباري وغيره.(5/157)
ص -550- وقالوا ليس هذا لفظ التوراة المنزلة وأما ما في التوراة من إثبات الصفات فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك بل كان علماء اليهود إذا ذكروا شيئا من ذلك يقرهم عليه ويصدقهم عليه كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود: "أن حبرا من اليهود جاء إلى رسول الله فقال: يا محمد إن الله عز وجل يوم القيامة يحمل السماوات على إصبع والأرض على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك قال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرأ.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الآية".
وفي التوراة إن الله كتب التوراة بإصبعه.
وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمينوقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون منهم الغالي في النفي والتعطيل ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل.
والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل وكذلك طائفة من أهل الكتاب.
والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية التوراة وغيرها كما جاءت في القرآن لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص.
ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد فإن ذلك مختص بهم.(5/158)
ص -551-
وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا.
الوجه الرابع: قولهم فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح كلام باطل وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى.
فسمى نفسه حيا كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.
وسمى بعض عباده حيا كقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}.
مع العلم بأنه ليس الحي كالحي وسمى نفسه عليما كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
وسمى بعض عباده عليما كقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}.
مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم.
وسمى نفسه حليما بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}.
وسمى بعض عباده حليما بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}وسمى نفسه رؤوفا رحيما بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
وسمى بعض عباده رؤوفا رحيما بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
وليس الرؤوف كالرؤف ولا الرحيم كالرحيم.
وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا وسمى بعض عباده ملكا وبعضهم عزيزا وبعضهم جبارا متكبرا وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه.
وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا وقدرة ورحمة وغضبا ورضى ويدا وغير ذلك وسمى بعض صفات عباده بذلك وليس علمه كعلمهم ولا قدرته كقدرتهم ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم ولا يده كأيديهم.
وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش ومجيئه في ظلل من الغمام وغير(5/159)
ص -552- ذلك من هذا الباب ليس استواؤه كاستوائهم ولا مجيئه كمجيئهم.
وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى تذكر على ثلاثة أوجه.
تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} الآية.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
وتارة تطلق مجردة.
فإذا قيدت بالخالق لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين.
فإذا قيل علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق.
وكذلك إذا قيل.
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}.
كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب عز وجل.
وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق.
وهذه للناس فيها أقوالقيل إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق كقول أبي العباس الناشىء.
وقيل بالعكس كقوله غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة.
وقيل حقيقة فيهما وهو قول الجمهور.
ثم قيل هي مشتركة اشتراكا لفظيا وقيل متواطئة وهو قول الجمهور.
ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع عنده إذا قيل مشككة أن تكون متواطئة ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة.
وهذا نزاع لفظي فإن المتواطئة التواطؤ العام يدخل فيها المشككة.
إذ المراد بالمشككة ما يتفاضل معانيها في مواردها كلفظ الأبيض الذي يقال على(5/160)
ص -553- البياض الشديد كبياض الثلج والخفيف كبياض العاج والشديد أولى به.
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك وهو المعنى العام الكلي وهو متواطىء بهذا الاعتبار وهو اعتبار التفاضل يسمى مشككا.
وأما إذا أريد بالواطىء ما تستوي معانيه كانت المشككة نوعا آخرلكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث وهو خطأ أيضا.
فإن عامة المعاني العامة تتفاضل والتماثل فيها في جميع مواردها بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها إما قليل وأما معدوم.
فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين وقد قال مع ذلك إنه ليس كمثله شيء وإنه لم يكن له كفوا أحد وأنكر أن يكون له سمي كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله لا من قصور في بيان الله ورسوله ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة.
فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب فمن نفسه أتي وليس في قولنا علم الله ما يدل على ذلك.
وكذلك من فهم من قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} الآية.
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}.
ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه فمن نفسه أوتيفليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات.
وكذلك إذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.
من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق كما يفهم من قوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}.
فمن نفسه أتي فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله عز وجل كما يدل في(5/161)
ص -554- تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد.
وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء.
فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه يحتاج إلى حمله.
وكان الرب عز وجل غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه محتاجا إلى ما استوى عليه.
وليس في ظاهر كلام الله عز وجل ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك بل توهم هذا من سوء الفهم لا من دلالة اللفظ لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله علم أن استواءه ليس كاستوائه ولا مجيئه كمجيئه كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه.
وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا حي وحي وعالم وعالم وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف.
فصفات الرب عز وجل مختصة به وصفات المخلوق مختصة به ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق.
الوجه الخامس: قولهم لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ لا في ذي القدر والغلظ وهذا أحد موردي استعماله وهو الأشهر في لغة العامة فيقولون هذا الثوب له جسم وهذا ليس له جسم أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا.
ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر إنه جسم.
وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا تفرقا ضل به كثير من الناس فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد(5/162)
ص -555- قال غير واحد من أهل اللغة كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما الجسم هو الجسد.
وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا ويسمون بدن الإنسان جسدا.
وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد ويراد به قدر الجسد وغلظه قال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}.
وقد يراد به هذا وهذا.
ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ الجسد في أعم من معناه فياللغة كما فعلوا مثل ذلك في لفظ الجوهر ولفظ العرض ولفظ الوجود ولفظ الذات وغير ذلك.
فاستعملوا لفظ الجسم فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة.
ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة أو من المادة والصورة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا يلزمه إذا قال إن الله جسم أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا.
ولهذا قالوا إن هذا باطل وأوجبوا على أصلهم نفي مسمى هذا الاسم وهذا هو المشهور عند هؤلاء.
ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا قال يلزمني إذا قلت هو جسم أن يكون مركبا.(5/163)
ص -556- فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ الجسم وأراد به القائم بنفسه أو الموجود كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر وقالوا أردنا بالجوهر القائم بنفسه وكما قال هؤلاء ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض.
فإن الوجود إما قائم بنفسه وهو الجوهر أو بغيره وهو العرض والجوهر أشرف القسمين وقال الآخرون ليس في الوجود إلا قائم بنفسه وهو الجسم أو قائم بغيره وهو العرض والجسم أشرف القسمين وقال فما سماه أولئك جوهرا سماه أولئك جسما وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية.
وإذا قال هؤلاء هو جوهر لا كالجواهر كما يقال هو شيء لا كالأشياء.
قال أولئك هو جسم لا كالأجسام كما يقال هو شيء لا كالأشياء.
وإذا قال هؤلاء الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف قال أولئك والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف.
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين وسموه جسما نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا كنزاع النصارى في لفظ الجوهر وقد يكون عقليا كنزاعهم في المشار إليه هل هو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا.
ومن قال من القائلين بأنه جسم فيقول إنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عندجماهير المسلمين وغيرهم وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي كما قد بسط في موضع آخر.
بخلاف من كان نزاعه لفظيا فهذا يذم إما لغة وأما لغة وشرعا لكونه أطق لفظا لم يأذن به الشرع أو استعمله في خلاف معناه اللغوي كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا إذا كان معناه صحيحا.(5/164)
ص -557- وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا.
وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد لم يقولوا إن الله جسم ولا إنه ليس بجسم ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر.
لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.
والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال وأنه ليس كمثله شيء فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات ولا يدخل في صفاته ما ليس منها ولايخرج منها ما هو داخل فيهاإذا تبين هذا فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه وأنه ليس كمثله شيء وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل لم يكن عليهم ملام لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل ونفوا ما نفته الرسل فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل.
بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة.
أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا.
فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا إذ كل نقص نفي عن المخلوق فالخالق أحق بتنزيهه منه.
وأما على القول الآخر فتارة يقولون لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه وذلك ممتنع في حق الله تعالى وتارة يقولون لأنه مفتقر إلى أجزائه وذلك ممتنع(5/165)
ص -558- في حق الله تعالى إذ جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر.
ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية فكما لا يقول هو جسم وجوهر لا يقول ليس بجسم ولا جوهر.
ومنهم من يطلق هذه الألفاظ وهؤلاء منهم من ينفيها ومنهم من يثبتها.
وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع.
وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا.
والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع إذ لم يكن في ذلك شرع وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة.
فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا وروح قدس ولا ربا فسمى النصارى علمه وحياته ابنا وروح قدس وربا ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك.
كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منهشيئا عن شيء وهذا خلاف اللغة فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
فسمى الإنسان وحيدا وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.
فسمى المرأة واحدة: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ}.
وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}.
فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.(5/166)
ص -559- فنفى أن يكون أحد كفوا لهفلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها فإن لم يدخل في أحد لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها.
فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه قالوا والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا فيجب أن لا يكون مشارا إليه.
ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة.
وكذلك الذين قالوا هو جسم غيروا اللغة وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه أو لكل موجود ولكل قائم بنفسه.
ثم قالوا هو موجود أو قائم بنفسه أو مشار إليه فيكون جسما.
ولا يوجد في اللغة اسم الجسم لا لهذا ولا لهذا ولا لهذا.
وقالوا لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة.
وقال أولئك بل يلزم أن كل مركب يسمى في اللغة جسما فيلزم أن يسمى جسما إذا قلنا هو مشار إليه أو يرى بالأبصار أو متصفا بصفات تقوم به.
وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب بل الجسم عندهم هو الجسد ولا يسمون الهواء جسماإذا تبين هذا فتمثيل هؤلاء النصارى باطل على قول كل طائفة من طوائف المسلمين.
فمنهم من يقول الجسم في اللغة هو المركب والله ليس بمركب فليس بجسم لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان وجنب ونحو ذلك.
وكذلك من قال إن الله ليس بمركب وسماه جسماه بمعنى أنه قائم بنفسه أو لم يسمه جسما لا يقول بذلك أيضا ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه فلا حجة للنصارى عليهم وإن لم يطلقوه فحجتهم أبعد.
فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم فضلا عن غيرهم.
الوجه السادس: أن يقال لهؤلاء النصارى إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو(5/167)
ص -560- الجسد وأما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام كالمشار إليه مثلا.
فإن عنيتم الأول لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون إنه جوهر وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف.
فإذا كان الكثيف هو الجسم واللطيف جوهر ليس بجسم لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح بل هي جواهر روحانية وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير.
فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها.
وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه لم يمتنع عندكم أن يكون جسما فإنكم سميتموه جوهرا وعنيتم القائم بنفسه.
فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه كان أيضا مشارا إليه.
وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما فتبين أنه على أصلكم لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه وهذا لم يقيموا عليه دليلا وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة وقليل من أهل الملل وافقوهم.
ثم يقال لكم أنتم قلتم إنه حي ناطق وله حياة ونطق بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه بل ما هو جسم كالإنسان.
فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم.
وإن قلتم: هذا لا يعقل إلا لجسم قيل لكم وذلك لا يعقل إلا لجسم فإن رجعتم إلى الشاهد كان حجة عليكم وإن جاز لكم أن تثبتوا في(5/168)
الغائب حكما على خلاف الشاهد(5/169)
ص -561- جاز لغيركم وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين.
الوجه السابع: أن يقال غاية مقصودكم أن تقولوا إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم لمجيء النص بها وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر لمجيء النص بها ونحن لا نعتقد مدلولها.
فيقال لكم أولا إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم كما وردت به التوراة فهذا مشترك بينكم وبينهم وما اختصصتم به من التثليث والاتحاد لم يشركوكم فيه.
ثم يقال ثانيا إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص.
والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل.
وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد.
والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا.
وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل.
والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها.
وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل وحملتم كلام الرسل عليها.
والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة.
وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا.
والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.
وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.
والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل.(5/170)
ص -562- وأنتم قلتم قولا لا يعقل.
والمسلمون لم يتناقضوا فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونهاثنين بل ثلاثة وأنتم تناقضتم.
فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين.
الوجه الثامن: قولكم وكذلك نحن النصارى العلة في قولنا إن الله ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس أن الإنجيل نطق به.
فيقال لكم هذا باطل فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولاشيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها ولا قال المسيح ولا غيره إن الله هو الأب والابن وروح القدس ولا إن له أقنوما هو الابن وأقنوما هو روح القدس ولا قال إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه وإن روح القدس حياته ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود ولا جعل القديم الأزلي مولودا ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق إنه إله حق من إله حق ولا قال عن صفات الله إنها آلهة وإن الكلمة إله والروح إله ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة وكنتم ممن قيل فيهم.
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا وقلتم سميناه ابنا لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا إذ لا فرق بين علم الرب وحياته.
فعلمه لازم له وحياته لازمة له فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا.
وقلتم إنه مولود من الله وإنه قديم أزلي وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه.
والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان أنه حادث فيه أو منفصل عنه لا يعقل أنه قائم به وأنه متولد منه قديم أزلي.(5/171)
ص -563- ثم قلتم في أمانتكم إنه تجسم من روح القدس أو منه ومن مريم.
وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس.
وإن كان تجسم من روح القدس فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن.
ثم تقولون هو كلمة الله وروحه فيكون حينئذ أقنومين أقنوم الكلمة وأقنوم الروح وإنما هو عندكم أقنوم واحدفهذا تناقض وحيرة تجعلونه الابن الذي هو الكلمة وهو أقنوم الكلمة فقط.
وتقولون تجسم من روح القدس ولا تقولون إنه تجسم من الكلمة.
وتقولون هو كلمة الله وروحه والكلمة والروح أقنومان.
ولا تقولون إنه أقنومان بل أقنوم واحد.
وتقولون إنه خالق العالم والخالق هو الأب وتقولون ليس هو الأب وتقولون إله حق من إله حق وتقولون إله واحد ساوى الأب في الجوهر.
وتقولون ليس له مثل وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء ولم يحرفها.
وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل متى دون سائر الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس.
وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم لا يريدون بالابن صفة الله لا كلامه ولا علمه ولا حكمته.
ولا يريدون بالابن إله حق من إله حق ولا مولود قديم أزليبل يريدون به وليه وهو ناسوت لا لاهوت كيعقوب والحواريين.
ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله ولا يريدون به أنه رب حي وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك.
فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم كما كانت في داود(5/172)
ص -564- وغيره وكانت في الحواريين.
فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله وتارة في وليه الناسوت وروح القدس مستعملا تارة في حياته وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا.
فما وصف به المسيح من أنه ابن الله ومن أن روح القدس فيه قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين.
فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح إذ الذي حل في المسيح حل في غيره.
ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة ثم تفرقتم في الثلاثة هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة أو الحكمة والكلام أو النطق بدل لفظ العلم أو المراد الوجود والعلم والقدرة بدل الحياة أو المراد الوجود والحياة والقدرة أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة إلى أقوال أخرى يطول أمرها.
فيا ليت شعري ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم.
والأقانيم لفظا ومعنى لايوجد في كلام أحد من الأنبياء بل قيل فيها إنها لفظة رومية يفسرونها تارة بالأصل وتارة بالشخص وتارة بالذات مع الصفة ويفسرونها تارة بالخاصة وتارة بالصفة.
فهلا تركتم كلام المسيح على حاله ولم تحرفوه هذه التحريفات.
ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا ليس معهم علم لا نقل ولا عقل فهم كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}.(5/173)
ص -565- وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك وهو علم يهتدون به فليسوابمهدتين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو كتاب منير فليس معهم به كتاب منير.
ولو تكلمتم بهذا الكلام وقلتم لا نفهم معناه أو ظاهره باطل وله تأويل مقبول كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات لكان هذا أقرب إلى القياس.
فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم.
وذلك يتبين بالوجه التاسع: وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه لا نصا ولا ظاهرا فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام لم تضلوا فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء لا يراد به شيء من صفات الله بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك وروح القدس لايراد به صفته بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء.
الوجه العاشر: أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله كما بالغتم في سب الله وشتمه وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفر لا ترضونه مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة أو ثلاثة أجسام مؤلفة أو ثلاثة أجزاء مفرقة أو ثلاثة أشخاص مركبة.
فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح عليه السلاموأنتم لا تقولون بهذا الظاهر بل تكفرون قائله كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل.
وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة وثلاثة أشخاص مؤلفة وثلاثة أجزاء متفرقة وثلاثة أشخاص مركبة.
كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه وهو جوهر خالق يساويه في(5/174)
الجوهر وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب وأنه إله حق من إله حق والروح أيضا إله ثالث والآلهة الثلاثة إله واحد.(5/175)
ص -566- وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح وممن افترى عليه منكم ومن غيركم.
فإن المسيح عليه السلام على قولكم لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها ولا بتوحيد تعرفون به ربكم عز وجل بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة وثلاثة أجسام مركبة وثلاثة أجزاء متفرقة وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول ولكل كتاب جاء به رسول مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط ولا باتحاد ولا بما يدل على ذلك.
وعمدتم على ما نقله متى عنه دون الثلاثة أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدسوهذا الكلام ظاهر بل نصه حجة على خلاف قولكم وأنه أراد بالابن نفسه وهو الناسوت ولم يرد به صفة الله وأراد بروح القدس ما أيده الله به أو روح القدس الذي نفخ في امه حتى حبلت به لم يرد به صفة الله تعالى.
فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه.
ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل وإن كانت الأدلة تظهر بفساده.
ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده فإنه غير معقول.
وقالوا إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه.
وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة وهذا لا يصح اعتقاده لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة مع اعتقادة فيه أنه واحد لأن ذلك متضاد.
وإذا كان ذلك كذلك فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة أو أنه واحد.
وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة وأن الثلاثة واحد لأن ذلك لا يعقل(5/176)
ص -567- وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم أو قديم محدث أو في الجسم أنه قائم قاعد متحرك ساكن.
وإذا كان كذلك فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة.
وإذا قال النصارى إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات.
قيل لو اقتصرتم على قولكم إنه واحد له صفات متعددة لم يكنر ذلك عليكم جمهور المسلمين بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث فإن هذا باطل من وجود متعددة.
منها أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم فيكون جوهرا واحدا له أقنومان وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.
ومنها أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.
ومنها أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة وتارة بالقدرة وتارة بالوجود.
وتفسرون الكلمة تارة بالعلم وتارة بالحكمة وتارة بالكلام.
فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها.
فتجعلون الحياة إلها والعلم إلها وهذا باطل.
وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم إذا قيل ألستم تقولون إن الأبعاض الكثيرة تكون إنسانا واحدا والآحاد الكثيرة عشرة واحدة والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى وأظهر من أن يخفى.
فكيف عبتم ذلك من النصارى ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا.
قيل إن قولنا إنسان واحد ودار واحدة وعشرة واحدة وما يجري هذا المجرى أسماء تنبىء عن الجمل لا عن آحاد.
وإذا قلنا إنسان واحد فكأنا قلنا جملة واحدة وكذلك إذا قلنا عشرة واحدة لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة.
كيف ونحن نقول إن أبعاض الإنسان متغايرة فكل بعض منها غير سائرها وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها.(5/177)
ص -568- فنحن وإن قلنا إنسان واحد فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه ولو أثبتنا ذلك لتناقضنا مناقضة النصارى وإنما قلنا هي جملة واحدة ولو قالت النصارى مثل ذلك لم تتناقض حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة.
فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا الأبعاض الكثيرة أنه إنسان واحد.
فيكون وصفهم لها بأنها جوهر إنما ينبىء أنها جملة وليس هذا مما يذهبون إليه ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى لأنهم لا يعطون حقيقة التثليث فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة ولا حقيقة التوحيد فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك.
وإذا كان ذلك كذلك فما قالوه هو شيء لا يعقل ولا يصلح اعتقاده ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.
فيقال لهم إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا وثلاثة أغيار جوهرا واحدا وثلاثة أشياء جوهرا واحدا وثلاثة قادرين جوهرا واحدا وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة فلا يجدون فصلا.
الوجه الحادي عشر: أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم.
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل.
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله وأنه لا إله غيره وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى موصوف بالصفات العلى وأن كل ما سواه مخلوق له ليس فيهتثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات لا المسيح ولا غيره.
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة وهي مع ذلك لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد لا نصا ولا ظاهرا ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم وليس فيها(5/178)
شيء يحتمل(5/179)
ص -569- جميع ما قلتم فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا بل بعضها يحتمل بعض قولكم.
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم أي عقيدة إيمان لكم.
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل.
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين فيتبعون أحسن ما أنزل الله وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره وإلا فوضوا معناه إلى الله تعالى إن كان ثابتا عن الأنبياء.
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول وعما يعلم بنصوصالأنبياء الكثيرة إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم فلم يتبعوا.
{إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}.
وأما كفار المجسمة فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم.
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى.
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا هو فوق العرش ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب منه شيء ولا يدنو من شيء ولا يدنو إليه شيء إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات.
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات من هذا حرف واحد وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء إنه تجسيم.
فيقول هؤلاء نحن اتبعنا نصوص الأنبياء ولم نعدل عنها إلى غيرها ولم نجد في(5/180)
ص -570- نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون إنه تجسيم.
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم وليس لهم نص يناقض ذلك فاتبعنا نصوصهم وكل من عارض إثبات الصفات لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء لكن بحجج عقلية.
فيقول هؤلاء إن النصارى خالفوا صريح المعقول وصريح كلام الأنبياء واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم ولكن مخالفنا يقول إنا خالفنا العقل.
ونحن ننازعه في ذلك وندعي أن العقل معنا لا علينا وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة.
أو يقولون نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير الذين لا مخالف له من كلامهم.
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم واتبعوا قليلا من المتشابه.
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان وأنه يتمشى في الأرض يكون موطىء أقدامه مروجا ونحو ذلك.
ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون إنه هو المسيح وأن اللاهوت والناسوت اتحدافنحن نقول أيضا إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة كما يقوله النصارى.
أو نقول إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن وهذا أقرب من قول النصارى إنه اتحد بجسم المسيح.
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا.
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر.
قالوا وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه إلا أنهما جوهران ومشيئتان(5/181)
ص -571- وطبيعتان ليس بينهما اتحاد لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه.
والنصارى يقولون إن رب العالمين اتحد بالبشر فمنهم من يقول جوهر واحد ومنهم من يقول شخص واحد وأقنوم واحد ومنهم من يقول مشيئة واحدة فلابد لكل منهم من نوع اتحاد وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة فكيف برب العالمين ومن غلاة المجسمة اليهود من يحكي عنه أنه قال إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم وهذا كفر واضح صريح ولكن يقولون قولنا خير من قول النصارى فإن النصارى يقولون إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه ووضع الشوك على رأسه كالتاج وصلب بين لصين وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق.
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا.
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين ومن قال بالاتحاد امتنع عنده أن يكون هناك اثنان.
وفي الجملة فالنصارى المثلثة إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت.
وأما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية إنهما شخصواحد وقول النسطورية هما مشيئة واحدة.(5/182)
ص -572- وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر ولا يحل به ما حل به فيكون متناقضا لهذا.
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد كما تناقضوا في التثليث وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه وبالتوحيد وبما يناقضه.
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه وصلبه بين لصين وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه.
وإن قالوا فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب.
ففي الجملة ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله إلا وقول النصارى أقبح منه.
ولهذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولهذا يعظم الله فريتهم على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تكاد تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله عز وجل "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك فأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته".
ورواه البخاري عن ابن عباس(5/183)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما(5/184)
ص -573- كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا" وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم".
الوجه الثاني: عشر أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم قالوا إنه إله تام وإنسان تام وليس فيه من الإلهية شيء فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فية.
فلو قال القائل إن موسى بن عمران كان هو الله لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون.
فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح إنه أظهر المعجز بلاهوته وأظهر العبودية بناسوته لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس لم يمكنهم نفي ذلك.
وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحد ولم يبشر به نبي أو هذا غير معلوم قيل لهم غاية هذا كله أنكم لا تعلمون ذلك ولم يقم عندكم دليل عليه وعدم العلم ليس علما بالعدم فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء ليس علما بعدم ذلك الشيء.
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه فإن كل ما خلقه الله دليل عليه ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها إذا لم ينقل علم انتفاؤها.
والمقصود أنكم مع العدم لايمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر لا سيما وهو كان متحدا(5/185)
ص -574- بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية.
فإذا قيل لهم هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء بل من جوز قول النصارى جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمرفإذا اعتقدوا الاتحاد فيها كما اعتقدته النصارى في المسيح لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق.
لكن ظن الضال أنه رب العالمين كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى فإذا جاز أن يتحد الرب عز وجل ببعض الأجسام لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل وقد رأوا منه نوع خرق عادة فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب عز وجل حل فيها عندهم إن لم يقموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك.
فإذا قيل إن موسى عليه السلام أنكر على عباد العجل.
قيل نعم وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه فإنكاره على النصارى أعظم.
وموسى عليه السلام لم يقل قط إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه بل أخبر من عظمة الله عز وجل بما يناقض ذلك.
ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به وبما أخبر به من صفات الله عز وجل ما يناقض قول النصارى ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء عليهم السلام من النصارى تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك لم يبعث به أحد من الأنبياء عليهم السلام.(5/186)
ص -575- وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا مثل دعائهم مريم وغيرها وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله لم يبعث به أحد من الأنبياء فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها ويدعون تلك الصور.
وإن قصدوا دعاء أصحابها فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون كانوا مشركين.
فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم.
ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم كما هو مذكور في أخبارهم ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية.
والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي وأنه عظيم جدا لا يقولون إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة ولا يحل فيها فمنقال باتحاده وحلوله فيها كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة.
كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وذووه أو يثبتون لها علة فاعلة لم تزل مقارنة لها كما يقوله ابن سينا وأمثاله.
وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته.
ولو قال من قال منهم إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال.
فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال كان قوله شرا من قول هذا.
فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون خيرا من قول الفلاسفة الذين يقولون إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها كما يقوله أرسطو وذووه وخير من النصارى أيضا.(5/187)
ص -576- الوجه الثالث عشر: قولهم من قال ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة أو ثلاثة أشخاص مركبة أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه فنحن نلعنه ونكفره.
فيقال لهم وأنتم أيضا تلعنون من قال إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق ولا هو مساوي الأب في الجوهر ومن قال إنهليس بخالق ومن قال إنه ليس بجالس عن يمين أبيه ومن قال أيضا إن روح القدس ليس برب حق محيي ومن قال إنه ليس ثلاثة أقانيم.
وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال إنه الأب والأب هو الخالق فتلعنون من قال هو الأب الخالق ومن قال ليس هو الخالق فتجمعون بين النقيضين.
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر وتجمعون بين النقيضين.
فمن أثبت أحدكما منفكا عن الآخر لعنتموه كمن قال عندي واحد ثلاثة.
فمن قال هو واحد ليس بثلاثة كذبه ومن قال هو ثلاثة ليس واحدا كذبه.
ومن قال عندي شيء موجود معدوم فمن قال هو موجود ليس بمعدوم كذبه ومن قال معدوم ليس بموجود كذبه.
ومن قال عندي شيء هو حي ميت هو عالم جاهل هو قادر عاجز فمن قال هو حي ليس بميت كذبه ومن قال هو ميت ليس بحي كذبه.
فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين أحدهما حق والآخر باطل.
فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه ومن قال الباطل ونفى الحق لعنتموه.
وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين فيقولون لا نقول هو حي ولا ليس بحي ولا هو عالم ولا ليس بعالم ولا قادر ولا ليس بقادر.
بل منهم من يقول لا نقول هو موجود ولا معدوم ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء.(5/188)
ص -577- ومنهم من يقول ليس بحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز.
ومنهم من يقول لا نطلق لا هذا ولا هذا.
فيقال لهم رفع النقيضين كجمع النقيضين والامتناع عن أثبات أحد النقيضين كالامتناع عن نفي أحد النقيضين.
وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه فقد جمع بين النقيضين.
وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه أو رفع النقيضين الإثبات والنفي فهو باطل.
والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا.
وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى وهم يلعنونكم وكل من فرقكم الثلاثة النسطورية واليعقوبية والملكية تلعن الطائفتين الأخريين.
فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول إن مريم لم تلد إلها ويقولون إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما.
وأنتم النسطورية تلعنون من قال إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة.
ومن قال إن اللاهوت تألم مع قولكم إن اللاهوت مولود من مريم ومع قولكم المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون ما يطول وصفه فما منكم من أحد إلا وهو لا عن ملعون فلعنكم من قال بهذه المقالات لا يوجب أنكم على الحق بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا.
والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم بعض طوائفهم وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد.(5/189)
ص -578- وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون.
ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه بزعمه نصر مذهبهم وهو ملكي وقد ذكرت كلامه في غير هذا الموضع.
وفيهم من يقول إن مريم زوجة الله وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح.
وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان.
والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة.
لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا.
وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء ويقولون إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه أو أنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر.
فإن هؤلاء الطوائف وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء.
الوجه الرابع عشر : قولهم ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح ومن أراد ولادة زوجة لعناه.
فيقال لفظ الولادة المعروفة إنما يكون من أصلين وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها كما تتولد النار من(5/190)
ص -579- بين الزنادين فإذا قدح أحدهما بالآخر خرج منهما جزء لطيف فاستحال نارا ثم سقط على الحراق.
وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء وإن لم يكن بانفصال جزء منه كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع.
فأما ما يحدث عن شيء واحد فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا.
فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له فهذا أبعدشيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين.
وكل من قال إن لله ولدا لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة وأن يكون له ولد حادثا ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فاستفهم تعالى استفهام إنكار ليبين امتناع أن يكون له ولد إذ لم تكن له صاحبة فإن الولد لا يكون إلا من أصلين وهذا مما ينبغي أن يتفطن له فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له كعلمه وحياته لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها فإن صفات العبد اللازمة له كحياته وقدرته ونحو ذلك ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء.
ولا يقول عاقل يعقل ما يقول إن لون السماء وقدرها متولد عنها ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها ولا يقول أحد إن حرارة النار وضوءها القائم بها(5/191)
ص -580- متولد عنها وإنما يقال إن قيل فيما ليس بقائم بها بل قائم بغيرها أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن كالشعاع القائم بالأرض والحيطان وهذا ليس بقائم بها بل قائم بغيرها هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد.
فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له فلا يقول أحد من العقلاء إنها متولدة عنه.
والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته هي صفة له قديمة أزلية لم يزل ولا يزال موصوفا بها.
ويقولون مع ذلك إن الكلمة هي مولودة منه فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه.
وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم فإنه أنواع كثيرة فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال إنها ابنه وولده ومتولد عنه ونحو ذلك فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه وإن لم يكن كذلك فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه.
وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين لايقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه بل يخصون ذلك بالكلمة فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا ولا قال إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه أو هو متولد عنه.
فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية ومخالفون لجميع لغات الآدميين وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم فإنهم قالوا تولدت الكلمة عنه كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل.
فيقال لهم لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا.
فاما صفاتنا اللازمة لنا التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها ولم نزل متصفين بها فلا(5/192)
ص -581- يقول عاقل إنها متولدة فينا وعنا.
وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها متولدة عنه.
فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمرا معروفا في اللغة والعقل والشرع لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه لم يزل مولودا منه لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة.
اما العقل فإن صفة الموصوف اللازمة له وإن كان مخلوقا ليست متولدة عنه فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم.
ولو جاز هذا جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها.
ويقال إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه وإن حياة الحي متولدة عنه وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها.
وأما الشرع فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا.
وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم لم يجد أحدا من الأنبياء يسمى علم الله وكلمته وحياته ولدا له ولا ابنا له ولا قال إن ذلك يتولد عنه.
فقولهم عن المسيح عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس أنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية وأنها متولدة منه وأنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية كذب محض على المسيح عليه السلام لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا ولا سموا حياته روح القدس.
وأما اللغة فإن هذا التعبير الذي ذكروا وهو تسمية صفات الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة.(5/193)
ص -582- وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد وإن لم يكن متولدا عنه كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم ولهذا نزه الله تعالى نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وأما اتخاذ الولد ففي مواضع متعددة كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}.
وقوله تعالى{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ(5/194)
وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا وتسمية الله أبا وتسمية المصطفين أبناء وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء فإنهم لا يعنون بة إلا معنى صحيحا.
واللفظ قد يكون له في لغة معنى وله في لغة أخرى معنى غير ذلك والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله عز وجل
وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء ولا(5/195)
ص -583- الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى ولم يبق للتولد إلا معنيان أحدهما أن ينفصل عنه جزء والثاني أن يحدث عنه شيء إما باختياره وأما بغير اختياره وقدرته كحدوث الشعاع عن النار والشمس.
وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين ولا بد أن يكون حادثا لا يكون من صفاته اللازمة له فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما.
والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته ممتنع عند أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم سوى طائفة من المتفلسفة يقولون إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد.
والنصارى تكفر هؤلاء لكن قد ضاهوهم في القول كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
وهذا قاله طائفة من اليهود وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعهقال أبو محمد بن حزم والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق وهم يقولون من بين سائر اليهود إن العزير بن الله وكانوا بجهة اليمن.
ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه وإن سمي ذلك تولدا فهم يجعلون ولده منفصلا عنه لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه.(5/196)
ص -584- وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا جعلوه حادثا منفصلا عنه.
فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا فهذا لا يعرف عن غير النصارى فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق والصفة القائمة به اللازمة له لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه وأما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبلوبعض علمائهم وإن أنكر ذلك لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس ويقولون عن الروح هو منبثق من الله خارج منه.
وهذا كله يناسب الولادة التي هى خروج شيء منه أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته ولا بد له مع ذلك من محل يقوم به فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض.
والأمر المنبثق الخارج من غيره إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه أو صفة قائمة بغيرها.
فإن كان جوهرا فقد انفصل من الرب جزء.
وإن كان عرضا فلا بد له من محل فيكون متولدا عن أصلين.
وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته وهو حادث بعد أن لم يكن.
هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة يقال إنه يتولد عنه ويقال إنه ابنه مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء إن لم يكن معروفا في لغتهم.
وأما ما يدعونه فإنهم يقولون إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا وهي مولودة منه مع أنها غير مصنوعة فهذا كلام متناقض باطل من وجوه:
فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له ولا متولدة عنه بل هي قائمة به لازمة لذاته.
وأيضا فإن المولود اسم مفعول يقال ولده يلده فهو مولود وهذا لا يقال إلا(5/197)
ص -585- في الحادث المتجدد فإنه مفعول فعل الوالد.
والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا.
وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء عليهم السلام.
فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء ونحمل كلام الأنبياء عليها فإن هذا كذب عليهم.
وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء ويحملون كلام الأنبياء عليه.
مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد وكفروا من أثبت إلهين اثنين وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه وحرموا الشرك وكفروا أهله وأخبروا أن الله واحد أحد وكان مرادهم بذلك توحيده وأنه لا يجوز أنيعبد إلا الله وأنه لا يستحق العبادة إلا هو ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته.
فلم يقصدوا بلفظ الأحد والواحد أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات.
فجاء طائفة من أهل البدع ففسروا لفظ اسم الواحد والأحد بما جعلوه اصطلاحا لهم فقالوا الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم ولو كان له صفات لكان مركبا ولو قامت به الصفات لكان جسما والجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فلا يكون أحدا ولا واحدا.
فيقال هذا الذي قالوه لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم.
بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا بل يسمونه وحيدا وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}.
وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
وأمثال ذلكوأما البحث العقلي في هذا فقد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا كقولهم إن الشيء مركب من وجود وماهية وقولهم إن الأنواع مركبة(5/198)
ص -586- من الأجناس والفصول هو باطل عند جميع جمهور العقلاء.
وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات ليس في الخارج وجود القائم بنفسه وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا.
ولكن قد يعنى بلفظ ماهية ما يتصور في الأذهان وبالوجود ما يوجد في الأعيان وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود وحينئذ فيقال هذه الماهية غير هذا الوجود.
وكذلك قولهم إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات.
ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية وما جعلوه خارجا عنها لازما لها وما هو مجموع أجزاء الماهية يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة.
وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا كما قد بسط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم ويحمل كلامهم عليها.
بل إذا كان لبعض الناس عادة ولغة يخاطب بها أصحابه وقدر أن ذلك يجوز له فليس له أن يحمل ذلك لغة النبي ويحمل كلام النبي على ذلك.
ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي وإنه قال كذا وتكلم بكذا ونادى موسى ونحو ذلك.
والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم أن المتكلم من قام به الكلام وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه ولا أن المتكلم من قام(5/199)
ص -587- به الكلام بدون قدرته ومشيئته.
فليس لأحد إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه أو من قام به بدون قدرته ومشيئته أن يحمل كلام الأنبياء على هذا.
بل المتكلم عند الإطلاق من تكلم بقدرته ومشيئته مع قيام الكلام بهوهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق ونظائر هذا متعددة.
فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة فهم ممن بدل كلامهم وحرفه والنصارى من هؤلاء.
وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته.
والظالم من قام به الظلم وفعله بقدرته ومشيئته لا يسمون من لم يقم به الظلم ولكن قام بغيره لكون قد جعل ذلك فاعلا له ولا يسمون من لم يفعل الظلم ولكن فعله غيره فيه ظالما.
فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله ولكن جعل غيره متصفا به ظالما فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم.
وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث.
فليس لأحد إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولكنه زعم أنه معلول لغيره فسماه محدثا بهذا الاعتبار أن يقول أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به أن السماوات والأرض وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات على أن مرادهم بذلك أنه معلول مع كونه قديما أزليا لم يزل.
وأما لفظ القديم فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا سواء سبقه عدم أو لم يسبقه كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}.
وقال تعالى: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}.(5/200)
ص -588- وقال الخليل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولم يسبقه عدم أحق باسم القديم من غيره.
وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة ويقول إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا فكيف إذا كان باطلاوما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له ليس مقارنا له في الزمان ألبتة بل متقدم عليه تقدما زمانيا.
وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة فإنه متقدم على مسببه ومعلوله لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر.
فيقال ليس هذا متأخرا عن هذا أي هو متصل به ليس بينهما فصل.
ويقال ليس ذلك متقدما على هذا أي ليس بينهما زمان بل هو متصل به إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس منها من تقدمها" أي من كان قد تقدمها حتى لم يكن قريبا منها لم يكن تابعا لها كما جاء في الحديث الآخر: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها ووراءها وعن يمينها ويسارها قريبا منها" رواه أبو داود وغيره وهو أبين حديث روي في هذا الباب في هذا الحكم ومنه قوله(5/201)
ص -589- تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}.
أي لا يتقدم عليه بحيث يكون بينهما انفصال بل كال منهما متصل بالآخر.
والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها أمر واجب متعين ومن سلك غير هذا المسلك فقد حرف كلامهم عن مواضعه وكذب عليهم وافترى.
ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار.
فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الاب والابن ومرادهم عندهم بالأب الرب وبالابن المصطفى المختار المحبوب.
ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا ولا قالوا عن شيء من صفاته أنه تولد عنه ولا أنه مولود له.
فإذا وجد في كلام المسيح عليه السلام أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ثم فسروا الابن بصفة الله القديمة الأزلية كان هذا كذبا بينا على المسيح حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية.
وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله تبارك وتعالى على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم كان تفسير قول المسيح روح القدس أنه أراد حياة الله كذبا على المسيح.
وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه لازمة له أزلا وأبدا وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء كما قد بسط في موضع آخر فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه ولا يكون التولد إلا عن أصلين.
والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية لا وجود له ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع(5/202)
أخر.(5/203)
ص -590- ومما يوضح ذلك أن خواص النصارى وعلماءهم مع تجويزهم أن يقال أن المسيح ابن الله يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته كما قال ذلك من يغلو منهم ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله كما جعل المسيح إلها.
فإن قالوا: بذلك جعلوا لله صاحبة وولدا وجعلوا المسيح بنمريم وأمه إلهين من دون الله كما فعل ذلك من فعله منهم.
فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله سبحانه والمسيح ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها فيقولون يا والدة الإله اغفري لنا وارحمينا ونحو ذلك فيطلبون منها ما يطلبونه من الله عز وجل.
ومنهم من يقول عن مريم إنها صاحبة الله سبحانه وتعالى.
وبيان لزوم ذلك أن المسيح عندهم إنسان تام وإله تام ناسوت ولاهوت فناسوته من مريم ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية وهي الخالق عندهم.
فالمسيح بين أصلين ناسوت ولاهوت فإذا كان الأب هو الله عندهم والكلمة المولودة عن الأب ابن الله فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه وهذا معنى الزوجية.
فكما أنهم قالوا إن الولادة عقلية لا حسية فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي فإن اللاهوت على قولهم ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا وخلق المسيح من هذا و هذا.
وهم يقولون في الأمانة إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس.
فإن فسروا روح القدس بجبريل كما يقوله المسلمون فهو الحق وبطل قولهم لكنهم يقولون روح القدس هو الأقنوم الثالث كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم.
فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن وهو روح القدس فيكون أقنومين لا أقنوما واحدا وقد تقدم تناقضهم في هذا.
والمقصود هنا أنهم إذا قالوا إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها وذلك هو معنى النكاح والازدواج.
وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت(5/204)
وهي أم(5/205)
ص -591- اللاهوت ويقولون في دعائهم يا والدة الإله.
واللاهوت الذي ولدته مريم هو عندهم رب العالمين واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم من حين خلق الناسوت في بطن مريم لم يحدث بعد الولادة.
فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة.
فإن جاز أن يكون اللاهوت أم والأم أصل فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير أقرب وأولى فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء وهو المتفرع المتولد عنه أنقص بالنسبة إليه من نظيره.
فإذا قالوا إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر وقالوا إن الناسوت أم هذا المسيح الذي هو الله وهو ابن الله وقالوا إن الناسوت مريم ولد اللاهوت كما ولد الناسوت ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها وولدت اللاهوت صاحبة وزوجة للأب أولى وأحرى و إلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته.
وهم يقولون نحن سمينا علمه مولودا عنه لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا.
وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا.
فإنهم يقولون هؤلاء أبناء بالوضع والمسيح ابن بالطبع أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته لأنه اصطفاهم والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولهذا قالوا مولود غير مصنوع فإن القديم الأزلي مع كونه قائما بذاته لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء ولا القائلين بقدم العالم.
فإذا كانت الكلمة التحدث بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به فإذا قيل مع ذلك أن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره كان أيسر من هذا كله.
والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم غير الولادة القديمة(5/206)
التي للكلمة فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة بل نكحت نكاحا حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة قال تعالى:(5/207)
ص -592- {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد.
فمن قال إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره كما يحل الماء في اللبن كان أهون ممن يقول إنه اتحد به والتحم به.
فإذا قيل إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها.
ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث ومصيره إياه إما جوهرا واحدا وأما شخصا واحدا وأما مشيئة واحدة.
ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية.
فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى فإنما مس الذكر للأنثى لم تصر الأنثى متولدة عنه فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به وهو محدث مخلوق فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرىوإذا قالوا: إن المسيح إنما كان ابنا لأن الكلمة القديمة التي هي ابن اتحدت به قبل فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله صاحبة لله وزوجة باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي.
الوجه الخامس عشر: أن يقال لفظ الابن وروح القدس قد جاء في حق غير المسيح عندكم حتى الحواريين عندكم يقولون إن المسيح قال لهم إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ويقولون إن روح القدس تحل فيهم.
وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى اذهب إلى فرعون فقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله قتل اللة أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير إلى الأول من أولاد الآدميين إلى ولد الحيوان إليهم.(5/208)
ص -593- فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره وتسمي أبناء أهل مصر أبناء فرعون فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان.
وفي مزامير داود يقول أنت ابني سلني أعطك وفي الإنجيل يقول عن المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وقال إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء قدوس اسمك افعل بنا كذا وكذا.
ويقولون عن القديسين إن روح القدس يحل فيهم وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء بل عندهم إن الله يحل في الصديقين كلهم فإن كان الابن وروح القدس يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا وكذلك الأنبياء فيكون النبي لاهوتا وناسوتا لأنه قد سمي عندكم ابن الله ونطقت فيه روح القدس لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة إنه روح ممجد مسجود له ناطق في الأنبياء.
فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء بل والحواريين بل وأبناء إسرائيل لاهوتا وناسوتا إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به أو سكن فيه أو احتجب به أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح كلفظ الابن وروح القدس موجود عندكم في غير حق المسيح.(5/209)
ص -594- والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح قد وجدت لغير المسيح.
ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك فلا ريب أن المسيح عليه السلام أفضل من جمهور الأنبياء أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم وأفضل من الحواريين.
لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه وذلكلا يقتضي خروجه عن جنس الرسل كما قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
وقال تعالى:.{ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}.
وجماع هذا الجواب أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله وكون الله حل فيه أو ظهر أو سكن وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه وكونه مسيحا كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح.
فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة وكونه تجسد من روح القدس وهذا هو الذي خصه به القرآن فإن الله قال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ(5/210)
وَرُوحٌ مِنْهُ}.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" فهذا الذي خصه به القرآن هو الذي خصته الكتب المتقدمة إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.(5/211)
ص -595- وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظالأقانيم ولا لفظ التثليث ولا اللاهوت والناسوت ولا تسمية الله جوهرا بل هذا كله مما ابتدعوه كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم وحملوا مرادهم عليها.
والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة عندهم في حق غير المسيح.
فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو الله أو ابن الله وتلك الألفاظ قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم.
ومن قال من ضلال المسلمين إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء وإن هذا من السر الذي لا يباح به فقوله من جنس قول النصارى في المسيح وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد ومنهم من يقول إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع ويقول الأول.
ما وحد الواحد من واحد
إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد
ومن هؤلاء من يقول إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون فلا يبوحون بها إلا لخواصهم.(5/212)
ص -596- ومنهم من يقول إنما قتل الحلاج لأنه باح بهذا السر وينشدون.
من باح بالسر كان القتل شيمته بين الرجال ولم يؤخذ له ثار وأمثال ذلك.
وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح شر من النصارى.
فإن المسيح صلوات الله عليه أفضل من كل من ليس بنبي بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين.
فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه.
وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان أو متحد بكل شيءوغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون إنه عين الوجود والوجود واحد.
فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن.
وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي وصاحبه الصدر القونوي وصاحبه العفيف التلمساني وابن سبعين وصاحبه الششتري وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء.
وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيحوحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله كما قال فرعون: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقالك { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي }.(5/213)
ص -597- وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق وأن الوجود المخلوق هو الخالق وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب.
وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم كابن الفارض في قصيدته المسماة بنظم السلوك حيث يقول.
لها صلواتي بالمقام أقيمها
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال.
وما زلت إياها وإياي لم تزل
ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبب
وقوله.
إلى رسولا كنت مني مرسلا
وذاتي بآياتي علي استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن
منادى أجابت من دعاني ولبت
وقد رفعت ياء المخاطب بيننا
وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعت.
إلى أمثال هذه الأبيات.
وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله
وما أنت غير الكون بل أنت عينه
ويفهم هذا السر من هو ذائق(5/214)
ص -598- والتلمساني الملقب بالعفيف كان من أفجر الناس وكان أحذق هؤلاء الملاحدة.
ولما قرىء عليه كتاب فصوص الحكم لابن عربي قيل له هذا الكلام يخالف القرآن قال القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنافقيل له إذا كان الوجود واحدا فلماذا تحرم على أمي وتباح لي امرأتي.
فقال الجميع عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم.
وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا.
فإن قوله هؤلاء المحجوبون وقوله قلنا حرام عليكم يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين وبين المخاطب والمخاطب وهذا يناقض وحدة الوجود.
وإذا قالوا: هذه مظاهر للحق ومجال فإن كان الظاهر غير المظهر والمجلى غير المتجلي فقد ثبت التعدد وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا وإن جعلوهما واحدا فقد بطل جوابهم.(5/215)
الجواب الصحيح - الجزء الثالث
الجواب الصحيح - الجزء الثالث(6/1)
ص -5- فصل
قال الحاكي عنهم فقلت فإنهم ينكرون علينا قولنا إن الله تعالى جوهر قالوا إننا نسمع عن هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون هذا علينا وذلك أنه ليسفي الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وأما عرض لأن أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر وأما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له(6/2)
ص -6- بنفسه وهو العرض ولا يمكن أن يكون لهذين القسمين قسم ثالث فأشرف هذين القسمين القائم بذاته الغير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر.
ولما كان الباري تقدست أسماؤه أشرف الموجودات إذ هو سبب سائرها أوجب أن يكون أشرف الأمور وأعلاها الجوهر ولهذا قلنا إنه جوهر لا كالجواهر المخلوقة كما نقول إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وإلا لزم أن يكون قوامه بغيره ومفتقر في وجوده إلى غيره وهذا من القبيح أن يقال على الله تعالى فقلتلهم إنهم يقولون إنا إنما نمتنع من تسميه جوهرا لأن الجوهر ما قبل عرضا وما شغل الحيز ولهذا ما يطلق عليه القول بأنه تعالى جوهر قالوا إن الذي يقبل عرضا ويشغل حيزا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة المخلوقة.
فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال أما تسمية الباري جوهرا فهو من أهون ما ينكر على النصارى ولهذا كان من الناس من ينكره من جهة الشرع فقط أو اللغة ومنهم من ينكره من جهة العقل أيضا ومنهم من يراه نزاعا لفظيا وطائفة من المسلمين يسمونه جوهرا وجسما أيضا وذلك أن المسلمين في أسماء الله تعالى على طريقتين فكثير منهم يقول إن أسماءه سمعية شرعية فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة فإن هذه عبادة والعبادات مبناها على التوفيق والاتباع.
ومنهم من يقول ما صح معناه في اللغة وكان معناه ثابتا لهلم يحرم تسميته به فإن الشارع لم يحرم علينا ذلك فيكون عفوا والصواب القول الثالث وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء أو يخبر بها عنه فإذا دعي لم يدع إلا بالأسماء الحسنى كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا(6/3)
وَذَرُوا(6/4)
ص -7- الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}.
وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية أو يعبر عنه باسم له معنى صحيح لم يكن ذلك محرما.
وأما الذين منعوه من جهة العقل فكثير منهم من يقولون إن الجوهر ما شغل الحيز وحمل الأعراض والله سبحانه وتعالى ليس كذلك وهذا قول من نفى ذلك من أهل الكلام ومنهم من يقول الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته وواجب الوجود وجوده عين ذاته فلا يكونجوهرا وهذا قول ابن سينا وأمثاله من متأخري المتفلسفة.
وأما قدماء الفلاسفة كأرسطو وأمثاله فكانوا يسمونه جوهرا وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية فإن أرسطو كان قبل المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة ولهذا قال هؤلاء في(6/5)
ص -8- كتابهم نعجب ممن ينكر ذلك وهو قد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق.
وأما اللغة فإن لفظ الجوهر ليس من العربية العرباء ولهذا لا يعرف في كلام العرب المحض وإنما هو معرب كما ذكر ذلك الجوهري وغيره قال الجوهري الجوهر معرب الواحدةجوهرة فهو من العربية المعربة لا من العربية العرباء كلفظ سجيل واستبرق وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة وهذا اللفظ ليس موجودا في القرآن ومع(6/6)
ص -9- هذا فلما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف وتسمية القائم بنفسه أو الشاغل للحيز جوهرا فهو أمر اصطلاحي ليس هو من الأسماء اللغوية ولا العرفية العامة ولا الأسماء الشرعية.
وقد قيل إنه مأخوذ من كلام الأوائل كاليونان وغيرهم فإنهيوجد في كلامهم تسمية القائم بنفسه جوهرا وقد قيل سموه بذلك لأن جوهر الشيء أصله والقائم بنفسه هو الأصل وقد يسمون العرض القائم بغيره جوهرا وقيل لأن لفظ الجوهر فوعل من الجهر وهو الظهور والوضوح والقائم بنفسه يظهر ويعرف قبل أن يعرف ما قام به من الأعراض.
والناس متفقون على إثبات الأعيان القائمة بنفسها التي تسمى جواهر أو أجساما وتنازعوا في ثبوت الأعراض القائمة بها والنزاع عند محققيهم لفظي فإن عاقلا لا ينازع أن الجسم يتحرك بعد سكونه لكن منهم من يقول حركته ليست زائدة على ذاته ومنهم من يقول هي زائدة على ذاته وهو نظير نزاعهم في الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة.
والتحقيق أن مسمى الإنسان إذا أطلق دخل فيه صفاته وإذا ميز بين هذا وهذا قيل الذات والصفات ومن الناس من يخص بلفظ العرض ما لم يكن من الصفات لازما للموصوف والصفات اللازمة يسميها صفات ذاتية جوهرية ومنهم من يخص(6/7)
ص -10- بالعرض ما لا يبقى عنده زانين ويقول صفات المخلوق تسمى أعراضا لأنها لا تقبل زانين بخلاف صفات الله فإنها عنده باقية فلا تسمى أعراضا.
ومن نظار المسلمين من يسمي صفات كل موصوف أعراضا وإذا كان كذلك فلا يدخل في أسماء الله التي تذكر في أصول الإيمان التي يجب اعتقادها من الأسماء ما هو اصطلاح طائفة من الناس مع أنه يوهم معنى باطلا وهذا الوضع مما اضطرب فيه مع النصارى كثير من الناس.
منهم من يجعل الصفات أعيانا قائمة بنفسها وجواهر قائمة بنفسها.
ومنهم من يجعل الأعيان القائمة بنفسها صفات والصفات لا تقوم بأنفسها بل لا بد لها من موصوف تقوم به.
والأولون نوعان.
منهم من نفى الصفات وقال لو أثبتنا له حياة وعلما وقدرة لزم أن تكون هذه آلهة فإن القدم أخص وصفه فلو أثبتنا قديما ليست هي ألذات لزم أن يشارك ألذات في أخص وصفها فتكون ذاتا أخرى قائمة بنفسها وهذه طريقة كثير من نواة الصفات من مبتدعة المسلمين واليهود والنصارى احتجوا على نفي الصفات بأنا لو أثبتناها لزم أن تكون آلهة.
وقال من قال من المنتسبين إلى الإسلام أنا لو أثبتنا الصفات لقلنا بقول النصارى(6/8)
ص -11- حيث أثبتوا لله الأقانيم وحجة هؤلاء قائمة على النصارى وهم النوع الثالث فإنهم أثبتوا لله صفات جعلوها جوهراقائما بنفسه وقالوا إن الله موجود حي ناطق ثم قالوا حياته جوهر قائم بنفسه ونطقه وهو الكلمة جوهر قائم بنفسه وقالوا في هذا إنه إله من إله وهذا إله من إلاه فأثبتوا صفات لله وجعلوها جواهر قائمة بنفسها ثم قالوا الجميع جوهر فكان في كلامهم أمور كثيرة من الباطل المتناقض منهم من جعل الصفات جوهرا ومنهم من جعل الجواهر المتعددة جوهرا واحدا.
والذين قالوا من نفاة الصفات المعتزلة والجهمية إن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى هو متوجه على من جعل الصفات جواهر وهؤلاء هم النصارى يزعمون أن الصفات جواهر آلهة ثم قال هؤلاء ولا إله إلا الله فلا صفة له وقالت النصارى بل الأب جوهر إله والابن جوهر إله وروح القدس جوهر إله ثم قالوا والجميع إله واحد نفس تصور هذه الأقوال التصور التام يوجب العلم بفسادها وأما الرسل وأتباعهم فنطقوا أن لله علما وقدرة وغير ذلك من الصفات وثبتوا أن الإله إله واحد فإذا قال القائل عبدت الله ودعوت الله فإنما دعا وعبد إلها واحدا وهو ذات متصفة بصفات الكمال لم يعبد ذاتا لا حياة لها ولا علم ولا قدرة ولا عبد ثلاثة آلهة ولا ثلاثة جواهر بل نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة المتصفة بصفاته سبحانه وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على مسمى اسمه بل إذا قدر ذات مجردة عن الصفات فالصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في الذهن المجردة عن الصفات ليست الصفات زائدة عن الذات المتصفة بالصفات فإن تلك لا تحقق إلا بصفاتها فتقديرها مجردة عن صفاتها تقدير ممتنع.(6/9)
ص -12- وقد تنازع المثبتة هل يقال الصفات عين الذات أم يقال ليست عين الذات أم يقال لا يقال هن غير الذات ولا يقال ليست غير الذات وتنازعوا في مسمى الغيرين هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وغاية ذلك منازعات لفظية.
وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض فجعل بعضها زائدا على الذات وبعضها ليس بزائد على الذات وكان الفرق بحسب ما يتصوره لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه فإذا أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا هذه زائدة وإلا قالوا ليست زائدة وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة وصفة زائدة عليها بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات.
ولكن يجب الفرق بين أن يقال إن الصفات غير الذات وبين أن يقال إنها غير الله فإن اسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته فإذا قال القائل دعوت الله وعبدت الله فلم يدع ذاتا مجردة ولا صفات مجردة بل دعا الذات المتصفة بصفاتها فاسمه تعالى يتناول ذلك فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها فقد غلط ولكن في الأذهان والألسنة زلق في هذا الموضع كثيرا.
فإذا قيل الصفات مغايرة للذات لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا إن صفات الله غير الله فإن اسم الله يتناول صفاته.
فإذا قيل إنها غيره فهم من ذلك أنها مباينة له وهذا باطل ولهذا كان النفاة إذا(6/10)
ص -13- ناظروا أئمة المسلمين كما ناظروا الإمام أحمد بن حنبل في محنته المشهورة فقالوا له ما تقول في القرآن وكلام الله أهو الله أم غير الله عارضهم بالعلم وقال لهم ما تقولون في علم الله أهو الله أم غير الله وأجاب أيضابأن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله فإن الله لم يقل لكلامه هو أنا ولا قال إنه غيري حتى يقول القائل إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما سواه.
فإن كان الاحتجاج بالسمع فلا حجة فيه وإن كان الاحتجاج بالعقل فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات فإن أراد المريد بقوله هل كلامه وعلمه غيره أنه مباين له فليس هو غيرا له بهذا الاعتبار وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم فهو غير له بهذا الاعتبار وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يفهم المعنى الفاسد وأما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات فهم هؤلاء المتفلسفة(6/11)
ص -14- النفاة للصفات ومن أشبههم فإنهم قالوا إن رب العالمين عقل وعاقل ومعقول.
ولفظ العقل عندهم وإن كانوا يقولون هو جوهر قائم بنفسه فقد صرحوا أيضا بأنه نفسه علمه حتى صرحوا بأن رب العالمين علم كما صرح بذلك ابن رشد وغيره ونقلوه عن أرسطو وأن العقول العشرة كل منها علم فهو علم وعالم ومعلوم بل قالوا عقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة فجعلوه نفسه لذة وعقلا وعشقا وجعلوا ذلك هو العالم العاشق الملتذ وجعلوا نفس العلم نفس العشق ونفس اللذة فجعلوه نفسه صفات وجعلوه ذاتا قائمة بنفسها وجعلوا كل صفة هي الأخرى وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه.
ومنهم من لا يصرح بأنه نفسه علم فإنه يقول هو عاقل ومعقول وعقل يقول إنه يعلم نفسه بلا علم علمه بل هو العالم وهو المعلوم وهو العلم وحقيقة كلامهم تعود إلى قول أولئك فإنهم إذا قالوا إن العلم الذي يعلم به ذاته هو العالم وهو المعلوم فقد جعلوا نفس العلم نفس العالم ونفس العلم نفس المعلوم وهي حقيقة قول أولئك وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
الوجه الثاني: أن يقال لهم أنتم تقولون إنكم متبعون للكتب الإلهية وإذا كان كذلك لم ينبغ(6/12)
ص -15- لكم في شريعة إيمانكم من الأسماء إلا ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام.
والأنبياء لم يسم الله أحد منهم جوهرا وإنما سماه بذلك أرسطو وأمثاله وهؤلاء كانوا مشركين يعبدون الأصنام ولم يكونوا يعرفون الله المعرفة الصحيحة ولا يقولون إنه خالق السماوات والأرض ولا إنه بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير وإنما كانوا يعبدون الكواكب العلوية والأصنام السفلية ويعبدون الشياطين ويؤمنون بالجبت والطاغوت وإنما صاروا مؤمنين لما دخل إليهم دين المسيح صلوات الله عليه وسلامه بعد الإسكندر المقدونيصاحب أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة ويقال إنه آخر ملوكهم كان بطليموس وكانوا يسمون الملك من ملوكهم بطليموس كما يسمون القبط ملكها فرعون والحبشة ملكها النجاشي والفرس كسرى ونحو ذلك وحينئذ فعدولكم عن طريقة الأنبياء والمرسلين إلى طريقة الكفار والمشركين المعطلين من الضلال المبين.(6/13)
ص -16- وفي كتبهم أن بولص لما صار إلى أيثينية دار الفلاسفة وفيها دار الأصنام وجد مكتوبا على باب دار العلماء الإله الخفيالذي لا يعرف هو الذي خلق العالم.
فكانوا لا يعرفون رب العالمين فكيف يعدل عن طريقة رسل الله وأنبيائه كموسى وداود والمسيح إلى طريقة هؤلاء الكفار المشركين المعطلين.
ولكن النصارى ركبوا دينا من دينين من دين الأنبياء الموحدين ودين المشركين فصار في دينهم قسط مما جاءت به الأنبياء وقسط مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم كما أحدثوا ألفاظ الأقانيم وهي ألفاظ لا توجد في كلام الأنبياء وكما أحدثوا الأصنام المرقومة بدل الأصنام المجسدة والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب بدل الصلاة لها والصيام في وقت الربيع ليجمعوا بين الدين الشرعي والأمر الطبيعي وغير ذلك.
