وَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ فَكَاَلَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ وَيُسَعِّرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ قُوِّمَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ ثُمَّ عَتَقَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا» (1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2522) وصحيح مسلم برقم (4419) واللفظ له
الشطط: الجور والظلم والبعد عن الحق =الوكس: الغش والبخس
وفي عون المعبود - (ج 10 / ص 58)
قَالَ الشَّيْخ شَمْس الدِّين بْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه: وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الرَّبِيع: وَرَوَى مِنْ حَدِيث عُمَر أَنَّهُ قَالَ: " رَأَيْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي الْقَوَد مِنْ نَفْسه، وَأَبَا بَكْر يُعْطِي الْقَوَد مِنْ نَفْسه وَأَنَا أُعْطِي الْقَوَد مِنْ نَفْسِي " اِحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيّ فِي الْقِصَاص فِيمَا دُون النَّفْس.
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيث النُّعْمَان بْن بَشِير وَقَوْله لِمُدَّعِي السَّرِقَة " إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَضْرِبهُمْ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ عِلْم وَإِلَّا أَخَذْت مِنْ ظُهُوركُمْ مِثْل مَا أَخَذْت مِنْ ظُهُورهمْ فَقَالُوا: هَذَا حُكْمك؟ فَقَالَ هَذَا حُكْم اللَّه وَرَسُوله ".
رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بْن هِلَال عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: " كُنَّا نَقْعُد مَعَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِد، فَإِذَا قَامَ قُمْنَا، فَقَامَ يَوْمًا وَقُمْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ وَسَط الْمَسْجِد أَدْرَكَهُ أَعْرَابِيّ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا، فَحَمَّرَ رَقَبَته، قَالَ يَا مُحَمَّد، اِحْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنَّك لَا تَحْمِل مِنْ مَالِك وَلَا مِنْ مَال أَبِيك، فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: لَا، وَأَسْتَغْفِر اللَّه، لَا أَحْمِل لَك حَتَّى تُقِيدنِي مِمَّا جَبَذْت بِرَقَبَتِي، فَقَالَ الْأَعْرَابِيّ: لَا وَاَللَّه لَا أُقِيدك، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْل الْأَعْرَابِيّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: عَزَمْت عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي أَنْ لَا يَبْرَح مَقَامه حَتَّى آذَن لَهُ، فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلِ مِنْ الْقَوْم: يَا فُلَان اِحْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِير شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِير تَمْرًا ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: اِنْصَرِفُوا ".
تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْقَوَد مِنْ الْجَبْذَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن جُبَيْر أَخْبَرَنِي اِبْن عَبَّاس " أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ فِي أَب كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَطَمَهُ الْعَبَّاس، فَجَاءَ قَوْمه، فَقَالُوا لَيَلْطِمَنَّهُ كَمَا لَطَمَهُ فَلَبِسُوا السِّلَاح، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَعِدَ الْمِنْبَر، فَقَالَ أَيّهَا النَّاس، أَيُّ أَهْل الْأَرْض تَعْلَمُونَ أَكْرَم عَلَى اللَّه؟ قَالُوا أَنْتَ، قَالَ: فَإِنَّ الْعَبَّاس مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ لَا تَسُبُّوا أَمْوَاتنَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا، فَجَاءَ الْقَوْم فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه، نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ غَضَبك اِسْتَغْفِرْ لَنَا ". وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْقَوَد مِنْ اللَّطْمَة.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا حَدِيث أَبِي سَعِيد الْمُتَقَدِّم وَقَالَ " بَيْنَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِم شَيْئًا بَيْننَا إِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُل فَطَعَنَهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَصَاحَ الرَّجُل، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: تَعَالَ فَاسْتَقِدْ، فَقَالَ الرَّجُل بَلْ عَفَوْت يَا رَسُول اللَّه ".
وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْقَوَد مِنْ الطَّعْنَة. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: " لَدَدْنَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضه فَأَشَارَ أَنْ لَا تَلِدُونِي، فَقُلْنَا كَرَاهَة الْمَرِيض لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لَا يَبْقَى أَحَد مِنْكُمْ إِلَّا لَدَّ، وَأَنَا أَنْظُر إِلَى الْعَبَّاس، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَد "
وَمِنْ بَعْض تَرَاجِم الْبُخَارِيّ عَلَيْهِ: " بَاب الْقِصَاص بَيْن الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الْجِرَاحَات ".
وَفِي الْبَاب حَدِيث أُسَيْد بْن حُضَيْر " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَنَهُ فِي خَاصِرَته بِعُودٍ فَقَالَ: اِصْبِرْنِي فَقَالَ: اِصْطَبِرْ، قَالَ: إِنَّ عَلَيْك قَمِيصًا، وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيص: فَرَفَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَمِيصه.
فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّل كَشْحه، قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْت هَذَا يَا رَسُول اللَّه " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَاب الْأَدَب، وَسَيَأْتِي هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
" وَاصْبِرْنِي " أَيْ أَقِدْنِي مِنْ نَفْسك وَ " وَاصْطَبِرْ " أَيْ اِسْتَقِدْ. وَالِاصْطِبَار: الِاقْتِصَاص.
يُقَال: أَصَبَرْته بِقَتِيلِهِ: أَقَدْته مِنْهُ.
وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا جَهْم بْن حُذَيْفَة مُصَدِّقًا، فَلَاحَاهُ رَجُل فِي صَدَقَته، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْم، فَأَتَوْا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: الْقَوَد يَا رَسُول اللَّه، فَقَالَ، لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا بِهِ، فَقَالَ: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَرَضُوا بِهِ، فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي خَاطِب عَلَى النَّاس وَمُخْبِرهمْ بِرِضَاكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنَّ =(1/295)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= هَؤُلَاءِ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَد فَعَرَضْت عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا، فَرَضُوا، قَالُوا: لَا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكُفُّوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي خَاطِب عَلَى النَّاس وَمُخْبِرهمْ بِرِضَاكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّاس ثُمَّ قَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ ".
وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ: السُّلْطَان يُصَاب عَلَى يَده.
فَصْل
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَهِيَ الْقِصَاص فِي اللَّطْمَة وَالضَّرْبَة وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يُمْكِن لِلْمُقْتَصِّ أَنْ يَفْعَل بِخَصْمِهِ مِثْل مَا فَعَلَهُ بِهِ مِنْ كُلّ وَجْه هَلْ يَسُوغ الْقِصَاص فِي ذَلِكَ، أَوْ يَعْدِل إِلَى عُقُوبَته بِجِنْسٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّعْزِير؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَصَحّهمَا: أَنَّهُ شَرَعَ فِيهِ الْقِصَاص، وَهُوَ مَذْهَب الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمْ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَحْمَد وَأَبُو إِسْحَاق الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجَم، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَام أَحْمَد فِي رِوَايَة الشَّالِنْجِيّ وَغَيْره، قَالَ شَيْخنَا رَحِمَهُ اللَّه: وَهُوَ قَوْل جُمْهُور السَّلَف.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُشْرَع فِيهِ الْقِصَاص، وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة، وَقَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَاب أَحْمَد، حَتَّى حَكَى بَعْضهمْ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاص فِيهِ.
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، بَلْ حِكَايَة إِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَى الْقِصَاص أَقْرَب مِنْ حِكَايَة الْإِجْمَاع عَلَى مَنْعه. فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ، وَلَا يُعْلَم لَهُمْ مُخَالِف فِيهِ.
وَمَأْخَذ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِالْعَدْلِ فِي ذَلِكَ، فَبَقِيَ النَّظَر فِي أَيّ الْأَمْرَيْنِ أَقْرَب إِلَى الْعَدْل؟.
فَقَالَ الْمَانِعُونَ: الْمُمَاثَلَة لَا تُمْكِن هُنَا، فَكَأَنَّ الْعَدْل يَقْتَضِي الْعُدُول إِلَى جِنْس آخَر وَهُوَ التَّعْزِير، فَإِنَّ الْقِصَاص لَا يَكُون إِلَّا مَعَ الْمُمَاثَلَة، وَلِهَذَا لَا يَجِب فِي الْجُرْح حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى حَدّ، وَلَا فِي الْقَطْع إِلَّا مِنْ مَفْصِل، لِتَمَكُّنِ الْمُمَاثَلَة، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ فِي الْقَطْع وَالْجُرْح صِرْنَا إِلَى الدِّيَة. فَكَذَا فِي اللَّطْمَة وَنَحْوهَا، لَمَّا تَعَذَّرَتْ صِرْنَا إِلَى التَّعْزِير. قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: الْقِصَاص فِي ذَلِكَ أَقْرَب إِلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَالْقِيَاس وَالْعَدْل مِنْ التَّعْزِير.
أَمَّا الْكِتَاب: فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَالَ: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِثْلهَا): وَقَالَ (فَمَنْ اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدَى عَلَيْكُمْ).
وَمَعْلُوم: أَنَّ الْمُمَاثَلَة مَطْلُوبَة بِحَسَبِ الْإِمْكَان، وَاللَّطْمَة أَشَدّ مُمَاثَلَة لِلَّطْمَةِ، وَالضَّرْبَة لِلضَّرْبَةِ مِنْ التَّعْزِيز لَهَا، فَإِنَّهُ ضَرْب فِي غَيْر الْمَوْضِع، غَيْر مُمَاثِل لَا فِي الصُّورَة، وَلَا فِي الْمَحَلّ، وَلَا فِي الْقَدْر، فَأَنْتُمْ فَرَرْتُمْ مِنْ تَفَاوُت لَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز مِنْهُ بَيْن اللَّطْمَتَيْنِ، فَصِرْتُمْ إِلَى أَعْظَم تَفَاوُت مِنْهُ، بِلَا نَصّ وَلَا قِيَاس.
قَالُوا: وَأَمَّا السُّنَّة: فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاب إِلَّا سُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ لَكَفَى بِهَا دَلِيلًا وَحُجَّة.
قَالُوا. فَالتَّعْزِير لَا يُعْتَبَر فِيهِ جِنْس الْجِنَايَة، وَلَا قَدْرهَا، بَلْ قَدْ يُعَزِّرُوهُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَيَكُون إِنَّمَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ أَوْ رِجْله، فَكَانَتْ الْعُقُوبَة بِحَسَبِ الْإِمْكَان فِي ذَلِكَ أَقْرَب إِلَى الْعَدْل الَّذِي أَنْزَلَ اللَّه بِهِ كُتُبه وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُله.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة فِي أَكْثَر مِنْ مِائَة مَوْضِع عَلَى أَنَّ الْجَزَاء مِنْ جِنْس الْعَمَل فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (جَزَاء وِفَاقًا): أَيْ: وَفْق أَعْمَالهمْ، وَهَذَا ثَابِت شَرْعًا وَقَدْرًا.
أَمَّا الشَّرْع. فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْس بِالنَّفْسِ وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ وَالْأَنْف بِالْأَنْفِ وَالْأُذُن بِالْأُذُنِ وَالسِّنّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوح قِصَاص} فَأَخْبَرَ سُبْحَانه: أَنَّ الْجُرُوح قِصَاص، مَعَ أَنَّ الْجَارِح قَدْ يَشْتَدّ عَذَابه إِذَا فَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، حَتَّى يَسْتَوْفِي مِنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ الْيَهُودِيّ " كَمَا رَضَخَ رَأْس الْجَارِيَة وَهَذَا الْقَتْل قِصَاص، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَقْضِ الْعَهْد أَوْ لِلْحِرَابَةِ لَكَانَ بِالسَّيْفِ. وَلَا يُرْضَخ الرَّأْس.
وَلِهَذَا كَانَ أَصَحّ الْأَقْوَال: أَنَّهُ يُفْعَل بِالْجَانِي مِثْل مَا فَعَلَ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّه كَالْقَتْلِ بِاللِّوَاطَةِ، وَتَجْرِيع الْخَمْر وَنَحْوه، فَيُحَرَّق كَمَا حَرَّقَ، وَيُلْقَى مِنْ شَاهِق كَمَا فَعَلَ، وَيُخْنَق كَمَا خَنَقَ، لِأَنَّ هَذَا أَقْرَب إِلَى الْعَدْل. وَحُصُول مُسَمَّى الْقِصَاص وَإِدْرَاك الثَّأْر وَالتَّشَفِّي وَالزَّجْر الْمَطْلُوب مِنْ الْقِصَاص.
وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ أَحْمَد. قَالُوا: وَأَمَّا كَوْن الْقِصَاص لَا يَجِب فِي الْجُرْح حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ، وَلَا فِي الطَّرَف حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى مَفْصِل لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَة فَهَذَا اِشْتِرَاط لِئَلَّا يَزِيد الْمُقْتَصّ عَلَى مِقْدَار الْجِنَايَة، فَيَصِير الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ مَظْلُومًا بِذَهَابِ ذَلِكَ الْجُزْء، فَتَعَذَّرَتْ الْمُمَاثَلَة فَصِرْنَا إِلَى الدِّيَة وَهَذَا بِخِلَافِ اللَّطْمَة وَالضَّرْبَة، فَإِنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ تَعَدِّي الْمُتَقَضِّي فِيهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِذَهَابِ جُزْء، بَلْ بِزِيَادَةِ أَلَم وَهَذَا لَا يُمْكِن الِاحْتِرَاز مِنْهُ، وَلِهَذَا تُوجِبُونَ التَّعْزِير مَعَ أَلَمه يَكُون أَضْعَاف أَلَم اللَّطْمَة، وَالْبَرْد مِنْ سِنّ الْجَانِي مِقْدَار =(1/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= مَا كَسَرَ مِنْ سِنّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ مَعَ شِدَّة الْأَلَم وَكَذَلِكَ قَلْع سِنّه وَعَيْنه أَوْ نَحْو ذَلِكَ لَا بُدّ فِيهِ مِنْ زِيَادَة أَلَم لِيَصِل الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ إِلَى اِسْتِيفَاء حَقّه فَهَلَّا اِعْتَبَرْتُمْ هَذَا الْأَلَم الْمُقَدَّر زِيَادَته فِي اللَّطْمَة وَالضَّرْبَة، كَمَا اِعْتَبَرْتُمُوهُ فِيهَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّوَر وَغَيْرهَا؟
قَالَ الْمَانِعُونَ: كَمَا عَدَلْنَا فِي الْإِتْلَاف الْمَالِيّ إِلَى الْقِيمَة، عِنْد تَعَذُّر الْمُمَاثَلَة، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، بَلْ أَوْلَى لِحُرْمَةِ الْبَشَرَة، وَتَأَكُّدهَا عَلَى حُرْمَة الْمَال.
قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: هَذَا قِيَاس فَاسِد مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدهمَا: أَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي إِتْلَاف الْمَال، فَإِنَّهُ إِذَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ ثَوْبًا لَمْ تُجَوِّزُوا أَنْ يُتْلِف عَلَيْهِ مِثْله مِنْ كُلّ وَجْه. وَلَوْ قَطَعَ يَده أَوْ قَتَلَهُ لَقُطِعَتْ يَده وَقُتِلَ بِهِ، فَعُلِمَ الْفَرْق بَيْن الْأَمْوَال وَالْأَبْشَار، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَة عَلَى النُّفُوس وَالْأَطْرَاف يُطْلَب فِيهَا الْمُقَاصَّة بِمَا لَا يُطْلَب فِي الْأَمْوَال.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ هُوَ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ غَيْر الْمَكِيل وَالْمَوْزُون يُضَمْنَ بِالْقِيمَةِ لَا بِالنَّظِيرِ وَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة وَلَا نَصّ؟ بَلْ الصَّحِيح: أَنَّهُ يَجِب الْمِثْل فِي الْحَيَوَان وَغَيْره بِحَسَبِ الْإِمْكَان كَمَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَة فِي جَزَاء الصَّيْد: أَنَّهُمْ قَضَوْا فِيهِ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَم بِحَسَبِ الْإِمْكَان، فَقَضَوْا فِي النَّعَامَة بِبَدَنَةٍ، وَفِي بَقَرَة الْوَحْش بِبَقَرَةٍ، وَفِي الظَّبْي بِشَاةٍ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ.
قَالَ الْمَانِعُونَ: " هَذَا عَلَى خِلَاف الْقِيَاس " فَيُصَار إِلَيْهِ اتِّبَاعًا لِلصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا مَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَة وَقَدَّمَ الْقِيَاس عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَ الْقِيمَة.
قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: قَوْلكُمْ: إِنَّ هَذَا عَلَى خِلَاف الْقِيَاس: فَرْع عَلَى صِحَّة الدَّلِيل الدَّالّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَر فِي ذَلِكَ هُوَ الْقِيمَة، دُون النَّظِير، وَأَنْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا مِنْ كِتَاب وَلَا سُنَّة وَلَا إِجْمَاع، حَتَّى يَكُون قَضَاء الصَّحَابَة بِخِلَافِهِ عَلَى خِلَاف الْقِيَاس، فَأَيْنَ الدَّلِيل؟:
قَالَ الْمَانِعُونَ: الدَّلِيل عَلَى اِعْتِبَار الْقِيمَة فِي إِتْلَاف الْحَيَوَان دُون الْمِثْل: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " ضَمَّنَ مُعْتِق الشِّقْص إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَتِهِ " وَلَمْ يُضَمِّنهُ نَصِيب الشَّرِيك بِمِثْلِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْل هُوَ الْقِيمَة فِي غَيْر الْمَكِيل وَالْمَوْزُون.
قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: هَذَا أَصْل مَا بَنَيْتُمْ عَلَيْهِ اِعْتِبَار الْقِيمَة فِي هَذِهِ الْمَسَائِل وَغَيْرهَا، وَلَكِنَّهُ بِنَاء عَلَى غَيْر أَسَاس فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْء فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَاب ضَمَان الْمُتْلَفَات بِالْقِيمَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَاب تَمَلُّك مَال الْغَيْر بِالْقِيمَةِ، كَتَمَلُّكِ الشِّقْص الْمَشْفُوع بِثَمَنِهِ، فَإِنَّ نَصِيب الشَّرِيك بِقَدْرِ دُخُوله فِي مِلْك الْمُعْتَق، ثُمَّ يَعْتِق عَلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ، وَالْقَائِلُونَ بِالسِّرَايَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ يَعْتِق كُلّه عَلَى مِلْك الْمُعْتَق، وَالْوَلَاء لَهُ دُون الشَّرِيك.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَسْرِي الْعِتْق عَقِب إِعْتَاقه، أَوْ لَا يَعْتِق حَتَّى يُؤَدِّي الثَّمَن؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِي، وَهُمَا فِي مَذْهَب أَحْمَد، قَالَ شَيْخنَا: وَالصَّحِيح: أَنَّهُ لَا يَعْتِق إِلَّا بِالْأَدَاةِ.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي: مَا إِذَا أَعْتَقَ الشَّرِيك نَصِيبه بَعْد عِتْق الْأَوَّل وَقَبْل وَزْن الْقِيمَة، فَعَلَى الْأَوَّل: لَا يَعْتِق عَلَيْهِ، وَعَلَى الثَّانِي: يَعْتِق عَلَيْهِ، وَيَكُون الْوَلَاء بَيْنهمَا.
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا: يَنْبَنِي مَا إِذَا قَالَ أَحَدهمَا: إِذَا أَعْتَقْت نَصِيبك فَنَصِيبِي حُرّ، فَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل لَا يَصِحّ هَذَا التَّعْلِيق، وَيَعْتِق كُلّه فِي مَال الْمُعْتَق. وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: يَصِحّ التَّعْلِيق، وَيَعْتِق نَصِيب الشَّرِيك مِنْ مَاله.
فَظَهَرَ أَنَّ اِسْتِدْلَالكُمْ بِالْعِتْقِ اِسْتِدْلَال بَاطِل، بَلْ إِنَّمَا يَكُون إِتْلَافًا إِذَا قَتَلَهُ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكُمْ بِالنَّصِّ أَنَّهُ ضَمَّنَ قَاتِل الْعَبْد بِالْقِيمَةِ دُون الْمِثْل: كَانَ حُجَّة، وَأَنَّى لَكُمْ بِذَلِكَ؟
قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْفَرْق وَاضِح بَيْن أَنْ يَكُون الْمُتْلَف عَيْنًا كَامِلَة أَوْ بَعْض عَيْن.
فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّضْمِين كَانَ تَضْمِين إِتْلَاف لَمْ يَجِب مِثْله فِي الْعَيْن الْكَامِلَة.
وَالْفَرْق بَيْنهمَا: أَنَّ حَقّ الشَّرِيك فِي الْعَيْن الَّتِي لَا يُمْكِن قِسْمَتهَا فِي نِصْف الْقِيمَة مَثَلًا أَوْ ثُلُثهَا، فَالْوَاجِب لَهُ مِنْ الْقِيمَة بِنِسْبَةِ مِلْكه، وَلِهَذَا يُجْبَر شَرِيكه عَلَى الْبَيْع إِذَا طَلَبَهُ لِيَتَوَصَّل إِلَى حَقّه مِنْ الْقِيمَة، وَالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رَاعَى ذَلِكَ، وَقَوَّمَ عَلَيْهِ الْعَبْد قِيمَة كَامِلَة، ثُمَّ أَعْطَاهُ حَقّه مِنْ الْقِيمَة، وَلَمْ يُقَوِّم عَلَيْهِ الشِّقْص وَحْده، فَيُعْطِيه قِيمَته.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَقّ الشَّرِيك فِي نِصْف الْقِيمَة.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ ضَمَّنَّا الْمُعْتَق نَصِيب الشَّرِيك بِمِثْلِهِ مِنْ عَبْد آخَر لَمْ نُجْبِرهُ عَلَى الْبَيْع إِذَا طَلَبَهُ شَرِيكه، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ فِي الْقِيمَة بَلْ حَقّه فِي نَفْس الْعَيْن فَحَقّه بَاقٍ مِنْهَا.
قَالُوا: فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَكُمْ أَصْل تَقِيسُونَ عَلَيْهِ، لَا مِنْ كِتَاب وَلَا سُنَّة وَلَا إِجْمَاع. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اِقْتَرَضَ بَكْرًا وَقَضَى خَيْرًا مِنْهُ " وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ يُجَوِّز قَرْض الْحَيَوَان، مَعَ أَنَّ الْوَاجِب فِي الْقَرْض رَدّ الْمِثْل، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَان مِثْلِيّ. =(1/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَمِنْ الْعَجَب أَنْ يُقَال: إِذَا اِقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ قِيمَته، وَيُقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْإِتْلَاف وَالْغَصْب فَيُتْرَك مُوجَب النَّصّ الصَّحِيح لِقِيَاسٍ لَمْ يَثْبُت أَصْله بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاع، وَنُصُوص أَحْمَد: أَنَّ الْحَيَوَان فِي الْقَرْض يُضَمْنَ بِمِثْلِهِ. وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه: بَلْ بِالْقِيمَةِ طَرْدًا لِلْقِيَاسِ عَلَى الْغَصْب. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابه فِي مُوجَب الضَّمَان فِي الْغَصْب وَالْإِتْلَاف عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه:
أَحَدهَا: أَنَّ الْوَاجِب الْقِيمَة فِي غَيْر الْمَكِيل وَالْمَوْزُون.
وَالثَّانِي: الْوَاجِب الْمِثْل فِي الْجَمِيع.
وَالثَّالِث: الْوَاجِب الْمِثْل فِي غَيْر الْحَيَوَان، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي الثَّوْب وَالْقَصْعَة وَنَحْوهمَا. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ فِي الْجِدَار الْمَهْدُوم ظُلْمًا يُعَاد مِثْله، وَأَقْوَل النَّاس بِالْقِيمَةِ أَبُو حَنِيفَة، وَمَعَ هَذَا فَعِنْده، إِذَا أَتْلَفَ ثَوْبًا ثَبَتَ فِي ذِمَّته مِثْله لَا قِيمَته، وَلِهَذَا يَجُوز الصُّلْح عَنْهُ بِأَكْثَر مِنْ قِيمَته، وَلَوْ كَانَ الثَّابِت فِي الذِّمَّة الْقِيمَة لَمَا جَازَ الصُّلْح عَنْهَا بِأَكْثَر مِنْهَا.
فَظَهَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَبِر الْمِثْل فَلَا بُدّ مِنْ تَنَاقُضه أَوْ مُنَاقَضَته لِلنَّصِّ الصَّرِيح، وَهَذَا مَا لَا مَخْلَص مِنْهُ.
وَأَصْل هَذَا كُلّه: هُوَ الْحُكُومَة الَّتِي حَكَمَ فِيهَا دَاوُد وَسُلَيْمَان وَقَصَّهَا اللَّه عَلَيْنَا فِي كِتَابه. وَكَانَتْ فِي الْحَرْث، وَهُوَ الْبُسْتَان، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَشْجَار عِنَب. فَنَفَشَتْ فِيهَا الْغَنَم وَالنَّفْش إِنَّمَا يَكُون لَيْلًا فَقَضَى دَاوُدُ لِأَصْحَابِ الْبُسْتَان بِالْغَنَمِ، لِأَنَّهُ اِعْتَبَرَ قِيمَة مَا أَفْسَدَتْهُ، فَوَجَدَهُ يُسَاوِي الْغَنَم، فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا، وَأَمَّا سُلَيْمَان فَقَضَى عَلَى أَصْحَاب الْغَنَم بِالْمِثْلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمُرُوا الْبُسْتَان كَمَا كَانَ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ مُغَلَّهُ إِلَى حِين عَوْدِهِ يَفُوت عَلَيْهِمْ، وَرَأَى أَنَّ مُغَلّ الْغَنَم يُسَاوِيه، فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَم يَسْتَغِلُّونَهَا حَتَّى يَعُود بُسْتَانهمْ كَمَا كَانَ، فَإِذَا عَادَ رَدُّوا إِلَيْهِمْ غَنَمهمْ.
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مِثْل هَذِهِ الْقَضِيَّة عَلَى أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحَدهَا: الْقَوْل بِالْحُكْمِ السُّلَيْمَانِيّ فِي أَصْل الضَّمَان وَكَيْفِيَّته، وَهُوَ أَصَحّ الْأَقْوَال وَأَشَدّهَا مُطَابَقَة لِأُصُولِ الشَّرْع وَالْقِيَاس، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَاب مُفْرَد فِي الِاجْتِهَاد وَهَذَا أَحَد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد، نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْر مَوْضِع، وَيَذْكُر وَجْهًا فِي مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ.
وَالثَّانِي: مُوَافَقَته فِي النَّفْش دُون الْمِثْل، وَهَذَا الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد.
وَالثَّالِث: عَكْسه، وَهُوَ مُوَافَقَته فِي الْمِثْل دُون النَّفْش، وَهُوَ قَوْل دَاوُدَ وَغَيْره فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا أَتْلَفَ الْبُسْتَان بِتَفْرِيطِهِ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ. وَأَمَّا إِذَا اِنْفَلَتَتْ الْغَنَم لَيْلًا لَمْ يَضْمَن صَاحِبهَا مَا أَتْلَفَتْهُ.
وَالرَّابِع: أَنَّ النَّفْش لَا يُوجِب الضَّمَان، وَلَوْ أَوْجَبَهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمِثْلِ بَلْ بِالْقِيمَةِ، فَلَمْ تُوَافِقهُ لَا فِي النَّفْش وَلَا فِي الْمِثْل، وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة، وَهَذَا مِنْ اِجْتِهَادهمْ فِي الْقِيَاس، وَالْعَدْل هُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّه.
فَكُلّ طَائِفَة رَأَتْ الْعَدْل هُوَ قَوْلهَا، وَإِنْ كَانَتْ النُّصُوص وَالْقِيَاس وَأُصُول الشَّرْع تَشْهَد بِحُكْمِ سُلَيْمَان، كَمَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَهَّمَهُ إِيَّاهُ.
وَذَكَرَ مَأْخَذ هَذِهِ الْأَقْوَال وَأَدِلَّتهَا وَتَرْجِيح الرَّاجِح مِنْهَا لَهُ مَوْضِع غَيْر هَذَا أَلْيَق بِهِ مِنْ هَذَا. وَالْمَقْصُود: أَنَّ الْقِيَاس وَالنَّصّ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يُفْعَل بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " رَضَخَ رَأْس الْيَهُودِيّ كَمَا رَضَخَ رَأْس الْجَارِيَة، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِنَقْضِ الْعَهْد وَلَا لِلْحِرَابَةِ، لِأَنَّ الْوَاجِب فِي ذَلِكَ الْقَتْل بِالسَّيْفِ، وَعَنْ أَحْمَد ذَلِكَ أَرْبَع رِوَايَات.
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي فِي الْقَوَد إِلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُق، وَهَذَا مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة.
وَالثَّانِيَة: أَنَّهُ يَفْعَل بِهِ كَمَا فَعَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ.
وَالثَّالِثَة: إِنْ كَانَ الْفِعْل أَوْ الْجُرْح مُرْهِقًا فُعِلَ بِهِ نَظِيره، وَإِلَّا فَلَا.
وَالرَّابِعَة: إِنْ كَانَ الْجُرْح أَوْ الْقَطْع مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَوْ اِنْفَرَدَ فُعِلَ بِهِ نَظِيره، وَإِلَّا فَلَا. وَعَلَى الْأَقْوَال كُلّهَا: إِنْ لَمْ يَمُتْ بِذَلِكَ قُتِلَ.
وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِالْكَفَّارِ إِذَا مَثَّلُوا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُثْلَة مَنْهِيًّا عَنْهَا. فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَة بِجَدْعِ الْأَنْف وَقَطْع الْأُذُن، وَبَقْر الْبَطْن وَنَحْو ذَلِكَ هِيَ عُقُوبَة بِالْمِثْلِ لَيْسَتْ بِعُدْوَانٍ، وَالْمِثْل هُوَ الْعَدْل.
وَأَمَّا كَوْن الْمُثْلَة مَنْهِيًّا عَنْهَا: فَلِمَا رَوَى أَحْمَد فِي مُسْنَده مِنْ حَدِيث سَمُرَة بْن جُنْدُب وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ قَالَ: " مَا خَطَبَنَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَة إِلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَة ".
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَمْ يَمُتْ إِذْ فُعِلَ بِهِ نَظِير مَا فَعَلَ، فَأَنْتُمْ تَقْتُلُونَهُ، وَذَلِكَ زِيَادَة عَلَى مَا فَعَلَ، فَأَيْنَ الْمُمَاثَلَة؟ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِض بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، فَإِنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ فِي الْعُنُق وَلَمْ يُوجِبهُ، كَانَ لَنَا أَنْ نَضْرِبهُ، ثَانِيَة وَثَالِثَة، حَتَّى يُوجِبهُ اِتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّل إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبَة وَاحِدَة.
وَاعْتِبَار الْمُمَاثَلَة لَهُ طَرِيقَانِ:
إِحْدَاهُمَا: اِعْتِبَار الشَّيْء بِنَظِيرِهِ وَمِثْله. وَهُوَ قِيَاس الْعِلَّة الَّذِي يَلْحَق فِيهِ الشَّيْء بِنَظِيرِهِ.
وَالثَّانِي: قِيَاس الدَّلَالَة الَّذِي يَكُون الْجَمْع فِيهِ بَيْن الْأَصْل وَالْفَرْع، بِدَلِيلِ الْعِلَّة وَلَازِمهَا، فَإِنْ اِنْضَافَ إِلَى وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ عُمُوم لَفْظِيّ: كَانَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّة، لِاجْتِمَاعِ الْعُمُومَيْن: اللَّفْظِيّ وَالْمَعْنَوِيّ، وَتَضَافُر الدَّلِيلَيْنِ: السَّمْعِيّ وَالِاعْتِبَارِيّ.
فَيَكُون مُوجِب الْكِتَاب وَالْمِيزَان، وَالْقِصَاص فِي مَسْأَلَتنَا: هُوَ مِنْ هَذَا الْبَاب كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيره، وَهَذَا وَاضِح لَا خَفَاء بِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة
وانظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 53) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 12149) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 5 / ص 130) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 38) والقواعد لابن رجب - (ج 1 / ص 455) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 351).(1/298)
فَهَذَا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْلِكَ شَرِيكُهُ عِتْقَ نَصِيبِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ لِيُكْمِلَ الْحُرِّيَّةَ فِي الْعَبْدِ قَدْرَ عِوَضِهِ بِأَنْ يُقَوِّمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ؛ وَيُعْطِي قِسْطَهُ مِنْ الْقِسْمَةِ؛ فَإِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد؛ وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: كَلُّ مَا لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذَلِكَ؛ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَلَا يُمْكِنُ إعْطَاؤُهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِ الْجَمِيعِ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخْرَاجَ الشَّيْءِ مِنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ لِحَاجَةِ الشَّرِيكِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ: فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ النَّصِيبِ؟ مِثْلَ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَقْوِيمُ الْجَمِيعِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَنْزِعَ النِّصْفَ الْمَشْفُوعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لَا بِزِيَادَةِ؛ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ لَا بِزِيَادَةِ؛ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ التَّكْمِيلِ لِوَاحِدِ: فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِلشَّرِيكِ بِمَا شَاءَ؟ بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الشَّرِيكِ زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نَوْعِ التَّوْلِيَةِ؛ فَإِنَّ التَّوْلِيَةَ: أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ السِّلْعَةَ لِغَيْرِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ (1)؛ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الشَّرِيكِ إلَّا بِمَا شَاءَ؛ إذْ لَا حَاجَةَ بِذَاكَ إلَى شِرَائِهِ كَحَاجَةِ الشَّرِيكِ.
__________
(1) - 1 - التّولية لغة مصدر: ولّى، يقال: ولّيت فلاناً الأمر جعلته واليا عليه، ويقال: ولّيته البلد، وعلى البلد.
وولّيت على الصّبيّ والمرأة أي جعلت واليا عليهما.
وفي الاصطلاح تطلق التّولية بإطلاقين: أحدهما: موافق للمعنى اللّغويّ.
وثانيهما: تطلق على التّولية في البيع وهي: أن يشتري الرّجل سلعة بثمن معلوم، ثمّ يبيع تلك السّلعة لرجل آخر بالثّمن الّذي اشتراها به فإن قال: ولّيتك إيّاها لم يجز أن يبيعه إيّاها بأكثر ممّا اشتراها أو بأقلّ، لأنّ لفظ التّولية يقتضي دفعها إليه بمثل ما اشتراها به. =(1/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وعرّفها الشّيخ عميرة من الشّافعيّة: بأنّها نقل جميع المبيع إلى المولى بمثل الثّمن المثليّ أو عين المتقوّم «القيميّ» بلفظ ولّيتك أو ما يقوم مقامه.
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الإشراك»
2 - الإشراك لغة: جعل الغير شريكا، واصطلاحا: نقل بعض المبيع إلى الغير بمثل الثّمن الأوّل - أي بمثل ثمن البعض بحصّته من الثّمن كلّه -.
«ب - المرابحة»
3 - المرابحة لغة: الزّيادة.
واصطلاحاً: نقل كلّ المبيع إلى الغير بزيادة على مثل الثّمن الأوّل.
«ج - المحاطّة»
4 - المحاطّة لغة: النّقص.
واصطلاحاً: نقل كلّ المبيع إلى الغير بنقص عن مثل الثّمن الأوّل.
والفرق واضح بين هذه الألفاظ وبين بيع التّولية وجميعها من بيوع الأمانة.
«ثانياً: التّولية في البيع»
الحكم التّكليفيّ
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ بيع التّولية جائز شرعاً، لأنّ شرائط البيع مجتمعة فيه، وتترتّب عليه جميع أحكامه كتجدّد شفعة عفا عنها الشّفيع في العقد الأوّل، وبقاء الزّوائد للمولي - بكسر اللّام - وغير ذلك، لأنّه تمليك جديد، ولتعامل النّاس به إلى يومنا هذا، ولأنّ من لا يهتدي إلى التّجارة يحتاج أن يعتمد على فعل الذّكيّ المهتدي فيها، «ولمّا أراد عليه الصلاة والسلام الهجرة وابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، قال عليه الصلاة والسلام ولّني أحدهما، فقال له هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا بغير شيء فلا»، فوجب القول بجوازها.
«ما تصحّ فيه التّولية»
12 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والدّردير من المالكيّة إلى عدم جواز التّولية في بيع المنقول الّذي لم يقبض وجعلوه كالبيع المستقلّ.
وقال المالكيّة: تجوز التّولية في الطّعام قبل قبضه، لما روي عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
أنّه قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه ويستوفيه، إلا أن يشرك فيه أو يولّيه أو يقيله».
وشرطها قبل قبضه: استواء العقدين في قدر الثّمن وأجله أو حلوله وكون الثّمن عينا.
أمّا عند الحنابلة فتجوز التّولية في المبيع المعيّن قبل القبض فيما عدا المكيل والموزون ونحوهما ممّا يحتاج في قبضه إلى كيل أو وزن.
«ما يشترط في بيع التّولية»
13 - أ - اشترط الجمهور في بيع التّولية أن يكون الثّمن في البيع الأوّل معلوما للمشتري الثّاني لأنّ العلم بالثّمن شرط في صحّة البيع، ولأنّ بيع التّولية يعتمد على أساس الثّمن الأوّل، فإذا لم يعلم الثّمن الأوّل فالبيع فاسد إلّا أن يعلم في المجلس ويرضى به، فلو لم يعلم حتّى افترق العاقدان عن المجلس بطل العقد لتقرّر الفساد.
14 - وقال المالكيّة: إنّ من اشترى سلعة ثمّ ولّاها لشخص بما اشتراها به، ولم يذكرها له ولا ثمنها أو ذكر له أحدهما، فإنّ ذلك جائز إذا كان على غير وجه الإلزام، وله الخيار إذا رأى وعلم الثّمن، وسواء كان الثّمن عينا، أو عرضا، أو حيواناً.
وإن علم حين التّولية بأحد العوضين - الثّمن أو المثمّن - دون الآخر ثمّ علم بالآخر فكره البيع فله الخيار، لأنّ التّولية من المعروف تلزم المولي - بالكسر - ولا تلزم المولى - بالفتح - إلا بعد علمه بالثّمن والمثمّن.
15 - ب - اشترط المالكيّة أن يكون الثّمن معيّنا إن كانت التّولية في الطّعام قبل قبضه.
وأمّا فيه بعد القبض أو في غير الطّعام مطلقا فتجوز وإن كان الثّمن غير معيّن. =(1/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= 16 - ج - يشترط أن يكون الثّمن من المثليّات كالمكيلات، والموزونات، والعدديّات المتقاربة، سواء تمّ العقد مع البائع الأوّل أو مع غيره، فإن كان الثّمن ممّا لا مثل له كالعرض، فلا يجوز التّولية ممّن ليس العرض في ملكه، لأنّ التّولية بيع بمثل الثّمن الأوّل، فإذا لم يكن الثّمن الأوّل من جنسه كالذّرعيّات، والمعدودات المتفاوتة، فإمّا أن يقع البيع على عين ذلك العرض، وإمّا أن يقع على قيمته، وعينه ليست في ملكه، وقيمته مجهولة تعرف بالحزر والظّنّ لاختلاف أهل التّقويم فيه، ولكن يجوز بيعه تولية ممّن العرض نفسه في ملكه ويده.
17 - د - واشترط الحنفيّة أن لا يكون البيع صرفا حتّى لو باع دنانير بدراهم لا تجوز فيه التّولية، لأنّهما في الذّمّة فلا يتصوّر فيه التّولية، والمقبوض غير ما وجب بالعقد.
«حكم الخيانة في بيع التّولية»
إذا ظهرت الخيانة في التّولية بإقرار البائع، أو بالبيّنة، أو النّكول عن اليمين، فإمّا أن تظهر في صفة الثّمن أو في قدره:
18 - أ - فإن ظهرت الخيانة في صفة الثّمن: بأن اشترى شيئاً نسيئة ثمّ باعه تولية على الثّمن الأوّل ولم يبيّن أنّه اشتراه نسيئة ثمّ علم المشتري فله الخيار - عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إن شاء أخذ المبيع وإن شاء ردّه، لأنّ التّولية عقد مبنيّ على الأمانة، إذ أنّ المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثّمن الأوّل، فكانت صيانة البيع الثّاني عن الخيانة مشروطة دلالة، فإذا لم يتحقّق الشّرط ثبت الخيار كما في حالة عدم تحقّق سلامة المبيع عن العيب.
وهذا إذا كان المبيع قائما، وأمّا بعد الهلاك أو الاستهلاك فلا خيار له، بل يلزمه جميع الثّمن حالا، لأنّ الرّدّ تعذّر بالهلاك أو غيره فيسقط خياره، وعند أبي يوسف من الحنفيّة أنّه يردّ قيمة الهالك ويستردّ كلّ الثّمن كما قال فيما إذا استوفى عشرة زيوفا مكان عشرة جياد وعلم بعد الإنفاق، يردّ مثل الزّيوف ويرجع بالجياد، وقال أبو جعفر: المختار للفتوى أن يقوّم المبيع بثمن حالّ وثمن مؤجّل فيرجع عليه بفضل ما بينهما للتّعارف، وهذا إذا كان الأجل مشروطا في العقد وكذا إن لم يكن مشروطا فيه ولكن معناه متعارف بينهم أن يؤخذ منه في كلّ جمعة قدر معلوم.
وقال الحنابلة: إن ظهر الثّمن الّذي أخبر به البائع المشتري مؤجّلا وقد كتمه، ثمّ علم المشتري تأجيله أخذ المبيع بالثّمن مؤجّلا بالأجل الّذي اشتراه البائع إليه، ولا خيار للمشتري فلا يملك الفسخ.
وحكى ابن المنذر عن أحمد أنّه إن كان المبيع قائما كان له ذلك إلى الأجل يعني وإن شاء فسخ، وإن كان قد استهلك حبس المشتري الثّمن بقدر الأجل وهذا قول شريح، لأنّه كذلك وقع على البائع فيجب أن يكون للمشتري أخذه بذلك على صفته، كما لو أخبر بزيادة على الثّمن.
19 - ب - وإن ظهرت الخيانة في قدر الثّمن في التّولية بأن قال اشتريت بعشرة، وولّيتك بما تولّيت ثمّ تبيّن أنّه كان اشتراه بتسعة، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة - في الأظهر - والحنابلة إلى أنّه يحطّ قدر الخيانة ولا خيار للمشتري ويلزم العقد بالثّمن الباقي، لأنّ الخيانة في بيع التّولية تخرج العقد عن كونه تولية، لأنّها بيع بالثّمن الأوّل من غير زيادة ولا نقصان، فإذا ظهر النّقصان في الثّمن الأوّل ولو ثبت الخيار للمشتري خرج العقد عن كونه تولية وصار مرابحة، وهذا إنشاء عقد جديد لم يتراضيا عليه وهو لا يجوز فيحطّ قدر الخيانة ويلزمه العقد بالثّمن الباقي.
وقال المالكيّة: إنّ البائع إذا كذب على المشتري بأن زاد في ثمن السّلعة على ما هو في الواقع سواء عمدا أو غير عمد والسّلعة قائمة، فإن حطّ البائع الزّائد فإنّه يلزم المشتري البيع وإن لم يحطّ فإنّ المشتري يخيّر بين أن يردّ السّلعة ويأخذ ثمنه أو يأخذ بجميع الثّمن الّذي وقع به البيع.
وقال محمّد من الحنفيّة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة: للمشتري الثّاني الخيار إن شاء أخذ المبيع بجميع الثّمن وإن شاء ردّه على البائع، لأنّ المشتري لم يرض بلزوم العقد إلّا بالقدر الّذي سمّاه عن الثّمن فلا يلزم بدونه، وثبت له الخيار لفوات السّلامة عن الخيانة كما يثبت الخيار بفوات السّلامة عن العيب إذا وجد المبيع معيبا.
ولو هلك المبيع في يد المشتري الثّاني، أو استهلكه قبل ردّه أو حدث به ما يمنع الرّدّ كعيب مثلا لزمه جميع الثّمن عند الحنابلة، وفي الرّوايات الظّاهرة عند الحنفيّة، لأنّه مجرّد خيار لا يقابله شيء من الثّمن كخيار الرّؤية والشّرط.
وقال محمّد بن الحسن: إنّه يفسخ البيع على القيمة إن كانت أقلّ من الثّمن حتّى يندفع الضّرر عن المشتري بناء على حاصله في مسألة التّحالف بعد هلاك السّلعة، أنّه يفسخ بعد التّحالف دفعا للضّرر عن المشتري ويردّ القيمة ويستردّ الثّمن كذا هاهنا.
وعند المالكيّة، إن فاتت السّلعة خيّر المشتري بين دفع الثّمن الصّحيح أو القيمة ما لم تزد على الكذب.
أمّا عند الشّافعيّة فقد قال النّوويّ: إذا ظهر الحال بعد هلاك المبيع، فقطع الماورديّ بسقوط الزّيادة، قاله في الرّوضة، ونقله صاحب المهذّب والشّاشيّ عن الأصحاب مطلقا.
ثمّ قال النّوويّ: والأصحّ طرد القولين السّقوط وعدمه، فإن قلنا بالسّقوط فلا خيار للمشتري، وإن قلنا بعدم السّقوط فهل للمشتري الفسخ؟ وجهان: أصحّهما: لا، كما لو علم العيب بعد تلف المبيع، لكن يرجع بقدر التّفاوت كما يرجع بأرش العيب، الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 5041)(1/301)
فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى سُكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يَأْوُونَ إلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَكِّنَهُمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ ثِيَابًا يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنْ الْبَرْدِ؛ أَوْ إلَى آلَاتٍ يَطْبُخُونَ بِهَا؛ أَوْ يَبْنُونَ أَوْ يَسْقُونَ: يَبْذُلُ هَذَا مَجَّانًا.
وَإِذَا احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ دَلْوًا يَسْتَقُونَ بِهِ؛ أَوْ قِدْرًا يَطْبُخُونَ فِيهَا؛ أَوْ فَأْسًا يَحْفِرُونَ بِهِ: فَهَلْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا بِزِيَادَةِ؟.
فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا (1)؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (2)، وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ: الدَّلْوُ، وَالْقِدْرُ، وَالْفَأْسُ لا يُسْتَغْنَى عَنْهُ"ْ} (3).
__________
(1) - صحيح مسلم (4614) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ». قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ. = الظهر: الإبل
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 166)
فِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالْإِحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالْأَصْحَاب، وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِح الْأَصْحَاب، وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج، وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ، وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله (فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره) أَيْ: مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته.
وَفِيهِ: مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل، وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة، وَعَلَيْهِ ثِيَاب، أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه، وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.
(2) - إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ; ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر , ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد , مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح , وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة , يؤدي منها الإنسان ما يشاء , ويدع منها ما يشاء. . إنما هو منهج متكامل , تتعاون عباداته وشعائره , وتكاليفه الفردية والاجتماعية , حيث تنتهي كلها إلى غاية تعودكلها على البشر. . غاية تتطهر معها القلوب , وتصلح للحياة , ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء. . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.
ولقد يقول الإنسان بلسانه: إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه. وقد يصلي , وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها , لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها. وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان , ومهما تعبد الإنسان!
إنهم أولئك الذين يصلون، ولكنهم لا يقيمون الصلاة. الذين يؤدون حركات الصلاة، وينطقون بأدعيتها، ولكن قلوبهم لا تعيش معها، ولا تعيش بها، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات. إنهم يصلون رياء الناس لا إخلاصاً لله. ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها. ساهون عنها لم يقيموها. والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها. وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها.
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. فهم يمنعون الماعون. يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية. يمنعون الماعون عن عباد الله. ولو كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله ما منعوا العون عن عباده، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله. .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة، وأمام طبيعة هذا الدين. ونجد نصاً قرآنياً ينذر مصلين بالويل. لأنهم لم يقيموا الصلاة حقاً. إنما أدوا حركات لا روح فيها. ولم يتجردوا لله فيها. إنما أدوها رياء.
ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء. بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء!
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه. .
إنه لا يريد منهم شيئاً لذاته سبحانه فهو الغني إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم. يريد الخير لهم. يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم. يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف، والتكافل الجميل، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك. في فأين تذهب البشرية بعيداً عن هذا الخير؟ وهذه الرحمة؟ وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم؟ أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق؟ ظلال القرآن - (ج 2 / ص 31)
(3) - تفسير مجاهد برقم (2092) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 8 / ص 130) برقم (8917) وهو صحيح(1/302)
وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ بِهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِىَ لِذَلِكَ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِى رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا، فَهِىَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَهِىَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» (1).
وَفِي البخاري عن أبي سَعِيدٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ» قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَتُعْطِى صَدَقَتَهَا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا» (2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2371) ومسلم برقم (2337)
= استنت: جرت وعدت =الطيل: حبل يشد به قائمة الدابة = المرج: الأرض الواسعة ذات نبات كثير تخلى فيه الدواب تسرح مختلطة كيف شاءت =النواء: العداوة
(2) - صحيح البخارى برقم (2633) ومسند أبي عوانة برقم (5798) البحار: هى القرى أو المدن = يترك: ينقصك(1/303)
وَثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - {أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ} (1)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِى أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (2).
وَإِيجَابُ بَذْلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.
وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ: فَهَلْ يُجْبَرُ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مَأْثُورَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ للمانع: وَاَللَّهِ لَنُجْرِيَنَّهَا وَلَوْ عَلَى بَطْنِك (3). وَمَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2284) وأبو داو د برقم (3431)
وفي عون المعبود - (ج 7 / ص 419)
(عَنْ عَسْب الْفَحْل): أَيْ عَنْ كِرَاء ضِرَابه وَأُجْرَة مَائِهِ، نَهَى عَنْهُ لِلْغَرَرِ لِأَنَّ الْفَحْل قَدْ يَضْرِب وَقَدْ لَا يَضْرِب وَقَدْ لَا يُلَقِّح الْأُنْثَى، وَبِهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى تَحْرِيمه. وَأَمَّا الْإِعَارَة فَمَنْدُوب ثُمَّ لَوْ أَكْرَمه الْمُسْتَعِير بِشَيْءٍ جَازَ قَبُول كَرَامَته. قَالَ فِي النِّهَايَة: وَلَمْ يَنْهَ عَنْ وَاحِد مِنْهُمَا وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّهْي عَنْ الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ عَلَيْهِ فَإِنَّ إِعَارَة الْفَحْل مَنْدُوب إِلَيْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث " وَمِنْ حَقّهَا إِطْرَاق فَحْلهَا " وَوَجْه الْحَدِيث أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاء عَسْبِ الْفَحْل فَحَذَفَ الْمُضَاف وَهُوَ كَثِير فِي الْكَلَام، وَقِيلَ يُقَال لِكِرَاءِ الْفَحْل عَسْب وَعَسَبَ الْفَحْل يَعْسِبهُ أَيْ أَكْرَاهُ وَعَسَبْت الرَّجُلَ إِذَا أَعْطَيْته كِرَاء ضِرَاب فَحْله فَلَا يَحْتَاج إِلَى حَذْف مُضَاف، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي فِيهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْإِجَارَة مِنْ تَعْيِين الْعَمَل وَمَعْرِفَة مِقْدَاره.
(2) - صحيح البخارى برقم (2463) ومسلم برقم (4215)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 488)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث، هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْب إِلَى تَمْكِين الْجَار مِنْ وَضْع الْخَشَب عَلَى جِدَار جَاره؟ أَمْ عَلَى الْإِيجَاب؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَاب مَالِك: أَصَحّهمَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ: النَّدْب، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ. وَالثَّانِي: الْإِيجَاب، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث. وَمَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ قَالَ: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنْ الْعَمَل، فَلِهَذَا قَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْب لَا الْإِيجَاب، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
(3) - موطأ مالك برقم (1437) عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِنَ الْعُرَيْضِ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِى أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ. فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ لِمَ تَمْنَعُنِى وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا وَلاَ يَضُرُّكَ. فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّىَ سَبِيلَهُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ لاَ. فَقَالَ عُمَرُ لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ تَسْقِى بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا وَهُوَ لاَ يَضُرُّكَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ لاَ وَاللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ. وهو صحيح مرسل
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 43)
1236 - (ش): قَوْلُهُ إِنَّ الضَّحَّاكَ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ وَهُوَ الْمَاءُ يَخْتَلِجُ مِنْ شَقِّ النَّهْرِ وَالْعَرِيضُ مَوْضِعٌ، أَوْ نَهْرٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ بَيْنَ الْخَلِيجِ وَأَرْضِ الضَّحَّاكِ أَرْضٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُمِرَّهُ فِيهِ فَمَنَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ بِأَنْ قَالَ لَهُ لِمَ تَمْنَعُنِي وَلَك مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّك يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الضَّحَّاكُ أَنْ يُمِرَّهُ فِي أَرْضِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ بِهِ مَتَى شَاءَ وَمِثْلُ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ شُرْبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا مَجْهُولٌ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِيمَنْ أَعْطَى رَجُلًا أَرْضَ حَائِطٍ لَهُ وَتُرَابَهُ عَلَى أَنْ يَبْنِيَهُ الرَّجُلُ بِطُوبِهِ وَنَفَقَتِهِ فَإِذَا تَمَّ الْجِدَارُ حَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ مَا شَاءَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلَا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَا يَمُرُّ فِي أَرْضِك مِنْ الْمِيَاهِ إِنْ كَانَ مَجْرَى الْمَاءِ مُتَّصِلًا بِأَرْضِهِ فَيَصِلُ فِي أَرْضِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ مَجْرًى عَلَى غَيْرِ أَرْضِ مُحَمَّدٍ فَأَرَادَ الضَّحَّاكُ أَنْ يَجْعَلَ مَجْرَاهُ عَلَى أَرْضِ مُحَمَّدٍ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى سَقْيِ أَرْضِهِ فَيَكُونَ مُحَمَّدٌ أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَعْلَى. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ لَهُ مَاءٌ وَرَاءَ أَرْضٍ وَلَهُ أَرْضٌ دُونَ أَرْضٍ فَأَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِي أَرْضٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ، وَقَالَ عَنْهُ أَشْهَبُ كَانَ يُقَالُ يُحْدِثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةً بِقَدْرِ مَا يُحْدِثُونَ مِنْ الْفُجُورِ قَالَ مَالِكٌ وَأَخَذَ بِهَا مَنْ يُوثَقُ بِهِ فَلَوْ كَانَ مُعْتَدِلًا فِي زَمَانِنَا هَذَا كَاعْتِدَالِهِ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَأَيْت أَنْ يُقْضَى لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِك؛ لِأَنَّك تَشْرَبُ مِنْهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا يَضُرُّك وَلَكِنْ فَسَدَ النَّاسُ وَاسْتَحَقُّوا التُّهَمَ فَأَخَافُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ وَيَنْسَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَرْيُ هَذَا الْمَاءِ، وَقَدْ يَدَّعِي جَارُك عَلَيْك بِهِ دَعْوَى فِي أَرْضِك، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ نَحْوَهُ وَرَوَى زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ فَلْيَقْضِ عَلَيْهِ بِمُرُورِهِ فِي أَرْضِهِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْهَبُ إِنْ كَانَتْ أَرْضُك أُحْيِيَتْ بَعْدَ إحْيَاءِ عَيْنِهِ وَأَرْضِهِ كَانَ لَهُ الْمَمَرُّ فِي أَرْضِك وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهُ فِيهَا إِلَى أَرْضِهِ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ أَرْضُك قَبْلَ عَيْنِهِ وَقَبْلَ أَرْضِهِ فَلَيْسَ فِي أَرْضِك مَمَرٌّ إِلَى عَيْنِهِ وَلَا لِعَيْنِهِ مَمَرٌّ فِي أَرْضِك إِلَى أَرْضِهِ. فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ فِعْلُ عُمَرَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلِمَالِكٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْمُخَالَفَةُ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاللَّبَنُ يَتَجَدَّدُ وَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ وَالْأَرْضُ الَّتِي يَمُرُّ فِيهَا بِالسَّاقِيَةِ لَا يُعْتَاضُ مِنْهَا. وَالثَّانِي الْمُوَافَقَةُ لَهُ عَلَى وَجْهٍ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ زَمَنِ مَالِكٍ لِأَهْلِ زَمَنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحُكْمِ إنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَنَّ أَهْلَ زَمَنِهِ قَوِيَتْ فِيهِمْ التُّهْمَةُ بِاسْتِحْلَالِ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَحِلُّهُ أَهْلُ زَمَنِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأَنَّ حُكْمَ ابْنِ الْخَطَّابِ تَمَثَّلَ فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يَعُمُّ أَهْلُهَا وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاحُ وَالدِّينُ وَالتَّحَرُّجُ عَمَّا لَا يَحِلُّ وَأَنَّ الزَّمَنَ الَّذِي يَعُمُّ أَهْلُهُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِحْلَالُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِمْ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ الْأَمْرُ فَيَدَّعِي صَاحِبُ الْمَاءِ الْمَمَرَّ فِي أَرْضِ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِإِمْرَارِهِ فِي أَرْضِهِ فَيَدَّعِي مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَمَرِّ وَيَدَّعِي فِيهَا حُقُوقًا فَيَشْهَدُ لَهُ مَا قَضَى لَهُ بِهِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَاخْتَارَهَا ابْنُ كِنَانَةَ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ إنَّمَا صَارَتْ إِلَيْهِ بِأَنْ أَحْيَاهَا بَعْدَ أَنْ أَحْيَا الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ أَرْضَهُ وَمَلَكَ مَاءَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأَخْذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَحَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيِّ حَكَاهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَالضِّرَارُ إدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى الْجَارِ دُونَ مَنْفَعَةٍ لِمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ الضَّرَرَ وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَلَيْسَ كَمَا أَنْكَرَ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ مِمَّنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ عَلَى مَنْعِهِ ذَلِكَ، وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ لَمَا أَقْسَمَ عَلَى مَنْعِهِ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّنَا ذَكَرْنَا وُجُوهًا مِنْ مُوَافَقَةِ مَالِكٍ لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لَمَّا أَقْسَمَ تَحَكُّمًا عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَفْضَلِ فَقَدْ يُقْسِمُ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فِي مَالِهِ تَحَكُّمًا عَلَيْهِ وَثِقَةً بِأَنَّهُ لَا يُحْنِثُهُ فَيَبِرُّ بِقَسَمِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ أَقْسَمَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَفَّرَ هُوَ عَنْ يَمِينِهِ إكْرَامًا لَهُ وَإِيجَابًا لَا سِيَّمَا إِذَا دَعَاهُ إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَفْضَلُ مِمَّا ذَهَبَ هُوَ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُ عُمَرَ لِابْنِ مَسْلَمَةَ وَاَللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ، وَلَوْ عَلَى بَطْنِك دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ دُونَ الْأَلْفَاظِ فِي الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى بَطْنِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى مَعْنَى التَّحَكُّمِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ لَا يَسْمَحُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَا يُتَحَكَّمُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ، وَلَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يُخَالِفُ حُكْمِي عَلَيْك بِمَا أَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ وَحَارَبْتَ وَأَدَّتْ الْمُحَارَبَةُ إِلَى مَالِكٍ وَإِجْرَائِهِ عَلَى بَطْنِك لَفَعَلْتُ ذَلِكَ فِي نُصْرَةِ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.(1/304)
عَارِيَتُهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْمَنَافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُهَا نَوْعَانِ: مِنْهَا مَا هُوَ حَقُّ الْمَالِ؛ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَعَارِيَةِ الْحُلِيِّ. وَمِنْهَا مَا يَجِبُ لِحَاجَةِ النَّاسِ (1).
__________
(1) - قلت قد ورد عن الشعبي مصنف ابن أبي شيبة برقم (10184) وإسناده صحيح
وعن عَنِ ابْنِ عُمَرَ السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 140) برقم (7801) وهو صحيح
وعن الحسن الأموال للقاسم بن سلام برقم (941) وهو صحيح
وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 353)
111 - 111 - (فَصْلٌ) فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى السُّكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ، وَلَا يَجِدُونَ سِوَاهُ، أَوْ النُّزُولِ فِي خَانٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ اسْتِعَارَةِ ثِيَابٍ يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا، أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ، أَوْ دَلْوٍ لِنَزْعِ الْمَاءِ، أَوْ قِدْرٍ، أَوْ فَأْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بَذْلُهُ بِلَا نِزَاعٍ، لَكِنْ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ. =(1/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ ذَلِكَ مَجَّانًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ: " هُوَ إعَارَةُ الْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْفَأْسِ وَنَحْوِهِمْ ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ الْخَيْلَ - قَالَ: {هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَلَا فِي ظُهُورِهَا}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَيْضًا: {مِنْ حَقِّ الْإِبِلِ: إعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ: {أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ} أَيْ عَنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، فَأَوْجَبَ بَذْلَهُ مَجَّانًا، وَمَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ}.
وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؟
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْإِجْبَارُ: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: " إنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ، فَإِذَا لَمْ يُعِرْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ زَكَاتِهِ "، وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
قُلْتُ: وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْحُلِيُّ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ.
وَالْمَنَافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُهَا نَوْعَانِ، مِنْهَا: مَا هُوَ حَقُّ الْمَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْحُلِيِّ، وَمِنْهَا: مَا يَجِبُ لِحَاجَةِ النَّاسِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَذْلَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ تَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَإِفْتَاءِ النَّاسِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَبْدَانِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَمْكَنَهُ إنْجَاءُ إنْسَانٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - أَثِمَ وَضَمِنَهُ.
فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ بَذْلِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ لِلْمُحْتَاجِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَقَالَ: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ أَخَذَهُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لَمْ يَأْخُذْهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا قَدَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الثَّمَنِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ: هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ، حَاجَةً عَامَّةً، فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ.
فَأَمَّا الْحُقُوقُ: فَمِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا الْحُدُودُ: فَمِثْلُ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ.
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ، لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتَقِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فِيهَا الثَّمَنُ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَا شَاءَ، وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ وَالثِّيَابَ لِأَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ عِنْدَهُ سِلَعٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا أَنْ يَبِيعَ بِمَا شَاءَ: كَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ: وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ.
وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ: أَنْ يَبْذُلَهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ تَسْعِيرِ الطَّعَامِ، إذَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي: أَمَرَ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ مِنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ، عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ، وَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ، زَجْرًا لَهُ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ.
قَالُوا: فَإِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ، وَتَجَاوَزُوا الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ: سَعَّرَهُ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ، حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ.
وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ: صَحَّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ مَالِ الدَّيْنِ، وَقِيلَ: يَبِيعُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَالسِّعْرُ لَمَّا غَلَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَطَلَبُوا مِنْهُ التَّسْعِيرَ فَامْتَنَعَ، لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ، بَلْ عَامَّةُ مَنْ كَانَ يَبِيعُ الطَّعَامَ إنَّمَا هُمْ جَالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذَا هَبَطُوا السُّوقَ، وَلَكِنْ {نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ} أَيْ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارٌ.
وَقَالَ: {دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ} فَنَهَى الْحَاضِرَ الْعَالَمَ بِالسِّعْرِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَادِي الْجَالِبِ لِلسِّلْعَةِ، لِأَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ لَهُ - مَعَ خِبْرَتِهِ بِحَاجَةِ النَّاسِ - أَغْلَى الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَنَهَاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ، مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْوَكَالَةِ مُبَاحٌ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ، وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ، وَجَعَلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ السُّوقَ الْخِيَارَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضُرِّ الْبَائِعِ هُنَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَ السِّعْرَ، وَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي قَبْلَ إتْيَانِهِ إلَى السُّوقِ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَغَبَنَهُ، فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِهَذَا الْبَائِعِ الْخِيَارَ.
ثُمَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لَهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ غَبَنَ أَمْ لَمْ يَغْبِنْ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ عِنْدَ الْغَبْنِ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي، فَاشْتَرَى مِنْهُ، ثُمَّ بَاعَهُ وَفِي الْجُمْلَةِ: فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ، حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسِّعْرِ، وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَيَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ.
وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ، وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ، كَمَا يَقُولُ: فَلَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَائِعِ الْحَاضِرِ وَغَيْرِ الْحَاضِرِ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ.
وَأَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِ الْجَاهِلِ بِالسِّعْرِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ: أَلَّا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسِّعْرِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِنْهُ، لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ، أَوْ غَيْرَ مُمَاكِسِينَ، وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا، وَالرِّضَا يَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضَى، وَقَدْ لَا يَرْضَى، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَبْنٌ وَرَضِيَ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَفِي " السُّنَنِ ": {أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، وَكَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ يَتَضَرَّرُ بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَدَلَهَا، أَوْ يَتَبَرَّعَ لَهُ بِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَذِنَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَهَا، وَقَالَ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ: إنَّمَا أَنْتَ مُضَارٌّ}.
وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ شَجَرَتَهُ، وَلَا يَتَبَرَّعُ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَهَا، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِجْبَارٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا أَنْ يَبِيعَهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِخَلَاصِهِ مِنْ تَأَذِّيه بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ، وَمَصْلَحَةِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ يَسِيرٌ، فَضَرَرُ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِبَقَائِهَا فِي بُسْتَانِهِ أَعْظَمُ، فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَيْسَرِهِمَا، فَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ وَالْقِيَاسُ وَالْمَصْلَحَةُ، وَإِنْ أَبَاهُ مَنْ أَبَاهُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَاجَةِ عُمُومِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ؟ وَالْحُكْمُ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهَا - كَمَنَافِعِ الدُّورِ، وَالطَّحْنِ، وَالْخَبْزِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ.
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ إذَا لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ.
سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَإِذَا انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُمْ وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ: لَمْ يَفْعَلْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وانظر المجموع شرح المهذب - (ج 6 / ص 35).(1/306)
وَأَيْضًا فَإِنَّ بَذْلَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجِبُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ؛ وَإِفْتَاءُ النَّاسِ؛ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ؛ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَالْجِهَادُ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَبْدَانِ؛(1/307)
فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} (282) سورة البقرة، وَقَالَ: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (282) سورة البقرة،.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ (1)؛ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ:
(أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا.
وَ (الثَّانِي لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَ (الثَّالِثُ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَ (الرَّابِعُ يَجُوزُ. فَإِنْ أَخَذَ أَجْرًا عِنْدَ الْعَمَلِ لَمْ يَأْخُذْ عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِثَمَنِ مُقَدَّرٍ: إمَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَإِمَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ: لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا تَقْدِيرُ الثَّمَنِ. ثُمَّ إنَّ مَا قَدَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِرَاءِ نَصِيبِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ؛ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ، وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ حَاجَةً عَامَّةً فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ حُقُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودًا لِلَّهِ؛ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُدُودِهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ؛ وَالصَّدَقَاتِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) وَمِثْلِ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْتُلُ شَخْصًا لِأَجْلِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الْعَفُوُّ عَنْهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْتُلُ شَخْصًا لِغَرَضِ خَاصٍّ؛ مِثْلَ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ (3).
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ: لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ؛ فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ؛ لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ؛ فَلَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا الثَّمَنَ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا شَاءَ، وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ شِرَاءُ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى سِلْعَتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِمَا شَاءَ لَكَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ (4): إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ كَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ، وَأَبْعَدُ
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 40) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 354)
(2) - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 50) 1574 ـ التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل واجب) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 40) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 354)
(3) - قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (92) سورة النساء
(4) - المجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 41) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 355)(1/308)
الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ. وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ التَّسْعِيرِ لِلنَّاسِ إذَا كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ (1): لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي أَمْرُ الْمُحْتَكِرِ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ فَإِنْ رُفِعَ التَّاجِرُ فِيهِ إلَيْهِ ثَانِيًا حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ زَجْرًا لَهُ أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَعَدَّوْنَ وَيَتَجَاوَزُونَ الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ: سَعَّرَ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ. وَإِذَا تَعَدَّى أَحَدٌ بَعْدَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ. وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؟ قِيلَ: هُوَ [عَلَى] الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ. وَقِيلَ: يَبِيعُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ. وَالسِّعْرُ لَمَّا غَلَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَطَلَبُوا مِنْهُ التَّسْعِيرَ فَامْتَنَعَ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ؛ بَلْ عَامَّةُ مَنْ كَانُوا يَبِيعُونَ الطَّعَامَ إنَّمَا هُمْ جَالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذَا هَبَطُوا السُّوقَ؛ لَكِنْ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ: نَهَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارٌ (2)، وَقَالَ: «لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» (3). وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، فَنَهَى الْحَاضِرَ الْعَالِمَ بِالسِّعْرِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَادِي الْجَالِبِ لِلسِّلْعَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ لَهُ مَعَ خِبْرَتِهِ بِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَغْلَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ فَنَهَاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ - مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْوِكَالَةِ مُبَاحٌ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ. وَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4089) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 41) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 355)
(2) - صحيح البخارى برقم (2158) ومسلم برقم (3900)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 309)
هَذِهِ الْأَحَادِيث تَتَضَمَّن تَحْرِيم بَيْع الْحَاضِر لِلْبَادِي، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ. قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَقْدَم غَرِيب مِنْ الْبَادِيَة أَوْ مِنْ بَلَد آخَر بِمَتَاعٍ تَعُمّ الْحَاجَة إِلَيْهِ لِيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمه، فَيَقُول لَهُ الْبَلَدِيّ: اُتْرُكْهُ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ عَلَى التَّدْرِيج بِأَعْلَى. قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا يَحْرُم بِهَذِهِ الشُّرُوط وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُون عَالِمًا بِالنَّهْيِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَم النَّهْي أَوْ كَانَ الْمَتَاع مِمَّا لَا يَحْتَاج فِي الْبَلَد وَلَا يُؤْثِر فِيهِ لِقِلَّةِ ذَلِكَ الْمَجْلُوب لَمْ يَحْرُم وَلَوْ خَالَفَ وَبَاعَ الْحَاضِر لِلْبَادِي صَحَّ الْبَيْع مَعَ التَّحْرِيم. هَذَا مَذْهَبنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْمَالِكِيَّة وَغَيْرهمْ. وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة: يَفْسَخ الْبَيْع مَا لَمْ يَفُتْ. وَقَالَ عَطَاء وَمُجَاهِد وَأَبُو حَنِيفَة: يَجُوز بَيْع الْحَاضِر الْبَادِي مُطْلَقًا لِحَدِيثِ " الدِّين النَّصِيحَة " قَالُوا: وَحَدِيث النَّهْي عَنْ بَيْع الْحَاضِر لِلْبَادِي مَنْسُوخ. وَقَالَ بَعْضهمْ: إِنَّهُ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
(3) - صحيح مسلم برقم (3902)(1/309)
فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ (1)، وَجُعِلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ الْخِيَارُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْبَائِعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَغَبْنِهِ فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْخِيَارَ لِهَذَا الْبَائِعِ. وَهَلْ هَذَا الْخِيَارُ فِيهِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا أَوْ إذَا غَبَنَ؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد. أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا غَبَنَ.
وَالثَّانِي يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسِّعْرِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ. وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ كَمَا يَقُولُ: وَلِلْبَادِي أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاضِرَ. وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَأَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ؛ وَلِهَذَا أَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ. وَالْمُسْتَرْسِلُ: الَّذِي لَا يُمَاكِسُ وَالْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِينَ الْجَاهِلِينَ بِالسِّعْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسِّعْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْبَائِعِ؛ لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ أَوْ مُسْلِمِينَ إلَى الْبَائِعِ غَيْرَ مماكسين لَهُ وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا، وَالرِّضَا يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا يَرْضَى، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَبَنَ وَرَضِيَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى سَخَطِهِ. وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْخِيَارَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ أَوْ التَّدْلِيسِ (2)؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الصِّحَّةُ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاطِنَ كَالظَّاهِرِ. فَإِذَا اشْتَرَى عَلَى ذَلِكَ فَمَا عَرَفَ رِضَاهُ إلَّا بِذَلِكَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3894) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ الأَسْوَاقَ. وفي رواية إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ التَّلَقِّى.
وفي سنن أبى داود برقم (3439) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ تَلَقِّى الْجَلَبِ فَإِنْ تَلَقَّاهُ مُتَلَقٍّ مُشْتَرٍ فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ إِذَا وَرَدَتِ السُّوقَ. وهو صحيح
قَالَ أَبُو عَلِىٍّ سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ قَالَ سُفْيَانُ لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ عِنْدِى خَيْرًا مِنْهُ بِعَشْرَةٍ.
جلب: ما يجلب للبيع أى شىء كان
وفي عون المعبود - (ج 7 / ص 424)
(فَصَاحِب السِّلْعَة بِالْخِيَارِ): هَذَا يَدُلّ عَلَى اِنْعِقَاد الْبَيْع وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْعَقِد. وَقَدْ قَالَ بِالْفَسَادِ الْمُرَادِف لِلْبُطْلَانِ بَعْض الْمَالِكِيَّة وَبَعْض الْحَنَابِلَة وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُت لَهُ الْخِيَار مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَقَع لَهُ فِي الْبَيْع غَبْن ذَهَبَتْ الْحَنَابِلَة إِلَى الْأَوَّل وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْد الشَّافِعِيَّة وَهُوَ الظَّاهِر.