الوجه الثالث: قولهم إن الذي يشغل حيزا ويقبل عرضا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء فيقال الكلام فيالجواهر هل هي منقسمة إلى متحيز وغير متحيز أو كلها متحيزة متصل بالكلام على نفس الإنسان الناطقة.
فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن كما دل(6/14)
ص -17- على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة وكذلك سلف الأمة وأئمتها يعرفون وجود النفس التي هي روح الإنسان التي تفارق بدنه حين الموت كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة وإن كان كثير من أهل الكتاب يزعم أنها عرض منأعراض البدن أو جزء من أجزائه فهذا قول محدث في الإسلام لم يذهب إليه أحد من السلف والأئمة وإن كان محكيا عن أكثر المتكلمين فليس الذين قالوا هذا من سلف الأمة ولا أئمتها بل هم من أهل الكلام المحدث المذموم عند السلف وأئمة الأمة وكثير من المتفلسفة الداخلين في أهل الملل يقولون إن الذوات التي تسميها الأنبياء الملائكة هي التي تسميها المتفلسفة المشاؤون عقولا أو عقولا ونفوسا وهذا غلط عظيم كما قد بسط في موضعه.
فإن العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا حقيقة لها عند الرسل وأتباعهم بل ولا حقيقة لها في المعقول الصريح بل حقيقة كلامهم أنها أعراض قائمة بنفسها وقد صرحوا بأن واجب الوجود نفسه هو علم وجعلوا نفس العلم هو نفس العالم ونفس تصور هذا القول يكفي في العلم بفساده كما أن هؤلاء المتفلسفةأتباع أرسطو لا يعرفون الملائكة بل ولا الجن وإنما علمهم معرفة الأجسام الطبيعية وتكلموا في الإلهيات بكلام قليل نزر باطله أكثر من حقه كما قد بسط في موضع آخر.(6/15)
ص -18- وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو مبدع ما تحت فلك القمر وهذا كله من أعظم الكفر عند الرسل وأتباعهم أهل الملل فإن مضمون هذا أن ملكا من الملائكة خلق كل ما تحت السماء وملكا فوقه خلق كل ما سوى الله سبحانه وهذا من أعظم الكفر في دين المرسلين وأهل الملل المسلمين واليهود والنصارى قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
فأخبر أن الملائكة لا تسبقه بالقول ولا تعمل إلا بأمره فضلا عن أن يكون ملك خلق كل شيءوهؤلاء يقولون إن الوحي والكلام الذي جاءت به الرسل إنما هو فيض من هذا العقل الفعال على قلوب الأنبياء والله تعالى عند هؤلاء لم يكن يعرف موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا محمدا ولا غيرهم من الرسل ولا يعرف الجزئيات بل عند أرسطو وأتباعه أنه لا يعلم شيئا من الأشياء بل ولا خلق عندهم شيئا بل ولايقدر عندهم على خلق شيء فضلا عن أن يكون على كل شيء قدير وأن يكون أحاط بكل شيء علما.
وأرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام بمقدونية وأثينية وغيرهما من مدائن فلاسفة اليونان وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني وكان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة ولم يكن وزيرا لذي القرنين الذي بنى سد يأجوج ومأجوج(6/16)
ص -19- وعامة علم القوم علم الطبيعيات والحسابيات وأما العلم الإلهي وهو الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة وهو منتهى فلسفتهم فإنما تكلموا فيه على أمور كلية قسموا الوجود إلى جوهر وتسعة أعراض يجمعها بيتان.
زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان متكى في يده سيف نضاه فانتضى فهذه عشر مقولات سوا وهي الجوهر والكم والكيف والأين ومتى والإضافة والملك والوضع وأن يفعل وأن ينفعل.
وقد نازعه أتباعه وغيرهم في هذا الحصر وقالوا إنه لا دليلعليه ومنهم من جعلها ثلاثة ومنهم من قال غير ذلك وأثبت العلة الأولى بناء على حركة الفلك وأنه يتحرك حركة شوقية فلا بد له مما يتشبه به فالعلة الأولى هي غاية لحاجة الفلك إليها من جهة أنه متحرك ليتشبه بها كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وقد يقولون كتحريك المعشوق لعاشقه.
وكلام أرسطو في ذلك موجود وقد نقلته بألفاظه وتكلمت عليه في غير هذا الموضع وقد ذكر ذلك في مقالة اللام وهي آخر فلسفته ومنتهى حكمته.(6/17)
ص -20- وفي كتاب أثولوجيا ولم يثبت أن الرب مبدع لفلك وعلة فاعلة ولا يسمى واجب الوجود.
ولا قسم الموجودات إلى واجب قديم وممكن قديم بل ذلك فعل المتأخرين كابن سينا وأمثاله وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
والمتأخرون الذين سمعوا كلام أهل الملل أرادوا إصلاح كلامه وتقريبه إلى العقول لعله يوافق ما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول فتكلم عليه ثابت بن قرة وبين أن الفلك لا قوام له إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ولا قوام لحركته الإرادية إلا بمحرك لها.
وزعموا أن المحرك يجب أن لا يكون متحركا وقرروا ذلك بأدلة فاسدة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع فقالوا إنه إنما تحرك الفلك من جهة نسبة الفلك به وإن لم يكن هو القادر على تحريك الفلك بل ولا شعور منه بالفلك وعبر عن ذلك ابن رشد الفيلسوف وأمثاله فقالوا إنه يأمر الفلك بالحركة وقوام الفلك بطاعته لأمر الله مع أنه عندهم لا إرادة له ولا علم له بما يأمر به بل كونه آمرا وهو معنى كون الفلك يتشبه به كما يأمر المعشوق عاشقه أن يحبه وإن كان المعشوق لا شعور له ولا إرادة في أن يحبه ذلك.(6/18)
ص -21- ثم لو قدر أنه هو الآمر فإنما يصدر بسبب أمره مجرد حركة الفلك ولهذا شبهوا ذلك بأمر السلطان لعسكره بأمر يطيعونه فيه فجعلوا الحركات معلولة بهذا الاعتبار لم يثبتوا أنه أبدع شيئا من الأفلاك والعناصر والمولدات ولا العقول ولا النفوس لا أبدع أعيانها ولا صفاتها ولا أفعالها بل غايته أن يكون آمرا لها بالحركة كأمر الملك لعسكره مع أنه عندهم ليس آمرا بالحقيقة بل ولا علم له بشيء من الموجودات بل غاية ما يزعم أرسطو وأتباعه أن للفلك حاجة إليه من جهة تشبهه به وأما كونه هو علية موجبة للفلك فإنما يقول هذا من يقوله من متأخريهم كابن سينا.
وأما الفارابي فهو الذي وسع القول في هذا البابوقسم الوجود إلى واجب وممكن وجعل الأفلاك ممكنة واجبة به وفي ذلك من الفساد والاضطراب ما قد بسط في غير هذا الموضع
وبنى ابن سينا الكلام في نفي صفاته على كونه واجب الوجود.
وأما الفارابي في كتاب آراء المدينة الفاضلة وغير ذلك فاعتمد على كونه أول وكذا(6/19)
ص -22- أرسطو في كتاب أثولوجيا اعتمد على كونه هو الأول وشبهه بالأول في العدد وعلى ذلك بنوا نفي الصفات وإنما لو أثبتناها لخرج عن كونه أول مع أنهم لم يقيموا حجة على كونه أول بهذا المعنى الذي زعموه كما لم يقيموا حجة على كونه واجب الوجود بالمعنى الذي ادعوه بل تكلموا بألفاظ مجملة متشابهة تحتمل حقا وباطلا فإنه معلوم أن الله واجب الوجود بذاته موجود بنفسه وأنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال وهؤلاء جعلوا وجوب الوجود بمعنى أنه لا يتعلق بغيره فلا يكون له صفة وكونه أول بمعنى أول الأعداد الذي لا تعدد فيه فمعلوم أن الواحد والأول المجرد عن كل شيء إنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان.
فالذهن يقدر واحدا واثنين وثلاثة وأربعة إلى سائر الأعداد المجردة والعدد المجرد عن المعدود إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فأما الموجود في الخارج فإنما هي أعيان قائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها والأول منها هو ذات متصفة بصفاتها لا توجد في الأعيان ليس بذات قائمة بنفسها ولا صفة قائمة بغيرها بللا توجد ذات مجردة عن صفاتها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا هنا عليها لأن هؤلاء القوم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون علينا هذا.
فكل كلام هؤلاء النصارى يتضمن تعظيم الفلاسفة وأهل المنطق وأن من قرأ(6/20)
ص -23- كتبهم عرف بها من الحق في الإلهيات ما لا يعرفه سائر أهل الملل وهذا يدل على جهل هؤلاء النصارى بما جاءت به الرسل وبما يعرف بالعقل المحض.
أما الأول فلأن المسيح وأتباعه كالحواريين ومن اتبعهم ليسفيهم من عظم هؤلاء الفلاسفة ولا استعان بهم ولا التفت إليهم بل وهم عندهم من أئمة الكفر ورؤوس الضلال وكذلك موسى وأتباعه وكذلك محمد وأتباعه فليس في رسل الله وأنبيائه ولا في أتباعهم من يعظمهم ولا يستعين بكلامهم بل الرسل وأتباعهم متفقون على تضليلهم وتجهيلهم.
وأما العقليات فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية إذ كان كلامهم في ذلك فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات فضلا عما وراء ذلك.
فإعضاد هؤلاء النصارى هؤلاء المتفلسفة يدل على عظيم جهلهم بالشرعيات والعقليات وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع متعددة إذ كان الرد على الفلاسفة لا يختص به النصارى بل الكلام في ذلك معهم ومع من يعظمهم من أهل الملل عموما(6/21)
ص -24- ومعلوم أن المنتسبين إلى الإسلام من أتباع الفلاسفة كالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد إمامهم أحذق بهم وأعلم من النصارى.
وكتب الفلاسفة التي صارت إلى الإسلام من الطب والحساب والمنطق وغير ذلك هذبها المنتسبون إلى الإسلام فجاء كلامهم فيها خيرا من كلام أولئك اليونان.
والنصارى واليهود إنما يعتمدون في هذه العلوم على ما وصفه هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام مع أن هؤلاء عند علماء المسلمين جهالضلال في الإلهيات والكليات فكيف يكون سلفهم ومن يعظمهم من اليهود والنصارى.
ولما صار أولئك اليونان عارفين بالله موحدين له عابدين له مؤمنين بملائكته وكتبه ورسله لما دخل إليهم أتباع المسيح يدعونهم إلى دين الله الذي بعث به المسيح وكل من كان من أتباع المسيح غير مبدل لشيء من دينه قبل النسخ فإنه من المؤمنين المهتدين وهم من أولياء الله وهم من أهل الجنة.
ومن ظن أن كلام الرسل يوافق هؤلاء اليونان فإن ذلك يدل على جهله بما جاءت به(6/22)
ص -25- الرسل وبما يقول هؤلاء وإنما يوجد مثل هذا في كلام الملاحدة من أهل الملل ملاحدة اليهود والنصارى وغيرهم كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من الملاحدة المنتسبين إلىتشيع أو إلى تصوف كابن عربيوابن سبعين وأمثالهما وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها ونحو ذلك من الكلام المنسوب إلى أبي حامد قطعة من ذلك.(6/23)
ص -26- وهؤلاء يحتجون بالحديث المأثور: "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب"
وهذا الحديث كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث كأبي جعفر العقيلي(6/24)
ص -27- وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي الحسن الدارقطني وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم.
ثم لفظه لو كان صحيحا حجة على نقيض مطلوبهم فإنه قال أول ما خلق الله العقل بنصب أول وفي لفظ لما خلق الله العقل قال له.
فلفظه يقتضي أنه خاطبه في أول ما خلقه فحرفوا لفظه وقالوا أول ما خلق الله العقل بالضم وليس هذا لفظه ولكن لفظه يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ولهذا قال ما خلقت خلقا أكرم علي منك وهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره.
وعندهم هو أول المبدعات يمتنع أن يتقدمه شيء مع أنه وسائر العقول والأفلاك عندهم قديمة أزلية لم تزل ولا تزالثم قال فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب فجعل به هذه الأنواع الأربعة.
وعندهم أن العقل صدر عنه جميع العالم العلوي والسفلي وذلك أن لفظ العقل في الحديث سواء كان صحيحا أو ضعيفا هو العقل في لغة الأنبياء والمرسلين هو عقل الإنسان وهو عرض قائم به وهذه صفة قائمة بالإنسان ليس هو جوهرا قائما بنفسه.
والعقل في لغة هؤلاء الفلاسفة هو جوهر قائم بنفسه وأما النفس الفلكية فلهم فيها قولان
قيل إنها عرض قائم بالفلك وهو قول أكثرهم وقيل بل جوهر قائم بنفسه ولهذا(6/25)
ص -28- يميل ابن سيناء وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود هنا ذكر هؤلاء النصارى أن ثم جوهرا لطيفا غير الجوهر الكثيف ومثلوا ذلك بالنفس والعقل والضوء ثم لم يقيموا على ثبوت شيء من ذلك دليلا ولا دليل مما دلت عليه الكتب الإلهية فإن النفس الفلكية والعقول العشرة لم ينطق بها كتابولا رسول بل ولا دل عليها دليل عقلي وأدلة المتفلسفة عليها ضعيفة وإنما دل العقل على ما أخبرت به الرسل من الملائكة.
ولكن هؤلاء الذين حملوا كلام الرسل على ما يوافق قول المتفلسفة يجعلون اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية كما يجعلون العقل والقلم هو العقل الأول والعرش هو الفلك التاسع وغير ذلك مما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر.
وإذا لم يقيموا حجة شرعية ولا عقلية ما مثلوا به من الجواهر اللطيفة لم يكن لهم حجة على من قال إن الجوهر ما يشغل حيزا ويقبل عرضا ولما قرنوا النفس بالعقل كان ذلك ظاهرا في أنهم أرادوا النفس الفلكية.
فاما إن أرادوا النفس الإنسانية فهذه ثابتة أخبرت بها الرسل وأتباعهم كما قد بسط في موضعه لكن هذه لا تقرن بالعقل الذي هو جوهر والعقل صفة هذه وهو مصدر عقل يعقل عقلا وقد يراد بالعقل غريزة قائمة بها ويراد بالعقل العمل بالعلم كما قد بسط في موضع آخر.
الوجه الرابع: قولم وجوهر الضوء فيقال لهم إن أردتم بالضوء نفس الشمس والنار فهذا جسم متحيز يشغل حيزا ويقبل عرضا ليس هو من الجواهر اللطيفة الذي مثلتم بها وإن أردتمبالضوء الشعاع القائم بالهواء والجدران ونحو ذلك فليس(6/26)
ص -29- هذا بجوهر لا لطيف ولا كثيف بل هو عرض قائم بغيره.
الوجه الخامس: قولكم إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا كلام ممنوع وهو باطل أيضا فإن نفس الإنسان تقبل الأعراض القائمة بها وكذلك النفس الفلكية عند من أثبتها تقوم بها إرادات وتصورات متجددة ولفظ العرض في اصطلاح النظار يراد به ما قام بغيره سواء كان صفة لازمة أو عارضة وهذا موجب تقسيم النصارى كما هو قول الفلاسفة.
فإنهم قالوا ليس في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وأما عرض لأنه أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر وأما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه وهو العرض قالوا ولا يمكن أن يكون لهذين قسم ثالث.
وهذا الذي قالوه هو تقسيم أرسطو وأتباعه وهو يسمي المبدأ الأول جوهرا وهذا تقسيم سائر النظار لكن أكثرهم لا يدخلون رب العالمين في مسمى الجوهر ومنهم من يدخله فيه وبعض النزاع في ذلك لفظي.
وإذا كان الأمر على ما قالوه فالضوء القائم بالأرض والهواء عرض ليس جوهرا قائما بنفسه وهم قد جعلوه جوهرا وهذا تناقض بين وأيضا فالجواهر اللطيفة تقوم بها الأعراض كالحياة والعلم بل والرب على قولهم تقوم به الحياة والعلمفإذا سموه جوهرا لزمهم أن يسموا صفاته أعراضا إذا قالوا لا موجود إلا جوهر أو عرض.
فهذا يناقض قولهم الموجود إما جوهر وأما عرض فليس في الموجودات إلا هذا أو هذا بل موجب كلامهم أنها قائمة بذات الله فكيف بذات غيره.
وإذا قالوا: ويعنى بالأعراض الصفات العارضة أو القائمة بالأجسام كان هذا(6/27)
ص -30- مناقضا لقولهم الموجود إما جوهر وأما عرض مع قولهم إن الرب جوهر ثلاثة أقانيم والأقنوم ذات وصفة ومع قولهم إن الرب جوهر فقولهم يقتضي أن الرب جوهر تقوم به الأعراض فكيف غيره.
ثم يقال إذا قدر أنهم يدعون ثبوت جوهر لا يقوم به الأعراض فهذا اصطلاح لهم وافقوا فيه نفاة الصفات من الفلاسفة كأرسطو وذويه فإنهم يقولون إن الرب جوهر لا يتصف بشيء منالصفات الثبوتية لكن ليس هذا قول النصارى فتبين أنهم في قولهم إن الرب جوهر وفي قولهم إن من الجواهر ما لا يقوم به الصفات موافقون للمشركين الفلاسفة أرسطو وأتباعه لا موافقين للمسيح والحواريين وأنهم أثبتوا الصفات لله موافقة للمسيح والحواريين ثم جعلوه جوهرا ثم قالوا إن الجوهر اللطيف لا تقوم به الصفات وهذا قول الفلاسفة المشركين المعطلين وهذا تحقيق ما ذكرناه عنهم من أنهم ركبوا دينا من دين المسيح والحواريين ومن دين الكفار المشركين.
فهؤلاء إن عنوا بالعرض هذا فكل جوهر يقبل الصفات وإن أرادوا بالعرض ما تعنيه المتفلسفة بالصفات العرضية التي يفرقون بينها وبين الذاتية مع أن هذا ليس مقتضى كلامهم فقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن تقسيم هؤلاء الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتية وعرضية تقسيم باطل وتقدير أن يكون حقا فالنفس أيضا تقبل الصفات العرضية بل وكذلك كل جوهر سواء كان لطيفا أو كثيفا
فقولكم إن الجوهر اللطيف لا يقبل عرضا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة كلام باطل على كل تقدير(6/28)
ص -31- وإن عنوا بلفظ العرض شيئا آخر لم ينفعهم ذلك فإن المتكلمين الذين قالوا الجوهر هو ما يشغل حيزا ويقبل عرضا إنما أرادوا بالعرض ما يقوم بغيره من المعاني سواء كان لازما له أو عارضا له ومعلوم أن كل جوهر فإنه يقوم به المعاني والخالق تعالى عندهم يقوم به الحياء والعلم فإذا كان الخالق تعالى يقوم به المعاني وهم يسمونه جوهرا فكيف لا تقوم المعاني بغيره.
وهؤلاء يثبتون جوهرا لطيفا لا تقوم به الأعراض مع قولهم إنه تقوم به المعاني وهذا اصطلاح لهم لا يوافقهم عليه أحد ثم يتناقضون فيقولون الموجود إما جوهر وأما عارض وهذا تناقض.
ونظار المسلمين لهم في تسمية صفات الله القائمة به أعراضا نزاع بعضهم يسميها أعراضا وبعضهم ينكر هذه التسمية مع اتفاق هاتين الطائفتين على قيام الصفات به وجمهور نظار المسلمينلا يسمونه جوهرا وبعضهم يسميه جوهرا وأما من أنكر قيام الصفات به فذاك لا يسمي الله جوهرا ولا جسما.
وهؤلاء النصارى متناقضون تناقضا بينا ولهذا كان لهم طريقة لا يوافقهم عليها أحد من طوائف العقلاء ذلك يظهر بالوجه السادس: وهو أن الناس لهم في إثبات الصفات القائمة بذات الله تعالى قولان فسلف المسلمين وأئمتهم وجمهور الخلق من أهل الملل وغير أهل الملل يثبتون قيام الصفات بالله تبارك وتعالى وهل تسمى أعراضا على قولين.
والقول الثاني قول من ينفي الصفات مثل الملاحدة الجهمية ونحوهم من مبتدعة(6/29)
ص -32- المسلمين ومن وافقهم من الفلاسفة وبعض اليهود والنصارى فهؤلاء لا تقوم به المعاني والصفات عندهم فلا يقولون تقوم به الأعراض ثم من هؤلاء من يسميه جوهرا كأرسطو وأتباعه ومنهم من لا يسميه جوهرا كمتأخري الفلاسفة ابن سيناوأمثاله مع جمهور نظار المسلمين وغيرهم سواء سموه جوهرا أو لم يسموه.
وأما الجمهور القائلون بقيام المعاني به فبعضهم يسميها أعراضا وإن لم يسمه جوهرا وقد سماه بعضهم جوهرا وبعضهم ينفي أن يكون أعراضا وبعضهم يسكت عن النفي والإثبات فلا يسميها أعراضا ولا ينفي تسميتها بذلك أو يستفصل القائل عن كونها أعراضا.
وأما هؤلاء النصارى فقالوا جوهر ثلاثة أقانيم ووصفوه بالصفات الثبوتية وهي الحياة والنطق وقالوا الموجود إما جوهر وأما عرض فلزمهم أن تكون صفات الله أعراضا عندهم ثم قالوا الجوهر اللطيف لا يقوم به الأعراض ونزهوا الرب أن تقوم به الأعراض مع قولهم إنه جوهر تناقضوا تناقضا بينا حيث جمعوا بين كلام الرسل وأتباعهم وبين كلام المشركين المعطلين الفلاسفة فيما تلقوه عن المسيح فهو حق وما(6/30)
ص -33- ابتدعوه من قول من خالف الرسل فهو باطل فجمعوا في قولهم بين الحق والباطل وسلكوا مسلكا لا يعرف عن غيرهم وإيضاح هذا أن يقال في.
الوجه السابع: أن هذا الذي ذكروه تناقض بين فإنهم قالوا الموجود إما جوهر وأما عرض القائم بذاته هو الجوهر والقائم بغيره هو العرض.
ثم قالوا إنه موجود حي ناطق له حياة ونطق فيقال لهم حياته ونطقه إما جوهر وأما عرض وليس جوهرا لأن الجوهر ما قام بنفسه والحياة والنطق لا يقومان بأنفسهما بل بغيرهما فهما من الأعراض فتعين أنه عندهم جوهر يقوم به الأعراض مع قولهم إنه جوهر لا يقبل عرضافإن قيل أرادوا بقولهم لا يقبل عرضا ما كان حادثا قيل فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض فإن المعنى القديم الذي يقوم به ليس جوهرا وليس حادثا فإن كان عرضا فقد قام به العرض وقبله وإن لم يكن عرضا بطل التقسيم.
يبين هذا أنه يقال أنتم قلتم إنه شيء حي ناطق وقلتم هو ثلاثة أقانيم وقلتم المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة وقلتم في الأمانة نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر.(6/31)
ص -34- ثم قلتم إن الرب جوهر وقلتم إن الذي يشغل حيزاأو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا فصرحتم بأنه جوهر لا يقبل عرضا وقلتم ليس في الموجود شيء إلا وهو إما جوهر وأما عرض فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض.
فيقال لكم الابن القديم الأزلي المولود من جوهر أبيه الذي هو مولود غير مخلوق الذي تجسد ونزل جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره والموجود عندكم إما جوهر وأما عرض.
فإن قلتم: هو جوهر فقد صرحتم بإثبات جوهرين الأب جوهر والابن جوهر ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهرا ثالثا فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بنفسها وحينئذ فيبطل قولهم إنه إله واحد وإنه أحدي الذات ثلاثي الصفات وإنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم إذ كنتم قد صرحتم على هذا التقدير بإثبات ثلاثة جواهر وإن قلتم بل الابن القديم الأزلي الذي هو الكلمة التي هي العلم والحكمة عرض قائم بجوهر الأب ليس هو جوهرا ثانيا فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض وقد أنكرتم هذا في كلامكم وقلتم هو جوهر لا تقوم به الأعراض وقلم إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض فالخالق أولى وهذا تناقض بين لا حيلة فيه لمن تدبر كلامهم أوله وآخره.
فإن كلامهم هذا يوجب أنه جوهر واحد لا يقوم به شيء من الأعراض.(6/32)
ص -35- وهم يقولون جوهر واحد ثلاثة أقانيم وسواء سموها صفات أو خواص أو أعراضا أو قالوا الأقنوم هو الذات والصفة فيقال لهم الرب مع الأقانيم ثلاثة جواهر أو جوهر واحد له ثلاثة صفات أو جوهر لا صفة له فإن قالوا: ثلاثة جواهر أثبتوا ثلاثة وبطل قولهم إن الرب جوهر واحد وإله واحد وصرحوا بإثبات ثلاثة آلهة.
وإن قالوا بل جوهر واحد له ثلاث صفات فقد صرحوا أن هذا الجوهر تقوم به الصفات وإذا قامت به الصفات وقد سموه جوهرا وقالوا كل موجود إما جوهر وأما عرض لزمهم قطعا أن تكون صفاته أعراضا فبطل قولهم إنه جوهر لا يقوم به الأعراض وإن قالوا جوهر واحد لا تقوم به الصفات بطل قولهم له حياة ونطق وإذا نفوا الصفات أبطلوا التثليث والاتحاد وبطلت الأمانة مع مخالفتهم لكتب الأنبياء فإنها مصرحة بإثبات الصفات ومع مخالفتهم لصريح العقل.
والمقصود أنهم يتناقضون تناقضا بينا لأنهم أثبتوا جوهرا لا تقوم به الأعراض مع قولهم الموجود إما جوهر وأما عرض ومع قولهم إنه جوهر ثلاثة أقانيم فإذا لم تقم به الأعراض لم يكن له صفات فإن الصفة قائمة بغيرها ليست جوهرا بل هي إذا كان الموجود إما جوهر وأما عرض من قسم الأعراض لا من قسم الجواهر فكان هذا الكلام نافيا لقيام الصفات به مطلقا.
ثم قالوا بالأقانيم التي توجب إما إثبات صفات وأما إثبات جواهر ثلاثة قائمة بنفسها مع أنها إذا قامت بنفسها لزم اتصافها بالصفات ولا ريب أن القوم يجمعون في قولهم بين النقيضين بين إثبات الصفات ونفيها وبين إثبات ثلاثة جواهر ثلاثة آلهة وبين قولهم الإله الواحد.
وسبب ذلك أنهم ركبوا لهم اعتقادا بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة كقولهم إله واحد وبعضه من متشابه كلامهم كلفظ الابن وروح القدس وبعضهم من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين كقولهم جوهر لا تقوم به الصفات.(6/33)
ص -36- ومما يوضح ذلك أنك تجد عامة علماء النصارى فضلا عن عامتهم لا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره مع اتفاقهم على أن المسيح لم ينسخها كلها ولم يقرها كلها بل أخبرهم أنه إنما جاء ليتمها لا ليبطلها وقد أحل بعض ما حرم فيها كالعمل في السبت.
ومعلوم أن المقصود بالرسل تصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا فإذا كان عامة النصارى لا يميزون ما أمرهم به مما لم يأمرهم به ولا ما نهاهم عنه مما لم ينههم عنه مع اعترافهم بأنه أقر كثيرا من شريعة التوراة بل أكثرها وأحل بعضها فنسخه ورفعه وهم لا يعرفون هذا من هذا لم يكونوا عارفين بما جاء به المسيح ولا يعرفون ما أمرهم الله على لسان موسى وسائر الأنبياء فإنهم لا يجوز لهم العمل بكل ما في التوراة بل قد نسخ المسيح بعض ذلك باتفاقهم واتفاق المسلمين على ذلك.
ولا يجوز لهم تعطيل جميع شريعة التوراة بل يجب عليهم العمل بما لم ينسخه المسيح وعامتهم لا يعرفون ما نسخه ممالم ينسخه فلا يمكنهم العمل بالتوراة والانتفاع بها في الشرع حتى يعرفوا المنسوخ منها من غير المنسوخ.
وعامتهم لا يعرفون ذلك فلم يكونوا حينئذ على شريعة منزلة من الله لا من جهة المسيح ولا من جهة موسى فلم يعلموها بل كان ذلك مجهولا عند عامتهم وجمهورهم أو جميعهم فكانوا محتاجين إلى أن يعرفوا ما شرعه الله مما لم يشرعه فأرسل الله محمدا بشرع أمر فيه بمحاسن ما في الكتابين وعوض عما نسخه بما هو خير منه(6/34)
ص -37- فصل
ثم قالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان شريعة عدل وشريعة فضل لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال وجب أن يكون هو تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه الذي يضعه لأنه ليس شيء أكمل منه ولأنه جواد وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته لذلك وجب أن يجود بكلمته فلهذا وجب أن يجود بكلمته فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع لأن جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا بل دون أو أخذ منه فهو فاضل لا يحتاج إليه وفي هذا القول نفع والسلام على من اتبع الهدى وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد عليه السلام وما يحتجون به عن أنفسهم فإن يكن ما ذكروه صحيحا فلله الحمد وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك فقد جعلوني سفيرا والحمد لله رب العالمين.
والجواب على هذا من وجوه.(6/35)
ص -38- أحدها أن يقال بل الشرائع ثلاثة شريعة عدل فقط وشريعة فضل فقط وشريعة تجمع العدل والفضل فتوجب العدل وتندب إلى الفضل وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذيجمع فيه بين العدل والفضل مع أنا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل وكذلك المسيح أيضا أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأما من يقول إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين لكن قد يقال إن ذكر العدل في التوراة أكثر وذكر الفضل في الإنجيل أكثر والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة وهم أولياء الله نوعان أبرار مقتصدون ومقربون سابقون فالدرجة الأولى تحصل بالعدل وهي أداء الواجبات وترك المحرمات والثانية لا تحصل إلا بالفضل وهو أداء الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات.
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
فهذا عدل واجب من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}فهذا فضل مستحب مندوب إليه من فعله أثابه الله ورفع درجته ومن تركه لم يعاقبه.
وقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
فهذا عدل.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}.
فهذا فضل.
وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.
فهذا عدل.
ثم قال: {مَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}.
فهذا فضل.
وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}فهذا عدل.(6/36)
ص -39- ثم قال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
فهذا فضل.
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.
فهذا عدل.
ثم قال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
فهذا فضل.
وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
فهذا عدل.
ثم قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
فهذا فضل وهو سبحانه دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال والناس فيها إما محسن وأما عادل وأما ظالم فالمحسن المتصدق والعادل المعاوض كالبايع والظالم كالمرابي.
فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}.
ثم ذكر تحريم الربا فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
ثم لما أحل(6/37)
البيع ذكر المداينات وحكم البيع الحال والمؤجل وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن وختم السورة بأصول الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل وهو سبحانه بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس وهم ثلاثة إما مؤمن وأما كافر وأما منافق فذكر نعت المؤمنين ثم ذكر نعت الكافرين ثم ذكر نعت المنافقين ثم مهد أصول الإيمان فأمر بعبادة الله تعالى وذكر آياته وآلائه(6/38)
ص -40- ثم قرر نبوة رسله ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض.
ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق خص أهل الكتاب فخاطبهم خاطب اليهود أولا بني إسرائيل ثم النصارى ثم خاطب المؤمنين فقرر لهم قواعد دينه فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة ووكد الأمر بملة إبراهيم ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما ثم للذين آمنوا خصوصا.
ثم ذكر ما يتعلق بالقتل من القصاص وبالموت من الوصية ثم ذكر شرائع الدين فذكر صيام شهر رمضان وما يكون فيه من الاعتكاف ثم ذكر ما يتصل بشهر الصيام وهو أشهر الحج فذكر الحج وذكر حكم القتال عموما وخصوصا في البلد الحرام ولما ذكر الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة ذكر بعد ذلك الحلال والحرام في الفروج فذكر أحكام وطء النساء والحيض والإيلاء منهن والطلاق لهن واختلاعهن وذكر حكم الأولاد وإرضاعهم واعتداد النساء وخطبتهن في العدة وطلاقهن قبل الدخول وبعده ثم ذكر الصلوات والمحافظة عليهن ثم قرر المعاد وما يدل عليه من إحياء الموتى في الدنيا مرة بعد مرة.
فتضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين وأصوله وفروعه وافتتحها بالإيمان بالكتب والرسل ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل وختمها بالإيمان بالكتب والرسل فإن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الإيمان وقاعدته وجماعه.(6/39)
ص -41- وأمر فيها الخلق عموما وخصوصا وذكر فيها الإيمان بالخالق وآيات ربوبيته والإيمان بالمعاد والدار الآخرة والأعمال الصالحة التي أمر بها وأن من كان من أتباع الرسل من المؤمنين واليهود والنصارىوالصابئين قائما بهذه الأصول وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فهو السعيد في الآخرة الذي له أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بخلاف من بدل منهم الكتاب أو كذب بكتاب فإن هؤلاء من الكفار فمن كان متبعا لشرع التوراة قبل مبعث المسيح غير مبدل له فهو من السعداء وكذلك من كان متبعا لشرع الإنجيل قبل مبعث محمد غير مبدل له فهو من السعداء ومن بدل شرع التوراة أو كذب بالمسيح فهو كافر كاليهود بعد مبعث المسيح عليه السلام وكذلك من بدل شرع الإنجيل أو كذب محمدا فهو كافر كالنصارى بعد مبعث محمد.
فقدماء اليهود والنصارى الذين اتبعوا الدين قبل النسخ والتبديل سعدوا وأما اليهود والنصارى الذين تمسكوا بشرع مبدل منسوخ وتركوا اتباع الكتب والرسول الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم وعدلوا عن الشرع المنزل المحكم فهم كفارورد دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة مثل قول هؤلاء.
{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً}.
وقول هؤلاء لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وبين من كفر اليهود والنصارى مما عرف بهم حالهم.
لكن أكثر ما ذكر في هذه السورة اليهود كما أن أكثر ما ذكر في سورة آل عمران النصارى فإن هذه نزلت أول مقدمه المدينة وكان اليهود جيرانه(6/40)
ص -42- وآل عمران تأخر نزولها إلى آخر الأمر لما قدم عليه نصارى نجران وفيها فرض الحج لما طهر الله مكة من المشركين فكان أكثر دعائه في أول الأمر للمشركين لأنهم جيرانه بمكة ثم لليهود لأنهم جيرانه بالمدينة ثم للنصارى لأنهم كانوا أبعد عنه من ناحية الشام واليمن والمجوس أيضا لأنهم كانوا أبعد عنه بأرض العراق وخراسان.
وهذا هو الترتيب المناسب يدعو الأقرب إليه فالأقرب ثم يرسل رسله إلى الأبعد وهو كان أولا مشغولا بجهاد المشركين واليهود فلما صالح المشركين صلح الحديبية(6/41)
ص -43- وحارب يهود خيبر عقيب ذلك ففتحها الله عليه وقسمها بين الذين بايعوه تحت الشجرة الذين شهدوا صلح الحديبية تفرغ لمن بعد عنه فأرسل رسله إلى جميع من حواليه من الأمم.
أرسل إلى ملوك النصارى بمصر والشام والحبشة فإنه كانقد مات ملك الحبشة النجاشي الذي أسلم وأخبر الناس بموته يوم مات وخرج بأصحابه إلى ظاهر المدينة فصلى عليه بهم صلاة الجنازة كما كان يصلي على سائر موتى المسلمين وتولى بعد النجاشي آخر فأرسل إليه كما ذكره مسلم في صحيحه وأرسل إلى ملوك اليمن من المشركين واليهود والى ملوك العرب(6/42)
ص -44- وكان في العرب خلق كثير يهود وخلق كثير نصارى وخلق كثير مجوس فدعا جميع الخلق من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين عربهم وعجمهم
الوجه الثاني: أن يقال لهم الناس لهم في أمر الله ونهيه قولان مشهوران.
أحدهما: أنه يرجع إلى محض المشيئة لايعتبر فيه أن يكون المأمور به مصلحة للخلق وإن اتفق أن يكون مصلحة وإن كان الواقع كونه مصلحة وهذا قول من يقول لا يفعل ولا يحكم بسبب ولا لحكمة ولا لغرض.
والقول الثاني: وهو قول جمهور الناس إن الله إنما أرسل الرسل ليأمروا بما يصلحهم وينفعهم إذا فعلوه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}.
فإن قيل بالأول لم يسأل عن حكمة إرسال الرسل وإن قيل بالثاني ففي إرسال محمد من الحكموالمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها بخلاف شريعة من قبله فإن موسى بعث إلى بني إسرائيل وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى(6/43)
ص -45- وبعد موته ما هو معروف وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم.
ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن فإن القرآنفيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه وتفصيله ووصف الجنة والنار ما لم يذكر مثله في التوراة وفيه من ذكر قصة هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء ما لم يذكر في التوراة وفيه من ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته ووصف ملائكته وأصنافهم وخلق الإنس والجن ما لم يفصل مثله في التوراة وفيه من تقرير التوحيد بأنواع الأدلة مالم يذكر مثله في التوراة وفيه من ذكر أديان أهل الأرض ما لم يذكره مثله في التوراة وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات وتحريم الخبائث وشريعة التوراة فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم حرمت عليهم عقوبة لهم وفي شريعة القرآن من قبول الدية في الدماء ما لم يشرع في التوراة وفيها من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل.
وأما الإنجيل فليس فيه شريعة مستقلة ولا فيه الكلام على التوحيد وخلق العالم وقصص الأنبياء وأممهم بل أحالهم على التوراة في أكثر الأمر ولكن أحل المسيح بعض ما حرم عليهم وأمرهمبالإحسان والعفو عن الظالم واحتمال الأذى والزهد في الدنيا وضرب الأمثال لذلك.
فعامة ما امتاز به الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق المستحسنة والزهد المستحب(6/44)
ص -46- وتحليل بعض المحرمات وهذا كله في القرآن وهو في القرآن أكمل فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن أو ما هو أفضل منه وفي القرآن من العلوم النافعة والأعمال الصالحة من الهدى ودين الحق ما ليس في الكتابين لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء كما وضعوا لقسطنطين الأمانة ووضعوا له أربعين كتابا فيها القوانين فيها بعض ما جاءت به الأنبياء وفيها شيء كثير مخالف لشرع الأنبياء وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى وكذبوا رسله فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيروا به شريعة الإنجيل ولهذا التبست عند عامتهم شريعة الإنجيل بغيرها فلا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ولا ما شرعه مما أحدث بعده.
فالمسيح لم يأمرهم بتصوير الصور وتعظيمها ولا دعاء من صورت تلك التماثيل على صورته ولا أمر بهذا أحد من الأنبياءلا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم فضلا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل وهذا كان أصل الشرك في بني آدم من عهد نوح عليه السلام.
قال الله تعالى عن قوم نوح.
{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً}.
قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وغيره وهؤلاء كانوا قوماصالحين في قوم(6/45)
ص -47- نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم وقد ذكر ذلك المسيح وعلماء النصارى.
والمسيح عليه السلام لم يأمرهم بعبادته ولا قال إنه الله ولا بما ابتدعوه من التثليث والاتحاد والمسيح لم يأمرهم باستحلال كل ما حرمه الله في التوراة من الخبائث كالخنزير وغيره فاستحلوا الخبائث المحرمة وغيروا شريعة التوراة والإنجيل والمسيح لم يأمرهم بأن يصلوا إلى المشرق ولم يأمرهم أن يعظموا الصليب ولميأمرهم بترك الختان ولا بالرهبانية ولا بسائر ما ابتدعوه بعده.
ولهذا لما ظهر فساد دين النصارى صار بعض الناس كأبي عبد الله الرازي يقول لم يظهر الانتفاع بدين المسيح إلافي طائفة قليلة كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإن الدين الذي كان عليه جمهور النصارى ليس هو دين المسيح.(6/46)
ص -48- وتبين هذا.
بالوجه الثالث: وهو أن يقال هب إن شريعة الكتاب كانت كافية فإنما ذاك إذا كانت محفوظة معمولا بها ولم يكن الأمر كذلك بل كانت قد درس كثير من معالمها.
وقد اختلف أهل الكتاب في المسيح وغيره اختلافا عظيما كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
وقد قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
أي فاختلفوا.
{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}.
والوقت الذي بعث الله فيه محمدا لم يكن قد بقي أحد مظهرا لما بعث الله به الرسل قبله.
فبعثه على حين فترة من الرسل وطموس من السبل أحوج ما كان الناس إلى رسول كما في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" وكان الناس حين مبعث محمد إما أميين لا كتاب لهم يشركون بالرحمن ويعبدون الأوثان وأما أهل كتاب قد بدلوا معانيه وأحكامه وحرفوا حلاله وحرامه ولبسوا حقه بباطله كما هو الموجود فلو أراد الرجل أن يميز له أهل لا كتاب ما جاءت به(6/47)
ص -49- الأنبياء مما هم عليه مما أحدثوه بعدهم لم يعرف جمهورهم ذلك بل قد صار الجميع عندهم دينا واحدا.
فبعث الله تبارك وتعالى محمدا بالكتاب الذي أنزله عليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا فميز به الحق من الباطل والهدى من الضلال والغي من الرشاد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلى قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الوجه الرابع: إن شريعة التوراة تغلب عليها الشدة وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}.
وقال في وصف أمته.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وقال أيضا.
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ(6/48)
عَلَى الْكَافِرِينَ} فوصفهم بالرحمة للمؤمنين والذلة لهم والشدة على الكفار والعزة عليهم.
وكذلك كان صفة محمد صلى الله عليه وسلم نبيهم أكمل النبيين وأفضل الرسل بحيث قال: "أنا(6/49)
ص -50- محمد وأنا أحمد وأنا نبي الرحمة وأنا نبي الملحمة وأنا نبي التوبة وأنا الضحوك القتال"
فوصف نفسه بأنه نبي الرحمة والتوبة وأنه نبي الملحمة وأنه الضحوك القتال وهذا أكمل ممن نعت بالشدة والبأس غالبا أو باللين غالبا وقد قيل بسبب ذلك أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم واستعباد فرعون لهم فشرعت لهم الشدة لتقوى أنفهسم ويزول عنهم ذلك الذل.
ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم موسى: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
وأما أصحاب محمد فقال له قائلهم يوم بدر والله لا نقول لك كما قال قوم موسى.
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك(6/50)
ص -51- وكان الكلام قريبا من بدر والبحر من جهة الغرب وبرك الغماد مكان من يماني مكة بينه وبين مكة عدة ليال والكفار كانوا إذ ذاك بمكة وأصحابه من نايحة المدينة شامي مكة فمكة جنوبهم والبحر غربهم تقول لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه قالوا فلما نصر الله بني إسرائيل وأظهرهم ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا وقست قلوبهم وصاروا شبها بآل فرعون فبعث الله المسيح عليه السلام باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة.
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود وترهب عبادهم منفردين مع أن في ملوك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه اليهود.
فبعث الله محمدا بالشريعة الكاملة العادلة وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله وهذا كان خلق نبيهم كما في الصحيحين عن عائشة قالت ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله.(6/51)
ص -52- وفي الصحيح عن أنس أنه قال: "خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته" وكان بعض أهله إذا عتبوني على شيء يقول دعوه فلو قدر شيء لكان هذا مع قوله في الحديث الصحيح لما سرقت امرأة كانت من أشرف قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها فقالوا من يكلم فيها رسول الله فقالوا من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد فكلموه فكلمه فيها فقال: "يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمةبنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ففي شريعته من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل وفيها من الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة وهذا هو غاية الكمال ولهذا قال بعضهم بعث موسى بالجلال وبعث عيسى بالجمال وبعث محمد بالكمال.(6/52)
ص -53- الوجه الخامس: إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم وذلك نوعان.
أحدهما: أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه وإن فقدوه حصل لهم ضرر إما في الدنيا وأما في الآخرة وأما فيهما ولهذا كان في سورة النحل وهيسورة النعم في أولها أصول النعم وفي أثنائها كمال النعم.
والنوع الثاني: النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها كما أنهم في الآخرة نوعان أبرار أصحاب يمين ومقربون سابقون ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم.
وإذا كانت النعمة نوعين فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال محمد من هذين الوجهين وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين وأهل الكتاب منهم.
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب أتباع المسيح من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة بل كانوا قد بدلوا وغيروا وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيمومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.(6/53)
ص -54- بالشكر من قبل هذه النعمة فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
الوجه السادس: أن يقال قولهم إنا نعجب من هؤلاء القوم إلى آخر الفصل قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له بلالعجب من هذا العجب هو الواجب بل هو الذي لا ينقضي منه العجب وإن كل عاقل ليعجب من عرف دين محمد وقصده الحق ثم اتبع غيره ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى.
وذلك أن أهل الأرض نوعان أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب والهند والترك وغيرهم كالمجوس من الفرس وغيرهم كالصابئة من المتفلسفة وغيرهم.
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة محمد منفعة ظاهرة وأنه دعا جميع طوائف المشركين والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه بل(6/54)
ص -55- كانوا أحوج الناس إلى رسالته وأما أهل الكتاب فاليهود مسلمون لنا حاجة النصارى إليه وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه والنصارى تسلم لنا حاجة اليهود إليه وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه.
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن محمدا دعا سائر الطوائف غيرهم إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم إذ كانوا غير متهمين عليهم فإنهم معادون لمحمد وأمته معادون لسائر الطوائف وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة.
وقد اعترف الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه واعترفوا بأنه أفضل من ناموس موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليسهذا موضع ذكره بخلاف ناموس محمد فإنه لم يطعن فيه أحد منهم إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس محمد أفضل ناموس طرق العالم فكيف يعجب من مثل هذا الناموس.
الوجه السابع: أن يقال لأهل الكتاب خصوصا فيقال لليهود أنتم أذل الأمم فلو قدر أن ما أنتم عليه دين الله الذي لم يبدل فهو مغلوب مقهور في جميع الأرض فهل تعجبون من أن يبعث الله رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم فيبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله حتى يصير دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه منصورا ظاهرا بالحجة والبيان والسيف والسنان.(6/55)
ص -56- ويقال للنصارى أنتم لم تخلصوا دين الله الذي بعث به رسله من دين المشركين والمعطلين بل أخذتم من أصول المشركين والمعطلين من الفلاسفة وغيرهم ما أدخلتموه في دينكم وليس لكم على أكثر الكفار حجة علمية ولا يد قهرية بل للكفار في قلوبكم من الرعب والخوف والتعظيم ما أنتم به من أضعف الأمم حجة وأضيقها محجة وأبعدها عن العلم والبيان وأعجزها عن إقامة الحجة والبرهان تارة تخافون من الكفار والفلاسفة وغيرهم من المشركين والمعطلين فأما أن توافقوهم على أقوالهم وأما أن تخضعوا لهم متواضعين وتارة تخافون من سيوف المشركين فأما أن تتركوا بعض دينكم لأجلهم وأما أن تذلوا لهم خاضعين.
ففيكم من ضعف سلطان الحجة وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة.
ومثل هذا لا يرد على المسلمين فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدي ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة" وفي لفظ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره"
الوجه الثامن: أن يقال لأهل الكتاب لليهود أنتم لما كنتم متبعين لموسى عليه السلام كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ(6/56)
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.(6/57)
ص -57- وقوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} معطوف على لعنه الله أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت ليس هو داخلا في خبر جعل حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس.
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات وقتلوا الأنبياء وقال تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }.
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين
فالخراب الأول لما جاء بخت نصر وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة
والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة وقد قيل هذا تأويل قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.(6/58)
ص -58- فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار وبعث المسيح عليه الصلاة والسلام وهم كذلك.
ويقال للنصارى أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف وقتل من خالفه من المشركين واليهود لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح عليه السلام ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا المجوس وغيرهم مجوسا ومشركين وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق فلما بعث الله محمداأظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم وذكر عيوب نزههم الله عنها ما هو معروف حتى إن منهم من يقول أن سليمان كان ساحرا وداود كان منجما لم يكن نبيا إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه ففيهم من الكفر بالأنبياء من(6/59)
ص -59- جنس ما كان في سلفهم الخبيث.
وأما النصارى فمع غلوهم في المسيح وأتباعه يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم وتارة يقولون كما قال اليهود إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح مع أن اللفظ لا يدل على ذلك بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم وتارة يقولون إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة صار مثل واحد من الأنبياء ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم فعامة أهل الأرض مع محمد إما مؤمن به باطنا وظاهرا وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وأما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته وهم المنافقون وأما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض وأما خائفون من أمته.
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا يعرف فضله على كل من سواه.
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب لما خص الله به محمدا وأمته من الهدى ودين الحق وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل فهل يقول من عنده علم وعدل إنه لا فائدة في إرسال محمد وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته.(6/60)
ص -60- الوجه التاسع: أن يقال هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم وأنه عظم المسيح ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده ثم هو مع ذلك قال إن الله أرسله وأمره بذلك فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء فإنه أزال دين المشركين ودين المجوس وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليه أحد قبله من الأنبياء والمرسلين.
وإن كان صادقا فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف فيقال لكل صنف من الأمم أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد كان خيرا لهم مما هم عليه فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه.
فالمجوس والمشركون من العرب والسودان والترك وأصناف الخزر والصقالبة إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من(6/61)
ص -61- غيرهم ومن ليس من أهل الكتاب عامتهم معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى وحينئذ فيقال من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه وكل من قال إنه رسول الله فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه فوجب أن يكون من خير أهل الأرض بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه.
الوجه العاشر: إن الله سبحانه وتعالى كانت سنته قبل إنزالالتوراة إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده كما أهلك قوم نوح بالغرق وقوم هود بالريح الصرصر وقوم صالح بالصيحة وقوم شعيب بالظلة وقوم لوط بالحاصب وقوم فرعون بالغرق قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فلما أنزل التوراة أمر أهل الكتاب بالجهاد فمنهم من نكل ومنهم من أطاع.
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}.
فقول هؤلاء إن التوراة جاءت بالعدل وإلإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما لو قدر أنه حق إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا بل كانا متبعين علما وعملا وكان(6/62)
ص -62- أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض كأرض اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك ثم إن الله أظهر النصارى عليهم فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام.
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي والمؤمنين به وفرح بذلك مشركوا العرب وكانوا أكثر من المؤمنين لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك وأنه يومئذ.
{يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.
فأضاف النصرة إلى اسم الله ولم يقل بنصر الله إياهم وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به وكان ذلك أول ظهور دينه ثم أرسل طائفة من أصحابه(6/63)
ص -63- إلى غيرهم ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام ثم فتح هذه البلاد أصحابه فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته لا على يد اليهود والنصارى.
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه لكان مغلوبا مقهورا وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره فكيف وهو مبدل ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه فذاك مفضول مبدل وهذا فاضل لم يبدل وذلك مغلوب مقهور هذا مؤيد منصور وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله.
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد فكيف يقال إنه لا فائدة في إرساله.
الوجه الحادي عشر: قولهم لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده فيقال لهم جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس بل الحكم عندهم حكمان حكم الكنسية وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم والثاني حكم الملوك وليس هو شرعا منزلا بل هو بحسب آراء الملوك.
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماءوالأموال ونحو ذلك حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه فالحاكم الذي يحكم بين الناس متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل.
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه بل يدعه على اختياره وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم وظلم الأقوياء الضعفاء وفسدت الأرض قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ(6/64)
ص -64- النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}.
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد مع ذلك من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل.
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}وقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
وقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وقال أنس ما رفع للنبي أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو فكان يأمر بالعفو ولا يلزم الناس به ولهذا لما عتقت بريرة وكان لها أن تفسخ النكاح وطلب زوجها أن لا تفارقه شفع إليها أن لا تفارقه فقالت أتأمرني قال لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم
الوجه الثاني عشر: قولهم ولما كان الكمال الذي هو الفضللا يمكن أن يضعه إلا(6/65)
ص -65- أكمل الكُمّال فيقال لهم العدل والفضل لا يشرعه إلا الله فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله عز وجل.
يبين ذلك أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما وهم غاية ما قرروا به إلهية المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح كما كلم موسى من الشجرة ومعلوم عند كل عاقل لو كان هذا حقا أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل.
ثم يقال لهم بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل فكيف يقال إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله دون الذي يأمر بشرع العدل.
والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَلِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وأمر المسيح عليه السلام للمظلوم بالعفو عن الظالم ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب وموسى عليه السلام أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل وبين استحباب الفضل.
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة وهذا فيه رغبة بلا رهبة ولهذا قال المسيح عليه السلام.
{وَكُنْتُ(6/66)
عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.(6/67)
ص -66- ولهذا قيل إن المسيح عليه السلام بعث لتكميل التوراة فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه".
وإلا فلو قيل إن المسيح عليه السلام أوجب على المظلوم العفو عن الظالم بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إنلم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم ظالما مستحقا للذم والعقاب وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه.
وما أحسن كلام الله حيث يقول: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ(6/68)
ص -67- الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } سورة الشورى الآيات .
وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
ثم ندب إلى الفضل فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
ولما ندب إلى العفو ذكر أنه لا لوم على المنتصف لئلا يظن أن العفو فرض فقال: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}.
ثم يبين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال: {إإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد العاقبة ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعد ما ظلم.
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه.
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب وهذا حق لا يناقض شرع التوراة فعلم أن شرع(6/69)
الإنجيل لم يناقض شرع التوراة إذ كان فرعا عليها ومكملا لها وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم(6/70)
ص -68- ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد وأن المسيح هو الله. فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال(6/71)
ص -69- فصل
وجميع ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما من كلام الأنبياء عليهم السلام إنما يكون الحجة فيه علمية برهانية إذا أقاموا الدليل على نبوة من احتجوا بكلامه بأن بينوا إمكان النبوة ثم بينوا وقوعها في الشخص المعين بالطرق التي يستدل بها على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك بل احتجوا بذلك بناء على أنها مقدمة مسلمة يسلمها المسلمون لهم وهذا لا ينفعهم لوجوه.
أحدها: أن فيمن ذكروه من لم يثبت عند المسلمين أنه نبي كميخا وعاموص
الثاني: أن من ثبت عند المسلمين نبوته كموسى وعيسى وداود وسليمان لم يثبت عندهم أنهم قالوا جميع ما ذكروه من الكلام وأن ترجمته بالعربية هو ما ذكروه وأن مرادهم به ما فسروه.
الثالث: أن جمهور المسلمين لا يعلمون نبوة أحد من الأنبياء قبل محمد إلا بإخبار محمد بنبوتهم فلا يمكنهم التصديق بنبوة أحد من هؤلاء إلا بعد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا طلب هؤلاء من المسلمين أن يسلموا نبوة هؤلاء دون نبوة محمد لم يمكن المسلمون أن يسلموا ذلك لهم ولا يشرع ذلك للمسلمين لا عقلا ولا نقلا وحينئذ إذا لم(6/72)
ص -70- يقيموا الأدلة على نبوة أولئك لم يكونوا قد ذكروا لا حجة برهانية ولا حجة جدلية.
الرابع: أن المسلمين لم يصدقوا بنبوة موسى وعيسى إلا مع إخبارهما بنبوة محمد فإن سلموا أنهما أخبرا بنبوة محمد ثبتت نبوته ونبوتهما وإن جحدوا ذلك جحد المسلمون نبوة من يدعون أنه موسى وعيسى الذين لم يخبرا بمحمد.
الخامس: أن المسلمين وكل عاقل يمنع بعد النظر التام أن يقر بنبوة موسى وعيسى دون محمد إذ كانت نبوته أكمل وطرق معرفتها أتم وأكثر وما من دليل يستدل به على نبوة غيره إلا وهو على نبوته أدل فإن جحد نبوته يستلزم جحد نبوة غيره بطريق الأولى ولكن من قال ذلك هو متناقض كما يتناقض سائر أهل الباطل ولهذا قال تعالى في الكفار: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}(6/73)
ص -71- فصل
قد ذكرنا في جواب أول كتابهم بيان امتناع احتجاجهم بشيء من كلام محمد أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على ما يخالف دين المسلمين من دينهم ونحن نبسط هذا هنا فنقول لا ريب أن الباطل لا يقوم عليه دليل صحيح لا عقلي ولا شرعي سواء كان من الخبريات أو الطلبيات فإن الدليل الصحيح يستلزم صحة المدلول عليه فلو قام على الباطل دليل صحيح لزم أن يكون حقا مع كونه باطلا وذلك جمع بين النقيضين مثل كون الشيء موجودا معدوما.
وأهل الكتاب معهم حق في الخبريات والطلبيات ومعهم باطل وهو ما بدلوه في الخبريات سواء كان المبدل هو اللفظ أو معناه وما ابتدعوه أو ما نسخ من العمليات والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل فإن الذي اتفقت عليه هو الذي لا بد للخلق منه في كل زمان ومكان وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}وعامة السورة المكية كالأنعام والأعراف وآل حم وآل طس وآل آلر هي من الأصول الكلية التي اتفقت عليها شرائع المرسلين كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والصدق والعدل والإخلاص وتحريم الظلم والفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وعامة ما عندهم من النقول الصحيحة عن الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء توافق المنقول عن محمد شهد هذا لهذا وهذا لهذا وذلك من دلائل نبوة أولئك الأنبياء ومن دلائل نبوة محمد.
ولهذا يذكر الله ذلك بيانا لإنعامه بمحمد ودلالة لنبوته كقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي(6/74)
مَعَ الرَّاكِعِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } سورة آل عمران.(6/75)
ص -72- وقال تعالى لما قص قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِهَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
فذكر الإلاه نعمته وآيته بكونه لم يكن يعلمها هو ولا قومه أيضا كانوا يعلمونها لئلا يظن أنه تعلم ذلك من قومه فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك.
وقد علم بالنقل المتواتر أن محمدا ولد بمكة وبها نشأ بعد أن كان مسترضعا في بادية سعد بن بكر قريبا من الطائف شرقي مكة وهو صغير ثم حملته مرضعته حليمة السعدية إلى أمه بمكة لا يعلم شيئا من ذلك ولا هناك من يتعلم منه شيء من ذلك وأهل مكة يعلمون حاله وأنه لم يتعلم ذلك من أحد ثم أخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليم الله له.
فكان هذا من أعلام رسالته ودلائل نبوته عليهم أولا وعلى غيرهم آخرا فإنهم كانوا مشاهدين له يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من أحد وغيرهم يعلم ذلك بالأخبار المتواترة ويعلم أن قومه المكذبين له مع حرصهم على الطعن فيه(6/76)
ص -73- ومع علمهم بحاله لو كان قد تعلم من أهل الكتاب لقالوا هذا قد تعلمه منهم قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} والمقصود أنه نفى علم قومه بما أخبره فيه بيانا لآلاء الله التيهي آياته ونعمه فإن ذلك يدل على أنه لم يتعلم ذلك من قومه وفيه إنعام الله على الخلق بذلك.
وقال تعالى لما ذكر قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } سورة القصص الآية .
فنفى سبحانه شهادته لهذه الأمور الغائبة وحضوره لها تنبيها للناس على أنه أخبر بالغيب الذي لم يشهده ولم يعرفه من جهة أخبار الناس فإن قومه لم يكونوا يعلمون ذلك ولا عاشر غير قومه وكل من عرف حاله يعلم أنه لم يتعلم شيئا من ذلك لا من أهل الكتاب ولا ممن نقل عن أهل الكتاب.
فإذا كان محمد أخبر بمثل ما أخبرتبه الأنبياء قبله في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده وملائكته وأوليائه وأعدائه مع العلم بأن في هذه الأمور من التفاصيل الكثيرة ما يمتنع اتفاق(6/77)
اثنين عليه إلا عن مواطأة بينهما ومحمد وموسى صلوات الله عليهما وسلامه لم يتواطآ بل لم يواطىء محمد أحدا من الرسل قبله ولا واطؤه.
والخبر الكذب إما أن يتعمد صاحبه الكذب وأما أن يغلط فالكاذبان المتعمدان للكذب لا يتفقان في القصص الطويلة والتفاصيل العظيمة.
وكذلك الغالطان لا يتفق غلطهما في مثل ذلك بل الاثنان من آحاد الناس إذا أخبر كل منهما عن حال بلدة وأخبر(6/78)
ص -74- الآخر بمثل خبره من غير مواطأة عرف صدقهما فكيف بالأمور الغائبة التي لا يمكن العلم بها إلا من جهة الله تعالى فهذا من دلائل نبوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وأما القدر الذي يخالف ما جاء به محمد مما ينقلونه عن الأنبياء فهو نوعان.
أحدهما: ما وقع فيه النسخ من الشرائع وهذا لا يمنعه لكن المنسوخ مثل هذا بالنسبة إلى ما لم ينسخ من الكتاب نظير المنسوخ من القرآن والأحاديث النبوية فإنه قليل جدا بالنسبة إلى ما لم ينسخ وكذلك عامة ما أمر به موسى وداود والمسيح وغيرهم من الأنبياء إذا اعتبر بما أمر به محمد وجد عامة ذلك متفقا لم ينسخ منه إلا القليل.
والثاني: الخبريات وهذه قد ادعى بعض أهل الكتاب أن محمدا خالف بعض ما أخبرت به الأنبياء قبله وهذا باطل فإن أخبار الأنبياء لا يجوز أن تتناقض إذ هم كلهم صادقون مصدقون ومن علم أن محمدا رسول الله وأن موسى رسول الله وأن المسيح رسول الله علم أن أخبارهم لا تتناقض لكن قد يخبر هذا بما لم يخبر به هذا فيكون في أخبار أحدهم زيادات على أخبار غيره لا ما يناقض خبر غيره.
وما يذكره أهل الكتاب مما يناقض خبر محمد فهو عامته مما حرفوا معناه وتأويله وقليل منه حرف لفظه وأهل الكتاب اليهود والنصارى مع المسلمين متفقون على أن الكتب المتقدمة وقع التحريف بها إما عمدا وأما خطأ في ترجمتها وفي تفسيرها وشرحها وتأويلها وإنما تنازع الناس هل وقع التحريف في بعض ألفاظها وكل ما يدعي فيه مدع أن محمدا ناقضه فلا بد له من أن يثبت مقدمتين.