(2) - وهو ما يسمى بخيار العيب انظر فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 89) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 410) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5836) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3230) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3893) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6906) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6993 - 7032) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 614)(1/310)
فِي السِّلْعَةِ غِشًّا أَوْ عَيْبًا فَهُوَ كَمَا لَوْ وَصَفَهَا بِصِفَةِ وَتَبَيَّنَتْ بِخِلَافِهَا فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا يَرْضَى فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَسَخَ الْبَيْعَ.
وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (1).
وَفِي السُّنَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَضُدٌ مِنْ نَخْلٍ فِى حَائِطِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ وَمَعَ الرَّجُلِ أَهْلُهُ قَالَ فَكَانَ سَمُرَةُ يَدْخُلُ إِلَى نَخْلِهِ فَيَتَأَذَّى بِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ فَأَبَى فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَاقِلَهُ فَأَبَى فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَهُ فَأَبَى فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَاقِلَهُ فَأَبَى. قَالَ «فَهَبْهُ لَهُ وَلَكَ كَذَا وَكَذَا». أَمْرًا رَغَّبَهُ فِيهِ فَأَبَى فَقَالَ «أَنْتَ مُضَارٌّ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلأَنْصَارِىِّ «اذْهَبْ فَاقْلَعْ نَخْلَهُ» (2).
فَهُنَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا أَنْ يَبِيعَهَا؛ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَأَيْنَ حَاجَةُ هَذَا مِنْ حَاجَةِ عُمُومِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ؟ وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْجُرُونَ فِي الطَّعَامِ بِالطَّحْنِ وَالْخُبْزِ. وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ صَاحِبُ الْخَانِ والقيسارية وَالْحَمَّامُ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا فَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ إدْخَالِ النَّاسِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَهُمْ يَحْتَاجُونَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَأُلْزِمَ بِبَذْلِ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ كَمَا يُلْزَمُ الَّذِي يَشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَطْحَنُهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا وَاَلَّذِي يَشْتَرِي الدَّقِيقَ وَيَخْبِزُهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى مَا عِنْدَهُ؛ بَلْ إلْزَامُهُ بِبَيْعِ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى، بَلْ إذَا امْتَنَعَ مِنْ صَنْعَةِ الْخُبْزِ وَالطَّحْنِ حَتَّى يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ أُلْزِمَ بِصَنْعَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ تَنْدَفِعُ إذَا عَمِلُوا مَا يَكْفِي النَّاسَ بِحَيْثُ يَشْتَرِي إذْ ذَاكَ بِالثَّمَنِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَسْعِيرٍ.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2110) ومسلم برقم (3937)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 431)
قَوْله: (فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا) أَيْ صَدَقَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِ الْمُشْتَرَى مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ فِي السِّلْعَة، وَصَدَقَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْب إِنْ كَانَ فِي الثَّمَن، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا تَأْكِيدٌ لِلْآخَرِ.
قَوْله: (مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ شُؤْمَ التَّدْلِيس وَالْكَذِب وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعَقْد فَمَحَقَ بَرَكَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِقُ مَأْجُورًا وَالْكَاذِبُ مَأْزُورًا. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّدْلِيسُ، وَالْعَيْبُ دُونَ الْآخَرِ، وَرَجَّحَهُ اِبْن أَبِي جَمْرَة. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الصِّدْقِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ وَذَمُّ الْكَذِبِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِذَهَابِ الْبَرَكَةِ، وَأَنَّ عَمَل الْآخِرَةِ يُحَصِّلُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(2) - سنن أبى داود برقم (3638) وفيه ضعف
شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 26 / ص 195) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 19 / ص 208) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 15 / ص 188) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 42) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 357) وشرح ميارة - (ج 4 / ص 2)(1/311)
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ الْعَادِلِ سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ؛ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.(1/312)
الفصلُ الثالثُ
[الغشُّ في الدياناتِ - الاحتسابُ في الجوانبِ العقديةِ والفكريةِ]
فَأَمَّا الْغِشُّ وَالتَّدْلِيسُ فِي " الدِّيَانَاتِ " (فتمنع) فَمِثْلُ الْبِدَعِ (1) الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ (2): مِثْلَ إظْهَارِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ (3).
__________
(1) - وفي صحيح مسلم برقم (2042) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ». وَيَقُولُ «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 247)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة) هَذَا عَامّ مَخْصُوص، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع. قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق. قَالَ الْعُلَمَاء: الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام: وَاجِبَة، وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة، وَمَكْرُوهَة، وَمُبَاحَة. فَمِنْ الْوَاجِبَة: نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْه ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَنْدُوبَة: تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم، وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِنْ الْمُبَاح: التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ. وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ. وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا الْمَبْسُوطَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات، فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْته عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص. وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة، وَيُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي التَّرَاوِيح: نِعْمَتْ الْبِدْعَة، وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا. قَوْله: (كُلّ بِدْعَة) مُؤَكَّدًا (بِكُلِّ)، بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّر كُلّ شَيْء}.
(2) - ففي مسند أحمد برقم (17608) عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ قُلْنَا أَوْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِى اخْتِلاَفاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» وهو صحيح.
النواجذ: جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 1 / ص 35)
قَوْله (وَالْأُمُور الْمُحْدَثَات) قِيلَ أُرِيد بِهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الدِّين وَأَمَّا الْأُمُور الْمُوَافِقَة لِأُصُولِ الدِّين فَغَيْر دَاخِلَة فِيهَا وَإِنْ أُحْدِثَتْ بَعْده - صلى الله عليه وسلم - قُلْت هُوَ الْمُوَافِق لِقَوْلِهِ وَسُنَّة الْخُلَفَاء فَلْيَتَأَمَّلْ.
(3) - قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (35) سورة الأنفال
وفي أحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 364)
قِيلَ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطِيَّةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ التَّصْدِيَةَ صَدُّهُمْ عَنْ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
وَسُمِّيَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ صَلَاةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّفِيرَ وَالتَّصْفِيقَ مَقَامَ الدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ.
وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِمْ.
وانظر فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4935) سؤال رقم 5000 - حكم الموسيقى والغناء والر قص وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3442) فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 9405) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2100) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 3 / ص 485) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 15 / ص 143) ومجلة المنار - (ج 1 / ص 93) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 225) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 219) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 751)(1/313)
وَمِثْلَ سَبِّ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ (1) وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ (2) أَوْ سَبِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ: الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِ (3). وَمِثْلَ التَّكْذِيبِ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ (4). وَمِثْلَ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُفْتَرَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. (5)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (6651) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِى فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 321)
اعْلَمْ أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ حَرَام مِنْ فَوَاحِش الْمُحَرَّمَات، سَوَاء مَنْ لَابَسَ الْفِتَن مِنْهُمْ وَغَيْره؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي تِلْكَ الْحُرُوب، مُتَأَوِّلُونَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّل فَضَائِل الصَّحَابَة مِنْ هَذَا الشَّرْح. قَالَ الْقَاضِي: وَسَبُّ أَحَدهمْ مِنْ الْمَعَاصِي الْكَبَائِر، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ يُعَزَّر، وَلَا يُقْتَل. وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة: يُقْتَل.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه)
قَالَ أَهْل اللُّغَة: النَّصِيف النِّصْف، وَفِيهِ أَرْبَع لُغَات: نِصْف بِكَسْرِ النُّون، وَنُصْف بِضَمِّهَا، وَنَصْف بِفَتْحِهَا، وَنَصِيف بِزِيَادَةِ الْيَاء، حَكَاهُنَّ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق عَنْ الْخَطَّابِيِّ، وَمَعْنَاهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابه فِي ذَلِكَ ثَوَاب نَفَقَة أَحَد أَصْحَابِي مُدًّا، وَلَا نِصْف مُدّ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُؤَيِّد هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّل بَاب فَضَائِل الصَّحَابَة عَنْ الْجُمْهُور مِنْ تَفْضِيل الصَّحَابَة كُلّهمْ عَلَى جَمِيع مَنْ بَعْدهمْ. وَسَبَب تَفْضِيل نَفَقَتهمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْت الضَّرُورَة وَضِيق الْحَال، بِخِلَافِ غَيْرهمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقهمْ كَانَ فِي نُصْرَته - صلى الله عليه وسلم - وَحِمَايَته، وَذَلِكَ مَعْدُوم بَعْده، وَكَذَا جِهَادهمْ وَسَائِر طَاعَتهمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْل الْفَتْح وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَم دَرَجَة} الْآيَة، هَذَا كُلّه مَعَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسهمْ مِنْ الشَّفَقَة وَالتَّوَدُّد وَالْخُشُوع وَالتَّوَاضُع وَالْإِيثَار وَالْجِهَاد فِي اللَّه حَقَّ جِهَاده، وَفَضِيلَة الصُّحْبَة، وَلَوْ لَحْظَة لَا يُوَازِيهَا عَمَل، وَلَا تُنَال دَرَجَتهَا بِشَيْءٍ، وَالْفَضَائِل لَا تُؤْخَذ بِقِيَاسٍ، ذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء، قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ أَصْحَاب الْحَدِيث مَنْ يَقُول: هَذِهِ الْفَضِيلَة مُخْتَصَّة بِمَنْ طَالَتْ صُحْبَته، وَقَاتَلَ مَعَهُ، وَأَنْفَقَ وَهَاجَرَ وَنَصَرَ، لَا لِمَنْ رَآهُ مَرَّة كَوُفُودِ الْأَعْرَاب أَوْ صَحِبَهُ آخِرًا بَعْد الْفَتْح، وَبَعْد إِعْزَاز الدِّين مِمَّنْ لَمْ يُوجَد لَهُ هِجْرَة، وَلَا أَثَر فِي الدِّين وَمَنْفَعَة الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَالصَّحِيح هُوَ الْأَوَّل، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
(2) - صحيح البخارى برقم (48) عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 77) قَوْله: (فُسُوق) الْفِسْق فِي اللُّغَة الْخُرُوج، وَفِي الشَّرْع: الْخُرُوج عَنْ طَاعَة اللَّه وَرَسُوله، وَهُوَ فِي عُرْف الشَّرْع أَشَدّ مِنْ الْعِصْيَان، قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْر وَالْفُسُوق وَالْعِصْيَان)، فَفِي الْحَدِيث تَعْظِيم حَقّ الْمُسْلِم وَالْحُكْم عَلَى مَنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ حَقّ بِالْفِسْقِ، وَمُقْتَضَاهُ الرَّدّ عَلَى الْمُرْجِئَة. وَعُرِفَ مِنْ هَذَا مُطَابَقَة جَوَاب أَبِي وَائِل لِلسُّؤَالِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْف تَكُون مَقَالَتهمْ حَقًّا وَالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول هَذَا. .
قَوْله: (وَقِتَاله كُفْر) إِنْ قِيلَ: هَذَا وَإِنْ تَضَمَّنَ الرَّدّ عَلَى الْمُرْجِئَة لَكِنَّ ظَاهِره يُقَوِّي مَذْهَب الْخَوَارِج الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي. فَالْجَوَاب: إِنَّ الْمُبَالَغَة فِي الرَّدّ عَلَى الْمُبْتَدِع اِقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا مُتَمَسَّك لِلْخَوَارِجِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِره غَيْر مُرَاد، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقِتَال أَشَدّ مِنْ السِّبَاب - لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى إِزْهَاق الرُّوح - عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ أَشَدّ مِنْ لَفْظ الْفِسْق وَهُوَ الْكُفْر، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَة الْكُفْر الَّتِي هِيَ الْخُرُوج عَنْ الْمِلَّة، بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْر مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير، مُعْتَمِدًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْقَوَاعِد أَنَّ مِثْل ذَلِكَ لَا يُخْرِج عَنْ الْمِلَّةَ، مِثْل حَدِيث الشَّفَاعَة، وَمِثْل قَوْله تَعَالَى (إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرِك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء)، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَاب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْر الْجَاهِلِيَّة. أَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْر لِشَبَهِهِ بِهِ؛ لِأَنَّ قِتَال الْمُؤْمِن مِنْ شَأْن الْكَافِر. وَقِيلَ: الْمُرَاد هُنَا الْكُفْر اللُّغَوِيّ وَهُوَ التَّغْطِيَة؛ لِأَنَّ حَقّ الْمُسْلِم عَلَى الْمُسْلِم أَنْ يُعِينهُ وَيَنْصُرهُ وَيَكُفّ عَنْهُ أَذَاهُ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ كَانَ كَأَنَّهُ غَطَّى عَلَى هَذَا الْحَقّ، وَالْأَوَّلَانِ أَلْيَق بِمُرَادِ الْمُصَنِّف وَأَوْلَى بِالْمَقْصُودِ مِنْ التَّحْذِير مِنْ فِعْل ذَلِكَ وَالزَّجْر عَنْهُ بِخِلَافِ الثَّالِث. وَقِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كُفْر أَيْ قَدْ يَئُول هَذَا الْفِعْل بِشُؤْمِهِ إِلَى الْكُفْر، وَهَذَا بَعِيد، وَأَبْعَد مِنْهُ حَمْله عَلَى الْمُسْتَحِلّ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِق التَّرْجَمَة، وَلَوْ كَانَ مُرَادًا لَمْ يَحْصُل التَّفْرِيق بَيْن السِّبَاب وَالْقِتَال، فَإِنَّ مُسْتَحِلّ لَعْن الْمُسْلِم بِغَيْرِ تَأْوِيل يَكْفُر أَيْضًا. ثُمَّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيل. وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّف فِي كِتَاب الْمُحَارِبِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَمِثْل هَذَا الْحَدِيث قَوْله - صلى الله عليه وسلم - " لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِب بَعْضكُمْ رِقَاب بَعْض " فَفِيهِ هَذِهِ =(1/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الْأَجْوِبَة، وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الْفِتَن، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) بَعْد قَوْله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارهمْ) الْآيَة. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْض الْأَعْمَال يُطْلَق عَلَيْهِ الْكُفْر تَغْلِيظًا. وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِم: " لَعْن الْمُسْلِم كَقَتْلِهِ " فَلَا يُخَالِف هَذَا الْحَدِيث؛ لِأَنَّ الْمُشَبَّه بِهِ فَوْق الْمُشَبَّه، وَالْقَدْر الَّذِي اِشْتَرَكَا فِيهِ بُلُوغ الْغَايَة فِي التَّأْثِير: هَذَا فِي الْعَرْض، وَهَذَا فِي النَّفْس. وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَدْ وَرَدَ لِهَذَا الْمَتْن سَبَب ذَكَرْته فِي أَوَّل كِتَاب الْفِتَن فِي أَوَاخِر الصَّحِيح.
(3) - مثل سبِّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما يفعل الرافضة عليهم من الله ما يستحقون
(4) - قلت: الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول مثل أحاديث الصحيحين التي لم تنتقد (وهي قليلة جدا) فالراجح أنها تفيد القطع واليقين، والمكذب بها هو مكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كالذين يسمون اليوم بالقرآنيين، ويرفضون السنة النبوية المطهرة كلها، فلا شك في مروقهم من الدين، وزندقتهم
فقولهم؛ إن القرآن الكريم كافٍ في بيان قضايا الدين وأحكام الشريعة، وإن القرآن قد اشتمل على الدين كله، بجملته وتفصيله، بكلياته وجزئياته، وأنه يحتوي جميع الأحكام التشريعية بتفصيلاتها، ما ترك شيئاً ولا فرط في شيء. ولهذا كان القرآن كافياً، ولم يكن ثمة حاجة لمصدر ثان للتشريع. فالسنة لا حاجة إليها، ولا مكان لها .. وقد استدلوا لشبهتهم هذه بما زعموه أدلة من القرآن المجيد. من ذلك قوله - سبحانه: ? ما فرطنا في الكتاب من شيء ? (الأنعام: 38). واستدلوا - كذلك - بقول الله - سبحانه - يصف القرآن الكريم: ? ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ?. (يوسف: 111)، وكذلك استدلوا بالآيات التي وصف الله - تعالى - القرآن فيها بأنه " مبين " من مثل قول الله - عز وجل - ?إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ? (يس: 69).
أما وجه استدلالهم بتلك الآيات، فإن الآية الأولى بين الله - تعالى - فيها أنه - سبحانه - ذكر كل شيء في القرآن الكريم، ولم يفرط في الكتاب من شيء بمعنى أنه - سبحانه - لم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولم يدع أمراً من أمور الدين، أو حكما من أحكام الشرع يحتاج إليه الناس في عقائد أو عبادات أو معاملات إلا قد ذكره في القرآن، وإذا كان الأمر كذلك؛ فما حاجتنا إلى مصدر آخر غير القرآن، إن إضافة مصدر آخر إلى القرآن الذي لم يترك شيئا، ولم يفرط الله فيه من شيء، إنما يعني أن نزيد في شرع الله ما ليس منه، وأن نخلط شرع الله الذي أنزل به كتابه بشرع من عند غير الله - تعالى - وهذا باطل فاسد، وفساده إنما أتى من الاعتماد في الدين على غير كتاب الله الذي فصل كل شيء وأحاط بكل شيء.
واشتمال القرآن على تفصيل كل شيء إنما هو واضح من خاتمة سورة يوسف - عليه السلام - الذي وصف الله فيها القرآن بأنه " تفصيل كل شيء " وإذا كان القرآن فصل كل شيء؛ فما حاجتنا إلى السنة؟. وماذا سنفيد منها؟ .. كذلكم الآيات التي وصفت القرآن بأنه " مبين " ووصفت آياته بأنها " آيات بينات " فهذه تقطع السبيل على من يقولون إن السنة مبينة للقرآن ومفصلة. فهذا هو القرآن يتحدث عن نفسه في آياته القاطعات، بأنه قد اشتمل على كل شيء، وفصل كل شيء، وبين كل شيء، وبهذا يتضح أن السنة لا محل لها من التشريع، ولا حاجة إليها من بيان أو تفصيل أو توضيح.
تفنيد الشبهة والرد عليها:
إن القول بهذه الشبهة يدل على جهل بالقرآن المجيد، وعدم فهم لآياته، بل يدل على سوء قصد لدى القائلين بها. فإن الأمة مجمعة على أن القرآن العظيم قد اشتمل الدين مجملاً في كثير من جوانبه وأحكامه، ومفصلاً في جوانب أخرى، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة فبينت المجمل وفصلته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبين ويفصل إنما ينفذ أمر الله - تعالى - ويؤدي ما وكله الله - تعالى - إليه من بيان القرآن المنزل علىالخلق، تطبيقاً واستجابة لأمر الله - عز وجل - في قوله: ? وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ? (النحل: 44).
فالقرآن المجيد قد اشتمل على قضايا الدين، وأصول الأحكام الشرعية، أما تفاصيل الشريعة وجزئياتها فقد فصل بعضها وأجمل جمهرتها، وإنما جاء المجمل في القرآن بناء على حكمة الله - عز وجل - التي اقتضت أن يتولى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تفصيل ذلك المجمل وبيانه .. وهذا هو ما قام عليه واقع الإسلام، وأجمعت عليه أمته، ومن ثم فلا وزن لمن يقول بغير ذلك أو يعارضه، لأن معارضته مغالطة واضحة وبهتان عظيم، وإذا كان أصحاب هذه الشبهة يزعمون أن القرآن المجيد قد فصل كل شيء، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين الصلاة؛ أين في القرآن الكريم عدد الصلوات، ووقت كل صلاة ابتداء وانتهاء، وعدد ركعات كل صلاة، والسجدات في كل ركعة، وهيئاتها، وأركانها، وما يقرأ فيها، وواجباتها، وسننها، ونواقضها، إلى غير ذلك من أحكام لا يمكن أن تقام =(1/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الصلاة بدونها؟ ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة، إن القرآن العظيم قد ورد فيه الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فأين نجد منه الأنواع التي تخرج منها الزكاة، ومقدار كل نوع، وأين نجد أحكام الصيام؟ وأين نجد مناسك الحج؟ إن الله - سبحانه - قد وكل بيان ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، ولم يقل: كما تجدون في القرآن، لأن القرآن قد خلا من تفصيل الأحكام وبيانها.
ولعل من حكمة الله - سبحانه - في ترك التفاصيل والبيان لرسوله - صلى الله عليه وسلم - -؛ أن تفصيل الأحكام وبيان جزئياتها، وتوضيح دقائقها، إنما يكون بالطريق العملي أولى وأجدى، ولو أن الأحكام فصلت قولاً نظرياً، لما استغنت عن بيان عملي واقعي.
ولعله من الحكمة وراء ذلك - أيضا - بيان ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها سواه، وذلك بإسناد الله - تعالى - تفصيل الأحكام وبيانها إليه - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو كان كل شيء مفصلا مبينا لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل غيره من الناس مطبقاً لما هو قائم فعلاً، لكن الله - عز وجل - اختصه - صلى الله عليه وسلم - بتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريماً لشأنه وإعلاء لمنزلته، وليس ذلك أمراً قائماً بذاته، بل هو مبني على ما سبق أن بيناه من حِكَم.
أما هؤلاء الذين أثاروا هذه الشبهة فقد ارتكبوا عدداً من الأخطاء .. أول هذه الأخطاء أنهم لم يحاولوا أن يفهموا الموضوع في إطار القرآن الكريم كله، وإنما أخذوا آية واحدة أو آيات وركزوا كلامهم فيها، وبنوا مذهبهم الفاسد عليها، وتركوا القرآن المجيد كله بما فيه من آيات واضحات تتصل بالموضوع اتصالاً مباشراً. ومن هنا فقد حملوا الآيات التي اختاروها ما لا تحتمل، ووجهوا معناها الوجهات الخطأ التي أرادوها هم، وليس التي تنطق بها الآيات، ومن البدهيات التي يعلمها عامة الناس - بله العلماء - أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر، وأن تفسير بعض الآيات بعيداً عن بقية الكتاب الكريم قد يكون خطأ يؤدي إلى محظورين خطيرين؛ الأول: عدم فهم المراد من الآيات فهماً صحيحاً. والثاني: أن يضرب القرآن بعضه ببعض، وأن تعارض بعض آياته بالبعض الآخر، وهذا جرم عظيم، لا يرتكبه إلا مجرم أثيم، وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن المجيد من آيات بينات في نفس الموضوع، ثم حملوها من المعاني مالا تحتمل، عن سوء قصد وتعسف .. ولعل تفنيد شبهتهم هذه يقتضينا - إلى جانب ما ذكرنا - توضيح معاني الآيات التي استدلوا بها، حتى تبطل شبهتهم هذه بتمامها. وتنهار من أساسها.
إن عمدتهم في الاستدلال على ما ذهبوا إليه هو قول الله - عز وجل: ? ما فرطنا في الكتاب من شيء ? (الأنعام: 38)، مدعين أن هذه الآية تعني أن الكتاب الكريم قد احتوى تفصيل كل صغيرة وكبيرة وبيانها، ومن ثم فلا حاجة إلى السنة التي تبينه وتفصله، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالكتاب في الآية الكريمة، إنما هو اللوح المحفوظ، وليس القرآن الكريم، وسياق الآية كاملة يرجح هذا، فالآية الكريمة كاملة: ? وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ما فرطنا في الكتاب من شيء. ثم إلى ربهم يحشرون ? (الانعام: 38) فالآية تتحدث عن عظيم علم الله - تعالى -، وإحاطته بكل شيء في الوجود من دواب وطيور وغيرها، وقد شمل علم الله - سبحانه - كل شيء، وقدر ما يقع لكل منها، ثم إليه يحشر الكل. وذلك كقوله - تعالى: ? ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. إن ذلك على الله يسير? (الحديد: 22). فالكتاب الذي احتوى كل شيء كان أو كائن أو يكون إنما هو اللوح المحفوظ - وعلى تفسير الكتاب بأنه القرآن الكريم، فقد قال المفسرون أن معنى الآية إن الله - تعالى - قد ضمن القرآن الكريم كل ما يحتاج إليه المكلفون من أوامر ونواه، وعقائد وشرائع، وبشارة ونذارة .. إلى غير ذلك، وليس معنى ذلك أنه لا يحتاج إلى السنة المبينة له، فهو وحي، والسنة وحي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى، وقد قال عنه ربه - سبحانه -: ? وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى? (النجم: 3 - 4). فالله - سبحانه - الذي ضمن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملة، هو - سبحانه - الذي وجه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه فقد قال الله - عز وجل -: ? يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ? (محمد: 33)، وقال -تبارك وتعالى-: ? وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ? (الحشر: 7). وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخذ عنه .. وبذلك يتضح معنى الآية الكريمة: ? ما فرطنا في الكتاب من شيء ?، وأن الكتاب لو فسر بأنه القرآن، فإن الله - تعالى - قد ضمنه كل شيء يحتاج إليه المكلف، فما كان فيه من تفصيل كفى، وما كان فيه من إجمال، فقد وجه القرآن المؤمنين إلى الطريق الذي يجدون فيه تفصيل ذلك المجمل، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يكون القرآن المجيد قد اشتمل كل شيء، وصدق الله العظيم القائل:؟ ما فرطنا في الكتاب من شيء ?. =(1/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= انظر كتاب شبهات القرآنيين حول السنة النبوية
(5) - صحيح البخارى برقم (106) عن مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِىَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ».
وصحيح البخارى برقم (107) عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
وفي صحيح البخارى برقم (1291) عَنِ الْمُغِيرَةِ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وهو حديث متواتر
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 4)
(فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ فَلْيَنْزِلْ: وَقِيلَ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلَهُ مِنْ النَّار، وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: أَصْله مِنْ مَبَاءَةِ الْإِبِلِ وَهِيَ أَعْطَانُهَا ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَكَذَا فَلْيَلِجْ النَّار، وَقِيلَ: هُوَ خَبَر بِلَفْظِ الْأَمْر أَيْ مَعْنَاهُ: فَقَدْ اِسْتَوْجَبَ ذَلِكَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسه عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى (يَلِجْ النَّارَ) وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ (بُنِيَ لَهُ بَيْت فِي النَّار). ثُمَّ مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ وَقَدْ يُجَازَى بِهِ، وَقَدْ يَعْفُو اللَّهُ الْكَرِيمُ عَنْهُ وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ بِدُخُولِ النَّار، وَهَكَذَا سَبِيل كُلّ مَا جَاءَ مِنْ الْوَعِيد بِالنَّارِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِر غَيْر الْكُفْر، فَكُلّهَا يُقَال فِيهَا هَذَا جَزَاؤُهُ وَقَدْ يُجَازَى وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ، ثُمَّ إِنْ جُوزِيَ وَأُدْخِلَ النَّارَ فَلَا يَخْلُدُ فِيهَا؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجه مِنْهَا بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّار أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيد. وَهَذِهِ قَاعِدَة مُتَّفَق عَلَيْهَا عِنْد أَهْل السُّنَّة وَسَيَأْتِي دَلَائِلهَا فِي كِتَاب الْإِيمَان قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّه - وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْكَذِبُ فَهُوَ عِنْد الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابنَا: الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة: شَرْطه الْعَمْدِيَّة وَدَلِيل خِطَاب هَذِهِ الْأَحَادِيث لَنَا، فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَمْدِ لِكَوْنِهِ قَدْ يَكُون عَمْدًا وَقَدْ يَكُون سَهْوًا، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاع وَالنُّصُوص الْمَشْهُورَة فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ مُتَوَافِقَة مُتَظَاهِرَة عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْم عَلَى النَّاسِي، فَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَذِبَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَأْثَم النَّاسِي أَيْضًا فَقَيَّدَهُ.
وَأَمَّا الرِّوَايَات الْمُطْلَقَة فَمَحْمُولَة عَلَى الْمُقَيَّدَة بِالْعَمْدِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يَشْتَمِل عَلَى فَوَائِد وَجُمَلٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ:
إِحْدَاهَا: تَقْرِير هَذِهِ الْقَاعِدَة لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ الْكَذِبَ يَتَنَاوَل إِخْبَار الْعَامِد وَالسَّاهِي عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ.
الثَّانِيَة: تَعْظِيم تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ فَاحِشَة عَظِيمَة وَمُوبِقَة كَبِيرَة وَلَكِنْ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا الْكَذِب إِلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّهُ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيّ وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي مِنْ أَئِمَّة أَصْحَابنَا: يَكَفُرُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَكَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِده هَذَا الْمَذْهَب وَأَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي دَرْسه كَثِيرًا: مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَمْدًا كَفَرَ وَأُرِيقَ دَمه، وَضَعَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَاب وَإِنَّهُ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ. وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور وَاَللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَمْدًا فِي حَدِيث وَاحِد فَسَقَ وَرُدَّتْ رِوَايَته كُلّهَا وَبَطَلَ الِاحْتِجَاج بِجَمِيعِهَا، فَلَوْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَصَاحِب الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ فُقَهَاء أَصْحَابنَا الشَّافِعِيِّينَ وَأَصْحَاب الْوُجُوه مِنْهُمْ وَمُتَقَدِّمَيْهِمْ فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع: لَا تُؤَثِّر تَوْبَته فِي ذَلِكَ وَلَا تُقْبَل رِوَايَته أَبَدًا، بَلْ يُحْتَمُ جَرْحُهُ دَائِمًا، وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ: كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَره مِنْ أَهْل النَّقْل بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَر وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْد ذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكَ مِمَّا اِفْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وَلَمْ أَرَ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَيَجُوز أَنْ يُوَجَّه بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا بَلِيغًا عَنْ الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة بِخِلَافِ الْكَذِب عَلَى غَيْره وَالشَّهَادَة، فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُمَا قَاصِرَة لَيْسَتْ عَامَّة. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة ضَعِيف مُخَالِف لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّة وَالْمُخْتَار الْقَطْع بِصِحَّةِ تَوْبَته فِي هَذَا، وَقَبُول رِوَايَاته بَعْدهَا إِذَا صَحَّتْ تَوْبَته بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَة، وَهِيَ الْإِقْلَاع عَنْ الْمَعْصِيَة وَالنَّدَم عَلَى فِعْلهَا وَالْعَزْم عَلَى أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِد الشَّرْع، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة رِوَايَة مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَأَكْثَر الصَّحَابَة كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَة، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُول شَهَادَته وَلَا فَرْقَ بَيْن الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فِي هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. =(1/317)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الثَّالِثَة: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْن مَا كَانَ فِي الْأَحْكَام وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب وَالْمَوَاعِظ وَغَيْر ذَلِكَ فَكُلّه حَرَام مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر وَأَقْبَح الْقَبَائِح بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَدّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاع، خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّة الطَّائِفَة الْمُبْتَدِعَة فِي زَعْمِهِمْ الْبَاطِل أَنَّهُ يَجُوز وَضْع الْحَدِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب، وَتَابَعَهُمْ عَلَى هَذَا كَثِيرُونَ مِنْ الْجَهَلَة الَّذِينَ يَنْسُبُونَ أَنْفُسهمْ إِلَى الزُّهْد أَوْ يَنْسُبهُمْ جَهَلَة مِثْلهمْ، وَشُبْهَة زَعْمهمْ الْبَاطِل أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار. وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي اِنْتَحَلُوهُ وَفَعَلُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِهِ غَايَة الْجَهَالَة وَنِهَايَة الْغَفْلَة، وَأَدَلّ الدَّلَائِل عَلَى بُعْدهمْ مِنْ مَعْرِفَة شَيْء مِنْ قَوَاعِد الشَّرْع، وَقَدْ جَمَعُوا فِيهِ جُمَلًا مِنْ الْأَغَالِيط اللَّائِقَة بِعُقُولِهِمْ السَّخِيفَة وَأَذْهَانهمْ الْبَعِيدَة الْفَاسِدَة فَخَالَفُوا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، وَخَالَفُوا صَرِيح هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُتَوَاتِرَة وَالْأَحَادِيث الصَّرِيحَة الْمَشْهُورَة فِي إِعْظَام شَهَادَة الزُّور، وَخَالَفُوا إِجْمَاع أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد. وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِل الْقَطْعِيَّات فِي تَحْرِيم الْكَذِب عَلَى آحَاد النَّاس فَكَيْف بِمَنْ قَوْله شَرْع وَكَلَامه وَحْي، وَإِذَا نَظَرَ فِي قَوْلهمْ وَجَدَ كَذِبًا عَلَى اللَّه تَعَالَى، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى} وَمِنْ أَعْجَب الْأَشْيَاء قَوْلهمْ: هَذَا كَذِب لَهُ، وَهَذَا جَهْل مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَب وَخِطَاب الشَّرْع فَإِنَّ كُلّ ذَلِكَ عِنْدهمْ كَذِب عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ؛ فَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا وَأَخْصَرُهَا أَنَّ قَوْله لِيُضِلَّ النَّاس، زِيَادَة بَاطِلَة اِتَّفَقَ الْحُفَّاظ عَلَى إِبْطَالهَا وَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ صَحِيحَةً بِحَالٍ.
الثَّانِي: جَوَاب أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاس}.
الثَّالِث: أَنَّ اللَّام فِي لِيُضِلَّ لَيْسَتْ لَام التَّعْلِيل بَلْ هِيَ لَام الصَّيْرُورَة وَالْعَاقِبَة، مَعْنَاهُ أَنَّ عَاقِبَة كَذِبِه وَمَصِيرِه إِلَى الْإِضْلَال بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَنَظَائِره فِي الْقُرْآن وَكَلَام الْعَرَب أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَر وَعَلَى هَذَا يَكُون مَعْنَاهُ فَقَدْ يَصِير أَمْر كَذِبه إِضْلَالًا، وَعَلَى الْجُمْلَة مَذْهَبُهُمْ أَرَكُّ مِنْ أَنْ يُعْتَنَى بِإِيرَادِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُهْتَمَّ بِإِبْعَادِهِ وَأَفْسَدُ مِنْ أَنْ يُحْتَاج إِلَى إِفْسَاده. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
الرَّابِعَة: يَحْرُم رِوَايَة الْحَدِيث الْمَوْضُوع عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ فَمَنْ رَوَى حَدِيثًا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ وَضْعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ رِوَايَتِهِ وَضْعَهُ فَهُوَ دَاخِل فِي هَذَا الْوَعِيد، مُنْدَرِج فِي جُمْلَة الْكَاذِبِينَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيث السَّابِق " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ ".
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء: يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ رِوَايَة حَدِيث أَوْ ذَكَرَهُ أَنْ يَنْظُر فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَذَا أَوْ فَعَلَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَقُلْ: قَالَ أَوْ فَعَلَ أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَشِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْم بَلْ يَقُول: رُوِيَ عَنْهُ كَذَا أَوْ جَاءَ عَنْهُ كَذَا أَوْ يُرْوَى أَوْ يُذْكَرُ أَوْ يُحْكَى أَوْ يُقَالُ أَوْ بَلَغَنَا وَمَا أَشْبَهَهُ. وَاَللَّه سُبْحَانه أَعْلَمُ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ الْحَدِيث أَنْ يَعْرِف مِنْ النَّحْو وَاللُّغَة وَأَسْمَاء الرِّجَال مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنْ قَوْله مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا صَحَّ فِي الرِّوَايَة مَا يَعْلَم أَنَّهُ خَطَأ فَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَفِ أَنَّهُ يَرْوِيهِ عَلَى الصَّوَاب وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكِتَاب، لَكِنْ يَكْتُب فِي الْحَاشِيَة أَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَة كَذَا وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ وَهُوَ كَذَا، وَيَقُول عِنْد الرِّوَايَة: كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَوْ فِي رِوَايَتنَا وَالصَّوَاب كَذَا، فَهُوَ أَجْمَعُ لِلْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَعْتَقِدهُ خَطَأً وَيَكُون لَهُ وَجْهٌ يَعْرِفهُ غَيْرُهُ وَلَوْ فُتِحَ بَاب تَغْيِير الْكِتَاب لَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ غَيْر أَهْله.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَنْبَغِي لِلرَّاوِي وَقَارِئ الْحَدِيث، إِذَا اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ فَقَرَأَهَا عَلَى الشَّكِّ أَنْ يَقُول عَقِبَهُ أَوْ كَمَا قَالَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول السَّابِقَة الْخِلَاف فِي جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لِمَنْ هُوَ كَامِل الْمَعْرِفَة. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبّ لِمَنْ رَوَى بِالْمَعْنَى أَنْ يَقُول بَعْده أَوْ كَمَا قَالَ أَوْ نَحْوَ هَذَا كَمَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَوَقُّف الزُّبَيْرِ وَأَنَسٍ وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ - فِي الرِّوَايَة عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَالْإِكْثَار مِنْهَا، فَلِكَوْنِهِمْ خَافُوا الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ. وَالنَّاسِي وَإِنْ كَانَ لَا إِثْم عَلَيْهِ فَقَدْ يُنْسَب إِلَى تَفْرِيط لِتَسَاهُلِهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالنَّاسِي بَعْضُ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كَغَرَامَاتِ الْمُتْلَفَات وَانْتِقَاض وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام الْمَعْرُوفَات. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمُ.(1/318)
وَمِثْلَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ بِأَنْ يَنْزِلَ الْبَشَرُ مَنْزِلَةَ الْإِلَهِ (1). وَمِثْلَ تَجْوِيزِ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2).