إحداهما: ثبوت ذلك اللفظ عن ذلك النبي.
والثاني: ثبوت معناه.
وكل من احتج بنقل عن نبي فلا بد له من هاتين المقدمتين الإسناد والمتن فلا بد له من(6/79)
ص -75- ثبوت اللفظ ولا بد له من ثبوت معنى اللفظ وإذا كان النقل ليس بلغة النبي بل بلغة أخرى فلا بد من الترجمة الصحيحة وعامة النصارى ليس عندهم كتب الأنبياء بلغة الأنبياء.
فإن موسى والمسيح ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل إنما كانوا يتكلمون باللغة العبرانية.
والمسيح كان عبرانيا لم يتكلم بغير العبرانية وإنما تكلم بغيرها كالسريانية واليونانية والرومية بعض من اتبعه وجمهور النصارى لا يعرفون بالعبرانية فلا يحسنون أن يقرؤوا بالعبرانية لا توراة ولا إنجيلا ولا غير ذلك وإنما يتكلمون بذلك الرومية أو السريانية أو غيرهما وإن كان فيهم قليل ممن يتكلم بالعبرانية بخلاف اليهود فإن العبرانية فاشية فيهم وحينئذ فمن احتج من أهل الكتاب بشيء من كلام الأنبياء المنقول بالرومية والسريانية أو بالعربية فإنه يحتاج مع إثبات النقل إلى إثبات الترجمة وصحتها فإنهم كثيرا ما يضطربون في الترجمة وصحتها ويختلفون في معناها.
فهذه مقدمات ثلاث لابد لهم منها في كل ما يحتجون من كلام الأنبياء ولو لم يدعو أنه معارض لما أخبر به محمد فكيف إذا ادعوا به تناقضه لما جاء به(6/80)
ص -76- محمد فإن قدر أنه ثبت أن نبيا أخبر بشيء امتنع قطعا أن يخبر محمد بنقيضه فإن فيما نقل عن محمد أيضا ما ليس بثابت لفظه مثل بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وفيما ثبت لفظه ما ليس معناه صريحا في المناقضة بل لا يدل على ذلك.
فكم ممن يفسر القرآن بما لا يدل عليه لفظ القرآن بل ولا قاله أحد من الصحابة بل ولا التابعين.
كمن يقول إن شعيبا النبي هو كان حمو موسى وليس في القرآن والسنة وكلام الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك وكمن يقول إن الرسل الذين أرسلوا إلى القرية كانوا من أتباع المسيح وليس في القرآن والمنقول عن الصحابة إلا ما يدل على نقيض ذلك.
وأما ما علم أن محمدا أخبر به فقد قامت الأدلة القاطعة اليقينية على صدقه وصدق ما أخبر به أعظم مما قامت على صدق غيره وصدق ما جاء به فمهما عارض ذلك علم أنه كذب على الأنبياء ولا يمكن أحدا من الخلق أن يذكر دليلا قطعيا على صحة ذلك النقل بل غايتهم أن يذكروا طريقا ظنيا لا يفيدهم إلا الظن والظن لا يعارض اليقين.
فما جاء به محمد يمكن صاحب النظر والاستدلال أن يعلمه علما يقينا لا يرتاب فيه.
وما يناقضه لا سبيل لأحد إلى العلم به ولا يتصور أن يقوم بقلبه منه إلا الظن والتقليد وكلاهما لا يناقض العلم فهذا أصل جامع ثم العارف يعبر عنه مع كل إنسان بحسب ما يوصل معناه إلى ذلك المخاطب والمقصود هنا أن يقال كل ما يحتجون به على مخالفة ما ثبت عن محمد لا يمكن أن يقوم لهم عليه دليل لا شرعي(6/81)
ص -77- ولا عقلي وهذا نعلمه مجملا.
ونحن نبين ذلك مفصلا فنقول ما يحتجون به إما أن يكون حجة عقلية وأما أن يكون سمعية أما العقليات فمعلوم أن الحجج العقلية الدالة على فساد ما يقوله النصارى أظهر مما يحتجون به على صحة دينهم ومن احتج منهم أو من اليهود بحجة عقلية على مخالفة شيء من دينه فلها أجوبة.
أحدها أن يبين أن ذلك يلزم غيره من الأنبياء فإنهم جاءوا بذلك أو بأعظم منه فلا يقدح أحد بحجة عقلية في محمد إلا كان ذلك قد جاء بطريق الأولى في غيره من الأنبياء كما بينا في الرد على الرافضة أنه لا يقدح أحد في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان إلا أمكن أن يقدح بمثل ذلك وبأعظم منه في علي فيمتنع أن يكون علي سليما من القوادح في إمامته إلا والثلاثة أسلم منه مما يقدح في إمامتهم.
ويمتنع أن يكون موسى وعيسى وداود برآء مما يقدح في نبوتهم إلا ومحمد أبرأ مما يقدح في نبوته وهذا كما لو احتج محتج بما في القرآن من إثبات الصفات فيقال له في التوراة وغيرها من كتب الأنبياء مثل ذلك وأعظم وإذا احتج بإنزال المتشابهات فيقال له في الكتب المتقدمة من التشابه أعظم مما في القرآن وهل ضلت النصارى إلا باتباع المتشابه من كلام الأنبياء وترك المحكم.
والثاني: أن يبين أن تلك الحجة لا تصلح أن يعارض بها ما جاءت به الأنبياء كما إذا أخذ بعض الناس يطعن في شيء من الشرائع بالرأي بين له أن ما ثبت عن الأنبياء لا يعارض(6/82)
ص -78- برأي ولا قياس.
الثالث: أن يبين فساد تلك الحجة العقلية إن كانت من باب الخبريات بين فسادها كما قد بسطنا القول في ذلك في كتاب درء تعارض العقل والشرع وذكرنا أن جميع ما يحتج به على خلاف نصوص الأنبياء من العقليات فإنه باطل وذكرنا ما يعتمد عليه النفاة من هذا الباب.
وإن كانت من باب الطلبيات فهي من باب الأمر والنهي فمنكان في مذهبه أنه لا يعلل أحكام الله ولا يقول إن حسن الأفعال وقبحها يعلم بالعقل ولا ينزه الله عن فعل ولا عن حكم بل يجوز عليه كل شيء وإنما ينفي ذلك بالخبر السمعي أو العادة فهذا يجيب بهذا الجواب لكن عامة القلوب والعقول لا تقبل هذا.
وأما على قول الجمهور فنبين ما في مأموراته من الحكم والمصالح وما في منهياته من المفاسد والضرر ونبين رجحان ما جاء به على ما يعارض به بل ونبين رجحان شرائع الأنبياء على سياسات سائر الأمم بل ونبين رجحان شريعة محمد على سائر الشرائع وهذا مبسوط في مواضع.
وأما إذا احتج أهل الكتاب على مناقضة محمد بحجة سمعية سواء كانت من كلامه أو كلام غيره من الأنبياء عليهم السلام كان الجواب من وجوه.
أحدها: أن يقال لهم لا يمكنكم أن تصدقوا بنبوة نبي من الأنبياء مع التكذيب(6/83)
ص -79- بمحمد والطريق الذي بها تثبت نبوة محمد بمثلها وبأعظم منها بل نحن نبين أن التصديق بنبوته أولى من التصديق بنبوة غيره وأن كل ما يستدل به على نبوة نبي فمحمد أحق بجنس ذلك الدليل من غيره وما يعارض به نبوة نبي فالجواب عن محمد أولى من الجواب عن غيره.
فهو مقدم فيما يدل على النبوة وفيما يجاب به عن المعارضة وهذه أكمل في ذلك فيمتنع مع العلم أو العدل أن يصدق بنبوة غيره مع التكذيب بنبوته كما يمتنع مع العلم والعدل في كل اثنين أحدهما أكمل من الآخر في فن أن يقر بمعرفة ذلك الفن للمفضول دون الفاضل وقولنا مع العلم والعدل لأن الظالم يفضل المفضول مع علمه بأنه مفضول والجاهل قد يعرف المفضول ولا يعرف الفاضل.
فإن كثيرا من الناس يعلمون فضيلة متبوعهم إما في العلم أو العبادة ولا يعرفون أخبار غيره حتى يوجد أقوام يعظمون بعض الأتباع دون متبوعه الذي هو أفضل منه عند التابع وغيره لا يعرفونه فهؤلاء ليس عندهم علم ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء يرجح المفضول لعدم علمه بأخبار الفاضل وهذا موجود في جميع الأصناف حتى في المدائن يفضل الإنسان مدينة يعرفها على مدينة هي أكمل منها لكونه لا يعرفها.
والحكم بين الشيئين بالتماثل أو التفاضل يستدعي معرفة كل منهما ومعرفة ما اتصف به من الصفات التي يقع بها التماثل والتفاضل كمن يريد أن يعرف أن(6/84)
ص -80- البخاري أعلم من مسلم وكتابه أصح أو أن سيبويه أعلم من الأخفش ونحو ذلك.
وقد فضل الله بعض النبيين على بعض كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
والكلام في شيئين.
أحدهما: في كون المفضول يستحق تلك المنزلة دون الفاضل وهذا غاية الجهل والظلم كقول الرافضة الذين يقولون إن عليا كان إماما عالما عادلا والثلاثة لم يكونوا كذلك.
وكذلك اليهود والنصارى الذين يقولون إن موسى كان رسولا ومحمد لم يكن كذلك فإن هذا في غاية الجهل والظلم بخلاف من اعترف باستحقاق الاثنين للمنزلة ولكن فضل المفضول فهذا أقل جهلا وظلما.
ومعلوم أن المرسلين يتفاضلون تارة في الكتب المنزلة عليهم وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم وتارة في الشرائع وما جاءوا به من العلم والعمل وتارة في أممهم.
فمن عنده علم وعدل فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل أو في معجزات محمد ومعجزات غيره أو في شريعته وشريعة غيره أو في أمته وأمة غيره وجد له من التفضيل على غيره ما لا يخفى إلا على مفرط في الجهل أو الظلم.
فكيف يمكن مع هذا أن يقال هو كاذب مفتر وغيره هو النبي الصادق نعم كثير من أهل الكتاب لم يعرفوا من أخباره ما يبين لهم ذلك كما أن كثيرا من الرافضة لم يعرفوا من أخبار الثلاثة ما يبين لهم فضيلتهم عن علي رضي الله عنه فهؤلاء في الجهل وطلب العلم عليهم فرض خصوصا أمر النبوة فإن النظر في أمر من قال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}.
مقدم على كل شيء إذ كان التصديق بهذا مستلزما لغاية(6/85)
ص -81- السعادة والتكذيب به مقتضيا لغاية الشقاوة فبالرسول يحصل الفرق بين السعداء والأشقياء وبين الحق والباطل والهدى والضلال والفرق بين أولياء الله وأعدائه.
وكما يسلك هذه الطريق العقلية في القياس والاعتبار بأن يعتبر حال محمد وكتابه وشرعه وأمته بحال غيره وكتابه وشرعه وينظر هل هما متماثلان أو متفاضلان وأيهما أفضل وإذا تبين أن حاله أفضل كان تصديقه أولى وامتنع أن يكون غيره صادقا وهو كاذب.
بل لو كانا متماثلين وجب كونه صادقا بل وكذلك لو كانا متقاربين وغيره أفضل فإن المتنبي الكذاب لا يقارب الصادق بل بينهما من التباين ما لا يخفى إلا على أعمى الناس.
وكذلك نسلك هذه الطريق في جنس الأنبياء عليهم السلام مطلقا وأممهم بأن تعرف أخبار من مضى من الأنبياء وأممهم وترى آثار هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } سورة يوسف الآيات.
وقال تعالى لما ذكر آل فرعون: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ(6/86)
الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}.
وكذلك قال تعالى: عن عاد{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.(6/87)
ص -82- وقال تعالى عن قوم شعيب: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
وإذا ذكر الأنبياء عليهم السلام قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}{سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}.
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}.
ومثل هذا في القرآن كثير فيذكر من حال الأنبياء وأتباعهم وما حصل لهم من الكرامة وما حصل للكفار بهم من الخزي والعذاب ما بين حسن حال هؤلاء وقبح حال هؤلاء.
ومما يوضح ذلك من أن من اعتبر حال أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وحال غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة تبين له أن حال أهل الملل أكمل بما لا يحصى وإذا نظر ما عند غير أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية كحكمة الهند واليونان والعرب من الجاهلية والفرس وغيرهم وجد ما عندهم بعض ما(6/88)
ص -83- عند أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية فيمتنع أن يكون علماء اليونان والهند ونحوهم على حق وهدى وعلماء المسلمين واليهود والنصارى على باطل وضلال وكذلك يمتنع أن تكون الأمة لها علم نافع وعمل صالح وأهل الملل ليسوا كذلك.
ففي الجملة لا يوجد في غير أهل الملل من علم نافع وعمل صالح من حكمة علمية وعملية إلا وذلك في أهل الملل أكمل ولا يوجد في أهل الملل شر إلا وهو في غيرهم أكثر.
وهؤلاء فلاسفة اليونان الذين قد شهروا عند كثير من الناس باسم الحكمة وحكمتهم كحكمة سائر الأمم نوعان فطرية وعملية والعملية في الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدائن وكل من تأمل ما عند اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل من سياسة الأخلاق والمنزل والمدائن وجده خيرا مما عند أولئك بأضعاف مضاعفة.
فإن أولئك عمدة أمرهم الكلام على قوى النفس الشهوية والغضبية وقوة العلم والعدل كأمور من جنس آداب العقلاء ليس عندهم من معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله ومن عبادته وحده لا شريك له شيء له قدر والذي عندهم من العلوم الطبيعية والحسابية ليس مما ينفع بعد الموت إلا أن يستعان به على ما ينفع بعد الموت والذي عندهم من العلم الإلهي قليل جدا مع ما فيه من الخطأ الكثير.
وكل ما عندهم من علم نافع وعمل صالح فهو جزء مما جاءت به الأنبياء عليهم السلام فيمتنع أن يكون هؤلاء المسمون بالحكماء وأتباعهم على حق في الاعتقاد وصدق في الأقوال وخير في الأعمال كما هو غاية مطلوبهم والأنبياء وأتباعهم ليسوا كذلك.
واعتبر ذلك بمن يعرف من خاصة هؤلاء وعامتهم وخاصة هؤلاء وعامتهم وإن كان بينهما من التفاوت ما بين أهل الجنة وأهل النار فالاعتبار في مثل ذلك مما جاء به التنزيل.
قال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}.
والمقصود أنه بالاعتبار والقياس العقلي والموازنة يوزن الشيء بما يناظره ويعتبر(6/89)
ص -84- به قياس الطرد وقياس العكس.
فيظهر لكل من تدبر ذلك أن أهل الملل أولى بالحق والصدق والخير من غيرهم وإن كان لأولئك من الحكمة ما يناسب أحوالهم وحكماؤهم أفضل من عوامهم وهم خير من الكفار بالرسل الذين ليس فيهم خير أصلا وهذا مما استفادوه أتباع الأنبياء منهم فيكون هذا من دلائل نبوتهم وأعلام رسالتهم استدلالا بالأثر على المؤثر وبالمعلول على علته.
وكذلك من تدبر حال المسلمين وحال اليهود والنصارى تبين له رجحان حال المسلمين فيكون هذا من دلائل نبوة محمد وأعلام رسالته.
وقد ذكرنا في غير هذا الوضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة وذكرنا طرقا متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبي الكذاب غير طريق المعجزات فإن الناس كما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء يسر الله أسبابه كما يتيسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهواء أعظم منها إلى الماء كان مبذولا لكل أحد في كل وقت ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت كان وجود الماء أكثر.
وكذلك لما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك أقام الله سبحانه من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح وقبح حال من خالفهم وشقاوته وجهله وظلمه ما يظهر لمن تدبر ذلك.
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.(6/90)
ص -85- وهذا الذي ذكرناه من اعتبار الشيء بنظرائه وموافقيه وأشباهه واعتباره بأضداده ومخالفيه حتى يعرف في المتشابهين أيهم أكملوأفضل وفي المختلفين أيهم أولى بالحق والهدى والعدل موجود في سائر الأمور علمها وعملها كعلم الطب والحساب والفقه وغير ذلك فيمتنع مع العلم والعدل أن يقال جالينوس كان طبيبا وأبقراط لم يكن طبيبا أو أن يقال تاميطميوس كان فيلسوفا وأرسطو لم يكن فيلسوفا أو أن يقال الأخفش كان نحويا وسيبويه لم يكن نحويا أو أن يقال زفر والحسن بن زياد ومحمد بن الحسن كانوا فقهاء وأبو حنيفة لم يكن فقيها أو أن أشهب وابن القاسم وابن وهب كانوا فقهاء ومالك لم يكن فقيها أو أن المزني(6/91)
ص -86- والبويطي وحرملة كانوا فقهاء والشافعي لم يكن فقيها وأن أبا داود وإبراهيم الحربي وأبا بكر الأثرم كانوا فقهاء وأحمد بن حنبل لم يكن فقيها أو أن عليا كان إمام عدل وأبا بكر وعمر لم يكونوا إمامي عدل أو أن نور الدين الشهيد كان عادلا وعمر بن عبد العزيز لم يكن عادلا أو أن كوشيار كان يعلم الهيئة وبطليموس لم يكن يعرف الهيئة أو(6/92)
ص -87- أن النابغة الجعدي كان شاعرا والنابغة الذبياني لم يكن شاعرا أو أن يقال إن القمر مستنير والشمس ليست مستنيرة أو أن عطارد نجم ثاقب وزحل ليس بنجم ثاقب أو أن مسلما كان عالما بالحديث والبخاري لم يكن كذلك أو أن كتابه أصح من كتاب البخاري ونحو ذلك مما يطول تعداده(6/93)
ص -88- فصل
والنصارى لهم سؤال مشهور بينهم وهو أن فيهم من يقول محمد لم تبشر به النبوات بخلاف المسيح فإنه بشرت به النبوات وزعموا أن من لم تبشر به فليس بنبي وهذا السؤال يورد على وجهين.
أحدهما: أنه لا يكون نبيا حتى تبشر به.
والثاني: أن من بشرت به أفضل أو أكمل ممن لم تبشر به أو أن هذا طريق يعرف به نبوة المسيح اختص به.
وأنتم قد قلتم ما من طريق تثبت به نبوة نبي إلا ومحمد تثبت نبوته بمثل تلك الطريق وأفضل فأما هذا الثاني فيستحق الجواب وأما الأول نجيبهم عنه أيضا لكن هل تجب الإجابة عنه فيه قولان بناء على أصل وهو أنه هل من شرط النسخ الإشعار بالمنسوخ ولنظار المسلمين فيه قولان:
أحدهما: أنه لا بد إذا شرع حكما يريد أن ينسخه فلا بد أن يشعر المخاطبين بأنه سينسخه لئلا يظنوا دوامه فيكون ذلك تجهيلا لهم.
والثاني: لا يشترط ذلك.
وأيضا فمن بعث بعد موسى هل يجب أن يكون مبشرا به فيه قولان.
وبكل حال فلا ريب عند علماء المسلمين أن المسيح عليه السلام بشر بمحمد كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.(6/94)
ص -89- وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِيكَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
وقال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } سورة الفتح الآية.
وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}.
في موضعين من القرآن أحدهما في التوحيد والقرآن والآخر في القبلة والقرآن ومحمد.
فقال في الأول: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } سورة الأنعام الآيتان و وهذا في سورة الأنعام وهي مكية.
وقال في سورة البقرة(6/95)
وهي مدنية: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } سورة البقرة(6/96)
ص -90- وقال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}.
وقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّاعَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}وإذا كان كذلك فيقال معلوم باتفاق أهل الملل أنه ليس من شرط نبوة كل نبي أن يبشر به من قبله إذ النبوة ثابتة بدون ذلك لا سيما ونوح وإبراهيم وغيرهما لم(6/97)
يعلم أنه بشر بهما من قبلهما وكذا عامة الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل لم تتقدم بهم بشارات إذ كانوا لم يبعثوا بشريعة ناسخة كداود وأشعيا وغيرهما.(6/98)
ص -91- وإنما قد يدعى هذا فيمن جاء بنسخ شرع من قبله كما جاء المسيح بنسخ بعض أحكام التوراة وكذلك محمد ففي مثل هذا يتنازع المتنازعون من علماء المسلمين وغيرهم هل يشترط أن يكون قد أخبر بذلك قبل النسخ على قولين.
وحينئذ فالمسلمون يقولون شريعة التوراة والإنجيل لم تشرع شرعا مطلقا بل مقيدا إلى أن يأتي محمد وهذا مثل الحكم المؤقت بغاية لا يعلم متى يكون كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.
وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}ومثل هذا جائز باتفاق أهل الملل.
وهل يسمى هذا نسخا فيه قولان قيل لا يسمى نسخا كالغاية المعلومة كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
فإن ارتفاع وجوب الصيام بمجيء الليل لا يسمى نسخا باتفاق الناس.
فقيل إن الغاية المجهولة كالمعلومة وقيل بل هذا يسمى نسخا ولكن هذا النسخ جائز باتفاق أهل الملل اليهود وغيرهم وعلى هذا فثبوت نبوة المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما لا تتوقف على جواز النسخ المتنازع فيه فإن ذلك إنما يكون في الحكم المطلق والشرائع المتقدمة لم تشرع مطلقا.
وسواء قيل إن الإشعار بالناسخ واجب أو قيل إنه غير واجب فعلى القولين قد أشعر أهل الشرع الأول بأنه سينسخ فإن موسى بشر بالمسيح وكذلك غيره من الأنبياء وموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء بشروا بمحمد وإذا كان هذا هو الواقع فنبوة المسيح محمد صلى الله عليهما وسلم لا تتوقف على ثبوت النسخ المتنازع فيه.
وحينئذ فنقول العلم بنبوة محمد ونبوة المسيح لا تتوقف على العلم بأن من قبلهما بشر بهما بل طرق العلم بالنبوة متعددة فإذا عرفت نبوته بطريق من الطرق ثبتت نبوته عند من(6/99)
ص -92- علم ذلك وإن لم يعلم أن من قبله بشر به لكن يقال إذا كان الواجب أو الواقع أنه لا بد من إخبار من قبله بمجيئه وأن الإشعار بنسخ شريعة من قبله واجب أو واقع صار ذلك شرطا في النبوة ومن علم نبوته علم أن هذا قد وقع وإن لم ينقل إليه.
فإذا قال المعارض عدم إخبار من قبله به يقدح في نبوته وأنه إذا قدر أنه لم يخبر به من قبله والإخبار شرط في النبوة كان ذلك قدحا قيل الجواب هنا من طريقين.
أحدهما: أن يقال إذا علمت نبوته بما قام عليها من أعلام النبوة فأما أن يكون تبشير من قبله لازما لنبوته واجبا أو واقعا وأما أن لا يكون لازما.
فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه وإن كان لازما علم أنه قد وقع وإن كان ذلك لم ينقل إلينا إذ ليس كل ما قالته الأنبياء المتقدمون علمناه ووصل إلينا وليس كل ما أخبر به المسيح ومن قبله من الأنبياء وصل إلينا وهذا مما يعلم بالاضطرار.
ولو قدر أن هذا ليس في الكتب الموجودة لم يلزم أن المسيح ومن قبله لم يذكروه بل يمكن أنهم ذكروه وما نقل ويمكن أنه كان في كتب غير هذه ويمكن أنه كان في نسخ غير هذه النسخ فأزيل منبعضها ونسخت هذه مما أزيل منه وتكون تلك النسخ التي هو موجود فيها غير هذه فكل هذا ممكن في العادة لا يمكن الجزم بنفيه.
فلو قدر أنه ليس في هذه الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب لم يقطع بأن الأنبياء لم يبشروا به فإذا لم يمكن لليهود أن يقطعوا بأن المسيح لم يبشر به الأنبياء ولا يمكن أهل الكتاب أن يقطعوا بأن محمدا لم يبشر به الأنبياء لم يكن معهم علم بعدم ذلك بل غاية ما يكون عند أحدهم ظن لكونه طلب ذلك فلم يجده.
ودلائل نبوة المسيح ومحمد قطعية يقينية لا يمكن القدح فيها بظن فإن الظن لا يدفع اليقين لا سيما مع الآثار الكثيرة المخبرة بأن محمدا كان مكتوبا باسمه الصريح فيما هو منقول عن الأنبياء كما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو أخبرنا ببعض(6/100)
ص -93- صفة رسول الله في التوراة فقال: "إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة الموجاء فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا إله إلا الله".
ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة ويراد به الجنس فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن" والمراد به قرآنه وهو الزبور ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد.
وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد أناجيلهم في صدورهم فسمى الكتب التي يقرؤونها وهي القرآن أناجيل وكذلك في التوراة إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى فسمى الكتاب الثاني توراة.
فقوله أخبرني بصفة رسول الله في التوراة قد يراد بها نفس الكتب المتقدمة كلها وكلها تسمى توراة ويكون هذا في بعضها.
وقد يراد به التوراة المعينة وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه(6/101)
ص -94- النسخ فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا.
لكن هذا عندهم في نبوة أشعيا قال فيها عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم بالوصايا لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيي القلوب الغلف وما أعطيه لا أعطي أحدا يحمد الله حمدا جديدا يأتي من أقصى الأرض وتفرح البرية وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى مشقح ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة بل يقوى الصديقين وهو ركن المتواضعين وهو نور الله الذي لا يطفى أثر سلطانه على كتفيه.
وهذه صفات منطبقة على محمد وأمته وهي من أجل بشارات الأنبياء المتقدمين به.
ولفظ التوراة قد عرف أنه يراد به جنس الكتب التي يقر بها أهل الكتاب فيدخل في ذلك الزبور ونبوة أشعيا وسائر النبوات غير الإنجيل.
فإن كان المراد بلفظ التوراة والإنجيل في القرآن هذا المعنى فلا ريب أن ذكر النبي في التوراة كثير متعدد.
الطريق الثاني من الجواب: أن نبين أن الأنبياء قبله بشروا به وهذا هو دليل مستقل على نبوته وعلم عظيم من أعلام رسالته وهذا أيضا يدل على نبوة ذلك النبي إذ أخبر بأنباء من الغيب مع دعوى النبوة ويدل على نبوة محمد لإخبار من تثبت نبوته بنبوته هذا إذا وجد الخبر ممن لا نعلم نحن نبوته ولم يذكر في(6/102)
ص -95- كتابنا.
وأما من ثبتت نبوته بطرق أخرى كموسى والمسيح فهذا مما تظاهر فيه الأدلة على المدلول الواحد وهو أيضا يتضمن أن كل ما ثبتت به نبوة غيره فإنه تثبت به نبوته وهو جواب ثان لمن يجعل ذلك شرطا لازما لنبوته(6/103)
ص -96- فصل
ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه.
أحدها: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب من ذكره.
الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب وغيرها من كتب أهل الكتاب ممن أسلم ومن لم يسلم بما وجدوه من ذكره فيها.
وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه وأنه رسول الله وأنه موجود عندهم وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه من غير رهبة ولا رغبة.
ولهذا قيل إن المدينة فتحت بالقرآن لم تفتح بالسيف كما فتح غيرهاومثل ما تواتر عن أخبار النصارى بوجوده في كتبهم مثل أخبار هرقل ملك الروم والمقوقس ملك مصر صاحب الاسكندرية والنجاشي ملك الحبشة والذين جاؤوه بمكة وقد ذكر الله ذلك في القرآن في قوله عن اليهود.
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى(6/104)
ص -97- الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
وقال عن النصارى{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا}.
وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحد وأما كانوا يقولون فيه فقال معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته فقال سلام بن مشكم(6/105)
ص -98- أخو بني النضير ما جاءنا شيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وقال أبو العالية وغيره كانوا يعني اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسد اللعرب وهم يعلمون أنه رسول الله فأنزل الله هذه الآيات: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري عن رجال من قومه قالوا: "ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه أنا كنا نسمع من رجال يهود كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل الكتاب عندهم علم ليس عندنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا قد تقارب زمان نبي يبعث الآن(6/106)
ص -99- نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات التي في البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
قال ابن إسحاق وحدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال والله أني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهوديا يقول على أطميثرب يصرخ يا معشر اليهود فلما اجتمعوا عليه قالوا ما لك ويلك قال طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة.
وروى أبو زرعة بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد(6/107)
ص -100- عن أبيه زيد بن حارثة قال خرج رسول الله وهو مردفي ثم أقبل رسول الله في يوم حار من أيام مكة حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فقال له رسول الله: "يا ابن عمرو ما لي أرى قومك قد شنفوك قال أما والله إن ذلك لغير ثائرة كانت مني فيهم لكن أراهم على ضلال".
فخرجت أبتغي هذا الدين فأتيت إلى أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فخرجت حتى آتي أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت ما هذا بالدين الذي أبتغي فقال لي حبر من أحبار الشام إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له فقال إن كل من رأيت في ضلالة فمن أنت قلت أنا من أهل بيت الله ومن أهل الشوك والقرظ.
فقال إنه قد خرج في بلدك نبي أو خارج قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه وآمن به فرجعت فلم أحس شيئا بعد قال فأناخ رسول الله بعيره فقدمنا إليه السفرة قال زيد ما آكل شيئا ذبح لغير الله فتفرقا فجاء رسول الله فطاف بالبيت قال زيد وأنا معه وكان صنمان من نحاس يقال لهما إساف(6/108)
ص -101- ونائلة مستقبل الكعبة يتمسح بهما الناس إذا طافوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسل: "لا تمسهما ولا تمسح بهما".
قال زيد: "فقلت في نفسي وقد طفنا لأمسنهما حتى أنظر ما يقول فمسستهما" فقال رسول الله: "ألم تنهه فلا والذي أكرمه ما مسستهما حتى أنزل الله عليه الكتاب".
ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام فقال رسول الله إنه يبعث أمة وحده.
وروى البخاري حديث خروج زيد بن عمرو قريبا من هذا اللفظ.
وقال ابن إسحاق حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن(6/109)
ص -102- لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال كان بين أبياتنا يهودي فخرج على نادي قومه بني عبد الأشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد موت وذلك قبل مبعث رسول الله فقالوا ويحك يا فلان أو ويلك وهذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون من أعمالهم قال نعم والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطينون علي وإني أنجو من تلك النار غدا فقيل يا فلان فما علامة ذلك قال نبي يبعث من ناحية هذه البلاد وأشار إلى مكة واليمن بيده قالوا فمتى تراه فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم فقال إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله وإنه لحي بين أظهرهم فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا فقلنا له يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا قال ليس به.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي فمرض فأتاه رسول(6/110)
ص -103- الله صلى الله عليه وسلم يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة فقال له رسول الله: "يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي قال لا قال الفتى بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم" رواه البيهقي بإسناد صحيح
وقال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابنيسعية وأسد بن عبيد نفر(6/111)
ص -104- من هدل لم يكونوا من بني قريظة وبني النضير كانوا فوق ذلك فقلت لا قال فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين وكنا إذا أقحطنا وقل علينا المطر نقول يا ابن الهيبان أخرج فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة فنقول كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فنستقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة واجتمعوا إليه فقال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قالوا أنت أعلم قال فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجره فاتبعوه ولا تستبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري والنساء ممن يخالفه ولا يمنعنكم ذلك منه ثم مات فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان فقالوا ما هو به قال بلى والله إنه لصفته ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهمو أهاليهم قال ابن إسحاق فلما فتح(6/112)
ص -105- الحصن رد ذلك عليهم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما حدثه عن هرقل وقد تقدم حديثه في أول الكتاب وذكر فيه أن هرقل لما سأله عن صفات رسول الله قال: إن يكن ما تقول حقا أنه نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
وزاد البخاري في حديثه وقال ابن الناطور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فنظر فقال إن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قال تختتن اليهود فلا يهمنك شأنهم وابعث إلى من في مملكتك من اليهود فيقتلوهم ثم وجد إنسانا من العرب فقال: انظروا أمختتن هو فنظروا فإذا هو مختتن وسأله عن العرب فقال يختتنون وقال فيه وكان برومية صاحب له كان هرقل نظيره في العلم فأرسل إليه وصار إلى حمص فلم يرم من حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي وأنه نبي.
وكذلك النجاشي ملك الحبشة لما هاجر الصحابة إليه لما آذاهم المشركون وخافوا أن يفتنوهم عن دينهم وقرؤوا عليه القرآن قال فأخذا عودا بين أصبعيه فقال ما عدا(6/113)
ص -106- عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته فقال وإن نخرتم اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يعني أنتم آمنون وقال هذا لأن قريشا أرسلوا هدايا إليه وطلبوا منه أن يرد هؤلاء المسلمين وقالوا هؤلاء فارقوا ديننا وخالفوا دينك.
وفي الصحيح حديث ورقة بن نوفل الذي ترويه عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت: "أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة من النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد إلى أن قالت فأتت به خديجة ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب فقال اسمع من ابن أخيك فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ليتنيكنت جذعا أنصرك إذ يخرجك قومك قال أو مخرجي هم(6/114)
ص -107- قال لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي"
وقال ابن إسحاق وقدم على رسول الله عشرون رجلا أو قريب من ذلك وهو بمكة من النصارى حين ظهر خبره بالحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله عما أرادوا دعاهم رسول الله إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لترتادوا لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا لهم فقالوا سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ويقال فيهم نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواآمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
وعن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير حدثتني جدتي أم عثمان(6/115)
ص -108- بنت سعيد بن محمد بن جبير عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت أبي جبيرا يقول لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي أمن الحرم أنت قلت نعم قالوا فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم قلت نعم قال فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور فقالوا لي انظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم فنظرت فلم أر صورته قلت لا أرى صورته.
فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير فقالوا لي انظر هل ترى صورته فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله وصورته وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله فقالوا لي انظر هل ترى صفته قلت نعم قالوا هو هذا وأشاروا إلىصفة رسول الله قلت اللهم نعم أشهد أنه هو.
قالوا أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه قلت نعم.
قالوا نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده رواه البخاري في تاريخه وقال فيه قال(6/116)
ص -109- الذي أراه الصور لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة.
وروى موسى بن عقبة أن هشام بن العاص ونعيم بنعبد الله ورجلا آخر قد سماه بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر قال فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة(6/117)
ص -110- فذكر الحديث وأنه انطلق بهم إلى الملك وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة وإذا فيها أبواب صغار ففتح فيها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء وذكر صفة آدم ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة وفيها صورة نوح ثم إبراهيم ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد وقال هذا آخر الأبواب لكني عجلته لأنظر ما عندكم ثم فتح أبوابا أخر وأراهم صورة بقية الأنبياء موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى بن مريم عليهم السلام وصفة لوط وصفة إسحاق وذكر أن هذا عندهم قديما من عهد آدم وأن دانيال صورها بأعيانها.
وروى مثل هذا عن المغيرة بن شعبة أنه لما دخل على المقوقس ملك مصر والاسكندرية ملك النصارى أخرج له صور الأنبياء وأخرج له صورة نبينا فعرفها.
والوجه الثالث: نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة واستشهاده بأهل الكتاب وإخباره بأنه مذكور في كتبهم مما يدل العاقل على أنه كان موجودا في كتبهم فإنه لا ريب عند كل من عرف حال محمد من مؤمن وكافر أنه كان من أعقل أهل الأرض فإن المكذبين له لا يشكون في أنه كان عنده من الخبرة والمعرفة والحذق ما أوجب أن يقيم مثل هذا الأمر العظيم الذي لم يحصل لأحد مثله لا قبله ولا بعده فعلم ضرورة أنه لا يفعله ولا يخبر به وهو من أحرص الناس على تصديقه وأخبرهم بالطرق التي يصدق بها وأبعدهم عن أن يفعل ما يعلم أنه يكذب به.
فلو لم يعلم أنه مكتوب عندهم بل علم انتفاء ذلك لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة ويستشهد به ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا لأن فيه إظهار كذبه عند من آمن به منهم عند من يخبرونه وهو ضد مقصوده وهو بمنزلة من يريد إقامة شهود على حقه فيأتي إلى من يعلم أنه لا يكذب(6/118)
ص -111- ويعلم أنه ليس بشاهد ولا حضر قضيته ويقول هذا يشهد لي وهذا يشهد لي.
فإنهم كانوا حاضرين هذه القضية فيقول أولئك لسنا نشهد له ولا حضرنا هذه القضية فهذا لا يفعله عاقل يعلم أنهم لم يكونوا حاضرين وأنهم يكذبونه ولا يشهدون له.
الرابع: أن يقال لما قامت الأعلام على صدقه فقد أخبر أنه مكتوب في الكتب المتقدمة وأن الأنبياء بشروا به علم أن الأمر كذلك لكن هذا لا يذكر إلا بعد أن يقام دليل منفصل على نبوته والطريق الأول هو من أظهر الحجج على أهل الكتاب وأظهر الأعلام على نبوته.
وقد استخرج غير واحد من العلماء من الكتب الموجودة الآن في أيدي أهل الكتاب من البشارات بنبوته مواضع متعددة وصنفوا في ذلك مصنفات وهذه البشارات في هذه الكتب من جنس البشارات بالمسيح.
واليهود يقرون باللفظ لكن يدعون أن المبشر به ليس هو المسيح عيسى ابن مريم وإنما هو آخر ينتظر وهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا المسيح الدجال وينتظرون أيضا مجيء المسيح عيسى بن مريم إذا نزل من السماء كما بسط في موضع آخر ويحرفون دلالة اللفظ ويقولون إنها لا تدل على نبي منتظر كما قالوا في قوله سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك يا موسى أنزل عليه مثل توراة موسى أجعل كلامي على فيه.(6/119)
ص -112- قال بعضهم ليس هذا إخبارا بل هذا استفهام إنكار وقدروا ألف استفهام وليس في النص شيء من ذلك.
فاليهود يحرفون الدلالات المبشرة بالمسيح وذلك عند المسلمين والنصارى لا يقدح في البشارة بالمسيح بل تبين دلالة النصوص عليه وبطلان تحريف اليهود.
وكذلك البشارات بمحمد في الكتب المتقدمة لا يقدح فيها تحريف أهل الكتاب اليهود والنصارى بل تبين دلالة تلك النصوص على نبوة محمد وبطلان تحريف أهل الكتاب.
الوجه الخامس: أن يقال معلوم أن ظهور دين محمد في مشارق الأرض ومغاربها أعظم حادث حدث في الأرض فلم يعرف قط دين انتشر ودام كانتشاره ودوامه فإن شرع موسى وإن دام فلم ينتشر انتشاره ودوامه بل كان غاية ظهوره ببعض الشام وأما شرع المسيح فقبل قسطنطين لم يكن له ملك بل كانوا يكونون ببعض بلاد الروم وغيرها وكانوا مستضعفين تقتل أعيانهم أو عامتهم في كثير من الأوقات ولما انتشر تفرق أهله فرقا متباينة يكفر فيها بعضهم بعضا.
ثم إن شرع محمد ظهر في مشارق الأرض ومغاربها وفي وسط الأرض المعمورة الإقليم الثالث والرابع والخامس وظهرت أمته على النصارى في أفضل الأرض وأجلها عندهم كأرض الشام ومصر والجزيرة وغيرها ودام شرعه فله اليوم أكثر من(6/120)
ص -113- سبع مائة سنة.
ومعلوم أن هذا المدعى للنبوة سواء كان صادقا أو كاذبا لا بدأن يخبر به الأنبياء فإنهم أخبروا بظهور الدجال الكذاب تحذيرا للناس مع أن الدجال مدته قليلة فلو كان ما يقوله المكذب لمحمد حقا وأنه كاذب ليس برسول لكانت فتنته أعظم من فتنة الدجال من وجوه كثيرة لأن الذين اتبعوه أضعاف أضعاف من يتبع الدجال فلو كان كاذبا لكان الذين افتتنوا به أضعاف أضعاف من يفتتن بالدجال فكان التحذير منه أولى من التحذير من الدجال إذ ليس في العالم من زمان آدم إلى اليوم كذاب ظهر ودام هذا الظهور والدوام فكيف تغفل الأنبياء التحذير عن مثل هذا لو كان كاذبا.
وإذا كان صادقا فالبشارة للإيمان به أولى ما يبشر به الأنبياء من المستقبلات ويخبر به فعلم أنه لا بد أن يكون في الكتب ذكره ثم قد وجد مواضع كثيرة في الكتب تزيد على مائة موضع استدلوا بها على أنه مذكور وتواتر عن خلق كثير من أهل الكتاب أنه موجود في كتبهم وتواتر عن كثير ممن أسلم أنه كان سبب إسلامهم أو من أعظم سبب إسلامهم علمهم بذكره في الكتب المتقدمة إما بأنه وجد ذكره في الكتب كحال كثير ممن أسلم قديما وحديثا وأما بما ثبت عندهم من أخبار أهل الكتاب كالأنصار فإنه كان من أعظم أسباب إسلامهم ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره ونعته وانتظارهم إياه وأن من خيارهم من لم يوجب له أن يسكن أرض يثرب مع شدتها ويدع أرض الشام مع رخائها إلا لانتظاره لهذا النبي العربي الذي يبعث من ولد إسماعيل.
ولم يمكن أحد قط أن ينقل عن شيء من الكتب أنه وجد فيها ذكره بالذم والتكذيب والتحذير كما يوجد ذكر الدجال وعند أهل الكتاب من ذكر أصحابه كعمر بن الخطاب وغيره وعدلهم وسيرتهم عن المسيح وغيره ما هو معروف عندهم فإذا كان الذين(6/121)
ص -114- استخرجوا ذكره من كتب أهل الكتاب والذين سمعوا خبره من علماء أهل الكتاب إنما يذكرون نعته فيها بالمدح والثناء علم بذلك أن الأنبياء المتقدمين ذكروه بالمدح والثناء ولم يذكروه بذم ولا عيب.
وكل من ادعى النبوة ومدحه الأنبياء وأثنوا عليه لم يكن إلا صادقا في دعوى النبوة إذ يمتنع أن الأنبياء يثنون على من يكذب في دعوى النبوة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.
وهذا مما يبين أنه لا بد أن يكون الأنبياء ذكروه وأخبروا به وأنهم لم يذكروه إلا بالثناء والمدح لا بالذم والعيب وذلك مع دعوى النبوة لا يكون إلا إذا كان صادقا في دعوى النبوة فتبين أنهم بشروا بنبوته وهو المطلوب.
يبين ذلك أن الأنبياء أخبروا أهل الكتاب بما سيكون منهم من الأحداث وما يسلط عليهم من الملوك الذين يقتلونهم ويخربون بلادهم ويسبونهم ك بخت نصر وسنجاريب ولكن هؤلاء الملوك لم يدعوا أنهم أنبياء ولم يدعوا إلى دين فلم تحتج الأنبياء إلى التحذير من اتباعهم وقد حذروا من اتباع من يدعي النبوة وهو كاذب.
ومحمد قد قهر أهل الكتاب وقتل من قتل وسبى من سبى وأخرجهم من ديارهم فلا بد أن يذكروه ويذكروا الأحداث التي تجري عليهم في أيامه وإذا كان كاذبا مدعيا للنبوة فلا بد أن يحذرهم من اتباعه ومعلوم أن عامة أهل الكتاب ومن نقل عنهم إما أن يقول ليس موجودا في كتبنا أو يقول إنه موجود بالمدح والثناء لا يمكن أحد أن ينقل عن الكتب المتقدمة أنه موجود فيها بالذم والتحذير ولو كان مذكورا عندهم بالذم والتحذير لكان من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته وعلى أمته بعد مماته(6/122)
ص -115- ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم.
فإنه معلوم أن كثيرا من أهل الكتاب كان عندهم من البغض له والعداوة وتكذيبه والحرص على إبطال أمره ما أوجب أن يفتروا أشياء لم توجد وينسبوا إليه أشياء يعرف كذبها كل من عرف أمره حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين الله أكبر بأن أكبر صنم وأن النبي أمرهم بتعظيم هذا الصنم وقال بعضهم فيه إنه أوجب الزنا على المرأة المطلقة ثلاثا عقوبة لزوجها بأنه لا ينكحها حتى يزني بها غيره وقال بعضهم إنه تعلم من بحيرى الراهب مع علم كل من عرف سيرته أنه لم يجتمع ببحيرى وحده ولم يره إلا بعض نهار مع أصحابه لما مروا به لما قدموا الشام في تجارة وأن بحيرى سألهم عنه ولم يكلمه إلا كلمات يستخبره فيها عن حاله لم يخبره بشيء.
ومع طعن بعض أهل الكتاب فيه بأنه بعث بالسيف حتى قد يقولوا إنما قام دينه بالسيف وحتى يوهموا الناس أن الذين اتبعوه إنما اتبعوه خوفا من السيف وحتى يقولوا إن الخطيب إنما يتوكأ على سيف يوم الجمعة إشارة إلى أنه إنما يقوم الدين بالسيف إلى أمثال هذه الأمور التي هي من أظهر الأمور كذبا عليه يعرف أدنى الناس معرفة بحاله أنها كذب وهم مع هذا يتشبثون بها.
فلو كان عندهم أخبار عن الأنبياء توجب ذمه والتحذير من متابعته لكان إظهارهم لذلك واحتجاجهم به أقوى وأبلغ وكان ذلك مما يجب في العادة اشتهاره بين خاصتهم وعامتهم قديما وحديثا وكان ظهور ذلك فيهم أولى من ظهور خبر الدجال فيهم وفي المسلمين فإن هذا الأمر من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره.(6/123)
ص -116- فإذا لم يكن كذلك علم أنه ليس في كتب الأنبياء ما يوجب تكذيبه وقد قام الدليل على أنه لا بد من أن تذكره الأنبياء وتخبر بحاله فإذا لم يخبروا أنه كاذب علم أنهم أخبروا أنه نبي صادق كما شاع ذلك وظهر واستفاض من وجوه كثيرة.
فالكتاب الذي بعث به مملوء بشهادة الكتب له والكتب الموجودة فيها مواضع كثيرة شاهدة له من وجوه متعددة والأخبار متواترة عمن أسلم لأجل ذلك وهذا مما يوجب القطع بأنه مذكور فيها بما يدل على صدقه في دعوى النبوة وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه وهذا هو المطلوب.
وفي الجملة أمره أظهر وأشهر وأعجب وأبهر وأخرق للعادة من كل أمر ظهر في العالم من البشر ومثل هذا إذا كان كاذبا فلكذبه لوازم كثيرة جدا تفوق الحصر متقدمة ومقارنة ومتأخرة فإن من هو أدنى دعوة منه إذا كان كاذبا لزم كذبه من اللوازم ما يبين كذبه فكيف مثل هذا فإذا انتفت لوازم المكذوب انتفى الملزوم.
وصدقه لازم لأمور كثيرة كلها تدل على صدقه وثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ماضيه ومقارنه ومتأخره ومدعي النبوة لا يخلو من الصدق أو الكذب وكل من الصدق والكذب له لوازم وملزومات فأدلة الصدق مستلزمة له وأدلة الكذب مستلزمة له والصدق له لوازم والكذب له لوازم فصدقه يعرف بنوعين بثبوت دلائل الصدق المستلزمة لصدقه وبانتقاء لوازم الكذب الموجب انتفاؤها انتفاء كذبه كما أن كذب الكذاب يعرف بأدلة كذبه المستلزمة لكذبه وبانتفاء لوازم الصدق المستلزم انتفاؤها لانتفاء صدق والله أعلم.
والشيء يعرف تارة بما يدل على ثبوته وتارة بما يدل على انتفاء نقيضه وهو الذي يسمى قياس الخلف فإن الشيء إذا انحصر في شيئين لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر ومن انتفاء أحدهما ثبوت الآخر ومدعي النبوة إما صادق وأما كاذب وكل منهما له لوازم يدل انتفاؤها على انتفائه وله ملزومات يدل ثبوتها على ثبوته.(6/124)
ص -117- فدليل الشيء مستلزم له كأعلام النبوة ودلائلها وآيات الربوبية وأدلة الأحكام وغير ذلك وانتفاء الشيء يعلم بما يستلزم نفيه كانتفاء لوازمه مثل صدق الكاذب يقال لو كان صادقا لكان متصفا بما يتصف به الصادقون.
وكذلك كذب الصادق يقال لو كان كذابا لكان متصفا بما يتصف به الكذاب فإنه قد عرف حال الأنبياء الصادقين والمتنبئين الكذابين فانتفاء لوازم الكذب دليل صدقه كما أن ثبوت ما يستلزم الصدق دليل صدقه وكذلك الكذاب يستدل على كذبه بما يستلزم كذبه وبانتفاء لوازم صدقه وهكذا سائر الأمور(6/125)
ص -118- فصل
ومما ينبغي أن يعرف ما قد نبهنا عليه غير مرة أن شهادة الكتب المتقدمة لمحمد إما شهادتها بنبوته وأما شهادتها بمثل ما أخبر به هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبله وهو حجة على أهل الكتاب وعلى غير أهل الكتاب من أصناف المشركين الملحدين كما قد ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير موضع من كتابه.
كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}.
وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}.
وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية جاء الله من طور سينا وبعضهم يقول(6/126)
ص -119- تجلى الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران.
قال كثير من العلماء واللفظ لأبي محمد بن قتيبة ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض لأن مجيء الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة وباسمها يسمى من اتبعه نصارى.
وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد وجبال فاران هي جبال مكة قال وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.
قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران.(6/127)
ص -120- وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح أو ليس استعلن وعلنوهما بمعنى واحد وهو ما ظهر وانكشف.
فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه.
وقال ابن ظفر ساعير جبل بالشام منه ظهرت نبوة المسيح قلت وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح قرية تسمى إلى اليوم ساعير ولها جبل تسمى ساعير.
وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير وأمر اللهموسى أن لا يؤذيهم.
وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقا جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ومنه كان نزول أول الوحي على النبي وحوله من الجبال جبال كثيرة حتى قد قيل إن بمكى اثني عشر ألف جبل وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم وفيه(6/128)
ص -121- كان ابتداء نزول القرآن.
والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي فعلم أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول جاء أو ظهر وفي الثاني أشرق وفي الثالث استعلن وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء ولهذا قال واستعلن من جبال فاران فإن النبي ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها ولهذا سماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا.
والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت وكما قيل قد ينضرون به بعض الأوقات وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"
وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ(6/129)
ص -122- سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}.
فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل وأقسم بطور سينين وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة وأقسم بالبلد الأمين وهي مكة وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَالِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وقال تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } سورة البقرة الآيتان
فأخبر الله تعالى أن إبراهيم دعا الله بأن يجعل مكة بلدا آمنا واستجاب الله دعاء إبراهيم وذكر ذلك في غير موضع وبها بنى إبراهيم البيت كما قال تعالى: {(6/130)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } سورة البقرة الآيات
وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ(6/131)
ص -123- كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
وقال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
وقال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}فقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}.
إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه وأنزل فيها الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني فقدم الأسبق فالأسبق وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة فختمها بأعلى الدرجات فأقسم أولا بالتين والزيتنون ثم بطور سينا ثم بمكة أن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل وكذلك الأنبياء فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً}.(6/132)
ص -124- فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ثم بالجاريات يسرا وقد قيل إنها السفن ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} فسماها جوري كما سمى الفلك جواري في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}.
والكواكب فوق السحابثم قال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً}.
وهي الملائكة التي هي أعلا درجة من هذا كله.
وما ذكر ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين من تربية إسماعيل في برية فاران فهكذا هو في التوراة قال فيها وغدا إبراهيم فأخذ الغلام وأخذ خبزا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها وقال لها اذهبي فانطلقت هاجر فضلت في برية سبع ونفد الماء الذي كان معها فطرحت الغلام تحت شجرة وجلست في مقابلته على مقدار رمية بسهم لئلا تبصر الغلام حين يموت ورفعت صوتها بالبكاء وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر وقال لها ما لك يا هاجر لا تخشي فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو فقومي فاحملي الغلام وشدي يدك به فإني جاعله لأمة عظيمة وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء فسقت الغلام وملأت سقاءها وكان الله مع الغلام فربى وسكن في برية فاران(6/133)
ص -125- فهذا خبر الله في التوراة أن إسماعيل ربى وسكن في برية فاران بعد أن كاد يموت من العطش وأن الله سقاه من بئر ماء وقد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما ربي بمكة وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت فعلم أن أرض مكة فارانو هذه البشارة في التوراة لهاجر بإسماعيل وقول الله إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا وإن هاجر فتحت عينيها فرأت بئر ماء فدنت منها إلى آخر الكلام.
وفي موضع آخر قال عن إسماعيل إنه يجعل يده فوق يدي الجميع.(6/134)
ص -126- ومعلوم باتفاق الأمم والنقل أن إسماعيل تربى بأرض مكة فعلم أنها فاران وأنه هو وإبراهيم بنيا البيت الذي ما زال محجوجا من عهد إبراهيم تحجه العرب وغير العرب من الأنبياء وغيرهم كما حج إليه موسى بن عمران ويونس بن متى كما في الصحيح من رواية ابن عباس أن رسول الله مر بوادي الأزرق فقال: "أي واد هذا" فقالوا هذا وادي الأزرق فقال: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية مارا بهذا الوادي" قال ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال: "أي ثنية هذه" قالوا هرشى فقال: "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خلبة مارا بهذا الوادي ملبيا" وفي رواية: "أما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة".(6/135)
ص -127- ولما بعث الله محمدا أوجب حجه على كل أحد فحجت إليه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها والبئر الذي شرب منها إسماعيل وأمه هي بئر زمزم وحديثها مذكور في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة".
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ}.(6/136)
ص -128- وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء وعطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى انطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما فلما" أشرفت المروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لم تغرف من الماء لكان عينا معينا" قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض(6/137)
ص -129- كالرابية تأتيه السيول فتأخذه عن يمينه وشماله" وذكر تمام الحديث
وكانت بئر زمزم قد عميت ثم أحياها عبد المطلب جد النبي وصارت السقاية في ولده في العباس وأولاده يسقون منها ويسقون أيضا الشراب الحلو(6/138)
ص -130- والشرب من ذلك سنة.
والله تعالى قال في إسماعيل: "إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جدا جدا" وهذا التعظيم المؤكد ب جدا جدا يقتضي أن يكون تعظيما مبالغا فيه فلو قدر أن البيت الذي بناه لا يحج إليه أحد وأن ذريته ليس منهم نبي كما يقوله كثير من أهل الكتاب لم يكن هناك تعظيم مبالغا فيه جدا جدا إذ أكثر ما في ذلك أن يكون له ذرية ومجرد كون الرجل له نسل وعقب لا يعظم به إلا إذا كان في الذرية مؤمنون مطيعون لله.
وكذلك قوله أجعله لأمة عظيمة إن كانت تلك الأمة كافرة لم تكن عظيمة بل كان يكون أبا لأمة كافرة فعلم أن هذه الأمة العظيمة كانوا مؤمنين وهؤلاء يحجون البيت فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به وليس في أهل الكتاب إلا المسلمون فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها وأن إسماعيل عظمه الله جدا جدا بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}.
وقال في الخليل: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}.
فعلم بذلك أن في إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون وأن إسماعيل معظم جدا جدا كما عظم الله نوحا وإبراهيم وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته إنما يكون إذا كانت ذريته معظمة على دين حق وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت ولا يحج إليه بعد مجيء محمد غيرهم(6/139)
ص -131- ولهذا لما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}.
فقالوا لا نحج فقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
وأيضا فهذا التعظيم المبالغ فيه الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس لم يظهر إلا بنبوة محمد فدل ذلك على أنها حق ومبشر به.
فهذا نعت محمد لا نعت المسيح فهو الذي بعث بشريعة قوية ودق ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته من مشارق الأرض ومغاربها وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها.
ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد من كلام شمعون بما رضوه من ترجمتهم وهو جاء الله بالبينات من جبال فاران وامتلأت السماء والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته فهذا تصريح بنبوة محمد الذي جاء بالنبوة من جبال فاران وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته.
ولم يخرج أحد قط وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته مما يسمى فاران سوى محمد والمسيح لم يكن في أرض فاران ألبتة وموسى إنما كلم من الطور والطور ليس من أرض فاران وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران فلم ينزل الله فيها التوراة وبشارات التوراة قد تقدمت بجبل الطور وبشارة الإنجيل بجبل ساعير.
ومثل هذا كما نقل في نبوة حبقوق أنه قال(6/140)
ص -132- جاء الله من التيمن وظهر القدس على جبال فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وملك بيمينه رقاب الأمم وأنارت الأرض لنوره وحملت خيله في البحر.
ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم في السفر الأول منها وهي خمسة أسفار في الفصل التاسع في قصة هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال يا هاجر من أين أقبلت وإلى أين تريدين فلما شرحت له الحال قال ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون وها أنت تحبلين وتلدين ابنا نسميه إسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وولدك يكون وحشي الناس ويكون يده فوق الجميع ويد الكل به ويكون على تخوم جميع إخوته
قال المستخرجون لهذه البشارة معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد لم تكن فوق أيدي بني إسحاق بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ثم خرجوا منها لما بعث موسى وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض لم يكن لأحد عليهم يد ثم مع يوشع بعده إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله وسلط عليهم بعد ذلك بخت نصر فلم يكن لبني إسماعيل عليهم يد ثم بعث المسيح وخرب بيت المقدس الخراب(6/141)
ص -133- الثاني حيث أفسدوا في الأرض مرتين ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمما وكانوا تحت حكم الروم والفرس لم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا الأميين فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع حتى بعث الله محمدا الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}فلما بعث صار يد ولد إسماعيل فوق الجميع فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.
فإن قيل هذه بشارة بملكه وظهوره قيل الملك ملكان ملك ليس فيه دعوى نبوة وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع وملك صدر عن دعوى نبوة فإن كان مدعي النبوة كاذبا.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.
وهذا من شر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة ك بختنصر وسنجاريب.
ومعلوم أن الإخبار بهذه لا يكون بشارة ولا تفرح سارة وإبراهيم بهذا كما لو قيل يكون جبارا طاغيا يقهر الناس على طاعته ويقتلهم ويسبي حريمهم ويأخذ أموالهم بالباطل فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة ولا يسر المخبر بذلك وإنما يكون بشارة تسره إذا كان ذلك يعدل وكان علوه محمودا لا إثم فيه وذلك في مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب(6/142)
ص -134- فصل
وقال داود في الزبور في قوله: "سبحوا الله تسبيحا جديدا وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منهم بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه".
وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد وأمته فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس وعلى الأماكن العالية كما قال جابر بن عبد الله كنا مع رسول الله إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك رواه أبو داود وغيره
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون(6/143)
ص -135- تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بعمرة وحج" وذكر الحديث.
وعن أبي هريرة: أن رجلا قال يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف" فلما أن ولى الرجل قال: "اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي
وروى ابن ماجه منه: "أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف" وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم(6/144)
ص -136- وجيوشه إذا علوا شرفا كبروا وإذا هبطوا سبحوا".
وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في أعيادهم عيد الفطر وعيد النحر في الصلاة والخطبة وفي ذهابهم إلى الصلاة وفي أيام منى الحجاج وسائر أهل الأمصار يكبرون عقيب الصلوات فإمام الصلاة يسن له الجهر بالتكبير.
وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب: "أنه كان يكبر بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيرا".
وكان ابن عمر وابن عباس: يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما
ويكبرون على قرابينهم وهديهم وضحاياهم كما كان نبيهم يقول عند الذبح(6/145)
ص -137- "بسم الله والله أكبر" ويكبرون إذا رموا الجمار ويكبرون على الصفا والمروة ويكبرون في الطواف عند محاذاة الركن وكل هذا يجهرون فيه بالتكبير غير ما يسرونه.
قال تعالى لما ذكر صوم رمضان الذي يقيمون له عيد الفطر قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ولما ذكر الهدي الذي يقرب في عيد النحر وهو يوم الحج الأكبر قال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} سورة الحج.
والنصارى يسمون عيد المسلمين عيد الله أكبر لظهور التكبير فيه وليس هذا لأحد من الأمم أهل الكتاب ولا غيرهم غير المسلمين وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق والنصارى لهم الناقوس وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فإنما هو شعائر المسلمين فإن الأذان شعار(6/146)
ص -138- المسلمين وبهذا يظهر تقصير من فسر ذلك بتلبية الحجاج.
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا أراد الإغارة إن سمع أذانا أو رأى مسجدا وإلا أغار".
وفي لفظ مسلم: "كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار".
فسمع رجلا يقول الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله: "على الفطرة ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال خرجت من النار".
وكذلك قوله بأيديهم سيوف ذات شفرتين وهي السيوف العربية التي بها فتح الصحابة وأتباعهم البلاد وقوله يسبحونه على مضاجعهم بيان لنعت المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويصلي أحدهم قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب فلا يتركون ذكر الله في حال بل يذكرونه حتى في هذه الحال ويصلون في البيوت على المضاجع بخلاف أهل الكتاب.
والصلاة أعظم التسبيح كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}.
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر(6/147)
ص -139- القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}".
وهذا معنى قول داود سبحوا الله تسبيحا جديدا والتسابيح التي شرعها الله جديدا كالصلوات الخمس التي شرعها للمسلمين جديدا ولما أقامها جبريل للنبي قال هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك.
فكان الأنبياء يسبحون في هذه الأوقات كما يدل التسبيح المقدم والتسبيح الجديد كما يدل عليه سائر الكلام ولا يمكن أن يكون ذلك للنصارى لأنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين لينتقم الله بهم من الأمم بل أخبارهم تدل على أنهم كانوا مغلوبين مع الأمم لم يكونوا يجاهدونهم بالسيف بل النصارى قد تعيب من يقاتل الكفار بالسيف.
ومنهم من يجعل هذا من معايب محمد وأمته ويغفلون ما عندهم من أن الله أمر موسى بقتال الكفار فقاتلهم بنو إسرائيل بأمره وقاتلهم يوشع وداود وغيرهما من الأنبياء وإبراهيم الخليل قاتل لدفع الظلم عن أصحابه(6/148)
ص -140- فصل
وقال داود في مزاميره وهي ألزبور من أجل هذا بارك الله عليه إلى الأبد فتقلد أيها الجبار بالسيف لأن البهاء لوجهك والحمد الغالب عليك اركب كلمة الحق وسيمة التأله فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك.
قالوا فليس متقلد السيف من الأنبياء بعد داود سوى محمد وهو الذي خرت الأمم تحته وقرنت شرائعه بالهيبة كما قال نصرت بالرعب مسيرة شهر وقد أخبر داود أنه له ناموسا وشرائع وخاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله بخلاف المستضعف المقهور.
وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى المقهورين مع الكفار أو كان عزيزا على المؤمنين من اليهود بل كان مستكبرا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا(6/149)
ص -141- فصل
قالوا وقال داود في مزمور له إن ربنا عظيم محمود جدا وفي ترجمته إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا قالوا فقد نص داود على اسم محمد وبلده وسماها قرية الله وأخبر أن كلمته تعم الأرض كلها.
قلت قد تقدم الحديث الصحيح لما قيل لعبد الله بن عمرو وروي أنه عبد الله بن سلام أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة فقال إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن وذكر صفته موجودة في نبوة أشعياء وليست موجودة في نفس كتاب موسى.
وتقدم أن لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب لا يخصون بذلك كتاب موسى.
وإذا كان هذا معروفا عندهم في التوراة والإنجيل يراد بالتوراة جنس الكتب التي عند أهل الكتاب يتناول ذلك كتاب موسى وزبور داود وصحف سائر الأنبياء(6/150)
ص -142- سوى الإنجيل فإنه ليس عند أهل الكتاب وإنما هو عند النصارى خاصة.
وأما سائر كتب الأنبياء فالأمتان تقر بها ويؤيد ذلك أن الله كثيرا ما يقرن في القرآن بين التوراة والإنجيل وبين القرآن وإنما يذكر الزبور مفردا كقوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}.
وقوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ}.
وأهل الكتاب يجدونه مكتوبا في الكتب التي بأيديهم وهو في كثير منها أصرح مما هو في كتاب موسى خاصة.
فإذا أريد بالتوراة جنس الكتب فلا يستريب عاقل في كثرة ذكره ونعته ونعت أمته في تلك الكتب ومعلوم أن الله أراد بذلك الاستشهاد بوجوده في تلك الكتب وإقامة الحجة بذكره فيها فإذا كان ذكره في غير كتاب موسى أكبر وأظهر عندهم كان الاستدلال بذلك أولى من تخصيص الاستدلال بكتاب موسى فإذا حمل لفظ التوراة في هذا على جنس الكتب كما هو موجود في لغة من تكلم بذلك من الصحابة والتابعين كان هذا في غاية البيان والمدح للقرآن والكتب المتقدمة وتصديق بعضها بعضا.
وقد أمرنا أن نؤمن بما أوتي النبيون مطلقا كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ(6/151)
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
وقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.
والزبور ذكره مفردا في موضعين من القرآن في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً(6/152)
ص -143- لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} سورة النساء. وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}.
فذكره مفردا.
وذكر كتاب موسى بهذه الإضافة لا بلفظ التوراة في غير موضع فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}.
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
إلى قوله{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}.
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ}.
وقال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ}.
وإذا كان لفظ التوراة يتناول الكتب الذي عند أهل الكتابين جميعا والزبور وغيره داخل في هذا الاسم وكان ظهور اسمه ونعته في التوراة ووجودهم ذلك فيما عندهم وتكرره في غاية القوة وكان معرفتهم لذلك كما يعرفون أبناءهم واضحا بينا إن قدر هذه الكتب التي يعترف بها عامتهم لم يكتم منها شيء بل هي باقية كما كانت(6/153)
ص -144- فصل
وقالوا قال داود في مزموره لترتاح البوادي وقراها ولتصر أرض قيذار مروجا وليسبح سكان الكهوف ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب ويذيعوا تسابيحه في الجزائر.
فلمن البوادي من الأمم سوى أمة محمد ومن قيذار سوى ابن إسماعيل جد رسول الله ومن سكان الكهوف وتلك الجبال سوى العرب(6/154)
ص -145- فصل
قال داود في مزمور له ويحوز من البحر إلى البحر ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض ويخر أهل الجزائر بين يديه ويلحس أعداؤه التراب ويسجد له ملوك الفرس وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالمساكين والضعفاء ويصلى عليه ويبارك في كل حين.
وهذه الصفات منطبقة على محمد وأمته لا على المسيح فإنه حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ومن لدن الأنهار بجيحون وسيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب كما قال زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها.(6/155)
ص -146- وهو يصلى عليه ويبارك في كل حين في كل صلاة في الصلوات الخمس وغيرها يقول كل من أمته اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فيصلي عليه ويبارك ومنه خرت أهل الجزائر بين يديه أهل جزيرة العرب وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة وأهل جزيرة قبرص وأهل جزيرة الأندلس.
وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق منهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون بخلاف ملوك الروم فإن فيهم من لم يسلم ويؤدي الجزية فلهذا خص ملوك فارس ودانت له الأمم التي تعرفه وتعرف أمته كانت إما مؤمنة به أو مسلمة له منافقة أو مهادنة مصالحة أو خائفة منهم وأنقذ الضعفاء من الجبارين.
وهذا بخلاف المسيح فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته ولا من اتبعه بعد موته تمكنوا هذا التمكن ولا حازوا ما ذكر ولا صلي عليه وبورك عليه في اليوم والليلة فإن القوم يدعون إلآهيته(6/156)
ص -147- فصل
وقالوا في نبوة أشعياء قال أشعياء قيل لي قم نظارا فانظر ماذا ترى فقلت أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل يقول أحدهما لصاحبه سقطت بابل وأصحابها للمنحر.
قالوا فراكب الحمار هو المسيح وراكب الجمل هو محمد وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار.
وبمحمد سقطت أصنام بابل(6/157)
ص -148- فصل
ومما ينبغي أن يعرف أن الكتب المتقدمة بشرت بالمسيح كما بشرت بمحمد وكذلك أنذرت بالمسيح الدجال.
والأمم الثلاثة المسلمون واليهود والنصارى متفقون على أن الأنبياء أنذرت بالمسيح الدجال وحذرت منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذره أمته وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه ك ف ر يقرأه كل مؤمن قارىء وغير قارىء".
والأمم الثلاثة متفقون على أن الأنبياء بشروا بمسيح من ولد داود فالأمم الثلاثة متفقون على الإخبار بمسيح هدى من نسل داود ومسيح ضلالة وهم متفقون على أن مسيح الضلالة لم يأت بعد ومتفقون على أن مسيح الهدى سيأتي أيضا.
ثم المسلمون والنصارى متفقون على أن مسيح الهدى هو عيسى بن مريم واليهود ينكون أن يكون هو عيسى بن مريم مع إقرارهم بأنه من ولد داود.
قالوا لأن المسيح المبشر به تؤمن به الأمم كلها وزعموا أن المسيح بن مريم إنما بعث بدين النصارى وهو دين ظاهر البطلان.
والنصارى تقر بأن المسيح مسيح الهدى بعث ومقرون بأنه سيأتي مرة ثانية لكن يزعمون أن هذا الإتيان الثاني هو يوم القيامة ليجزي الناس بأعمالهم وهو في(6/158)
ص -149- زعمهم هو الله والله الذي هو اللاهوت يأتي في ناسوته كما زعموا أنه جاء قبل ذلك.
وأما المسلمون فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه وهو موافق لما أخبر به خاتم الرسل حيث قال في الحديث الصحيح يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية.
وأخبر في الحديث الصحيح: "أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على منكبي ملكين فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه" وهذا تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
أي يؤمن بالمسيح قبل أن يموت حين نزوله إلى الأرض وحينئذ لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا يبقى إلا دين الإسلام وهذا موجود في نعته عند أهل الكتاب.
ولكن النصارى ظنوا مجيئه بعد قيام القيامة وأنه هو الله فغلطوا في ذلك كما غلطوا في مجيئه الأول حيث ظنوا أنه هو الله واليهود أنكروا مجيئه الأول وظنوا أن الذي بشر به ليس إياه وليس هو الذي يأتي آخرا وصاروا ينتظرون غيره وإنما هو بعث إليهم أولا فكذبوه وسيأتيهم ثانيا فيؤمن به كل من على وجه الأرض من يهودي ونصراني إلا من قتل أو مات ويظهر كذبا هؤلاء الذين كذبوه ورموا أمه بالفرية وقالوا إنه ولد زنا وهؤلاء الذين غلوا فيه وقالوا(6/159)
ص -150- إنه الله.
ولما كان المسيح عليه السلام نازلا في أمة محمد صار بينه وبين محمد من الاتصال ما ليس بينه وبين غير محمد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي" وروي كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها وهذا مما يظهر به مناسبة اقترانهما فيما رواه أشعيا حيث قال: "راكب الحمار وراكب الجمل"(6/160)
ص -151- فصل
قالوا وقال أشعياء النبي عليه السلام متنبيا على مكة شرفها الله ارفعي إلى ما حولك بصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أن يصير إليك ذخائر البحر وتحج إليك عساكر الأمم حتى يعم بك قطر الإبل الموبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك وتساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويسير إليك أغنام فاران ويخدمك رجال مأرب يريد سدنة الكعبة وهم أولاد مأرب بن إسماعيل قالوا فهذه الصفات كلها حصلت بمكة فحملت إليها ذخائر البحرين وحج إليها عساكر الأمم وسيقت إليها أغنام فاران الهدايا والأضاحي وفاران هي البرية الواسعة التي فيها مكة وضاقت الأرض عن قطرات الإبل الموبلة الحاملة للناس وأزوادهم إليها وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن(6/161)
ص -152- فصل
قالوا وقال أشعياء النبي معلنا باسم رسول الله إني جعلت أمرك يا محمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد قالوا فهل بقي بعد ذلك لزائغ فقال أو لطاعن مجال وقول أشعياء إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول داود الذي حكيناه أن اسمه موجود قبل الشمس.
وقوله يا قدوس الرب يعني يا من طهره الرب وخلصه من بشريته واصطفاه لنفسه(6/162)
ص -153- فصل
قالوا وقال أشعياء وشهد لهذه الأمة بالصلاح والديانة سأرفع علما لأهل الأرض بعيدا فيصفر لهم من أقاصي الأرض فيأتون سراعا.
والنداء هو ما جاء به النبي من التلبية في الحج وهم الذين جعلوا لله الكرامة فوحدوه وعبدوه وأفردوه بالربوبية وكسروا الأصنام وعطلوا الأوثان والعلم المرفوع هو النبوة وصفيره دعاؤهم إلى بيته ومشاعره فيأتونه سامعين مطيعين(6/163)
ص -154- فصل
قالوا وقال أشعياء النبي والمراد مكة شرفها الله تعالى سيري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح وافرح إذ لم تحبلي فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي يعني بأهله بيت المقدس ويعني بالعاقر مكة شرفها الله لأنها لم تلد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت للأنبياء ومعدن الوحي فلم تزل تلك البقعة ولادة(6/164)
ص -155- فصل
قالوا وقال أشعياء النبي ونص على خاتم النبوة ولد لنا غلام يكون عجبا وبشرا والشامة على كتفيه أركون السلام إله جبار وسلطانه سلطان السلام وهو ابن عالمه يجلس على كرسي داود.
قالوا الأركون هو العظيم بلغة الإنجيل والأراكنة المعظمون ولما أبرأ المسيح مجنونا من جنونه قال اليهود إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلا بأركون الشياطين يعنون عظيمهم وقال المسيح في الإنجيل إن أركون العالم يدان يريد إما إبليس أو الشرير العظيم الشر من الآدميين وسماه إلاها على نحو قول التوراة إن الله جعل موسى إلاها لفرعون أي حاكما عليه ومتصرفا فيه وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه إنكم آلهة.
فقد شهد أشعياء بصحة نبوة محمد ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي شامته فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح وقد وصفه بالجلوس على كرسي(6/165)
ص -156- داود يعني أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم ويبتزهم رياستهم(6/166)
ص -157- فصل
قالوا وقال أشعياء في وصف أمة محمد ستمتلىء البادية والمدن من أولاد قيدار يسبحون ومن رؤوس الجبال ينادون هم الذين يجعلون لله الكرامة ويسبحونه في البر والبحر وقيدار هو ابن إسماعيل باتفاق الناس وربيعة ومضر من ولده ومحمد صلى الله عليه وسلم من مضر.
وهذا الامتلاء والتسبيح لم يحصل لهم إلا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم(6/167)
ص -158- فصل
قالوا وقال أشعياء والمراد مكة أنا رسمتك على كفي وسيأتيك أولادك سراعا ويخرج عنك من أراد أن يخيفك ويخونك فارفعي بصرك إلى ما حولك فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك فتسمي باسمي إني أنا الحي لتلبسي الحلل وتزيني بالإكليل مثل العروس ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والداعين فيك وليهابن كل من يناوؤك وليكثرن أولادك حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة يرون رقوب فمن ربى لي هؤلاء ومن تكفل لي بهم.
قالوا وذلك إيضاح من أشعياء بشأن الكعبة فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة ووكل بخدمتها الخلفاء والملوك ومكة هي التي ربا الله لها الأولاد من حجاجها والقاطنين بها وذلك أن مكة هي التي أخرج عنها كل من أن أراد أن يخيفها ويخربها فلم تزل عزيزة مكرمة محرمة لم يهنها أحد من البشر قط بل أصحاب الفيل لما قصدوها عذبهم الله العذاب المشهور ولم تزل عامرة محجوجة من لدن إبراهيم الخليل.
بخلاف بيت المقدس فإنه قد أخرب مرة بعد مرة وخلا من السكان واستولى العدو عليه وعلى أهله وكذلك إخباره بإهانة كل من يناويها هو للكعبة دون بيت المقدس قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.(6/168)
ص -159- والحجاج بن يوسف كان معظما للكعبة لم يرمها بمنجنيق وإنما قصد ابن الزبير خاصة وأما كثرة أولادها وهم الذين يحجون إليها ويستقبلونها في صلاتهم فهم أضعاف أضعاف أولاد بيت المقدس(6/169)
ص -160- فصل
قالوا وقال أشعياء حاكيا عن الله تعالى أشكر حبي وابني أحمد فسماه الله حبيبا وسماه ابنا وداود ابنا غير أن الله خصه عليهم بمزية فقال حبي ابني أشكره فتعبد أشعياء بشكر محمد ووظف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله ليتبين قدره ومنزلته عنده وتلك منقبة لم يؤتها غيره من الرسل.
وقال أشعياء إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد وهذا إفصاح من أشعياء باسم رسول الله فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه صريحا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/170)
ص -161- فصل
قالوا وقال حبقوق وسمي محمد رسول الله صريحا مرتين في نبوته إن الله جاء من التيمن والقدوس من جبل فاران لقد أضاءت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده شعاع منظره مثل النور يحوط بلاده بعزه تسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي وتزعزعت ستور أهل مدينثم قال زجرك في الأنهار وإقدام صوامك في البحار ركبت الخيول وعلوت مراكب الإيفاد وستنزع في قسيك أعراقا ونزعا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل وتغيرت المهاوي تغيرا ورعبا رفعت أيديها وجلا وخوفا وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك وتدوخ الأرض غضبا وتدوس الأمم زجرا لأنك ظهرت بخلاص(6/171)
ص -162- أمتك و إنقاذ تراث آبائك.
قالوا وهذا تصريح بمحمد ومن رام صرف نبوة حبقوق هذه عن محمد فقد رام ستر النهار وحبس الأنهار وأنى يقدر على ذلك وقد سماه باسمه مرتين وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد ولا تصلح إلا له ولا تدل إلا عليه فمن حاول صرفها عنه فقد حاول ممتنعا وقد ذكر فيها مجيء نور الله من التيمن وهي ناحية مكة والحجاز فإن أنبياء بني إسرائيل كانوا يكونون من ناحية الشام ومحمد جاء من ناحية اليمن وجبال فاران هي جبال مكة كما قد تقدم بيان ذلك وهذا مما لا يمكن النزاع فيه.
وأما امتلاء السماء من بهاء أحمد بأنوار الإيمان والقرآن التي ظهرت منه ومن أمته وامتلاء الأرض من حمده وحمد أمته في صلواتهم فأمر ظاهر فإن أمته هم الحمادون لا بد لهم من حمد الله في كل صلاة وخطبة ولا بد لكل مصل في كل ركعة من أن يقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.(6/172)
ص -163- فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قال الله: " حمدني عبدي"
فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: " أثنى علي عبدي".
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: " مجدني عبدي".
فهم يفتحون القيام في الصلاة بالتحميد ويختمونها بالتحميد وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع يقول إمامهم سمع الله لمن حمده ويقولون جميعا ربنا ولك الحمد ويختمون صلاتهم بتحميد يجعل التحيات له والصلوات والطيبات وأنواع تحميدهم لله مما يطول وصفه(6/173)
ص -164- فصل
قالوا وقال حزقيال وهو يهدد اليهود ويصف لهم أمة محمد وإن الله مظهرهم عليكم وباعث فيكم نبيا ومنزل عليهم كتابا ومملكهم رباقكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين محيطون بكم وتكون عاقبتكم إلى النار نعوذ بالله من النار.
وذلك أن رجال بني قيدار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهما جميعا من ولد قيدار بن إسماعيل والعرب كلهم منبني عدنان وبني قحطان فعدنان أبو ربيعة ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس وأما قحطان فقيل هم من ولد إسماعيل وقيل هم من ولد هود ومضر ولد إلياس بن مضر وقريش هم من ولد إلياس بن مضر وهوازن مثل عقيل وكلاب وسعد بن بكر وبنو نمير وثقيف وغيرهم هم من ولد إلياس بن مضر.(6/174)
ص -165- وهؤلاء انتشروا في الأرض فاستولوا على أرض الشام والجزيرة ومصر والعراق وغيرها حتى إنهم لما سكنوا الجزيرة بين الفراتودجلة سكنت مضر في حران وما قرب منها فسميت ديار مضر وسكنت ربيعة في الموصل وما قرب منها فسميت ديار ربيعة(6/175)
ص -166- فصل
وقال دانيال عليه السلام وذكر محمد رسول الله باسمه فقال ستنزع في قسيك إغراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء.
فهذا تصريح بغير تعريض وتصحيح ليس فيه تمريض.
فإن نازع في ذلك منازع فليوجدنا آخر اسمه محمد له سهام تنزع وأمر مطاع لا يدفع.
وقال دانيال النبي أيضا حين سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم نسيها رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك رأسه من ذهب وساعداه من الفضة وبطنه وفخذاه من النحاس وساقاه من الحديد ورجلاه من الخزف ورأيت حجرا لم تقطعه يد إنسان قد جاء وصك ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا ثم نسفته الرياح فذهب وتحول ذلك الحجر فصار جبلا عظيما حتى ملأ الأرض كلها فهذا ما رأيت أيها الملك.
فقال بخت نصر صدق فما تأويلها.
قال دنيال أنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك ولداك اللذان رأيت من(6/176)
ص -167- الفضة وهما دونك ويقوم بعدهما مملكة أخرى هي دونهما وهي شبه النحاس والمملكة الرابعة تكون قوية مثل الحديد الذي يدق كل شيء فأما الرجلان التي رأيت من خزف فمملكة ضعيفة وكلمتها مشتتة وأما الحجر الذي رأيت قد صك ذلك الصنم العظيم ففتته فهو نبي يقيمه الله إله السماء والأرض من قبيلة بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلىء منه الأرض ومن أمته ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير عن رؤياك أيها الملك.
فهذا نعت محمد لا نعت المسيح فهو الذي بعث بشريعة قوية ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها وسلطانه دائم لم يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك النصارى عن خيار الأرض وأوسطها(6/177)
ص -168- فصل
وقال دانيال النبي أيضا سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء أو يجعل ذلك في غيرهم قال دانيال فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال السلام عليك يا دانيال إن الله تعالى يقول إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ومن بعد الصدق إلى الكذب فسلطت عليهم بخت نصر فقتل رجالهم وسبى ذراريهم وهدم بيت مقدسهم وحرق كتبهم وكذلك فعل من بعده بهم وأنا غير راض عنهم ولا مقيلهم عثراتهم فلا يزالون من سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط فلا يزالون ملعونين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر وأرسلت إليها ملاكي فبشرها فأوحي إلى ذلك النبي واعلمه الأسماء وأزينه بالتقوى وأجعل البر شعاره والتقوى ضميره والصدق قوله والوفاء طبيعته والقصد سيرته والرشد سنته أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب وناسخ لبعض ما فيها أسري به إلي وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو فأدنيه وأسلم عليه وأوحي إليه ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة حافظا لما استودع صادعا بما أمر يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة لا فظ ولا(6/178)
ص -169- غليظ ولا صخاب في الأسواق رؤوف بمن والاه رحيم بمن آمن به خشن على من عاداه فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي ويخبرهم بما رأى من آياتي فيكذبونه ويؤذونه.
قال الناقل لهذه البشارة قالوا ثم سرد دانيال قصة رسول الله حرفا حرفا مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا ونبوته كثيرة وهي الآن في أيدي النصارى واليهود يقرأونها.
ومهما وصفنا مما ذكره الله من وصف هذه الأمة ونبيها واتصال مملكتهم بالقيامة قلت فهذه نبوة دانيال فيها البشارة بالمسيح والبشارة بمحمد وفيها من وصف محمد وأمته بالتفصيل ما يطول وصفه وقد قرأها المسلمون لما فتحوا العراق كما ذكر ذلك العلماء منهم أبو العالية ذكر أنهم لما فتحوا تستر وجدوا دانيال ميتا ووجدوا عنده مصحفا.
قال أبو العالية أنا قرأت ذلك المصحف وفيه صفتكم ولحون كلامكم(6/179)
ص -170- وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وادفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به(6/180)
ص -171- فصل
قالوا وقال يوحنا الإنجيلي قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر من إنجيله أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وقال يوحنا التلميذ أيضا عن المسيح أنه قال لتلاميذه إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا لآخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لمم يطق العالم أن يقتلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم عن قريب.
وقال يوحنا قال المسيح من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزل كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعتكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب فإن أنتم(6/181)
ص -172- ثبتم في كلامي وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون وبهذا يمجد أبي.
وقال أيضا إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه.
وقال أيضا إن خيرا لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهبلم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب.
وقال يوحنا الحواري قال المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء.
وقال متى التلميذ قال المسيح ألم يقرأوا أن الحجر الذي أرذله البناءون صار رأسا للزاوية من عند الله كان هذا وهو عجيب في أعيننا ومن أجل ذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرها ومن سقط على هذا الحجر ينشرح وكل من سقط هو عليه يمحقه.
وقال يوحنا التلميذ في كتاب رسائل التلاميذ المسمى بفراكسيس يا أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح يؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن يسوع المسيح جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح(6/182)
ص -173- الكذاب الذي سمعتم به وهو الآن في العالم.
وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في كتاب فركسيس أنه قد حان أن يبتدىء الحكم من بيت الله ابتداء.
قلت وهذا اللفظ لفظ الفارقليط في لغتهم ذكروا فيه أقوالا قيل إنه الحماد وقيل إنه الحامد وقيل إنه المعز وقيل إنه الحمد ورجح هذا طائفة وقالوا الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم إنه الحمد والدليل عليه قول يوشع من عمل حسنة تكون له فارقليط جيد أي حمد جيد وقولهم المشهور في تخاطبهم فارقليط وفارقليطان وما زاد على الجميع أي حمد ومنه كما نقول نحن يد ومنة ومن قال معناه المخلص فيحتجون بأنها كلمة سريانية ومعناها المخلص وقالوا هو مشتق من قولنا راوف ويقال بالسريانية فاروق فجعل فارق قالوا ومعنى ليط كلمة تزاد والتقدير كما يقال في العربية رجل هو وحجر هو وبدر هو وذكر هو قالوا وكذلك يزاد في السريانية ليط والذين قالوا هو المعز قالوا هو في لسان اليونان المعز.
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم تكن لغته سريانية ولا يونانية بل عبرانية ويجاب عنه بأنه تكلم بالعبرانية وترجم عنه بلغة أخرى كما أملوا أحد الأناجيل باليونانية والآخر بالرومية وواحدا بقي عبرانيا وأكثر(6/183)
ص -174- النصارى على أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال إني لم آتي لأزين العالم بل لأخلص العالم والنصارى يقولون في صلاتهم لقد ولدت لنا مخلصا.
وقد اختلف فيه فمن النصارى من قال هو روح نزلت على الحواريين وقد يقولون إنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلت الآيات والعجائب ولهذا يقول من خبر أحوال النصارى إنه لم يرو أحدا منهم يحسن تحقيق مجيء هذا الفارقليط الموعود به.
منهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره وتفسيره بالروح باطل وأبطل منه تفسيره بالمسيح لوجوه.
منها أن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وهذا مما اتفق عليه أهل الكتاب أن روح القدس نزلت على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصفات وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}.
وقال النبي لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين قال: "اللهم أيده بروح القدس" وقال: "إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه".(6/184)
ص -175- وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا دل على أن الفارقليط أمر غير هذا وأيضا فمثل هذه ما زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا وأيضا فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له فإنه قال إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد فقوله فارقليطا آخر دل على أنه ثان لأول كان قبله ولم يكن معهم في حياة المسيح إلا هو لم تنزل عليهم روح فعلم أن الذي يأتي بعده نظيرا له ليس أمرا معتادا يأتي للناس.
وأيضا فإنه قال يثبت معكم إلى الأبد وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره فعلم أن الفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بخلاف الأول وهذا إنما ينطبق على محمد.
وأيضا فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء وأنه يذكركم كل ما قال المسيح وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم.
وقال إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه.
وقال إن خيرا لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت(6/185)
ص -176- أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبر بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب.
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على شيء في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه فيشهد للمسيح ويعلمهم كل شيء ويذكرهم كل ما قال لهم المسيح ويوبخ العالم على الخطيئة ويرشد الناس إلى جميع الحق وهو لا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبرهم بكل ما يأتي ويعرفهم جميع ما لرب العالمين.
وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ولا يكون هدى ولا علما في قلب بعض الناس بل لا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب الناسبما أخبر به المسيح وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا بل يكون أعظم من المسيح بين أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ويعلم ما لا يعلمه المسيح ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب.
وهذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد وذلك أن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعن ما أعده الله في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا يحتمل عقول كثير من الناس معرفته على التفصيل ولهذا قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
وقال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما بحديث لا يبلغه عقولهم إلا كان(6/186)
ص -177- فتنة لبعضهم وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}.
قال ما يؤمنك أن لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت وكفرك بها تكذيبك بها فقال لهم المسيح عليه السلام إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله وهو الصادق المصدوق في هذا لهذا ليس في الإنجيل من صفات الله وصفات ملكوته ومن صفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة مع أن موسى كان قد مهد الأمر للمسيح ومع هذا فقد قال لهم المسيح إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ثم قال ولكن إذا جاء روح الحق ذلك الذي يرشدكم إلى جميع الحق وقال إنه يخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم بجميع ما للرب.
فدل هذا على أن هذا الفارقليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح وكذلك كان محمد أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله له الدين وأتم به النعمة ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق شيء يأتي به غيره وأخبر محمد بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال والجنة وأنواع نعيمها والنار وأنواع عذابها ولهذا كان في القرآن من تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي من ذلك(6/187)
ص -178- أمور كثيرة توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل وذلك تصديق قول المسيح إنه يخبر بكل ما يأتي.
ومحمد بعثه الله بين يدي الساعة كما قال" بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصابعه السبابة والوسطى" وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه كأنه منذر جيش وقال"إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
وقال: "أنا النذير العريان".
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال إنه يخبركم بكل ما يأتي ولا يوجد مثل هذا قط عن أحد من الأنبياء قبل محمد فضلا عن أن يوجد شيء نزل على قلب بعض الحواريين.(6/188)
ص -179- وأيضا فقال ويعرفكم جميع ما للرب فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله بحيث يكون ما يأتي به جامعا لكل ما يستحقه الرب.
وهذا لم يأت به أحد غير محمد حيث يتضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله ومعلوم أن ما نزل على الحواريين لم يكن فيه هذا كله ولا نصفه ولا ثلثه بل ما جاء به المسيح أعظم مما جاء به الحواريون وهذا الفارقليط الثاني جاء بأعظم مما جاء به المسيح.
وأيضا فالمسيح قال إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي هو يشهد لي قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ولا تشكوا فيه فبين أنه أخبرهم به ليؤمنوا به إذا جاء ولا يشكوا فيه وأنه يشهد له وهذه صفة من بشر به المسيح ويشهد للمسيح كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة ولم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان وبخ جميع المشركين من العرب والهند والترك وغيرهم ووبخ المجوس وكانت مملكتهم أعظم الممالك ووبخ أهل الكتابين اليهود والنصارى وقال في الحديث الصحيح عنه إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب لم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم(6/189)
ص -180- وقرعهم وتهددهم.
وأيضا فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس أو عرفه باستنباطه وهذه خاصة محمد فإن المسيح ومن قبله من الأنبياء كانوا يتعلمون من غيرهم مع ما كان يوحى إليهم فعندهم علم غير ما يسمعونه من الوحي.
ومحمد لم ينطق إلا بما يسمعه من الوحي فهو مبلغ لما أرسل به وقد قيل له.
{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
فضمن الله له العصمة إذا بلغ رسالاته فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق وألقى إلى الناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء إلقاءه خوفا أن يقتلوه كما يذكرون عن المسيح وغيره.
وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور ومحمد أيده الله تأييدا لم يؤيده لغيره فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره فالكتاب الذي بعث به فيه من بيان حقائق الغيب ما ليس في كتاب غيره.
وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله ولا ريب أن أمة محمد أكمل عقولا وأعظم إيمانا وأتم تصديقا وجهادا ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم.
وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ(6/190)
نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا(6/191)
ص -181- أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} سورة البقرة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: "قد فعلت".
وأيضا فإنه أخبر عن الفارقليط أنه يشهد له وأنه يعلمهم كل شيء وأنه يذكرهم كل ما قاله المسيح ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا يكون هذا شيئا في قلب طائفة قليلة ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وعما غلت فيه النصارى فهو الذي شهد له بالحق ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد للمسيح قال لهم ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود.
وجعل الله أمة محمد شهداء على الناس يشهدون عليهم بما علموه من الحق إذ كانوا وسطا عدلا لا يشهدون بباطل فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود والنصارى في المسيح.
وأيضا فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو الحمد أو المعز فهذا الوصف ظاهر في محمد فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال وهو صاحب لواء الحمد والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته ولما كان حمادا جوزي بوصفه فإن الجزاء من جنس العمل فكان اسمه محمد وأحمد وأما محمد فهو على وزن مكرم ومعظم ومقدس وهو الذي يحمد حمدا كثيرا مبالغا فيه ويستحق(6/192)
ص -182- وأما أحمد فهو أفعل التفضيل أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره يقال هذا أحمد من هذا أي هذا أحق بأن يحمد من هذا فيكون فيه تفضيل له على غيره في كونه محمودا فلفظ محمد يقتضي فضله في الكمية ولفظ أحمد يقتضي فضله في الكيفية ومن الناس من يقول أحمد أي أكثر حمدا من غيره فعلى هذا يكون بمعنى الحامد والحماد.
وقال من رجح أن معنى الفارقليط في لغتهم هو الحمد كما تقدم فإذا كان كذلك فهو ما جاء في القرآن.
{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} قالوا ولا شك عندهم أنه اسم مشتق من الحمد مثل ما نقول في لغتنا ضارب ومضروب وأما من فسره بالمعز فلم يعرف قط نبي أعز أهل التوحيد لله والإيمان كما أعزهم محمد فهو أحق باسم المعز من كل إنسان.
وأما معنى المخلص فهو أيضا ظاهر فيه فإن المسيح هو المخلص الأول كما ذكر في الإنجيل وهو معروف عند النصارى أن المسيح صلوات الله عليه سمي مخلصا فيكون المسيح هو الفارقليط الأول وقد بشر بفارقليط آخر فإنه قال وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد فهذه بشارة بمخلص ثان يثبت معهم(6/193)
ص -183- إلى الأبد والمسيح هو المخلص الأول وأما ما ينزل في القلوب فلم يسمه أحد مخلصا ولا فارقليطا فلا يجوز أن يفسر كلام المسيح إلا بلغته ومعانيه المعروفة التي خاطب بها وكذلك سائر الأنبياء بل وسائر الناطقين.
وقد وصف هذا المخلص الثاني بأنه يثبت معهم إلى الأبد ومحمد هو المخلص الذي جاء بشرع باق إلى الأبد لا ينسخ.
وأيضا فإن في الإنجيل إنجيل يوحنا أن المسيح قال أركون العالم سيأتي وليس لي شيء.
وقد ذكروا أن الأركون بلغتهم العظيم القدر والأراكنة العظماء وقد كانوا يقولون عن المسيح إن أركون الشياطين يعينه أي عظيم الشياطين وهو من افتراء اليهود على المسيح فقول المسيح عليه السلام أركون العالم إنما ينطبق على عظيم العالم وسيد العالم وكبير العالم وقد أخبر أنه سيأتي فامتنع أن يكون هذا الأركون المسيح أو أحدا مثله ولم يأت بعد المسيح من ساد العالم وأطاعه العالم غير محمد وهذا من بشارة المسيح به.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم ما كان أول أمرك قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام".
وبالجملة فمعلوم باتفاق أهل الأرض أنه لم يأت بعد المسيح من ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار وأفضل الأقاليم شرقا وغربا غير محمد فإن الملوك يطاعون ظاهرا لا(6/194)
ص -184- باطنا ولا يطاعون بعد موتهم ولا يطيعهم أهل الدين طاعة يرجون بها ثواب الله في الدار الآخرة ويخافون عقاب الله في الدار الآخرة بخلاف الأنبياء.
ومحمد أظهر دين الرسل قبله وصدقهم ونوه بذكرهم وتعظيمهم فبه آمن بالأنبياء والرسل قبل موسى والمسيح وغيرهما أمم عظيمة لولا محمد لم يؤمنوا بهم ومن كان يعرف هؤلاء من أهل الكتاب كانوا مختلفين فيهم كاختلاف أهل الكتاب في المسيح وكانوا يقدحون في داود وسليمان وغيرهما بما هو معروف عندهم.
وأيضا فإنه ذكر لهم من الرسل ما لم يكونوا يعرفونه مثل هود وصالح وشعيب وغيرهم.
ومحمد صدق المسيح في أخباره بأنه أركون العالم فقال أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا.
وهو صاحب لواء الحمد وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون يوم القيامة فهو سيد العالمين حقا وهذا مطابق لقول المسيح إنه أركون العالم فهو أركون الآخرين في الدنيا والآخرة وهو أركون الأولين والآخرين في الآخرة.
وقول المسيح إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء تضمن الأصلين إثبات الرسول وإثبات التوحيد وأن الأمر كله لله وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقول المسيح ليس لي شيء تنزيه له مما نسب إليه من الربوبية وهذا النفي يشترك فيه جميع الخلق قال الله تعالى لمحمد: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}.
وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي ملجأ وملاذا {إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ(6/195)
لَهُ(6/196)
ص -185- نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}.
وأيضا ففي نبوة أشعياء أنه وصف محمدا بأنه أركون السلم والسلم والسلام الإسلام فهو يبين أنه سيد دين الإسلام ولا ريب أن الأنبياء كلهم بعثوا بدين الإسلام لكن لم يظهر هذا الدين واسمه وانتشر ذكر دين الإسلام في الأرض كما ظهر لمحمد فمحمد أركون الإسلام الذي يجمع كل خير وبر كما أن إبليس أركون الشر قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} عن فهذا نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين.
وقالت السحرة لما أسلموا وأراد فرعون قتلهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}.
وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}(6/197)
ص -186- فإن قيل فقد سمى المسيح الفارقليط روح الحق وسماه روح القدس وقال تعالى عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سورة البقرة.
{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}.
وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
قيل قد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين المسمى افراكسيس يا أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء فكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن المسيح جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم.
وإذا كان كذلك علم أن الروح عندهم يتناول النبي المرسل من البشر وجبريل الذي نزل بالوحي على محمد هو روح القدس وهو روح الحق كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ}.
وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ}.(6/198)
ص -187- وقال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وهذا الروح إنما جعله بمجيء محمد والكلام الذي نزل به هو الذي بلغه محمد ولهذا قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}.
فاصطفى الله جبريل من الملائكة واصطفى محمدا من البشر ولهذا يضاف القول الذي هو القرآن إلى قول هذا تارة وإلى قول هذا تارة كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.
فهذا الرسول هنا جبريل وقال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فهذا الرسول هنا محمد وأضافه إلى كل منهما بلفظ الرسول لتضمنه أنه بلغه عن مرسله لم يقل إنه لقول ملك ولا نبي بل كفر من قال إنه قول البشر كما ذكر ذلك عن التوحيد وقد قال تعالى: في القرآن.
{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
ومعلوم أن الرسول نفسه لم ينزل بل أبدل الرسول من الذكر لأن الرسول جاء بالذكر.
ولما كان الرسول الملكي والرسول البشري والذكر المنزل أمورا متلازمة يلزم من ثبوت واحد ثبوت الآخرين ومن الإيمان بواحد الإيمان بالآخرين فيلزم من كون القرآن حقا كون جبريل ومحمد حقا وكذلك يلزم من كون محمد حقا كون جبريل والقرآن حقا ويلزم من كون جبريل حقا كون القرآن ومحمد حقا.
ولهذا جمع الله بين الإيمان بالملائكة والكتب والرسل في مثل قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ(6/199)
ص -188- وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}فتعليم محمد وتذكيره وشهادته هو تعليم روح القدس وروحه والأخبار بأن الملك ينطق على لسان البشر أو الجني ينطق على لسان البشر كثير كما في حديث ابن عمر كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر ويقال ما ألقى هذا على لسانك إلا الشيطان ويكون مع هذا البشر ينطق بقدرته واختياره ليس هو كالمصروع الذي يتكلم الجني على لسانه وهو لا يدري ما يقول فلهذا يقال هذا قول الرسول البشري وهو قول الرسول الملكي.
ويقال الفارقليط روح الحق وروح القدس يشهد لي وهو يعلمكم وهو يذكركم ونحو ذلك فإن الفارقليط يتضمن ذكر جبريل ومحمد جميعا وقول أحدهما هو قول الآخر ومعروف في اللغة بدل الاشتمال كقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ}.
والشهر ليس هو نفس القتال لكن لما اشتمل على القتال أبدل أحدهما من الآخر وقوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً}.
ومن هذا النمط أبدل الرسول من الذكر لاشتماله عليه وهذا الثاني اشتمل على(6/200)
ص -189- الأول والرسول البشري كان الرسول الملكي يتصل به في الباطن فيثقل عليه الوحي حين ينزله.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال" أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
والفصم الفك والفصل من الأمور اللينة كما قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وبالقاف هو الكسر الذي يكون في الأمور الصلبة.
فبين أن الملك حين ينزل الوحي عليه يتصل به ويلتبس به ثم بعد ذلك ينفصل عنه وينفك عنه وهذا الاشتمال والانفصال أبلغ من غيره فيحسن معه أن يكون إبدال أحدهما من الآخر أحسن من غيره فيقال هذا القرآن بلغه الرسول النبي وبلغه جبريل عن الله ونظائر هذا متعددة في جميع بشارات المسيح يذكر أن الأب وهو في لغتهم الله الذي يرسل الفارقليط وفي بعضها قال أنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد وفي بعضها والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء فقد بين أن الله يرسله وأنه يطلب من الله أن يرسله.
وأما قوله في بعض الألفاظ فإذا انطلقت أرسلته إليكم فيكون معناه إني أرسله بدعاء أبي وطلبي منه أن يرسله كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا أو يولي نائبا أو يعطي أحدا ويقول أنا أرسلت هذا ووليت هذا وأعطيت هذا أي كنت سببا في(6/201)
ص -190- ذلك ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا قضى ما يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابا يكون بها ومن تلك الأسباب دعاء طائفة من عباده به فيكون في ذلك من النعمة في إجابته دعاء هذا وهذا وهذا.
ومحمد دعا به الخليل عليه السلام فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
مع أن الله قضى بإرساله وأعلن باسمه قبل ذلك كما قيل له يا رسول الله متى كنت نبيا قال" وآدم بين الروح والجسد وقال إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته" وهذا كما أن الله قضى بنصره يوم بدر ومن أسباب ذلك استغاثته بالله وكذلك بما يقضيه من إنزال الغيث يكون من أسبابه دعاء عباده له ونظائره كثيرة فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل محمدا ويكون هذا من أسباب إرساله لكن إبراهيم سأل في الدنيا فذكر الله ذالك بخلاف سؤال المسيح فإنه كان بعد صعوده إلى السماء(6/202)
ص -191- فصل
والقرآن نفسه قد بين من آيات نبوته وبراهين رسالته أنواعا متعددة مع اشتمال كل نوع على عدد من الآيات والبراهين مثال ذلك إخباره لقومه بالغيب الماضي الذي لا يمكن بشرا أن يعلمه إلا أن يكون نبيا أو يكون ممن تلقاه عن نبي وقومه يعلمون أنه لم يتعلم ذلك من بشر ولا من أهل الكتاب ولا غيرهم وهذا نوعان.
منه ما كان يسأله عنه المشركون وأهل الكتاب لينظر هل هو نبي أم لا.
وكان قومه يرسلون إلى أهل الكتاب البعيدين عنهم مثل من كان بالمدينة وغيرها من أهل الكتاب يطلبون منهم ما يسألونه عنه فيرسلون إليهم ليسألوه عن ذلك ويمتحنون بذلك هل هو نبي أم لا.
ومنه ما كان الله يخبره به ابتداء ويجعله علما وآية لنبوته وبرهانا لرسالته مع ما في ذكر هذه القصص من الاعتبار لأمور أخرى فكان كل من هذين النوعين دليلا وعبرة على نبوته من طريقين فكان دليلا وعبرة على نبوته من جهة إخبار بالغيب الذي لا يعلمه إلا نبي وكانت عبرة بما فيها من أحوال المؤمنين والكافرين التي توجب اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا مثله وتجنب سبيل الكافرين الذين خالفوا مثله وحكم الشيء حكم نظيره فإذا كان من كان مثله ومثل من اتبعه سعيدا وحال من خالف مثله ومثل من اتبعه شقيا كان في هذا دلالة وعبرة توجب اتباعه وتنهى عن مخالفته وهذا أيضا دليلا على نبوة من قبله من الأنبياء من وجهين(6/203)
ص -192- من جهة أنه أخبر بمثل ما أخبروا به من غير مواطأة بينهم وبينه ولا تشاعر لم يأخذوا عنه ولم يأخذ عنهم.
وكل منهما أخبر عن الله بأخبار مفصلة يمتنع الاتفاق عليها عادة إلا بتواطىء فإذا لم يكن تواطؤ وتشاعر وامتنع اتفاق ذلك من غير مواطأة علم أن كلا من المخبرين صادق قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}. وقص قصته في السورة إلى أن قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(6/204)
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة يوسف.
وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} وقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
وقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}.(6/205)
ص -193- وقال تعالى: لما قص قصة نوح من سورة هود وهي أطول ما قصه في قصة نوح.
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
فذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه من أنباء الغيب ما كان يعلمه هو ولا قومه من قبل هذا فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم وهو لم يعاشر إلا قومه وقومه يعلمون ذلك منه ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ويعلمون أيضا أنه هو لم يكن تعلم ذلك وأنه لم يكن يعاشر غيرهم وهم لا يعلمون ذلك صار هذا حجة على قومه وعلى من بلغه خبر قومه ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم وسجود الملائكة له وتزيين إبليس له حتى أكل من الشجرة وهبط هو وزوجه.
وأخبرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده.
وأخبرهم عن قصة الخليل وما جرى له مع قومه وإلقائه في النار وذبح ولده ومجيء(6/206)
ص -194- الملائكة إليه في صورة ضيفان وتبشيره بإسحاق ويعقوب وذهاب الملائكة إلى لوط وما جرى للوط مع قومه وإهلاك الله مدائن قوم لوط وقصة إسرائيل مع بنيه كقصة يوسف وما جرى له بمصر وقصة موسى مع فرعون وتكليم الله إياه مرة بعد مرة وآياته كالعصا واليد البيضاء والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وتظليل الغمام على بني إسرائيل وإطعامهم المن والسلوى وانفجار الماء من الحجر اثني عشر عينا لسقيهم وعبادتهم العجل وقتل بعضهم بعضا لما تاب الله عليهم وقصة البقرة ونتق الجبل فوقهم وقصة داود وقتله لجالوت وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه وغير ذلك من أحوال بني إسرائيل.
إلى أن ذكر قصة زكريا وابنه يحيى وعيسى بن مريم وأحوال المسيح وآياته ودعائه لقومه والآيات التي بعث بها وتفاصيل ذلك وذكر قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وغير ذلك من قصص الأنبياء والصالحين والكفار مفصلة مبينة بأحسن بيان وأتم معرفة مع علم قومه الذين يعرفون أحواله من صغره إلى أن ادعى النبوة أنه لم يتعلم هذا من بشر بل لم يجتمع هو بأحد من البشر يعرف ذلك ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك لا يهودي ولا نصراني ولا غيرهم.
فكان هذا من أعظم الآيات والبراهين لقومه بأن هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله ومثل هذا الغيب لا يعلمه إلا نبي أو من أخذ عن نبي فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي تعين أن يكون نبيا.
ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم(6/207)
ص -195- ذلك من بشر من طرق.
أحدها: أن قومه المعادين له الذين هم من أحرص الناس على القدح في نبوته مع كمال علمهم لو علموا أنه تعلم ذلك من بشر لطعنوا عليه بذلك وأظهروه فإنهم مع علمهم بحاله يمتنع أن لا يعلموا ذلك لو كان ومع حرصهم على القدح فيه يمتنع أن لا يقدحوا فيه ويمتنع أن لا يظهر ذلك.
الثاني: أنه قد تواتر عن قومه أنهم كانوا يقولون أنه لم يكن يجتمع به من يعلمه ذلك.
الثالث: أنه لو كانت هذه القصص المتنوعة قد تعلمها من أهل الكتاب مع عداوته لهم لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه ولو أظهروا ذلك لنقل ذلك وعرف فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
الرابع: أنه حيث بعث كان الناس إما مشركا وأما كتابيا فلم يكن هناك أحد على الدين الذي دعا إليه وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم لم يكونوا يعرفون هذه القصص ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه فلو كان فيهم من علمه أو يعلم أنه تعلم من غيره لأظهر ذلك.
الخامس: أن مثل هذا لو كان فلا بد أن يعرفه ولو خواص الناس وكان في أصحابه الذين آمنوا به من يعرف ذلك وكان ذلك يشيع ولو تواصوا بكتمانه كما شاع ما كتم من أمر الدول الباطنية ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه وكان علمهم بذلك يناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك.
فكيف وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة بخلاف حال من يبطن خلاف ما يظهر فإن خواص أصحابه لا يعظمونه في الباطن.
فإنه علم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يعلمه مثل هذا وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا.
علم الناس ما علمه قومه(6/208)
ص -196- أن هذا أنبأه به الله وكان هذا من أعلامه وآياته وبراهينه وهذا مما يبين الله في القرآن أنه من آياته وأنه حين أخبر قومه بهذا مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له لم يمكن أحدا منهم أن يقول له بل فينا من كان يعلم ذلك وأنت كنت تعلم ذلك وقد تعلمته منا أو من غيرنا فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم ومع فرط عداوتهم له آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.
ولهذا لما كان بعضهم يفتري عليه فرية ظاهرة كانوا كلهم يعلمون كذبه وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه كما كان بعضهم يقول إنه مجنون وبعضهم يقول إنه كاهن وبعضهم يقول إنه ساحر وبعضهم يقول إنه تعلمه من بشر وبعضهم يقول أضغاث أحلام.
فحكى الله أقوالهم مبينا لظهور كذب من قال ذلك وأنه قول ضال حائر قد بهره حال الرسول فحار فلم يدر ما يقول كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} سورة الفرقان
فأخبر عمن قال ذلك وهم يعلمون أن هذا من أظهر الكذب فإن هذه القصص المذكورة في القرآن لم يكن بمكة من(6/209)
يعرفها فضلا عن أن يمليها كما قال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.
وقال: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}.(6/210)
ص -197- ولهذا قال: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
فأخبر أن هذا من علم من يعلم السر إذ كان البشر لا يعلمون ذلك إلا من جهة إخبار الأنبياء وليس بمكة من يعلم ما أخبرت به الأنبياء.
ثم ذكر ما اقترحوه فقال سورة الفرقان الآيتان{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}.
أمر بالنظر في كيفية ما ضربوه من الأمثال حيث شبهوه بمن يظهر الفرق بينه وبينه ظهورا لا يخفى على الناظر ولهذا قال: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}.
إذا كان ظاهرا أن هذا ضلال عن طريق الحق فلا يستطيع الضال عن طريق الحق إليه سبيلا.
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} سورة النحل
فأخبر عما افتراه بعضهم من قوله إنما يعلمه هذا القرآن(6/211)
بشر.
وكان بمكة مولى أعجمي لبعض قريش قيل إنه مولى لبني الحضرمي والنبي لا(6/212)
ص -198- يحسن أن يتكلم بلسان العجمي وذاك لا يحسن أن يتكلم بهذا الكلام العربي فلما قالوا إنه افترى هذا القرآن وأنه علمه إياه بشر قال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ}.
أي يضيفون إليه هذا التعليم وينسبونه إليه وعبر عنه بلفظ الإلحاد لما فيه من الميل فقال لسان هذا الشخص الذي قالوا إنه يعلمه القرآن لسان أعجمي وهم لم يمكنهم أن يضيفوا هذا التعليم إلى رجل عربي بل إلى هذا الأعجمي لكونه كان يجلس أحيانا إلى النبي وذلك الأعجمي لا يمكنه التكلم بهذا الكلام العربي بل هو أعجمي ومحمد لا يعرف بالعجمية لكن غاية ذلك الأعجمي كعبد بني الحضرمي أن يعرف قليلا من كلام العرب الذي يحتاج إليه في العادة مثل الألفاظ التي يحتاج إليها في غالب الأوقات كلفظ الخبز والماء والسماء والأرض ولا يعرف أن يقرأ سورة واحدة من القرآن.
فبين سبحانه ظهور كذبهم فيما افتروه ولم يقل أحد منهم ما يمكن أن يكون شبهة من تعلمه أنباء الغيب من علماء أهل الكتاب ونحو ذلك وإنما قالوا ما ظهر بطلانه لكل أحد ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال قولا يخفى بطلانه بل ما يظهر كذبه لكل أحد.
فتبين أنه لم يمكنهم أن يقولوا إنه تعلم أخبار الغيوب من أحد وهذه القصة قصة نوح لا سيما قصته في سورة هود كما تقدم لا يعلمها إلا نبي أو من تلقاها عن نبي فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد علم أنه نبي ولهذا قال تعالى: في آخرها.
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
والقول في سائر القصص كالقول فيها.
وكما قال في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.(6/213)
ص -199- وقال في سورة آل عمران لما ذكر قصة زكريا ومريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
وقال في قصة موسى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} سورة القصص.
والإنسان إنما يعلم مثل هذا بمشاهدة أو خبر فنبه بقوله وما كنت لديهم على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك وإعلامنا لك بذلك إذ كان معلوما عند كل من عرفه أنه لم يسمع ذلك من بشر وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك.
وقد قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
بين بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب وإدراءهم أي إعلامهم به هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ}.
فبين أنه لبث فيهم عمرا من قبله وهو لا يتلو شيئا من ذلك ولا يعلمه ولا يعلمهم به فليس الأمر من جهته ولكن من جهة الله الذي لو(6/214)
شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو من الإعلام بالغيوب الذي لا يعلمها إلا نبي وبين أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه لا من الكوني الذي قدره وهو لا يحبه ولا يرضاه كإرسال الشياطين ولهذا كان يعرضون عليه أن يصير ملكا عليهم وأن يعطوه(6/215)
ص -200- يكون من أغناهم وأن يزوجوه ما شاء من نسائهم فيقول لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر لم أستطع أن أدعه وهذه الثلاث هي مطلوبا النفوس من الدنيا السلطان والمال والنساء فيعرض عن قبول الدنيا التي هي غاية أماني طالبها ويبين أنه لا يقدر على أن يدع ما أمر به من تبليغ الرسالة.
وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} سورة الإسراء
بين سبحانه إنهم كادوا أن يمنعوه بكل طريق فإن الإنسان إنما يتم عمله بإرادته وقدرته فمع الإدارة الجازمة والقدرة التامة يجب وجود المقدور وإذا تعذر أحدهما امتنع فطلبوا تغيير إرادته ليركن إليهم فيغير ما أوحي إليه فعصمه الله وثبته.
ثم طلبوا تعجيزه بأن يستفزوه ويخرجوه حتى يعجز عن تبليغ رسالة ربه ولو كان ذلك لعاجلهم الله بالعقوبة أسوة من تقدمه من الرسل فإن الله كان إذا أراد إهلاك أمة أخرج نبيها منها ثم أهلكها لا يهلكها وهو بين أظهرها كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وهذا بعد قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.(6/216)
ص -201- قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فلما خرج من بينهم بالهجرة أتاهم الله بعذاب أليم يوم بدر وغيره فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}.
إشارة إلى سعيهم في إفساد إرادته.
وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ}.
إشارة إلى سعيهم في تعجيزه.
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}.
بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه متواتر عند من غاب عنه وبلغته أخباره من جميع الناس أنه كان أميا لا يقرأ كتابا ولا يحفظ كتابا من الكتب لا المنزلة ولا غيرها ولا يقرأ شيئا مكتوبا لا كتابا منزلا ولا غيره ولا يكتب بيمينه كتابا ولا ينسخ شيئا من كتب الناس المنزلة ولا غيرها.
ومعلوم أن من يعلم من غيره إما أن يأخذ تلقينا وحفظا وأما أن يأخذ من كتابه وهو لم يكن يقرأ شيئا من الكتب من حفظه ولا يقرأ مكتوبا والذي يأخذ من كتاب غيره إما أن يقرأه وأما أن ينسخه وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}.
إلى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ(6/217)
مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا(6/218)
ص -202- اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}سورة الشعراء الآيات فقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}.
وقال: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}.
وعلماء بني إسرائيل يعلمون ذكر إرسال محمد ونزول الوحي عليه كما قال تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ}.
وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
وقال{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}.
وقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
ويعلمون المعاني التي فيه أنها موافقة لأقوال الرسل قبله في الخبر والأمر. فإنه أخبر عن توحيد الله وصفاته وعرشه وملائكته وخلقه السماوات والأرض وغير ذلك بمثل ما أخبرت به الرسل قبله وأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وبالعدل والصدق والصلاة والزكاة ونهى عن الشرك عن الشرك والظلم والفواحش كما أمرت ونهت الرسل قبله.
والسور المكية نزلت بالأصول الكلية المشتركة التي اتفقت عليها الرسل التي لا بد منها وهي الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره.
وأما السور لمدنية ففيها هذا وفيها ما يختص به محمد من الشرعة والمنهاج فإن دين الأنبياء واحد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء ديننا واحد"(6/219)
ص -203- الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
وقال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} سورة الروم.
وأما الشرعة والمنهاج فقد قال عن أهل التوراة والإنجيل والقرآن{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
وقال: {ولكل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} إلى قوله {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.
إلى قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ}.
وأما القبلة فلم يجعل ما ابتدعه أهل الكتاب من القبلة فلذلك قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}.
لم يقل إنا جعلنا لكل وجهة كما قال في المنسك والشرعة والمنهاج وقال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا(6/220)
يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}.(6/221)
ص -204- فإنه إذا أتاهم ببيان ما في الصحف الأولى مع علمهم بأنه لم يعاشر أحدا من أهل الصحف الأولى ولا استفاد منهم علما كان هذا من أعظم الآيات من الله.
وكما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال ويقولون إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء ويقولون النبوة مكتسبة لأن هذه صفتها ويقولون إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية وزعموا أنها اللوح المحفوظ وأن تحريكها للفلك هو سبب حدوث الحوادث في الأرض فتكون عالمة بما يحدث في الأرض لأن العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب فإن هذا مبني على مقدمات باطلة قد بسط الكلام على بطلانها في موضع آخر منها إثبات العقل الفعال.
ومنها دعواهم أنه لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك.
ومنها أن المحرك له هو النفس.
ومن ها اتصال نفوسنا بتلك النفس.
والمقصود هنا أن هذا لو كان حقا فإنما يفيد علما بالمستقبل الذي تكون الحركة الحاضرة سببا له أما ما قد مضى بمئين أو ألوف من السنين فليس شيء من حركات الفلك حين مبعث الرسول كان سببا له وإنما تكون الحركة الموجودة في زمانه سببا للمستقبل لا للماضي وحينئذ فلا يكون تحريك النفس للفلك سببا للعلم بهذه الأمور ولا يكون ذلك هو اللوح المحفوظ بل القرآن المجيد في لوح محفوظ وهو في أم الكتاب وهو.
{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.(6/222)
ص -205- وأخبر سبحانه أنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} وقال في آية أخرى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}.
وقال في موضع آخر: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} سورة التكوير الآيات وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}.
فذكر أنه قول رسول اصطفاه من الملائكة نزله به على رسول اصطفاه من البشر فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} سورة الحاقة.
فنزه كلا من الرسولين عما قد يشتبه به.
نزه الملك أن يكون شيطانا ونزه البشر أن يكون شاعرا أو كاهنا وبين برهان ذلك وآيته فقال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}.(6/223)
ص -206- فبين أنه ما يصلح لهم النزول به بل هم منهيون عن ذلك وهم ممتنعون عن ذلك لا يريدونه لمنافاه لمقصودهم وأنهم لو أرادوا لعجزوا عن ذلك فلم يستطيعوه إذ كانوا معزولين عن أن يسمعوه من الملأ الأعلى وهم إنما يقدرون على أن ينزلوا بما سمعوه لا بما لم يسمعوه وذلك أن الفاعل للفعل إنما يفعله إذا كان مريدا له قادرا عليه.
فبين قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}.
أنهم لا يريدون تنزيله.
وبقوله: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}.
أنهم عاجزون عن تنزيله أما كونهم لايريدون فلأنه لا ينبغي لهم وينبغي مضارع بغى يبغي أي طلب وأراد فالذي لا ينبغي للفاعل هو الذي لا يطلبه ولا يريده إما لكونه ممتنعا من ذلك أو لكونه ممنوعا منه والشيطان إنما يريد الكذب والفجور لا يريد الصدق والصلاح.
وما جاء به الرسول مناقض لمراد الشياطين غاية المناقضة فلم يحدث في الأرض أمر أعظم مناقضة لمراد الشياطين من إرسال محمد فنزول القرآن عليه فيمتنع أن تفعل الشياطين ما لا يريدون إلا نقيضه وهم أيضا ممنوعون من ذلك بحيث لا يصلح لهم ذلك ولا يتأتى منهم كما أن الساحر لا ينبغي له أن يكون نبيا والمعروف بالكذب والفجور لا ينبغي له مع ذلك أن يكون نبيا ولا أن يكون حاكما ولا شاهدا ولا مفتيا إذ الكذب والفجور يناقض مقصود الحكم والشهادة والفتيا فكذلك ما في طبع الشيطان من إرادة الكذب والفجور يناقض أن تتنزل بهذا الكلام الذي هو في غاية الصدق والعدل لم يشتمل على كذبة واحدة ولا ظلم لأحد.
ثم قال: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} فإنهم عن سمع هذا الكلام لمعزولون بما حرست به السماء(6/224)
ص -207- من الشهب كما قال عن الجن.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}.
وقد ذكرنا تواتر هذا الخبر وأن السماء حرست حرسا لم يعهده الناس قبل قبل ذلك ورأى الناس ذلك بأبصارهم فكانوا قد عاينوا ما أخبرهم به من الرمي بالشهب التي يرمى بها لطرد الشياطين فعزلوا بذلك عن سمع الملأ الأعلى وكان ما عاينه الكفار من الرمي الشديد العام الذي انتقضت به العادة المعروفة من رمي الشهب دليلا على سبب خارق للعادة ولم يحدث إذ ذاك في الأرض أمر لم تجر به العادة إلا ادعاءه للرسالة فلم يعرف قبله من نزل عليه الكلام كنزوله عليه إذ كان موسى عليه السلام إنما أنزلت عليه التوراة مكتوبة لم تنزل عليه منجمة مفرقة ملقاة إليه حفظا حتى تحتاج السماء إلى حراستها عن استراق سمعها والزبور تابع لشرع التوراة وكذلك الإنجيل فرع على التوراة لم ينزل كتاب مستقل إلا التوراة والقرآن كما قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن كثيرا كما في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ}.
إلى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}.(6/225)
ص -208- قال سعيد بن جبير وغيره والأحزاب هي الملل كلها قال وهذا تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" وقرأ هذه الآية.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}.
وقالت الجن.
{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}.
وقال النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وأيضا فكان معروفا عندهم إخبار الكهان عن الشياطين التي تسترق السمع فلما رأوا أن السماء قد حرست حرسا شديدا خلاف العادة علموا أن الشياطين منعوا استراق السمع وعلمت الجن ذلك كما تقدم وقد قالت الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}.
وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب وهذا أمر خارق للعادة حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك أم الرمي بالشهب فلما رأوا أنه بالشهب علموا أنه لأمر حدث(6/226)
ص -209- وأرسلت الجن تطلب سبب ذلك حتى سمعت القرآن فعلموا أنه كان لأجل ذلك وهذا من أعلام النبوة ودلائلها.
وقبل زمان البعث وبعده كان الرمي خفيفا لم تمتلىء به السماء كما ملئت حين نزول القرآن وقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.(6/227)
ص -210- والأفاك الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} قال في الحديث المتفق على صحته: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يدعو إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عله وهو المناسب لها في الكذب والفجور فأما الصادق البار فلا يحصل به مقصود الشياطين فإن الشيطان لا يطلب الصدق والبر وإنما يطلب الكذب والفجور.
ومحمد ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين لم تجرب عليه كذبة واحدة ولما جاءه الروح بالوحي لم يخبر بخبر واحد كذب لا عمدا ولا خطأ.