__________
(1) - قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} (171) سورة النساء
وفي سنن النسائى برقم (3070) عَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ «هَاتِ الْقُطْ لِى». فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِى يَدِهِ قَالَ بِأَمْثَالِ هَؤُلاَءِ «وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِى الدِّينِ» وهو صحيح.
(2) - قلت: كما يفعله العلمانيون من لف لفهم، فقد خرجوا عن شريعة الرحمن وجاءوا بشريعة الشيطان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء
وفي ظلال القرآن - (ج 1 / ص 98)
إن الناس لا يؤمنون - ابتداء - إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله ; ممثلا - في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الرسول. وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة ; ولا يكفي أن يتحاكموا إليه - ليحسبوا مؤمنين - بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين:
فلا وربك. . لا يؤمنون. . حتى يحكموك فيما شجر بينهم , ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليمًا. . فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - أي إلى غير شريعة الله - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا.
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله: (وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول , رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا).
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي , أن تطيع الله - عز وجل - في هذا القرآن - وأن تطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته - وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله , وأطيعوا الرسول. وأولي الأمر منكم). .
ويقول لها: إن المرجع , فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة. والأقضية التي لم ترد فها أحكام نصية. . إن المرجع هو الله ورسوله. . أي شريعة الله وسنة رسوله.
(فإن تنازعتم في شيء , فردوه إلى الله والرسول). .
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك , أبد الدهر , في حياة الأمة المسلمة. . وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي , الذي لا تكون مؤمنة إلا به , ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه. . إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك , ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله. . شرط الإيمان وحد الإسلام. . شرطا واضحا ونصا صريحا: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). .
فما يمكن أن يجتمع الإيمان , وعدم تحكيم شريعة الله , أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم "مؤمنون" ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم , أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم. . إنما يزعمون دعوى كاذبة ; وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: (وما أولئك بالمؤمنين). فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب ; بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين , يخرجهم من دائرة الإيمان , مهما ادعوه باللسان.
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر , في سورة النساء: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم , ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت , ويسلموا تسليمًا). . فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام. وكلاهما يخرج من الإيمان , وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله , ومن يتولى عنه ويرفض قبوله.(1/319)
وَمِثْلَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ (1) وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ (2).
__________
(1) - قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (180) سورة الأعراف
وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1744)
قال القرطبى: قوله - تعالى -: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} أمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - ومجانبة الملحدين والمشركين. قال مقاتل وغيره من المفسرين: نزلت الآية فى رجل من المسلمين كان يقول فى صلاته: يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركى مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت ".
والأسماء: جمع اسم، وهو اللفظ الدال على الذات فقط أو على الذات مع صفة من صفاتها سواء كان مشتقا كالرحمن، والرحيم، أو مصدراً كالرب والسلام.
والحسنى: تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها، لأنبائها عن أحسن المعانى وأشرفها.
والمعنى: ولله - تعالى - وحده جميع الأسماء الدالة على أحسن المعانى وأكمل الصفات فادعوه أى سموه واذكروه ونادوه بها.
روى الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة والله وتر يحب الوتر ".
قال الآلوسى: والذى أراه أنه لا حصر لأسمائه - عزت أسماؤه - فى التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقى عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أصابه هم أو حزن فليقل: اللهم إنى عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتى فى يدك ماضى فىّ حكمك، عدل فىّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استاثرت به فى علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبى ونور صدرى وذهاب همى وجلاء حزنى. . . إلخ " فهذا الحديث صريح فى عدم الحصر.
وحكى النووى اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، وهو لا ينافى أن له - تعالى - أسماء غيرها ".
ثم قال - تعالى - {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
ويلحدون من الإلحاد وهو الميل والانحراف، يقال: ألحد إلحاداً إذا مال عن القصد والاستقامة، وألحد فى دين الله: حاد عنه؛ ومنه لحد القبر لأنه يمال بحفره إلى جانبه بخلاف الضريح فإنه يحفر فى وسطه.
والمعنى: ولله - تعالى - أشرف الأسماء وأجلها فسموه بها أيها المؤمنون، واتركوا جميع الذين يلحدون فى أسمائه - سبحانه - بالميل لألفاظها أو معانيها عن الحق من تحريف أو تأويل أو تشبيه أو تعطيل أو ما ينافى وصفها بالحسنى اتركوا هؤلاء جميعا فإنهم سيلقون جزاء عملهم من الله رب العالمين.
ومن مظاهر إلحاد الملحدين فى أسمائه - تعالى - تسمية أصنامهم باسماء مشتقة منها، كاللات: من الله - تعالى -، والعزى: من العزيز، ومناة: من المنان وتسميته - تعالى - بما يوهم معنى فاسدا، كقولهم له - سبحانه -: يا أبيض الوجه كذلك من مظاهر الإلحاد فى أسمائه - تعالى -، تسميته بما لم يسم به نفسه فى كتابه، أو فيما صح من حديث رسوله، إلى غير ذلك مما يفعله الجاهلون والضالون.
(2) - قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء
وفي تفسير السعدي - (ج 1 / ص 180)
ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد - صلى الله عليه وسلم - على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك.
فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم {يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، {وَرَاعِنَا} قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}.
ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا}.(1/320)
وَالتَّكْذِيبِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَمُعَارَضَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (1).
وَمِثْلَ إظْهَارِ الْخُزَعْبَلَاتِ السِّحْرِيَّةِ والشعبذية الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا؛ الَّتِي يُضَاهَى بِهَا مَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِيَصُدَّ بِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَوْ يُظَنَّ بِهَا الْخَيْرَ فِيمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ وَصْفُهُ (2). فَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ
__________
(1) - مسند أحمد {2/ 182} برقم (6874) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يُؤْمِنُ الْمَرْءُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». ... وهو حديث صحيح
وفي صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 506)
ذِكْرُ الإِخْبَارِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ مِنْ تَسْلِيمِ الأَشْيَاءِ إِلَى بَارِئِهِ جَلَّ وَعَلاَ.
727 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ قَلْبِي، فقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، لَدَخَلْتَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ. وهو صحيح
(2) - وفي مجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 8 / ص 52)
السحر وأنواعه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن السحر من الجرائم العظيمة، ومن أنواع الكفر، ومما يبتلى به الناس قديما وحديثا في الأمم الماضية، وفي الجاهلية، وفي هذه الأمة، وعلى حسب كثرة الجهل، وقلة العلم، وقلة الوازع الإيماني والسلطاني - يكثر أهل السحر والشعوذة، وينتشرون في البلاد للطمع في أموال الناس والتلبيس عليهم، ولأسباب أخرى، وعندما يظهر العلم ويكثر الإيمان، ويقوى السلطان الإسلامي يقل هؤلاء الخبثاء وينكمشون، وينتقلون من بلاد إلى بلاد لالتماس المحل الذي يروج فيه باطلهم، ويتمكنون فيه من الشعوذة والفساد.
وقد بين الكتاب والسنة أنواع السحر وحكمها.
فالسحر سمي سحرا. لأن أسبابه خفية، ولأن السحرة يتعاطون أشياء خفية يتمكنون بها من التخييل على الناس والتلبيس عليهم، والتزوير على عيونهم، إدخال الضرر عليهم، وسلب أموالهم إلى غير ذلك، بطرق خفية لا يفطن لها في الأغلب، ولهذا يسمى آخر الليل: سحرا. لأنه يكون في آخره عند غفلة الناس وقلة حركتهم، ويقال للرئة: سحر. لأنها في داخل الجسم وخفية.
ومعناه في الشرع: ما يتعاطاه السحرة من التخييل والتلبيس الذي يعتقده المشاهد حقيقة وهو ليس بحقيقة، كما قال الله سبحانه عن سحرة فرعون: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى .. =(1/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وقد يكون السحر من أشياء يفعلها السحرة مع عقد ينفثون فيها، كما قال الله سبحانه: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وقد يكون من أعمال أخرى يتوصلون إليها من طريق الشياطين فيعملون أعمالا قد تغير عقل الإنسان، وقد تسبب مرضا له، وقد تسبب تفريقا بينه وبين زوجته فتقبح عنده، ويقبح منظرها فيكرهها، وهكذا هي قد يعمل معها الساحر ما يبغض زوجها إليها، وينفرها من زوجها، وهو كفر صريح بنص القرآن، حيث قال عز وجل: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فأخبر سبحانه عن كفرهم بتعليمهم الناس السحر، وقال بعدها: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ثم قال سبحانه: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: هذا السحر وما يقع منه من الشر كله بقدر سابق بمشيئة الله، فربنا جل وعلا لا يغلب، ولا يقع في ملكه ما لا يريد، بل لا يقع شيء في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا بقدر سابق؛ لحكمة بالغة شاءها سبحانه وتعالى، فقد يبتلى هؤلاء بالسحر، ويبتلى هؤلاء بالمرض، ويبتلى هؤلاء بالقتل. . . إلى غير ذلك، ولله الحكمة البالغة فيما يقضي ويقدر، وفيما يشرعه سبحانه لعباده، ولهذا قال سبحانه: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: بإذنه الكوني القدري لا بإذنه الشرعي، فالشرع يمنعهم من ذلك ويحرم عليهم ذلك، لكن بالإذن القدري الذي مضى به علم الله وقدره السابق أنه يقع من فلان السحر، ويقع من فلانة، ويقع على فلان، وعلى فلانة، كما مضى قدره: بأن فلانا يصاب بقتل، أو يصاب بمرض كذا، ويموت في بلد كذا، ويرزق كذا، ويغتني أو يفتقر، وكله بمشيئة الله وقدره سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فهذه الشرور التي قد تقع من السحرة ومن غيرهم، لا تقع عن جهل من ربنا فهو العالم بكل شيء سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه خافية جل وعلا، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقال سبحانه: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فهو يعلم كل شيء، ولا يقع في ملكه ما لا يريد سبحانه وتعالى، ولكن له الحكمة البالغة، والغايات المحمودة فيما يقضي ويقدر مما يقع فيه الناس من عز وذل، وإزالة ملك، وإقامة ملك، ومرض وصحة، وسحر وغيره. وسائر الأمور التي تقع في العباد كلها عن مشيئة، وعن قدر سابق. وهؤلاء السحرة قد يتعاطون أشياء تخييلية، كما تقدم في قوله عز وجل: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى يخيل إلى الناظر أن هذه العصي، وأن هذه الحبال حيات تسعى في الوادي، وهي حبال وعصي، لكن السحرة خيلوا للناس لما أظهروا أمام أعينهم من أشياء تعلموها تغير الحقائق على الناس بالنظر إلى أبصارهم، قال سبحانه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وقال تعالى في سورة الأعراف: قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وهي في الحقيقة تخيرت، حبال وعصي، ولكن تغير نظرهم إليها بسبب السحر فاعتقدوها حيات بسبب التلبيس الذي حصل من السحرة، وتسميه بعض الناس: " تقمير " وهو: أن يعمل الساحر أشياء تجعل الإنسان لا يشعر بالحقيقة على ما هي عليه، فيكون بصره لا يدرك الحقيقة فقد يؤخذ من حانوته أو منزله ما فيه ولا يشعر بذلك، يعني: أنه لم يعرف الحقيقة، فقد يرى الحجر دجاجة، أو يرى الحجر بيضة، أو ما أشبه ذلك. لأن الواقع تغير في عينيه. بسبب عمل الساحر وتلبيسه، فسحرت عيناه،
وجعل هناك من الأشياء التي يتعاطاها السحرة من المواد ما تجعل عينيه لا تريان الحقيقة على ما هي عليه، هذا من السحر الذي سماه الله: عظيما في قوله جل وعلا في سورة الأعراف: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ والصحيح عند أهل العلم: أن الساحر يقتل بغير استتابة. لعظم شره وفساده، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يستتاب، وأنهم كالكفرة الآخرين يستتابون، ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه لا يستتاب. لأن شره عظيم، ولأنه يخفي شره، ويخفي كفره، فقد يدعي أنه تائب وهو يكذب، فيضر الناس ضررا عظيما فلهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن من عرف وثبت سحره يقتل ولو زعم أنه تائب ونادم، فلا يصدق في قوله.
ولهذا ثبت عن عمر أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن يقتلوا كل من وجدوا من السحرة، حتى يتقي شرهم، قال أبو عثمان النهدي: (ففتلنا ثلاث سواحر)، هكذا جاء في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة، وهكذا صح عن حفصة أنها قتلت جارية لها، لما علمت أنها تسحر قتلتها، وهكذا جندب بن عبد الله رضي الله عنه الصحابي الجليل لما رأى ساحرا يلعب برأسه - يقطع رأسه ويعيده، يخيل على الناس بذلك - أتاه من جهة لا يعلمها فقتله، وقال: (أعد رأسك إن كنت صادقا).
والمقصود: أن السحرة شرهم عظيم. ولهذا يجب أن يقتلوا، فولي الأمر إذا عرف أنهم سحرة، وثبت لديه ذلك بالبينة الشرعية وجب عليه قتلهم. صيانة للمجتمع من شرهم وفسادهم. ومن أصيب بالسحر ليس له إن يتداوى بالسحر، فإن الشر لا يزال بالشر، والكفر لا =(1/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= يزال بالكفر، وإنما يزال الشر بالخير. ولهذا لما سئل عليه الصلاة والسلام عن النشرة قال: هي من عمل الشيطان والنشرة المذكورة في الحديث: هي حل السحر عن المسحور بالسحر.
أما إن كان بالقرآن الكريم والأدوية المباحة والرقية الطيبة فهذا لا بأس به، وأما بالسحر فلا يجوز كما تقدم. لأن السحر عبادة للشياطين، فالساحر إنما يسحر ويعرف السحر بعد عبادته للشياطين، وبعد خدمته للشياطين، وتقربه إليهم بما يريدون، وبعد ذلك يعلمونه ما يحصل به السحر، لكن لا مانع والحمد لله من علاج المسحور بالقراءة وبالتعوذات الشرعية، بالأدوية المباحة، كما يعالج المريض من أنواع المرض من جهة الأطباء، وليس من اللازم أن يشفى. لأنه ما كل مريض يشفى، فقد يعالج المريض فيشفى إذا كان الأجل مؤخرا، وقد لا يشفى ويموت في هذا المرض، ولو عرض على أحذق الأطباء وأعلم الأطباء لأنه متى نزل الأجل لم ينفع الدواء ولا العلاج. لقول الله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
وإنما ينفع الطب وينفع الدواء إذا لم يحضر الأجل وقدر الله للعبد الشفاء، كذلك هذا الذي أصيب بالسحر قد. يكتب الله له الشفاء، وقد لا يكتب له الشفاء. ابتلاء وامتحانا، وقد يكون لأسباب أخرى الله يعلمها جل وعلا، منها: أنه قد يكون الذي عالجه ليس عنده العلاج المناسب لهذا الداء، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل وقال عليه الصلاة والسلام: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله 4 ومن العلاج الشرعي: أن يعالج السحر بالقراءة، فالمسحور يقرأ عليه أعظم سورة في القرآن: وهي الفاتحة، تكرر عليه، فإذا قرأها القارئ الصالح المؤمن الذي يعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه سبحانه وتعالى مصرف الأمور، وأنه متى قال للشيء: كن فإنه يكون، فإذا صدرت القراءة عن إيمان، وعن تقوى، وعن إخلاص، وكرر ذلك القارئ فقد يزول السحر ويشفى صاحبه بإذن الله، وقد مر بعض الصحابة رضي الله عنهم على بادية قد لدغ شيخهم، يعني: أميرهم، وقد فعلوا كل شيء ولم ينفعه، فقالوا لبعض الصحابة: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم. فقرأ عليه أحدهم سورة الفاتحة، فقام كأنما نشط من عقال في الحال، وعافاه الله من شر لدغة الحية. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا وقد رقى ورقي عليه الصلاة والسلام، فالرقية فيها خير كثير، وفيها نفع عظيم، فإذا قرئ على المسحور بالفاتحة، وبآية الكرسي، وبقل هو الله أحد، والمعوذتين، أو بغيرها من الآيات، مع الدعوات الطيبة الواردة في الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما رقى بعض المرضى: اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما يكرر ذلك ثلاث مرات أو أكثر، ومثل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام رقاه - صلى الله عليه وسلم - بقوله بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك ثلاث مرات فهذه رقية عظيمة وثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يشرع أن يرقى بها اللديغ والمسحور والمريض، ولا بأس أن يرقى المريض والمسحور واللديغ بالدعوات الطيبة، وإن لم تكن منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن فيها محذور شرعا. لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا وقد يعافي الله المريض والمسحور وغيرهما بغير الرقية وبغير أسباب من الإنسان؛ لأنه سبحانه هو القادر على كل شيء، وله الحكمة البالغة في كل شيء، وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فله سبحانه الحمد والشكر على كل ما يقضيه ويقدره، وله الحكمة البالغة في كل شيء عز وجل
وقد لا يشفى المريض. لأنه قد تم أجله وقدر موته بهذا المرض. ومما يستعمل في الرقية آيات السحر تقرأ في الماء، وهي آيات السحر في الأعراف، وهي قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وفي يونس وهي قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ إلى قوله جل وعلا: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ وكذلك آيات طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى إلى قوله سبحانه: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى وهذه الآيات مما ينفع الله بها في رقية السحر، وإن قرأ القارئ هذه الآيات في الماء وقرأ معها سورة الفاتحة، وآية الكرسي، وبقل هو الله أحد، والمعوذتين في ماء ثم صبه على من يظن أنه مسحور، أو محبوس عن زوجته فإنه يشفى بإذن الله، إن وضع في الماء سبع ورقات من السدر الأخضر بعد دقها كان مناسبا، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في (فتح المجيد) عن بعض أهل العلم في باب (ما جاء في النشرة).
ويستحب أن يكرر قراءة السور الثلاث، وهي: (قل هو الله أحد)، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) ثلاث مرات.
والمقصود: أن هذه الأدوية وما أشبهها هي مما يعالج به هذا البلاء: وهو السحر، ويعالج به أيضا من حبر عن زوجته، وقد جرب ذلك كثيرا فنفع الله به، وقد يعالج بالفاتحة وحدها فيشفى، وقد يعالج بقل هو الله أحد والمعوذتين وحدها ويشفى.
ومن المهم جدا أن يكون المعالج والمعالج عندهما إيمان صادق، وعندهما ثقة بالله، وعلم بأنه سبحانه مصرف الأمور، وأنه متى شاء شيئا كان، وإذا لم يشأ لم يكن سبحانه وتعالى، فالأمر بيده جل وعلا، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعند الإيمان وعند الصدق مع الله من القارئ والمقروء عليه يزول المرض بإذن الله وبسرعة، وتنفع الأدوية الحسية والمعنوية.
نسأل الله أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، إنه سميع قريب.(1/323)
عَلَيْهَا - إذَا لَمْ يَتُبْ حَتَّى قَدَرَ عَلَيْهِ - بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَيَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِي مَظَانِّ التُّهَمِ فَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ثَابِتٍ.
وَأَمَّا الْمَنْعُ وَالِاحْتِرَازُ فَيَكُونُ مَعَ التُّهْمَةِ كَمَا مَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الصِّبْيَانُ بِمَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ. وَهَذَا مِثْلُ الِاحْتِرَازِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ (1) وَائْتِمَانِ الْمُتَّهَمِ بِالْخِيَانَةِ (2) وَمُعَامَلَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْمَطْلِ.
__________
(1) - المبسوط - (ج 12 / ص 404)
(2) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 9 / ص 444)(1/324)
الفصلُ الرابعُ
العقوباتُ الشرعيةُ من متمماتِ الاحتسابِ (1)
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ " لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (2)؛
__________
(1) - قال ابن القيم: ... (فَصْلٌ) وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ: لَهَا طُرُقٌ شَرْعِيَّةٌ، لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهَا، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَى ذَلِكَ: فَسَدَتْ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَّ النِّظَامُ، بَلْ يَحْكُمُ فِيهَا مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْقَرَائِنِ الْبَيِّنَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ " اللَّهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ.
وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.
وَالْعُقُوبَاتُ - كَمَا تَقَدَّمَ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَأَجْنَاسُهَا وَصِفَاتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْجَرَائِمِ، وَكِبَرِهَا، وَصِغَرِهَا، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ فِي نَفْسِهِ.
وَالتَّعْزِيرُ: مِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبِيخِ، وَبِالزَّجْرِ وَبِالْكَلَامِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحَبْسِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالنَّفْيِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ
وَإِذَا كَانَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ - كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْأَمَانَاتِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ - فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَيْهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جُرْمٍ مَاضٍ: فَعَلَ مِنْهُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ.
وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَكْثَرِهِ، وَأَنَّهُ يَسُوغُ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْمَفْسَدَةُ إلَّا بِهِ، مِثْلُ قَتْلِ الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّاعِي إلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا}.
وَقَالَ: {مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ، وَقَالَ لِقَوْمٍ: أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ أَحْكُمَ فِي نِسَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ}.
وَسَأَلَهُ " ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ " عَمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: {مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهَا فَاقْتُلُوهُ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ شَارِبِهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوْ الرَّابِعَةِ} (35).
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِي تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِي اتَّهَمَ بِجَارِيَتِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ خَصِيٌّ}.
وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِهِ لِلْمَصْلَحَةِ، كَقَتْلِ الْمُكْثِرِ مِنْ اللِّوَاطِ، وَقَتْلِ الْقَاتِلِ بِالْمُثْقَلِ.
وَمَالِكٌ: يَرَى تَعْزِيرَ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ بِالْقَتْلِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَيَرَى أَيْضًا هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ.
وَعَزَّرَ أَيْضًا بِالْهِجْرَةِ، وَعَزَّرَ بِالنَّفْيِ، كَمَا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَمْرِ بِهَجْرِ صَبِيغٍ، وَنَفْيِ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ. الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 359)
وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 385) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 14 / ص 538) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 15 / ص 24) والإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 29)
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 18) =(1/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى " الرِّيَاضَةِ " مَرَّةً فَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا: لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا وَإِنَّمَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ الْعَوَامِّ وَلَوْ تجوهروا لَسَقَطَتْ عَنْهُمْ وَحَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا قَدْ تجوهرنا وَعَرَفْنَا الْحِكْمَةَ. فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ؟ أَمْ يُبَدَّعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ. وَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟.
الْجَوَابُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: حَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَنْ يَكُونُ سَفِيهًا مُفْسِدًا {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ. فَالْكَلِمَةُ الْأُولَى: زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ وَالثَّانِيَةُ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّرَائِعِ مُجَرَّدُ ضَبْطِ الْعَوَامِّ؛ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الصَّلَاحُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدُّنْيَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ. كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْفُجَّارِ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَيَنْضَبِطُ عَنْ انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهَذَا بَعْضُ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ. وَأَمَّا فَوَائِدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا خِطَابٌ أَوْ كِتَابٌ؛ بَلْ هِيَ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ يُطْلَبُ وَيُرَادُ وَفِي الْخُرُوجِ عَنْهَا كُلُّ شَرٍّ وَفَسَادٍ. وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ الْخَوَاصِّ يُوجِبُ أَنَّهُمْ مِنْ حُثَالَةِ مُنَافِقِي الْعَامَّةِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِيمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} {فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مَوْضِعٌ غَيْرِ هَذَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَيَقُولُ مَعْنَاهَا: اُعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْعِبَادَةُ. وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: اعْمَلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَك حَالٌ فَإِذَا حَصَلَ لَك حَالٌ تَصَوُّفِيٌّ [سَقَطَتْ عَنْك الْعِبَادَةُ] وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ إذَا ظَنَّ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَالِ اسْتَحَلَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابَ الْمَحَارِمِ وَهَذَا كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ النَّوَافِلِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مَغْبُونٌ مَنْقُوصٌ جَاهِلٌ ضَالٌّ خَاسِرٌ بِاعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّوَافِلِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا كَمَالَ مَنْ فَعَلَهَا حِينَئِذٍ مُعَظِّمًا لِحَالِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بِالشَّرِيعَةِ - أَمْرًا وَنَهْيًا - إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الْحَالِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ يَفْعَلَ بِمُقْتَضَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَكَشْفِهِ وَرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ حَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْقُوصًا عَاجِزًا مَحْرُومًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الطَّاعَةِ حَتَّى يَصِيرَ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَصِيرَ مُرْتَدًّا مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا مُلَعَّنًا. وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ جِدًّا وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْتَيْقِنِينَ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فَهَذَا قَالُوهُ وَهُمْ فِي =(1/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= جَهَنَّمَ. وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا [عَلَى] مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْآخِرَةِ وَالْخَوْضِ مَعَ الْخَائِضِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ الْيَقِينُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُوَ الْيَقِينُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - {لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ - وَشَهِدَتْ لَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا يُدْرِيك؟ إنِّي وَاَللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} وَقَالَ: {أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ أَتَاهُ مَا وَعَدَهُ وَهُوَ الْيَقِينُ. وَ " يَقِينٌ " عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَسَوَاءٌ كَانَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيّ الْمَوْتِ. كَالْحَبِيبِ وَالنَّصِيحِ وَالذَّبِيحِ أَوْ كَانَ مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ. كَقَوْلِهِ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ؛ وَغَفَرَ اللَّهُ لَك. قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ. فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ؛ بَلْ الْيَقِينُ هُوَ مَا وُعِدَ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَقَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} كَقَوْلِك: يَأْتِيك مَا تُوعَدُ. فَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: اُعْبُدْهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك إيقَانٌ ثُمَّ لَا عِبَادَةَ عَلَيْك. فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ للجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى تَرْكِ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمَشَايِخُهُ يُعَظِّمُونَ النَّكِيرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَأَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ فِي الْعُلُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا فِي أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؛ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. الَّذِي هُوَ نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْخَضِرِ كَانَ مُشَاهِدًا الْإِرَادَةَ الرَّبَّانِيَّةَ الشَّامِلَةَ وَالْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ ". فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بَلْ مِنْ عَظِيمِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا كُفْرٌ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} وَنَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ يس. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ}. وَهَؤُلَاءِ هُمْ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى دَفْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ رُوِيَ فِيهِمْ: " إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ "؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ أَنْكَرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا سَابِقَ الْعِلْمِ. وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَكِنْ [وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا] عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَيَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالْعِقَابِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقَدَرِ وَعَالِمًا بِهِ بَلْ أَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا أَيْضًا مُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ فَهَلْ يَظُنُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ الْخَضِرِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْمَلَامَ مَعَ أَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْقَدَرِ مِنْ الْخَضِرِ بَلْ عُمُومُ أَصْحَابِ مُوسَى يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ بَيَّنَ ذَلِكَ لِمُوسَى. وَقَالَ: إنِّي كُنْت شَاهِدًا لِلْإِرَادَةِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. بَلْ بَيَّنَ لَهُ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً تُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَ. كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا " الْوَجْهُ الثَّانِي ": فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ: أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ أَوْ بَعْضِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ فِي زَعْمِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى النَّبِيِّ زَاعِمِينَ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ. فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِجَمِيعِ النَّاسِ: عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ عَامَّةُ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلَائِقِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَشْرَعُهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ الدِّينِ. وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ قَبْلَهُ أَحْيَاءً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ وَمُطَاوَعَتُهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ =(1/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلَيَنْصُرَنهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ. وَفِي سُنَنِ النسائي عَنْ جَابِرٍ {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي} - هَذَا أَوْ نَحْوُهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَفْظُهُ: {وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ} وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي داود قَالَ: {كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةً أَنْ يَبْتَغُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِكُمْ. أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ بَلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ {أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -} فَإِذَا كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟ بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ إلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ فَكَيْفَ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَالرُّسُلِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ: كَانَ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ صِدْقٌ عَنْهُمْ آمَنَّا بِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَذِبٌ رَدَدْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ حَالَهُ لَمْ نُصَدِّقْهُ وَلَمْ نُكَذِّبْهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ. فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُمْ. وَقُولُوا: آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ}. وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْغَلَطَ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْخَضِرِ مُتَابَعَتَهُ وَطَاعَتَهُ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {إنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ} وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى كَانَتْ خَاصَّةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: فِيمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: {كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً} فَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا اسْتِغْنَاءَ عَنْ رِسَالَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَطَاعَتِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَقُولَ لِمُحَمَّدِ: إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَمَنْ سَوَّغَ هَذَا أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ: الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَمُتَابَعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا. وَقِصَّةُ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ الْخَضِرُ لِمُوسَى الْأَسْبَابَ الَّتِي فَعَلَ لِأَجْلِهَا مَا فَعَلَ وَافَقَهُ مُوسَى وَلَمْ يَخْتَلِفَا حِينَئِذٍ. وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى لَمَا وَافَقَهُ. وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ يُبِيحُ لَهُ الْفِعْلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخِرُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَوَّلِ. مِثْلُ شَخْصَيْنِ: دَخَلَا إلَى بَيْتِ شَخْصٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ طِيبَ نَفْسِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ إمَّا بِإِذْنِ لَفْظِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَرَّفُ. وَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ هَذَا السَّبَبَ لَا يَتَصَرَّفُ وَخَرْقُ السَّفِينَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَكَانَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا أَصْحَابُ السَّفِينَةِ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَهَا خَيْرٌ مِنْ انْتِزَاعِهَا مِنْهُمْ. وَنَظِيرُ هَذَا حَدِيثُ الشَّاةِ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا. فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهَا فَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا وَلَمْ يُلْزِمْ الَّتِي ذَبَحَتْ بِضَمَانِ مَا نَقَصَتْ بِالذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ؛ وَلِهَذَا {بَايَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عُثْمَانَ فِي غَيْبَتِهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَفْظًا} وَلِهَذَا لَمَّا دَعَاهُ أَبُو طَلْحَةَ وَنَفَرًا قَلِيلًا إلَى بَيْتِهِ قَامَ بِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَذَلِكَ لِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْبَرَكَةِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَحَّامًا دَعَاهُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي شَخْصٍ يَسْتَتْبِعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ اللَّحَّامِ مَا عَلِمَهُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْغُلَامِ كَانَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى أَبَوَيْهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْتِنُهُمَا عَنْ دِينِهِمَا وَقَتْلُ الصِّبْيَانِ يَجُوزُ إذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِدَفْعِ الصَّوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نَجْدَةَ الحروري لَمَّا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ قَالَ: " إنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ ". وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ وَكَانَ مُرَاهِقًا لَمَّا ظَنَّهُ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ} فَلَمْ يَقُلْ إنْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ بَلْ قَالَ: {فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ}. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ إعْدَامُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِقَطْعِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ =(1/328)
فَإِنَّ اللَّهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ. مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ (1). وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ؛
__________
= مَحْذُورًا وَإِلَّا كَانَ التَّعْلِيلُ بِالصِّغَرِ كَافِيًا فَإِنَّ الْأَعَمَّ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ كَمَا قَالَ فِي الْهِرَّةِ: {إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ}. وَأَمَّا بِنَاءُ الْجِدَارِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُ أَخْذِ الْجُعْلِ مَعَ جُوعِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَ الْخَضِرُ: أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِمْ مِنْ الشِّيَمِ وَصَلَاحِ الْوَالِدِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّبَرُّعَ؛ وَإِنْ كَانَ جَائِعًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا فَيَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا عَنْ بَعْضِهِمْ ظَاهِرًا لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا فِي أُمَّتِنَا. مِثْلُ أَنْ يُقَدَّمَ لِبَعْضِهِمْ طَعَامٌ فَيُكْشَفُ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْ يَظْفَرْ بِمَالِ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَيَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِذْنَ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّيْخُ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ كَانَ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ فِيهِ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى فَإِنَّ الْمُكَاشَفَاتِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا وَالرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مَعْصُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ الْمُتَلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ كُلَّ شَيْءٍ؛ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ مِثْلُ عُمَرَ؛ وَكَانَ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لِلْمُحَدَّثِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الصَّوَابِ. كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْبَابُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَا يَسُوغُ مُخَالَفَةَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ. نَعَمْ لَفْظُ " الشَّرْعِ " قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَنْ حُكْمِ الْحُكَّامِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُطَابِقُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ وَلِهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: {إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ} وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْحُقُوقِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ بِمَالِ زَيْدٍ لِعُمَرِ لِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَوْ حَكَمَ بِعَقْدِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حُكْمُهُ يُغَيَّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخ. فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ.
(1) - تاريخ المدينة - (ج 3 / ص 988) برقم (1584) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَا يَزَعُ السُّلْطَانُ النَّاسَ أَشَدُّ مِمَّا يَزَعُهُمُ الْقُرْآنُ " في سنده انقطاع
وأخرجه الخطيب (4/ 107) تاريخ بغداد - (ج 2 / ص 224) من طريق الهيثم بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمر بن نافع عن ابن عمر قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن. ولكنه سنده ساقط الهيثم بن عدي متهم، فالحديث ليس موضوعا كما يدعي كثير من الناس
وانظر الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2666) والوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3220) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 3 / ص 356) ومجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 416) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 130 / ص 23) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 27) و (ج 11 / ص 324) و (ج 12 / ص 120) و (ج 12 / ص 125) و (ج 13 / ص 204) ومجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 1 / ص 127) و (ج 3 / ص 168) و (ج 3 / ص 355) و (ج 5 / ص 63) و (ج 10 / ص 43) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1363) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 18 / ص 324) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 1 / ص 33) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 8 / ص 84) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 326) والفتوحات المكية - (ج 5 / ص 358) وآفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 182) وآفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 333) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 13) و (ج 1 / ص 34) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 359) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 200) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 2 / ص 19) و (ج 2 / ص 357) و (ج 2 / ص 458) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 5 / ص 313) وأدب الدنيا والدين - (ج 1 / ص 163) وبدائع السلك في طبائع الملك - (ج 1 / ص 6) وشرح السير الكبير - (ج 1 / ص 177) وغياث الأمم في التياث الظلم - (ج 1 / ص 7) وتهذيب الرياسة وترتيب السياسة - (ج 1 / ص 8) والفخري في الآداب السلطانية - (ج 1 / ص 17).(1/329)
وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ (1).
__________
= إن من الناس من لا يصلحه إلا قوة السلطان، ومن الناس من يصلحه القرآن، إذا قرأ القرآن اتعظ وانتفع، ومن الناس من هو شرير لا يصلحه إلا السلطان، ويدل لهذا أن الزاني إذا زنا ماذا يُصنع به؟ يُجلد، لا نقول: نأتي به، نقرأ عليه القرآن، ونحذره من الزنا، وما أشبه ذلك، نجلده؛ لأن هذا يردعه وأمثالَه عن العودة إليه
(1) - وفي كتاب الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 28)
1 - إقامة الشرائع والحدود وتنفيذ الأحكام:
من لوازم حراسة الدين أيضًا تنفيذ أحكامه من: جباية الزكاة، وتقسيم الفيء، وتنظيم الجيوش المجاهدة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وإقامة الحدود التي شرعها الله عز وجل، وأمر بتنفيذها. وحيث إن أقامتها من اختصاصات الولاة أو من ينيبونه عنهم من القضاة الشرعيين ونحوهم. حيث لا يستطيع آحاد الناس إقامتها وإلا كانت هناك الفتن والإحن، لذلك فهي من مقاصد الإمامة المختصة بها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات) (1)
والعقوبات الشرعية نوعان: عقوبة مقَّدرة. وهي: الحدود: كحد السرقة، وجلد المفتري. وعقوبة غير مقدرة. وهي: التعزير. وهذه راجعة إلى اجتهاد
الحاكم أو من ينيبه من القضاة الشرعيين، وتختلف صفاتها ومقاديرها بحسب كبر الذنب وصغره وبحسب حال المذنب.
وهذه الحدود لم تشرع إلا للتطبيق، فيجب إقامتها على الشريف والوضيع، والقوي والضعيف، لا يحل تعطيلها لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» (2). وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضادَّ الله في أمره» (3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «حدّ يعمل به في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحًا» (4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: (وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى، فحصل الرزق والنصر) (5).
وإن من أعظم المنكرات في هذا الشأن أن يترك الوالي إنكار المنكر، أو إقامة الحدّ بمال يأخذه كما قال ابن تيمية: (وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات، وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه، كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء إمرأة لوط) (6).