ومن تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يخبر بالكذب فإن الشياطين يلقون إليهم السمع ولا يلقون إليهم ما سمعوه على وجهه بل يكذبون فيه كثيرا إذ كان أكثر الشياطين الذين ينزلون عليهم كاذبين فيما ينزلون به عليهم والشياطين وإن كان كلهم كاذبا فليس كل من ألقى السمع يكذب فيما يلقيه بل قد يصدق أحدهم فيما يلقيه من السمع ويسترقه ولكن أكثرهم يكذبون والذي يصدق منهم مرة يكذب مرات والذي ينزل عليه الشياطين أفاك أثيم.(6/228)
ص -211- فالفرق بين الصادق البار الذي يأتيه الملك والكاذب الأثيم الذي يأتيه الشيطان الرجيم فرق بين يعرف بأدنى معرفة بحال الاثنين ولما كان الكاهن الذي يأتيه شيطان قد يخبر ببعض الأمور الغائبة بين سبحانه أن هذا يكون وإن صدق في بعض الأخبار كاذبا فاجرا والذي يأتيه بالكذب فلا يشتبه بمن لا يكذب ولا يفجر وهذا مما يبين أن النبي لا يكون إلا بارا معصوما أن يصر على ذنب(6/229)
ص -212- فصل
وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه وأنهم لم يجربوا عليه كذبا بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة وأنه ليس بساحر وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه لأن مكة لم يكن بها ذلك.
ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه قال انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله قال فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله إلى هرقل قال وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا نعم قال فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قال أبو سفيان فقلت أنا فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي فدعا بترجمانه فقال قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال فقال وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم قال قلت هو فينا ذو حسب قال فهل كان في آبائه من ملك قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا وذكر باقي الحديث.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود حديث سعد بن معاذ لما قال: لأميه إنهم قاتلوك يعني النبي وأصحابه وفزع منه لذلك وقال لامرأته ذلك فقالت: "والله ما يكذب محمد وقال هو: في رواية أخرى: "والله ما يكذب محمد وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا وقال والله لا أخرج من مكة وأراد التخلف عن بدر حتى قال له أبو جهل إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك فقال أما إذا غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة وذكرته امرأته بقول سعد فقال ما أريد أن أكون معهم إلا قريبا.(6/230)
ص -213- وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم أن أبي بن خلف لما بلغه أن النبي قال أنا أقتله ثم طعنه رسول الله فخدشه وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون إنما هو خدش وليس بشيء فقال والله لو كان بمضر لقتلهم أليس قال: " لأقتلنك"
وعن مجاهد قال مولاي السائب بن أبي السائب كنت فيمن بنى البيت وأن(6/231)
ص -214- قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف فقال اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين فقالوا يا محمد قد رضينا بك.
وعن عقيل بن أبي طالب قال جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا ما يؤذينا فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل قال فقال لي يا عقيل التمس ابن عمك قال فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب فقال له يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي مطيعا وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم فإن رأيت أن تكف عنهم قال فحلق ببصره إلى السماء فقال: " والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار" فقال أبو طالب إنه والله ما كذب قط(6/232)
ص -215- فارجعوا راشدين. رواه البخاري في تاريخه وأبو زرعة في الدلائل ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ وقال فأخرجته من حفش وهو بيت صغير وقال فيه فظن رسول الله أن قد بدا لعمه وأنه خاذله ومسلمه وضعف عن القيام معه فقال يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرمنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له فقلت له أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه يبكي وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة.
فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين قلت لمن قال لله قلت فأين توجه قال أتوجه(6/233)
ص -216- حيث يوجهني ربي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس فقال أنيس إن لي حاجة بمكة فاكفني فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت ما صنعت قال لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقرى بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم فقلت أين هذا الذي تدعونه الصابىء فأشار إلي فقال الصابىء فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس أن أبا ذر أرسل أخاه وقال اعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الآخر حتى قدم(6/234)
ص -217- مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر.
فقال ما شفيتني فيما أردت فتزود وحمل شنه له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد وذكر تمام الحديث.
وعن جابر بن عبد الله قال الملأ وأبو جهل لبد غلبنا أمرم حمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه وأتانا ببيان من أمره.
قال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما فما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فلما خرج إليه قال أنت يا محمد خير أم هاشم وأنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيما تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة فكنت رأسنا ما بقيت وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد ورسول الله ساكت لا يتكلم فلما فرغ قرأ رسول الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
إلى قوله: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
فأمسك عتبة على فيه وناشد بالرحم أن يكف ورجع إلى أهله فلم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم عتبة فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتاه أبو(6/235)
ص -218- جهل فقال يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب وأقسم أن لا يكلم محمد أبدا وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر.
{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}إلى قوله: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب" رواه أبو بكر أحمد بن مردويه في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه ورواه يحيى ابن معين عن محمد بن فضيل ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ورواه(6/236)
ص -219- عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة.
وفي بعض الطرق إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع ورواه ابن إسحاق قال حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن محمد بن كعب قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما وذكر الحديث إلى أن قال لما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به فقالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال(6/237)
ص -220- وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي قال فلقيت محمدا فقلت إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم فقال محمد: "إن الحمد لله نحمد ونستعينه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد" قال فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات فقال: "والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر قال: فقال هات يدك أبايعك على الإسلام قال فبايعه رسول الله فقال: وعلى قومك فقال: وعلى قومي" الحديث.
وعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه من القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.(6/238)
ص -221- قال أعد فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "والله إن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا البشر".
وفي لفظ أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال ولم قال ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها وأنك كاره له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحط مما تحته قال لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه قال فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه.(6/239)
ص -222- وفي رواية أخرى أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد بعضكم قول بعض فقالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به فقال بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا نقول كاهن فقال ما هو بكاهن لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان فقالوا نقول مجنون فقال ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر فقال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال فما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده فقالوا ما نقول يا أبا عبد شمس قال والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجنى فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول أن تقولوا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه(6/240)
ص -223- وذكروا له أمره فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.
وأنزل في النفر الذين كانوا معه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}.
أي أصنافا وروى ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث فقال يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بسحر قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر لقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريظه وقلتم مجنون ولا والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه ولا تخليطه يا معشر قريش انظروا فيشأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش وممن يؤذي رسول الله وينصب له العداوة.
قال وحدثني الزهري قال حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن(6/241)
ص -224- شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة فعلو كذلك ثم جمتعهم الطريق فتعاهدوا أو لا يعودوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد فقال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنوا عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ثم إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا.
وكذلك وري عن المغيرة بن شعبة أن أبا جهل قال له مثل ذلك وقال إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا فينا الندوة فقلنا نعم فينا الحجابة فقلنا نعم(6/242)
ص -225- فينا السقاية فقلنا نعم وذكر نحوه.
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم اسألوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال فقالت لهم أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجلا طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها فجاؤوا رسول الله فقالوا يا محمد خبرنا فسألوه عما أمروهم به(6/243)
ص -226- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف فيها خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية الرجل الطواف وقول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}قال ابن إسحاق بلغني أن رسول الله افتتح السورة فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}.
يعني محمدا أنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته.
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً}.
أي أنزله قيما أي معتدلا لا اختلاف فيه وذكر تفسير السورة إلى قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}.
أي وما قدروا من قدري وفيما صنعت من أمر الخلائق وما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعظم من ذلك.
قال مجاهد ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك وفي تفسير العوفي عن ابن عباس الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف.
قلت والأمر على ما ذكره السلف فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله فإن مكثهم نياما لايموتون ثلاثمائة سنة آية دالة قدرة الله ومشيئته وأنه يخلق ما يشاء ليس كما يقوله أهل الإلحاد وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}.(6/244)
ص -227- وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم هل تعاد الأرواح دون الأبدان.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان برسوله ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا هل هو نبي صادق أم كاذب فقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}.
وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
إلى قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
إلى قوله: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} سورة الكهف.
وقال تعالى: لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً}.
أي يسألونك عن ذاك ويسألونك عن هذا.
والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي الذي لا يعلمه أحد(6/245)
من البشر إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي كموسى ومحمد وليس أحد ممن يدعي المكاشفات لا من أولياء الله ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك(6/246)
ص -228- ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم.
وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا لا يعلم إلا بخبر نبي فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته أما قومه المباشرون له الخبيرون بحاله فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر فقامت عليهم الحجة بذلك وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق.
منها تواتر أخباره وكيف كان من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة يعلمها من كان له خبرة بذلك أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى فإن محمدا ظهر أمره وانتشرت أخباره وتواترت أحواله أعظم من جميع بني آدم فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا.
ومنها أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب مثلقصة هود وصالح وشعيب وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى مثل تكليم المسيح في المهد ومثل نزول المائدة فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب ومثل إيمان امرأة فرعون وغير ذلك فيمتنع أن يقال إن هذا تعلمه من أهل الكتاب وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل كقوم عاد وثمود وغيرهم.
فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل وعقوبة الله لمن يكذبهم ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب(6/247)
ص -229- بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم وذلك من الوجهين كما تقدم.
ومنها أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له وحرصا على تكذيبه والطعن فيه وبحثا عما به يقدحون فيه فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك ويقدحون به فيه ويظهرونه ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع علمهم بحاله ورغبتهم في القدح به ومع كمال الداعي والقدرة يجب وجود المقدور فلما كان داعيهم تاما ولم يقدحوا علم أن ذلك لعجزهم وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر.
ومنها أن يقال مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه فكيف المخالفون له المكذبون له
فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطأوا كما لا يجتمعون على تعمد الكذب فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية من أهل البحرين بني عبيد الله بن(6/248)
ص -230- ميمون القداح وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه.
لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه أولا من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال وصبروا على أنواع المكاره والأذى طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه وطائفة كانوا بمكة يعذبون هذا يقتل وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا.
ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم وأفضلها عندهم مكة أم القرى إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها وتركوا أموالهم بمكة قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وقال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا(6/249)
ص -231- لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}.
قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}.
وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا قبل أن يؤمر أحد بقتال.
فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا ولم يؤمر بقتال بل كان لا يكره أحد على الدين كما قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ}.
وكانوا خلقا كثيرا ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه ويفارقوا دين آبائهم ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن وهو مع ذلك لم يعط أحدا منهم مالا ولا كان له مال يعطيهم إياه ولا ولي أحد ولاية ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها ولا أكره أحدا ولا بقرصة في جلده فضلا عن سوط أو عصا أو سيف وهو مع ذلك يقول عما يخبرهم به من الغيب الله أخبرني به لم يخبرني بذلك بشر.
فلو كانوا مع ذلك يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر وليس فيهم من يخبر بذلك مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك ويمتنع أن لا يعلموا ذلك وهم بطانته المطلعون على أحواله وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله.
والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا لم ينزل جملة بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره وهو لا يعلم شيئا من ذلك ثم يخبرهم به وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر وسؤالا بعد سؤال وهذا كان بمكة وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى ثم هاجر إلى المدينة وبها(6/250)
خلق(6/251)
ص -232- كثير من اليهود قينقاع والنضير وقريظة ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها أو أقل أو أكثر وهم أيضا يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب وما أخبرهم به ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه ويبين أن الله أعلمه ذلك لم يعلمه إياه بشر فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى والطائفتان ليس فيهم من يقول إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا ولا إنك قرأته في كتبنا مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا بل تصديقهم الكتاب الأول وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره ويظهروا كذبه ويقولوا للناس تعلم منا نحن أخبرناه بذلك لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي وغير ذلك.
وهذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ينقله الموافق والمخالف فلما لم يقل ذلك أحد ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام بأن هذا مما أنبأني الله لم يخبرني به بشر كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها أو من تعلمها من نبي هي مما أنبأه الله به ولم يعلمه ذلك بشر وهذا من الغيب الذي قال الله فيه في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن وإنذار قومهم به حيث قال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}.
إلى قوله.: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو(6/252)
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} سورة الجن
فقوله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً}.
يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به لا يعلمه أحد إلا من جهته بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض.(6/253)
ص -233- فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة كما كان مشركوا قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أمه تارة وإلى أبيه قال: " أخبرني جبريل آنفا" قال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه" فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم(6/254)
ص -234- عني بهتوني عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم" أي رجل عبد الله فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا" قال" أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال فهذا ما كنت أخاف وأحذر.
وروى مسلم في صحيحه عن ثوبان قال كنت قائما عند رسول الله فجاء حبر من أحبار اليهود وقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني قال قلت ألا تقول يا رسول الله قال إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد" فقال اليهودي جئت أسألك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينفعك شيء إن حدثتك" قال أسمع بأذني فنكت بعود معه فقال له: "سل فقال اليهودي أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الظلمة دون الجسر" قال فمن أول الناس إجازة قال: "فقراء المهاجرين" فقال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون قال: "زيادة كبد نون" قال وما غذاؤهم على إثره قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال فما شرابهم عليه قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا" قال صدقت. قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إذا حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله" فقال اليهودي صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سألني هذا الذي سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى".(6/255)
ص -235- وروى أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي فقال: "سلوني عم شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام" قالوا لك ذلك قل: فسلوني عم شئتم" قالوا أخبرنا عن أربع خلال أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم ومن وليك من الملائكة قال: "فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني" فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق قال: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحوم الإبل" قالوا اللهم نعم فقال رسول الله: "اللهم اشهد عليهم قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد والشبه له بإذن الله" قالوا: اللهم نعم فقال: "اللهم اشهد" قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وأنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا: اللهم نعم قال: "اللهم اشهد" قالوا أنت الآن حدثنا من(6/256)
ص -236- وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال: "وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه" قالوا فعندها نفارقك لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك قال: "فما يمنعكم أن تصدقوا" قالوا إنه عدونا من الملائكة فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً}. إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كانوا يسألونه عن مسائل يقولون فيها لا يعلمها إلا نبي
أي: ومن تعلمها من الأنبياء فإن السائلين كانوا يعلمونها كما جاء أيضا لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان
فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي كان نبيا ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب ومن تعلم منهم وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء.
وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه هل هو نبي أم لا
فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب كان من جنسهم فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليلا على نبوته.
فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل الكتاب وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضع(6/257)
ص -237- عشرة سنة وانتشر أمره وكذبه قومه وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين.
فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم لأظهروا ذلك ولشاع في أهل الكتاب فكان إذا أجابهم قالوا هذا تعلمته من فلان وفلان منا أو هذا علمكه بعض أهل ديننا وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل ويقولون إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فهو متقول ويقولون سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي.
فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء أو بخلاف ذلك ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك المسائل بعض أهل الكتاب وكما لو سأل في زماننا بعض الناس لبعض المسلمين عن تلك المسائل أو غيرها من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي فإن ذلك لا يدل على نبوته لأنه قد تعلم ذلك من الأنبياء.
فدل على أن مرادهم بقولهم لا يعلمها إلا نبي أي لا يعلمها ابتداء بدون تعليم من بشر إلا نبي ويدل على أن المشركين وأهل الكتاب كانوا جميعا متفقين على أنه لم يتعلم من بشر مع انتشار أخباره ومع اطلاع قومه على أسراره ومع ظهور ذلك لو وجد ومع أنهم لو جوزوا تجويزا أن يكون قد تعلمها من بشر في الباطن لم يجز أن يستدل بها على نبوته فدل على أنهم كانوا قاطعين بأنه لم يتعلم ذلك من بشر لا في الباطن ولا في الظاهر(6/258)
وهذا طريق بين يدل على أنه لم يتعلم ذلك من بشر سوى الطرق المذكورة هنا(6/259)
ص -238- فصل
ولما كان محمد رسولا إلى جميع الثقلين جنهم وإنسهم عربهم وعجمهم وهو خاتم الأنبياء لا نبي بعده كان من نعمة الله على عباده ومن تمام حجته على خلقه أن تكون آيات نبوته وبراهين رسالته معلومة لكل الخلق الذين بعث إليهم وقد يكون عند هؤلاء من الآيات والبراهين على نبوته ما ليس عند هؤلاء.
وكان يظهر لكل قوم من الآيات النفسية والأفقية ما يبين به أن القرآن حق كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
أخبر سبحانه أنه سيري عباده الآيات في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم أن القرآن حق فإن الضمير عائد إليه إذ هو الذي تقدم ذكره كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.
والضمير في كان عائد إلى معلوم.
يقول أرأيتم إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد فإنه على هذا التقدير يكون الكافر في شقاق بعيد قد شاق الله ورسوله ولا أحد أضل ممن هو في مثل هذا الشقاق حيث كان في شق والله ورسوله في شق كما قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ(6/260)
الْعَلِيمُ } سورة البقرة(6/261)
ص -239- بين أن من تولى عن ذلك لم يكن متبعا للحق قاصدا له فإن هذا الذي قلتموه لا يتولى عنه من أهل الكتاب من قصده الحق وإنما يتولى عنه من قصده المشاقة والمعاداة لهوى نفسه وهذا يكفيك الله أمره.
والقرآن إن كان من عند الله ثم كفر به من كفر فلا أحد أضل ممن هو في مثل حاله إذ هو في شقاق بعيد وإن قدر أنه لم يعلم أنه حق فهو ضال والشقاق قد يكون مع العناد وقد يكون مع الجهل فإن الآيات إذا ظهرت فأعرض عن النظر الموجب للعلم كان مشاقا ولهذا قال عقب ذلك: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
فأخبر أنه سيري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أنه حق ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
فإن شهادته وحده كافية بدون ما ينتظر من الآيات كما قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
وشهادته للقرآن ولمحمد تكون بأقواله التي أنزلها قبل ذلك على أنبيائه كما قال تعالى: عن أهل الكتاب{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}.
وتكون بأفعاله وهو ما يحدثه من الآيات والبراهين الدالة صدق رسله فإنه صدقهم بها فيما أخبروا به عنه وشهد لهم بأنهم صادقون.
والقرآن نفسه هو قول الله وفيه شهادة الله بما أخبر به الرسول وإنزاله على محمد وإتيان محمد به هو آية وبرهان وذلك من فعل الله إذ كان البشر لا يقدرون على مثله لا يقدر عليه أحد من الأنبياء ولا الأولياء ولا السحرة ولا غيرهم كما قال تعالى: {ققُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
ومحمد أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة سبحان وهي(6/262)
ص -240- مكية صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين إنسهم وجنهم أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله بل يعجزون عن ذلك وهذا فيه آيات لنبوته.
منها إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة بأنهم لا يفعلون هذا بل يعجزون عنه هذا لا يقدم عليه من يطلب الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك إذ لو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر فيفسد عليه ما قصده وهذا لا يقدم عليه عاقل مع اتفاق الأمم المؤمن بمحمد والكافر به على كمال عقله ومعرفته وخبرته إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها.
ثم جعله هذا في القرآن المتلو المحفوظ إلى يوم القيامة الذي يقرأ به في الصلوات ويسمعه العام والخاص والولي والعدو دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر وإلا لو كان شاكا في ذلك لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه وهذا لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس فمن يقصد أن يصدقه الناس لا يقول مثل هذا ويظهره هذا الإظهار ويشيعه هذه الإشاعة ويخلده هذا التخليد إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه.
ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة هو من أعظم دلائل كونه معجزا وكونه آية على نبوته فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق وهو وحده كاف في العلم بأن القرآن معجز.
دع ما سوى ذلك من الدلائل الكثيرة على أنه معجز مثل عجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال الرغبة والحرص على معارضته(6/263)
ص -241- وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة فلما كان دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة علم عجز جميع الأمم عند معارضته وهذا برهان ثان يعلم به صدق هذا الخبر وصدق هذا الخبر آية لنبوته غير العلم بأن القرآن معجز فإن ذلك آية مستقلة لنبوته وهي آية ظاهرة باقية إلى آخر الدهر معلومة لكل أحد وهي من أعظم الآيات.
فإن كونه معجزا يعلم بأدلة متعددة والإعجاز فيه وجوه متعددة فتنوعت دلائل إعجازه وتنوعت وجوه إعجازه وكل وجه من الوجوه هو دال على إعجازه وهذه جمل لبسطها تفصيل طويل ولهذا قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
فهو كاف في الدعوة والبيان وهو كاف في الحجة والبرهان(6/264)
ص -242- فصل
والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد كثيرة متنوعة وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء ويسميها من يسميها من النظار معجزات وتسمى دلائل النبوة وأعلام النبوة.
وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب والسنة وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان كما قال تعالى: في قصة موسى.
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}.
في العصا واليد وقال الله تعالى في حق محمد.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}وقد قال في مطالبة أهل الدعاوى الكاذبة بالبرهان.: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} وأما لفظ الآيات فكثير في القرآن كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ(6/265)
اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.(6/266)
ص -243- وقال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}.
آية أخرى وقول فرعون له: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}وقال قوم صالح له : {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
وقال: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}.
وقال المسيح: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وقال في حق محمد: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}.
وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}.
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وقال:(6/267)
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.(6/268)
ص -244- وقال تعالى:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ}.
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}.
وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقال لما ذكر قصص الأنبياء في سورة الشعراء قال في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
إلى أن قال في آخرها : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.
وقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.
وقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.
وأما لفظ المعجز فإنما يدل على أنه أعجز غيره كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
وقال: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} ومن لا يثبت فعلا إلا لله يقول المعجز هو الله وإنما سمي غيره معجزا(6/269)
مجازا وهذا اللفظ لا يدل على كون ذلك آية ودليلا إلا إذا فسر المراد به وذكر شرائطه ولهذا كان كثير من أهل الكلام لا يسمي معجزا إلا ما كان للأنبياء فقط وما كان للأولياء إن أثبت لهم خرق عادة سماها كرامة.(6/270)
ص -245- والسلف كأحمد وغيره كانوا يسمون هذا وهذا معجزا ويقولون لخوارق الأولياء إنها معجزات إذا لم يكن في اللفظ ما يقتضي اختصاص الأنبياء بذلك بخلاف ما كان آية وبرهانا على نبوة النبي فإن هذا يجب اختصاصه.
وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه الولي فإن الدليل مستلزم للمدلول يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول فكذلك ما كان آية وبرهانا وهو الدليل والعلم على نبوة النبي يمتنع أن يكون لغير النبي وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن دلائل نبوة محمد كثيرة متنوعة كما قد تكلمنا على ذلك في غير هذا الكتاب وبينا أنمن يخصص دلائل النبوة بنوع فقد غلط بل هي أنواع كثيرة لكن الآيات نوعان.
ومنها ما مضى وصار معلوما بالخبر كمعجزات موسى وعيسى.
ومنها ما هو باق إلى اليوم كالقرآن الذي هو من أعلام نبوة محمد وكالعلم والإيمان الذي في أتباعه فإنه من أعلام نبوته وكشريعته التي أتى بها فإنها أيضا من أعلام نبوته وكالآيات التي يظهرها الله وقتا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمته ووقوع ما أخبر بوقوعه كقوله: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك" وقوله: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى" وقد خرجت هذه النار سنة خمسين وستين وستماية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى(6/271)
ص -246- وظهر دينه وملته بالحجة والبرهان واليد والسنان ومثل المثلات والعقوبات التي تحيق بأعدائه وغير ذلك وكنعته الموجود في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك(6/272)
ص -247- فصل
والقرآن كلام الله وفيه الدعوة والحجة فله به اختصاص على غيره كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.
والقرآن يظهر كونه آية وبرهانا له من وجوه جملة وتفصيلا أما الجملة فإنه قد علمت الخاصة والعامة من عامة الأمم علما متواترا أنه هو الذي أتى بهذا القرآن وتواترت بذلك الأخبار أعظم من تواترها بخبر كل أحد من الأنبياء والملوك والفلاسفة وغيرهم.
والقرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة والتحدي هو أن يحدوهم أي يدعوهم فيبعثهم إلى أن يعارضوه فيقال فيه حداني على هذا الأمر أي بعثني عليه ومنه سمي حادي العيس لأنه بحداه يبعثها على السير وقد يريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة ولكنه أصله الأول قال تعالى في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}.
فهنا قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}.
في أنه تقوله فإنه إذا كان محمد قادرا على أن يتقوله كما يقدر الإنسان على أن يتكلم بما يتكلم به من نظم ونثر كان هذا ممكنا للناس الذين هم من جنسه فأمكن الناس أن يأتوا بمثله.
ثم إنه تحداهم بعشر سور مثله فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ(6/273)
ص -248- فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات هم وكل من استطاعوا من دون الله ثم تحداهم بسورة واحدة هم ومن استطاعوا قال: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
وهذا أصل دعوته وهو الشهادة بأنه لا إله إلا الله والشهادة بأن محمدا رسول الله.
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}.
كما قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ}.
أي هو يعلم أنه منزل لا يعلم أنه مفترى كما قال: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}أي ما كان لأن يفتري يقول ما كان ليفعل هذا فلم ينف مجرد فعله بل نفي احتمال فعله وأخبر بأن مثل هذا لا يقع بل يمتنع وقوعه فيكون المعنى ما يمكن ولا يحتمل ولا يجوز أن يفتري هذا القرآن من دون الله فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق والمخلوق لا يقدر على ذلك وهذا التحدي كان بمكة فإن هذه السور مكية سورة يونس وهود والطور.
ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة فقال في البقرة وهي سورة مدنية.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.
فذكر أمرين.
أحدهما: قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}يقول إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق فخافوا الله أن تكذبوه فيحيق بكم العذاب الذي وعد به المكذبين وهذا دعاء إلى(6/274)
سبيل ربه بالموعظة الحسنة بعد أن دعاهم بالحكمة وهو جدالهم بالتي هي أحسن.(6/275)
ص -249- والثاني: قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
ولن لنفي المستقبل فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله كما أخبر قبل ذلك وأمره أن يقول في سورة سبحان وهي سورة مكية افتتحها بذكر الإسراء وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
فعم بالخبر جميع الخلق معجزا لهم قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم لا يأتون بمثل هذا القرآن ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك وهذا التحدي والدعاء هو لجميع الخلق وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن وعرفه الخاص والعام وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ولا أتوا بسورة مثله ومن حين بعث وإلى اليوم الأمر على ذلك مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث ولما بعث إنما تبعه قليل.
وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله مجتهدين بكل طريق يمكن تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسئلونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه وصاروا يضربون له الأمثال فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه ما مع ظهور الفرق فتارة يقولون مجنون وتارة يقولون ساحر وتارة يقولون كاهن وتارة يقولون شاعر إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون هم وكل عاقل سمعها أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة وهي تبطل دعوته فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد إذا كانت القدرة حاصلة وجب وجود المقدور ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض.
فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض عن أن يأتوا بمثل هذا(6/276)
ص -250- القرآن بحيلة وبغير حيلة وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى فإن هذا لم يأت أحد بنظيره وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط ولا من جهة إخباره بالغيب فقط ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك.
ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}.
وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا تناقض في ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.
ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها أو بسلب القدرة التامة أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما مثل قوله تعالى لزكريا.
{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}.
وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعهم عن هذه(6/277)
المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ(6/278)
ص -251- الآيات الخارقة للعادات بمنزلة من يقول إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم وأضربهم جميعهم وأجوعهم وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله أو إلى ولي الأمر وليس فيهم مع ذلك من يشتكي فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
ولو قدر أن واحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله أو قال شعرا يقدر أمثاله أن يقولوا مثله وتحداهم كلهم فقال عارضوني وإن لم تعارضوني فأنتم كفار مأواكم النار ودماؤكم لي حلال امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.
والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم أنا رسول الله إليكم جميعا ومن آمن بي دخل الجنة ومن لم يؤمن بي دخل النار وقد أبيح لي قتل رجالهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ووجب عليهم كلهم طاعتي ومن لم يطعني كان من أشقى الخلق ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.
فيقال لا يخلوا إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.
فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد فهذا من أبلغ الخوارق.
وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت كونه خارقا على تقدير النقيضين النفي والإثبات فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر.
فهذا غاية التنزل والا فالصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ(6/279)
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ(6/280)
ص -252- وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
وأيضا فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة ولو كانوا قادرين لعارضوه وقد انتدب غير واحد لمعارضته لكن جاء بكلام فضح به نفسه وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله مثل قرآن مسيلمة الكذاب كقوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين.
وكذلك أيضا يعرفون أنه لم يختلف حال قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه.
وأيضا فلا نزاع بين العقلاء المؤمنين بمحمد والمكذبين له إنه كان قصده أن يصدقه الناس ولا يكذبوه وكان مع ذلك من أعقل الناس وأخبرهم وأعرفهم بما جاء به ينال مقصوده سواء قيل إنه صادق أو كاذب فإن من دعى الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم ولم يزل حتى استجابوا له طوعا وكرها وظهرت دعوته وانتشرت ملته هذا الانتشار هو من عظماء الرجال على أي حال كان فإقدامه مع هذا القصد في أول الأمر وهو بمكة وأتباعه قليل على أن يقول خبرا يقطع به أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله لا في ذلك العصر ولا في سائر الأعصار المتأخرة لا يكون إلا مع جزمه بذلك وتيقنه له وإلا فمع الشك والظن لا يقول ذلك من يخاف أن يظهر كذبه فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقه.
وإذا كان جازما بذلك متيقنا له لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر والعلم بهذا يستلزم كونه معجزا فإنا نعلم ذلك وإن لم يكن علمنا بذلك خارقا للعادة ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم وإلا كان العلم جهلا(6/281)
ص -253- فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقا للعادة.
وأما التفصيل فيقال نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق وبسط هذا وتفصيله طويل يعرفه من له نظر وتدبر ونفس ما اخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته أمر عجيب خارق للعادة لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر لا نبي ولا غير نبي.
وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم وغير ذلك ونفس ما أمر به القرآن من الدين والشرائع كذلك ونفس ما أخبر به من الأمثال وبينه من الدلائل هو أيضا كذلك.
ومن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية والخلقية والسياسية وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم.
فالإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه
وما في التوراة والإنجيل ولو قد أنه مثل القرآن لا يقدح في المقصود فإن تلك كتب الله أيضا ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي كما أتى المسيح بإحياء الموتى وقد وقع(6/282)
ص -254- إحياء الموتى على يد غيره فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثل المعاني القرآن لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية بل يظهر التفاوت لكل من تدبر القرآن وتدبر الكتب.
وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي وإخباره بعجزهم فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد.
ودلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية فيها الظاهر البين لكل أحد كالحوادث المشهودة مثل خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر وغير ذلك وفيها ما يختص به من عرفه مثل دقائق التشريح ومقادير الكواكب وحركاتها وغير ذلك فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا فإن الله يجود به على عباده جودا عاما ميسرا.
فلما كانت حاجتهم إلى النفس أكثر من حاجتهم إلى الماء وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل كان سبحانه قد جاء بالهواء جودا عاما في كل مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه ثم الماء دونه ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر لأن الحاجة إليه أشد.
فكذلك دلائل الربوبية حاجة الخلق إليها في دينهم أشد الحاجات ثم دلائل النبوة فلهذا يسرها الله وسهلها أكثر مما لا يحتاج إليه العامة مثل تماثل الأجسام واختلافها وبقاء الأعراض أو فنائها وثبوت الجوهر الفرد أو انتفاؤه ومثل مسائل المستحاضة وفوات الحج وفساده ونحو ذلك مما يتكلم فيه بعض العلماء(6/283)
ص -255- فصل
وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وعلم أمته ودينهم من آياته وكرامات صالح أمته من آياته وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث ومن حيث بعث إلى أن مات وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته الكتاب والنبوة والكتاب فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته ونجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هذا وهذا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهرت فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم ثم من قريش صفوة بني إبراهيم ثم من بني هاشم صفوة قريش ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إلى حجه ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف وكان من اكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جرب عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله وكان أميا من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب التوراة والإنجيل ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس ولا جالس أهلها ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.(6/284)
ص -256- ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس وكذبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها ولا كان له سيف بل كان السيف والمال والجاه مع أعدائه وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتبسون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم وعرفوه فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بعض عشرة سنة فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ثم أذن له في الجهاد ثم أمر به ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدماء المحرمة وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معادا فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم حتى أن النصارى لما رأوهم(6/285)
حين قدموا الشام قالوا ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.(6/286)
ص -257- وهو ضلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا له إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله وكان بيده عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم تبين أنهم(6/287)
ص -258- أسخى وأكرم من غيرهم وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وهو الذي أمرهم بها لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة.
فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة وبعضها من الزبور وبعضها من النبوات وبعضها من المسيح وبعضها ممن بعده كالحواريين وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم حتى أدخلوا لما غيروا دين المسيح في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد فلم يكونوا قبله يقرؤون كتابا بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل فقال تعالى: في الكتاب الذي جاء به.
سورة البقرة الآيتان{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً(6/288)
كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} سورة البقرة.
وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به وما حدثهم أهل الكتاب موافقا لما عندهم صدقوه وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه وما عرفوا(6/289)
ص -259- أو غيرهم كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله والتابعون وهو الذي عليه أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق وعليه جماعة المسلمين وعامتهم ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة الذين قال فيم النبي صلى الله عليه وسلم" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة".
وقد تنازع بعض المسلمين مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما ودين محمد خصوصا.
ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم ملحدا مذموما ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم وقاتل عليه ملوكهم ودان به جمهورهم وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح ولا دين غيره من الأنبياء.
والله سبحانه وتعالى أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح فمن اتبع الرسل حصل له سعادة الدنيا والآخرة وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا.
ولما بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته.
فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد أخذوه عن نبيهم مع ما يظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}.
لم يكن كاذبا مفتريا فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا.
وما ذكر من كمال علمه ودينه يناقض الشر والخبث والجهل فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} لأن الذي لم يكن صادقا إما أن يكون(6/290)
ص -260- متعمدا للكذب أو مخطئا والأول يوجب أنه كان ظالما غاويا والثاني يقتضي أنه كان جاهلا ضالا وكمال علمه ينافي جهله وكمال دينه ينافي تعمد الكذب فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.
ثم قال عنه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}.
أي بمتهم أو بخيل كالذي لا يعلم إلا بجعل أو لمن يكرمه {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.
بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه فإن الشيطان يقصد الشر وهو الكذب والفجور ولا يقصد الصدق والعدل فلا يقترن إلا بمن فيه كذب إما عمدا وأما خطأ فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا كما قال ابن مسعود لما سئل عن مسألة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه(6/291)
ص -261- فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ بخلاف غير الرسول فإنه قد يخطىء ويكون خطؤه من الشيطان وإن كان خطؤه مغفورا له فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا علم أن الشيطان لم ينزل عليه وإنما ينزل عليه ملك كريم ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي.
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(6/292)
ص -262- فصل
وقد نقل الناس صفاته الظاهرة الدالة على كماله ونقلوا أخلاقه من حلمه وشجاعته وكرمه وزهده وغير ذلك ونحن نذكر بعض ذلك.
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير".
وعنه قال: "كان بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه".
وفي البخاري وسئل البراء أكان وجه رسول الله مثل السيف قال: "لا بل مثل القمر".
وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: "كان النبي إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر".
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله ضخم الرأس والقدمين لم أر قبله ولا بعده مثله وكان بسط الكفين ضخم اليدين" وسئل عن شعره فقال: "كان شعرا رجلا ليس بالجعد ولا بالسبط بين أذنيه وعاتقه".(6/293)
ص -263- وفي الصحيحين عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العينين منهوس العقبين" وفسرها سماك بن حرب فقال: "واسع الفم طويل شق العين قليل لحم العقب" وفي الصحيحن عن أنس قال: "كان رسول الله ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط".
وفي الصحيحين عنه قال: "كان رسول الله أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ وما مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله ولا شممت مسكا ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله" وروى الدارمي عن ابن عباس قال: "كان رسول الله أفلج(6/294)
ص -264- الثنيتين إذا تكلم رئي النور يخرج من ثناياه".
وروي عن ابن عمر قال: "ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أضوأ من رسول الله".
وعن أنس قال: "دخل علينا رسول الله فقال عندنا فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ رسول الله فقال أم سليم ما هذا الذي تصنعين قالت هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو أطيب من الطيب" أخرجاه في الصحيحين.
وروى الدارمي عن جابر قال: "كان رسول الله لا يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه".
وفي حديث أم معبد المشهور لما مر بها النبي في الهجرة هو وأبو بكر ومولاه(6/295)
ص -265- ودليلهم وجاء زوجها فقال: "صفيه لي يا أم معبد فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن" وروى أبو زرعة عن محمد بن عمار بن ياسر قالت قلت للربيع بنت معوذ بن عفراء صفي لنا رسول الله فقالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة.
وفي الصحيحين عن أنس قال: "كان رسول الله أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر وهو على(6/296)
ص -266- فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا وقال وجدناه بحرا وكان الفرس قبل ذلك بطيئا فعاد لا يجارى".
وفي الصحيحن عن ابن عباس قال: "كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة".
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: "كنا إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني رسول الله".
وعن علي بن أبي طالب قال: "لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس بأسا وما كان أحد أقرب إلى العدو منه" ذكره البيهقي بإسناد صحيح.
وفي الصحيحين عن أنس قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفا قط ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا".(6/297)
ص -267- وفي رواية في الصحيحين أيضا قال: "خدمته في السفر والحضر والله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا وكان أحسن الناس خلقا" وفي الصحيحين عن جابر قال: "ما سئل رسول الله شيئا فقال لا".
وفي الصحيحين عن أنس قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة".
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو وذكر رسول الله قال: ل"م يكن فاحشا ولا متفحشا"(6/298)
ص -268- وروى البخاري عن أنس قال: "لم يكن رسول الله سبابا ولا فحاشا ولا لعانا كان يقول لأحدنا عند المعتبة ماله تربت جبيبنه".
وفي صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: "ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله".
وعنها قالت: "ما ضرب رسول الله بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله" وروى مسلم في صحيحه عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله فقالت: "كان خلقه القرآن".
وروى أبو داود الطيالسي عن شعبة حدثنا أبو إسحاق حدثنا أبو عبد الله الجدلي قال سمعت عائشة وسألها عن خلق رسول الله فقالت: "لم يكن فاحشا(6/299)
ص -269- ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح أو يغفر شك" أبو داود ورواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين.
وفي الصحيحين عن علقمة قالت سألت عائشة كيف كان عمل رسول الله وهل كان يخص شيئا من الأيام قالت: "لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله يستطيع".
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام وقد سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت: "ألست تقرأ القرآن قال بلى قالت فإن خلق نبي الله القرآن".
وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيلك(6/300)
ص -270- يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه".
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "جيراني على ما أخذوا فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس يزعمون أنك نهيت عن الغي ثم تستخلي به فقال لأن كنت أفعل ذلك أنه لعلي وما هو عليهم خلوا له جيرانه".
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك قال: "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لم يعلمون من كراهته لذلك" رواه عن عبد الرحمن بن مهدي ثنا حماد بن سلمة عن حميد عنه.(6/301)
ص -271- وروى عنه أبو نعيم وأبو الشيخ وغيرهما عن ابن عباس أن الله أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل فقال الملك إن الله خيره بين أن يكون عبدا وبين أن يكون ملكا نبيا قال فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير فأشار جبريل بيده أن تواضع فقال رسول الله: "لا بل أكون عبدا نبيا" رواه النسائي والبخاري في تاريخه.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله فنظر الغلام إلى أبيه" فقال له أبوه: أطع أبا القاسم فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"
وعن أبي حازم أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم رجلا فأرعد فقال له رسول الله: "هون(6/302)
ص -272- عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" رواه ابن الجوزي من طرق بعضها متصلا عن ابن مسعود قال ابن الجوزي وروي متصل والصواب إرساله كما تقدموفي الصحيح عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء قالت يا رسول الله إن لي إليك حاجة قال: "يا أم فلان خذي في أي الطرق شئت قومي فيه حتى أقوم معك فخلا معها يناجيها حتى قضت حاجتها" رواه مسلم.
وعن أنس قال: "كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتدور به في حوائجها حتى تفرغ ثم يرجع" رواه البخاري في الأدب(6/303)
ص -273- وروي عن ابن أبي أوفى قال: "كان رسول الله يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته".
وعنه قال: "كان رسول الله يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يستنكف أن يمشي مع العبد ولا مع الأرملة حتى يفرغ من حاجتهم" ورواه الدارمي والحاكم في صحيحه.
وروى أبو داود الطيالسي عن أنس قال: "كان رسول الله يركب الحمار ويلبس الصوف ويجيب دعوة المملوك ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه ليف".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس قال: "ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله".
وروى البخاري عنه قال: "مر رسول الله على صبيان فسلم عليهم".
وروى ابن عباس قال: "كان رسول الله يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك".
وعن قدامة بن عبد الله: "رأيت رسول الله على بغلة شهباء لا ضرب ولا طرد(6/304)
ص -274- ولا إليك" رواهما أبو الشيخ.
وعن عائشة قالت: "ما رأيت رسول الله قط مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه فقلت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية قال: "يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد أتى العذاب قوما" وتلا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}".
أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا عن أنس قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذا شديدا حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك قال فالتفت إليه رسول الله فضحك ثم أمر له بعطاء".
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كان رسول الله لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم" وفي رواية أخرى صحيحة: "كان طويل الصمت قليل الضحك وكان أصحابه ربما(6/305)
ص -275- تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم فيضحكون ويتبسم".
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وسألها الأسود: "ما كان رسول الله يصنع في أهله فقالت كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج".
ومن رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة قال: سأل رجل عائشة هل كان يعمل في بيته فقالت: "كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته".
وروى الطيالسي ثنا شعبة ثنا الأعور قال سمعت أنسا يقول: "كان رسول الله يركب الحمار ويلبس الصوف ويجيب دعوة المملوك ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس قال: "ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم".(6/306)
ص -276- وروى عنه البخاري قال: "مر رسول الله على صبيان فسلم عليهم" وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع رسول الله ثلاثة أيام من خبز بر تباعا حتى مضى لسبيله".
وعنها قالت: "كنا آل محمد يمر بنا الهلال والهلال ما نوقد بنار لطعام إلا أنه التمر والماء إلا أنه حولنا أهل دور من الأنصار فيبعث أهل كل دار بفريزة شاتهم إلى رسول الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من ذلك اللبن" أخرجاه في الصحيحين.
وفي صحيح البخاري قال أنس: "ما رأى رسول الله رغيفا مرققا حتى لحق بالله ولا أرى شاة سميطا بعينه قط".
وفي صحيح البخاري عنه: "ما أكل رسول الله على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق فقيل له على ما كانوا يأكلون قال على السفر".
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب أنه خطب وذكر ما فتح على الناس فقال: "لقد رأيت رسول الله يتلوى يومه من الجوع ما يجد من الدقل(6/307)
ص -277- ما يملأ بطنه" وفي صحيح البخاري عن أنس: "أنه مشى إلى النبي بخبز شعير وإهالة سنخة ولقد رهن درعه عند يهودي فأخذ لأهله شعيرا ولقد سمعته يقول ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب وإنهم يومئذ تسعة أبيات".
وفيه عن عائشة قالت: "كان فراش رسول الله من أدم حشوه ليف".
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذكر اعتزال رسول الله نساءه قال: "فدخلت على رسول الله في خزانته فإذا هو مضطجع على حصير فأدنى إليه إزاره وجلس وإذا الحصير قد أثر بجنبه وقلبت عيني في بيته فلم أجد شيئا يرد البصر غير قبضة من شعير وقبضة من قرظ نحو الصاعين وإذا أفيق ملعقة فابتدرت عيناي فقال رسول الله: "ما يبكيك يا ابن الخطاب" فقلت: يا رسول الله وما لي لا أبكي وأنت صفوة الله ورسوله وخيرته من خلقه وهذه خزانتك وهذه الأعاجم كسرى وقيصر في الثمار والأنهار فقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية أو ما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال بلى قال فالحمد لله عز وجل قال فقلت أستغفر الله".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله: "اللهم اجعل رزق آل محمد(6/308)
ص -278- قوتا" وروى الطيالسي بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: "اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده فجعلت أمسحه عنه وأقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه فقال" ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
ورواه الحاكم في صحيحه عن ابن عباس أن عمر: "دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نحوه وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة" ورواه البخاري أيضا عن أنس في كتاب الحج فقال: "حج أنس على رحل رث ولم يكن شحيحا وحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته".(6/309)
ص -279- وفي صحيح الحاكم عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خشنا وأكل خشنا ولبس الصوف واحتذى المخصوف قيل للحسن ما الخشن قال غليظ الشعير ما كان يسيغه إلا بجرعة ماء".(6/310)
ص -280- فصل
ومما يبين به فضل أمته على جميع الأمم وذلك مستلزم لكونه رسولا صادقا كما تقدم وهو آية وبرهان على نبوته فإن كل ملزوم فإنه دليل على لازمه إن الأمم نوعان نوع لهم كتاب منزل من عند الله كاليهود والنصارى ونوع لا كتاب لهم كالهند واليونان والترك وكالعرب قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وما من أمة إلا ولا بد لها من علم وعمل بحسبهم ويقوم به ما يقوم من مصالح دنياهم وهذا من الهداية العامة التي جعلها الله لكل إنسان بل لكل حي كما يهدي الحيوان لجلب ما ينفعه بالأكل والشرب ودفع ما يضره باللباس والكن وقد خلق الله فيه حبا لهذا وبغضا لهذا قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}وقال موسى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقال في أول ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم الأمم متفاضلون في معرفة الخالق تعالى وفي الإقرار بالمعاد بعد الموت إما للأرواح فقط وأما للأبدان فقط وأما لمجموعهما كما هو قول سلف الأمة المسلمين وأئمتهم وعامتهم أهل السنة والجماعة ومتفاضلون فيما يحمدونه ويستحسنونه من الأفعال والصفات وما يذمونه ويستقبحونه من ذلك لكن عامة بني آدم على أن العدل خير من الظلم والصدق خير من الكذب والعلم خير من الجهل فإن المحسن إلى الناس خير من الذي لا يحسن إليهم(6/311)
ص -281- وأما المعاد فهو إما للأرواح أو للأبدان وإن الناس بعد الموت يكونون سعداء أو أشقياء فيقر به كثير من الأمم غير أهل الكتاب وإن كان على وجه قاصر كحكماء الهند واليونان والمجوس وغيرهم وذلك أن أهل الأرض في المعاد على أربعة أقوال: أحدها وهو مذهب سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من أهل السنة والحديث من الفقهاء والصوفية والنظار وهو إثبات معاد الأواح والأبدان جميعا وأن الإنسان إذا مات كانت روحه منعمة أو معذبة ثم تعاد روحه إلى بدنه عند القيامة الكبرى ولهذا يذكر الله في كثير من السور أمر القيامتين القيامة الصغرى بالموت والقيامة الكبرى حين يقوم الناس من قبورهم وتعاد أرواحهم إلى أبدانهم كما ذكر الله القيامتين في سورة الواقعة حيث قال في أولها {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثم ذكر سبحانه حال الأصناف الثلاثة في القيامة الكبرى وقال في آخر السورة {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فأما إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وأما إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وأما إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}(6/312)
ص -282- وكذلك في سورة القيامة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فذكر القيامة الكبرى ثم قال في آخر السورة {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ولبسط هذا موضع آخر فإن ذكر ما ينال الروح عند فراق البدن من النعيم والعذاب كثير في النصوص النبوية وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة فكثير جدا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وقد بعث بين يدي الساعة فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره كما ذكر المسيح في صفته فقال إنه يخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للرب
والقول الثاني: قول من يثبت معاد الأبدان فقط كما يقول ذلك كثير من المتكلمين الجهمية والمعتزلة المبتدعين من هذه الأمة وبعض المصنفين يحكي هذا القول عن جمهور متكلمي المسلمين أو جمهور المسلمين وذلك غلط فإنه لم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا هو قول جمهور نظارهم بل هو قول طائفة من متكلميهم المبتدعة الذين ذمهم السلف والأئمة
والقول الثالث: المعاد للنفس الناطقة بالموت فقط وأن الأبدان لا تعاد وهذا لم يقله أحد(6/313)
ص -283- من أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى بل هؤلاء كلهم متفقون على إعادة الأبدان وعلى القيامة الكبرى ولكن من تفلسف من هؤلاء فوافق سلفه من الصابئة والفلاسفة المشركين على ان المعاد للروح وحده فإنه يزعم أن الأنبياء خاطبوا الجمهور بمعاد الأبدان وإن لم يكن له حقيقة وخاطبوهم بإثبات الصفات لله وليس له حقيقة وأن الأنبياء لم يظهروا الحقائق للخلق وأنه لا يستفاد من أخبارهم معرفة شيء من صفات الله ولا معرفة شيء من أمر المعاد وحقيقة قولهم أن الأنبياء كذبوا للمصلحة وهؤلاء ملاحدة كفار عند المتبعين للأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى وإن كان هؤلاء كثيرين موجودين فيمن يتظاهر بأنه من أهل الملل لظهور أديانهم وهو في الباطن على هذا الرأي وهؤلاء القائلون بمعاد الأرواح فقط منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ أما في أبدان الآدميين أو أبدان الحيوان مطلقا أو في موضع الأجسام النامية ومنهم من يقول بالتناسخ للأنفس الشقية فقط وكثير من محققيهم ينكر التناسخ والقول الرابع إنكار المعادين جميعا كما هو قول أهل الكفر من العرب واليونان والهند والترك وغيرهم والمتفلسفة أتباع أرسطو كالفارابي وأتباعه لهم في معاد الأرواح ثلاثة أقوال قيل بالمعاد للنفس العالمة والجاهلة وقيل بالمعاد للعالمة دون الجاهلة وقيل بإنكار الاثنين والفارابي نفسه قد قال الأقوال الثلاثة وبسط الكلام على هذه الأمور له موضع آخر إذ المقصود هنا أن كل ما عند أهل الكتاب بل وسائر أهل الأرض من علم نافع وعمل صالح فهو عند المسلمين وعند المسلمين ما ليس عند غيرهم في جميع المطالب التي تنال بها السعادة والنجاة وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق وتنهى عن الظلم والفواحش ولهم علوم إليهة وعبادات بحسبهم ويعظمون أهل العلم والدين منهم والهند واليونان والفرس في(6/314)
ص -284- ذلك أكمل من كفار الترك والبربر ونحوهم مع أن هؤلاء أيضا فيهم قسط من ذلك ومعلوم عند الاعتبار أن الأمم الذين لهم كتاب كاليهود والنصارى أكمل من الأمم الذين لا كتاب لهم في الفضائل العلمية والعملية فإن ما لم يأخذه الناس عن الأنبياء يعلم بالعقل والاعتبار أو بالمنام والإلهام وأخبار الجن ونحو ذلك من طرق الأمم وكل طريق صحيح من الطرق العقلية والإلهامية وغيرها شارك أهل الكتاب فيه من لا كتاب له ويمتاز أهل الكتاب بعلوم وأعمال أخذوها عن الأنبياء ليس في قوة من ليس بنبي ان يعلمها وهذا ظاهر في الأخلاق والسياسات المزلية فإن جنس أهل الكتاب ولو كان منسوخا مبدلا أحسن حال لا كتاب له وأما في العبادات والإيمان بالله واليوم الآخر فرجحانهم فيه ظاهر وأما علوم وأعمال يكون ضررها راجحا كالسحر والطلسمات وما يتوسل به من الشرك إلى استخدام الشياطين ونحو ذلك فهذا وإن كان غير أهل الكتاب أقوم به فإنما ذاك لاستغناء أهل الكتاب بما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة
ولهذا لما ذكر الله سبحانه في قصة سليمان براءته عن ذلك وكانت الشياطين قد كتبت كتب كفر وسحر ودفنتها تحت كرسي سليمان فلما مات أظهروا ذلك(6/315)
ص -285- الكتاب وقال من فعل ذلك فهو كافر وفريق قالوا نحن نقتدي بسليمان ونفعل كما كان يفعل وهم أهل العزائم والطلاسم التي يستخدمون بها الجن ويقولون إن سليمان كان يستخدمهم بها حتى يقولوا إن هذه الأسماء كانت مكتوبة على تاجه وهذا صورة خاتمه وهذا كلام آصف بن برخيا إلى امثال ذلك مما يضيفونه إليه وهو كذب على سليمان وقد ذكر ذلك علماء المسلمين في تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} سورة البقرة
فذم سبحانه من عدل عن اتباع كتاب الله ورسله واتبع ما تتلوه الشياطين على عهد(6/316)
ص -286- سليمان وبين سبحانه أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين كفروا وأنهم يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل وأن الملكين هاروت وماروت ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وأخبر سبحانه أنهم لا يضرون به احدا إلا بإذن الله وأنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي من نصيب أي هؤلاء يعلمون أن صاحبه لا نصيب له في الآخرة وإنما يطلبون أنهم يقضون به أغراضهم الدنيوية لما لهم في ذلك من الهوى وذلك ضار لهم لا نافع كما قال في المشرك {يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه}
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فبين سبحانه أنه بالإيمان والتقوى يحصل من ثواب الله ما هو خير لهم من هذا فإنهم إنما يطلبونه لما يرجون به من الخير لهم وهذا خير لهم وهذا كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}فإن ما تطلبه النفوس فيه لها لذة يجعل خيرا بذلك الاعتبار لكن إذا كان الألم زائدا على اللذة كان شره أعظم من خيره والشرائع جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تأمر بما تترجح مصلحته وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد وتنهى عما ترجحت مفسدته وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره ولهذا أمر تعالى أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا فالأحسن إما واجب وأما مستحب قال تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}
وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}(6/317)
ص -287- فأمر باتباع الأحسن والأخذ به وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} فاقتضى أن غيرهم لم يهده وهذا يقتضي وجوب الأخذ بالأحسن وهو مشكل وقد تكلم الناس فيه ونظيره قوله تعالى{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} مع قوله تعالى في موضع آخر {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}
وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في موضعين وقد يقال هذا نظير قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}
وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}
وقوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
وقوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
وقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}
وقوله: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ونظائر هذا كثيرة مما يذكر فيه أن(6/318)
المأمور به خير وأحسن من المنهي عنه وإن كان الأول واجبا والثاني محرما
وذلك لأن المأمور به قد يشتمل على مفسدة مرجوحة والمنهي عنه يشتمل على مصلحة مرجوحة فيكون باعتبار ذلك فيهذا خير وحسن وفي هذا شر وسيىء لكن هذا(6/319)
ص -288- خير وأحسن وإن كان واجبا
فقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} هو أمر بالأحسن من فعل المأمور أو ترك المحظور وهو يتناول الأمر بالواجب والمستحب فإن كلاهما أحسن من المحرم والمكروه لكن يكون الأمر أمر إيجاب وأمر استحباب كما امر بالإحسان في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} والإحسان منه واجب ومنه مستحب(6/320)
ص -289- فصل
وإذا كان جنس أهل الكتاب أكمل في العلوم النافعة والأعمال الصالحة ممن لا كتاب له فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من طائفتي أهل الكتاب اليهود والنصارى وأعدل وقد جمع لهم محاسن ما في التوراة وما في الإنجيل فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها فأما العلوم فهم أحذق في جميع العلوم من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية كعلم الطب مثلا والحساب ونحو ذلك هم أحذق فيها من الأمتين ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوز بنفاق وإلحاد ولا قدر له عندهم لكن حصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لهذه العلوم من أولئك المتقدمين
وأما العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش والملائكة والجن والجنة والنار وتفاصيل المعاد فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء اليهود والنصارى وجد كلام المسلمين فيها أكمل وأتم ومعلوم أن علم أهل الكتاب والملل بذلك أتم من علم غيرهم وأما العبادة والزهد والأخلاق والسياسة المنزلية والمدنية فالكلام فيها مبني على أصل وهو معرفة المقصود بها وما به(6/321)
ص -290- يحصل المقصود فنقول للناس في مقصود العبادات مذاهب منهم من يقول المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك للعلم وليست هي مقصودة في نفسها ويجعلونها من قسم الأخلاق وهذا قول متفلسفة اليونان وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا وغيرهما ومن سلك طريقهم من متكلم ومتصوف ومتفقه كما يوجد مثل ذلك في كتب أبي حامد والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وابن عربي وابن سبعين لكن أبو حامد يختلف كلامه تارة يوافقهم وتارة يخالفهم وهذا القدر فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء وبين فلسفة المشائين أرسطو وأمثاله ولهذا تكلموا في الآيات وخوارق العادات وجعلوا لها ثلاثة أسباب القوى الفلكية والقوى النفسانية والطبيعية إذ كانت هذه هي المؤثرات في هذا العالم عندهم وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس لكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير هذا قصده الشر وهذا المذهب من افسد مذاهب العقلاء كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر فإنه مبني على إنكار الملائكة وإنكار الجن وعلى أن الله لا يعلم الجزئيات ولا يخلق بمشيئته وقدرته ولا يقدر على تغيير العالم
ثم أن هؤلاء لا يقرون من المعجزات إلا بما جرى على هذا الأصل وأمكن أن يقال فيه هذا مثل نزول المطر وتسخير السباع وإمراض الغير وقتله ونحو ذلك وأما قلب العصا حية وإحياء الموتى وإخراج الناقة من الهضبة وانشقاق القمر وأمثال ذلك فلا(6/322)
ص -291- يقرون به وقد علم بطرق متعددة ما يكون من الخوارق بسبب أفعال الجن وبسبب أفعال الملائكة وأحوال الجن معلومة عند عامة الأمم مسلمهم وكافرهم لا يجحد ذلك إلا من هو من أجهل الناس وكذلك من فسرها بقوى النفس وهذا غير إخبار الله عنهم فيما أنزله من الكتب وأما الملائكة فأمرهم أجل وهم رسل الله في تدبير العالم كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} وقد ذكر الله تعالى في كتبه من أخبارهم وأصنافه مما يطول وصفه وآثارهم موجودة في العالم يعرف ذلك بالاعتبار كما قد بسط في موضعه إذ المقصود هنا ذكر مذاهب الناس في العبادات وهؤلاء غاية ما عندهم في العبادات والأخلاق والحكمة العملية أنهم رأوا النفس فيها شهوة وغضب من حيث القوة العملية ولها نظر من جهة القوة العلمية فقالوا كمال الشهوة في العفة وكما الغضب في الحلم والشجاعة وكما القوة النظرية في العلم والتوسط في جميع ذلك بين الإفراط والتفريط هو العدل وما ذكروه من العمل متعلق بالندب لم يثبتوا خاصية النفس التي هي محبة الله وتوحيده بل ولا عرفوا ذلك كما لم يكن عندهم من العلم بالله إلا قليل مع كثير من الباطل كما بسط الكلام عنهم في موضعه ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلا صلاح للنفس ولا كمال لها إلا في ذلك وبدون ذلك تكون فاسدة لا صلاح لها كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله(6/323)
ص -292- واجتنبوا الطاغوت} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقال لما ذكر قصص الأنبياء {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيل َلِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فالغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة قول القائل لا إله إلا الله ولهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا كما قال تعالى:(6/324)
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد والإيمان وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى:(6/325)
ص -293- {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في موضعين من كتابه وهذا أول الكلمات العشر التي أنزلها الله على موسى حيث قال أنا الله لا إله إلا أنا آلهك الذي أخرجتك من أرض مصر من التعبد لا يكون لك إله غيري لا تتخذ صورا ولا تمثالا ما في السموات من فوق ومن في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن إني إنا ربك العزيز وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس فعبادة الله وحده لا شريك له وان يكون الله احب إلى العبد من كل ما سواه هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو وذلك يتضمن كمال الحب والذل والإجلال والإكرام والتوكل والعبادة فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها(6/326)
ص -294- ومنتهى مرادها وبغيتها ومن حيث هو ربها وخالقها فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه ولم يعبد إلا الله وحده بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأخشى عنده من كل ما سواه وأعظم عنده من كل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ويخشاه مثل ما يخشى الله ويرجوه مثل ما يرجو الله ويدعوه مثل ما يدعوه فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه وكان حكيما شجاعا فما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس وتنجو من العذاب كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس ولا من الأخلاق ما هو دين حق ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه الفضائل الاربع التي ذكرها المتفلسفة لا بد منها في كمال النفس وصلاحها وتزكيتها والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به النجاة والسعادة ولكن الأنبياء بينوا ذلك وقد قال سبحانه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهذه الأنواع الأربعة هي التي حرمها تحريما مطلقا لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق ولا في حال من الأحوال بخلاف الدم والميتة ولحم الخنزير وغير ذلك فإنه يحرم في حال ويباح في حال(6/327)
وأما الأربعة فهي محرمة مطلقا(6/328)
ص -295- فالفواحش متعلقة بالشهوة والبغي بغير الحق يتعلق بالغضب والشرك بالله فساد أصل العدل فإن الشرك ظلم عظيم والقول على الله بلا علم فساد في العلم فقد حرم سبحانه هذه الأربعة وهي فساد الشهوة والغضب وفساد العدل والعلم وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} يتضمن تحريم أصل الظلم في حق الله وذلك يستلزم إيجاب العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له فإن النفس لها القوتان العلمية والعملية وعمل الإنسان عمل اختياري والعمل الاختياري إنما يكون بإرادة العبد وكل إنسان له إرادة وعمل بإرادته فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء الحارث وهمام" والإرادة لا بد لها من مراد وكل مراد فأما أن يراد لنفسه وأما أن يراد لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه
فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة ولهذا قيل العامة تقولقيمة كل امرىء ما يحسنه والعارفون يقولون قيمة كل امرئ ما يطلب وفي بعض الكتب المتقدمة إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس وإنما جعلوا كمالها العملي في(6/329)
ص -296- تعديل الشهوة والغضب بالعفة والحلم وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب والشهوة هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع والغضب دفع ما يضر البدن ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم وقد بسطنا غلطهم في هذا الأصل من وجوه في غير هذا الموضع وبينا أن النفس لها كمال في العمل والإرادة كما أن لها كمالا في العلم وأن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس وبينا غلط الجهمية الذين قالوا الإيمان هو مجرد العلم وأن الصواب قول السلف والأئمة إن الإيمان قول وعمل أصله قول القلب وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به ولا تكمل إلا به وذلك هو إلهها فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله ولهذا قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة الجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون لهم علم وعمل اختياري ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته وهو معبودهم ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله فلو كان في السموات والأرض إله إلا الله لفسدتا فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له(6/330)
ص -297- وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء فضلا عما تسعد به ومما يبين ذلك أن أرسطو معلمهم الأول هو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى بالحركة الفلكية فقالوا الحركة الدورية حركة اختيارية نفسانية فقوامه بحركته الاختيارية وفساده بعدمها وقوام حركته بما يتحرك لأجله فإن الفاعل بالاختيار إنما قوامه بعلته الغائية التي يتحرك لأجلها وغايته التي يتحرك لأجلها هو العلة الأولى فإنه يتحرك للتشبه بها فجعلوا قوام العالم كله بالعلة الأولى من حيث هو متشبه به لأن المتحرك باختياره لا بد له من مراد ومعلوم أن الحركة الإرادية تطلب مرادا محبوبا لنفسها وتستلزم ذلك أعظم من استلزامها مشبها به فإن كل متحرك بإرادة لابد له من مراد محبوب لنفسه فإن الإرادة لا بد لها من مراد والمراد يكون إما مرادا لنفسه وأما لغيره والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير بد أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه أو منتهى إلى مراد لنفسه وإلا لزم التسلسل في العلل الغائبة وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل واتفاق العقلاء وبسط هذا له موضع آخر وإذا كان الفاعل باختيار يستلزم مرادا لنفسه محبوبا فلابد أن يكون لما يتحرك في السموات بإرادته سواء كان هؤلاء الملائكة أو ما يسمونه هم نفسا من محبوب مراد لذاته يكون هو الإله المعبود المراد بتلك الحركات وكذلك نفس الإنسان حركتها بالإرادة من لوازم ذاتها فلا بد لها من محبوب مراد لذاته وهو الإله وهذا المحبوب المراد لذاته هو الله تعالى ويمتنع أن يكون غيره كما قد بسط هذا في موضع آخر وبين أن يمتنع أن يكون موجودا بغيره بل هو واجب الوجود بنفسه فيمتنع أنه يكون مرادا لغيره بل مراد لنفسه وكما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان(6/331)
ص -298- فإن كون أحدهما قادرا يناقض كون الآخر قادرا لامتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد وامتناع كون أحدهما قادرا على الفعل حين يكون الأخر قادرا عليه وامتناع ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخر مع التكافؤ كذلك يمتنع أن يكون إلهان معبودان محبوبان لذاتهما لأن كون أحدهما هو المعبود لذاته يناقضه أن يكون غيره معبودا لذاته فإن ذلك يستلزم أن يكون بعض المحبة والعمل لهذا وبعض ذلك لهذا وذلك يناقض كون الحب والعمل كله لهذا فإن الشركة نقص في الحب فلا تكون حركة المتحرك بإرادته له فلا يكون أحدهما معبودا معمولا له إلا إذا لم يكن الآخر كذلك فإن العمل لهذا يناقض أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون لغيره وكل من أحب شيئين فإنما يحبهما لثالث غيرهما وإلا فيمتنع أن يكون كل منهما محبوبا لذاته إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفس وتطلبه وتطمئن إليه بحيث لا يبقى لها مراد غيره وهذا يناقض أن يكون له شريك
والقول الثاني: قول من يقول إن الله عوض الناس بالتكليف بالعبادات ليثيبهم على ذلك بعد الموت فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف لما فيه من الإجلال والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية وقد يقولون إن الغاية المقصودة التي بها يحصل الثواب هو العمل والعلم ذريعة إليه حتى يقولوا مثل ذلك في معرفة الله تعالى يقولون إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العقلية العملية(6/332)
ص -299- والقول الثالث: قول من يقول بل الله أمر بذلك لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب بل لمحض المشيئة وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم والأشعري وخلق كثير من المتكلمين والفقهاء والصوفية وغيرهم القول الرابع قول سلف الأمة وأئمتها وهو أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو ولا يجوز أن يكون غيره محبوبا معبودا لذاته وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه ويرضى عنهم ويفرح بتوبة التائب ويبغض الكافرين ويمقتهم ويغضب عليهم ويذمهم وأن في ذلك من الحكم البالغة وكذلك من الأسباب ما يطول وصفه في هذا الخطاب كما قد بسط في موضعه إذ المقصود هنا التنبيه على ان المسلمين في هذا أكمل من غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة
وإذا عرف مذاهب الناس في مقاصد العبادات فهم أيضا مختلفون في صفاتها فمن الناس من يظن أن كل ما كان أشق على النفس وأشد إماتة لشهوتها فهو(6/333)
ص -300- أفضل وهذا مذهب كثير من المشركين الهند وغيرهم وكثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى وكثير من مبتدعة المسلمين والثاني قول من يقول إن أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية والثالث قول من يقول فضل بعضها على بعض لا علة له بل يرجع إلى محض المشيئة والرابع وهو الصواب أن أفضلها ما كان لله أطوع وللعبد أنفع فما كان صاحبه أكثر انتفاعا به وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل كما جاء في الحديث خير العمل أنفعه وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل من عبادات غيرهم أما عن الأول فأولئك يقولون كلما كانت الأعمال اشق على النفس فهي أفضل ثم هؤلاء قد يفضلون الجوع والسهر والصمت والخلوة ونحو ذلك كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين الهند وغيرهم ومن النصارى ومبتدعة هذه الأمة ولكن يقال لهم الجهاد أعظم مشقة من هذا كله فإنه بذل النفس وتعريضها للموت ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها وفيه جهاد النفس في الباطن وجهاد العدو في الظاهر ومعلوم ان المسلمين أعظم جهادا من اليهود والنصارى فإن اليهود خالفوا موسى في الجهاد وعصوه والنصارى لا يجاهدون على دين وأما على قول من يجعل العبادات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية فلا ريب أن عبادات المسلمين كصلاتهم وصيامهم وحجهم أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية من عبادات غيرهم التي ابتدعوها فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل وأما على قول نفاة التعليل ورد ذلك إلى مشيئة الله فيكون الأمر في ذلك راجعا إلى محض مشيئة الله وتعبده للخلق وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به(6/334)
ص -301- الرسل يكون متعبدا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته قد ابتدعها أكابرهم من غير أن يأتيهم بها رسول الله من عند الله وأما على القول الرابع فإن علم أن الله أمر به يتضمن طاعة الله وهذا إنما يكون في عبادات أمر الله بها وهي عبادات المسلمين دون من ابتدع كثيرا من عباداتهم أكابرهم وأما انتفاع العباد بها فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم وعدلهم يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال والاعتدال كالطهارة والاصطفاف والركوع والسجود واستقبال بيت إبراهيم الذي هو إمام الخلائق والإمساك فيها عن الكلام وما فيها من الخشوع وتلاوة القرآن واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذ لم يكن لهم شرع يحكم به الناس وليس في الإنجيل حكم عام بل عامته وإنما فيه الأمر بالزهد ومكارم الأخلاق وهو مما يأمر به المسلمون أيضا وقد ذكرنا في كون المسلمين معتدلين متوسطين بين اليهودو النصارى في التوحيد والنبوات والحلال والحرام وغير ذلك مما يبين أنهم أفضل من الأمتين مع أن دلائل هذا كثيرة جدا وإنما المقصود التنبيه على ذلك وحينئذ ففضل الأمة يستلزم فضل متبوعها(6/335)
ص -302- فصل
ومما يبين أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن من دعا إلى مثل ما دعا إليه لا يخلو من ثلاثة أقسام إما ان يكون نبيا صادقا مرسلا من الله كما أخبر عن نفسه بمنزلة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } سورة النساء
وأما أن يكون ملكا مسلما عادلا وضع ناموسا سياسيا وقانونا عدليا ينفع به الخلق ويحملهم به على السيرة العادلة بمبلغ علمه كان ان للأمم من يضع لهم النواميس مثل واضعي النواميس من اليونان والهند والفرس وغيرهم وإن كان واضع الناموس مختصا بقوة قدسية ينال بها العلم بسهولة وقوة نفسية يتصرف فيها تصرفات خارجة عن العادة ويكون له قوة تخييلية تمثل له في نفسه أشكالا نورانية وأصواتا يسمعها في داخل نفسه فإن هذه الخواص الثلاثة هي التي يقول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة إنها خواص النبي ومن قامت به كان نبيا والنبوة مكتسبة عندهم ولكن لما كانت هذه موجودة لكثير من الخلق ولم يصل بها إلى قريب من درجة الصديقين أتباع الأنبياء كالخلفاء الراشدين وحواريي عيسى وأصحاب موسى جعلناها من هذا القسم إذ صاحب هذا(6/336)
قد يكون فيه عدل وسياسة بحسب ما معه من العلم والعدل فهذا القسم الثاني
وأما ان يكون رجلا كاذبا فاجرا أفاكا أثيما يتعمد الكذب والظلم أو يتكلم بلا علم(6/337)
ص -303- فيخطئ خطأ من يتكلم بلا علم ومن يظن الكذب صدقا والباطل حقا والضلال هدى والغي رشدا والظلم عدلا والفساد صلاحا وكل من دعا الخلق إلى متابعته وطاعته على سبيل الحتم والإيجاب بأن يصدقوه بما اخبر ويطيعوه فيما أمر به وأوجبه باطنا وظاهرا من غير أن يخير أحدا في اتباعه وتصديقه وطاعته ولا يسوغ له مخالفته بوجه من الوجوه لا في الباطن ولا في الظاهر لم يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأنه إما أن يكون قصده الإثم والعدوان أو قصده البر والعدل فإن كان قصده الأول فهو ظالم فاجر ومثل هذا لا يكون إلا كاذبا عمدا أو خطأ وإن كان قصده البر والعدل فلا يخلو مع ذلك إما أن يكون عالما بكل ما يخبر به من الغيوب جازما بصدق نفسه جزما لا يحتمل النقيض عالما بأن ما يأمر به عدل لا يجوز لمن أمره أن يعصيه بوجه من الوجوه وأما إن لا يكون جازما بذلك فإن كان جازما بذلك كان هذا هو النبي المعصوم الذي لا يخبر إلا بحق ولا يأمر إلا بعدل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بخلاف القسم الذي يتحرى العدل والصدق باجتهاده ورأيه فإن هذا قد يأمر بأشياء يجوز أن تكون المصلحة والعدل والصدق في خلافها ويخبر بأشياء باجتهاده يحوز أن يكون الأمر فيها بخلاف ذلك ولا بد أن يغلط في بعض ما يخبر به من العلميات وما يأمرهم به من العمليات فإنه لا معصوم إلا الأنبياء ولهذا لم يجب الإيمان بكل ما يقوله بشر إلا أن يكون نبيا فإن الإيمان واجب بكل ما يأتي به النبي قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ(6/338)
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ َلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ(6/339)
ص -304- وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم بالتواتر أن محمدا ذكر أنه رسول كإبراهيم وموسى وعيسى بل اخبر أنه سيد ولد آدم وأن آدم فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة وأنه لما اسري به وعرج إلى ربه علا على الأنبياء كلهم على إبراهيم وموسى وهرون ويحيى وعيسى وغيرهم وأخبر أنه لا نبي بعده وأن أمته هم الآخرون في الخلق السابقون يوم القيامة وأن الكتاب الذي انزل إليه أحسن الحديث وأنه مهيمن على ما بين يديه من الكتب مع تصديقه لذلك وحينئذ فإن كان عالما بصدق نفسه فهو نبي رسول ومن قال هذا القول وهو يعلم أنه كاذب فهو من أظلم الناس وأفجرهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} وإن كان يظن صدق نفسه وليس كذلك فهو مخطئ غالط ملبوس عليه وإذا كان كذلك فلابد أن يخطىء فيما يخبر به من الغيوب ويظلم فيما يأمر به من العدل ولا يتصور استمراره على هذا بل لا بد أن يتبين له ولغيره أنه صادق أو كاذب فإن من ظن صدق نفسه في مثل هذه الدعوى وليس بصادق يكون من أجهل الناس وأظلمهم وأبعدهم عن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب والخير والشر فإن هذا بمنزلة من اشتبه عليه النبي الصادق بالمتنبي الكذاب وهذا من أجهل الناس وإذا اشتبه عليه حال غيره فكيف بمن اشتبه عليه حال نفسه ولم يعلم ما يقوله أصدق هو أم كذب
ومن كان جاهلا مع هذه الدعوى العظيمة التي لم يدع بشر مثلها ومع كثرة ما يخبر(6/340)
ص -305- به من الغيوب الماضية والمستقبلة ويأمر به وينهى عنه من الأمور الكلية والسنن العامة والشرائع والنواميس فلا بد أن يكون فيها من الضلال والغي ما يبين لأكثر الخلق فإذا كانت أخباره عن الماضي والمستقبل يصدق بعضها بعضا والذي يأمر به هو الطريق الأقوم والكتاب الذي جاء به كتاب متشابه مثاني يشبه بعضه بعضا في الصدق قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
فإنه لو كان من عند غير الله لوجب أن يكون فيه تناقض لامتناع قدرة البشر على أن تخبر بهذه الأخبار وما فيها من الغيوب ويأمر بهذه الأوامر مع سلامة ذلك من التناقض ولهذا لا يوجد بشر غير نبي يسلم من ذلك
وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد علم بالاضطرار من سيرته أنه كان يتحرى الصدق والعدل وأنه ما جربت عليه كذبة قط وعلم أنه كان جازما بما يخبر به مع عظم الأخبار وكثرتها وهو وحده قام يدعو الناس إلى ما جاء به ومن عادة طالب الملك والرياسة ولو كان عادلا أن يستعين بمن يعينه كأقاربه وأصدقائه ونحوهم وأن يبذل للنفوس من العاجل ما يرغبها به كالمال والرياسة ويرهب من خالفه ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس وحده وهو بمكة فآمن به المهاجرون فتعين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى ثم آمن به أهل البحرين ولم يعط أحدا منهم درهما ولا كان معه ما يخيفهم به لا سيف ولا غيره بل مكث بمكة بضع عشرة سنة هو والمؤمنون به مستضعفين لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به وكان أعظم من آمن به أبو بكر الصديق مع كمال عقله وخلقه ودينه في قومه ومحبتهم له وعلو قدره فيهم أنفق ماله كله في سبيل الله حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركت(6/341)
ص -306- لأهلك؟" قال تركت لهم الله ورسوله ولم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم درهما واحدا يخصه به ثم تولى الأمر بعده وترك ما كان معه للمسلمين وتولى بعده عمر بن الخطاب وفتح أعظم ممالك العالم مملكة فارس والروم فقهر الروم على بلاد الشام والجزيرة ومصر
وأميره الكبير أبو عبيدة أزهد الخلق في الأموال وأعبدهم للخالق وأرحمهم للمخلوق وأبعدهم عن هوى النفس ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" وأميره على فارس سعد بن أبي وقاص الذي كان مستجاب الدعوة وكان من أزهد الناس وكان آخر من بقي من أهل الشورى والناس يتنازعون في الولاية وهو معتزل في قصره بالعقيق لا يزاحم أحدا فقال له ابنه عمر تركت الناس يتنازعون الملك وجلست ههنا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني النقي الخفي"(6/342)
ص -307- فصل
ومن آيات محمد صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته التي في القرآن قصة الفيل قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} وقد تواترت قصة أصحاب الفيل وأن أهل الحبشة النصارى ساروا بجيش عظيم معهم فيل ليهدموا الكعبة لما أهان بعض العرب كنيستهم التي باليمن فقصدوا إهانة الكعبة وتعظيم كنايسهم فأرسل الله عليهم طيرا أهلكهم وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ودين النصارى خير من دينهم فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ بل كانت لأجل البيت أو لأجل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد به في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته
فإنه إذا قيل إنما كانت آية للبيت وحفظا له وذبا عنه لأنه بيت الله الذي بناه إبراهيم الخليل فقد علم أنه ليس من أهل الملل من يحج إلى هذا البيت ويصلى إليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي فرض حجه والصلاة إليه فإذا كان هذا البيت عند أهل الكنائس لما أرادوا تعظيم الكنائس وإهانة البيت علم أن دين أهل هذا البيت خير من دين النصارى والمشركون ليسوا خيرا من النصارى فتعين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى وذلك يستلزم أن نبيهم صادق وإلا فمن كانوا متبعين لنبي كاذب فليسوا خيرا من النصارى بل هم شرار الخلق كأتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهما وقال في(6/343)
ص -308- القرآن {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} والأبابيل جماعات في تفرقة فوج بعد فوج {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} أي من طين مستحجر {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كالتبن الذي أكل وقوله: {أَلَمْ تَرَ} إستفهام في معنى التقرير وهذا يقتضي أن هذا قد وقع وعلم به الناس ورأوه وقد قررهم على ذلك لما فيه من الدلالة والبيان والإنعام على الخلق ومن آيته الظاهرة التي في القرآن ما ذكره من أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا بخلاف ما كانت العادة جارية به قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}إلى قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} وقال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس وهم يقرؤنه ولم ينكره أحد ولا ارتاب به مؤمن ولا احتج به عليه كافر فدل أن الناس علموا صدق ما أخبرت به الجن من أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنهم لم يتمكنوا حينئذ مما كانوا يتمكنون منه قبل ذلك من الاستماع
ومعلوم أن هذا أمر يراه الناس بأبصارهم فإن امتلأ السماء بالشهب أمر يراه الناس كلهم فلو لم يكن كذلك لكان الناس يكذبون بهذا مؤمنهم وكافرهم فإن الجماعة العظيمة(6/344)
الذين لم يتواطئوا يمتنع اتفاقهم على الكذب وعلى التصديق بما يعلمون أنه كذب(6/345)
ص -309- وعلى كتمان ما يعلمونه وعلى ترك إنكار ما يعلمون أنه كذبو قد سمع القرآن ألوف مؤلفة أدركوا مبعثه وشاهدوا أحوال السماء فلو لم يكن هذا كان موجودا مع أن عامتهم كانوا مكذبين لهو لما آمنوا كانوا طوائف متباينين يمتنع اتفاقهم على كذب أو كتمان أو سكوت فلما لم ينكر ذلك أحد بل تظاهرت الأخبار بمثل ما أخبر به القرآن من الرمي العظيم بالشهب الذي لم يعهده مثله حتى صاروا يشكون هل ذلك في الكواكب التي في الفلك أو في غيرها وقالوا إن كان في كواكب الأفلاك فهو خراب العالم فلما رواه فيما دونها علموا أنه لأمر حدث ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا وبين السماء أرسلت علينا الشهب قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهي بنخل عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومم فقالوا يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}
فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}(6/346)
ص -310- وفي لفظ البخاري بنخلة قريبا من مكة وهو الصواب وقد ظن بعض الناس أن الشهب لم يكن يرمي بها قبل ذلك بحال والصواب أنه كان الرمي بها كما هو الآن أحيانا كما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس ورواه أيضا أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال لهم: " ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟" قالوا كنا نقول حين رأيناها يرمي بها مات ملك ولد مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كذلك ولكن الله إذا قضى في خلقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ثم يأتون به الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فيحدث الكهان"
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إن الكهان قد كانوا يحدثوننا بالشيء فيكون حقا قال: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة" وروى البخاري في صحيحه عن عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم"
وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على(6/347)
ص -311- صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذ قال ربكم قالوا للذي قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض فيسمع الكلمة فيلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا الكلمة التي سمعت من السماء فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" ورواه محمد ابن إسحاق عن الزهري وقال في آخره: "ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين عن السمع بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة" ورواه معمر عن الزهري وقال: فقلت للزهري أو كان يرمي بها في الجاهلية قال نعم قلت يقول الله {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية قال غلظت واشتد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم
وروى الطبري عن داود ثنا عاصم بن علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي وكان الوحي إذا أوحي سمعت(6/348)
ص -312- الملائكة كهيئة الحديدة رمى بها على الصفوان فإذا سمعت الملائكة صلصلة الوحي خر لجباههم من في السماء من الملائكة فإذا نزل عليهم أصحاب الوحي قالوا ماذا قال ربكم قال فينادون قال ربكم {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال فإذا نزل إلى السماء الدنيا قالوا يكون في الأرض كذا وكذا موتا وكذا وكذا حياة وكذا وكذا جدوبة وكذا وكذا خصبا وما يريد أن يصنع وما يريد أن يبتدي تبارك وتعالى فنزلت الجن فأوحوا إلى أوليائهم من الإنس ما يكون في الأرض فبينما هم كذلك إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم فزجرت الشياطين ورموهم بالكواكب فمنعوا فجعل لا يصعد احد إلا احترق وفزع أهل الأرض لما رأوا في الكواكب ولم يكن قبل ذلك فقالوا هلك من في السماء وكان أهل الطائف أول من فزع فينطلق الرجل إلى إبله فينحر كل يوم بعيرا لآلهتهم فينطلق صاحب الغنم فيذبح كل يوم شاة فينطلق صاحب البقر فيذبح كل يوم بقرة فقال لهم رجل ويلكم لا تهلكوا أموالكم فإن معالمكم منا لكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء فأقلعوا وقد اسرعوا في أموالهم وقال إبليس حدث في الأرض حدث فأتوني من كل مكان في الأرض بتربة فجعل لا يؤتى بتربة أرض إلا شمها فلما أتى بتربة تهامة قال: " ههنا حدث الحدث" فصرف الله إليه نفرا من الجن وهو يقرأ القرآن فقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً}(6/349)
ص -313- حتى ختم الآية فولوا {إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} ورواه أبو زرعة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عطاء بنحوه ورواه البيهقي من طرق عن حماد بن سلمة عن عطاء أيضا
فقد تبين انه لما كان في زمن المبعث ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا وقبل ذلك لم يكن الحرس شديدا ولا كانت السماء مملؤة حرسا وشهبا كما هي الآن يرمى بها أحيانا وكانوا يقعدون بها مقاعد للسمع أي يسترق أحدهم ما يسمعه كما يستمع المستمع إلى حديث غيره مختفيا بسماعه مسترقا له فكانت الشياطين تسترق أي تستمع ما تقوله الملائكة فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم صار أحدهم إذا سمع وجد الشهاب قد ارصد له فلم يستطع أن يقعد ويستمع كما كان قبل ذلك(6/350)
ص -314- فصل
وقد ذكرنا بعض آياته التي في القرآن لأن من أهل الكتاب من يقول لا نصدق إلا بما في القرآن كما في التوراة والإنجيل من آيات موسى والمسيح إذ كان نقل القرآن عنه متواترا لا يستريب فيه احد فنبهنا على بعض ما في القرآن مع أن آياته التي ليست في القرآن كثيرة جدا وليس من شرط المنقول المتواتر أن يكون في القرآن بل كما تواتر عنه في شريعته ما ليس في القرآن وهو من الحكمة التي أنزلها الله عليه كذلك وتواتر عنه من دلائل نبوته ما ليس في القرآن وهو من براهينه وآياته وقد قال تعالى في غير موضع: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فالحكمة نزلت عليه وهي منقولة في غير القرآن
وقد تواتر عنه كون الصلوات خمسا والفجر ركعتين والمغرب ثلاثا والباقي أربعا أربعا والرباعية في السفر ركعتان وتواتر عنه سجود السهو كذلك متواتر عنه أنواع من المعجزات والأخبار المتواترة في أصناف آياته وبراهينه كثيرة جدا لا يمكن إحصاؤها وهي مشتملة على جنسي العلم والقدرة على أنواع من الإخبار بالغيوب المستقبلة مفصلة كأنما رآها بعينه لم يأت منها خبر إلا كما أخبر به وهذا أمر لم يكن قط إلا لنبي
أما الكاهن والمنجم ونحو هؤلاء فيكذبون كثيرا كما يصدقون أحيانا ويخبرون بجمل غير مفصلة وأما أهل الولاة والصلاح فأعظمهم كشفا يخبر عن ذلك بأمور قليلة لا تبلغ عشر معشار ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بها مفصلة كخبره وعلى أنواع من(6/351)
ص -315- القدرة والتصرف الخارق للعادة والآيات إما من باب العلم والخبر والمكاشفة وأما من باب القدرة والتأثير والتصرف وفي القرآن من الإخبار بالمستقبلات شيء كثير كقوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} فغلبت الروم فارس في بضع سنين وقد ذكرنا تفصيل ذلك فيما مضى وكقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وكان كما أخبر
وروى الدارمي عن أبي بن كعب قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل فنزلت {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى آخر الآية وكان كذلك استخلف الله المؤمنين في الأرض ومكن لهم دينهم في مشارق الأرض ومغاربها(6/352)
ص -316- وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِوَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وكان كما أخبر ووعد
وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وكان كما أخبر
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} إلى قواه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فأخبر أنهم لن يفعلوا وكان كما أخبر وأخبر أنه قال للمسيح {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وكان كما أخبر وأنزل في مكة{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} فكان كما أخبر وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وكانوا كما أخبر
وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وكان كما أخبر
وقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا(6/353)
يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ(6/354)
ص -317- عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ}
وقال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وكان كذلك فلم يقاتلوهم بعد نزول الآية إلا انتصر عليهم المسلمون وما زال الإسلام في عز وظهور حتى ظهر على أهل المشرق والمغرب وقال تعالى: خطابا لليهود {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}
وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فأخبر عن اليهود أنهم لن يتمنوا الموت أبدا وكان كما أخبر فلا يتمنى اليهود الموت أبدا وهذا دليل من وجهين من جهة إخباره بأنه لا يكون أبدا ومن جهة صرف الله لدواعي اليهود عن تمني الموت مع أن ذلك مقدور لهم وهذا من أعجب الأمور الخارقة للعادة وهم مع حرصهم على تكذيبه لم تنبعث دواعيهم لإظهار تكذيبه بإظهار تمني الموت
وقال في سورة المدثر {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً} إلى قواه {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}
وقال عن أبي لهب عمه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}(6/355)
ص -318- وكان كما أخبر به مات الوليد كافرا ومات أبو لهب كافرا وقال في سورة الفتح {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}
وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهذا كله وقع كما أخبر فحصلت لهم الغنائم الكثيرة ودخلوا المسجد الحرام آمنين ودعيت الأعراب إلى قتال الروم والفرس يقاتلونهم أو يسملون فلا بد من القتال أو الإسلام ليس هناك هدنة بلا قتال كما كان يكون قبل نزول الآية
وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فدخل الناس في دين الله أفواجا بعد الفتح فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام
وقال تعالى عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ(6/356)
لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وكذلك كان فروى أهل التفسير والمغازي والسير أن هذه الآية نزلت في المنافقين كعبد الله بن أبي(6/357)
ص -319- وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت ونحوهم كانوا يقولون لبني النضير وهم اليهود حلفاؤهم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} الآية فأخبر الله عنهم أنهم لن يفعلوا ذلك وكذلك كان وضرب الله لهم مثلا بالشيطان {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} كذلك المنافقون وبنو النضير(6/358)
ص -320- فصل
وآياته صلى الله عليه وسلم قد استوعبت جميع أنواع الآيات الخبرية والفعلية وإخباره عن الغيب الماضي والحاضر والمستقبل بأمور باهرة لا يوجد مثلها لأحد من النبيين قبله فضلا عن غير النبيين ففي القرآن من إخباره عن الغيوب شيء كثير كما تقدم بعض ذلك وكذلك في الأحاديث الصحيحة مما أخبر بوقوعه فكان كما أخبر ففي الصحيحين عن حذيفة قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"
وفي صحيح مسلم عن أبي زيد عمرو بن أخطب قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر ثم نزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس قال: وأخبرنا بما كان وما هو كائن فأحفظنا أعلمنا"
وفي صحيح البخاري عن عدي بن حاتم قال: "بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فشكى إليه الفاقة ثم أتى آخر فشكى إليه قطع السبيل فقال: "يا عدي هل رأيت(6/359)
ص -321- الحيرة" فقلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال" فإن طالتبك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله" قال: قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد "ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى" قلت كسرى بن هرمز قال: كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله عنه فلا يجد أحدا يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فليقولن له الم أبعث إليك رسولا فيبلغك فيقول بلى فيقول ألم اعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم قال عدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"
قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الرجل ملء كفه" قلت وهذا الذي أخبر به من خروج الرجل بملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله ظهر كما أخبر في زمن عمر بن عبد العزيز(6/360)
ص -322- وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد قال: فقالت لي نفسي أئتهم فقم بينهم لا يغتالونه قال ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم فقمت بينهم وبينه قال: فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي قال: "تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ثم تغزون الدجال فيفتحه الله"
وروى البخاري عن عوف بن مالك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة آدم فقال "أعدد ستا بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس ثم موتان(6/361)
ص -323- يأخذ فيكم كعقاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية كل غاية إثنا عشر الفا"
قلت ففتح بيت المقدس بعد موته في خلافة عمر بن الخطاب ثم بعد ذلك وقع الطاعون العظيم بالشام طاعون عمواس في خلافة عمر أيضا ومات فيه معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وخلق كثير وكان ذلك أول طاعون وقع في الإسلام فكان ما أخبر به حيث أخذهم طاعون كعقاص الغنم ثم استفاض المال في خلافة عثمان بن عفان حتى كان أحدهم يعطى مائة دينار فيسخطها وكثر المال حتى كانت الفرس تشتري بوزنها ثم وقعت الفتنة العامة التي لم يبق بيت من العرب إلا دخلته لما قتل عثمان ووقعت الفتنة بين المسلمين أو الملوك، يوم الجمل ويوم صفين وفي الصحيحين عن خباب بن الارت قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا ألا تدعو الله لنا ألا تستنصر(6/362)
ص -324- لنا قال: "فجلس محمرا وجهه ثم قال والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويؤخذ فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله عز وجل أو الذئب على غنمه ولكنكم تعجلون"
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنف كأن وجوههم المجان المطرقة ولا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوما نعالهم الشعر"
قلت وهؤلاء الطوائف كلهم قاتلهم المسلمون كما أخبر صلى الله عليه وسلم وأمر هذه الطوائف معروف فإن قتال الترك من التتار وغيرهم الذين هذه صفتهم معروف مشهور وحديثهم(6/363)
ص -325- في أكثر من عشرة آلاف نسخة كبار وصغار من كتب المسلمين قبل قتال هؤلاء الذي ظهروا من ناحية المشرق الذين هذه صفتهم التي لو كلف من رآهم بعينه أن يصفهم لم يحسن مثل هذه الصفة وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى" وقد ظهرت هذه النار سنة بضع وخمسين وستماية ورآها الناس ورأوا أعناق الإبل قد أضاءت ببصرى وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم
وفي الصحيحين عن أبي سعيد وأسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية"
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى(6/364)
ص -326- بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله"
وفي الصحيحين عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله"
في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتفتحن عصابة من المسلمين أو قال المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض والأبيض قصر كان لكسرى"
وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"
قلت فوقع هذا كما أخبر به بعد موت الرسول بنحو ثلاثين سنة وهو سنة أربعين من الهجرة لما أصلح الله بالحسن بين الفئتين العظيمتين اللتين كانت متحاربتين بصفين عسكر علي وعسكر معاوية(6/365)
ص -327- وفي الصحيحين عن ابن عباس: "أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة فيالمنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فمنهم المستكثر والمستقل ثم إذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت ثم اخذ به رجل بعدك فعلا ثم اخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل له فعلا قال: أبو بكر يا رسول الله بأبي أنت وأمي لتدعني فلأعبره فقال: اعبر فقال: أبو بكر أما الظلة فظلة الإسلام وأما الذي تنطف من السمن والعسل فهو القرآن حلاوته ولينه وأما ما يتكفف فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه فأخذت به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو ثم يأخذ به رجل فيعلو ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به فأخبرني يا رسول الله أصبت أم أخطأت فقال أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال: فوالله يا رسول الله لتخبرني بالذي أخطأت قال لا تقسم"
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس(6/366)
ص -328- بعطن وفي رواية: "فاستحالت الدلو غربا في يد عمر" قال الشافعي رؤيا الأنبياء وحي وقوله في نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب مع أهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته
وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن جئت فلم أجدك يا رسول الله قال أي كأنها تعني الموت قال: "إن لم تجديني فائتي أبا بكر"
وروى أبو داود الطيالسي عن أبي ثعلبة الخشني وعن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكائنا خلافة ورحمة وكائنا ملكا عضوضا وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله عز وجل"
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب ان رجلا قال يا رسول الله إني رأيت(6/367)
ص -329- كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منه شيء
وفي السنن عن سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا" فكان هذا العام تمام الثلاثين سنة من موته ودخل في ذلك خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "زويت لي الأرض مشارتها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"
وفي صحيح مسلم: "إن الله زوى لي(6/368)
ص -330- الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وأن ربي قال لي يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا"
وهذا اخبر به في أول الأمر وأصحابه في غاية القلة قبل فتح مكة وكان كما أخبر فإن ملك أمته انتشر في الشرق والغرب ولم ينتشر في الجنوب والشمال كانتشاره في الشرق والغرب إذ كانت أمته اعدل الأمم فانتشرت دعوته في الأقاليم التي هي وسط المعمور من الأرض كالثالث والرابع والخامس وقد تقدم قوله هلك كسرى فلا يكون كسرى بعده وذاك كسرى بن هرمز آخر الأكاسرة المملكين ثم ولي بعده ولاة متضعفون فكان آخرهم يزدجرد وإليه الإشارة باللفظ الآخر: "إذا هلك(6/369)
ص -331- كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لنتفقن كنوزهما في سبيل الله"
وهذا أخبر به وملك كسرى وقيصر أعز ملك في الأرض فصدق الله خبره في خلافة عمر وعثمان فهلك كسرى وهو آخر الأكاسرة في خلافة عثمان بأرض فارس ولم يبق بعده كسرى ولم يبق للمجوس والفرس ملك وهلك قيصر الذي بأرض الشام وغيرها ولم يبق بعده من هو ملك على الشام ولا مصر ولا الجزيرة من النصارى وهو الذي يدعى قيصر قال الشافعي كانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا وكان كثير من معاشها منه وتأتي العراق فيقال لما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام فقال مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم" إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" فلم يبق بأرض العراق كسرى يثبت له أمر بعده. وقال إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده فلم يكن بأرض الشام قيصر فأجابهم على ما قالوا وكان كما قال قطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس وقيصر عن الشام وقال في كسرى مزق الله ملكه فلم يبق للأكاسرة ملك وقال في قيصر(6/370)
ص -332- ثبت ملكه فثبت ملكهم ببلاد الروم وتنحى عن الشام وكل هذا يصدق بعضه بعضا
وفي الصحيحين عن سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثم تفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" وفي رواية: "فيخرج من المدينة"
فاخبر صلى الله عليه وسلم بفتح اليمن والشام والعراق قبل أن يكون وأخبر أنه يخرج من المدينة أقوام يتحملون بأهليهم ومناطاعهم إلى هذه الأمصار ويطلبون الريف وسعة الرزق قال:(6/371)
ص -333- "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستفتح مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا" وفي رواية: "فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما فإذا رأيتم رجلين يقتتلان على موضع لبنة فأخرج منها"
فمر أبو ذر بعد فتح مصر بمدة بابني شرحبيل بن حسنة وهما يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها وفي صحيح البخاري عن سليمان بن صرد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حين أجلي الأحزاب عنه الآن نغزوهم ولا يغزونا" وكذلك كان
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم وأنتم" قال عبد الرحمن بن عوف(6/372)
ص -334- نقول كما أمرنا الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض"
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه لما أنزل الله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الآخرين فقال: "لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس" وفي لفظ: "لو كان الإيمان" وفي لفظ: "العلم" وكان كما أخبر فإنه حصل في التابعين وتابعيهم وهلم جرا من أبناء فارس مثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر وأضعاف هؤلاء من نالوا ذلك ولما نزل قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}سئل عنهم فقال هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري وقال إني لأجد نفس(6/373)
ص -335- الرحمن من قبل اليمن وفي الصحيحين عنه أنه قال: "أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا وألين أفئدة الإيمان يماني والفقه يماني والحكمة يمانية"
فلما أرتد من ارتد عن الإسلام أتى الله بهؤلاء الذين يحبهم ويحبونه فقاتل الصديق بهم أهل الردة وغلب بهم أبو بكر وعمر كسرى وقيصر وقال لعثمان: "إن الله مقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه"
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط(6/374)
ص -336- المدينة وهو متكئ يركز بعود في الماء والطين إذ استفتح رجل فقال له افتح وبشره بالجنة فإذا هو أبو بكر ففتحت له وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل آخر فقال له افتح له وبشره بالجنة فذهبت فإذا هو عمر ففتحت له وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل آخر فقال له افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فذهبت فإذا هو عثمان ففتحت له وبشرته بالجنة فقلت له الذي قال فقال اللهم صبرا والله المستعان"
وفي الصحيحين حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن التي تموج موج البحر وقال لعمر: "إن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك ذلك الباب أن يكسر" فسأله مسروق من الباب فقال: عمر
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون الفتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به" ورواه أبو بكرة وقال: "فيه فإذا وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"(6/375)
ص -337- قال: فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال:" يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت" فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن كرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال" يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار"
وفي صحيح أبي حاتم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للعرب من شر قد اقترب أو فتنة عمياء صماء بكماء القاعد فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي ويل للساعي فيها من الله يوم القيامة وفي الصحيحين عنه أنه قال إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر"
وفي الصحيحين من غير وجه أنه لما قال له ذو الخويصرة: يا محمد أعدل فإنك لم تعدل فقال: "ويحك قد خبت وخسرت إن لم اعدل"
فقال: بعض أصحابه دعني اضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يخرج من(6/376)
ص -338- ضئضيء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليد على عضده مثل البضعة من اللحم تدردر عليها شعرات"
وفي رواية في الصحيحين: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"
وهؤلاء ظهروا بعد موته ببضع وعشرين سنة في أواخر خلافة علي لما افترق المسلمون وكانت الفئة بين عسكر علي وعسكر معاوية وقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه وهم أدنى الطائفتين إلى الحق والطائفة الأخرى قتلوا عمار بن ياسر وهي الطائفة الباغية وكان علي قد أخبرهم بهذا الحديث وبعلامتهم فطلبوا هذا المخدج فلم يجدوه حتى قام علي بنفسه ففتش عليه فوجده مقتولا فسجد شكرا لله
وفي الصحيح عنه أنه قال: "ستكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" وهؤلاء ظهروا بعده بمدة فكانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ويؤخرون العصر إلى اصفرار الشمس
وفي الصحيحين عنه أنه قال: "إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تقلوني على الحوض" فلقوا: بعده من استأثر عليهم ولم يعطهم حقهم(6/377)
ص -339- وفي الصحيحين عنه انه قال: "ستكون بعدي أمراء يطلبون منكم حقهم ويمنعونكم حقكم قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم"
وفي الصحيحين عنه أنه سار فاطمة فقال لها وهو في مرضه الذي توفي فيه: "إني أقبض في مرضي هذا ثم اخبرها أنها أول أهله لحوقا به" وفي رواية: "وأخبرها أنها سيدة نساء المؤمنين"
وفي الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا قالت فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق"
وفي صحيح البخاري وغيره عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم"
وفي صحيح البخاري عن أم حرام أيضا قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" قالت: يا رسول الله أنا فيهم قال: "أنت فيهم" قالت: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" فقلت: يا رسول الله أنا فيهم قال: "لا"(6/378)
ص -340- وغزاها المسلمون في خلافة معاوية وكان يزيد أميرهم وكان في العسكر أبو أيوب الأنصاري الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لما قدم المدينة مهاجرا ومات ودفن تحت سورها وذكروا أنهم كانوا إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقونثم غزاها المسلمون مرة ثانية في خلافة عبد الملك غزاها ابنه مسلمة وحصروها عدة سنين وبنوا فيها مسجدا
وفي الصحيحين عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك فقالت: مم تضحك فقال:" عرض علي ناس من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على(6/379)
ص -341- الأسرة" فقالت أم حرام ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك فقالت مم تضحك فقال:" عرض علي ناس من أمتي كما قال في الأولى" فقالت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم قال: "أنت من الأولين" قال أنس: "فركبت البحر زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها لما خرجت من البحر فماتت" وهذا كان في خلافة عثمان ومعاوية نائبه وكان المسلمون في خلافة عمر لم يغزوا في البحر وأول ما غزوا البحر في خلافة عثمان وفتحوا جزيرة قبرص وجاؤا بسبيها إلى دمشق وكان أبو الدرداء حيا بدمشق فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك يا أبا الدرداء هذا يوم قد أعز الله فيه الإسلام فقال إنما أبكى أني رأيت هذه الأمة كانت قاهرة ظاهرة فأضاعت أمر الله فيه فأصارها الله إلى ما ترون ما أهون العباد على الله إذا ضيعوا أمره
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته ان لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها"
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا(6/380)
ص -342- يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" وهذا أخبر به حين كانت أمته أقل الأمم فانتشرت الأمة في مشارق الأرض ومغاربها وكان كما أخبر به فإن هذه الأمة ولله الحمد والمنة لم يزل فيها طائفة ظاهرة بالعلم والدين والسيف لم يصبها ما أصاب من قبلها من بني إسرائيل وغيرهم حيث كانوا مقهورين مع الأعداء بل إن غلبت طائفة في قطر من الأرض كانت في القطر الآخر امة ظاهرة منصورة ولم يسلط على مجموعها عدوا من غيرهم ولكن وقع بينهم اختلاف وفتن
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"
وهؤلاء ظهروا بعده بمدة طويلة وظهر النسوة بعد ذلك بسنين كثيرة وعلى رؤسهن عمائم كأسنمة الجمال البخاتي يسمون العمامة سنام الجمل وفي حديث مسلم عن أسماء بنت أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير"
وظهر الكذاب من ثقيف وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي أظهر التشيع(6/381)
ص -343- والانتصار للحسين وقتل عبيد الله بن زياد وغيره من قتلة الحسين ثم أظهر أنه يوحى إليه وأنه ينزل عليه حتى قيل لابن عمر وابن عباس عنه قيل لأحدهما أنه يوحى إليه وللآخر إنه ينزل عليه فقال أحدهما {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وقال الآخر {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وأما المبير فكان هو الحجاج بن يوسف الثقفي وكان مبيرا سفاكا للدماء بغير حق انتصارا لملك عبد الملك بن مروان الذي استنابه
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي فيجمعه إلى صدره فإنه لن ينسى شيئا سمعه" فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا سمعته منه"
وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش" وفي لفظ: "إلى اثني عشر أميرا" وفي رواية لأبي داود الطيالسي: "كلهم يجتمع عليهم الأمة" وفي رواية: "فقالوا ثم يكون ماذا قال:(6/382)
ص -344- "ثم يكون الهرج"
قال أبو بكر البيهقي وفي الرواية الأولى بيان العدد وفي الأخرى بيان المراد بالعدد وقد بين وقوع الهرج وهو القتل بعدهم وقد وجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد ابن عبد الملك ثم وقع الهرج والفتنة العظمى وأنما يزيدون على العدد المذكور إذا تركت الصفة المذكورة فيه أو عد معهم من كان بعد الهرج
وفي الصحيحين عن جابر قال قال: لي رسول الله صلى الله عليم وسلم: "هل لك من أنماط قلت يا رسول الله وأني يكون لي أنماط فأنا أقول اليوم لامرأتي نحي عنك أنماطك فتقول ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون لكم أنماط"
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أريت أنه وضع في يدي سواران من ذهب ففظعتهما فكرهتهما فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي"
قال عبيد الله أحدهما العنسي الذي قتله فيروز ياليمن(6/383)
ص -345- والآخر مسيلمة.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مستقبل المشرق: "ها إن الفتنة ها هنا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" وفي بعض طرق البخاري: "قام خطيبا فأشار بيده نحو مسكن عائشة فقال" وذكر الحديث
فالمشرق عن مدينته فيه البحرين ومنها خرج مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وهو أول حادث حدث بعده واتبعه خلائق وقاتله خليفته الصديق
وروى أبو حاتم في صحيحيه عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين منهم صاحب اليمامة ومنهم صاحب صنعاء العنسي ومنهم صاحب حمير ومنهم الدجال وهو أعظمهم فتنة" وصاحب اليمامة هو مسيلمة قال وقال أصحابي قال هو قريب من ثلاثين كذابا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله وحتى يفيض الماء وتظهر الفتن ويكثر الهرج" قالوا وما الهرج يا رسول الله قال: "القتل القتل"(6/384)
ص -346- وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر قال ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا واردفني خلفه ثم قال: "يا أبا ذر أين أنت إن أصاب الناس جوع شديد حتى لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع" فقال الله ورسوله أعلم قال تعفف قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد حتى يكون البيت بالعبد كيف تصنع" قال الله ورسوله أعلم قال اصبر "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع"قال الله ورسوله أعلم قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" فقال أرأيت إن لم اترك قال" فأت من أنت منه فكن فيهم" قال فآخذ سلاحي قال "إذا تشاركهم فيه ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فأطلق طرف ردائك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه"
وفيه عن ابن مسعود قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة من ادم فيها أربعون رجلا فقال: "إنكم مفتوحون ومنصورون فمن أدرك ذلك الزمان منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وأما الفتوح التي فتحت عليهم والنصرة التي نصروا فقد أخبر به في أوائل مبعثه كما تقدم ذكره ووقع ما أخبر به
وروى أبو حاتم في صحيحه عن ابن عباس قال: "مرض أبو طالب فأتته قريش وأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وعند رأسه مقعد رجل فقام أبو جهل فقعد فيه فشكوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى(6/385)
ص -347- أبي طالب فقالوا إن ابن أخيك يقع في آلهتنا قال ما شأن قومك يشكونك يا ابن أخي قال: "يا عم إنما أردتهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية فقال وما هي قال: لا إله إلا الله فقاموا فقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا قال ونزلت {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}"
وفي صحيح ابن حبان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال لما أقبلت عائشة قربت ببعض مياه بني عامر طرقتهم ليلا فسمعت نباح الكلاب فقالت أي ماء هذا قالوا ماء الحوأب قالت ما أظنني رافعة قالوا مهلا يرحمك الله تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله بك قالت ما أظنني رافعة أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كيف بإحداكن ينبح عليها كلاب الحوأب"(6/386)
ص -348- وفيه أيضا عن ابن أبي طالب قال قال لي عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلي في الغرز وأنا أريد العراق لا تأت العراق فإنك إن تأتهم أصابك ذنب السيف قال علي وايم الله لقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الأسود فقلت في نفسي ما رأيت كاليوم رجلا محاربا يحدث الناس بمثل هذا
وهذا وأمثاله مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المستقبلات فوقع بعده كما أخبر ورأى الناس ذلك وأما ما أخبر به مما لم يقع إلى الآن فكثير وقد أخبر بأشياء من المغيبات ووقعت في زمانه ووجدت كما أخبر كما في الصحيحين عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" فكان كذلك
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فقال: لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب(6/387)
ص -349- فبينا هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جرحا شديدا فلم كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالا فنادى في الناس إنه: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"
ورواه سهل بنسعد
وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام والمقداد وكلنا فارس فقال: "إنطلقوا حتى تأتوا روضة ناخ فإن بها إمرأة معها كتاب من حاطب إلى المشركين" فأدركناها تسير على بعير لها خبب فقلنا لها أين الكتاب فقالت ما معي كتاب قال فأنخنا بها فالتمسنا الكتاب في رحلها فلم نر كتابا قال قلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك قال فلما رأت أني أهويت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء أخرجت الكتاب من(6/388)
ص -350- عقاصها فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا" قال لا تعجل علي إني كنت أمرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم إن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد صدقكم" فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فكان في هذا الكتاب إخبار المشركين بأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد يغزوهم فأعلمه الله بذلك
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: "نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات" وفي رواية عن جابر قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي"
وفي لفظ من رواية أبي هريرة قال: "قد مات اليوم عبد الله صالح أصحمة فأمنا وصلى عليه" وفي رواية عمران بن حصين قال: "إن أخاكم قد مات فصلوا عليه يعني النجاشي"
وروى موسى بن عقبة عن ابن شهاب ورواها عروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق بمعناه قال ثم إن المشركين اشتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما كانوا حتى بلغ بالمسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء وأجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/389)
ص -351- علانية فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا ويقينا فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق فلم يتركوا طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم
زاد ابن إسحاق في روايته قال حتى كان يسمع صوت صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع وعدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا قال موسى بن عقبة في تمام حديثه وكان أبو طالب إذا اخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله فإذا نوم الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه
فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصي ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء بني هاشم ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا(6/390)
ص -352- بالحق واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه وبعث الله عز جل على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق
ويقال كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك إسما لله عز وجل فيها إلا لحسته وبقي ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب فقال أبو طالب لا والثواقب ما كذبني فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش فلما رأوهم عامدين بجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم أخرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم أبو طالب فقال قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بينكم وبيننا صلح
وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في صحيفتهم قبل أن يأتوا بها فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن الرسول مدفوع إليهم فوضعوها بينهم وقالوا قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم فقال أبو طالب إنما أتيتكم(6/391)
ص -353- لأعطيكم أمرا فيه نصف فإن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني إن الله عز وجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه قالوا قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد اخبر خبرها فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا والله إنكان هذا إلا سحر من صاحبكم فارتكسوا وعادوا لشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وعلى رهطه والقيام بما تعاهدوا عليه
فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب إن أولى بالسحر والكذب غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسم وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم
فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء(6/392)
ص -354- بني هاشم منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية ابن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم ووجهوهم نحن براء مما في هذه الصحيفة فقال أبو جهل هذا أمر قد قضي بليل
وأنشأ أبو طالب يقول في ذلك الشعر في شأن صحيفتهم ويمتدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي قال موسى بن عقبة فلما افسد(6/393)
ص -355- الله صحيفة مكرهم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فعاشوا وخالطوا الناس
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان وكان أمية بن خلف إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ فقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت قال انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت قال فخرج به قريبا من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال يا أبا صفوان من هذا معك قال هذا سعد فقال أبو جهل إلا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا انك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما فقال له سعد وقد رفع صوته عليه لئن منعتني من هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة قال فقال له أمية لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيد أهل الوادي فقال سعد دعنا منك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه قاتلك" قال بمكة قال لا أدري ففزع لذلك أمية فزعا شديدا وقال والله ما يكذب محمد فلما رجع أمية إلى أهله قال يا أم صفوان الم تري إلى ما قال لي سعد قالت وما قال لك قال زعم أن محمدا أخبرهم انه قاتلي فقلت له بمكة فقال لا أدري فقالت والله ما يكذب محمد فقال أمية والله لا أخرج من مكة فلما كان يوم بدر استنصر ابو جهل الناس فقال أدركوا عيركم قال فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد اهل الوادي تخلفوا معك فلم يزل ابو جهل حتى قال إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة قال يا ام صفوان جهزيني فقالت له يا أبا(6/394)
ص -356- صفوان قد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي قال لا وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا قال فلما خرج أمية جعل لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر
وعن كعب بن مالك قال كان أبي بن خلف أخو بني جمع قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتله إن شاء الله عز وجل" فأقبل أبي مقنعا في الحديد وهو يقول لا نجوت إن نجا محمد فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير من بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا الله ما أجزعك إنما هو خدش فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز(6/395)
ص -357- لماتوا أجمعون فمات إلى النار" ورواه موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب وذكره الواقدي بإسناده وهذا لفظه وهو مما ذكره عروة بن الزبير في مغازيه وابن إسحاق وغيره
وذكر موسى بن عقبة في مغازيه أن عمير بن وهب الجمحي لما رجع فل المشركين إلى مكة وقد قتل الله من قتل منهم اقبل عمير حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر فقال صفوان قبح الله العيش بعد قتلى بدر قال أجل والله ما في العيش خير بعدهم ولولا دين علي لا أجد له قضاء وعيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد فقتلته إن ملأت عيني منه فإن لي عنده علة أعتل بها أقول قدمت على ابني أفدي هذا(6/396)
ص -358- الأسير ففرح صفوان بقوله وقال له علي دينك وعيالك أسوة عيالي في النفقة فحمله صفوان وجهزه وأمر بسيف عمير فصقل وسم فأقبل عمير حتى قدم المدينة فنزل بباب المسجد وعقل راحلته وأخذ السيف فعمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر عمر بن الخطاب إليه وهو في نفر من الأنصار يتحدثون فقال عمر عندكم الكلب هذا عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر وحزرنا للقوم ثم قام عمر حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أقدمك قال أسيري عندكم ففادونا في اسرائنا فإنكم العشيرة والأهل قال فما بال السيف في عنقك قال عمير قبحها الله من سيوف فهل أغنت عنا شيئا إنما نسيته في عنقي حين نزلت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقني ما أقدمك" قال ما قدمت إلا في أسيري قال فماذا شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير وقال ماذا شرطت قال تحملت له بقتلي على ان يعول بيتك ويقضي دينك والله حائل بينك وبين ذلك فقال عمير أشهد أنك رسول الله وان لا إله إلا الله كنا نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء وهذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر لم يطلع عليه احد غيري وغيره فأخبرك الله به وذكر بقية الحديث