2 - حمل الناس عليه بالترغيب والترهيب:
ومن مقاصد الإمامة في تنفيذ الدين حمل الناس على الوقوف عند حدود الله، والطاعة لأوامره وترغيبهم في ذلك، ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية كما سبق. لأن بعض الناس لا يصلح إلا بالقوة، كما أن بعضهم لا يصلحه إلا اللين والسماحة. كما قال الشوكاني رحمه الله: (فإن من الناس من يصلح بالهوان، ويفسد بالإكرام كما هو معلوم لكل من يعرف أحوال الناس واختلاف طبقاتهم) (7). فمثل هؤلاء يجب أطرهم على الحق أطرًا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص، كان الرجل يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه، فإذا كان من الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... ? حتى بلغ ? وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ? (8)». فقال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس
وقال «لا. حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه (9) على الحق أطرًا» (10).
ولكن هذا الأسلوب لا يمكن استعماله إلا بعد إزالة عوامل الإفساد والمنكرات من المجتمع، وهو من وسائل حفظ الدين وتنفيذه، ومن مقاصد الإمامة، فلا يمكن الادعاء بحفظ الدين وجبر الناس عليه مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إزالة ولا إبعاد مع توفر القدرة على ذلك. كما أنه ينبغي تيسير طرق الخير أمام العامة، والترغيب فيه بكل ممكن.
__________
(1) الحسبة (ص 55).
(2) رواه ابن ماجة في ك: الحدود. ب: 3، ح2540 (2/ 849) قال في الزوائد هذا إسناد صحيح على شرط ابن حبان، فقد ذكر جميع رواته في ثقاته.
(3) رواه أبو داود في ك: الأقضية. ب: 14، عون (10/ 5) ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 70) وصححه أحمد شاكر. انظر: تخريجه للمسند (7/ 204) ح5385. كما صححه الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة ح438
(4) رواه النسائي في ك: حد السارق. ب: الترغيب في إقامة الحد، (8/ 76)، وابن ماجة في ك: الحدود، ب: 3، ح2538 (2/ 848)، ورواه أحمد في مسنده (2/ 362). وصححه الحسيني عبد المجيد هاشم في تكملته لتخريج المسند ح8723، (16/ 301). والحديث حسّنه المنذري في الترغيب 1533. وقال ابن حجر في مختصر الترغيب والترهيب: رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وسند الكبير حسن (ص 206). كما حسَنه العراقي في تخريجه للإحياء (2/ 155). وحسّنه الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة ح231.
(5) السياسة الشرعية (ص 68).
(6) السياسة الشرعية (ص 73).
(7) من كتابه (قطر الولي على حديث الولي) أو (ولاية والله والطريق إليها) تقديم وتحقيق د. إبراهيم هلال (ص 259). ط. 1397 هـ. ن. دار الكتب الحديثة. مصر.
(8) سورة المائدة آية 8، 81.
(9) الأطر: عطف الشيء تقبض على أحد طرفيه فتعوجه لسان العرب مادة (أطر) (4/ 24) والمعنى: تعطفونه على الحق.
(10) رواه ابن ماجة في ك: الفتن. ب: الأمر بالمعروف ... ، ح 4006 (2/ 1328) واللفظ له. ورواه الترمذي في تفسير سورة المائدة ح3047 (5/ 252)، وقال: حسن غريب، ورواه أبو داود في ك: الملاحم. ب: 17، عون (11/ 488). وقال المنذري: ذكر أن بعضهم رواه عن أبي عبيدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ... وقد تقدم أنا أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه فهو منقطع. عون المعبود (11/ 488)، ورواه الإمام أحمد في المسند (1/ 391)، وقال عنه أحمد شاكر: ضعيف لانقطاعه، ح3717، من المسند (5/ 268) تحقيق أحمد شاكر.
وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 15 / ص 24) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 359)(1/330)
فَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ (1)؛ مِثْلَ جَلْدِ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ (2) وَقَطْعِ السَّارِقِ (3).
__________
(1) - وفي شرح الأربعين النووية - (ج 2 / ص 120)
وأما الحدود -اصطلاحا- فهي عقوبات مقدرة شرعاً لتمنع من الوقوع، في مثل ما ارتكب من المعاصي.
والحدود ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء في الجملة، ويقتضيها القياس الصحيح، فهي جزاء لما انتهكه العاصي من محارم الله تعالى.
حكمتها التشريعية:
لها حكم جليلة، ومعان سامية، وأهداف كريمة.
ولذا ينبغي إقامتها، لداعي التأديب والتطهير والمعالجة، لا لغرض التشفي والانتقام، لتحصل البركة والمصلحة، فهي نعمة من الله تعالى كبيرة على خلقه.
فهي للمحدود طهرة عن إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي.
وهي له ولغيره رادعة وزاجرة عن الوقوع في المعاصي.
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض.
فهي أمان وضمان للجمهور على دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وبإقامتها يصلح الكون، وتعمر الأرض، ويسود الهدوء والسكون، وتتم النعمة بانقماع أهل الشر والفساد.
وبتركها -والعياذ بالله- ينتشر الشر ويكثر الفساد، فيحصل من الفضائح والقبائح، ما معه يكون بطن الأرض خيرا من ظهرها.
ولا شك أنها من حكمة الله تعالى ورحمته. والله عزيز حكيم.
على أن الشارع الرحيم حين شرع الحدود، سبقت رحمته فيها عقابه.
فعفا عن الصغار، وذاهبي العقول. والذين فعلوا لجهل بحقيقتها.
وصعب أيضا ثبوتها، فاشترط في الزنا أربعة رجال عدول، يشهدون بصريح وقوع الفاحشة، أو اعترافاً من الزاني بلا إكراه وبقاء منه على اعترافه حتى يقام عليه الحد.
وفي السرقة لا قطع إلا بالثبوت التام، وانتفاء للشبهة، وتمام لشروط القطع. إلى غير ذلك مما هو مذكور في بابه.
وأمر بدرء الحدود بالشبهات، كل هذا لتكون توبة العبد بينه وبين نفسه. والله غفور رحيم.
اونظر تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (ج 2 / ص 139) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4458) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8974) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 22) و (ج 4 / ص 635) و (ج 8 / ص 115) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 85 - 86) و (ج 2 / ص 169) و (ج 2 / ص 189) و (ج 2 / ص 192) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 2 / ص 490) وشرح زاد المستقنع - (ج 372 / ص 3) ومطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 7) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 58)
(2) - لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
(3) - لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (38) سورة المائدة(1/331)
وَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ (1) قَدْ تُسَمَّى " التَّعْزِيرَ " (2). وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَصِفَاتُهَا بِحَسَبِ كِبَرِ الذُّنُوبِ وَصِغَرِهَا؛ وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ؛ وَبِحَسَبِ حَالِ الذَّنْبِ فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ.
__________
(1) - وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 635)
التعزيرات: وهي التي لم يحدد لها الشرع نوعاً ولا مقداراً معيناً، وإنما فوضها إلى تقدير الحكام لتطبيق ما يرونه محققاً للمصلحة بحسب ظروف الجاني والجناية.
والحكمة من تشريع الحدود أو العقوبات عامة: هو زجر الناس وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن الفساد، وتخليص الإنسان من آثار الخطيئة، وإصلاح الجاني.
قال ابن تيمية (2) وابن القيم (3): كان من حكمة اِلله سبحانه وتعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة. وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
__________
(1) رسالته في القياس: ص 85، السياسة الشرعية له: ص 98.
(2) أعلام الموقعين: 95/ 2، 107 ومابعدها.
وفي التشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 248)
الفرق بين التعازير وغيرها من العقوبات: هناك فروق ظاهرة تميز التعازير عن العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، وأهم هذه الفروق ما يأتي:
(1) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي عقوبات مقدرة معينة، فهي عقوبات لازمة ليس للقاضي أن يستبدل بها غيرها، وليس له أن ينقص منها أو يزيد فيها ولو كانت بطبيعتها ذات حدين كالجلد؛ لأن تقديرها وتعيينها يجعلها في حكم العقوبة ذات الحد الواحد. أما التعازير فهي عقوبات غير مقدرة، فللقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة، وهي في الغالب ذات حدين وللقاضي أن ينزل بالعقوبة إلى حدها الأدنى أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى، على أن من عقوبات التعازير ما هو ذو حد واحد كالتوبيخ والنصح، ولكن القاضي مع هذا غير مقيد بعقوبة بعينها إلا إذا كانت هي بالذات الملائمة للجريمة والمجرم.
(2) العقوبات المقررة لجرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تقبل العفو ولا الإسقاط من ولي الأمر، أما التعازير فتقبل العفو من ولي الأمر سواء كانت الجريمة ماسة بالجماعة أو بالأفراد.
(3) عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ينظر فيها إلى الجريمة ولا اعتبار فيها لشخصية المجرم، أما التعازير فينظر فيها إلى الجريمة وإلى شخص المجرم معاً.
(2) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 359)
112 - (فَصْلٌ) وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ: لَهَا طُرُقٌ شَرْعِيَّةٌ، لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهَا، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَى ذَلِكَ: فَسَدَتْ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَّ النِّظَامُ، بَلْ يَحْكُمُ فِيهَا مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْقَرَائِنِ الْبَيِّنَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ " اللَّهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ.
وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.
وَالْعُقُوبَاتُ - كَمَا تَقَدَّمَ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَأَجْنَاسُهَا وَصِفَاتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْجَرَائِمِ، وَكِبَرِهَا، وَصِغَرِهَا، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ فِي نَفْسِهِ.
وَالتَّعْزِيرُ: مِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبِيخِ، وَبِالزَّجْرِ وَبِالْكَلَامِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحَبْسِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالنَّفْيِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ
وَإِذَا كَانَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ - كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْأَمَانَاتِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ - فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَيْهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جُرْمٍ مَاضٍ: فَعَلَ مِنْهُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ.
وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَكْثَرِهِ، وَأَنَّهُ يَسُوغُ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ تَنْدَفِعْ الْمَفْسَدَةُ إلَّا بِهِ، مِثْلُ قَتْلِ الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّاعِي إلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا}.
وَقَالَ: {مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ، وَقَالَ لِقَوْمٍ: أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ أَحْكُمَ فِي نِسَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ}.
وَسَأَلَهُ " ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ " عَمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: {مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهَا فَاقْتُلُوهُ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ شَارِبِهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوْ الرَّابِعَةِ} (35).
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِي تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ}.
{وَأَمَرَ بِقَتْلِ الَّذِي اتَّهَمَ بِجَارِيَتِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ خَصِيٌّ}.
وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ التَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِهِ لِلْمَصْلَحَةِ، كَقَتْلِ الْمُكْثِرِ مِنْ اللِّوَاطِ، وَقَتْلِ الْقَاتِلِ بِالْمُثْقَلِ.
وَمَالِكٌ: يَرَى تَعْزِيرَ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ بِالْقَتْلِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَيَرَى أَيْضًا هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ.
وَعَزَّرَ أَيْضًا بِالْهِجْرَةِ، وَعَزَّرَ بِالنَّفْيِ، كَمَا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَفْيِهِمْ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَمْرِ بِهَجْرِ صَبِيغٍ، وَنَفْيِ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ.(1/332)
" وَالتَّعْزِيرُ " أَجْنَاسٌ. فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ بِالْكَلَامِ (1). وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحَبْسِ (2).
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 385)
(2) - سنن أبى داود برقم (3632) عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِى تُهْمَةٍ. وهو صحيح
وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 515)
متى يشرع الحبس؟
قال جماعة من الفقهاء بمشروعية الحبس، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً في تهمة، ثم خلى عنه (1)، وهذا هو الحبس الاحتياطي. وقال عليه السلام: «لي الواجد يُحلَّ عِرْضه وعقوبته» (2). وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن، وتبعه في ذلك عثمان، وعلي رضي الله عنهم. واستدل الحنفية على مشروعية الحبس بقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 5/ 33] قالوا: والمقصود من النفي هو الحبس (3).ويشرع الحبس في ثمانية مواضع، كما أبان القرافي المالكي (4):
الأول ـ يحبس الجاني لغيبة المجني عليه، حفظاَ لمحل القصاص.
الثاني ـ حبس الآبق سنة، حفظاً للمالية رجاء أن يعرف صاحبه.
الثالث ـ يحبس الممتنع عن دفع الحق إلجاء إليه.
الرابع ـ يحبس من أشكال أمره في العسر واليسر، اختباراً لحاله، فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسراً أو يسراً.
الخامس ـ الحبس للجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله تعالى.
السادس ـ يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي لا تدخله النيابة، من حقوق العباد، كحبس من أسلم متزوجاً بأختين أو عشر نسوة، أو امرأة وابنتها، وامتنع من تعيين واحدة.
السابع ـ من أقر بمجهول، عيناً أو في الذمة، وامتنع من تعيينه، فيحبس حتى يعينه، فيقول: العين هو هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوها، أو الشيء الذي أقرت به هو دينار في ذمتي.
الثامن ـ يحبس الممتنع في حق الله تعالى الذي لا تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم. وعند المالكية: يقتل كالصلاة.
قال القرافي: وما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه، ولا يجوز الحبس ي الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه، فإن امتنع المدين من دفع الدين، وعرف ماله، أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله، أو داره، أو شيء يباع له في الدين، رهناً كان أو غيره، فعلنا ذك ولا نحبسه؛ لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم.
_________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن بهز بن حكيم. والتهمة: الظن بما نسب إلى إنسان (نيل الأوطار: 150/ 7).
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الشريد. واللي: المطل، والواجد: الغني، يحل: يجوز وصفه بكونه ظالماً، وعرضه: شكايته، وعقوبته: حبس. وقد استدل بالحديث على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادراً على القضاء تأديباً له وتشديداً عليه، لا إذا لم يكن قادراً (نيل الأوطار: 240/ 5).
(3) تبيين الحقائق: 208/ 3، أحكام القرآن للجصاص: 412/ 2، المغني: 328/ 9.
(4) الفروق: 79/ 4، الاعتصام: 120/ 2، وانظر الطرق الحكمية لابن القيم: ص 101 ومابعدها.(1/333)
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنْ الْوَطَنِ (1).
__________
(1) - قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33) سورة المائدة
وفي صحيح البخارى برقم (2649) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ.
وفي طرح التثريب - (ج 8 / ص 400)
(الْعَاشِرَةُ) فِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالنَّفْيِ عَنْ الْوَطَنِ لِمَنْ يُخَافُ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْفِسْقُ وَعَلَى تَحْرِيمِ ذِكْرِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إطْلَاعَ النَّاسِ عَلَى عَوْرَتِهَا وَتَحْرِيكَ النُّفُوسِ إلَى مَا لَا يَحِلُّ مِنْهَا وَأَمَّا ذِكْرُ مَحَاسِنِ مَنْ لَا تُعْرَفُ مِنْ النِّسَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَدْعُ إلَى مَفْسَدَةٍ مِنْ تَهْيِيجِ النُّفُوسِ عَلَى الْوُقُوعِ فِي مُحَرَّمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
التشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 198)
والتغريب يعتبر عقوبة تكميلية بالنسبة لعقوبة الجلد، وله في نظرنا علتان:
الأولى: التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن, وهذا يقتضي إبعاد المجرم عم مسرح الجريمة, أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة.
الثانية: أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لابد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقان إلى حد قطع الرزق وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير، فالإبعاد يهيئ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة.
وظاهر مما سبق أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولاً ولصالح الجماعة ثانياً، =(1/334)
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ (1). فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِثْلَ الضَّرْبِ
__________
= وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 385) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 3 / ص 16) وشرح زاد المستقنع - (ج 375 / ص 4)
(1) - وفي الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 181)
- أما التعزير فهو التأديب بما يراه الحاكم زاجرا لمن يفعل فعلا محرما عن العودة إلى هذا الفعل فكل من أتى فعلا محرما لا حد فيه ولا قصاص ولا كفارة فإن على الحاكم أن يعزره بما يراه زاجرا له عن العودة من ضرب أو سجن أو توتبيخ
وقد اشترط بعض الأئمة أن لا يزيد التعزير بالضرب على ثلاثين سوطا وقال بعضهم وهم المالكية: إن للإمام أن يضربه بما يراه زاجرا ولو زاد عن مائة بشرط أن لا يفضي ضربه إلى الموت (1)
وبعضهم وهم الحنابلة - قالوا: إنه لا يزيد في الضرب عن عشرة أسواط. ولكن أبن القيم الحنبلي لم يوافق على هذا فقد ذكر (في أعلام الموقعين) أن التعزير بالضرب قد وصل إلى مائة سوط عند الحنابلة كما إذا وطئ شخص جارية امرأته بإذنها - فإنه يعزر بضرب مائة. وقال: إن عمر بن الخطاب زاد في حد شرب الخمر أربعين فأوصله إلى ثمانين ولا يعقل أن تكون هذه الزيادة من أصل الحد الي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أربعون
على أنك قد عرفت أن بعض العلماء يقول: إن عقوبة الشرب كلها من باب التعزير لا من باب الحد
وظاهر عبارة أبن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) تفيد أن للحاكم أن يعزر بما يشاء من سجن أو ضربن كما هو رأي المالكية فكل عقوبة تناسب حال البيئة وتخيف المجرمين يجب أن تنفذ
على أن الحنفية الذين قالوا: إنه لا يجوز للحاكم أن يزيد في التعذير بالضرب على ثلاثين سوطا وقالوا: إن للحاكم أن يعزر بالقتل فإن عقوبة اللواكة عندهم من باب التعزير ومع ذلك فإنهم يقولون: إذا تكررت هذه الفاحشة من شخص فإنه يعزر بالإعدام. إذ لا يليق أن يوجد بين النوع الإنساني من تنقلب طبيعته إلى هذا الحد ولا يخفى ما في هذا من سلطة واسعة يتصرف فيها الحاكم بما يرى فيه المصلحة
__________
(1) (تعريفه: التعزير مصدر عزر من العزر وهو الرد والمنع ومنه قوله تعالى: {وتعزروه} أي تدفعوا العدو عنه وتمنعوه وفي الشرع تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة وهو مخالف للحدود من ثلاثة أوجه
الأول: أنه يختلف باختلاف الناس فتعزير ذوي الهيئات أخف من تعزير عامة الناس مع انهم يستوون في الحدود مع الناس لا فرق بين عربي وقرشين فالكل امام الحدود سواء
الثاني: أنه تجوز فيه الشفاعة والعفو ولو بعد وصوله إلى الحاكمن بخلاف الحدود فإنه لا تجوز فيها الشفاعةز إذا ما وصل الأمر إلى الحاكم
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا: إن التالف بالتعزير غير مضمون مثل الحدود لأنه مأمور
الشافعية - قالوا: إن التالف بالتعزير مضمون بخلاف الحدود فإنها غير مضمونة
قال العلماء: والتأديب للأولاد أو للزوجة عندهم تعزيرا لدفعه ورده عن فعل القبائح ويكون التعذير بالقول والتأنيب ويكون بالضرب والحبس ويكون بالغرامة المالية حسب ما يقتضيه حال الفاعل وما يراه الحاكم من المصلحة للجاني اهـ
حكمه في الشريعة
الحنفية والمالكية - قالوا: إن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجبا وإن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجبا وإن غلب على ظنه إصلاحه بغيره لم يجب. تعظيما لحضرة الله تعالى إن يعصي العبد ربه فيها وهو ينظر إليه سبحانه فكان الضرب المؤلم له واجبا ليتنبه لقبح فعله في المستقبل ويصير يتذكر الألم الذي حصل له في الماضي فيستغفر ربه منه
الشافعية - قالوا: لا يجب التعزير على الحاكم لأنه لا يحصل به كبير زجرن ولا ردع عن المعاصي المستقبلة إن كانت معلقة على حصول الألم الواقع لذلك العبد
الحنابلة - قالوا: إن استحق بفعله التعزير كان واجبا وإن لم يستحق فلا يجب
ضرب الأب ولده تأديبا
المالكية والحنابلة - قالوا: إن الأب إذا ضرب الصبي للتعليم فمات الولد أو الصبي من أثر الضرب فلا ضمان عليه لأن الأب والمعلم لا يضربان للإصلاح والتأديب
الحنفية والشافعية - قالوا: إن الاب إذا ضرب ابنه فمات يجب عليه الدية في ماله ولا يرث منها وكذل المعلم لحفظ القرآن والكتابة أو الصنعة إذا ضرب الصبي لاجل التعليم فمات من الضرب وجب عليه الضمان وذلك حتى يتحفظ الأب في ضربه لولده فإنه ربما قامت نفسه من ولده فضربه لا لمصلحة كالأجينب فوجب الضمان احتياطا
ضرب الحاكم للتعزير
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا: إن الإمام إذا ضرب رجلا للتعزير فمات بسبب الضرب فلا يجب عليه الضمان لأن منصب الإمام يجل عن أن يعزر احدا بغير المصلحة بخلاف غير الإمام فإنه قد يعزر غيره وعنده شائبة تشف منه لعداوة سابقة مثلا وما سمعنا أن حاكما قتل بقتله احدا في تعزير ولا غرم دية
الشافعية - قالوا: إن الإمام لو عزر رجلا فمات بسببه وجب عليه الضمان لأن الشرع لا محاباة فيه لاحد من الناس فالإمام الأعظم كآحاد الناس في تطبيق أحكام الشربعة عليه
قالوا: والتعزير مشروع سواء أكان الذنب حقا لله تعالى أم لآدمي وسواء أكان من مقدمات ما فيه حد كمباشرة أجنبية في غير الفرج وسرقة ما لا قطع فيه والسبب بما لا قذف فيه أن لا. كجناية التزوير في الأوراق الرسمية واختلاس الأموال وشهادة الزور)(1/335)
عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ (1) أَوْ تَرْكِ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ: مِثْلَ تَرْكِ وَفَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ أَوْ عَلَى تَرْكِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ؛ أَوْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى أَهْلِهَا: فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَيْهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.
وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءً بِمَا كَسَبَ وَنَكَالًا مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: فَهَذَا يُفْعَلُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَقَطْ وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ (2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (495) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ» وهو صحيح.
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 394)
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ. فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا. وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ؛ فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ. وَأَمَّا أَعْلَاهُ؛ فَقَدْ قِيلَ: " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ ": لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ. وَقِيلَ؛ بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ: " يُضْرَبَانِ مِائَةً ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ: إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ: رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ. وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالُوا: إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَقَدْ رُوِيَ {عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ مَتَى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ: بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {عَنْ عرفجة الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ}. وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي أَمْرِهِ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ {عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بِأَرْضِ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَأَنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا. فَقَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؟ قُلْت نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ. قُلْت إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ}. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ. فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءٌ بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ. وَ (الثَّانِي الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا. فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرَبَ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ. عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: {لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ} قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: مِثْلَ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ. فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}. وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ. وَمُرَادُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ ضُرِبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرِ جَلَدَاتٍ. وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ " وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمُقَارِعِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ؛ بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا الْحُدُودُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَدِّبُ بِالدِّرَّةِ؛ فَإِذَا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كُلُّهَا؛ بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ مَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبْ مُقَاتِلَهُ} فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الضَّرْبِ كَالظَّهْرِ وَالْأَكْتَافِ وَالْفَخِذَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/336)
وَأَمَّا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ (1):
__________
(1) - وفي الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 478)
وَاخْتُلِفَ فِي أَكْثَرِ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الضَّرْبُ فِي التَّعْزِيرِ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْحُرِّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا لِيَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ الْحُدُودِ فِي الْخَمْرِ، فَلَا يُبْلَغَ بِالْحُرِّ أَرْبَعِينَ وَبِالْعَبْدِ عِشْرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَكْثَرُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُتَجَاوَزَ بِهِ أَكْثَرَ الْحُدُودِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ تَعْزِيرُ كُلِّ ذَنْبٍ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ حَدِّهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ وَأَعْلَاهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ يُقَصَّرُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ بِخَمْسَةِ أَسْوَاطٍ، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ فِي التَّعْزِيرِ بِالزِّنَا رُوعِيَ مِنْهُ مَا كَانَ، فَإِنْ أَصَابُوهَا بِأَنْ نَالَ مِنْهَا مَا دُونَ الْفَرْجِ ضَرَبُوهُمَا أَعْلَى التَّعْزِيرِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا، وَإِنْ وَجَدُوهُمَا فِي إزَارٍ لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا مُتَبَاشِرَيْنِ غَيْرَ مُتَعَامِلَيْنِ لِلْجِمَاعِ ضَرَبُوهُمَا سِتِّينَ سَوْطًا، وَإِنْ وَجَدُوهُمَا غَيْرَ مُتَبَاشِرَيْنِ ضَرَبُوهُمَا أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وَجَدُوهُمَا خَالِيَيْنِ فِي بَيْتٍ عَلَيْهِمَا ثِيَابُهُمَا ضَرَبُوهُمَا ثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وَجَدُوهُمَا فِي طَرِيقٍ يُكَلِّمُهَا وَتُكَلِّمُهُ ضَرَبُوهُمَا عِشْرِينَ سَوْطًا، وَإِنْ وَجَدُوهُ يَتْبَعُهَا، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى ذَلِكَ يُحَقِّقُوا، وَإِنْ وَجَدُوهُمَا يُشِيرُ إلَيْهَا وَتُشِيرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ كَلَامٍ ضَرَبُوهُمَا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي التَّعْزِيرِ بِسَرِقَةِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَإِذَا سَرَقَ نِصَابًا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ضُرِبَ أَعْلَى التَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ضُرِبَ سِتِّينَ سَوْطًا
وَإِذَا سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ضُرِبَ خَمْسِينَ سَوْطًا، فَإِذَا جَمَعَ الْمَالَ فِي الْحِرْزِ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ قَبْلَ إخْرَاجِهِ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَإِذَا نَقَبَ الْحِرْزَ وَدَخَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ ضُرِبَ ثَلَاثِينَ سَوْطًا.
وَإِذَا نَقَبَ الْحِرْزَ وَلَمْ يَدْخُلْ ضُرِبَ عِشْرِينَ سَوْطًا.
وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلنَّقْبِ أَوْ لِفَتْحِ بَابٍ وَلَمْ يُكْمِلْهُ ضُرِبَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ.
وَإِذَا وُجِدَ مَعَهُ مِنْقَبٌ أَوْ كَانَ مُرْصِدًا لِلْمَالِ يُحَقَّقُ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فِي الظَّاهِرِ فَقَدْ تَجَرَّدَ الِاسْتِحْسَانُ فِيهِ عَنْ دَلِيلٍ يُتَقَدَّرُ بِهِ،
وانظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 13 / ص 436) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 183) والمحلى [مشكول وبالحواشي]- (ج 11 / ص 818) مَسْأَلَة مِقْدَار التَّعْزِير 2309 والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14422) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 3 / ص 16) وفتح القدير - (ج 12 / ص 167) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 13 / ص 194) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 13 / ص 414) والإنصاف - (ج 9 / ص 6) وشرح منتهى الإرادات - (ج 5 / ص 373) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 9 / ص 124) والإقناع - (ج 2 / ص 207) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 478).(1/337)
أَحَدُهَا: عَشْرُ جَلَدَاتٍ.
وَالثَّانِي: دُونَ أَقَلِّ الْحُدُودِ؛ إمَّا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا؛ وَإِمَّا تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد.
وَالثَّالِثُ. أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ مُقَدَّرٌ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ مِثْلَ التَّعْزِيرِ: عَلَى سَرِقَةٍ دُونَ النِّصَابِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَطْعَ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ بِالْخَمْرِ لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدَّ الشُّرْبِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ؛ عَلَيْهِ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ؛ فَقَدَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِضَرْبِ الَّذِي أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً وَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ ... (1).
__________
(1) - مسند أحمد برقم (18894) عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ رُفِعَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَجُلٌ أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا فَقَالَ لأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَئِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ لأَجْلِدَنَّهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ لأَرْجُمَنَّهُ. قَالَ فَوَجَدَهَا قَدْ أَحَلَّتْهَا لَهُ فَجَلَدَهُ مِائَةً. وفيه ضعف
وفي الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4441) =(1/338)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ممّا لا خلاف فيه عند الحنفيّة: أنّ التّعزير لا يبلغ الحدّ، لحديث: «من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين» واختلف الحنفيّة في أقصى الجلد في التّعزير:
فيرى أبو حنيفة: أنّه لا يزيد عن تسعة وثلاثين سوطا بالقذف والشّرب، أخذا عن الشّعبيّ، إذ صرف كلمة الحدّ في الحديث إلى حدّ الأرقّاء وهو أربعون.
وأبو يوسف قال بذلك أوّلا، ثمّ عدل عنه إلى اعتبار أقلّ حدود الأحرار وهو ثمانون جلدة.
وجه ما ذهب إليه أبو حنيفة: أنّ الحديث ذكر حدّا منكّرا، وأربعون جلدة حدّ كامل في الأرقّاء عند الحنفيّة في القذف والشّرب، فينصرف إلى الأقلّ.
وأبو يوسف اعتمد على أنّ الأصل في الإنسان الحرّيّة، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ، فليس حدّاً كاملاً، ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل في كلّ باب.
وفي عدد الجلدات روايتان عن أبي يوسف: إحداهما: أنّ التّعزير يصل إلى تسعة وسبعين سوطا، وهي رواية هشام عنه، وقد أخذ بذلك زفر، وهو قول عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وهو القياس، لأنّه ليس حدّاً فيكون من أفراد المسكوت عن النّهي عنه في حديث: «من بلغ حدّاً في غير حدّ.»
والثّانية: وهي ظاهر الرّواية عن أبي يوسف: أنّ التّعزير لا يزيد على خمسة وسبعين سوطاً، وروي ذلك أثرا عن عمر رضي الله عنه، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً، وأنّهما قالا: في التّعزير خمسة وسبعون.
وأنّ أبا يوسف أخذ بقولهما في نقصان الخمسة، واعتبر عملهما أدنى الحدود.
وعند المالكيّة قال المازريّ: إنّ تحديد العقوبة لا سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب، وقال: إنّ مذهب مالك يجيز في العقوبات فوق الحدّ.
وحكي عن أشهب: أنّ المشهور أنّه قد يزاد على الحدّ.
وعلى ذلك فالرّاجح لدى المالكيّة: أنّ الإمام له أن يزيد التّعزير عن الحدّ، مع مراعاة المصلحة الّتي لا يشوبها الهوى.
وممّا استدلّ به المالكيّة: فعل عمر في معن بن زياد لمّا زوّر كتابا على عمر وأخذ به من صاحب بيت المال مالا، إذ جلده مائة، ثمّ مائة أخرى، ثمّ ثالثة، ولم يخالفه أحد من الصّحابة فكان إجماعاً، كما أنّه ضرب صبيغ بن عسل أكثر من الحدّ.
وروى أحمد بإسناده أنّ عليّا رضي الله عنه أتي بالنّجاشيّ قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين «الحدّ» وعشرين سوطا، لفطره في رمضان.
كما روي: أنّ أبا الأسود استخلفه ابن عبّاس رضي الله عنهما على قضاء البصرة فأتي بسارق قد جمع المتاع في البيت ولم يخرجه، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلّى سبيله.
وقالوا في حديث أبي بردة رضي الله عنه: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله» إنّه مقصور على زمن الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وتأوّلوه على أنّ المراد بقوله: في حدّ، أي في حقّ من حقوق الله تعالى، وإن لم يكن من المعاصي المقدّر حدودها لأنّ المعاصي كلّها من حدود الله تعالى.
وعند الشّافعيّة: أنّ التّعزير إن كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه التّعزير، فينقص في العبد عن عشرين، وفي الحرّ عن أربعين، وهو حدّ الخمر عندهم، وقيل بوجوب النّقص فيهما عن عشرين، لحديث: «من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين» ويستوي في النّقص عمّا ذكر جميع الجرائم على الأصحّ عندهم.
وقيل بقياس كلّ جريمة بما يليق بها ممّا فيه أو في جنسه حدّ، فينقص على سبيل المثال تعزير مقدّمة الزّنى عن حدّه، وإن زاد على حدّ القذف، وتعزير السّبّ عن حدّ القذف، وإن زاد على حدّ الشّرب.
وقيل في مذهب الشّافعيّة: لا يزيد في أكثر الجلد في التّعزير عن عشر جلدات أخذا بحديث أبي بردة: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله» لما اشتهر من قول الشّافعيّ: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، وقد صحّ هذا الحديث.
وعند الحنابلة: اختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير، فروي أنّه لا يبلغ الحدّ.
وقد ذكر الخرقيّ هذه الرّواية، والمقصود بمقتضاها: أنّه لا يبلغ بالتّعزير أدنى حدّ مشروع، فلا يبلغ بالتّعزير أربعين، لأنّ الأربعين حدّ العبد في الخمر والقذف، ولا يجاوز تسعة وثلاثين سوطاً في الحرّ، ولا تسعة عشر في العبد على القول بأنّ حدّ الخمر أربعون سوطاً.
ونصّ مذهب أحمد: أن لا يزاد على عشر جلدات في التّعزير، للأثر: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ.» إلا ما ورد من الآثار مخصّصا لهذا الحديث، كوطء جارية امرأته بإذنها، ووطء جارية مشتركة المرويّ عن عمر.
قال ابن قدامة: ويحتمل كلام أحمد والخرقيّ: أنّه لا يبلغ التّعزير في كلّ جريمة حدّا مشروعاً في جنسها، ويجوز أن يزيد على حدّ غير جنسها، وقد روي عن أحمد ما يدلّ على هذا.
واستدلّ بما روي عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها: أنّه يجلد مائة جلدة، وهذا تعزير، لأنّ عقاب هذه الجريمة للمحصن الرّجم، وبما روي عن سعيد بن المسيّب عن عمر رضي الله عنه في الرّجل الّذي وطئ أمة مشتركة بينه وآخر: أنّه يجلد الحدّ إلّا سوطاً واحداً، وقد احتجّ بهذا الحديث أحمد.
وقد زاد ابن تيميّة وابن القيّم رأياً رابعاً: هو أنّ التّعزير يكون بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجتهد فيه وليّ الأمر على ألا يبلغ التّعزير فيما فيه حدّ مقدّر ذلك المقدّر، فالتّعزير على سرقة ما دون النّصاب مثلا لا يبلغ به القطع، وقالا: إنّ هذا هو أعدل الأقوال، وإنّ السّنّة دلّت عليه، كما مرّ في ضرب الّذي أحلّت له امرأته جاريتها مائة لا الحدّ وهو الرّجم، كما أنّ عليّا وعمر رضي الله عنهما ضربا رجلا وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة، وحكم عمر رضي الله عنه فيمن قلّد خاتم بيت المال بضربه ثلاثمائة على مرّات، وضرب صبيغ بن عسل للبدعة ضربا كثيرا لم يعدّه.
وخلاصة مذهب الحنابلة: أنّ فيه من يقول بأنّ التّعزير لا يزيد على عشر جلدات، ومن يقول: بأنّه لا يزيد على أقلّ الحدود، ومن يقول: بأنّه لا يبلغ في جريمة قدر الحدّ فيها، وهناك من يقول: بأنّه لا يتقيّد بشيء من ذلك، وأنّه يكون بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيما ليس فيه حدّ مقدّر.
والرّاجح عندهم التّحديد سواء أكان بعشر جلدات أم بأقلّ من أدنى الحدود أم بأقلّ من الحدّ المقرّر لجنس الجريمة.
وما ذكر هو عن الحدّ الأعلى، أمّا عن الحدّ الأدنى فقد قال القدوريّ: إنّه ثلاث جلدات، لأنّ هذا العدد أقلّ ما يقع به الزّجر.
ولكنّ غالبيّة الحنفيّة على أنّ الأمر في أقلّ جلد التّعزير مرجعه الحاكم، بقدر ما يعلم أنّه يكفي للزّجر.
وقال في الخلاصة: إنّ اختيار التّعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلاثين، وقريب من ذلك تصريح ابن قدامة، فقد قال: إنّ أقلّ التّعزير ليس مقدّراً فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما تقتضيه حال الشّخص.
وانظر المدونة - (ج 15 / ص 122).(1/339)
وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ بِضَرْبِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ مِائَةً مِائَةً (1).
وَأَمَرَ بِضَرْبِ الَّذِي نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً. ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةً (2).