وفي صحيح البخاري عن أنس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر(6/397)
ص -359- في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبا فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومأوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه قال فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل وآخر معه فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي الله عنهم وأرضاهم فكنا نقرأ أن بلغوا عنا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله وكان في هؤلاء عامر بن فهيرة قال عنه(6/398)
ص -360- عامر بن الطفيل لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى أني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض وفي الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرصوها" فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق قال أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى فانطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة" فلا يقم فيها أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء(6/399)
ص -361- وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أبو اليسر بن عمرو وهو كعب بن عمرو أحدبني سلمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أسرته يا أبا اليسر" فقال لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل هيئته كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعانك عليه ملك كريم" وقال للعباس: "يا عباس أفد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن جحدم أخو بني الحارث بن فهر قال فإني قد كنت مسلما قبل ذلك وإنما استكرهوني قال: "الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعي حقا فالله يجزيك بذلك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية ذهب فقال يا رسول الله أحسبها لي من فداي قال: "لا ذلك شيء أعطانا الله منك" قال فإنه ليس لي مال قال: "فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل وليس معك احد غيركما" فقلت: إن أصبت في سفري هذا فللفضل(6/400)
ص -362- كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا" قال فوالذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد من الناس غيري وغيرها وأني أعلم أنك لرسول الله
وفي صحيح البخاري لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش في غزوة مؤتة وأمر عليهم زيد بن الحارثة وقال: "إن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة" فروى البخاري عن أنس بن مالك قال نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان ثم أخذها خالد بن الوليد سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم"(6/401)
ص -363- فصل
وآياته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالقدرة والفعل والتأثير أنواع الأول منها ما هو في العالم العلوي كانشقاق القمر وحراسة السماء بالشهب الحراسة التامة لما بعث كمعراجه إلى السماء فقد ذكر الله انشقاق القمر وبين أن الله فعله وأخبر به لحكمتين عظيمتين أحدهما كونه من آيات النبوة لما سأله المشركون آية فأراهم انشقاق القمر والثانية أنه دلالة عل جواز انشقاق الفلك وأن ذلك دليل على ما أخبرت به الأنبياء من انشقاق السموات ولهذا قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ف فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} فذكر اقتراب الساعة وانشقاق القمر وجعل الآية في انشقاق القمر دون الشمس وسائر الكواكب لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك إذ هو الجسم المستنير الذي يظهر فيه الانشقاق لكل من يراه ظهورا لا يتمارى فيه وأنه نفسه إذا قبل الانشاق فقبول محله أولى بذلك وقد عاينه الناس وشاهدوه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار مثل صلاة الجمعة والعيدين ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ودلائلها والاعتبار بما فيها وكل الناس يقر بذلك ولا ينكره فعلم أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة(6/402)
ص -364- وفي صحيح مسلم ان عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر فقال كان يقرأ فيهما ب قاف والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلا عن أعدائه الكفار والمنافقين ومعلوم أنه كان من أحرص الناس على تصديق الخلق له واتباعهم إياه فو لم يكن انشق لما كان يخبر به ويقرؤه على جميع الناس ويستدل به ويجعله آية له
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين وعنه قال إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فانشق القمر فرقتين ورواه الترمذي وزاد فيه فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله تعالى: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} يقول ذاهب
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين(6/403)
ص -365- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا"
وعن ابن مسعود أيضا قال: "رأيت القمر منشقا شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة على جبل أبي قبيس وشقة على السويداء فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق وإن لم يكونوا رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر قال فسئل السفار وقدموا من كل وجه فقالوا رأينا" رواه والبخاري ومسلم
وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال: "انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم"
وروى مسلم عن ابن عمر في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: "قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق القمر فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد"
وعن جبير بن مطعم قال: "انشق القمر ونحن بمكة حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقال الناس سحرنا محمد قال رجل إن كان سحركم فلم(6/404)
ص -366- يسحر الناس كلهم" رواه الترمذي وكذلك صعدوه ليلة المعراج إلى ما فوق السموات وهذا مما تواترت به الأحاديث وأخبر به القرآن أخبر بمسراه ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس وفي موضع آخر بصعوده إلى السموات فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأخبر هنا بمسراه ليلا بين المسجدين وأخبر أنه فعل ذلك ليريه من آياته ومعلوم أن الأرض قد رأى سائر الناس ما فيها من الآيات فعلم أن ذلك ليريه آيات لم يرها عموم الناس كما قال في السورة الأخرى {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به فكان في إخباره بالمسرى لنريه من آياتنا بيان أنه رأى من آياته ما لم يره الناس وقد بين ذلك في السورة الأخرى فإنه رأى جبريل عند سدرة المنتهى {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}(6/405)
ص -367- وانه رأى بالبصر آيات ربه الكبرى وذكر في تلك السورة المسرى لأنه أمكنه أن يقيم عليه برهانا فإنه لما أخبرهم به فكذبه من كذبه وتعجبوا من ذلك سألوه عن نعته وصفته فنعته لهم لم يخرم من النعت شيئا وأخبر خبر عيرهم التي كانت في الطريق فظهر لهم صدقه وكان صدقه في هذا آية على صدقه فيما غاب عنهم وكان قطع المسافة البعيدة في الزمان اليسير لأجل ما أراه من الآيات التي تختص برؤيتها الأنبياء وبهذا تميز عمن يقطع المسافة كرامة لولي أو بتسخير الجن كما في قصة بلقيس حيث قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فإن قطع الجسم للمسافة البعيدة أنما كان لما أوتيه سليمان من الملك كما كانت الريح {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} وهذا تسخير ملكي وقطع محمد صلى الله عليه وسلم كان لما أراه الله من الآيات التي ميزه بها على سائر النبيين وكان ذلك فتنة أي محنة وابتلاء للناس ليتبين من يؤمن به ممن يكذبه وأحاديث المعراج وصعوده إلى ما فوق السموات وفرض الرب عليه الصلوات الخمس حينئذ ورؤيته لما رآه من الآيات والجنة والنار والملائكة والأنبياء في السموات والبيت المعمور(6/406)
ص -368- وسدرة المنتهى وغير ذلك معروف متواتر في الأحاديث وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله يظهر به تحقيق قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} فالدرجات التي رفعها محمد ليلة المعراج وسيرفعها في الآخرة في المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون الذي ليس لغيره مثله ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة وأبي ذر ومن رواية ابن عباس وأبي حبة الأنصاري وغيرهم فروى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى بصره"قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن" فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه قال ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير(6/407)
ص -369- ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وبعث إليه قال قد بعث إليه قال ففتح لنا فإذا أنا بانبي الخالة عيسى ويحيى بن زكريا عليهما السلام فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن قال فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بإدريس صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير قال الله عز وجل {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ثم عرج بنا إلي السماء الخامسة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال: جبريل قيل ومن معك قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل عليه السلام قيل من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل أوقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا انا بموسى عليه السلام فرحب ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال(6/408)
ص -370- قال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى الله إليما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى عليه السلام فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلي ربي فقلت رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى عليه السلام فقلت حط عني خمس قال فإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال لي يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وللية لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه"
وفي رواية قال: "فأتيت فانطلق بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت طست من ذهب مملوءة حكما وإيمانا فحشى بها صدري" وفي رواية: "فشق من النحر إلى مراق البطن" وقال: عن البيت المعمور فقلت: ما هذا قال: بناء بناه الله لملائكته يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يقدسون الله ويسبحونه لا يعودون إليه وفي حديث أبي ذر فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم اخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن سماء الدنيا افتح قال من هذا قال جبريل قال هل معك احد قال نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم فلما علونا السماء فإذا(6/409)
ص -371- رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح قال قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار قال الزهري وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وابا حبة الأنصاري يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع منه صريف الأقلام" وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال فراش من ذهب قال فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات"
وعنه في قوله عز وجل {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}(6/410)
ص -372- قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح"
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه"
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط قال فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به"
وصعود الأدمي ببدنه إلى السماء قد ثبت في أمر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فإنه صعد إلى السماء وسوف ينزل إلى الأرض وهذا مما يوافق النصارى عليه المسلمين فإنهم يقولون إن المسيح صعد إلى السماء ببدنه وروحه كما يقوله المسلمون ويقولون إنه سوف ينزل إلى الأرض أيضا كما يقوله المسلمون وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لكن كثيرا من النصارى يقولون إنه صعد بعد أن صلب وأنه قام من القبر وكثير من اليهود يقولون إنه صلب ولم يصعد ولم يقم من قبره وأما المسلمون وكثير من النصارى فيقولون إنه لم يصلب ولكن صعد إلى السماء بلا صلب
والمسلمون ومن وافقهم من النصارى يقولون إنه ينزل إلى الأرض قبل القيامة وأن(6/411)
ص -373- نزوله من أشراط الساعة كما دل على ذلك الكتاب والسنة وكثير من النصارى يقولون إن نزوله هو يوم القيامة وإنه هو الله الذي يحاسب الخلق وكذلك إدريس صعد إلى السماء ببدنه وكذلك عند أهل الكتاب أن إلياس صعد إلى السماء ببدنه ومن أنكر صعود بدن إلى السماء من المتفلسفة فعمدته شيئا أحدهما أن الجسم الثقيل لا يصعد وهذا في غاية الضعف فإن صعود الأجسام الثقيلة إلى الهواء مما تواترت به الأخبار في أمور متعددة مثل عرش بلقيس الذي حمل من اليمن إلى الشام في لحظة ولما قال سليمان {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} ومثل حمل الريح لسليمان عليه السلام وعسكره لما كان يحمل البساط في الهواء وهو جالس عليه بأصحابه ومثل حمل قرى قوم لوط ثم إلقائها في الهواء ومثل المسرى إلى بيت المقدس الذي ظهر صدق الرسول بخبره
وبهذا يظهر جوابهم عن إنكارهم انشقاق القمر فإن عمدتهم فيه أن الفلك لا يقبل الانشقاق وقد عرف فسد ذلك عقلا وسمعا وتواتر عن الأنبياء أنهم أخبروا بانشقاق السموات وإيضاح الرد على هؤلاء أن ما يثبتونه من أن الحركة لا بد لها من جهة ومحدد يحدد الجهات إنما يدل على الافتقار إلى جنس المحدد لا يدل على الاحتياج إلى(6/412)
ص -374- محدد معين فإذا قدر أنه خلق وراء المحدد محددا آخر وخرق الأول حصل به المقصود وهكذا عامة أدلتهم أنما تدل على شيء مطلق لكن يعينونه بلا حجة فيغلطون في التعيين كدليلهم على دوام الفاعلية أو الحركة أو زمانها فإن ذلك لا يدل على الحركة الفلكية وأن الزمان هو مقدار الحركة بل إذا كان الله قد خلق السموات والأرض وما بينهما في سنة أيام كما أخبرت به الرسل لم تكن تلك الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض هي مقدار حركة الشمس التي هي مما خلق في تلك الأيام بل وقد أخبر الله تعالى أنه كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وأخبر أنه خلق السموات من دخان وهو بخار الماء فإذا كان قبل هذه الحركا المشهودة حركات أخر لأجسام غير هذه الأجسام المشهودة لم يكن هذا مناقضا لما دل عليه العقل ورجال كثير في زماننا وغير زماننا يحملون من مكان إلى مكان في الهواء وهذا مما تواتر عندنا وعند من يعرف ذلك وأيضا فمعلوم أن النار والهواء الخفيف تحرك حركة قسرية فيهبط والتراب والماء الثقيلان يحركان حركة قسرية فيصعد وهذا مما جرت به العادة والشبهة الثانية ظن بعض المتفلسفة كأرسطو وشيعته أن الأفلاك لا تقبل الانشقاق وحجتهم على ذلك في غاية الضعف فإنهم قالوا لو كانت تقبل الانشقاق لكان المحدد للأفلاك المحرك لها يتحرك حركة مستقيمة والحركة المستقيمة تحتاج إلى خلاء خارج العالم ولا خلاء هناك وهذه الحجة فاسدة من وجوه منها أنها تدل على ذلك في الفلك الأعلى لا فيما دونه كفلك القمر وغيره وهذا مما أجابهم به الرازي وغيره
ومنها أن وجود أجسام(6/413)
ص -375- خارج الفلك كوجود الفلك في حيزه يحتاج إلى خلاء وقوله بنفي الخلاء خارجه كقوله بنفي الخلاء عن حيزه فإن كان الخلاء عدما محضا فهو منتف في الجانبين وإن قيل إنه أمر وجودي لزم أن يحتاج إليه في الموضعين وحينئذ فيبطل القول بنفيه وكذلك ما يذكرونه في قدم العالم فليس مع القوم دليل واحد عقلي صحيح يناقض ما أخبرت به الرسل ولكن قد تناقض ما يظنه بعض أهل الكلام من دين الرسل كما قد بسط في غير هذا الموضع والنوع الثاني آيات الجو كاستسقائه صلى الله عليه وسلم واستصحائه وطاعة السحاب له ونزول المطر بدعائه صلى الله عليه وسلم
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك: "أن رجلا دخل المسجد فييوم جممة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا"
قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا من قزعة وأن السماء لمثل الزجاجة وما بيننا وبين سلع من دار فوالذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم(6/414)
ص -376- لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته" وفي رواية أخرى فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثمأمطرت قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون لأودية ومنابت الشجر" قال فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا أخبر بجود ومن هذا الباب نصر الله بالريح التي قال الله فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}قال مجاهد يعني ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم على أفواهها ونزعت فساطيطهم وجنودا لم تروها يعني الملائكة
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"(6/415)
ص -377- وفي المغازي والسير قصة الأحزاب وكيف أرسلت عليهم الريح والملائكة وانهزموا بغير قتال معروف والنوع الثالث تصرفه في الحيوان الإنس والجن والبهائم فروي عن عبد الله بن جعفر قال أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس قال وكان أحب ما استتر به هدف أو حائش نخل فدخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه وذفراه فسكن قال لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال هو لي يا رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" روى مسلم بعضه وبعضه على شرطه ورواه أبو داود وغيره
وروى أحمد والدارمي وغيرهما عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر حتى إذا دفعنا(6/416)
ص -378- إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاتوا خطامه فخطمه ودفعه إلى صاحبه قال ثم التفت إلى الناس فقال: "إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس"
وروى الطبراني عن جابر قال خرجنا في غزوة ذات الرقاع حتى إذا كنا بحرة واقم عرضت امرأة بدوية بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان قال فأدنيه مني فأدنته فقال افتحي فمه فبصق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اخسأ عدو الله وأنا رسول الله ثلاث مرات ثم قال شأنك بابنك ليس عليه بأس فلن يعود إليه شيء مما كان يصيبه" وذكر قصة الشجرتين إلى أن قال(6/417)
ص -379- فنزلنا في واد من أودية بني محارب فعرض له رجل من بني محارب يقال له غورث بن الحارث والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه فقال يا محمد اعطني سيفك هذا فسله فناوله إياه ونظر إليه ساعة ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد من يمنعك مني فارتعدت يده حتى سقط السيف من يده فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يا غورث من يمنعك مني قال لا أحد قال ثم أقبلنا راجعين فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعش طير يحمله وفيه فراخ وأبواه يتبعانه ويقعان على يد الرجل فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على من كان معه فقال: "أتعجبون بفعل هذا الطير وبفراخهما" زاد في رواية: "فربكم ارحم بكم من هذا الطير بفراخه" ثم اقبلنا راجعين حتى إذا كنا بحرة واقم عرضت لنا المرأة التي جاءت بابنها بوطب من لبن وشاة فأهدته له فقال: "ما فعل ابنك هل أصابه شيء مما كان يصيبه" قالت لا والذي بعثك بالحق ما أصابه شيء مما كان يصيبه وقبل هديتها ثم أقبلنا راجعين حتى إذا كنا بمهبط من الحرة أقبل جمل يرقل فقال: "أتدرون ما قال هذا الجمل" قالوا الله ورسوله أعلم قال: "هذا جمل جاءني يستعدي على(6/418)
ص -380- سيده يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين حتى أذا اجربه وأعجفه وكبر سنه اراد نحره اذهب معه يا جابر إلى صاحبه فائت به" فقلت ما أعرف صاحبه يا رسول الله قال: "إنه سيدلك عليه" قال فخرج بين يدي معنقا حتى وقف بي في مجلس بني خطمة فقلت أين رب هذا الجمل قالوا فلان فجئته فقلت اجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معي حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: صلى الله عليه وسلم: "إن جملك هذا يستعدي عليك يزعم أنك حرثت عليه زمانا حتى أجربته وأعجفته وكبر سنه ثم اردت نحره" قال والذي بعثك بالحق إن ذلك كذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعنيه" قال نعم يا رسول الله فابتاعه منه ثم سيبه في الشجر حتى نصب سناما فكان إذا اعتل على بعض المهاجرين والأنصار من نواضحهم شيء أعطاه أياه فمكث بذلك زمانا وهذا الحديث له شواهد أخرج أهل الصحيح منه قصة الشجرتين وقصة(6/419)
ص -381- الذي شهر السيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة الطير رواها أبو داود الطيالسي وقصة الصبي ذكرها غير واحد
وروى الإمام أحمد في مسنده عن يعلى بن مرة الثقفي قال ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه بالأرض فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أين صاحب هذا البعير؟" فجاء فقال: "بعينه" فقال بلنهبه لك وهو لأهل بيت ما لهم معيشة غيره فقال: "أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه يشتكي إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه" وفي رواية أنهم أرادوا نحره ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انطلق إلى هاتين الشجرتين فقل لهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكما أن تجتمعا" فانطلقت فقلت لهما ذلك فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها فنزلت كل واحدة إلى صاحبتها فالتفتا جميعا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته من ورائهما ثم لما فرغ عادت كل واحدة منهما مكانها بأمره وأتته امرأة بصبي لها به لمم فقالت يا رسول الله إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه في كل يوم مرتين فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في فيه وقال: "أخرج عدو الله أنا رسول الله" فبرىء فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط قالت والذي بعثك بالحق ما(6/420)
ص -382- رأينا منه ريبا بعدك فأخذ أحد الكبشين والأقط ورد الكبش الآخر وروى هذه القصة أبو يعلى الموصلي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ورواه الحاكم في صحيحه قال سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت منه عجبا وذكر الحديث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة لما أخرج الشيطان من ابنها: "إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع" ورواه الدارمي أيضا
وروى الدارمي عن ابن عباس أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا فثغ ثغة خرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي وروى أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فدخل رجل غيضة فأخرج منها بيضة حمرة فجاءت الحمرة ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: "أيكم فجع هذه" فقال رجل من القوم أنا أخذت(6/421)
ص -383- بيضتها فقال: "رده رحمة" لها وروى الحاكم في صحيحه عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ركبنا البحر في سفينة فانكسرت السفينة فركبت لوحا من ألواحها فطرحني في أجمة فيها أسد فلم يرعني إلا به فقلت يا ابا الحارث انا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه شقي فما زال يغمزني ويهديني الطريق حتى وضعني على الطريق فلما وضعني على الطريق همهم فظننت أنه يودعني وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة قالت كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد ولعب وأقبل وأدبر فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل ربض فلم يترمرم كراهية ان يؤذيه ورواه أبو نعيم وروى عنها أحمد أيضا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال: "لو كنت آمرا احدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد(6/422)
ص -384- لزوجها ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلى جبل اسود ومن جبل أسود إلى جبل ابيض كان ينبغي لها أن تفعله" رواه أحمد عن عفان وابن ماجه عن ابن أبي شيبة عن عفان قال ثنا حماد بن سلمة ثنا أبي علي بن زيد ثنا سعيد عن عائشة وقصة هذا الجمل رواها جماعة وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال عدا الذئب على شاة فأخذها فطلبه الراعي فانتزعها منه فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي فقال يا عجبا ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس(6/423)
ص -385- فقال الذئب الا أخبرك بأعجب من ذلك محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق قال فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي الصلاة جامعة ثم خرج فقال للأعرابي: "أخبرهم" فأخبرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه ما أحدث أهله بعده" وروى الترمذي آخره وصححه قال البيهقي إسناده صحيح وله شاهد من وجه آخر ورواه أحمد عن أبي هريرة قال وكان الراعي يهوديا فأسلم وقال فيه: "أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم"
وفي الصحيحين عن أنس قال كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة وكان يقطف فلما رجع قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرا" وكان بعد ذلك لا يجارى(6/424)
ص -386- وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع وسهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر انه أرسل إلى علي وهو ارمد العين فقال: "لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه" فبصق في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع قط وأعطاه الراية فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا قال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"
وعن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر فسألت على وجنته فأرادوا ان يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا" ودعاه وغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيبت فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهما. وفي(6/425)
ص -387- رواية فرفع حدقته حتى وضعها موضعها ثم غمزها براحته وقال: "اللهم أكسبه جمالا" فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت رواه عنه أهل المغازي وانشد ولده بحضرة عمر بن عبد العزيز وهو خليفة أقره من حضر ولم ينكروه:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه وردت بكف المصطفى أيما رد
فلولا أنه كان معروفا عند التابعين لم يقروه وهم إنما تلقوا هذا عن الصحابة وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت(6/426)
ص -388- الشمس وراح الناس قال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أدخل قال وأقبل حتى دنا من الباب وذكر قصة قتله إلى أنقال ثم وضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت أنني قد قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا فبابا حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامتي ثم انطلقت حتى جلست عند الباب فقلت لا أبرح حتى اعلم أقتلته أم لا فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال أنعي ابا رافع قال فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجا قد قتل الله أبا رافع قال فانتهينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه فقال: "ابسط رجلك" فبسطها فمسحها فكأنما لم اشتكها قط
وفي البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال رأيت في ساق سلمة بن الأكوع أثر(6/427)
ص -389- ضربة فقلت يا ابا مسلم ما هذه الضربة قال هذه ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس اصيب سلمة قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيت منها حتى الساعة
وفي الترمذي وغيره عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله تعالى ان يعافيني قال: "إن شئت صبرت فهو خير لك وإن شئت دعوت الله" قال فادعه قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني اسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضيها لي اللهم فشفعه في"
وفي رواية قال يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي وذكر الحديث فقال عثمان والله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط قال الترمذي حديث صحيح
النوع الثالث آثاره في الأشجار والخشب
ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال كان المسجد مسقوفا على جذوع النخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع المنبر فكان عليه سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها(6/428)
ص -390- فسكنت وفي رواية فصاحت النخلة صياح الصبي وفي الصحيح عن جابر ان امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله الا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت فعملت له المنبر فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع له فصاحت النخلة التي كان يخطب عليها حتى كادت أن تنشق فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت
وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطىء الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصنين من أغصانها فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف فيما بينهما فلأم بينهما حتى جمع بينهما فقال: "التئما علي بإذن الله" تعالى فالتأمتا عليه فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيتباعد فجلست أحدث(6/429)
ص -391- نفسي فحانت مني لفتة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق وذكر الحديث وعن ابن عباس قال جاء رجل من بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك فإنني من أطب الناس قال: "ألا أريك آية؟" قال بلى فنظر إلى نخلة فقال: "ادع ذلك العذق" فجاءه ينقز حتى قام بين يديه فقال له: "ارجع" فرجع
وفي رواية الترمذي جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بم أعرف أنك نبي قال: "إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة تشهد أني رسول الله؟" قال نعم فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ارجع" فعاد فأسلم الأعرابي
وروى الدارمي عن عبد الله بن عمر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أين تريد؟" قال إلى أهلي قال: "هل لك في خير؟" قال ما هو قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله" فقال ومن يشهد على ما تقول قال: "هذه السلمة" فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطىء الوادي فأقبلت(6/430)
ص -392- تخد الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت ثلاثا أنه كما قال ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إليه فقال أن اتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت فكنت معك ورواه الدارمي أيضا قال فيه فجاءت النخلة تنقز بين يديه ثم قال لها: "ارجعي" فعادت إلى مكانها
وفي الصحيحين عن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول سألت مسروقا من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن فقال حدثني أبوك يعني ابن مسعود أنه قال آذنته بهم شجرة وفي الترمذي عن علي قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله رواه الحاكم في صحيحه
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء ضربه بعض أهل مكة فقال له: ما لك؟ قال فقال: "فعل هؤلاء وفعلوا" فقال له جبريل أتحب أني أريك آية فقال: "نعم"(6/431)
ص -393- فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال أدع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه فقال مرها فلترجع إلى مكانها فقال لها: "ارجعي" فرجعت حتى عادت إلى مكانها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبي" ورواه أبو يعلى االموصلي في مسنده(6/432)
ص -394- فصل
والنوع الرابع الماء والطعام والثمار الذي كان يكثر ببركته فوق العادة وهذا باب واسع نذكر منه ما تيسر
أما الماء ففي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح فجعل القوم يتوضؤن قال فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين وفي رواية عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مخارجه ومعه أناس من أصحابه فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة فلم يجدوا ما يتوضؤن به فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح فيه ماء يسير فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: "قوموا فتوضؤا" وكانوا سبعين أو نحوه
وفيهما عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد ثمة دعا بقدح فيه ماء فوضع فيه كفه فجعل ينبع بين أصابعه فتوضأ جميع أصحابه وفي الصحيحين عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤا منه قال فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤا من عند آخرهم(6/433)
ص -395- وفي الصحيحين عن جابر قال قد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضرت صلاة العصر وليس معنا ماء غير فضلة فجعل في إناء فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده فيه وفرج أصابعه وقال: "حي على الوضوء والبركة من الله" فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه فتوضأ الناس وشربوا فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه فعلمت أنه بركة قلت لجابر كم كنتم يومئذ قال ألفا وأربعمائة وفي صحيح البخاري عن جابر أيضا قال عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ فجهش الناس نحوه قال: "ما لكم؟" قالوا ليس عندنا ما نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قلت كم كنتم قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة
وفي البخاري عن البراء بن عازب قال تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا وكنا ألفا وأربعمائة أو أكثر من ذلك
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة أو أكثر من ذلك وعليها خمسون شاة لا ترويها فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية(6/434)
ص -396- فأما دعا وأما بصق فيها قال فجاشت فسقينا واستقينا وعن ابن عباس قال ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فطلب بلال الماء ثم جاء فقال لا والله ما وجدت الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل من شن" فأتاه بشن فبسط كفيه فيها فانبعثت من يده عين قال فكان ابن مسعود يشرب وغيره يتوضأ وعن جابر بن عبد الله قال غزونا أو سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن يومئذ بضع عشرة ومائتين فحضرت الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل في القوم من طهور" فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء وليس في القوم ماء غيره فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم انصرف وترك القدح فركب الناس ذلك القدح وقالوا تمسحوا تمسحوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلكم" حين سمعهم يقولون ذلك فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه في الماء والقدح فقال: "بسم الله" ثم قال أسبغوا الطهور فوالذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه فلم يرفعها حتى توضؤا أجمعون رواهما الدارمي في مسنده وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: "اطلبوا فضلة من ماء" فجاؤا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال: "حي على الوضوء المبارك والبركة من الله" فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل(6/435)
ص -397- وروى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا حتى إذا كان يوم آخر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال: "إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي" فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسيتما من مائها شيئا؟" قالا نعم فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع شيء قال وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير فسقى الناس ثم قال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك الحياة أن ترى ما ها هنا قد ملىء جنانا" وفي صحيح مسلم حديث جابر الذي رواه عبادة بن الوليد وقد تقدم أوله في قصة الشجرتين وانقيادهما ثم افتراقهما ووضع الغصن على القبرين وقال في آخره فأتينا العسكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ناد بوضوء" فقال ألا وضوء ألا وضوء قال قلت يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة وكان رجل من الأنصار يبرد(6/436)
ص -398- لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له فقال لي: "انطلق إلى فلان فانظر هل في أشجابه من شيء" قال فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب لو أني أفرغه لشربه يابسه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب لو أني أفرغه لشربه يابسه قال: "اذهب فأتني به" فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيده ثم أعطانيه ثم قال: "يا جابر ناد بجفنة الركب" فقلت يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في الجفنة فقال: "خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله" فصببت عليه وقلت بسم الله فرأيت الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت فقال: "يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء" قال فأتى الناس فاستقوا حتى رووا قال فقلت هل بقي أحد له حاجة فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له فأدلجنا ليلتنا حتى إذا كان وجه الصبح عرسنا فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس فكان أول من استيقظ منا أبو بكر الصديق وكنا لا نوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه حتى يكون هو الذي يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه ثم استيقظ عمر فجعل(6/437)
ص -399- يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال ارتحلوا فسار بنا حتى ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تصلي معنا" قال أصابتني جنابة ولا ماء قال له: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" فتيمم بالصعيد فصلى ثم عجلني في ركب بين يديه يطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين فقلنا لها أين الماء فقالت إيهاه إيهاه لا ماء لكم فقلت كم بين أهلك وبين الماء قالت مسيرة يوم وليلة قلنا انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وما رسول الله فلم نملكها من أمرها شيئا حتى انطلقنا بها واستقبلنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فأخبرته مثل الذي أخبرتنا وأخبرته أنها موتمة لها صبيان أيتام فأمر براويتها فأنيخت فمج في العزلاوين العلياوين ثم بعث براويتها فشربنا ونحن أربعون رجلا عطاشا حتى روينا وملأنا كل راوية وملأنا كل قربة معنا وإداوة وغسلنا صاحبنا غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تتضرج من الماء يعني المزادتين ثم قال: "هاتوا ما عندكم" فجمعنا لها من كسر وتمر وصرلها صرة وقال: "اذهبي فأطعمي عيالك واعلمي أنا لم نرزأ من مائك شيئا" فلما أتت أهلها قالت لقد رأيت أسحر البشر أو أنه النبي كما زعم كان من أمره ذيت وذيت فهدى الله عز وجل ذلك القوم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا(6/438)
ص -400- وفي الصحيحين عن أبي قتادة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء غدا إن شاء الله" فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد وذكر حديث النوم في الوادي فقال ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها وضوءا دون وضوء وبقي فيها شيء من ماء ثم قال لأبي قتادة: "احفط علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ" ثم قال أصبح الناس فقدوا نبيهم فقال أبو بكر وعمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدكم لم يكن ليخلفكم وقال الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا قال فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء وهم يقولون يا رسول الله هلكنا عطشا فقال: "لا هُلِك عليكم" ثم قال: "أطلقوا لي غمري" قال ودعا بالميضاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وابو قتادة يسقيهم فلم يعد ان رأى الناس ما في الميضأة تكابوا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملاء كلكم سيروى" قال ففعلوا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب فقال لي: "اشرب" فقلت لا أشرب حتى يشرب رسول الله قال: "إن ساقي القوم آخرهم شربا" فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتى الناس الماء جامين رواء قال عبد الله بن رباح(6/439)
ص -401- إني لأحدث بهذا الحديث في مسجد الجامع إذ قال لي عمران بن حصين انظر كيف يحدث فأنا أحد الركب تلك الليلة فقلت أنت أعلم فقال ممن أنت قلت من الأنصار قال أنتم أعلم بحديثكم قال عمران لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته وفي مسند الإمام أحمد ورواه أبو يعلى الموصلي عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتينا على ركي ذمة قال فنزل ستة أنا سابعهم او سبعة أنا ثامنهم قال فأدليت إلي دلو ورسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة الركي فجعلنا فيها نصفها أو قريب ثلثيها فرفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكدت بإنائي أجد سقيا اجعله في حلقي فما وجدت قال فغمس رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فيها وقال ما شاء الله أن يقول فأعيدت إلينا الدلو وما فيها قال فرأيت آخرنا أخرج بثوب مخافة الغرق قال وساحت. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابو داود وابن ماجه طرف منه عن زياد بن الحارث الصداي قال في آخره ثم قلنا يا نبي الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا وقد أسلمنا وكل من حولنا عدو فادع الله في بئرنا أن يسعنا ماؤها فنجتمع عليها ولا(6/440)
ص -402- نتفرق فدعا بسبع حصيات فعركهن في يده ودعا فيهن ثم قال: "اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيت البئر فألقوا واحدة واحدة واذكروا اسم الله عز وجل" قال الصداي ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد أن ننظر إلى قعرهاوروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء فأتاه رجل فقال يا رسول الله ليس في العسكر ماء قال: "هل عندك شيء؟" قال نعم قال: "فأتني به" قال فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم اصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه قال فانفجرت من بين أصابعه عيون وأمر بلالا فقال: "ناد في الناس الوضوء المبارك"(6/441)
ص -403- فصل
وأما تكثير الطعام ففي الصحيحين عن جابر قال لما حفر الخندق رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن قال فذبحت وطحنت ففرغت إلى فراغي فقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال فجئت فساورته فقلت يا رسول الله إنادبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير عندنا فتعال أنت ونفر معك فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي هلا بكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء" فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمم الناس حتى جئت امرأتي فقالت بك وبك قال قد فعلت الذي قلت لي فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ثم قال: "ادع لي خابزة فلتخبز معي واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". وهم ألف فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو(6/442)
ص -404- وفي رواية قال جابر إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت فقال: "أنا نازل" فقام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثا لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل فقلت يا رسول الله أئذن لي إلى البيت فقلت لامرأتي رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما في ذلك صبر قالت عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج فقلت طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال: "كم هو" فذكرت له قال: "كثير طيب" قال: "قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي" قال: "قوموا" فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم إلى أن قال فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: "كل هذا وأهد فإن الناس أصباتهم مجاعة"(6/443)
ص -405- وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال أبو طلحة لأمسليم قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخذت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت به فوجدته جالسا في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلك ابو طلحة؟" فقلت نعم فقال بالطعام فقلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا" قال فانطلق وانطلقت معهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم فقال الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك" فأتت بذلك الخبز ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون
وفي طريق البخاري: "ثمانون" وقال في رواية: ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنس وفضل فضلة فأهديناها لجيراننا
وفي صحيح مسلم عن سلمة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فأمرنا أن نجمع ما في أزوادنا يعنى من التمر فبسط ناطعا فنثرنا عليه أزوادنا قال فتمطيت وتطاولت فنظرت فحزرته كربضة شاة ونحن أربع عشرة مائة قال فأكلنا ثم تطاولت فنظرته فحزرته كربضة الشاة(6/444)
ص -406- وفي الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد وسلمة بن الأكوع واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قالكنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير قال فنفذت أزواد القوم حتى هموا بنحر بعض حمائلهم قال فقال عمر يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها قال ففعل فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره وذو النوى بنواه قيل وما كانوا يصنعون بالنوى قال يمصونه ويشربون عليه الماء قال فدعا عليها حتى ملأ القوم أزوادهم قال فقال: "عند ذلك أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيها إلا دخل الجنة" وفي لفظ آخر قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا" قال فجاء عمر فقال يا رسول الله إن فعلت قلّ الظهر.
وفي رواية ما بقاؤهم بعد إبلهم ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع لهم بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم قال فجعل الرجل يجيء بكف ذرة وجعل الآخر يجيء بكف تمر وجعل يجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: "خذوا في أوعيتكم" قال فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملاؤه قال فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة الحديث
وروى البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/445)
ص -407- في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمرنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع قال فتطاولت لأحزره كم هو فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة قال فأكلنا حتى شبعنا جميعا ثم حشونا جربنا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل من وضوء؟" قال فجاء رجل بإدواة فيها نطفة فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا هل من طهور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغ الوضوء"
وفي صحيح مسلم عن جابر أن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيء فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبيصلى الله عليه وسلم فتجد فيها سمنا قال فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عصرتيها" فقالت نعم قال: "لو تركتيها ما زال قائما"
وروى مسلم في صحيحه عن جابر أيضا قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم"
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب فدخل بأهله قال:(6/446)
ص -408- فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور من حجارة فقالت يا انس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت بهذا أمي إليك وهي تقرئك السلام وتقول إن هذا لك منا قليل يا رسول الله قال فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن أمي تقرئك السلام وتقول إن هذا لك منا قليل فقال: "ضعه" ثم قال: "اذهب فادع فلانا وفلانا وفلانا ومن لقيت" وسمى رجالا قال فدعوت من سمى ومن لقيت قال الجعد وهو الراوي عن أنس عدد كم كانوا قال كانوا زهاء ثلاثمائة وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس هات التور" قال فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه" قال فأكلوا حتى شبعوا قال فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم فقال: "يا أنس ارفع" فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت قال وجلس طوائف منهم يتحدثون وذكر نزول آية الحجاب
وروى البخاري عن أنس أيضا إن أم سليم عمدت إلى مد من شعير جشته وجعلت منه خطيفة وعصرت عكة عندها ثم بعثتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في أصحابه فدعوته قال: "ومن معي" فجئت فقلت إنه يقول: "ومن معي" فخرج إليه أبو طلحة فقال يا رسول الله أنما هو شيء صنعته أم سليم فدخل فجيء به وقال: "أدخل عشرة" حتى عد أربعين ثم اكل النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام فجعلت أنظر هل نقص منها شيء(6/447)
ص -409- وعن سمرة بن جندب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتداول قصعة من غدوة إلى الليل يقوم عشرة ويقعد عشرة فقلنا ما كان يمد قال فمن أي شيء تعجب ما كانتتمد إلا من ههنا وأشار بيده إلى السماء رواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الدارمي والحاكم في صحيحه وفي البخاري عن أبي هريرة أنه كان يقول والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل ثم مر عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فمر فلم يفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي وما في نفسي ثم قال: "أبا هر" قلت لبيك يا رسول الله قال: "الحق" ومضى فاتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخلت فوجد لبنا في قدح فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا هداه لك فلان أو فلانة قال: "أبا هر" قلت لبيك يا رسول الله قال:" الحق أهل الصفة فادعهم لي" قال وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا إلى(6/448)
ص -410- مال إذا اتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم واصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاؤا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت فقال: "يا أبا هر" قلت لبيك يا رسول الله قال: "خذ فأعطهم" فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: "أبا هر" قلت لبيك يا رسول الله قال: "بقيت أنا وأنت" قلت صدقت يا رسول الله قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب فشربت" فما زال يقول اشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال: "فأرني" فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم طعام؟" فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبيعا أم عطية؟" أو قال: "هبة" قال بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوي وأيم الله ما في الثلاثين ومائة إلا من قد حز له النبي صلى الله عليه وسلم حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاه(6/449)
ص -411- وأن كان غائبا خبأ له فجعل منها قصعة فأكلوا أجمعون وشبعنا ففضلت القصعتان فحملناها على البعير أو كما قال(6/450)
ص -412- فصل
وأما تكثير الثمار ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أن أباه استشهد وترك دينا وترك ست بنات فلما حضر جداد النخل قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أحد وترك دينا كثيرا وإني أحب أن يراك الغرماء قال: "اذهب فبيدر كل تمر على ناحية" ففعلت ثم دعوته فلما نظروا إليه كأنهم أغروا بي تلك الساعة فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه ثم قال لي:"ادع لي أصحابك" فما زال يكيل لهم حتى أدى الله عن والدي امانته وأنا أرضى أن يؤدي الله عن والدي أمانته ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة فسلم الله البيادر كلها حتى إني لأنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص تمرة واحدة وفي رواية أن أباه ترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع إليه فجاءه وكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: "جد له فأوف له" فجد له بعد ما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين وسقا وفضل له سبعة عشر وسقا فجاء جابر ليخبره بالذي كان فوجده يصلي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال أخبر بذلك ابن الخطاب فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال عمر لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن فيها
وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما حديث مزود أبي هريرة قال أحمد:(6/451)
ص -413- حدثنا يونس ثنا حماد بن زيد عن المهاجر عن أبي العالية عن أبي هريرة قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات وقلت ادع الله لي فيهن بالبركة قال فصفهن بين يديه قال ثم دعا فقال لي: "اجعلهن في مزودك" فأدخل يدك ولا تنثره قال فجعلت منه كذا وكذا وسقا في سبيل الله ونأكل ونطعم وكان لا يفارق حقوي فلما قتل عثمان انقطع من حقوي فسقط رواه الترمذي عن عمران بن موسى القزاز عن حماد بنحوه وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه ورواه الحافظ عبد الغني وغيره من طريق أخرى عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصابهم عوز من الطعام فقال: "يا ابا هريرة عندك شيء؟" قلت شيء من التمر في مزود لي قال: "جئ به" فجئت بالمزود وقال: "هات نطعا" فجئت بالنطع فبسطه فأدخل يده فقبض على التمر فإذا هو إحدى وعشرين تمرة قال ثم قال: "بسم الله" فجعل يضع كل تمرة ويسمي حتى أتى على التمر فقال به هكذا فجمعه فقال: "ادع فلانا وأصحابه" فأكلوا وشبعوا وخرجوا ثم(6/452)
ص -414- قال:"ادع فلانا وأصحابه" فأكلوا وشبعوا وخرجوا قال وفضل تمر قال فقال لي: "اقعد فقعدت" فأكل وأكلت قال وفضل تمر فأخذه فأدخله في المزود فقال:"يا أبا هريرة إذا أردت شيئا فأدخل يدك ولا تكفأ فيكفأ عليك" قال فما كنت أريد تمرا إلا أدخلت يدي فأخذت منه خمسين وسقا في سبيل الله عز وجل وكان معلقا خلف ظهري فوقع زمان عثمان فذهب ورواه من طريق يزيد بن أبي منصور عن أبيه عن أبي هريرة قال أصبت بثلاث بموت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت صويحبه وخويدمه وبقتل عثمان والمزود وما المزود كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل من شيء يا أبا هريرة؟" فقلت نعم شيء من تمر في مزود قال: "فأتني به" فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبض فبسطا ثم قال: "ادع لي عشرة" فأكلوا حتى شبعوا ثم أدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ثم قال: "ادع لي عشرة" فما زال يصنع كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا ثم قال:"خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض ولاتكفه" قال أبو هريرة فقبضت على اكثر مما جئت به ثم قال أبو هريرة ألا أحدثكم عما أكلت منه أكلت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمت وحياة أبي بكر وأطعمت وحياة عمر واطعمت وحياة عثمان وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب بيتي وذهب المزود
وروى الإمام أحمد في مسنده ثنا يعلى بن عبيد ثنا إسماعيل عن قيس عن(6/453)
ص -415- دكين بن سعيد المزني قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأربعمائة نسأله الطعام فقال لعمر: "اذهب فأطعمهم" فقال يا رسول الله ما بقي إلا آصع من تمر ما أراه يقيظني قال: "قال فأطعمهم" قال سمع وطاعة قال فأخرج عمر المفتاح من حجزته ففتح الباب فإذا شبه الفصيل الرابض من تمر فقال لنا: "خذوا" فأخذ كل رجل منا ما أحب ثم التفت وكنت من آخر القوم وكأنا لم نرزأ تمرة ورواه أبو داود عن عبد الرحيم بن مطرف عنعيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن دكين قال أبو عبد الله المقدسي وإسناده على شرط الصحيح(6/454)
ص -416- فصل
وأما النوع الخامس تأثيره في الأحجار وتصرفه فيها وتسخيرها له ففي صحيح البخاري عن أنس قال صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم الجبل فقال: "اسكن" وضربه برجله "فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان"
وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن"
وفي الترمذي عن علي قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله ورواه الحاكم في صحيحه
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمته فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني فما دريت ما صنع ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وارجع منهزما وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأى ابن الأكوع(6/455)
ص -417- فزعا" فلما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من الأرض واستقبل به وجوههم فقال:"شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفارولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال العباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها وابو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرادة أن لا تسرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب الشجرة" فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على اولادها يا(6/456)
ص -418- لبيك يا لبيك قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا بني الحارث بن الخزرع فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حين حمى الوطيس" ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة" قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله وقد قال الله تعالى عن يوم بدر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}
وروى ابن إسحاق عن جماعة منهم عروة والزهري وعاصم بن عمر وغيرهم قالوا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش هو وأبو بكر ما معهما غيرهما وقد تدانى القوم بعضهم من بعض فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من نصره ويقول: "اللهم إن(6/457)
ص -419- تهلك هذه العصابة لا تعبد" وأبو بكر يقول بعض مناشدتك ربك يا رسول الله فإن الله سينجز لك ما وعدك من نصره وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة ثم هب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله عز وجل هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع يقول الغبار" ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ اصحابه وهيأهم وقال:طلا يعجلن رجل منكم بقتال حتى نؤذنه فإذا أكثبكم القوم يقول قربوا منكم فانضحوهم عنكم بالنبل" ثم تزاحم الناس فلما تدانى بعضهم من بعض خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من حصباء ثم استقبل بها قريشا فنفخ بها وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احملوا عليهم يا معشر المسلمين" فحمل المسلمون وهزم الله قريشا وقتل من قتل من أشرافهم وأسر من أسر منهم
وفي حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فقال له جبريل خذ قبضة من تراب فأخذ قبضة من تراب ورمى بها وجوههم فما في المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين(6/458)
ص -420- فصل
النوع السادس من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} الآية وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} وقال تعالى: في الخندق{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} وقال تعالى: في حنين {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: في الهجرة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وقال تعالى: في بدر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس عن عمر ابن الخطاب قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي(6/459)
ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى أسقط رداءه عن منكبيه(6/460)
ص -421- فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربةسوط فوقه وصوت الفارس يقول اقدم حيزرم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة" فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وذكر الحديث وذكر البخاري في هذا الحديث فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم(6/461)
ص -422- عن بعض بني ساعدة قال سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: "أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم" فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} وهو في صورة سراقة وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه ثم قال واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام(6/462)
ص -423- وفي الصحيحين عن عائشة قالت أصيب سعد يوم الخندقرماه رجل من قريش ابن العرقة رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين؟" فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم
وفي بعض طرق البخاري: فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار وروى البخاري عن أنس قال كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلوات الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وفي المغازي من غير طريق أن الصحابة رأوا جبريل في صورة دحية الكلبي وأنه معتم بعمامة أرخى طرفها بين كتفيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثه الله إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويلقي الرعب في قلوبهم"
وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم بدر هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب"(6/463)
ص -424- وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل أتى عليك يوم كأن أشد من يوم أحد قال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أنيخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا"(6/464)
ص -425- فصل
النوع السابع في كفاية الله له أعداءه وعصمته له من الناس وهذا فيه آية لنبوته من وجوه منها أن ذلك تصديق لقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فهذا إخبار الله بأنه يكفيه المشركين المستهزئين وأخبر أنه يكفيه أهل الكتاب بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}فأخبره الله أنه يكفيه هؤلاء الشاقين له من أهل الكتاب وأخبره أنه يعصمه من جميع الناس بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس فكل من هذه الأخبار الثلاثة العامة قد وقع كما أخبز وفي هذا عدة آيات منها أنه كفاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة ومنها أنه نصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم وأنه كان وحده جاهرا بمعاداتهم وسب آبائهم وشتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم والطعن في دينهم وهذا من الأمور الخارقة للعادة والمستهزئون كانوا من أعظم سادات قريش وعظماء العرب وكان أهل مكة أهل الحرم أعز الناس وأشرفهم يعظمهم جميع الأمم
أما العرب فكانوا يدينون لهم وأما غيرهم من الامم فكانوا يعظمونهم به لا سيما(6/465)
ص -426- من حين ما جرى لأهل الفيل ما جرى كما كانت الأمم تعظم بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الآيات ما ظهر وهؤلاء بنو إسرائيل ابن خليل الله وهؤلاء بنو إسحاق ابن خليل الله وكلاهما ممن وعد الله إبراهيم في التوراة فيهم بما وعده من إنعام الله عليه النعمة التي لم ينعم الله بها على غيرهم فكان أهل مكة معظمين لأنهم جيران البيت ولأنهم أشرف بني إسماعيل فإن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشم من قريش واصطفى محمدا من بني هاشم وكان قد عاداه أشراف هؤلاء كما عادى المسيح أشراف بني إسرائيل وبدل هؤلاء وهؤلاء نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار وكفى الله رسوله المسيح من عاداه منهم ولم ينفعهم نسبهم ولا فضل مدينتهم وكذلك كفى الله محمدا من عاداه وانتقم منهم ولم ينفعهم أنسابهم ولا فضل مدينتهم فإن الله إنما يثبت بالإيمان والتقوى لا بالبلد والنسب وقال تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}
وقد سمى أهل العلم بعض من كفاه الله إياه من المستهزئين وكانوا معروفين مشهورين عند الصحابة بالرياسة والعظمة في الدنيا فذكروهم ليعرف هذا الأمر العظيم(6/466)
ص -427- الذي أكرم الله نبيه بهففي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قيل نعم قال واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له مالك قال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وأنزل الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَبِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}
وفي الصحيحين من حديث البراء بن عازب حديث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وابي بكر من مكة إلى المدينة قال فيه واتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم ونحن في جدد من الأرض فقلت يا رسول الله أتينا فقال: "لا تحزن إن الله معنا" فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/467)
ص -428- فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال إني قد علمت أنكما دعوتما علي فادعوا لي والله لكما أنأرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ها ههنا فلا يلقى أحدا إلا رده وفي لفظ: "فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه فقال يا محمد قد علمت أن هذا علك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه ولك علي لأعمين على من ورائي
وفي الصحيحين عن ابن شهاب من رواية سراقة نفسه قال جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو اسره فبينما أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراهما محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا ثم لبثت ساعة ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم وعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت(6/468)
ص -429- منها الأزلام فاستقسمت بها فخرج الذي اكره فركبت وعصيت الأزلام فقربت بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر تمام الحديث
وفي الصحيحين عن جابر قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة قبل نجد فأدركنا(6/469)
ص -430- رسول الله صلى الله عليه وسلم في القائلة وفي واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي والسيف صلتا في يده فقال من يمنعك مني قلت الله فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملك قومه فانصرف حين عفا عنه فقال لا اكون في قوم هم حرب لك"
وفي صحيح الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال كان فلان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم اختلج بوجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كن كذلك" فلم يزل يختلج حتى مات
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أجعله آية" فأماته الله فأصبح وقد لفظته الأرض(6/470)
ص -431- فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا مثل الأول فحفروا له وأعمقوا فلفظته الثالثة فعلموا أنه ليس من فعل الناس فتركوه منبوذا وروى الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق قال حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط قد سفه احلامنا وشتم آبائنا وعاب ديننا وفرق جماعاتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: "تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح" فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى أنه ليقول انصرف يا أبا القاسم انصرف راشدا فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا(6/471)
ص -432- باداكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا الذي أقول ذلك قال فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه وقام أبو بكر دونه يقول وهو يبكي {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ثم انصرفوا عنه وذكر البخاري بعد حديث عروة عن عبد الله بن عمرو قال وقال عبدة عن هشام عن أبيه قيل لعمرو بن العاص وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} قال والمستهزؤن الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب أبو زمعة من بني أسد بن عبد العزى والحارث بن عيطل(6/472)
ص -433- السهمي والعاص بن وائل فأومأ جبريل إلى أكحل الوليد بن المغيرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعت قال كفيته وأومأ إلى الأسود بن المطلب إلى عينيه فقال: "ما صنعت؟" فقال كفيته وأومأ إلى رأس الأسود بن عبد يغوث فقال: "ما صنعت؟" قال كفيته وأومأ إلى الحارث السهمي إلى بطنه فقال: "وما صنعت؟" قال كفيته وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فقال: "ما صنعت" قال كفيته فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبله فأصاب أكحله فقطعها وأما الأسود بن المطلب فعمي فمنهم من يقول عمي هكذا ومنهم من يقول نزل تحت سمرة فجعل يقول يا بني ألا تدفعون عني ويقولون ما نرى شيئا فجعل يقول هلكت ها هو ذا أطعن في عيني بالشوك فجعلوا يقولون ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه وأما الأسود فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات وأما العاص بن وائل فركب إلى الطائف على حمار فربض به في شبرقة يعني شوكة فدخلت في أخمص قدمه فمات وقيل دخلت في رأسه شبرقة فمات(6/473)
ص -434- رواه ابن أبي حاتم في تفسيره قال ثنا يونس بنحبيب ثنا أبو داود ثنا أبو عوانة ثنا أبو بشر عن سعيد وروى بإسناده عن الربيع بن أنس قال أراد صاحب اليمن أن يؤي النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه الوليد فزعم أن محمدا ساحر وأتاه العاص بن وائل فأخبره أن محمدا تعلم أساطير الأولين وأتاه آخر فزعم أنه كاهن وآخر زعم أنه شاعر وآخر قال إنه مجنون فأهلكهم الله كل منهم أصابه عذاب سوى عذاب صاحبه وذكر تفصيل عذابهم وروى مثله عن عكرمة وقال محمد بن إسحاق ثنا يزيد بن رومان عن عروة وغيره من العلماء أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يطفون بالبيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبه فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات منها ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح بأسفل كعبه كان أصابه لما مر برجل يريش نبله فخدش رجله وليس بشيء فانتقض فمات ومر به العاص بن وائل فأشار إلى إخمص قدمه فذكر مثل ما تقدم من رواية ابن عباس ورواه أبو زرعة من طرق كثيرة عن جماعة من التابعين ومن المشهور عند أصحاب(6/474)
ص -435- السير وغيرهم دعوته على عتيبة بن أبي لهب وكان أبو لهب لما عادى النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنيه أن يطلقا ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية وام كلثوم قبل الدخول وقال عتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت بدينك وفارقت ابنتك لا تحبني ولا أحبك ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ليلا فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول يا ويل أخي هو والله آكلي كما دعا محمد علي قتلني وهو بمكة وأنا بالشام فعدا عليه الأسد من بين القوم واخذ برأسه فذبحه وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه قال لما طاف الأسد بهم تلك الليلة وانصرف عنهم قاموا وجعلوا عتيبة في وسطهم فأقبل الأسد يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت(6/475)
ص -436- وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليهوسلم وضعه بين كتفيه قال فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم انظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما رفع رأسه حتى انطلق انسان إلى فاطمة فجاءت وهي جويرية فطرحته ثم اقبلت عليهم تسبهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط" وذكر السابع لم أحفظه فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر
وعنه قال استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ودعى على ستة نفر فذكره وفي رواية غير أن أمية بن خلف كان رجلا ضخما فقطعت أوصاله فلم يلق في البئر وقال غيرتهم الشمس وكان يوما حارا ويدخل في هذا الباب ما لم يزل الناس يرونه ويسمعونه من انتقام الله ممن يسبه(6/476)
ص -437- ويذم دينه بأنواع من العقوبات وفي ذلك من القصص الكثيرة ما يضيق هذا الموضع عن بسطه وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه من انتقام الله ممن يؤذيه بأنواع من العقوبات العجيبة التي تبين كلاءة الله لعرضه وقيامه بنصره وتعظيمه لقدره ورفعه لذكره وما من طائفة من الناس إلا وعندهم من هذا الباب ما فيه عبرة لأولي الألباب ومن المعروف المشهور المجرب عند عساكر المسلمين بالشام إذا حاصروا بعض حصون أهل الكتاب أنه يتعسر عليهم فتح الحصن ويطول الحصار إلى أن يسب العدو الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ يستبشر المسلمون بفتح الحصن وانتقام الله من العدو فإنه يكون ذلك قريبا كما قد جربه المسلمون غير مرة تحقيقا لقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ولما مزق كسرى كتابة مزق الله ملك الأكاسرة كل ممزق ولما أكرم هرقل والمقوقس كتابه بقي لهم لمكهم
النوع الثامن في إجابة دعوته وإجابة الدعاء منه ما تكون إجابته معتادة لكثير من عباد الله كالإغناء والعافية ونحو ذلك ومنه ما يكون المدعو به من خوارق العادات كتكثير الطعام والشراب كثرة خارجة عن العادة وإطعام النخل في العام مرتين مع أن العادة فيمثله مرة ورد بصر الذي عمي ونحو ذلك مما يأتي وما تقدم من أدعيته ومعلوم أن من عوده الله إجابة دعائه لا يكون إلا مع صلاحه ودينه ومن ادعى النبوة لا يكون إلا من أبر الناس إن كان صادقا أو من أفرجهم إن كان كاذبا وإذا عوده الله إجابة دعائه لم يكن فاجرا بل برا وإذا لم يكن مع دعوى النبوة إلا برا تعين أن يكون نبيا(6/477)
ص -438- صادقا فإن هذا يمتنع أن يتعمد الكذب ويمتنع أن يكون ضالا يظن أنه نبي وأن الذي يأتيه ملك ويكون ضالا في ذلك والذي يأتيه الشيطان فإن هذا حال من هو جاهل بحال نفسه وحال من يأتيه ومثل هذا لا يكون أضل منه ولا أجهل منه لأن الله تعالى جعل بين الملائكة والشياطين وبين الأنبياء الصادقين وبين المتشبهين بهم من الكذابين من الفرق ما لا يحصيه غيره من الفروق بل جعل بين الأبرار والفجار من الفروق أعظم مما بين الليل والنهار ولأن ما يأتي به الأنبياء من الأخبار والأوامر مخالف من كل وجه لما يأتي به الشيطان ومن استقرأ أحوال الرسل وأتباعهم وحال الكهان والسحرة تبين له ما يحقق ذلك والشيطان الذي يقول لمن ليس بنبي إنك نبي صادق والله أرسلني إليك يكون من أعظم الناس كذبا والكذب يستلزم الفجور فلا بد أن يأمره بما ليس برا بل إثما ويخبره بما ليس صدقا بل كذبا كما هو الواقع ممن تضله الشياطين من جهلة العباد وممن يزين له أنه نبي أو أنه المهدي أو خاتم الأولياء وكل هؤلاء لا بد أن تأمره الشياطين بإثم ولا بد أن يكذب في بعض ما تخبره به تحقيقا لقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
وحينئذ فمثل هذا لا يكون مع دعوى النبوة من الأبرار الذين عودهم الله إجابة دعائهم إجابة خارجة عن العادات بل لا يكون مع دعوى النبوة إلا من الأفاكين الفجار وإذا كان صادقا في دعوى النبوة عالما بأنه صادق ثبت أنه نبي
والأنبياء معصومون من الإقرار على الخطأ فيما يبلغونه عن الله باتفاق الناس وحنيئذ فكل ما يبلغه عن الله فهو حق وهو المطلوب ومن كان يأتيه صادق وكاذب مثل ابن صياد ومثل كثير من العباد الذين لهم إلهام من الملك وسواس من الشيطان بأنه نبي(6/478)
ص -439- ويقول أنا أرسلني الله فلا بد أن يتبين كذبه ولو ببعض الوجوه مثل أن يخبره بكذب فإن مثل هذا الشيطان الذي قال له أنه نبي لا بد أن يكذب فيما يخبره به ومثل إخبار الصادق له بأن هذا كذب فإذا أتاه الشيطان بالكذب لا بد أن يخبره الصادق الذي يأتيه بما يخالف ذلك بخلاف الإخبار بأمور جزئية إذ إخباره بأنه نبي صادق مع أنه ليس كذلك يهلكه هلاكا عظيما ويفسد على الصادق جميع ما يأتيه به لأن ذلك يستلزم أن يصدق ذلك الكاذب في كل ما يخبره به إذ قد اعتقد أنه نبي وحينئذ فلا يكون عنده كاذبا ولا يعرف أنه كاذب
فلا يكون مثل ابن صيد ونحوه ممن يعرف أنه يأتيه صادق وكاذب بل أضل من هؤلاء يظن أن كل ما يأتيه فهو صادق ولهذا كل من كان يأتيه إخبار ملكي صادق وإخبار شيطاني كاذب فلا بد أن يعرف أنه يأتيه كاذب لأنه تبين له الكذب فيما يخبره به(6/479)
ص -440- الشيطان الكاذب كما هو الواقع. ولهذا يوجد الكهان يعرفون كذب من يخبرهم كثيرا وكذل العباد الذين لهم خطابات وكاشفات بعضها شيطاني وبعضها ملكي يتبين لهم الكذب فيما يأتيهم به الشيطان كما هو الواقع فلا يوجد شيخ عابد له حال شيطاني إلا ولا بد أن يخبره بكذب يظهر له أنه كذب وحينئذ فإذا صدق هذا الكاذب في إخباره النبوة كان مصدقا للكاذب ولأن الصادق الذي يأتيه مخبرا له بالصدق ناصحا له لا بد أن يبين له ذلك فلا يصر على اعتقاد أن من يأتيه صادق وهو في نفس الأمر كاذب ولا يعلم أنه كاذب إلا من هو أفاك أثيم والله تعالى يقول {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فتنزلها على الأفاك الأثيم وأما نزول الشيطان مرة أو مرتين فقد يكون على من ليس بأفاك أثيم فإن من لم يكن مدعيا للنبوة لم يكن من هذا الباب وإن كان مدعيا للنبوة فيمتنع أن يقره الصادق الذي يأتيه على ذلك بل لا بد أن يبين له هذا إن جوز ذلك فإن الناس تنازعوا هل يجوز أن يلقي الشيطان على لسان النبيما ينسخه الله ويمحاه أم لا يجوز ذلك وعلى كل حال يمتنع أن يقر على خطأ والمقصود هنا ذكر بعض أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي شوهد إجابتها وقد تقدم ذكر بعض أدعيته مثل دعائه على الملإ من قريش فقتلوا يوم بدر وألقوا في القليب ومثل دعائه على عتيبة بن أبي لهب ومثل دعائه على الذي كذب عليه بأن يجعله آية ومثل دعائه لما قل الزاد وجمعوه على نطع فكثره الله ببركة دعوته حتى كفى الجيش العظيم في غزوة تبوك ومثل دعائه في غزوة الخندق فكفى الطعام وهو صاع من شعير لألف نفر وكذلك دعاؤه لما نزحت بئر الحديبية فكثر ماؤها حتى كفى الركب وهم ألف وخمسمائة وركابهم(6/480)
ص -441- وقد تقدم دعاؤه للذي ذهب بصره فأبصر ودعاؤه في الاستسقاء فما رد يديه إلا والسماء قد أمطرت ودعاؤه في الاستصحاء وإشارته إلى السحاب فتقطع من ساعته ودعوته على سراقة بن جعشم لما تبعهم في الهجرة فغاصت فرسه في الأرض ودعاؤه يوم بدر ويوم حنين وقال الله له يوم بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وامثال ذلك
وفي الصحيحين عن جابر قال لما نزل {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال أعوذ بوجهك {وْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال هاتان أهون أو أيسر
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة"
وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع قال جعل عمي يرتجز ويقول:
تا الله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن من فضلك ما استغنيا فثبت الأقدام أن لاقينا
وأنزل سكينة علينا(6/481)
ص -442- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا؟" قالوا عامر قال: "غفر لك ربك" قال وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد قال فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبي الله لولا متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال وبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر
قال فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسل سيفه فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله وكانت فيها نفسه قال سلمة فخرجت في نفر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من قال ذلك؟" قلت ناس من أصحابك قال: "كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين"
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قالت أم سليم يا رسول الله خادمك أنس أدع الله له فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته"(6/482)
ص -443- وروى البخاري قال دخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن فقال: "أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه" ثم قام إلى ناحية البيت فصلى غير مكتوبة فدعى لأم سليم وأهل بيتها فقالت أم سليم يا رسول الله إن لي خويصة فقال: "ما هي؟" قالت خادمك أنس قال: فما ترك آخرة ولا دنيا إلا دعا به: "اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه" فإني أكثر الأنصار مالا وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي إلى مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة وفي رواية لمسلم دعا لي بثلاث دعوات قد رأيت منها اثنتين وأنا أرجو الثالثة في الآخرة وفي الترمذي وحسنه عن أبي خلدة قال قلت لأبي العالية سمع أنس من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خدمه عشر سنين ودعا له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين وكانفيها ريحان يجيء منه ريح المسك
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أبكي فقلت:يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام وتأبى علي فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أهد أم أبي هريرة" فخرجت مستبشرا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمي خشف قدمي فقالت مكانك يا أبا هريرة وسمعت(6/483)
ص -444- خضخضة الماء فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب فقالت يا ابا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح فقلت يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وقال خيرا فقلت يا رسول الله أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب عبدك هذا يعني أبا هريرة وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهما المؤمنين" فما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال ما هذا قال يا رسول الله إني تزوجت امرأة قال: "كم سقت إليها؟" قال وزن نواة من ذهب قال: "فبارك الله لك أولم ولو بشاة"
وفي الصحيحين أنه لما قدم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه سعد أن يناصفه أهله وماله فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق فظهرت بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ من مال عبد الرحمن ما قاله الزهري أنه تصدق بأربعمائة ألف دينار وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة بعير في سبيل الله قال وكان عامة ماله من التجارة وقال محمد بن سيرين اقتسم نساء عبد الرحمن بن عوف ثمنهن(6/484)
ص -445- فكان ثلاثمائة وعشرين الفا وقال الزهري أوصى عبد الرحمن لمن شهد بدرا فوجدوا مائة لكل رجل منهم أربعمائة دينار وقال عبد الله بن جعفرحدثتني أم بكر بنت المسور ان عبد الرحمن باع أرضا بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة ان عبد الرحمن أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة فقومت مائة ألف وفي الترمذيوصححه ورواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام" فكان عمر بن الخطاب أحبهما إلى الله فأسلم عمر(6/485)
ص -446- وروى أن الدعوة كانت في يوم الأربعاء فأسلم يوم الخميس وأعز الله به الإسلام قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رواه البخاري وظهر من عز الإسلام في إمارته شرقا وغربا وفتح الشام والعراق ومصر وكسر عساكر كسرى وقيصر ما تحقق به إجابة الدعوة وفي الصحيحين ان ابن عباس وضع للنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الخلاء وضوءا فقال لما خرج من وضع هذا فقيل ابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وفي رواية قال ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية: "الحكمة" وظهرت إجابة دعوته حتى كان يسمى البحر وقال فيه ابن مسعود لو ادرك ابن عباس أسناننا لما عشره منا أحد وكان عمر يقدمه ويدخله مع كبراء الصحابة وعلم ابن عباس مشهور في الأمة
وفي الصحيحين عن جابر قال كنت أسير على جمل قدأعيا واردت أن أسيبه قال فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا له فسار سيرا لم يسر مثله وفي(6/486)
ص -447- رواية فقال لي: "ما لبعيرك؟" فقلت عليل. قال فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره فدعا له فما زال يسير بين يدي الإبل قدامها فقال: "كيف ترى بعيرك؟" قلت بخير قد اصابته بركتك قال فتبعنيه وذكر الحديث
وفي الترمذي وغيره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" وفي لفظ: "اللهم أجب دعوته وسدد رميته" فكان سعد لا يرمي إلا يصيب ولا يدعو إلا أجيب
وروى الحاكم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني وإن كان متأخرا فارفعني وإن كان بلاء فصبرني فقال: "اللهم اشفه اللهم عافه" ثم قال لي: "قم" فقمت فما عاد إلي ذلك الوجع بعد
وفي الصحيحين عن أم خالد قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقالمن ترون نكسوه هذه الخميصة فسكت القوم فقال: "ائتوني بأم(6/487)
ص -448- خالد" فأتي بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألبسنيها فقال: "أبلي وأخلقي" مرتين فجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إلي ويقول: "يا أم خالد هذا سنا" والسنا بلسان الحبشة الحسن فبقيت حتى دكن وعن أبي يزيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادن مني" فمسح بيده على رأسي ولحيتي ثم قال: "اللهم جمله وأدم جماله" قال الراوي عنه فبلغ بضعا وثمانين سنة وما في لحيته بياض إلا نزر يسير ولقد كان منبسط الوجه ولم يتقبض وجهه حتى مات رواه الإمام أحمد وقال البيهقي إسناده صحيح ورواه الترمذي وقال مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجهي فدعا لي قال عزرة إنه عاش مائة وعشرين سنة وليس في رأسه إلا شعرات بيض وقال حديث حسن وقال البخاري في تاريخه حدثنا(6/488)
ص -449- يعقوب بن إسحاق عن حنظلة بن حنيفة بن حذيم قال حذيم يا رسول الله إني رجل ذوسن وهذا أصغر بني فسمت عليه قال: "تعال يا غلام" فأخذ بيدي ومسح برأسي وقال: "بارك الله فيك أو بورك فيك" فرأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم فيمسح بيده ويقول: بسم الله فيذهب الورم وفي رواية والشاة والبعير ويذكر عن ابي سفيان واسمه مدلولك أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ومسح رأسه بيده ودعا له بالبركة فكان مقدم رأسه موضع يد النبي صلى الله عليه وسلم أسود وسائره أبيض ذكره أيضا البخاري في تاريخه
وروى أحمد في مسنده بإسناده عن أبي العلا قال كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه الذي مات فيه فمر رجل في مؤخر الدار فرأيته في وجه قتادة قال كان رسول(6/489)
ص -450- الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه قال وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيته كان على وجهه الدهان
وفي مسند الإمام أحمد عن عروة بن أبي الجعد قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا وقال: "أي عروة ائت الجلب فاشتر شاة "فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال: "وصنعت كيف؟" فحدثته الحديث فقال: "اللهم بارك له في صفقة يمينه" فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل ان أصل إلى أهلي ورواه الإمام أحمد وفي لفظ: فكان لو اشترى التراب لربح فيه رواه البخاري عن أهل داود عنه
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع ان رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له: "كل بيمينك" قال لا أستطيع قال: "لا استطعت" ما منعه إلا الكبر قال فما رفعها إلى فيه(6/490)
ص -451- وروى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله السلمي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار قال جابر فبينما أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت هلم يا رسول الله إلى الظل قال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر فقمت إلى غرارة لنا فالتمست فيها فوجدت فيها جرو قثا فكسرته ثم قربته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من اين لكم هذا؟" قلنا خرجنا به من المدينة قال وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا قال فجهزته ثم ادبر يذهب إلى الظهر وعليه ثوبان له قد خلقا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما له ثوبان غير هذين" فقلت بلى يا رسول الله ثوبان في العيبة كسوته إياهما قال ادعه فليلبسهما ثم ولى يذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماله ضرب الله عنقه أليس هذا خير له" فسمعه الرجل فقال يا رسول الله في سبيل الله فقال: "في سبيل الله" فقتل الرجل في سبيل الله ورواه أبو زرعة عن سعيد بن سليمان عن الليث عن هشام بن سعيدعن زيد بن اسلم عن عطاء عن جابر(6/491)
ص -452- فصل
في الطرق التي تبين بها أن هذه الأخبار تفيد العلم وهذه الأخبار منها ما هو في القرآن ومنها ما هو متواتر يعلمه العامة والخاصة كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وحنين الجذع ونحو ذلك فإن كلا من ذلك تواترت به الأخبار واستفاضت ونقلته الأمة جيلا بعد جيل وخلفا عن سلف فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه الآيات منقولة مشهورة مستفيضة فيها ينقلها أكثر ممن ينقل كثيرا من القرآن وقد نقلها وسمعها من الأمة أكثر ممن سمع ونقل كثيرا من آيات القرآن وأكثر ممن سمع ونقل أنه كان يسجد في الصلاة سجدتي السهو وممن سمع ونقل نصب الزكاة وفرائضها بل مواقيت الصلاة وأعدادها إنما شاع نقلها للعمل الدائم بها وأما هذه الآيات فنقلها أكثر ممن نقل مواقيت الصلاة من جهة الأخبار المعينة وذلك أن آيات الرسول كان كثيرا منها يكون بمشهد من الخلق العظيم فيشاهدون تلك الآيات كما شاهد أهل الحديبية وهم ألف وخمسمائة نبع الماء من بين أصابعه وظهور الماء الكثير من بئر الحديبية لما نزحوها ولم يتركوا فيها قطرة فكثر حتى روى العسكر وكما شاهد العسكر في غزوة ذات الرقاع الماء اليسير لما صبه جابر في الجفنة وامتلأت وملأ منها جميع العسكر وكما شاهد الجيش في رجوعهم من غزوة خيبر المزادتين مع المرأة وقد ملؤوا كل وعاء معهم وشربوا وهي ملأى كما هي وكما شاهد أهل خيبر وهم الف وخمسمائة الطعام الذي كان كربضة الشاة فأشبع الجيش كلهم وكما شاهد الجيش العظيم وهم نحو ثلاثين ألفا في تبوك العين لما كانت قليلة الماء فكثر ماؤها حتى كفاهم وشاهدوا الطعام الذي جمعوه على نطع فأخذوا منه حتى كفاهم
وكما شاهد أهل الخندق وهم أكثر من ألف كثرة الطعام في بيت جابر بعد أن كان صاعا من شعير وعناقا فأكلوا كلهم بعد الجوع حتى شبعوا وفضلت فضلة
وكما شاهد الثمانون نفسا كثرة الطعام لما أكلوا في بيت أبي طلحة وكما شاهد(6/492)
ص -453- الثلاثمائة كثرة الماء لما توضؤوا من قدح والماء ينبع من بين أصابعه حتى كفاهم للوضوء وكذلك وليمة زينب كانوا ثلاثمائة فأكلوا من طعام في تور من حجارة وهو باق فظن أنس أنه أزيد مما كان وكانوا يتداولون قصعة من غدوة إلى الليل يقوم عشرة ويقعد عشرة كما في حديث سمرة بن جندب وأهل الصفة لما شربوا كلهم من اللبن القليل وكفاهم وفضل وكانوا ينقلون ذلك بينهم وهو مشهور ينقله بعض من شاهده إلى من غاب عنه فكان استفاضة آياته وشهرتها وتواترها في الأمة أعظم من تواتر سجود السهو في الصلاة فإن هذا إنما كان مرات قليلة ولم يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة وكذلك نقلهم لنصب الزكاة وفرائضها فإن هذا إنما سمعه منه طائفة قليلة ونقلوه
وكذلك حكمه بالشفعة فيما لا يقسم وقضاؤه بأن دية الخطأ على العاقلة وقضاؤه بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر ونهيه عن نكاح الشغار وتحريمه لطلاق الحائض وطلاق الموطوءة قبل أن يتبين حملها وأن المعتقة تحت عبد يثبت لها الخيار وتوريث الجدة السدس ونهيه أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها وقوله: "فيما سقت السماء العشر وما سقى بالدوالي والنواضح نصف العشر" وأمثال ذلك
إنما سمعها طائفة من الأمة(6/493)
ص -454- هم أقل بكثير ممن شاهدوا آياته ثم إن الأمة متفقة على نقل ذلك وهذه الأحكام متواترة عنه معلومة بالاضطرار من دينه فإذا كان مثل هذه الأمور تواتر في الأمة واتفقت على نقله فكيف بما كان أشهر وأظهر عند من عاينه وكان علم الذين رأوه به أظهر من علمهم بهذه الأحكام وقد نقلوا ذلك إلى من غاب عنهم فإنه قطعا يجب أن يكون تواتر هذه الآيات في الأمة أعظم وأظهر ولهذا لا يكاد يوجد مسلم إلا وقد عرف كثيرا من هذه الآيات وسمعها ونقلها إلى غيره بخلاف كثير من الأحكام المتواترة عنه المتفق على نقلها عند العلماء فإن كثيرا من الناس لا يعرفها ولا سمعها وإذا قال القائل هذه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فلو كانت موجودة لتوفرت الهمم والدواعي على نقلها ولو كان كذلك لتواترت قلنا وكذلك هو ولله الحمد توفرت الهمم و الدواعي على نقلها أكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل أكثر آيات الأنبياء قبله وأكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل الأخبار العجيبة من سير الملوك والخلفاء فإن من تدبر نقل هذه الآيات وجد شهرتها في كل زمان وظهور الأخبار بها أعظم من شهرة ما نقل من أخبار الأنبياء وسير الملوك والدول التي جرت العادة بتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإن مثل هذا لا يجب في كونه متواترا أن يتواتر عند كل أحد من الناس
فإن أكثر ما تواتر عند كل أمة من أحوال متقدميها قد لا يسمعه كثير من الأمم من غيرهم فضلا عن تواتره عندهم حتى أن كثيرا من الأمم الذين لا يعرفون الأنبياء قد لا يكونوا قد سمعوا بأسماء الأنبياء ولا بأخبارهم فضلا عن تواترها عندهم وأكثر أتباع الأنبياء لم يتواتر عندهم من أخبار الملوك وسيرهم ما تواتر عند غيرهم حتى أن أكثر المسلمين لم يسمعوا بأسماء خلفاء بني أمية(6/494)
ص -455- وبني العباس وأسماء وزرائهم ونوابهم وقوادهموبالحروب التي جرت بينهم ولا يعرفون الوقائع العظيمة من الحروب التي كانت بين المسلمين وأعدائهم مثل يوم أجنادين ويوم مرج الصفر ويوم فحل ومثل يوم الحرة ويوم مرج راهط وفتنة ابن المهلب وفتنة ابن الأشعث(6/495)
ص -456- والقراء مع الحجاج وحرب مصعب بن الزبير مع المختار بن أبي عبيد وفتنة المنصور مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بالمدينة ومع أخيه إبراهيم بالبصرة ومثل جسر أبي عبيد ويوم اليرموك ويوم القادسية ولا يعرفون أن(6/496)
ص -457- المسلمين فتحوا قبرص ولا غزوا القسطنطينية مرتين مرة في زمن معاوية ومرة في زمن بني مروان وكذلك الفتن التي كانت بين المسلمين لا بل اكثر العامة لم يسمعوا بأبي مسلم صاحب الدعوة وبعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس وما جرى لهما من الحروب مع عساكر مروان آخر خلفاء بني أمية ولم يسمعوا أيضا بدخول عبد الرحمن بن هشام إلى الأندلس وما جرى له فيها ولا بالفتنة التي بين ابني الرشيد الأمين(6/497)
ص -458- في قلوب الخلق وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب لكن يعتقد اعتقادات باطلة كاذبة في الله أو في رسله أو في دينه أو عباده الصالحين وتكون له زهادة وعبادة واجتهاد في ذلك فيؤثر ذلك الكذب الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه ويظهر ذلك على وجهه فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله كما قال بعض السلف لو أدهن صاحب البدعة كل يوم بدهان إن سواد البدعة لفي وجهه وهذه الأمور تظهر يوم القيامة ظهورا تاما قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فأما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وأما الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة والمقصود أن ما في القلوب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية وكذلك ما فيها من قصد(6/498)
ص -459- يعرفون أيها كان قبل الآخر ولا يعرفون بأي بقعة كانت تلك الغزاة بل ولا يعرفون من كان العدو فيها ولا كيف كانت بل أكثر العامة لا يميزون بين بدر وحنين بل يقول قائلهم يوم بدر وحنين ويظنون أن ذلك يوم واحد وانها غزاة واحدة ولا يعرفون أنهما غزاتان بينهما نحن ست سنين كانت بدر في السنة الثانية منالهجرة وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة وأن بدرا مكان بين مكة والمدينة شامي مكة ويماني المدينة وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة وإنما قرن بينهما في الإسم لأن الله أنزل فيهما الملائكة وأيد بها نبيه والمؤمنين حتى غلبوا عدوهم مع قوة العدو في بدر ومع هزيمة أكثر المسلمين أولا بحنين وأمتن الله بذلك في كتابه في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وفي قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} حتى بعض أكابر أئمة الفتيا المشهورين قال له صاحبه لما انكر عليه طلب السير تسكت وإلا سألتك قدام الناس أيهما كانت قبل بدر أو أحد فإني أعلم أنك لا تعلمه مع أنه من المتواتر الذي لا يستريب فيه من له أدنى معرفة بالأخبار أن أحدا كانت بعد بدر وفي بدر انتصر المسلمون على الكفار ويوم أحد استظهر الكفار بل وكثير من علماء المسلمين الأكابر لا يعلمون ما هو متواتر عند أهل الكتاب بل وعند غيرهم من علماء المسلمين مثل خراب بيت المقدس مرتين ومجيء بخت نصر إلى بيت المقدس والله سبحانه قد ذكر في القرآن المرتين فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ(6/499)
عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ(6/500)
ص -460- الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}وكانت الأولى بعد سليمان وكانت الثانية بعد زكريا ويحيى والمسيح لما قتلوا يحيى بن زكريا الذي يسميه أهل الكتاب يوحنا المعمداني وكثير من المذكورين بالعلم يظن أن بخت نصر هو الذي قدم الشام لما قتل يحيى بن زكريا وهذا عند أهل العلم من أهل الكتاب وعند من له خبرة من علماء المسلمين باطل والمتواتر أن بخت نصر هو الذي قدم في المرة الأولى وكذلك كون شعيب النبي كان حمو موسى عليه السلام كما تقوله طائفة من الجهال والمتواتر عند أهل الكتاب وعند المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم خلاف ذلك وعند النصارى من أخبارهم وأخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه المسلمون واليهود وعند المسلمين من أخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه أكثر الأمم
بل عند كل طائفة من المسلمين من أخبار شيوخهم وأمرائهم وبلادهم المتواترة ما لم تسمع من غيرهم وليس هذا بمنزلة من ادعى خبرا لم يكن يعرف في الذين شاهدوا تلك(7/1)
ص -461- القضية كما لو ادعى مدع أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بعد الهجرة أكثر من حجة وأنه كان يصوم شهر رمضان بمكة وانه كان بمكة أذان أو أنه كان في عساكره وعساكر خلفائه دبادب وبوقات او أنه كان يؤذن للعيدين او كان يخطب للعيدين قبل الصلاة او أنه كان يصلي بالمدينة أكثر من عيد أو أنه كان يصلي في السفر أربعا أو أنه صلى بمنى صلاة عيد النحر أو أنه نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو غيره بالخلافة نصا ظاهرا مشهورا أو أنه عزل أبا بكر عن الإمارة في الحجة وولى عليا أو أنه صلى في مرض موته غير أبي بكر ونحو ذلك من الأخبار التي يعرف أنها كذب باطل لتواتر نقيضها ولأنها لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره ومع أنه لم يكن له ذكر في الزمن المتقدم
وكذلك ما ينقله كثير من أهل الجهل مثل ما يجعلونه من معجزات الرسول أو غيره ولا يوجد منقولا عند أهل العلم بأحواله بل يكذبون ناقله مثل قول كثير من العامة أن الغمام كان يظله دائما فهذا لا يوجد في شيء من كتب المسلمين المعروفة عند علمائهم ولا نقله عالم من علمائهم بل هو كذب عندهم وغإ كان كثير من الناس ينقله وإنما نقل أن الغمامة أظلته لما كان صغيرا فقدم مع عمه إلى الشام تاجرا ورآه بحيرا الراهب ومع هذا فهذا لا يجزم بصحته وكذلك ما ينقله بعضهم من أنه كان إذا وطئ أثر قدمه في الحجر وفي الرمل لم يكن يؤثر فهذا لم ينقله أهل العلم بأحواله ولا واحد منهم بل هو كذب عليه وكذلك ما ينقله طائفة من الناس من كثرة القتل بحروبه أو المغازي الكثيرة الذي يذكر مثلها صاحب الكتاب الذي سماه بنقلات الأنوار ويقال له(7/2)
ص -462- البكري فهذه لما كان أكثرها لا يوجد في كتب المسلمين المعروفة ولا نقلها علماؤهم بل قد تواتر ما يخالفها كانت كذبا ظاهرا عند أهل العلم بأحواله وإن كان كثير من الناس الجهال بأحواله قد يصدق بها ومثل ما ينقله طائفة أنه كان في غزوة خيبر نصب علي بن أبي طالب يده ليمر الجيش عليها وأن البغلة مرت عليها فقال قطع الله نسلك فانقطع نسلها فهذا ليس في شيء من كتب أهل العلم بأحواله ولا نقل ذلك واحد منهم وإنما ينقل ذلك من هو معروف بالكذب او جاهل ولهذا كان هذا من الكذب الذي يقطع بكذبه علماء المسلمين ويعلمون أنه تواتر نقيضه وأنه لم يكن في غزوة خيبر بغلة واحدة ولم يكن بالمدينة ولا بمكة بغلة إلا بغلته التي أهداها له المقوقس النصراني ملك مصر والإسكندرية وإنما أهداها له بعد فتح خيبر لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام وهو إنما أرسل إلى ملوك الطوائف بعد الحديبية وخيبر لما رجع من خيبر ويعلمون أن البغلة لم تزل مقطوعة النسل لم يكن لها نسل قط وكذلك ما ينقله بعض الكذابين من أن طائفة من أهل البيت سبوا فأركبوا جمالا فنبت لها سنامان وأنها البخاتي فهذا مما اتفق أهل المعرفة بالأخبار على أنه كذب لم يسب المسلمون قط في وقت من الأوقات أحدا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا في خلافة بني أمية ولا في خلافة بني العباس والجمال البخاتي مازالت هكذا لم يتجدد لها السنام في الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما يحدث النساء بعده قال: "على رؤوسهن كأسنمة البخت"(7/3)
ص -463- وكذلك ما نقله طائفة من أهل العلم من أن الشمس ردت لما فاتت عليا صلاة العصر لكون النبي صلى الله عليه وسلم نام في حجره وجعل بعضهم هذا من المعجزات وليس هذا الحديث في شيء من كتب المسلمين التي يعتمدون على ما فيها من المنقولات لا الصحاح ولا المساند ولا المغازي والسير ولا غير ذلك بل بين أهل العلم بالحديث أن هذا كذب وليس له إسناد واحد صحيح متصل بل غايته أن يروى عمن لا يعرف صدقه ولم يروه إلا هو مع توفر الهمم والدواعي على نقله فعلموا أنه كذب وهذا باب واسع يبين أن علماء المسلمين يميزون المنقولات بين الصدق والكذب فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلامه وفضائل أصحابه وأمته ما هو عظيم ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة أشكال وقد يحتج به المنازعون لهم وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ومن ذلك مغازي حمزة الشائعة بين كثير من جهال الترك وغيرهم لا يوجد في شيء من كتب العلم بل قد تواتر عند أهل العلم أن حمزة لم يشهد غزوة إلا غزوة بدر ثم غزوة أحد وقتل يوم أحد شهيدا قتله وحشي بن حرب وهذا متواتر عند أهل العلم وما كان من هذه الآيات في الصحاح بل وكثير مما لم يخرجه البخاري ومسلم فهذه عامتها مما يقطع أهل العلم بالحديث بصحتها ويتيقنون ذلك وهذا عندهم مستفيض متواتر وإن كان بعض ذلك قد لا يتواتر(7/4)
ص -464- ويستفيض عند غيرهم فإن الأخبار قد تتواتر وتستفيض عند قوم دون قوم بحسب عنايتهم وبها وطلبهم لها وعلمهم بمن أخبر بها وصفاتهم ومقاديرهم وما دل من الدلائل على صدقهم وأهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته وأسباب نزول القرآن ومعانيه وغير ذلك لهم بهذا من العلم وعندهم به من اليقين ما لا يوجد مثله لغيرهم كما أن أصحاب مالك والشافعي واحمد بن حنبل وأبي حنيفة وداود وغيرهم عند كل طائفة من أقوال متبوعهم ونصوصه وأخباره ما يقطعون به وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك والأطباء عندهم من كلام أبقراط وجالينوس ومحمد بنزكريا وأمثالهم ما يقطعون به وغيرهم لا يعلم ذلك وأهل الهيئة عندهم من كلام بطليموس والرصد الممتحن المأموني وثابت بن قرة وأبي الحسين الصوفي ما يعلمونه هم وغيرهم لا يعلم ذلك بحيث يجزم هؤلاء وهؤلاء بكثير من مذاهب أهل الطب والحساب وتجارب الأطباء وأرصاد أهل الحساب وغيرهم لا يعلم ذلك
وعند أهل الكتاب كاليهود من أخبار هلال وسمابي وغيرهما من شيوخهم ما لا يعلمه غيرهم وعند النصارى من أخبار الحواريين ومن أخبار قسطنطين والمجمع الأول(7/5)
ص -465- بنيقية والمجمع الثاني والثالث والرابع والخامس وغير ذلك من مجامعهم وأخبارهم ما يقطع به علماؤهم وإن كان غيرهم لا يعلمون ذلك وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان ومغازيهم كوقعة أجنادين ومرج الصفر وغيرهما في خلافة أبي بكر وكوقعة اليرموك وخبر أبي عبيدة وهزيمة الفرس وفتح مصر وغير ذلك مما كان في زمن عمر بن الخطاب ما يقطعون به وإن كان غيرهم لا يعرفون ذلك
وكذلك ما كان بعد هؤلاء من سير الملوك وحوادث الوجود بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلقمة والأسود وغير هؤلاء ما لا يعلمه غيرهم وأهل العلم بالنحو يعلمون من حال سيبويه والأخفش والمبرد والزجاج(7/6)
ص -466- والفراء والكسائي ما لا يعلمه غيرهم والقراء يعلمون من قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وابن عامر ويعقوب بن إسحاق والأعمش وخلف بن هشام وأبي جعفر ما لايعلمه غيرهم
فإذا كان آحاد أهل العلم من أهل الفقه أو الطب أو الحساب أو النحو أو القراءات(7/7)
ص -467- بل وآحاد الملوك يعلم الخاصة من أمورهم ما لا يعلمه غيرهم ويقطعون بذلك فكيف بمن هو عند أتباعه أعلا قدرا من كل عالم وأرفع منزلة من كل ملك وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله واعظم تحريا للصدق فيها ولرد الكذب منها حتى قد صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره وذكروا فيها أحوال نقلة حديثه وما يتصل بذلك من جرح وتعديل ودققوا في ذلك وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث فهذا يعطي أنهم أعلم بحال نبيهم من كل أحد بحال متبوعهم وأنهم أعلم بصدق الناقل وكذبه من كل أحد بصدق من نقل عن متبوعهم وكذبه فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم متفقين عليه جازمين بتصديقه لا يكون إلا صدقا فهؤلاء مع جزمهم بالصدق واتفاقهم على التصديق اولى أن لا يكون ما جزموا بصدقه إلا صدقا وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق علماء الحديث على التصديق بها وجزموا بذلك وإنما تنازعوا في أحاديث قليلة منها وعامة ما ذكرناه من آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي في الصحاح هي من موارد إجماعهم المستفيضة عندهم التي يجزمون بصدقها ليست من موارد نزاعهم فهذا طريق يسلكه من عرفه من العلماء ويعلم خيرة أهله من كان خبيرا بهم فهذه طريقان في تصديق هذه الآيات التواتر العام والتواتر الخاص الطريق الثالث: التواتر المعنوي وهذا مما اتفق على معرفته عامة الطوائف فإن الناس قد يسمعون أخبار متفرقة بحكايات يشترك مجموعها في أمر واحد كما سمعوا أخبارا متفرقة تتضمن شجاعة عنترة وخالد بن الوليد وأمثالهما وتتضمن(7/8)
ص -468- سخاء حاتم ومعن بن زائدة وأمثالهما وتتضمن حلم الأحنف بن قيس ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما وتتضمن شعر امرىء القيس والنابغة ولبيد وأمثالهم من المتقدمين وشعر الفرزدق وجرير وعمر بن أبي ربيعة وأمثالهم من المولدين وشعر أبي نواس والمتنبي(7/9)
ص -469- وأبي تمام وأمثالهم من المحدثين بل وسمعوا أقوالا وفتاوي متفرقة تتضمن فقه مالك والثوري والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من العلماء وأخبارا متفرقة تتضمن العدل وحسن السيرة من عمر بنالخطاب وعمر بن عبد العزيز وغيرهما من ولاة الأمور وسمعوا أخبارا متفرقة تتضمن الزهد عن مثل الحسن البصري والفضيل بن عياض ومالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم وغيرهم من الزهاد وسمعوا أخبارا متفرقة تتضمن معرفة أبقراط وجالينوس ونحوهما بالطب فيحصل بمجموع الأخبار علم ضروري بأن الشخص موصوف بذلك النعت وإن كان كل من الأخبار لو تجرد وحده لم يفد العلم وإن كان كل من الحكايات ليست وحدها منقولة بالتواتر
ومن هذا الباب العلم القطعي بالإيمان والموت ونحو ذلك مما يحصل به استقامة موجب العلم القطعي كعلم الناس بأن خديجة وعائشة ونحوهما من أمهات المؤمنين وأن فاطمة وزينب منبنات النبي صلى الله عليه وسلم وأن عائشة بنت أبي بكر وأن أبا بكر وعمر(7/10)
ص -470- وعثمان تولوا الخلافة بعده وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرته وإذا عرف هذا فهذه الأحاديث وأضعاف وأضعاف هي أضعاف أضعاف ما ينقل عن الواحد من هؤلاء ونقلتها أجل وأكثر وأفضل من نقلة أخبار هؤلاء وهي كاملة تتضمن أن محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يجري على يديه من الآيات الخارقة للعادة والعجائب العظيمة ما لا يعرف نظيره عن أحد من الناس وعلم المسلمين بهذا اعظم من علم أهل الكتاب بما ينقلونه من آيات موسى وعيسى وغيرهما فإن نقلة آيات محمد صلى الله عليه وسلم غير القرآن أضعاف أضعاف نقلة التوراة والإنجيل فضلا عن غيرهما من أخبار الأنبياء فإن التوراة لم تكن جميعها محفوظة لعموم بني إسرائيل كما يحفظ القرآن عامة المسلمين وعند خراب بيت المقدس قل من يحفظها جدا حتى تنازع الناس في تواتر نقلها وكذلك الإنجيل نقلته أقل بكثير من نقلة آيات محمدصلى الله عليه وسلم وإذا قال النصارى هؤلاء كانوا صالحين وكان لهم آيات كما يذكرونه من آيات الحواريين فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوهم صالحون ولهم من الآيات أعظم مما للحواريين وغيرهم من الأمم وفيهم من كان يحمل العسكر على الماء ومن كان يشرب السموم القاتلة ومن يحيي الله الموتى بدعوته ومن يكثر الطعام والشراب وكتب كرامات الأولياء فيها من ذلك اعظم مما عند أهل الكتاب وهم ينقلون أخبار الأنبياء والصالحين من كتب عندهم مثل كتاب أخبار الحواريين وكتاب سفر الملوك ونحو ذلك وما يذكرون من حجة في صحة نقلها إلا وحجة المسلمين فيما ينقلونه عن نبيهم وأصحابه والتابعين أظهر وأقوى
الطريق الرابع: أن يقال هذه الآيات التي ذكرنا بعضها كانت تكون بمحضر من الخلق الكثير كتكثير الطعام يوم الخندق فإنه كان أهل الخندق رجالهم ونساؤهم ألوفا وكذلك نبع الماء من بين أصابعه وفيضان البئر بالماء يوم الحديبية وكانوا يومئذ ألفا(7/11)
ص -471- وخمسمائة وكلهم صالحون من أهل الجنة لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك تكثير الماء والطعام في غزوة خيبر كانوا ألفا وخمسمائة وفي تبوك كانوا ألوفا مؤلفة وكان بعض من حضر هذه المشاهد نقل هذه الآيات قدام آخرين ممن حضرها وينقلها لأقوام فيذهب أولئك فيخبرون بها أولئك ويصدق بعضهم بعضا ويحكي هذا مثل ما حكى هذا من غير تواطئ وتشاعر وأدنى أحواله أن يقره ولا ينكر عليه روايتها ونحن نعلم بموجب العادة الفطرية التي جبل الله عليها عباده وبموجب ما كان عليه سلف الأمة من اعتقاد الصدق وتحريه واعتقادهم أن ذلك واجب ومن شدة توقيهم الكذب على نبيهم وتعظيمهم ذلك إذ قد تواتر عندهم عنه أنه قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار" فنحن نعلم أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له وكذب عليه فقد علموا انه كذبعليه فلما اتفقوا على الإقرار على ذلك وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك علم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة وإن كان جمهورهم ليس منتصبا لتلقين القرآن بل هذا يلقنه وهذا يسمعه من هذا المتلقن لا ينكر بعضهم على بعض القراءة وهذا يعلم هذا الصلاة أن الظهر في الحضر أربع ركعات والمغرب ثلاثا والفجر ركعتان وهذا يقر هذا فلما كان بعضهم يقر بعضا على نقل ذلك علم اتفاقهم على نقل ذلك وهذا غاية التواتر
وكذلك ما نقلوه من شرائعه ومن آياته وبراهينه يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم رده على الآخر ولم يوافقه وإن كانوا متأخرين عن زمن الصحابة فكيف بالمتقدمين كتنازعهم هل كان يجهر بالبسملة ام لا يجهر بها وهل كان يداوم على القنوت(7/12)
ص -472- في الفجر أم كان يقنت أحيانا للنوازل أم قنت مرة ثم تركه فهذا من أهون الأمور وأيسرها إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من قنت وعلى صحة صلاة من لم يقنت ومن جهر ومن خافت ولكن لما تنازعوا فيما فعله الرسول تنازعوا في الحكم فعلم بذلك ان ما كان مشهورا في الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله كنقلهم للقرآن وللشرائع الظاهرة المشهورة وإن نقل ذلك أعظم من نقل سائر أخبار الأنبياء والعلماء والملوك والزهاد
وكذلك حجة فإنهم كلهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وهي التي تسمى حجة الوداع وإنما عاش بعدها نحوا من ثلاثة أشهر وأنه لما حج أمر أصحابه كلهم إلا من ساق الهدى منهم إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل من عمرته وأنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة وحدها وأنه هو نفسه لم يحل من حجته ولا أحد ممن ساق الهدي معه وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه او بعض الأمور التي تخفى على أكثر الناس وكان الصحابة ينقلون تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرادهم بالتمتع أنه قرن بين العمرة والحج فظن بعض الناس أنهم أرادوا أنه أخر الإحرام بالحج إلى ان قضى العمرة وقال بعض الصحابة إنه أفرد بالحج فظن بعض الناس انه حج واعتمر بعد الحج وهذا لم ينقله أحد من العلماء بل اتفقوا على أنه لم يعتمر بعد الحج وروى بعض الصحابة أنه قرن فظن بعض الناس أنه طاف طوافين وسعى سعيين وهذا لم ينقله أحد عنه وكان من أسباب غلط كثير من الناس أنهم كانوا يستعملون تلك الألفاظ في معان غير ما استعملته فيها الصحابة فغلط بعض الناس على بعض الصحابة وأما ما فعله في الحج مشهورا فهومتواتر لم يختلف فيه النقل ولا علماء النقل ومن تدبر هذه الطريق أفادته علما يقينيا قطعيا بصحة هذه الآيات عن محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك الطرق المتقدمة فإنا قد(7/13)
ذكرنا أن ما كان الناس أحوج إلى معرفته يسر الله دلائله للناس اعظم من تيسير غيره وحاجة الخلق إلى تصديق الرسول أشد من حاجتهم إلى جميع الأشياء إذ بذلك تحصل سعادتهم في الآخرة ونجاتهم من العذاب وبه يحصل صلاح العباد في المعاد والمعاش
الطريق الخامس: أن ما من صنف من أصناف العلماء إلا وقد تواتر عندهم من الآيات ما(7/14)
ص -473- فيه كفاية فكتب التفسير مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب الحديث مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب السير والمغازي والتواريخ مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب الفقه مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وإن لم يكن هذا مقصودا منها وإنما المقصود الأحكام لكنهم في ضمن ما يروونه من الأحكام يروون فيها من الآيات ما هو متواتر عندهم وكتب الأصول والكلام مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ونقل كل طائفة من هذه الطوائف يفيد العلم اليقيني فكيف بما ينقله كل طائفة من هذه الطوائف وهذه الطريق وغيرها مثل طريق الإقرار والتصديق وطريق التواتر المعنوي وطريق تصديق أهل العلم بالحديث بها وغير ذلك يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام للآيات الخارقة للعادة وهذا أقل ما يكون ويستدل بها على تواتر جنس جنس منها كتواتر تكثير الطعام وتواتر تكثير الطهور والشراب وعلى تواتر نوع نوع منها كتواتر نبع الماء من بين أصابعه وتواتر إشباع الخلق العظيم من الطعام القليل وتواتر شخص شخص منها كتواتر حنين الجذع إليه وأمثال ذلك وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبر ذلك وبأمثاله واعتبر وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد بذلك علما ويقينا وتبين له أن العلم بذلك اظهر من جميع ما يطلب من العلم بالأخبار المتواترة فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك وما من حال احد من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم أظهر من العلم به وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن كالعلم بالبلاد البعيدة كعلم أهل الشام بالعراق وخراسان والهند والصين والأندلس وعلم أهل المغرب بالشام والعراق وخراسان والهند وعلم أهل خراسان بالشام والعراق ومصر وعلم أهل الهند بالعراق والشام وأمثال ذلك من علم أهل البلاد(7/15)
بعضهم بحال بعض إلا وعلم الإنسان بحال المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائعه أظهر من علمه بهذا كله وهذا مما يبين أنه ليس في الوجود أمر يعلم بالنقول المتواترة إلا وآيات الرسول وشرائعه تعلم بالنقول المتواترة أعظم مما يعلم ذلك الأمر تحقيقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ(7/16)
ص -474- رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان إنما هو بما يظهره من آياته وبراهينه وذلك إنما يتم بالعلم بما ينقل عن محمد من آياته التي هي الأدلة وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين والحمد لله رب العالمين كما أنه ما من دليل يستدل به على مدلول إلا والأدلة على آيات الرب أكبر وأكثر
الطريق السادس: ان العلماء قد صنفوا مصنفات كثيرة في ذكر آياته وبراهينه المنقولة في الأخبار وجردوا لذلك كتبا مثل كتاب دلائل النبوة للفقيه الحافظ أبي بكر البيهقي وقبله دلائل النبوةللشيخ أبي نعيم الأصبهاني وقبله دلائل النبوة لأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي القاسم الطبراني وقبلهما دلائل النبوة للإمام الحافظ أبي زرعة الرازي(7/17)
ص -475- والشيخ المصنف أبي بكر عبد الله بن أبي الدينا وللمصنف الحافظ الإمام أبي إسحاق إبراهيمالحربي وأبي بكر جعفر الفريابي وما صنفه الشيخ العالم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المسمى بالوفا في فضائل المصطفى وما صنفه الحافظ أبو عبد الله المقدسي من دلائل النبوة وهؤلاء وغيرهم يذكرون ما يذكرون من الأسانيد المعروفة والطرق المتعددة الكثيرة المتواترة وهؤلاء منهم من يميز ما يذكره من الأحاديث بين ما في صحيحي البخاري ومسلم وما في غيرهما وإن كان صحيحا أيضا كالبيهقي وابن الجوزي والمقدسي ومنهم من يذكر ذلك جميعه بأسانيده وقد يتكلم على الأسانيد والطرق ويذكر تعددها من غير احتياج منه أن يذكر ما رواه البخاري ومسلم كأبي زرعة شيخ مسلم وأبي الشيخ وأبي نعيم وغيرهم وآخرون يذكرونه معزوا مسندا إلى من رواه وإن لم يذكروا إسناده كما يفعله(7/18)
ص -476- القاضي عياض السبتي في كتابه المسمى بالشفا بتعريف حقوق المصطفى ومنهم من يقرر ذلك بشهرة ذلك وطرق أخرى من صحته كما يفعله كثير من النظار كالقاضي عبد الجبار والجاحظ والماوردي القاضي وسليم الرازي الفقيه وغيرهم وهذه الكتب فيها من الأحاديث المتضمنة لآيات نبوته وبراهين رسالته أضعاف اضعاف الأحاديث المأثورة فيما هو متواتر عنه مثل حجة الوداع وعمرة الحديبية وصد المشركين(7/19)
ص -477- له ومصالحته إياهم وحله هو وأصحابه بالحديبية ورجوعهم ذلك العام وفتح خيبر وعمرة القضية وعمرة الجعرانة ومثل حصاره لأهل الطائف وفتح مكة قبل ذلك ومثل غزوة النصارى عام تبوك وإرساله جيشا لغزوهم بمؤتة من مشارف الشام قريبا من الحصن المسمى بالكرك ومثل غزوة لليهود بخيبر وغزوة لليهود قبل ذلك لمن كان عند المدينة مثل بني قينقاع والنضير وقريظة ومثل إرساله أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ونبذه العهود ومناداته أن لا يحج بعد العام مشرك ولايطوف بالبيت عريان ومثل هجرته مع أبي بكر وعامر بن فهيرة ورجل ثالث كان دليلا لهم
ومثل ما تواتر عنه أنه كان يصلي بالمسلمين في العيدين بالمصلى خارج المدينة لم(7/20)
ص -478- يكن يصلي العيد في مسجده إلا مرة نقل أنه صلى في المسجد لأجل المطر ولم يكن على عهده يصلي أحد بالمدينة صلاة العيد إلا خلفه لم يكن يصلي صلاتي عيد على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وأول من فعل ذلك علي بن أبي طالب لما كثر الناس وضعف أقوام عن الخروج إلى الصحراء استخلف من يصلي بهم في المسجد وكما تواتر عنه أنه كان يصلي الجمعة بأذان وإقامة لا يؤذن لها إلا إذا قعد على المنبر وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر فلما كان في أثناء خلافة عثمان كثر الناس فأمر بالنداء الثالث على دار قريبة من المسجد من جهة المشرق يقال لها الزوراء وكما تواتر أن مسجده كان باللبن وسقفه كان من جذوع النخل وكانت حجر أزواجه قبلي المسجد وشرقيه فلما كثر الناس زاد فيه عمر ثم زاد فيه عثمان وبناه بالقصة والحجارة ثم في إمارة الوليد أمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد فدخلت حجرة عائشة التي دفن فيها هو وأبو بكر وعمر في المسجد من حينئذ وإنما كانت في حياته خارجة عن المسجد إلى سنة إحدى وتسعين وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وكما تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها(7/21)
ص -479- وتواتر عنه أنه كان يضحي في عيد الأضحى بل تواتر عند أهل العلم بأحواله تروكه المشهورة كما تواترت أفعاله المشهورة فتواتر عنه أنه لم يكن يؤذن للعيدين ولا الكسوف ولا الاستسقاء وأنه صلى الكسوف بركوعين في كل ركعة صلاة طويلة وتواتر عنه كان يطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين بعد الطواف ولم يكن يصلي بعد السعي بالصفا والمروة ركعتين وتواتر أنه كان يواصل ونهى أصحابه عن الوصال ويقول: "إني لست كهيأتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وأنه لم يفرض صوما إلا صوم شهر رمضان ولم يفرض الحج على المستطيع إلا مرة وأنه فرض الصلوات الخمس على كل بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء وأنه منع الحائض والنفساء من الصوم والصلاة وكان الحيض يؤمرن بقضاء الصوم ولا يؤمرن بقضاء الصلاة وأنه أمر بالاغتسال من الجنابة للصلاة وأمر بالوضوء عند الصلاة لمن بال أو تغوط أو خرج منه ريح أو مذي وأنه رخص في الاستجمار بثلاثة أحجار ونهى عن الاستنجاء باليمين ونهى عن الاستجمار بالعظم والبعر وقال: "إنها زاد إخوانكم من الجن" وأنه لم يكن يجمع المسلمين على سماع كف ولا دف ولا رقص ولا صعق لا(7/22)
ص -480- هو ولا أصحابه عند سماع القرآن بل كانوا توجل قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم وأنه لم يكن على عهده وعهد خلفائه تعاد امرأة مطلقة إلى زوجها بنكاح يقصد به التحليل بل لعن المحلل والمحلل له لأن ذلك ربما فعل سرا وأنه أمر بعيادة المريض وتشييع الجنازة وإفشاء السلام وإجابة الدعوة وأنه كان يصلي على الميت ويكبر أربع تكبيرات وقد كان أحيانا يكبر خمسا وسبعا وأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وأنه حرم كل مسكر وحرم بيع الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين والصاع بالصاعين من الحنطة والشعير والتمر والزبيب وأنه أمر بصدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير لما كان أهل المدينة يقتاتون التمر والشعير وأنه أباح الدواء وقال: "تداووا عباد الله فإنه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء إلا السام" والسام الموت وأنه كان يتداوى بالحجامة وغيرها وكذلك ما تواتر عنه من أحاديث سوى ما في القرآن من صفة الجنة والنار وذكر العرش والملائكة والجن وإرساله إلى الثقلين وما ذكره من أسماء الله وصفاته وما أخبر به من فتنة الإنسان في قبره ومن عذاب القبر ونعيمه ومن دخول من يدخل النار من أهل الكبائر من أمته وخروجهم من النار بشفاعته وشفاعة غيره ومن ذكر حوضه وما أخبر به من رؤية الله يوم القيامة ومحاسبة الله للعباد وغير ذلك وما تواتر عنه من أنه كان يرسل رسلا إلى الملوك يدعوهم إلى الإيمان بالله وبما جاء به كما أرسل إلى ملوك اليمن وإلى ملوك الشام ومصر والعراق وإلى ملوك المشركين واليهود والنصارى والمجوس بعد ما حارب اليهود مرة بعد مرة
وما تواتر عنه أنه كان يركب الخيل والإبل والبغال والحمير وأنه رجم الزاني(7/23)
ص -481- المحصن مرة بعد مرة وقطع يد السارق وجلد شارب الخمر وأنه كان يصلي في السفر الرباعية ركعتين ركعتين وأنه جمع بين الصلاتين الظهر والعصر بعرفة وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء وأنه كان يصلي بمنى ركعتين ركعتين وأمرالمسلمين في حجة الوداع أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه وانه هو لم يحل من إحرامه ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لكونها كانت حائضا وأن شهجر رمضان فرض في السنة الثانية من الهجرة فصام تسع رمضانات وأنه كان له أربع بنات وثلاثة بنين وكان يكنى بأكبر أولاده القاسم فيدعى أبا القاسم وأنه تزوج بنتي أبي بكر وعمر وزوج عثمان ابنتيه وزوج عليا بنتا وأنه آمن به من أعمامه حمزة والعباس ولم يؤمن أبو لهب ولا أبو طالب مع أن أبا طالب كان يحوطه ويذب عنه
وأنه استخلف أبا بكر ليصلي بالناس لما مرض وثقل عن الصلاة لم يصل أحد بإذنه مع حضوره غير أبي بكر في مرضه ولما ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وأنه كان من خواص أصحابه العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وغير هؤلاء كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسعد بن معاذ وسعد ابن(7/24)
ص -482- عبادة وأبي طلحة وأبي أيوب وأسيد بن حضير وأضعاف هؤلاء وأنه بايعه تحت الشجرة ألف وأربعمائة وهم الذين أنزل الله فيهم {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وأنه لما قدم المدينة بنى مسجده وكان في شماليه صفة ينزلها العزباء وأن المهاجرين والأنصار كلهم أسلموا طوعا بلا رغبة ولارهبة وأن المهاجرين آذاهم الكفار إيذاء عظيما حتى هاجر منهم طائفة إلى الحبشة عند النجاشي وأن النجاشي آمن به وأنه لما مات أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بموته يوم مات وأنه صلى عليه بأصحابه في المصلى كما يصلي على الميت الحاضر
وأنه كان يخطب يوم الجمعة قبل الصلاة ويخطب في العيد بعد الصلاة وكان يؤذن للجمعة وللصلوات الخمس ولا يؤذن للعيدين ولا غير الصلوات الخمس وأن بلالا كان يؤذن له بالمدينة هو وابن أم مكتوم الأعمى وكان سعد القرظ يؤذن لأهل قباء وأبو محذورة يؤذن لأهل مكة(7/25)
ص -483- وكما تواتر عنه وعن خلفائه أنهملم يكونوا بمنى يصلون صلاة عيد بل يرمون جمرة العقبة وينحرون كما أمر أهل الأمصار أن يصلوا ثم ينحروا إلى أمثال هذه الأمور مما هو متواتر عند كل من كان عالما بأحواله ومنها ما هو متواتر عند جميع الأمة ومنها ما هو متواتر عند جمهورها وليس منها شيء إلا وتواترت آياته وبراهينه صلى الله فيها عليه وسلم التي لم تذكر في القرآن أعظم من تواتر هذه الأمور والكتب المصنفة في آياته وبراهينه الخارجة عن القرآن فيها من الأحاديث أضعاف أضعاف ما يوجد من الأحاديث في مثل هذه الأمور بل في كل صنف من أصناف آياته من الأحاديث أضعاف ما يوجد في مثل ذلك كتواتر إخباره بالغيوب المستقبلة وتواتر تكثيره للطعام والشراب مرات متعددة وتكثيره الطهور إما بنبع الماء بين أصابعه وأما بفيضان الينبوع الذي يضع فيه بعض آثاره وإما بفيضان الماء من الوعاءالذي برك فيه والماء باق بحاله لم ينقص فالأحاديث المتواترة في مثل هذه الأنواع أكثر من الأحاديث المتواترة في مثل تلك الأمور التي هي متواترة ولهذا كان شهرة هذه الأمور في الأمة وفي أهل العلم بأحواله أعظم من شهرة كثير من تلك الأمور والمقصود هنا أن تواتر آياته المستفيضة في الأحاديث أعظم من تواتر أمور كثيرة هي متواترة عند الأمة أو عند علمائها وعلماء أهل الحديث وهذا غير الآيات والبراهين المستفادة بالقرآن فإن تلك قد تجرد لها طوائف من المسلمين ذكروا من أنواعها وصفاتها ما هو مبسوط في غير هذا الموضع حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات(7/26)
ص -484- ألوف من الآيات وهذا غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به وهذه الأجناس الثلاثة غير ما في شريعته التي بعث بها وغير صفات أمته وغير ما يدل من المعرفة بسيرته وأخلاقه وصفاته وأحواله وهذا كله غير نصر الله وإكرامه لمن آمن به وعقوبته وانتقامه ممن كفر به كما فعل بالأنبياء المتقدمين فإن تعداد أعيان دلائل النبوةمما لا يمكن بشرا الإحاطة به إذ كان الإيمان به واجبا على كل أحد فيبين الله لكل قوم بل لكل شخص من الآيات والبراهين ما لا يبين لقوم آخرين كما أن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كل دليل على كل مدلول ولكل قوم بل ولكل إنسان من الدلائل المعينة التي يريه الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون قال تعال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} والضمير في ذلك عائد إلى القرآن عند المفسرين والسلف وعامة العلماء كما يدل على ذلك القرآن بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وقد قيل إن الضمير عائد إلى الله والصواب الأول كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ}وهذا هو القرآن ثم قال بعد ذلك {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
فأخبر أنه سيري الناس في أنفسهم وفي الآفاق من الآيات العيانية المشهورة المعقولة ما يبين أن الآيات القرآنية المسموعة المتلوة حق فيتطابق العقل والسمع(7/27)
ص -485- ويتفق العيان والقرآن وتصدق المعاينة للخبر وإذا كان القرآن حقا لزم كون الرسول الذي جاء به صادقا وأن الله تعالى أنزله وأنه يجب التصديق بما أخبر به والطاعة لما أوجبه وأمر به وذلك يتضمن إثبات الصانع وتوحيده وأسماءه وصفاته وإثبات النبوات وإثبات المعاد وهذه هي أصول العلم والإيمان التي علقت بها السعادة والنجاة(7/28)
ص -486- فصل
وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول وقبيل مولده وبعد مماته لا تختص بحياته فضلا عن أن تختص بحال دعوى النبوة أو حال التحدي كما ظنه بعض أهل الكلام بل لا بد من آيات في حياته تدل على صدقه تقوم بها الحجة وتظهر بها المحجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في الحديث الصحيح: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي اوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" وقد قال تعالى: في سورة إبراهيم {الر الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إلى قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} الآيات فأخبر سبحانه أن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أتتهم رسلهم بالبينات فعلم أنهم جاءوا بالبينات وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا(7/29)
الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}(7/30)
ص -487- فأخبر أنه سبحانه ضرب الأمثال لجميع هؤلاء الذين أرسل إليهم وأهلكهم فلم يعاقبهم إلا بعد ان أقام عليهم الحجة وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فأخبر أنه لم يرسل إلا رجالا يوحى إليهم لم يرسل إليهم ملائكة ولا نساء وأنه أرسلهم بالبينات والزبر، والزبر جمع زبور وهي الكتب فإن منهم من أنزل عليه كتاب ومنهم من أرسل بتجديد الكتاب الذي قبله وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أخبر أنه ليس أمة من الأمم إلا خلا فيها نذير كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ثم أخبر أن الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر والكتاب المنير وهذا من عطف الخاص على العام لاختصاصه بوصف يختص به كقوله{وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فإن الزبر من البينات والكتاب المنير من الزبر وهو كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} فإن الهدى من العلم والكتاب المنير من الهدى وبين أنه أخذ الذين كفروا بهم وهذا أنزله(7/31)
ليبين عاقبة المكذبين ولهذا بنى الفعل للفاعل فقال: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(7/32)
ص -488- وهذه السورة مكية ثم أنزل في آل عمران وهي مدنية في سياق الآيات التي فيها تسلية الرسول والمؤمنين به وتثبيتهم وتعزيتهم لما أصابهم من المكذبين يوم احد وغيره فقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي يخوفكم أولياءه كما قاله جمهور العلماء ثم قال: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} وسياق الكلام في بيان أن الكفار لا يضرون الله ولا عباده المؤمنين بل ضررهم على أنفسهم وأن ما حصل لهم من نعمة إنما هو استدراج وإملاء إلى أن قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بين سبحانه أن هذا القول منهم مع أنه كذب فلم يقولوه إلا دفعا للحق لا ليؤمنوا(7/33)
بمن جاءهم بذلك إذ قد جاءهم رسل منقبله بالآيات البينات والقربان الذي تأكله النار ومع هذا قتلوهم والكلام في مثل هذا الجنس الذي يوالي بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا كاليهود الذين هم على دين سلفهم الذين فعلوا ذلك ولهذا يذمهم بصيغة الخطاب كقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}(7/34)
ص -489- إلى قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فالخطاب لجنس بني إسرائيل وإن كان الذين عاينوا ذلك ماتوا ثم قال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} فحذف هنا الفاعل وبنى الفعل للمفعول إذ المقصود هنا تسلية الرسول وتعزيته لا ذكر عقوبة المذكبين فلهذا كانت هذه أخص من تلك(7/35)
ص -490- فصل
ومن آيات الأنبياء إهلاك الله لمكذبيهم ونصره للمؤمنين بهم فهذا من أعلام نبوتهم ودلائل صدقهم كإغراق الله قوم نوح لما كذبوه وكإهلاكه قوم عاد بالريح الصرصر وإهلاك قوم صالح بالصيحة وإهلاك قوم شعيب بالظلة وإهلاك قوم لوط بإقلاب مداينهم ورجمهم بالحجارة وكإهلاك قوم فرعون بالغرق وقد ذكر الله القصص في القرآن في غير موضع وبين أنها من آيات الأنبياء الدالة على صدقهم كما يذكره في سورة الشعراء لما ذكر قصة موسى قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}ثم ذكر قصة إبراهيم وقال في آخرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} وكذلك ذكر مثل ذلك في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ومن ذلك ما جعله من اللعنة الشائعة لمن كذبهم ومن لسان الصدق والثناء والدعاء لهم ولمن آمن بهم كما قال تعالى: في قصة نوح {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وكذلك في قصة إبراهيم {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي تركنا هذا القول الذي يقوله المتأخرون وكذلك في قصة موسى وهارون {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} و {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}وكذلك في قصة إبراهيم قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ(7/36)
ص -491- إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال في قصة فرعون {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ولهذا قال تعالى: {للَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}فأخبر أن العاقبة للمتقين ثم إنه ما وقع لهؤلاء وهؤلاء يعلم بالسمع والنقل تارة ويعلم بالعقل والاعتبار بآثارهم تارة كما قال عن أهل النار {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} كما ذكر الله الطريقين في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ثم قال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ثم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي(7/37)
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وقال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(7/38)
ص -492- وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}وقال تعالى:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وقال لما قص قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى في سورة هود: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وما(7/39)
ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ولما ذكر قصة لوط في سورة الصافات قال: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}وفي سورة الحجر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}(7/40)
ص -493- والإمام المبين هو الطريق المستبين الواضح بين سبحانه أن هذه وهذه كلاهما بسبيل للناس يرونها بأبصارهم فيعلمون بذلك ما فعل الله بمن كذب رسله وعصاهم ودلالة نصر الله المؤمنين وانتقامه من الكافرين على صدق الأنبياء من جنس دلالة الآيات والمعجزات على صدقهم فكون هذا فعل لأجل هذا وكون ذاك سبب هذا هو مما يعلم بالإضرار عند تصور الأمر على ما هو عليه كانقلاب العصا حية عقب سؤال فرعون الآية وانشقاق القمر عند سؤال مشركي مكة آية وأمثال ذلك والسؤال المشهور الذي يورد في هذا الموضع على قول من ينفي التعليل في أفعال الله ويجوز على الله كل فعل حيث قيل لهم على أصلكم لا يفعل الله شيئا لأجل شيء وحينئذ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به إذا كان لا يفعل شيئا لشيء عندكم وقالوا لهم أيضا إذا جوزتم على الرب كل فعل جاز أن يظهر الخوارق على يد الكاذب ويقال لهم أيضا أنتم لا تعلمون ما يفعل الرب إلا بعادة أو خبر الأنبياء فقبل العلم بصدق النبي لا يعلم شيء بخبره والعادة إنما تكون فيما تكرر كطلوع الشمس ونزول المطر ونحو ذلك والإتيان بالخارق للتصديق ليس معتادا فيقال هذا السؤال إن كان متوجها فإنما يقدح في قول هؤلاء الذين يقولون لايفعل شيئا لأجل شيء ويجوزون عليه فعل كل شيء ممكن لا ينزهونه عن فعل سيء الأفعال وليس عندهم قبيحا وظلما إلا ما كان ممتنعا مثل جعل الشيء موجودا معدوما وجعل الجسم في مكانين
ولهذا ذكر ذلك مخالفوهم حجة في إبطال مذهبهم وقالوا قولهم يقدح في العلوم الضرورية ويسد باب العلم بصدق الرسل قالوا إذا جوزتم أن يفعل كل شيء فجوزوا أن يكون(7/41)
ص -494- الجبال انقلبت ياقوتا والبخار لبنا ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة بطلانه وجوزا أن يخلق المعجزات على يدي الكذابين وليس المقصود هنا الجواب عن هؤلاء ولا بيان فسد قولهم ولكن المقصود أن هذا السؤال إن كان متوجها فإنما يقدح في قوله هؤلاء لا يقدح فيما علم بالاضطرار من دلالات الآيات المذكورة على حال ههؤلاء وهؤلاء وأن الله سبحانه وتعالى نجى موسى ونصره لصدقه ونبوته وإيمانه وأهلك فرعون لتكذيبه وكذلك نصر محمدا ومن اتبعه على من كذبه من قومه ونصر نوحا على من كفر به ونصر المسيح على من كذبه ونصر سائر الرسل وأتباعهم المؤمنين كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} كما لا يقدح ما علم بالاضطرار من أن الله ينزل المطر في إبانه لسقي المزارع وأنه يسوق النيل لسقي أرض مصر وأنه جعل أعضاء الإنسان لما فيها من المنافع كالبطش باليدين والمشي بالرجلين والنظر بالعينين والسمع بالأذنين والنطق باللسان وجعل ماء العين ملحا لكونها شحمة والملوحة تمنعها أن تذوب وماء الأذن مرا ليمنع الذباب من الولوج في الدماغ وماء الفم عذبا ليطيب الطعام والشراب وجعل ماء البحر مالحا لبقاء الأنام فإنه لو كان عذبا فيموت فيه من الحيوان العظيم فيفسد الريح فيموت الآدميون والبهائم بهذه الريح إلى ما لا يحصى من حكمة الله المشهودة في خلقه ونفاة التعليل يقولون نحن نعلم أن هذا مقارن لهذا بحكم العادة التي أجراها الله وإن لم يخلق شيئا لشيء وكذلك من نفي الأسباب مع نفي التعليل أيضا يقولون نحن نعلم أنه يخلق هذا عند هذا لا به فاقتران المعجز بالتصديق من هذا الباب عندهم لكن يبقى عليهم أن هذا لا يعلم إلا بالعادة ولا عادة فلا جرم(7/42)
رجعوا إلى فطرتهم من أن(7/43)
ص -495- هذا أمر معلوم بالاضطرار وإن كان مناقضا لأصلهم الفاسد وضربوا لذلك مثلا بالملك الذي أظهر ما يناقض عادته لتصديق رسوله لكن يقال لهم الملك يفعل فعلا لمقصود فأمكن أن يقال أنه قام ليصدق رسوله وأنتم عندكم أن الله لا يفعل شيئا لشيء فلم يبق المثل مطابقا ولهذا صاروا مضطربين في هذا الموضع تارة يقولون المعجزات دليلا على الصدق لئلا يفضي إلى تعجيز الرب فإنه لا دليل على الصدق إلا خلق العجز فلو لم يكن دليلا لزم أن يكون الرب غير قادر على تصديق الرسول الصادق وهذه طريقة الأشعري في أكثر كتبه وأحد قوليه وسلكها القاضي أبو بكر وأبو إسحاق الإسفرائيني وأبو بكر بن فورك وأبو محمد ن اللبان وأبو علي بن شاذان والقاضي أبو يعلى وغيرهم
والثاني: قالوا نحن نعلم بالاضطرار أنه فعل هذا لأجل التصديق كالمثل(7/44)
ص -496- المضروب وهذا هو القول الآخر وهي طريقة أبي الحسن الأشعري في أماليه وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه كالرازي وغيره وتنازعوا هل يمكن خلق ذلك على يد كذاب فقيل لا يمكن لأنه لو أمكن لجاز وقوعه وقيل بل هو مقدور لكن نعلم أنه لا يفعله كما نعلم أنه لا يفعل كثيرا من الخوارق المقدورات كقلب الجبل ياقوتا والبحر زيتا قالوا فنحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعلها فلا يلزم من كونها مقدورة ممكنة أن لا يعلم انتفاء وقوعها بل قد يعلم عدم وقوعها بالاضطرار وإن كنا نقول إنها ممكنة مقدورة وظهور المعجزات على يد الكذاب في دعوى النبوة من هذا الباب عندنا وقالوا المعجز علم على صدق الأنبياء فيمتنع أن يكون الدليل غير مستلزم للمدلول عليه وهذا القول حق لكن منازعوهم يقولون هو يستلزم نقيض ما نفوه من كون الله يخلق شيئا لشيء ويخلق شيئا بشيء وما قالوا من كونه يجوز عليه فعل كل شيء وكان ما ذكروه من الحق دليلا على أن الخلق يعلمون ما يعلمونه من حكمة الرب ومراده بما يخلقه لأمر آخر وأنه سبحانه منزه عن أن يفعل أشياء لا يجوز منه فعل كل شيء وهم يقولون هنا قد يكون الشيء ممكنا جائزا مع العلم بأنه غير واقع كانقلاب الجبال ياقوتا والبحر زئبقا وموت أهل البلد كلهم في لحظة ومصير الأطفال علماء حكماء في لحظة واحدة وعلى هذا الجواب يعتمدون كثيرا كما يذكره القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وأبو المعالي والرازي وغيرهم ثم إنهم يقولون في العقل أنه علوم ضرورية كالعلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات وجواز الجائزات فالممتنعات كانقلاب دجلة دما وأمثال ذلك في الأمور العادية فيجعلون العادات واجبة تارة وممتنعة أخرى مع أنه لا سبب يوجب(7/45)
ص -497- لا هذا ولا هذا ويقولون نعلم أن هذا جائز ممكن لا يتوقف على سبب ولا له مانع كالآخر ثم نعلم أن هذا واقع وهذا غير واقع لمجرد العادة مع أن خرق العادة ليس له عندهم ضابط بل كل ما يجري من العادات معجزات للأنبياء فيجوز أن يكون عندهم للولي وللساحر والفرق بينهما عندهم التحدي أو عدم المعارضة وكذلك المتفلسفة الملاحدة الذين يقولون أسباب الآيات القوى الفلكية والقوى النفسانية والطبيعية وهذه كلها مشتركة عندهم بين الأنبياء والسحرة لكن النبي يقصد الخير والعدل والساحر يقصد الشر والظلم وكذلك أولئك الذين وافقوا جهما على أصله في القدر لا فرق عندهم بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة لكن الولي مطيع لله والساحر غير مطيع لله هذا عمدة هؤلاء النفاة للحكمة والأسباب في أفعال الله تعالى وجمهور الناس يخالفونهم ويقولون هذا القول فاسد بل نفس تصوره كاف في العلم بفساده فإنه إذا تماثل هذا وهذا من كل وجه فمن أين يعلم وجود هذا أو وجوبه وعدم هذا أو امتناعه وإذا قيل مستندي العادة قيل له منازعوك يقولون هذا باطل من وجهين:
أحدهما: أنك أنت تجوز انتقاض العادة وليس لانتقاضها عندك سبب تختص به ولا حكمة انتقضت لأجلها بل لا فرق عندك بين انتقاضها للأنبياء والأولياء والسحرة وغير ذلك ولهذا قلتم ليس بين معجزات الأنبياء وبين كرامات الأولياء والسحرة فرق إلا مجرد اقتران دعوى النبوة والتحدي بالمعارضة مع عدم المعارضة مع أن التحدي بالمعارضة قد يقع من المشرك بل ومن الساحر فلم يثبتوا فرقا يعود إلى جنس الخوارق المفعولة ولا إلى قصد الفاعل والخالق ولا قدرته ولا حكمته
والثاني: أن العادة لا بد لها من أسباب وموانع يعلم بها اطرادها تارة وانتفاضها أخرى وبهذا يظهر الجواب عما قالوه من أن انقلاب الجبل ذهبا والبحر زئبقا والأناسي قرودا(7/46)
ص -498- ونحو ذلك ممكن معلوم الجواز مع العلم بأنه لم يقع فإنهم يقال لهم جمهور الناس لا يعلمون لكم أن هذا ممكن إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده وحينئذ يقال لم قلتم إن هذا لا يستلزم أسبابا تكون قبله وموانع ترتفع كسائر ما يحدثه الله من الأمور الخارقة للعادة فإنه لا يحدث شيئا إلا بإحداث أسباب ودفع موانع مثال ذلك غرق قوم نوح لم يكن ماء وجد بلا سبب بل أنزل الله ماء السماء وأنبع ماء الأرض كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} وكذلك عاد لما أهلكهم أرسل الريح الصرصر سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال تعالى:{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} وكذلك ثمود قال لهم صالح {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}
وكل ما وجد في العالم من خوارق العادات آيات الأنبياء وغيرها لم يأت منها شيء إلا بأسباب تقدمته كآيات موسى من(7/47)
مثل مصير العصى حية كانت بعد أن ألقاها إما عند أمر الله بذلك لما ناداه من الشجرة ورأى النار الخارقة للعادة وأما عند مطالبة(7/48)
ص -499- فرعون له بالآية وأما عند معارضة السحرة لتبتلع حبالهم وعصيهم وكذلك سائر آياته حتى إغراق فرعون كان بعد مسير الجيش وضربه البحر بالعصا وكذلك تفجر الماء من الحجر كان بعد أن ضرب الحجر بعصاه واستسقاء قومه إياه وهم في برية لا ماء عندهم وكذلك آيات نبينا صلى الله عليه وسلم مثل تكثير الماء كان بوضع يده فيه حتى نبع الماء من بين الأصابع أي تفجر الماء من بين الأصابع لم يخرج من نفس الأصابع وكذلك البئر كان ماؤها يكثر إما بإلقائه سهما من كنانته فيها وأما بصبه الماء الذي بصق فيه فيها وكذلك المسيح كان يأخذ من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله إلى أمثال ذلك فأما جبل ينقلب ياقوتا بلا أسباب تقدمت ذلك فهذا لا كان ولا يكون وكذلك نهر يطرد يصبح لبنا بلا أسباب تقتضي ذلك يخلقها الله فهذا لا كان ولا يكون ومن قال إن الشيء ممكن فهذا يعنى به شيئان يعني به الإمكان الذهني والإمكان الخارجي فالإمكان الذهني هو عدم العلم بالامتناع وهذا ليس فيه إلا عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع غير العلم بالإمكان فكل من لم يعلم امتناع شيء كان عنده ممكنا بهذا الاعتبار لكن هذا ليس بعلم بإمكانه ومن استدل على إمكان الشيء بأنه لو قدر لم يلزم منه محال من غير بيان انتفاء لزوم كل محال كما يفعله طائفة من أهل الكلام كالآمدي ونحوه لم يكن فيما ذكره إلا مجرد الدعوى
وأما الثاني وهو العلم بإمكان الشيء في الخارج فهذا يعلم بأن يعلم وجوده أو وجود نظيره أو وجود ما هو أقرب إلى الامتناع منه فإذا كان حمل البعير للقنطار ممكنا كان حمله لتسعين رطلا اولى بالإمكان وبهذه الطريقة يبين الله في القرآن إمكان ما يريد بيان إمكانه كإحياء الموتى والمعاد فإنه يبين ذلك تارة ببيان وقوعه كما أخبر أن قوم موسى قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}(7/49)