__________
(1) - وفي مصنف ابن أبي شيبة برقم (28324) حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا وُجِدَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ جُلِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَة. وهو صحيح مرسل
28325 - حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَن شُعْبَةَ، عَن سَلَمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ عَسِيفٌ , فَوَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فِي لِحَافٍ فَضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ. حديث حسن
28326 - حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَن سُوَيْد بْنِ نَجِيحٍ، عَن ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَقَالَ: رَجُلٌ: إنَّا وَجَدْنَاهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ , وَعَندَهُمَا خَمْرٌ وَرَيْحَانٌ , فَقَالَ: عَلِيٌّ: مَرْئِيَّانِ خَبِيثَانِ , فَجَلَدَهُمَا , وَلَمْ يَذْكُرْ حَدًّا
وفي مصنف عبد الرزاق برقم (13637) عَنِِ ابْنِ جُرَيْجٍ عن رجل عن الحسن أن رجلا وجد مع امرأته رجلا قد أغلق عليهما وقد أرخى عليهما الأستار فجلدهما عمر بن الخطاب مئة مئة وفيه جهالة وإرسال
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4444) والمحلى [مشكول وبالحواشي]- (ج 11 / ص 818)
(2) - معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - (ج 2 / ص 450) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 12 / ص 280) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 20 / ص 147) والسياسة الشرعية - (ج 1 / ص 105) والمرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا - (ج 1 / ص 180) وشرح الأربعين النووية - (ج 2 / ص 148) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 352) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 167) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 272)(1/340)
وَضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ - لَمَّا رَأَى مِنْ بِدْعَتِهِ - ضَرْبًا كَثِيرًا لَمْ يُعِدْهُ (1).
وَمَنْ لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ (2) مِثْلَ الْمُفَرِّقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ فِي الدِّينِ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32) سورة المائدة، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» (3). وَقَالَ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» (4).
وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ رَجُلٍ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ (5)،
__________
(1) - وفي سنن الدارمى برقم (146) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُوناً مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِىَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ فِى رَأْسِى. صحيح لغيره -العراجين: جمع العرجون وهو العود الأصفر الذى فيه الشماريخ إذا يبس واعوج
وفي سنن الدارمى برقم (150) عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ صَبِيغاً الْعِرَاقِىَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِى أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِى الرَّحْلِ. قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّى بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ. فَأَتَاهُ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ: تَسْأَلُ مُحْدَثَةً. فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ، قَالَ فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِى فَاقْتُلْنِى قَتْلاً جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِى فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ: أَنْ لاَ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ. صحيح مرسل
(2) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 208) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 518)
(3) - صحيح مسلم برقم (4905)
(4) - صحيح مسلم يرقم (4904)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 95) برقم (6091) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ - الصَّلَاةَ ". قَالَ: قُلْتُ: أَسْمِعْتَ ذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَغَضِبَ، وَأَقْبَلَ يُحَدِّثُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِي نِسَائِكُمْ بِمَا شِئْتُ، فَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَعَثُوا رَجُلًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا جَاءَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِي نِسَائِكُمْ، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُعْلِمَكَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَعَثَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: " اذْهَبْ [إِلَى فُلَانٍ] فَاقْتُلْهُ، وَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ "، فَانْتَهَى إِلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ وَقُبِرَ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُبِشَ، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". فَقَالَ: تَرَانِي كَذَبْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ هَذَا - وفي سنده ضعف. =(1/341)
وَسَأَلَهُ ابْنُ الديلمي عَمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهَا فَاقْتُلُوهُ (1). فَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَاسُوسِ (2).
__________
(1) - مسند أحمد (18521) 4/ 232 عن مَرْثَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا الدَّيْلَمِىُّ - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّا بِأَرْضٍ بَارِدَةٍ وَإِنَّا لَنَسْتَعِينُ بِشَرَابٍ يُصْنَعُ لَنَا مِنَ الْقَمْحِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَيُسْكِرُ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَلاَ تَشْرَبُوهُ». فَأَعَادَ عَلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَيُسْكِرُ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَلاَ تَشْرَبُوهُ». فَأَعَادَ عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَيُسْكِرُ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَلاَ تَشْرَبُوهُ». قَالَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَصْبِرُونَ عَنْهُ. قَالَ «فَإِنْ لَمْ يَصْبِرُوا عَنْهُ فَاقْتُلْهُمْ» وهو صحيح.
(2) - في صحيح مسلم برقم (4671) عن إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنِى أَبِى سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِى الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ. قَالَ سَلَمَةُ وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِى الأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِى فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلاَحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ». قَالُوا ابْنُ الأَكْوَعِ. قَالَ «لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ».
الحقب: الحبل يشد به رحل البعير إلى بطنه أو الحقيبة = اخترط: سَلَّ السيف من غِمْده =نتضحى: نأكل فى وقت الضحى =الطلق: حبل من جلد = ندر: سقط = الورقاء: سمراء
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 203)
فِيهِ اِسْتِقْبَال السَّرَايَا، وَالثَّنَاء عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا، وَفِيهِ: قَتْل الْجَاسُوس الْكَافِر الْحَرْبِيّ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَمَرَهُمْ بِطَلَبِهِ وَقَتْله، وَأَمَّا الْجَاسُوس الْمُعَاهَد وَالذِّمِّيّ فَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَصِير نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، فَإِنْ رَأَى اِسْتِرْقَاقه أَرَقَّهُ، وَيَجُوز قَتْله، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا يُنْتَقَض عَهْده بِذَلِكَ، قَالَ أَصْحَابنَا: إِلَّا أَنْ يَكُون قَدْ شُرِطَ عَلَيْهِ اِنْتِقَاض الْعَهْد بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْجَاسُوس الْمُسْلِم فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى: يُعَزِّرهُ الْإِمَام بِمَا يَرَى مِنْ ضَرْب وَحَبْس وَنَحْوهمَا، وَلَا يَجُوز قَتْله، وَقَالَ مَالِك - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى -: يَجْتَهِد فِيهِ الْإِمَام، وَلَمْ يُفَسِّر الِاجْتِهَاد، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: قَالَ كِبَار أَصْحَابه يُقْتَل، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْكه بِالتَّوْبَةِ، قَالَ الْمَاجِشُونِ: إِنْ عُرِفَ بِذَلِكَ قُتِلَ، وَإِلَّا عُزِّرَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلَالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْقَاتِل يَسْتَحِقّ السَّلَب، وَأَنَّهُ لَا يُخَمَّس، وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح هَذَا كُلّه.
وَفِيهِ: اِسْتِحْبَاب مُجَانَسَة الْكَلَام إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَلُّف وَلَا فَوَات مَصْلَحَة. وَاَللَّه أَعْلَم وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 283) برقم (2823)
قَوْله: (فَقَتَلْته فَنَفَلَهُ سَلَبَهُ) كَذَا فِيهِ، وَفِيهِ اِلْتِفَات مِنْ ضَمِير الْمُتَكَلِّم إِلَى الْغَيْبَة، وَكَانَ السِّيَاق يَقْتَضِي أَنْ يَقُول فَنَفَلَنِي وَهِيَ رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَزَادَ " هُوَ وَمُسْلِم مِنْ طَرِيق عِكْرِمَة بْن عَمَّار الْمَذْكُور " فَاتَّبَعَهُ رَجُل مِنْ أَسْلَمَ عَلَى نَاقَة وَرْقَاء، فَخَرَجْت أَعْدُو حَتَّى أَخَذْت بِخِطَامِ الْجَمَل فَأَنَخْته، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَته بِالْأَرْضِ اخْتَرَطَّتُ سَيْفِي فَأَضْرِب رَأْسه فَبَدَرَ، فَجِئْت بِرَاحِلَتِهِ وَمَا عَلَيْهَا أَقُودهَا، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ الرَّجُل؟ قَالُوا: اِبْن الْأَكْوَع، قَالَ: لَهُ سَلَبه أَجْمَع " وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ " قَتْل عُيُون الْمُشْرِكِينَ " وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَة عِكْرِمَة الْبَاعِث عَلَى قَتْله وَأَنَّهُ اِطَّلَعَ عَلَى عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ وَبَادَرَ لِيُعْلِم أَصْحَابه فَيَغْتَنِمُونَ غِرَّتهمْ، وَكَانَ فِي قَتْله مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ قَتْل الْجَاسُوس الْحَرْبِيّ الْكَافِر وَهُوَ بِاتِّفَاق، وَأَمَّا الْمُعَاهَد وَالذِّمِّيّ فَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَنْتَقِض عَهْده بِذَلِكَ. وَعِنْد الشَّافِعِيَّة خِلَاف. أَمَّا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَهْده فَيَنْتَقِض اِتِّفَاقًا. وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ قَالَ إِنَّ السَّلَب كُلّه لِلْقَاتِلِ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ لَا يَسْتَحِقّ ذَلِكَ إِلَّا بِقَوْلِ الْإِمَام أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى أَحَد الْأَمْرَيْنِ بَلْ هُوَ مُحْتَمَل لَهُمَا، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن رَبِيعَة عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ بِلَفْظِ " قَامَ رَجُل فَأَخْبَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ عَيْن لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبه، قَالَ فَأَدْرَكْته فَقَتَلْته، فَنَفَلَنِي سَلَبَهُ " فَهَذَا يُؤَيِّد الِاحْتِمَال الثَّانِي، بَلْ قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَوْ قَالَ الْقَاتِل يَسْتَحِقّ السَّلَب بِمُجَرَّدِ الْقَتْل لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لَهُ سَلَبه أَجْمَع " مَزِيد فَائِدَة، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون هَذَا الْحُكْم إِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ حِينَئِذٍ، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْخِطَاب لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) عَامّ فِي كُلّ غَنِيمَة، فَبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ أَنَّ السَّلَب لِلْقَاتِلِ سَوَاء قَيَّدْنَا ذَلِكَ بِقَوْلِ الْإِمَام أَمْ لَا، وَأَمَّا قَوْل مَالِك " لَمْ يَبْلُغنِي أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ إِلَّا يَوْم حُنَيْنٍ " فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اِبْتِدَاء هَذَا الْحُكْم كَانَ يَوْم حُنَيْنٍ فَهُوَ مَرْدُود لَكِنْ عَلَى غَيْر مَالِك مِمَّنْ مَنَعَهُ، فَإِنَّ مَالِكًا إِنَّمَا نَفَى الْبَلَاغ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَوْف بْن مَالِك أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْن الْوَلِيد فِي غَزْوَة مُؤْتَة " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ) وَكَانَتْ مُؤْتَة قَبْل حُنَيْنٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُل جَمِيع مَا أَخَذَتْهُ السَّرِيَّة مِنْ الْغَنِيمَة لِمَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَتَوَقَّف عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَة إِلَّا ذَلِكَ السَّلَب. قُلْت: وَمَا أَبَدَاهُ اِحْتِمَالًا هُوَ الْوَاقِع، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة عِكْرِمَة بْن عَمَّار أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَة هَوَازِن وَقَدْ اُشْتُهِرَ مَا وَقَعَ فِيهَا بَعْد ذَلِكَ مِنْ الْغَنَائِم. قَالَ اِبْن الْمُنِير: تَرْجَمَ بِالْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أمَان وَأَوْرَدَ الْحَدِيث الْمُتَعَلِّق بِعَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ جَاسُوسهمْ، وَحُكْم الْجَاسُوس مُخَالِف لِحُكْمِ الْحَرْبِيّ الْمُطْلَق الدَّاخِل بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَالدَّعْوَى أَعَمّ مِنْ الدَّلِيل. وَأُجِيب بِأَنَّ الْجَاسُوس الْمَذْكُور أَوْهَمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَهُ أَمَان، فَلَمَّا قَضَى حَاجَته مِنْ التَّجسِيسِ اِنْطَلَقَ مُسْرِعًا فَفَطِنَ لَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ حَرْبِيّ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ
وفي تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 279)
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجَاوِزَ الْحُدُودَ فِي التَّعْزِيرِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْلَ أَوْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ يَتَجَسَّسُ بِالْعَدُوِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الدَّاعِيَةُ إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَرِّقُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَتْلِ الدَّاعِيَةِ كَالْجَهْمِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَزُولُ فَسَادُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي اللُّوطِيِّ إذَا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ يُقْتَلُ تَعْزِيرًا، وَأَجَازَ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِلْمَرْأَةِ إذَا عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَادَّعَتْ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ إنْ خَفِيَ لَهَا ذَلِكَ وَأَمِنَتْ ظُهُورَهُ كَالْعَادِي وَالْمُحَارَبِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ.
وانظر فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 73) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 332) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2804) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 970) و (ج 2 / ص 4439) و (ج 2 / ص 5773) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 517) ونيل الأوطار - (ج 12 / ص 225) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 9 / ص 493) والمجموع شرح المهذب - (ج 19 / ص 342) وبدائع السلك في طبائع الملك - (ج 1 / ص 191).(1/342)
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى قَتْلِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ (1). وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُخْتَصَرَةُ مَوْضِعَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمُحْتَسِبَ لَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ.
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 394)
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ. فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا. وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ؛ فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ. وَأَمَّا أَعْلَاهُ؛ فَقَدْ قِيلَ: " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ ": لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ. وَقِيلَ؛ بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي =(1/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ: " يُضْرَبَانِ مِائَةً ". وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ: إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ: رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ. وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالُوا: إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَقَدْ رُوِيَ {عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَتْلُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ مَتَى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ: بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ {عَنْ عرفجة الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ}. وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي أَمْرِهِ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ {عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بِأَرْضِ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا وَأَنَّا نَتَّخِذُ شَرَابًا مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا. فَقَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؟ قُلْت نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ. قُلْت إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ}. وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ. فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءٌ بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ. وَ (الثَّانِي الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا. فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرَبَ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ. عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: {لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ} قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: مِثْلَ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلَ الْحَرَامِ. فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}. وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ حَدًّا فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ. وَمُرَادُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ ضُرِبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرِ جَلَدَاتٍ. وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ وَسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ " وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمُقَارِعِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ؛ بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا الْحُدُودُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَدِّبُ بِالدِّرَّةِ؛ فَإِذَا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كُلُّهَا؛ بَلْ يُنْزَعُ عَنْهُ مَا يَمْنَعُ أَلَمَ الضَّرْبِ مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَلَا يَضْرِبْ مُقَاتِلَهُ} فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الضَّرْبِ كَالظَّهْرِ وَالْأَكْتَافِ وَالْفَخِذَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وفي جامع العلوم والحكم - (ج 16 / ص 27)
ومِنْ هذا الباب ما قاله كثيرٌ من العلماء في قتل الدَّاعية إلى البدع، فإنَّهم نظروا إلى أنَّ ذلك شبيهٌ بالخروج عَنِ الدِّين، وهو ذريعةٌ ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك ولم يَدْعُ غيرَه، كان حُكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفَوا، وإذا دعا إلى ذلك، تَغَلَّظ جرمُه بإفساد دين الأمة
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4439) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 517) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 3 / ص 17) والسياسة الشرعية - (ج 1 / ص 106).(1/344)
وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ: النَّفْيُ وَالتَّغْرِيبُ (1)؛ كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَزِّرُ بِالنَّفْيِفِي شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ (2)؛ وَكَمَا نَفَى صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ إلَى الْبَصْرَةِ (3) وَأَخْرَجَ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا افْتَتَنَ بِهِ النِّسَاءُ (4).
__________
(1) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 24 / ص 642) وشرح ابن بطال - (ج 15 / ص 486) وشرح زاد المستقنع - (ج 391 / ص 2)
(2) - سنن النسائى برقم (5694) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ غَرَّبَ عُمَرُ رضى الله عنه رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ فِى الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا. وهو صحيح
وفي شرح سنن النسائي - (ج 7 / ص 212) حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ:
(غَرَّبَ) مِنْ التَّغْرِيب وَهَذَا التَّغْرِيب مِنْ بَاب التَّعْزِير وَهُوَ غَيْر دَاخِل فِي الْحَدّ بِخِلَافِ التَّغْرِيب فِي حَدّ الزِّنَا وَقَوْل عُمَر لَا أُغَرِّب بَعْده مُسْلِمًا مَحْمُول عَلَى مِثْل هَذَا وَأَمَّا مَا كَانَ جُزْءًا لِلْحَدِّ فَلَا بُدّ مِنْهُ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 72 / ص 1) والمغني - (ج 20 / ص 37) وشرح زاد المستقنع - (ج 375 / ص 4) والشرح الكبير - (ج 10 / ص 161) ...
(3) - الْبِدَعُ لِابْنِ وَضَّاحٍ - قِصَّةُ صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ- برقم (146) والإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 1 / ص 350) برقم (342) وفي جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ برقم (1524) واللفظ لابن وضاح عَنْ نَافِعٍ: " أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ , فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ قَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ , قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّي الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ , فَأَتَاهُ بِهِ , فَقَالَ عُمَرُ: تَسُلُّ حَدَثَة ً؟ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى أَرْطَابٍ مِنَ الْجَرِيدِ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ خُبْزَةً ثُمَّ ترَكَهُ حَتَّى بَرِئَ , ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرِئَ فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ , فَقَالَ لَهُ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا , وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ تُدَاوِينِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ , فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ , وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَلَّا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ , فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ , فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ يُجَالِسُونَهُ " ... وهو صحيح ...
(4) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ -طَبَقَاتُ الْبَدْرِيِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ - وَمِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ - ذِكْرُ اسْتِخْلَافِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ برقم (3551) َقالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: " خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَعُسُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِنِسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ، فَإِذَا هُنَّ يَقُلْنَ: أَيُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصْبَحُ؟، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَبُو ذِئْبٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِذَا هُوَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: " أَنْتَ وَاللَّهِ ذِئْبُهُنَّ "، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُجَامِعُنِي بِأَرْضٍ أَنَا بِهَا "، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ لَابُدُّ مُسَيِّرُنِي فَسَيِّرْنِي حَيْثُ سَيَّرْتَ ابْنَ عَمِّي، يَعْنِي نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ السُّلَمِيَّ، فَأَمَرَ لَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ " ... صحيح مرسل
وفي اعْتِلَالُ الْقُلُوبِ لِلْخَرَائِطِيِّ - بَابُ ذِكْرِ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْهَوَى قم (802) من طريق آخر
وفي تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ - تَقْدِيرُ الدِّيَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برقم () 1204 وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَضَّاحِ بْنِ خَيْثَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَّرَ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَى مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ عَائِدًا لَهُ، وَعِنْدَهُ شُمَيْلَةُ بْنُ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَجَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَصْرٍ كَلَامٌ لَمْ يَفْهَمْ مُجَاشِعٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا قَوْلَ نَصْرٍ وَأَنَا، فَقَالَ لَهَا مُجَاشِعٌ: مَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: كَمْ لَبَنُ نَاقَتِكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: مَا هَذَا كَلَامٌ جَوَابُهُ وَأَنَا، فَأَرْسَلَ إِلَى نَصْرٍ يَسْأَلُهُ وَعَظَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: قَالَتْ لِي: أَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ حُبًّا لَوْ كَانَ تَحْتَكَ لَأَقَلَّكَ، أَوْ فَوْقَكَ لَأَظَلَّكَ، فَقُلْتُ: وَأَنَا فَقَالَ مُجَاشِعٌ: أَتُحِبُّ أَنْ أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَنْ يَبْلُغَ هَذَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا فَعَلَ بِي " وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ أَنَّهَا كَتَبَتْ لَهُ فِي الْأَرْضِ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَكَتَبَ إِلَى جَنْبِهِ جَوَابَهُ، وَأَنَّ مُجَاشِعًا كَبَّ عَلَى الْكِتَابَيْنِ إِجَانَةً أَوْ جَفْنَةً، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ قَرَأَهَا لَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، أَنَّهُ زَادَ فِي الشِّعْرِ، وَالشِّعْرُ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا أَمْ هَلْ سَبِيلٌ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
وَهَذَا الْبَيْتُ هُوَ الَّذِي سَمِعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَيَّرَ نَصْرًا قَالَ: فَزَادَ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ: =(1/345)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إِلَى فَتًى طَيِّبِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلِ سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ
تُنَمِّيهِ أَعْرَاقُ صِدْقٍ حِينَ تَنْسُبُهُ وَذِي نَجْدَاتٍ عَنِ الْمَكْرُوهِ فَرَّاجِ
سَامِي النَّوَاظِرِ مِنْ فِهْرٍ لَهُ كَرَمٌ تُضِيءُ سُنَّتُهُ فِي الْحَالِكِ الدَّاجِ
فَكَتَبَ نَصْرٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ حَوْلٍ:
لَعَمْرِي لَئِنْ سَيَّرْتَنِي وَحَرَمْتَنِي وَمَا نِلَتُ ذَنْبًا إِنَّ ذَاكَ حَرَامُ
وَمَا نُلْتُ ذَنْبًا غَيْرَ ظَنٍّ ظَنَنْتَهُ وَفِي بَعْضِ تَصْدِيقِ الظُّنُونِ أَثَامُ
أَإِنْ غَنَّتِ الدَّلْفَاءُ يَوْمًا بِمُنْيَةٍ وَبَعْضُ أَمَانِيِّ النِّسَاءِ غَرَامُ
ظَنَنْتَ بِيَ الظَّنَّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ بَقَاءٌ فَمَا لِي فِي النَّدِيِّ كَلَامُ
فَأَصْبَحْتُ مَنْفِيًّا عَلَى غَيْرِ رِيبَةٍ وَقَدْ كَانَ لِي بِالْمَكَّتَيْنِ مُقَامُ
وَيَمْنَعُنِي مِمَّا تَظُنُّ تَكَرُّمِي وَآبَاءُ صِدْقٍ سَالِفُونَ كِرَامُ
وَيَمْنَعُهَا مِمَّا ظَنَنْتَ صَلَاتُهَا وَفَضْلٌ لَهَا فِي قَوْمِهَا وَصِيَامُ
فَهَاتَانِ حَالَانَا فَهَلْ أَنْتَ رَاجِعِي فَقَدْ جُبَّ مِنِّي كَاهِلٌ وَسَنَامُ
إِمَامَ الْهُدَى لَا تَبْتَلِي الطَّرْدَ مُسْلِمًا لَهُ حُرْمَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَزِمَامُ
وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ:
قُلْ لِلْإِمَامِ الَّذِي تُخْشَى بَوَادِرُهُ مَا لِي وَلِلْخَمْرِ أَوْ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
إِنِّي غَنِيتُ أَبَا حَفْصٍ بِغَيْرِهِمَا شُرْبِ الْحَلِيبِ وَطَرْفٍ فَاتِرٍ سَاجِ
إِنَّ الْهَوَى ذَمَّهُ التَّقْوَى فَحَبَسَهُ حَتَّى أُقِرَّ بِأَلْجَامٍ وَأَسْرَاجِ
أُمْنِيَةٌ لَمْ أُصِبْ مِنْهَا بِضَائِرَةٍ وَالنَّاسُ مِنْ هَالِكٍ فِيهَا وَمِنْ نَاجِ
لَا تَجْعَلِ الظَّنَّ حَقًّا أَوْ تُبَيِّنُهُ إِنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ الْخَائِفِ الرَّاجِ
وَيُقَالُ: إِنَّ الشِّعْرَ مَصْنُوعٌ إِلَّا الْبَيْتَ الْأَوَّلَ الَّذِي سَمِعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - صحيح مرسل - والخلاصة أن أصل القصة صحيح.(1/346)
الفصلُ الخامسُ
[التعزيرُ بالعقوباتِ الماليةِ (1)]
__________
(1) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 361)
113 - 113 - (فَصْلٌ) وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَمَشْرُوعٌ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: إبَاحَتُهُ - صلى الله عليه وسلم - سَلَبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَمِثْلُ: أَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا (31).
وَمِثْلُ: أَمْرِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِأَنْ يُحَرِّقَ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ (33).
وَمِثْلُ: أَمْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ - بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ.
ثُمَّ اسْتَأْذَنُوهُ فِي غَسْلِهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ.
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِالْكَسْرِ.
وَمِثْلُ: هَدْمِهِ مَسْجِدَ الضِّرَارِ.
وَمِثْلُ: تَحْرِيقِ مَتَاعِ الْغَالِّ (25).
وَمِثْلُ: حِرْمَانِ السَّلَبِ الَّذِي أَسَاءَ عَلَى نَائِبِهِ.
وَمِثْلُ: إضْعَافِ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ مِنْ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ (28).
وَمِثْلُ: إضْعَافِهِ الْغُرْمَ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ (29).
وَمِثْلُ: أَخْذِهِ شَطْرَ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (30).
وَمِثْلُ أَمْرِهِ لَابِسَ خَاتَمِ الذَّهَبِ بِطَرْحِهِ، فَطَرَحَهُ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ.
وَمِثْلُ: تَحْرِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِجْلَ وَإِلْقَاءِ بُرَادَتِهِ فِي الْيَمِّ.
وَمِثْلُ: قَطْعِ نَخِيلِ الْيَهُودِ، إغَاظَةً لَهُمْ.
وَمِثْلُ: تَحْرِيقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِي الْخَمْرُ.
وَمِثْلُ: تَحْرِيقِ عُمَرَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَيْسَ يَسْهُلُ دَعْوَى نَسْخِهَا.
وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ، فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا، فَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: سَائِغٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا سَائِغٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ - صلى الله عليه وسلم - مُبْطِلٌ أَيْضًا لِدَعْوَى نَسْخِهَا، وَالْمُدَّعُونَ لِلنَّسْخِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا إجْمَاعٌ يُصَحِّحُ دَعْوَاهُمْ، إلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا عَدَمُ جَوَازِهَا، فَمَذْهَبُ أَصْحَابِهِ عِيَارٌ عَلَى الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَإِذَا ارْتَفَعَ عَنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، ادَّعَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا.
فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى نَسْخِهَا، وَمُحَالٌ أَنْ يَنْسَخَ الْإِجْمَاعُ السُّنَّةَ، وَلَكِنْ لَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ " لَهُ: وَلِصَاحِبِ الْحِسْبَةِ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُبْزٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ، بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ "، أَدَبًا لِصَاحِبِهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، وَقَالَ: لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ - فِي الَّذِي غَشَّ اللَّبَنَ - مِثْلَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَقُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ فِي الْوَزْنِ؟ قَالَا: يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ، وَمَا غَشَّ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غَشَّ فِي الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: فَلَا يُهْرَاقُ وَلَا يُنْهَبُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَلْيَأْمُرْ ثِقَتُهُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَأْمَنُ أَلَّا يَغُشَّ بِهِ، وَيَكْسِرُ الْخُبْزَ إذَا كَسَدَ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ، وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ مَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ، وَهُوَ إيضَاحٌ مَا اسْتَوْضَحْته مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ عِنْدَهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إذْ فِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ.
وَلَا يُهْرَاقُ.
وَقِيلَ لِمَالِكٍ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ، أَتَرَاهُ مِثْلَهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ ثَمَنُهُ، فَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ: فَلَا أَرَى ذَلِكَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، تَزِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَسَوَاءٌ - عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّهُ يُسَوِّي فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا كَانَ يَسِيرًا.
ذَلِكَ: إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ، أَوْ وَرِثَهُ: فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ: أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مُدَلِّسًا بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: يُبَاعُ عَلَى الَّذِي غَشَّهُ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ: أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: {إنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا} (30).
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي حَرِيسَةِ النَّخْلِ: {أَنَّ فِيهَا غَرَامَةَ مِثْلِهَا وَجَلَدَاتِ نَكَالٍ} وَمَا رُوِيَ عَنْهُ: {أَنَّ مَنْ وُجِدَ يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا، فَلِمَنْ وَجَدَهُ سَلَبُهُ}.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ: نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَعَادَتْ الْعُقُوبَاتُ فِي الْأَبْدَانِ، فَكَانَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ.
وَالْعَجَبُ: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ نَصَّ مَالِكٍ وَفِعْلَ عُمَرَ، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْلَى، وَنَسَخَ النُّصُوصَ بِلَا نَاسِخٍ، فَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَوْلَى بِالصَّوَابِ بَلْ هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ جِدًّا وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَعُمَرُ يَفْعَلُهُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَهُمْ يُقِرُّونَهُ، وَيُسَاعِدُونَهُ عَلَيْهِ، وَيُصَوِّبُونَهُ فِي فِعْلِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ كُلَّمَا اسْتَبْعَدُوا شَيْئًا، قَالُوا: مَنْسُوخٌ، وَمَتْرُوكٌ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ فِيهَا بِتَقْطِيعِهَا خِرَقًا، وَإِعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ، إذَا تَقَدَّمَ لِمُسْتَعْمِلِهَا فَلَمْ يَنْتَهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ابْنُ الْقَطَّانِ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ هَذَا فِي مَالِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، يُؤَدَّبُ فَاعِلُ ذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ عَلِيُّ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ: هَذَا اضْطِرَابٌ فِي جَوَابِهِ، وَتَنَاقُضٌ فِي قَوْلِهِ، لِأَنَّ جَوَابَهُ فِي الْمَلَاحِفِ بِإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ: أَشَدُّ مِنْ إعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ.
قَالَ: وَابْنُ عَتَّابٍ أَضْبَطُ لِأَصْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَتْبَعُ لِقَوْلِهِ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ " قَالَ عِيسَى: قَالَ مَالِكٌ - فِي الرَّجُلِ يَجْعَلُ فِي مِكْيَالِهِ زِفْتًا - إنَّهُ يُقَامُ مِنْ السُّوقِ، فَإِنَّهُ أَشَقُّ عَلَيْهِ، يُرِيدُ، مِنْ أَدَبِهِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.(1/347)
" التَّعْزِيرُ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ " مَشْرُوعٌ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَمَذْهَبِ أَحْمَد فِي مَوَاضِعَ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ؛ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ عَنْهُ. وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، (1) وَإِنْ
__________
(1) - وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 518)
التعزير بالمال: لا يجوز التعزير بأخذ المال في الراجح عند الأئمة (1) لما فيه م تسليط الظلمة على أخذ مال الناس، فيأكلونه. وأثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي، كما دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أمره بمضاعفة غرم ما لا قطع فيه من الثمر المعلَّق والكثَر (جمّار النخل)، وأخذه شطر مال مانع الزكاة، عزمة مات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر، ونحوه كثير. ومن قال كالنووي وغيره: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة والاستدلال عليها (2).
__________
(1) البدائع: 63/ 7، فتح القدير: 212/ 4، تبيين الحقائق: 207/ 3، حاشية ابن عابدين: 195/ 3 ومابعدها، مغني المحتاج: 191/ 4، المهذب: ص 288، حاشية الدسوقي: 354/ 4، المغني: 324/ 8، أعلام الموقعين: 99/ 2، الاعتصام للشاطبي: 123/ 2 ومابعدها، ط السعادة.
(2) راجع شرح مسلم للنووي: 218/ 12، الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص 49 وما بعدها، أعلام الموقعين: 98/ 2 والطرق الحكمية لابن قيم: ص 266 ومابعدها، وانظر التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر: ص 32 وما بعدها.
وانظر فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 111) وشرح زاد المستقنع - (ج 384 / ص 3)(1/348)
تَنَازَعُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مِثْلِ إبَاحَتِهِ سَلَبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ (1).
وَمِثْلِ أَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهِ (2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (2039) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِى عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلاً يَصِيدُ فِى حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِى حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ فِيهِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ وَقَالَ «مَنْ وَجَدَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ ثِيَابَهُ». فَلاَ أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ. وهو صحيح
وفي عون المعبود - (ج 4 / ص 420)
1741 - قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(أَخَذَ رَجُلًا): أَيْ عَبْدًا
(فَسَلَبَهُ ثِيَابه): بَدَل اِشْتِمَال أَيْ أَخَذَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَاب
(فَجَاءَ مَوَالِيه وَكَلَّمُوهُ فِيهِ): أَيْ شَأْن الْعَبْد وَرَدّ سَلَبه
(حَرَّمَ هَذَا الْحَرَم): قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اِعْتَقَدَ أَنَّ تَحْرِيمهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّة
(قَالَ): أَيْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -
(فَلْيَسْلُبْهُ ثِيَابه): هَذَا ظَاهِر فِي أَنَّهَا تُؤْخَذ ثِيَابه جَمِيعهَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُبْقِي لَهُ مَا يَسْتُر عَوْرَته. وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيّ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ
(وَلَا أَرُدّ عَلَيْكُمْ طُعْمَة): بِضَمِّ الطَّاء وَكَسْرهَا، وَمَعْنَى الطُّعْمَة الْأَكْلَة وَأَمَّا الْكَسْر فَجِهَة الْكَسْب وَهَيْئَته
(وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْت): أَيْ تَبَرُّعًا. وَبِقِصَّةِ سَعْد هَذِهِ اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ صَادَ مِنْ حَرَم الْمَدِينَة أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرهَا أُخِذَ سَلَبه.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَبِهَذَا قَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة اِنْتَهَى. وَقَدْ حَكَى اِبْن قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَد فِي أَحَد الرِّوَايَتَيْنِ الْقَوْل بِهِ، قَالَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذِئْب وَابْن الْمُنْذِر اِنْتَهَى. وَهَذَا يَرُدّ عَلَى الْقَاضِي عِيَاض حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد بَعْد الصَّحَابَة إِلَّا الشَّافِعِيّ فِي قَوْله الْقَدِيم. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّلَب فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمَنْ سَلَبَهُ وَقِيلَ لِمَسَاكِين الْمَدِينَة وَقِيلَ لِبَيْتِ الْمَال، وَظَاهِر الْأَدِلَّة أَنَّهُ طُعْمَة لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ فِيهِ أَحَدًا يَصِيد أَوْ يَأْخُذ مِنْ شَجَره اِنْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: سُئِلَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي عَبْد اللَّه فَقَالَ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ، فَيُعْتَبَر حَدِيثه اِنْتَهَى. قَالَ الذَّهَبِيّ: تَابِعِيّ وُثِّقَ.
وانظر فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2226) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 351) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 166) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 361) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 271)
(2) - في سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ - كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا برقم (4128) عَنْ أَنَسٍ , قَالَ: جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي خَمْرًا , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَكَسِّرِ الدِّنَانَ ". فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وفيه لين
وفي مَعْرِفَةُ الصِّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ برقم (2536) عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ زَوْجِ أُمِّ أَنَسٍ أُمِّ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَاتِفًا يَهْتِفُ: " أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَلَا تَبِيعُوهَا، وَلَا تَبْتَاعُوهَا، فَمَنَ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُهْرِقْهُ "، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا غُلَامُ، أَحْلِلْ عَزَّهُ لَا تِلْكَ الْمَزَادَةَ فَفَتَحَهَا، فَأَهْرَاقَهَا وَخَمَّرْنَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، قَالَ: فَأَهْرَاقَ النَّاسُ حَتَّى امْتَنَعَتْ فِجَاجُ الْمَدِينَةِ " وهو صحيح
وعند البخاري (2372) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: " عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ "، قَالُوا عَلَى الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، قَالَ: " اكْسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا "، قَالُوا: أَلاَ نُهَرِيقُهَا، وَنَغْسِلُهَا، قَالَ: " اغْسِلُوا "
وفيه برقم (2373) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: " جَاءَ الحَقُّ، وَزَهَقَ البَاطِلُ " الآيَةَ
وفيه برقم (2374) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي البَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا " ... كل هذه الأحاديث تدل على ذلك(1/349)
وَمِثْلِ أَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرُو بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ رَأَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَىَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ «أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا». قُلْتُ أَغْسِلُهُمَا. قَالَ «بَلْ أَحْرِقْهُمَا» (1).
وَأَمْرِهِ لَهُمْ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْإِرَاقَةِ أَذِنَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْقُدُورَ تَفُورُ بِلَحْمِ الْحُمُرِ أَمَرَ بِكَسْرِهَا وَإِرَاقَةِ مَا فِيهَا؛ فَقَالُوا: أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: افْعَلُوا (2)، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَةً (3).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (5557) المعصفر: المصبوغ بالعصفر وهو نبات أصفر اللون
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 157)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (أُمّك أَمَرَتْك بِهَذَا) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا مِنْ لِبَاس النِّسَاء وَزِيّهنَّ وَأَخْلَاقهنَّ وَأَمَّا الْأَمْر بِإِحْرَاقِهِمَا فَقِيلَ: هُوَ عُقُوبَة وَتَغْلِيظ لِزَجْرِهِ وَزَجْر غَيْره عَنْ مِثْل هَذَا الْفِعْل، وَهَذَا نَظِير أَمْر تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي لَعَنَتْ النَّاقَة بِإِرْسَالِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَاب بَرِيرَة بِبَيْعِهَا، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ اِشْتِرَاط الْوَلَاء، وَنَحْو ذَلِكَ. وَاللَّه أَعْلَم.
(2) - وفي شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ = كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالْأَضَاحِيِّ = بَابُ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ برقم (4229) حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ , قَالَ: أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَاءَ يَوْمِ افْتَتَحُوا خَيْبَرَ , فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نِيرَانًا تُوقَدُ. فَقَالَ: " مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ " قَالُوا: عَلَى لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا , وَاكْسِرُوهَا " يَعْنِي: الْقُدُورَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَوَ نَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَوْ ذَاكَ " وهو صحيح
(3) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 20)
7 - 7 - (فَصْلٌ) وَسَلَكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِمَنْ طَلَبَهُ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّقَ اللُّوطِيَّةَ، وَأَذَاقَهُمْ حَرَّ النَّارِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ فَلَهُ ذَلِكَ.
فَإِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ " فَاسْتَشَارَ الصِّدِّيقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا، فَقَالَ: " إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ.
فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدٍ " أَنْ يُحَرَّقُوا " فَحَرَقَهُمْ.
ثُمَّ حَرَقَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ.
ثُمَّ حَرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَحَرَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَانُوتَ الْخَمَّارِ بِمَا فِيهِ.
وَحَرَقَ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ.
وَحَرَقَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِي قَصْرِهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ.
فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ صَالِحٍ: أَنَّهُ دَعَا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: " اذْهَبْ إلَى سَعْدٍ بِالْكُوفَةِ، فَحَرِّقْ عَلَيْهِ قَصْرَهُ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى الْكُوفَةِ، فَاشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ حَمْلَهَا إلَى قَصْرِ سَعْدٍ.
فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ أَلْقَى الْحُزْمَةَ فِيهِ، وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ، فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالَ: " عَزْمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَهُ حَتَّى احْتَرَقَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ سَعْدٌ نَفَقَةً، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: " هَلَّا قَبِلْت نَفَقَتَهُ؟ " فَقَالَ: " إنَّك قُلْت: لَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". وَحَلَقَ عُمَرُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ، وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لِتَشْبِيبِ النِّسَاءِ بِهِ وَضَرَبَ صَبِيغَ بْن عُسَيْلٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى رَأْسِهِ، لَمَّا سَأَلَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ.
وَصَادَرَ عُمَّالَهُ، فَأَخَذَ شَطْرَ أَمْوَالِهِمْ لَمَّا اكْتَسَبُوهَا بِجَاهِ الْعَمَلِ، وَاخْتَلَطَ مَا يَخْتَصِمُونَ بِهِ بِذَلِكَ.
فَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَطْرَيْنِ.
وَأَلْزَمَ الصَّحَابَةَ أَنْ يُقِلُّوا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا اشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ الْقُرْآنِ، سِيَاسَةً مِنْهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سِيَاسَاتِهِ الَّتِي سَاسَ بِهَا الْأُمَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ ذَلِكَ إلْزَامُهُ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ.
وَلَكِنْ لَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْهُ رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهِمْ بِهِ.
وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ رَعِيَّتُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ هُوَ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: " إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَنَّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِنَّ؟ " فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ لِيُقِلُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمَرْأَةِ: أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ.
فَكَانَ الْإِلْزَامُ بِهِ عُقُوبَةً مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، بَلْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَدْرٌ مِنْ خِلَافَتِهِ، حَتَّى أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اتِّخَاذٌ لِآيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا.
كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " سُنَنِ النَّسَائِيّ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: {أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟} فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَاقَبَهُمْ بِهِ.
ثُمَّ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي " مُسْنَدِ عُمَرَ ".
فَقُلْت لِشَيْخِنَا: فَهَلَّا تَبِعْت عُمَرَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ عُقُوبَةً.
فَإِنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ عِنْدَك؟ فَقَالَ: أَكْثَرُ النَّاسِ الْيَوْمَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا سِيَّمَا الشَّافِعِيُّ يَرَاهُ جَائِزًا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ الْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ؟ قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ.
وَسَدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّحْلِيلِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ: فَيُلْزِمُونَهُمْ بِالثَّلَاثِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّحْلِيلِ سَعَى فِي ذَلِكَ.
وَالصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ، فَحَصَلَتْ مَصْلَحَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ بَيْنَهُمْ.
قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ عُمَرُ أَنَّ النَّاسَ يَتَتَابَعُونَ فِي التَّحْلِيلِ لَرَأَى أَنَّ إقْرَارَهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ رَسُولِ، اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ أَوْلَى، وَبَسَطَ شَيْخُنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا طَوِيلًا.
قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ رَأْيًا مِنْهُ رَآهُ لِلْأَمَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ بِعْنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمُدَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَلِهَذَا عَزَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى بَيْعِهِنَّ، وَقَالَ: " إنَّ عَدَمَ الْبَيْعِ كَانَ رَأْيًا اتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ وَعُمَرُ "، فَقَالَ لَهُ قَاضِيه عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك "، فَقَالَ: " اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ " فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نَصٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِتَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلَى رَأْيِهِ وَرَأْيِ عُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ " إنِّي رَأَيْت أَنْ يُبَعْنَ ".(1/350)
وَمِثْلَ هَدْمِهِ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ (1).
__________
(1) - قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (107) سورة التوبة
وفي دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ =ُمَّاعُ أَبْوَابِ غَزْوَةِ تَبُوكَ = بَابُ رُجُوعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَبُوكَ وَأَمْرِهِ بِهَدْمِ مسجد الضرار برقم (2013) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا هُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ابْتَنَوْا مَسْجِدًا فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا مَسْجِدَكُمْ وَاسْتَمِدُّوا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلَكِ الرُّومِ فَآتِيَ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا إِلَى قَوْلِهِ: شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَعْنِي قَوَاعِدَهُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، يَعْنِي الشَّكَّ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، يَعْنِي الْمَوْتَ، كَذَا قَالَ: إِنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَعَلَيْهِ دَلَّ عَلَى مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * وهو قوي
وفي تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ >> سُورَةُ التَّوْبَةِ برقم (10804) والمستدرك للحاكم برقم (8763) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ حِينَ انْهَارَ " وهو حسن(1/351)
وَمِثْلَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ الْمُتَّخَذِ إلَهًا (1).
وَمِثْلَ تَضْعِيفِهِ - صلى الله عليه وسلم - الْغُرْمَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ (2).
__________
(1) - قال تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (97) سورة طه
(2) - سنن أبى داود برقم (1712) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ». وَذَكَرَ فِى ضَالَّةِ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ قَالَ وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ «مَا كَانَ مِنْهَا فِى طَرِيقِ الْمِيتَاءِ أَوِ الْقَرْيَةِ الْجَامِعَةِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَهِىَ لَكَ وَمَا كَانَ فِى الْخَرَابِ - يَعْنِى - فَفِيهَا وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ» حديث حسن.
الميتاء: الطريق المسلوكة التى يأتيها الناس = الجرين: موضع تجفيف التمر
المجن: الترس =الخبنة: طرف الثوب والمراد لا يأخذ فى ثوبه = الركاز: الكنز المدفون فى الأرض
وفي عون المعبود - (ج 4 / ص 115)
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز الْعُقُوبَة بِالْمَالِ، فَإِنَّ غَرَامَة مِثْلَيْهِ مِنْ الْعُقُوبَة بِالْمَالِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ لَا يُضَاعَف الْغَرَامَة عَلَى أَحَد فِي شَيْء إِنَّمَا الْعُقُوبَة فِي الْأَبَدَانِ لَا فِي الْأَمْوَال، وَقَالَ هَذَا مَنْسُوخ وَالنَّاسِخ لَهُ قَضَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْل الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ مَا أَتْلَفَتْ فَهُوَ ضَامِن أَيْ مَضْمُون عَلَى أَهْلهَا، قَالَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُونَهُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِه أَنْ يَكُون هَذَا عَلَى سَبِيل التَّوَعُّد فَيَنْتَهِي فَاعِل ذَلِكَ عَنْهُ وَالْأَصْل أَنْ لَا وَاجِب عَلَى مُتْلِف الشَّيْء أَكْثَر مِنْ مِثْله. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام يَقَع بَعْض الْعُقُوبَات عَلَى الْأَفْعَال ثُمَّ نُسِخَ وَإِنَّمَا أُسْقِط الْقَطْع عَمَّنْ سَرَقَ الثَّمَر الْمُعَلَّق لِأَنَّ حَوَائِط الْمَدِينَة لَيْسَ عَلَيْهَا حِيطَان وَلَيْسَ سُقُوطُهَا عَنْهُ مِنْ أَجْل أَنْ لَا قَطْع فِي غَيْر الثَّمَرَة فَإِنَّهُ مَال كَسَائِرِ الْأَمْوَال اِنْتَهَى
وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 177)
(ش): قَوْلُهُ الَّذِي يَسْرِقُ أَمْتِعَةَ النَّاسِ الْمَوْضُوعَةَ بِالْأَسْوَاقِ مُحْرَزَةً أَنَّهَا وُضِعَتْ فِي السُّوقِ عَلَى وَجْهِ الْإِحْرَازِ لَهَا عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَقْصِدُ السُّوقَ، فَيَنْزِلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَانُوتٍ فَيَضَعُ مَتَاعَهُ فِي مَوْضِعٍ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ مَوْضِعًا وَحِرْزًا لِمَتَاعِهِ يَضَعُهُ فِيهِ لِلْبَيْعِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ مَا وُضِعَ فِي السُّوقِ لِلْبَيْعِ مِنْ مَتَاعٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ حَانُوتٍ وَلَا تَحْصِينٍ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ أَحْرَزَ فِيهِ مَتَاعَهُ كَالْحَانُوتِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَكَذَلِكَ الشَّاةُ تُوقَفُ بِالسُّوقِ لِلْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْبُوطَةً قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَكَذَلِكَ الْبَعِيرُ يَعْقِلُهُ صَاحِبُهُ فِي السُّوقِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ الْمُنَاخَةُ بِمَوْضِعٍ يُرْتَادُ فِيهِ الْكِرَاءُ قَدْ عُرِفَ لِذَلِكَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَوْقِفَ الشَّاةِ لِلتَّسْوِيقِ حِرْزٌ لَهَا، وَلِذَلِكَ وَقَفَتْ بِهِ وَكَذَلِكَ مُنَاخُ الْبَعِيرِ حِرْزٌ لَهُ فَمَنْ أَخْرَجَهُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ لَهُ حُكْمُ السَّارِقِ. =(1/352)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (مَسْأَلَةٌ) وَالْغَسَّالُ يَغْسِلُ الثِّيَابَ فَيَنْشُرُهَا عَلَى الشَّجَرِ فَيَسْرِقُ مِنْهَا أَوْ يَسْرِقُ مَا عَلَى حِبَالِ الصَّبَّاغِينَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْشُورَةِ فِي الطَّرِيقِ رَوَى فِي الْمَوَّازِيَّةِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ لَا قَطْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْقَطْعُ فِيهَا وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ وَأَصْبَغَ فِيمَنْ سَرَقَ حِبَالَ الْغَسَّالِ أَوْ سَرَقَ لِلْغَسَّالِ ثِيَابًا يُقْطَعُ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا اُحْتُجَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُوضَعُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لَهَا، وَإِنَّمَا تُوضَعُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ مَعَ كَوْنِهِ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاشِيَةِ فِي الْمَرْعَى لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَهَا، وَيُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهَا مِنْ حِرْزِهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ، وَلَيْسَ مَا قُصِدَ مِنْ تَجْفِيفِهَا بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِرْزًا لَهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي تُوضَعُ فِي السُّوقِ لِلْبَيْعِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ حِرْزًا لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ حِرْزٌ لَهُ بِانْفِرَادِهِ وَمِنْ الْمَوْضِعِ مَا لَا يَكُونُ حِرْزًا إِلَّا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ أَوْ قُرْبِهِ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذِكْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا اتَّخَذَهُ صَاحِبُهُ مُسْتَقَرًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ حِرْزًا، وَإِنْ غَابَ صَاحِبُهُ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَتَّخِذْهُ مَنْزِلًا وَلَا قَرَارًا وَإِنَّمَا وَضَعَ فِيهِ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ لِذَهَابِهِ إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ مُحَاوَلَةَ أَمْرٍ حَتَّى تَفْرُغَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ وَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ فَيَحْمِلَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ حِرْزًا إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُ وَحِفْظِهِ لَهُ هُوَ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ فِي مَطَامِيرَ بِالْفَلَاةِ يُحْرَزُ فِيهَا الطَّعَامُ، وَتُعَمَّى حَتَّى لَا تُعْرَفَ فَهَذَا لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَطْمَرُ بَيْتًا مَعْرُوفًا بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ، قُطِعَ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَخْفَى مَكَانَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ حِرْزًا وَلَا اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى إخْفَائِهِ وَسَتْرِهِ، وَالَّذِي تُرِكَ ظَاهِرًا أَوْ كَانَ بِقُرْبِ مَنْزِلِهِ إنَّمَا اعْتَمَدَ فِي حِفْظِهِ طَعَامَهُ عَلَى مَوْضِعِهِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْ مُرَاعَاتِهِ فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحِرْزِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَمَنْ طَرَحَ ثَوْبًا بِالصَّحْرَاءِ، وَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَسَرَقَ فَإِنْ كَانَ مَنْزِلًا يَنْزِلُهُ قُطِعَ سَارِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ أَشْهَبُ إِنْ طَرَحَهُ بِمَوْضِعِ ضَيْعَةٍ فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَإِنْ طَرَحَهُ بِقُرْبٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ خِبَائِهِ أَوْ مِنْ خِبَاءِ أَصْحَابِهِ لَقُطِعَ مَنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْخِبَاءِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا طَرَحَهُ بِالْفَلَاةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مَنْزِلًا لَهُ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى الْمَوْضِعِ فِي حِفْظِهِ، وَلَا ثَبَتَ لِلْمَوْضِعِ حُكْمُ الْحِرْزِ وَإِنْ نَزَلَ بِمَوْضِعٍ اتَّخَذَهُ مَحَلًّا ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى حِفْظِ أَسْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَضَعَهُ بِقُرْبِهِ أَوْ بِقُرْبِ خِبَائِهِ أَوْ بِقُرْبِ خِبَاءٍ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ اعْتَمَدَ فِي حِفْظِهِ عَلَى مَوْضِعِهِ، وَجَعَلَهُ حِرْزًا لَهُ لِيُمْكِنَهُ مِنْ مُرَاعَاتِهِ أَوْ لِمُرَاعَاةِ أَهْلِ الْخِبَاءِ بِهِ فَمَنْ سَرَقَهُ مِمَّنْ لَا يُشَارِكُهُ فِي مَوْضِعِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ الْقَطْعُ.
(مَسْأَلَةٌ) وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ عَلَى دَابَّةٍ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَسَرَقَ رَجُلٌ رِكَابَيْ سَرْجِهَا فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ نَائِمًا وَكَانَ مُسْتَيْقِظًا فَعَلَى سَارِقِهَا الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَيُشْبِهُ أَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ نَائِمًا فَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ لَمْ يَنْزِلْهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فَلَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حِرْزًا يَحْفَظُ الصَّبِيَّ مَا دَامَ يَقْظَانَ فَإِذَا نَامَ مَعَ كَوْنِهِ صَبِيًّا زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ حُكْمُ الْحِرْزِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ فِيمَنْ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَتَرَكَهَا تَرْعَى، فَسَرَقَ رَجُلٌ سَرْجَهَا مِنْ عَلَيْهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ كَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا كَانَ مَعَ صَبِيٍّ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ سَرَقَ قُرْطًا مِنْ أُذُنِ صَبِيٍّ أَوْ سِوَارًا عَلَيْهِ وَمَعَهُ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُحْرِزُ مَا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحْفَظُهُ قُطِعَ السَّارِقُ، وَإِنْ لِمَ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ يَخْدُمُهُ أَوْ يَصْحَبُهُ فَلَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ فِي حِرْزٍ فَيُقْطَعُ سَارِقُ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ وَيُحْرِزُ مَا عَلَيْهِ قُطِعَ مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حِرْزٍ وَلَا مَعَهُ حَافِظٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ عَلَى خَدِيعَةٍ بِمَعْرِفَةٍ مِنْ الصَّبِيِّ لَمْ يُقْطَعْ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ فَلَا يَثْبُتُ بِمَوْضِعِهِ وَلَا لَهُ حُكْمُ الْحِرْزِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْحِرْزِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُوَ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي حَلَّ فِيهِ مَنْزِلًا، وَلَوْ اتَّخَذَهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مَنْزِلًا لَثَبَتَ لِلْمَوْضِعِ حُكْمُ الْحِرْزِ، وَقُطِعَ سَارِقُ مَا عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ حَافِظٌ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ مِمَّنْ يُحْرِزُ مَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مَا عَلَيْهِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي تَفْرِيعِهِ فِيمَنْ سَرَقَ خَلْخَالَ صَبِيٍّ أَوْ قُرْطَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ حُلِيِّهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ الْقَطْعُ إِذَا كَانَ فِي دَارِ أَهْلِهِ أَوْ فِنَائِهِمْ وَالْأُخْرَى لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فَأَوْرَدَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَفْصِيلًا غَيْرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي قَوْلُهُ إِذَا كَانَ فِي دَارِ أَهْلِهِ أَوْ فِي فِنَائِهِمْ أَنَّهُ صَغِيرٌ لَا يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرِينَ ضَرَبُوا أَقْبِيَتَهُمْ أَوْ أَنَاخُوا إبِلَهُمْ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ بَعْضَ مَتَاعِهِمْ مِنْ الْخِبَاءِ أَوْ خَارِجِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ مُعَقَّلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُعَقَّلَةٍ إِنْ كَانَتْ قُرْبَ صَاحِبِهَا مَعْنَاهُ أَنْ تُنَاخَ فِي مَنْزِلِهَا الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ بِقُرْبِ خِبَائِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَنَاخَهَا عَلَى أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَوْضِعِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحِرْزٍ لَهَا بِانْفِرَادِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ إبِلِهِمْ فِي الْمَرْعَى. =(1/353)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (مَسْأَلَةٌ) وَمَنْ سَرَقَ مَرْكَبًا فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الْقَطْعُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَرْسَى عَلَى وَتَدِهَا أَوْ بَيْنَ السُّفُنِ أَوْ مَوْضِعٍ هُوَ لَهَا حِرْزٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ أَوْ كَانَتْ مُخْلَاةً أَوْ افْتَلَتَتْ وَلَا أَحَدَ مَعَهَا فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَهَا، وَإِنْ كَانَ بِهَا مُسَافِرُونَ فَأَرْسَوْا بِهَا فِي مَرْسًى وَرَبَطُوهَا وَنَزَلُوا كُلُّهُمْ وَتَرَكُوهَا فِيهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهَا، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ رَبَطُوهَا فِي غَيْرِ مَرْبِطٍ لَمْ يُقْطَعْ كَالدَّابَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إِنْ كَانَ بِمَوْضِعٍ يَصْلُحُ أَنْ يُرْسَى بِهَا فِيهِ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِمَوْضِعٍ يَنْزِلُ لَهَا فَهِيَ حِرْزُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلٍ لَهَا فَلَيْسَ بِحِرْزٍ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَنْ يُحْرِزُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش): وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّ الَّذِي يَسْرِقُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَقْطَعُ يُرِيدُ أَنَّهُ وُجِدَ مَعَهُ الْمَتَاعُ خَارِجَ الْحِرْزِ، قَالَ أَشْهَبُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ إِلَى الْحِرْزِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَطْعِ بِرَدِّ الْمَتَاعِ إِلَى الْحِرْزِ.
(فَرْعٌ) وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِإِخْرَاجِ السَّرِقَةِ مِنْ الْحِرْزِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِسْرَارِ وَالسَّرِقَةِ، فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ لِيَسْرِقَ فَاتَّزَرَ بِإِزَارٍ ثُمَّ شُعِرَ بِهِ فَخُدَّ فَانْفَلَتَ، وَالْإِزَارُ عَلَيْهِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ عَلِمَ أَهْلُ الْبَيْتِ أَنَّ الْإِزَارَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِلَاسِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَلَوْ رَأَى صَاحِبُ الْمَتَاعِ السَّارِقَ يَسْرِقُ مَتَاعَهُ فَتَرَكَهُ، وَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ فَرَأَيَاهُ وَرَبَّ الْمَتَاعِ يَخْرُجُ بِالسَّرِقَةِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ لِأَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ زَادَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ أَصْبَغُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْمَتَاعِ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَارِقًا؛ لِأَنَّ تَسْوِيغَهُ ذَلِكَ كَالْإِذْنِ لَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ أَنَّهُ خَرَجَ بِهِ مُسْتَسِرًّا فَكَانَ سَارِقًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَوْنِهِ سَارِقًا إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى صِفَةِ فِعْلِهِ دُونَ صِفَةِ فِعْلِ غَيْرِهِ.
(ش): وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي إخْرَاجِ السَّرِقَةِ مِنْ الْحِرْزِ وَمَبْلَغُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِمْ الْقَطْعُ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَسْتَطِيعُوا إخْرَاجَهُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: إنَّمَا مَثَلُ الْجَمَاعَةِ تَسْرِقُ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُونَ كَالْجَمَاعَةِ يَقْطَعُونَ يَدَ الرَّجُلِ خَطَأً فَإِنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ عَوَاقِلُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ كُلَّ عَاقِلَةٍ إِلَّا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اشْتِرَاكُهُمْ فِي إخْرَاجِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَاوُنِ، وَهُمْ مِمَّا يُمْكِنُ أَحَدُهُمْ الِانْفِرَادَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ مَشَقَّةٍ كَالثَّوْبِ أَوْ الصُّرَّةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إنَّمَا يُقْطَعُ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَتْ السَّرِقَةُ إِذَا قُسِّطَتْ عَلَيْهِمْ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ فَعَلَيْهِمْ الْقَطْعُ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ ثَقِيلَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَعَاوُنٍ قَطَعُوا إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَاوُنِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي تَفْرِيعِهِ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا إِنْ كَانَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعُ دِينَارٍ، قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِمْ الْقَطْعُ سَوَاءً كَانَتْ سَرِقَتُهُمْ يُمْكِنُ الِانْفِرَادُ بِهَا أَوْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَهَذَا عَامٌّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِيمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِيهِ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ الْحَدُّ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ؛ وَلِأَنَّهُمْ سَرَقُوا مَتَاعًا فَحَمَلُوهُ عَلَى دَابَّةٍ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا أَنْ مَا نُقِلَ مِنْ الْمَتَاعِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُخْرِجَهُ بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُونَهُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْرِجًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ الْآخَرُ فَلَمْ يَنْفَرِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِ جَمَّتِهِ وَلَا جُزْءٍ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَكَانَ إخْرَاجُهُ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جَمِيعُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ الْخَفِيفُ الَّذِي يُخْرِجُهُ أَحَدُهُمْ دُونَ تَكَلُّفٍ فَإِخْرَاجُ جَمَاعَتِهِمْ لَهُ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلَةُ الْقَبْضِ لَهُ، وَالِانْفِرَادُ بِهِ فَقَدْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِإِخْرَاجِ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا إِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمْ بِالسَّرِقَةِ وَلَمْ يُخْرِجْ غَيْرُهُمْ شَيْئًا فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ النِّصَابَ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا اُعْتُبِرَ بِمَا أَخْرَجَ دُونَ مَا أَخْرَجَ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(ش): مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِرْزِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِرْزَ إِذَا كَانَ دَارًا فَإِنَّهُ حِرْزٌ لِسَاكِنِهِ دُونَ مَالِكِهِ فَمَنْ اسْتَعَارَ بَيْتًا فَأَحْرَزَ فِيهِ مَتَاعَهُ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَنَقَبَ عَلَيْهِ مَالِكُ الْبَيْتِ الْبَيْتَ وَسَرَقَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى =(1/354)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ سَرَقَ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحِرْزِ مِلْكًا لَهُ لَا يَنْفِي عَنْهُ الْقَطْعَ كَمَا لَوْ كَانَتْ دَارُهُ فَأَكْرَاهَا.
(مَسْأَلَةٌ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمَنْ أَحْرَزَ مَتَاعَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الدَّارُ غَيْرَ مُبَاحَةٍ أَوْ مُبَاحَةً فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ غَيْرَ مُبَاحَةٍ فَسَاكِنُ الدَّارِ وَاحِدٌ أَوْ سَكَنَهَا جَمَاعَةٌ سُكْنَى مَشَاعًا، فَإِنَّ جَمِيعَ الدَّارِ حِرْزٌ وَاحِدٌ لَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ أَخْرَجَ السَّرِقَةَ عَنْ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ سَكَنَ الدَّارَ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْفَرِدُ بِسُكْنَاهُ وَيُغْلِقُهُ عَنْ الْآخَرِ فَإِنَّ كُلَّ مَسْكَنٍ مِنْهَا حِرْزٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَمَنْ سَرَقَ مِنْ مَسْكَنٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ إِذَا أَخْرَجَ السَّرِقَةَ مِنْهُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ تُدْخَلُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْفَرِدَ سَاكِنُهَا أَوْ يَسْكُنُهَا جَمَاعَةٌ فَإِنْ سَكَنَهَا وَاحِدٌ مُنْفَرِدٌ قَدْ حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي بَعْضِهَا. فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الدَّارِ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُهَا وَلَا بَابَ لَهَا أَنَّهُ مَنْ سَرَقَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِهَا فَيُوجَدُ قَدْ خَرَجَ بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَاكِنٌ آخَرُ فَلْيُقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّارِ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَمَّا الدَّارُ الْمُبَاحَةُ الَّتِي هِيَ طُرُقٌ لِلْمَارَّةِ الْمُشْتَرَكَةُ النَّافِذَةُ فَهِيَ عِنْدِي كَالْمِقْيَاسِ بِالْفُسْطَاطِ لَيْسَ الْحِرْزُ فِيهَا إِلَّا مَنْ أَحْرَزَ مَتَاعَهُ عَلَى حِدَةٍ، فَمَنْ نَزَلَ مِنْهَا مَوْضِعًا وَوَضَعَ مَتَاعَهُ وَتَابُوتَهُ فَلَا يَنْقَلِبُ بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَيْسَتْ أَبْوَابُهَا حِرْزًا لِمَا فِيهَا، وَهِيَ كَالدُّورِ تُغْلَقُ بِاللَّيْلِ وَتُبَاحُ بِالنَّهَارِ فَعَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ فِيهَا الْقَطْعُ، وَإِنْ أَخَذَ فِي الدَّارِ فَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْإِذْنَ الْعَامَّ فِي الدَّارِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ دَارًا حَتَّى تَكُونَ طَرِيقًا لِلْمَارَّةِ نَافِذًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْحِرْزِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَالرَّبَضِ لَا يَكُونُ الْحِرْزُ فِيهِ إِلَّا بِاِتِّخَاذِهِ مُسْتَقَرًّا فَهَذَا حُكْمُ الدَّارِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِسُكْنَاهَا السَّاكِنُ أَوْ حُكْمُ مَسَاكِنِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَمَّا سَاحَتُهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَلَوْ نَشَرَ فِي الدَّارِ بَعْضُ السَّاكِنِينَ ثَوْبًا فَسَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ قُطِعَ وَلَا يُقْطَعُ إِنْ سَرَقَهُ بَعْضُ أَهْلِ الدَّارِ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا حُكْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْضِعِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْحِرْزِ بِاخْتِلَافِ مَا يَكُونُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ لِأَصْحَابِنَا فِي أَمْتِعَةِ الْبُيُوتِ فَأَمَّا الدَّابَّةُ تَكُونُ الدَّارُ الْمُشْتَرَكَةُ فِيهَا الْبُيُوتُ يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْتَهُ، وَيُغْلِقُ عَلَيْهِمْ وَيَرْبِطُ بَعْضُهُمْ فِي الدَّارِ دَابَّتَهُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ مَنْ خَلَعَ بَابَهَا أَوْ نَقَبَهَا فَأَخَذَ مِنْ قَاعَتِهَا دَابَّةً فَيُؤْخَذُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا مِنْ الدَّارِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ إِذَا حَلَّهَا وَبَانَ بِهَا عَنْ مِذْوَدِهَا بِالْأَمْرِ الْبَيِّنِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الْبَابِ، وَكَذَلِكَ رِزْمَةُ الثِّيَابِ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْضِعَهَا مِثْلَ الْأَعْكَامِ وَالْأَعْدَالِ وَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ قَدْ جُعِلَ فِي مَوْضِعِهِ فَهُوَ كَالدَّابَّةِ عَلَى مِذْوَدِهَا إِذَا أَبْرَزَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ قُطِعَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا سَاكِنٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا سَاكِنَ فِيهَا فَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الْمُلْقَاةِ وَالْعَمُودِ، وَأَمَّا مَا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِيُحْمَلَ إِلَى مَخْزَنِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَيْبَةِ وَنَحْوِهِ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ الدَّارِ إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُشْتَرَكَةً فَإِنَّمَا يُقْطَعُ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ الدَّارِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مَوْضِعُهُ حِرْزًا لَهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ حِرْزٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ غَيْرَ مُشْتَرَكَةٍ فَجَمِيعُهَا حِرْزٌ لَهُ، وَأَمَّا مَا وُضِعَ فِي غَيْرِ حِرْزِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ لِيُنْقَلَ إِلَى حِرْزِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حِرْزِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشْتَرَكَةٍ فَجَمِيعُهَا حِرْزٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ فِيهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ فَيَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ جَمِيعِهِ دُونَ نَقْلِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(ش): وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ يُقْطَعُونَ فِي السَّرِقَةِ مُسْلِمِينَ كَانُوا أَوْ كَافِرِينَ مَلَكَهُمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ إِذَا سَرَقُوا مِنْ مَالِ أَجْنَبِيٍّ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ مَتَاعِ سَيِّدِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَدَمِهِ وَلَا مِمَّنْ يَأْمَنُهُ عَلَى بَيْتِهِ وَإِنْ سَرَقَ عَبْدُك وَدِيعَةً عِنْدَك لِأَجْنَبِيٍّ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ عَنْهُ، وَقَالَ رَبِيعَةُ إِذَا سَرَقَ عَبْدُك مِنْ مَالٍ لَك فِيهِ شِرْكٌ مِنْ مَوْضِعٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ قُطِعَ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ سَيِّدِهِ يُرِيدُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قُطِعَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا إِذَا كَانَ شَرِيكُ سَيِّدِهِ أَحْرَزَهُ عَنْ سَيِّدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَزَهُ عَنْ سَيِّدِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَرَقَ وَدِيعَةً عِنْدَ سَيِّدِهِ قَدْ أُحْرِزَتْ عَنْ الْعَبْدِ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ يَقْتَضِي قَطْعَ الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ وَدِيعَةٍ عِنْدَ سَيِّدِهِ أُحْرِزَتْ عَنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ رَبِيعَةَ وَهُوَ عِنْدِي قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ مَالٌ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ، وَقَدْ أُحْرِزَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ جَمَعَ شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ لِيَقْسِمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ فَسَرَقَ مِنْهُ عَبْدُهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، قَالَ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْبَيْتِ مَا لَمْ يَأْتَمِنْهُ مَوْلَاهُ عَلَى دُخُولِهِ، وَلَوْ كَانَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى دُخُولِهِ وَفَتْحِهِ لَمْ يُقْطَعْ.
(فَرْعٌ) إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْطَعُ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَأَجْنَبِيٍّ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِ سَيِّدِهِ يُرِيدُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قُطِعَ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ إِنْ سَرَقَ مَا قِيمَتُهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا سُرِقَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ الْقَطْعُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِصَّةِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ سَارِقٌ لِمَالِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَقَدْ سَرَقَ نِصَابًا لِأَجْنَبِيِّ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ وَحَقَّ سَيِّدِهِ مِنْهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى قَدْرِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَالِ فَإِذَا سَرَقَ مَا فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ وَإِذَا كَانَ مَا فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ مَالِ الْأَجْنَبِيِّ نِصَابًا وَلَا يُحْمَلُ مَا سَرَقَهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ حِصَّةُ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَمَيَّزُ وَكَوْنُهُ مُشَاعًا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا لِسَيِّدِهِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ فَيُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ بِحِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ) وَإِذَا سَرَقَ عَبْدُ الْخُمْسِ وَعَبْدُ الْفَيْءِ مِنْ الْفَيْءِ فَإِنَّهُمْ يُقْطَعُونَ.
(ش): وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ وَأَطْلَقَ فِي الصَّبِيِّ أَنَّهُ مَنْ سَرَقَهُ مِنْ الْحِرْزِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا: لَا يُقْطَعُ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ سَرَقَ نَفْسًا مَضْمُونَةً فَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ كَالْبَهِيمَةِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: وَذَلِكَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَعْقِلَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا قَطْعَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ يُمَيِّزُ مِثْلَ هَذَا وَيَفْهَمُهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ قَالَ أَشْهَبُ وَمَنْ دَعَا الصَّبِيَّ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ حِرْزِهِ فَمَضَى بِهِ قُطِعَ بِخِلَافِ الْأَعْجَمِيِّ يُرَاطِنُهُ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيَذْهَبُ بِهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْأَعْجَمِيِّ بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ فَلَا قَصْدَ لَهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَشَارَ إِلَى شَاةٍ بِعَلَفٍ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ لَمْ يُقْطَعْ كَمَا لَوْ جَعَلَ مَنْ أَخْرَجَهَا لَهُ، قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَشَارَ بِلَحْمٍ عَلَى بَازٍ أَوْ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ أَعْجَمِيٍّ حَتَّى خَرَجَ لَمْ يُقْطَعْ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُقْطَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَلَا يُعْجِبُنَا، فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْأَعْجَمِيِّ عَائِدٌ إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) وَمَعْنَى الْحِرْزِ أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ أَهْلِهِ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ أَوْ يَحْفَظُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ حِرْزٌ لَهُ فَمَنْ سَرَقَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ قُطِعَ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهُ، فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الصَّبِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ مِثْلُ الْأَسْوَدِ والصقلي الَّذِي يُؤْتَى بِهِ وَلَا يَعْرِفُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ الْمُسْتَعْرِبُ يُرِيدُ الَّذِي قَدْ عَرَفَ وَمَيَّزَ فَلَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَهُ، وَرَوَى فِي الْمَدَنِيَّةِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْصِحُ وَلَا يَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَمَنْ سَرَقَهُ مِنْ حِرْزٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَلَوْ رَاطَنَهُ بِلِسَانِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَذَهَبَ لَمْ يُقْطَعْ.
(ش): وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّ النَّبَّاشَ يُقْطَعُ إِذَا أَخْرَجَ مِنْ الْقَبْرِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٌ وَرَبِيعَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَهَذَا سَارِقٌ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا، فَسَمَّتْهُ سَارِقًا فِي اللُّغَةِ وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ سَارِقٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَنَاوَلَهُ عُمُومُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِمَا فِيهِ كَمَا أَنَّ الْبُيُوتَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا يُرِيدُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْحِرْزِ، وَالْقَبْرُ حِرْزٌ لِمَا وُضِعَ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْبَيْتَ حِرْزٌ لِمَا وُضِعَ فِيهِ وَمَعْنَى الْحِرْزِ مَا يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لَهُ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا وُضِعَ مِنْ الْكَفَنِ فِي الْقَبْرِ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ مِنْ الْقَبْرِ يُرِيدُ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْرَاجِ السَّرِقَةِ مِنْ الْحِرْزِ فَإِذَا وَجَدُوا السَّرِقَةَ بَعْدُ فِي الْقَبْرِ لَمْ يُخْرِجْهَا فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ سَرِقَةً مِنْ حِرْزٍ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ فِيهَا وَلَا اسْتَحَقَّ بَعْدُ اسْمَ سَارِقٍ وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَى بِالْمَتَاعِ خَارِجًا مِنْ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ إخْرَاجُ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزِهَا كَمَا لَوْ خَرَجَ وَأَخْرَجَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا ثُمَّ يَخْرُجَ فَيَأْخُذَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي مَعْنَى السَّرِقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.(1/355)
وَمِثْلَ مَا رُوِيَ مِنْ إحْرَاقِ مَتَاعِ الْغَالِّ (1).
وَمِنْ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ سَلَبَهُ لَمَّا اعْتَدَى عَلَى الْأَمِيرِ (2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (2717) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ. وفيه ضعف
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 470)
(2) - صحيح مسلم برقم (4669) وفي مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ برقم (4183) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ». قَالَ اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ». فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ «لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لاَ تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِى أُمَرَائِى إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِىَ إِبِلاً أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 202)
هَذِهِ الْقَضِيَّة جَرَتْ فِي غَزْوَة مُؤْتَة سَنَة ثَمَان كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ. وَهَذَا الْحَدِيث قَدْ يَسْتَشْكِل مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقَاتِل قَدْ اِسْتَحَقَّ السَّلَب، فَكَيْف مَنَعَهُ إِيَّاهُ؟ وَيُجَاب عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: لَعَلَّهُ أَعْطَاهُ بَعْد ذَلِكَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ تَعْزِيرًا لَهُ وَلِعَوْفِ بْن مَالِك لِكَوْنِهِمَا أَطْلَقَا أَلْسِنَتهمَا فِي خَالِد - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَانْتَهَكَا حُرْمَة الْوَالِي وَمَنْ وَلَّاهُ
الْوَجْه الثَّانِي: لَعَلَّهُ اِسْتَطَابَ قَلْب صَاحِبه فَتَرَكَهُ صَاحِبه بِاخْتِيَارِهِ، وَجَعَلَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْمَقْصُود بِذَلِكَ اِسْتَطَابَةُ قَلْب خَالِد - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - لِلْمَصْلَحَةِ فِي إِكْرَام الْأُمَرَاء.
قَوْله: (فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ: لَا تُعْطِهِ يَا خَالِد) فِيهِ: جَوَاز الْقَضَاء فِي حَال الْغَضَب وَنُفُوذه، وَأَنَّ النَّهْي لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْأَقْضِيَة قَرِيبًا وَاضِحَة.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي)، هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ (تَارِكُوا) بِغَيْرِ نُون، وَفِي بَعْضهَا (تَارِكُونَ) بِالنُّونِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْل، وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا، وَهِيَ لُغَة مَعْرُوفَة، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا " وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي صِفَة الْأُمَرَاء وَالرَّعِيَّة:
(فَصَفْوُهُ لَكُمْ) يَعْنِي الرَّعِيَّة
(وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ) يَعْنِي: عَلَى الْأُمَرَاء، قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الصَّفْو) هُنَا بِفَتْحِ الصَّاد لَا غَيْر، وَهُوَ الْخَالِص، فَإِذَا أَلْحَقُوهُ الْهَاء فَقَالُوا: الصَّفْوَة، كَانَتْ الصَّاد مَضْمُومَة وَمَفْتُوحَة وَمَكْسُورَة ثَلَاث لُغَات. وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ الرَّعِيَّة يَأْخُذُونَ صَفْو الْأُمُور، فَتَصِلُهُمْ أَعْطِيَاتهمْ بِغَيْرِ نَكَد، وَتُبْتَلَى الْوُلَاة بِمُقَاسَاةِ الْأُمُور، وَجَمْع الْأَمْوَال عَلَى وُجُوههَا، وَصَرْفهَا فِي وُجُوههَا، وَحِفْظ الرَّعِيَّة وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ، وَالذَّبّ عَنْهُمْ، وَإِنْصَاف بَعْضهمْ مِنْ بَعْض، ثُمَّ مَتَى وَقَعَ عَلَقَة أَوْ عَتَب فِي بَعْض ذَلِكَ؛ تَوَجَّهَ عَلَى الْأُمَرَاء دُون النَّاس.
وانظر أحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 377) وشرح معاني الآثار - (ج 4 / ص 241)(1/356)
وَمِثْلَ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ (1).
__________
(1) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ برقم (5462) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى , وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ قَالُوا: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ , عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَرَّقَ بَيْتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ , وَكَانَ حَانُوتًا لِلشَّرَابِ , وَكَانَ عُمَرُ قَدْ نَهَاهُ , فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَلْتَهِبُ كَأَنَّهُ جَمْرَةٌ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ رَوَى عَنْ عُمَرَ سَمَاعًا وَرُؤْيَةً غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ , وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ , وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ , وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَأَبِي بَكْرَةَ. وَتُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً * وهو صحيح
وتَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ برقم (560) عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَارَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ، فِي الشَّرَابِ، وَكَانَ لِرُوَيْشِدٍ حَانُوتُ شَرَابٍ، فَرَأَيْتُهَا تَقْطُرُ وَبِأَرْكَانِهَا خَمْرَةٌ، وَدَارُ رُوَيْشِدٍ الْيَوْمَ مُشْتَرَكَةٌ لِغَيْرِ وَاحِدٍ " قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ شَبَّةَ: وَكَانَ رُوَيْشِدٌ خَمَّارًا * وهو صحيح
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4448) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 518) وموسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 64) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 3 / ص 16) ومنح الجليل شرح مختصر خليل - (ج 10 / ص 66) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 352) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 167) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 271) ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - (ج 2 / ص 448)(1/357)
وَمِثْلَ أَخْذِ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ (1)، وَمِثْلَ تَحْرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عفان الْمَصَاحِفَ الْمُخَالِفَةَ لِلْإِمَامِ (2)؛ وَتَحْرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِكُتُبِ الْأَوَائِلِ (3) وَأَمْرِهِ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي بَنَاهُ
__________
(1) - سنن النسائى برقم (2456) عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ جَدِّى قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «فِى كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لاَ يُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ أَبَى فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لاَ يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا شَىْءٌ» صحيح.
السائمة: التى ترعى فى أكثر السنة = العزمة: الجد والحق فى الأمر = ابنة لبون: ما أتى عليه سنتان ودخل فى الثالثة فصارت أمه لبونا بوضع الحمل
وفي شرح سنن النسائي - (ج 3 / ص 468) 2401 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ:
وَقَوْله (وَشَطْر إِبِلِهِ) الْمَشْهُور رِوَايَة سُكُون الطَّاء مِنْ شَطْر عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّصْف وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى ضَمِير آخِذُوهَا لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ وَسَقَطَ نُونُ الْجَمْعِ لِلِاتِّصَالِ أَوْ هُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَحَلِّهِ وَيَجُوزُ جَرُّهُ أَيْضًا وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ حِين كَانَ التَّغْرِير بِالْأَمْوَالِ جَائِزًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ فَلَا يَجُوز الْآن أَخْذُ الزَّائِدِ عَلَى قَدْر الزَّكَاة وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نِصْف الْمَال كَأَنْ كَانَ لَهُ أَلْفُ شَاةٍ فَاسْتَهْلَكَهَا بَعْد أَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إِلَى أَنْ بَقِيَ لَهُ عِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ لِصَدَقَةِ الْأَلْفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نِصْفًا لِلْقَدْرِ الْبَاقِي وَرُدَّ بِأَنَّ اللَّائِقَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ إِنَّا آخِذُو شَطْر مَاله لَا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله بِالْعَطْفِ كَمَا فِي الْحَدِيث وَقِيلَ وَالصَّحِيح أَنْ يُقَال وَشُطِّرَ مَالُهُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَبِنَاء الْمَفْعُول أَيْ يَجْعَلُ الْمُصَّدِّقُ مَالَهُ نِصْفَيْنِ وَيَتَخَيَّر عَلَيْهِ فَيَأْخُذ الصَّدَقَة مِنْ خَيْر النِّصْفَيْنِ عُقُوبَةً وَأَمَّا أَخْذُ الزَّائِد فَلَا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ قَوْل يَأْخُذ الزِّيَادَة وَصْفًا وَتَغْلِيطًا لِلرُّوَاةِ بِلَا فَائِدَة وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ
(عَزَمَة مِنْ عَزَمَات رَبِّنَا) أَيْ حَقّ مِنْ حُقُوقه وَوَاجِب مِنْ وَاجِبَاته.
وفي حَاشِيَةُ السِّيُوطِيِّ:
(وَمَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا) أَيْ طَالِبًا لِلْأَجْرِ
(وَمَنْ أَبَى فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله) قَالَ فِي النِّهَايَة: قَالَ الْحَرْبِيّ: غَلِطَ الرَّاوِي فِي لَفْظ الرِّوَايَة إِنَّمَا هُوَ وَشَطْر مَاله أَيْ يُجْعَل مَاله شَطْرَيْنِ وَيَتَخَيَّر عَلَيْهِ الْمُصَدِّق فَيَأْخُذ الصَّدَقَة مِنْ خَيْر النِّصْفَيْنِ عُقُوبَة لِمَنْعِهِ الزَّكَاة فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمهُ فَلَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْل الْحَرْبِيّ: لَا أَعْرِف هَذَا الْوَجْه وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقّ مُسْتَوْفًى مِنْهُ غَيْر مَتْرُوك وَإِنْ تَلِفَ شَطْر مَاله كَرَجُلٍ كَانَ لَهُ أَلْف شَاة فَتَلْفِت حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا عِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ عَشْر شِيَاه لِصَدَقَةِ الْأَلْف وَهُوَ شَطْر مَاله الْبَاقِي وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله وَلَمْ يَقُلْ إِنَّا آخِذُوا شَطْر مَاله وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام يَقَع بَعْض الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال ثُمَّ نُسِخَ كَقَوْلِهِ فِي التَّمْر الْمُعَلَّق مَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَة مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَة وَكَقَوْلِهِ فِي ضَالَّة الْإِبِل الْمَكْتُوبَة غَرَامهَا وَمِثْلهَا مَعَهَا وَكَانَ عُمَر يَحْكُم بِهِ فَغَرَّمَ حَاطِبًا ضِعْف ثَمَن نَاقَة الْمُزَنِيُّ لَمَّا سَرَقَهَا رَقِيقه وَنَحَرُوهَا وَلَهُ فِي الْحَدِيث نَظَائِر وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَد بْن حَنْبَل بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَعَمِلَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: مَنْ مَنَعَ زَكَاة مَاله أُخِذَتْ وَأُخِذَ شَطْر مَاله عُقُوبَة عَلَى مَنْعه وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث، وَقَالَ فِي الْجَدِيد: لَا يُؤْخَذ إِلَّا الزَّكَاة لَا غَيْر وَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخًا وَقَالَ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْمَال ثُمَّ نُسِخَتْ وَمَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء أَنْ لَا وَاجِب عَلَى مُتْلِف شَيْء أَكْثَر مِنْ مِثْله أَوْ قِيمَته
(عَزَمَة مِنْ عَزَمَات رَبّنَا) أَيْ حَقّ مِنْ حُقُوقه وَوَاجِب مِنْ وَاجِبَاته
(2) - صحيح البخارى برقم (4987) عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ =(1/358)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ.
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 194)
قَوْله: (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآن فِي كُلّ صَحِيفَة أَوْ مُصْحَف أَنْ يُحْرَق)
فِي رِوَايَة الْأَكْثَر " أَنْ يُخْرَق " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَلِلْمَرْوَزِيّ بِالْمُهْمَلَةِ وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالْمُعْجَمَة أَثْبَت. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَنْ تُمْحَى أَوْ تُحْرَق " وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة شُعَيْب عِنْد اِبْن أَبِي دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرهمَا " وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا كُلّ مُصْحَف يُخَالِف الْمُصْحَف الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ، قَالَ: فَذَلِكَ زَمَان حُرِّقَتْ الْمَصَاحِف بِالْعِرَاقِ بِالنَّارِ " وَفِي رِوَايَة سُوَيْد بْن غَفَلَةَ عَنْ عَلِيّ قَالَ " لَا تَقُولُوا لِعُثْمَان فِي إِحْرَاق الْمَصَاحِف إِلَّا خَيْرًا " وَفِي رِوَايَة بُكَيْر بْن الْأَشَجّ " فَأَمَرَ بِجَمْعِ الْمَصَاحِف فَأَحْرَقَهَا، ثُمَّ بَثَّ فِي الْأَجْنَاد الَّتِي كَتَبَ " وَمِنْ طَرِيق مُصْعَب بْن سَعْد قَالَ " أَدْرَكْت النَّاس مُتَوَافِرِينَ حِين حَرَّقَ عُثْمَان الْمَصَاحِف، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ - أَوْ قَالَ - لَمْ يُنْكِر ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَد " وَفِي رِوَايَة أَبِي قِلَابَةَ " فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَان مِنْ الْمُصْحَف كَتَبَ إِلَى أَهْل الْأَمْصَار: إِنِّي قَدْ صَنَعْت كَذَا وَكَذَا وَمَحَوْت مَا عِنْدِي، فَامْحُوا مَا عِنْدكُمْ " وَالْمَحْو أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون بِالْغَسْلِ أَوْ التَّحْرِيق، وَأَكْثَر الرِّوَايَات صَرِيح فِي التَّحْرِيق فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ، وَيَحْتَمِل وُقُوع كُلّ مِنْهُمَا بِحَسَبِ مَا رَأَى مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ جَزَمَ عِيَاض بِأَنَّهُمْ غَسَلُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ أَحْرَقُوهَا مُبَالَغَة فِي إِذْهَابهَا. قَالَ اِبْن بَطَّال: فِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز تَحْرِيق الْكُتُب الَّتِي فِيهَا اِسْم اللَّه بِالنَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَام لَهَا وَصَوْن عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْد الرَّزَّاق مِنْ طَرِيق طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّق الرَّسَائِل الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَة إِذَا اِجْتَمَعَتْ، وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَة، وَكَرِهَهُ إِبْرَاهِيم، وَقَالَ اِبْن عَطِيَّة: الرِّوَايَة بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة أَصَحّ. وَهَذَا الْحُكْم هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت، وَأَمَّا الْآن فَالْغَسْل أَوْلَى لِمَا دَعَتْ الْحَاجَة إِلَى إِزَالَته.
وَقَوْله " وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ "
أَيْ بِمَا سِوَى الْمُصْحَف الَّذِي اِسْتَكْتَبَهُ وَالْمَصَاحِف الَّتِي نُقِلَتْ مِنْهُ وَسِوَى الصُّحُف الَّتِي كَانَتْ عِنْد حَفْصَة وَرَدَّهَا إِلَيْهَا، وَلِهَذَا اِسْتَدْرَكَ مَرْوَان الْأَمْر بَعْدهَا وَأَعْدَمَهَا أَيْضًا خَشْيَة أَنْ يَقَع لِأَحَدٍ مِنْهَا تَوَهُّم أَنَّ فِيهَا مَا يُخَالِف الْمُصْحَف الَّذِي اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْر كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُدِلَّ بِتَحْرِيقِ عُثْمَان الصُّحُف عَلَى الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوف وَالْأَصْوَات لِأَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن كَلَام اللَّه قَدِيمًا أَنْ تَكُون الْأَسْطُر الْمَكْتُوبَة فِي الْوَرَق قَدِيمَة، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ عَيْن كَلَام اللَّه لَمْ يَسْتَجِزْ الصَّحَابَة إِحْرَاقهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
شرح ابن بطال - (ج 19 / ص 294) وتحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 427) ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 7 / ص 103) وفتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 216) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 11) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 13981) وموسوعة الأسرة المسلمة معدلة - (ج 9 / ص 183) والأحكام لابن حزم - (ج 4 / ص 523) وكتاب الاعتصام - (ج 1 / ص 406)
(3) - مصنف ابن أبي شيبة برقم (33813) عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا تُسْتَرَ، قَالَ: فَوَجَدَ رَجُلاً أَنْفُهُ ذِرَاعٌ فِي التَّابُوتِ , كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ وَيَسْتَمْطِرُونَ بِهِ , فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ , فَكَتَبَ عُمَرُ: إنَّ هَذَا نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّارُ لاَ تَأْكُلُ الأَنْبِيَاءَ , وَالأَرْضُ لاَ تَأْكُلُ الأَنْبِيَاءَ , فَكَتَبَ أَنْ اُنْظُرْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك، يَعَنْي أَصْحَابَ أَبِي مُوسَى فَادْفِنُوهُ فِي مَكَان لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُكُمَا قَالَ: فَذَهَبْت أَنَا، وَأَبُو مُوسَى فَدَفَنَّاهُ. وهو صحيح
وفي مصنف عبد الرزاق (ج 5 / ص 95) برقم (10167) عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ يَقُولُ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ يَطْلُبُ كُتُبَ دَانْيَالَ، وَذَاكَ الضِّرْبَ، فَجَاءَ فِيهِ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يُرْفَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَدْرِي فِيمَا رُفِعْتُ؟ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، حَتَّى بَلَغَ الْغَافِلِينَ قَالَ: " فَعَرَفْتُ مَا يُرِيدُ "، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي، فَوَاللَّهِ مَا أَدَعُ عِنْدِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ إِلَّا حَرَقْتُهُ قَالَ: ثُمَّ تَرَكَهُ - وفيه انقطاع
وفي الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ برقم (3108) عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْعَبْدِيُّ؟، قَالَ: نَعَمْ، فَضَرَبَهُ بِعَصًا مَعَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الر، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الْآيَةِ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَضَرَبَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَسَخْتَ كِتَابَ دَانْيَالَ "؟ قَالَ: مُرْنِي بِأَمْرِكَ أَتَّبِعْهُ , قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: انْطَلِقْ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ، وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ، ثُمَّ لَا تَقْرَأْهُ أَنْتَ، وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ قَرَأْتَهُ، أَوْ أَقْرَأْتَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَأَهْلَكْتُكَ عُقُوبَةً، ثُمَّ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا، فَانْتَسَخْتُ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فِي أَدِيمٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كِتَابٌ نَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أُغْضِبَ نَبِيُّكُمُ، السِّلَاحَ، السِّلَاحَ فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: " لَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ " قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِكَ رَسُولًا، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وفيه ضعف.(1/359)
لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجِبَ عَنْ النَّاسِ؛ فَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ عَلَيْهِ؛ فَذَهَبَ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِ (1).
وَهَذِهِ الْقَضَايَا كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذْهَبِهِمَا. وَمَنْ قَالَهُ مُطْلَقًا مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ: فَقَدْ قَالَ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ.
وَلَمْ يَجِئْ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ قَطُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ؛ بَلْ أَخْذُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ وَأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ (2).
وَعَامَّةُ هَذِهِ الصُّوَرِ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَعْضُهَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِاعْتِبَارِ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْحَدِيثِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا: إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَدَنِيَّةِ: تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ؛ وَإِلَى مَا يُخَالِفُهُ. وَلَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ مَنْسُوخَةً عِنْدَهُمَا.
وَالْمُدَّعُونَ لِلنُّسَخِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ بِالنَّسْخِ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ بِلَا حُجَّةٍ. إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى النَّسْخِ؛ وَإِذَا طُولِبَ بِالنَّاسِخِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ لِبَعْضِ النُّصُوصِ تُوهِمُهُ تَرْكَ الْعَمَلِ؛ إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ طَائِفَتِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا إجْمَاعٌ؛ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ (3) وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ إجْمَاعٌ عَلَى تَرْكِ نَصٍّ إلَّا وَقَدْ عُرِفَ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 1 / ص 142) برقم (325) عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَايَةَ بن رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ سَعْدًا اتَّخَذَ بَابًا، ثُمَّ قَالَ: انْقَطَعَ الصُّوَيْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَرَّقَهُ ثُمَّ أَخَذَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهُ، وَقَالَ: هَهُنَا اجْلِسْ لِلنَّاسِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ سَعْدٌ وَحَلَفَ مَا تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي بَلَغَتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وهو صحيح
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4448) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 7 / ص 457) والحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 176) والفروع لابن مفلح - (ج 8 / ص 43) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 352) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 167) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 230) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 20) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 4 / ص 263) ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - (ج 2 / ص 340)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2883) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 518) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 361)
(3) - سنن ابن ماجه برقم (4085) عن أبي خَلَفٍ الأَعْمَى قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ أُمَّتِى لَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلاَلَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلاَفًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ».
وسنن أبى داود برقم (4255) عَنْ أَبِى مَالِكٍ - يَعْنِى الأَشْعَرِىَّ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثِ خِلاَلٍ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا وَأَنْ لاَ يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ وَأَنْ لاَ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ».
وفي سنن الترمذى برقم (2320) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِى - أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - - عَلَى ضَلاَلَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ».
والصحيحة (1331) وصحيح الجامع (1786) من طرق وهو صحيح لغيره(1/360)
وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَدَّعِي نَسْخَ النُّصُوصِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ إذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ صَحِيحًا؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ نِزَاعًا ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَصْحَابِهِ وَلَكِنْ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ (1).
وَأَيْضًا فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ (2):
__________
(1) - قال الغزاليّ: «يجب على المجتهد في كلّ مسألة أن يردّ نظره إلى النّفي الأصليّ قبل ورود الشّرع.
ثمّ يبحث عن الأدلّة السّمعيّة، فينظر أوّل شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعاً، ترك النّظر في الكتاب والسّنّة، فإنّهما يقبلان النّسخ، والإجماع لا يقبله.
فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسّنّة دليل قاطع على النّسخ، إذ لا تجتمع الأمّة على الخطأ».
وقد حرّر ذلك ابن تيميّة فقال "وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ نَصًّا بِإِجْمَاعِ وَادَّعَى نَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبُيِّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصِّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ. وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مَنْ عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَحِفْظُ اللَّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ ". مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 274) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 373)
قلت: كثير من القضايا التي يدعى فيها الإجماع ليس فيها إجماع على الصحيح راجع موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي - لسعدي أبو جيب
(2) - وفي لطرق الحكمية - (ج 1 / ص 366)
114 - 114 - (فَصْلٌ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: وَاجِبَاتُ الشَّرِيعَةِ - الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: عِبَادَاتٌ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَعُقُوبَاتٌ: إمَّا مَقْدُورَةٌ، وَإِمَّا مُفَوَّضَةٌ، وَكَفَّارَاتٌ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبَاتِ: يَنْقَسِمُ إلَى بَدَنِيٍّ، وَإِلَى مَالِيٍّ، وَإِلَى مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا.
فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالْمَالِيَّةُ: كَالزَّكَاةِ، وَالْمُرَكَّبَةُ: كَالْحَجِّ.
وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ: كَالْإِطْعَامِ، وَالْبَدَنِيَّةُ: كَالصِّيَامِ، وَالْمُرَكَّبَةُ: كَالْهَدْيِ يُذْبَحُ وَيُقَسَّمُ.
وَالْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ، وَالْمَالِيَّةُ: كَإِتْلَافِ أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ، وَالْمُرَكَّبَةُ: كَجَلْدِ السَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ، وَكَقَتْلِ الْكُفَّارِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ.
وَالْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: تَارَةً تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا مَضَى، كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَتَارَةً تَكُونُ دَفْعًا عَنْ الْفَسَادِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَارَةً تَكُونُ مُرَكَّبَةً، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ.
وَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ، فَإِنَّهَا مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ كَالْبَدَنِيَّةِ إلَى إتْلَافٍ، وَإِلَى تَغْيِيرٍ، وَإِلَى تَمْلِيكِ الْغَيْرِ.
فَالْأَوَّلُ: الْمُنْكَرَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصُّوَرِ، يَجُوزُ إتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا، مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَمَّا كَانَتْ صُوَرُهَا مُنْكَرَةً: جَازَ إتْلَافُ مَادَّتِهَا، فَإِذَا كَانَتْ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ: جَازَ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا، وَكَذَلِكَ آلَاتُ الْمَلَاهِي - كَالطُّنْبُورِ - يَجُوزُ إتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ كَسَرَ عُودًا كَانَ مَعَ أَمَةٍ لِإِنْسَانٍ، فَهَلْ يَغْرَمُهُ، أَوْ يُصْلِحُهُ؟ قَالَ: لَا أَرَى عَلَيْهِ بَأْسًا أَنْ يَكْسِرَهُ، وَلَا يَغْرَمُهُ وَلَا يُصْلِحُهُ، قِيلَ لَهُ: فَطَاعَتُهَا؟ قَالَ: لَيْسَ لَهَا طَاعَةٌ فِي هَذَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَخَذَ الشِّطْرَنْجَ فَرَمَى بِهِ؟ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ. =(1/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قِيلَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ إنْ كَسَرَ عُودًا أَوْ طُنْبُورًا؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْت أَبِي - فِي رَجُلٍ يَرَى مِثْلَ الطُّنْبُورِ أَوْ الْعُودِ، أَوْ الطَّبْلِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا - مَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ مَكْشُوفًا فَاكْسِرْهُ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَالْمُنْكَرَ: أَيَكْسِرُهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ.
وَقَالَ أَبُو الصَّقْرِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ رَأَى عُودًا أَوْ طُنْبُورًا فَكَسَرَهُ، مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي كَسْرِهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ كَسَرَ الطُّنْبُورَ وَالْعُودَ؟ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ أَوْ طَبْلًا مُغَطًّى: أَيَكْسِرُهُ؟ قَالَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ كَسَرَهُ
وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكْسِرُ الطُّنْبُورَ، أَوْ الطَّبْلَ: عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَكْسِرُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْرِ الطُّنْبُورِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مَعَ الصَّبِيِّ؟ قَالَ: يُكْسَرُ أَيْضًا، قُلْت: أَمُرُّ فِي السُّوقِ، فَأَرَى الطُّنْبُورَ يُبَاعُ: أَأَكْسِرُهُ؟ قَالَ: مَا أَرَاك تَقْوَى، إنْ قَوِيتَ - أَيْ فَافْعَلْ - قُلْت: أُدْعَى لِغُسْلِ الْمَيِّتِ، فَأَسْمَعُ صَوْتَ الطَّبْلِ؟ قَالَ: إنْ قَدَرْت عَلَى كَسْرِهِ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ. وَقَالَ: فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ - فِي الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَالطَّبْلَ وَالْقِنِّينَةَ - قَالَ: فَإِذَا كَانَ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ، وَفِي الْقِنِّينَةِ مُسْكِرٌ: اكْسِرْهُ.
وَفِي " مَسَائِلِ صَالِحٍ " قَالَ أَبِي: يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيُفْسِدُ الْخَمْرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ قُضَاةِ الْعَدْلِ.
قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ: كَسَرَ رَجُلٌ طُنْبُورًا، فَخَاصَمَهُ إلَى شُرَيْحٍ، فَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ الْمُبْطِلِ لِلصُّورَةِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ: فَغَيْرُ مَضْمُونٍ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْإِزَالَةِ، وَمَا فَوْقَهُ فَقَابِلٌ لِلتَّمَوُّلِ: لِتَأَتِّي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْمُنْكَرُ إنَّمَا هُوَ الْهَيْئَةُ الْمَخْصُوصَةُ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهَا؛ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ فِي الصَّائِلِ بِمَا زَادَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي الدَّفْعِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ فِي اتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ، وَالْإِجْهَازِ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَالْمَيْتَةِ: فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، لَا يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ أَحْرَقَ الْعِجْلَ الَّذِي عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَنَسَفَهُ فِي الْيَمِّ، وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَذَلِكَ مَحْقٌ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} وَهُوَ الْفُتَاتُ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الِاسْتِئْصَالِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ " وَالطَّبَرَانِيُّ فِي " الْمُعْجَمِ " مِنْ حَدِيثِ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي رَبِّي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْأَوْثَانِ، وَالصُّلُبِ وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ} لَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ.
وَالْفَرَجُ حِمْصِيٌّ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ثِقَةٌ.
وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ آخَرُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ: دِمَشْقِيٌّ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ - وَهُوَ بَلَدِيُّهُ - لَا أَعْلَمُ بِهِ إلَّا خَيْرًا، وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ، " وَالْمَحْقُ " نِهَايَةُ الْإِتْلَافِ.
وَأَيْضًا: فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ الضَّمَانِ: هُوَ مَا قَبِلَ الْمُعَاوَضَةَ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَقْبَلُهَا أَلْبَتَّةَ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَقْبَلُ الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ} وَهَذَا نَصٌّ، وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ} وَالْمَلَاهِي مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّصِّ، فَحَرُمَ بَيْعُهَا.
وَأَمَّا قَبُولُ مَا فَوْقَ الْحَدِّ الْمُبْطِلِ لِلصُّورَةِ لِجَعْلِهِ آنِيَةً: فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ، لِسُقُوطِ حُرْمَتِهِ، حَيْثُ صَارَ جُزْءَ الْمُحَرَّمِ: أَوْ ظَرْفًا لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، فَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمُجَاوَرَةِ تَأْثِيرًا فِي الِامْتِهَانِ وَالْإِكْرَامِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ}.
وَ {سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْقَوْمِ: يَكُونُونَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، يُؤَاكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ} هَذَا لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُجَاوَرَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَكَيْفَ بِالْمُجَاوَرَةِ الَّتِي صَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ لَصِيقَةً بِهِ؟ وَتَأْثِيرُ الْجِوَارِ ثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ - عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ - لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيُّ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: {أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ أَلَّا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتُهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتُهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَمْسِ الصُّوَرِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ، وَهَدْمِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ، فَيَرَى فِيهِ تَصَاوِيرَ، تَرَى أَنْ يَحُكَّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَحُجَّتُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ}.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلَّا نَقَضَهُ}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ}.
فَهَؤُلَاءِ رُسُلُ اللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَخَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ عَلَى مَحْقِ الْمُحَرَّمِ وَإِتْلَافِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دُفِعَ إلَيَّ إبْرِيقُ فِضَّةٍ لِأَبِيعَهُ، أَتَرَى أَنْ أَكْسِرَهُ، أَوْ أَبِيعَهُ كَمَا هُوَ؟ قَالَ: اكْسِرْهُ.
وَقَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا، فَجِيءَ بِطَسْتِ فِضَّةٍ، وَإِبْرِيقِ فِضَّةٍ، فَكَسَرَهُ، فَأَعْجَبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَسْرُهُ.
وَقَالَ: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِمُكْحُلَةٍ رَأْسُهَا مُفَضَّضٌ، فَقَطَعْتهَا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَتَبَسَّمَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الصِّيَاغَةَ مُحَرَّمَةٌ، فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا حُرْمَةَ.
وَأَيْضًا: فَتَعْطِيلُ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَطْلُوبٌ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.(1/362)
عِبَادَاتٌ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. وَعُقُوبَاتٌ إمَّا مُقَدَّرَةٌ وَإِمَّا مُفَوَّضَةٌ وَكَفَّارَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبَاتِ يَنْقَسِمُ إلَى:
بَدَنِيٍّ. وَإِلَى مَالِيٍّ. وَإِلَى مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَالْمَالِيَّةُ: كَالزَّكَاةِ. وَالْمُرَكَّبَةُ: كَالْحَجِّ. وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ: كَالْإِطْعَامِ (1). وَالْبَدَنِيَّةُ: كَالصِّيَامِ. وَالْمُرَكَّبَةُ: كَالْهَدْيِ بِذَبْحِ (2).
وَالْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: كَالْقَتْلِ (3) وَالْقَطْعِ (4).
__________
(1) - قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89) سورة المائدة.
(2) - قال تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) [الحج/36 - 38].
(3) - كمن قتل غيره ظلما أو من ارتد وأصر أو زنى بعد إحصان.
(4) - يعني إذا سرق وانطبقت عليه شروط إقامة الحد. =(1/363)
وَالْمَالِيَّةُ: كَإِتْلَافِ أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ (1). وَالْمُرَكَّبَةُ: كَجَلْدِ السَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ (2) وَكَقَتْلِ الْكُفَّارِ (3) وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ (4).
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (1340) عَنْ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لأَيْتَامٍ فِى حِجْرِى. قَالَ أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَاكْسِرِ الدِّنَانَ». وهو صحيح
الدنان: جمع دن وهو وعاء ضخم للخمر وغيرها
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 436)
وَإِنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ تَجْوِيزُ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ: تَارَةً بِالْأَخْذِ. وَتَارَةً بِالْإِتْلَافِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَد فِي مَتَاعِ الْغَالِّ وَكَمَا يَقُولُهُ أَحْمَد وَمَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ وَمَحَلِّ الْخَمَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ أَحْيَانًا كَالْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النُّفُوسِ أَحْيَانًا. وَهَذَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ التَّنْكِيلِ عَلَى الْجَرِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالطَّرْفِ وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ يَحْرُمُ إلَّا بِنَفْسِ أَوْ فَسَادٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ إنَّمَا يُبَاحُ قِصَاصًا أَوْ لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ كَمَا أَبَحْنَا مِنْ إتْلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ الَّذِي لِأَهْلِ الْحَرْبِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُونَ بِنَا بِغَيْرِ خِلَافٍ. وَجَوَّزْنَا لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ مَا جَوَّزْنَا.
وانظر فتاوى يسألونك - (ج 1 / ص 111) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4449) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 519) وشرح زاد المستقنع - (ج 22 / ص 8) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 366) والمدخل - (ج 4 / ص 137)
(2) - سنن أبى داود برقم (4392) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ». وهو صحيح
الجرين: موضع تجفيف التمر - الجوخان: موضع يجمع فيه التمر للتجفيف - الخبنة: طرف الثوب والمراد لا يأخذ فى ثوبه
وفي التمهيد لابن عبد البر - (ج 6 / ص 351)
اختلف العلماء في السارق من غير حرز فأما فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام فإنهم اعتبروا جميعا الحرز في وجوب القطع باتفاق منهم على ذلك وقالوا من سرق من غير حرز فلا قطع عليه بلغ المقدار أو زاد والحجة لما ذهب إليه الفقهاء في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لا قطع في حريسة جبل حتى يأويها المراح وأجمعوا أن السارق من مال المضاربة والوديعة لا قطع عليه وقال - صلى الله عليه وسلم - لا قطع على خائن ولا مختلس وأجمعوا على ذلك وفي إجماعهم على أن لا قطع على خائن ولا مختلس دليل على مراعاة الحرز وقال أهل الظاهر وبعض أهل الحديث وأحمد بن حنبل في رواية عنه كل سارق يقطع سرق من حرز وغير حرز لأن الله أمر بقطع السارق أمرا مطلقا وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - المقدار ولم يذكر الحرز قال أبو عمر الحجة عليهم ما ذكرنا وبالله توفيقنا واختلف الفقهاء في أبواب من معاني الحرز يطول ذكرها فجملة قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأصحابهم أن السارق من غير حرز لا قطع عليه وجملة قول مالك والشافعي في الحرز أن الحرز كل ما يحرز به الناس أموالهم إذا أرادوا التحفظ بها وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز واختلاف المواضع فإذا ضم المتاع في السوق إلى موضع وقعد عليه صاحبه فهو حرز وكذلك إذا جعل في ظرف فأخرج منه وعليه من يحرزه أو كانت إبل قطر بعضها إلى بعض أو أنيخت في صحراء حيث ينظر إليها أو كانت غنما في مراحها أو متاعا في فسطاط أو بيتا مغلقا على شيء أو مقفولا عليه وكل ما تنسبه العامة إلى أنه حرز على اختلاف أزمانها وأحوالها قال الشافعي ورداء صفوان كان محرزا باضطجاعه عليه فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارقه قال ويقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر لأن هذا حرز مثله مذهب المالكيين والشافعيين في هذا الباب متقارب جدا ولا سبيل إلى إيراد مسائل السرقة على اختلاف أنواع الحرز وقد ذكرناها هنا جملا تكفي ومن أراد الوقوف على الفروع نظر في كتب الفقهاء وبأن له ما ذكرناه وبالله التوفيق
وانظر شرح الأربعين النووية - (ج 2 / ص 191) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 154) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 366) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 72) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 9 / ص 177) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 458)
(3) - قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} (91) سورة النساء
(4) - قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (41) سورة الأنفال(1/364)
وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا مَضَى كَقَطْعِ السَّارِقِ؛ وَتَارَةً تَكُونُ دَفْعًا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَتْلِ الْقَاتِلِ: فَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ؛ فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ؛ وَهِيَ تَنْقَسِمُ كَالْبَدَنِيَّةِ إلَى إتْلَافٍ (1)؛ وَإِلَى تَغْيِيرٍ (2)؛ وَإِلَى تَمْلِيكِ الْغَيْرِ (3).
__________
(1) - مثل إتلاف آلات اللهو ودنان الخمر وآلات المعاصي ونحوها
(2) - تغيير صفتها، كخمر تخللت فتحل
(3) - كالغرامة فهي تعطى للفقراء والمساكين أو غرامة السرقة بأقل من النصاب أو من سرق من غير حرز، فيملك صاحبها المال الذي يغرم به السارق حينئذٍ(1/365)
[التعزير ُفي منكراتِ الأعيانِ والصفاتِ] (1)
__________
(1) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 366)
فَالْأَوَّلُ: الْمُنْكَرَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصُّوَرِ، يَجُوزُ إتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا، مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَمَّا كَانَتْ صُوَرُهَا مُنْكَرَةً: جَازَ إتْلَافُ مَادَّتِهَا، فَإِذَا كَانَتْ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ: جَازَ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا، وَكَذَلِكَ آلَاتُ الْمَلَاهِي - كَالطُّنْبُورِ - يَجُوزُ إتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ كَسَرَ عُودًا كَانَ مَعَ أَمَةٍ لِإِنْسَانٍ، فَهَلْ يَغْرَمُهُ، أَوْ يُصْلِحُهُ؟
قَالَ: لَا أَرَى عَلَيْهِ بَأْسًا أَنْ يَكْسِرَهُ، وَلَا يَغْرَمُهُ وَلَا يُصْلِحُهُ، قِيلَ لَهُ: فَطَاعَتُهَا؟ قَالَ: لَيْسَ لَهَا طَاعَةٌ فِي هَذَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يُسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَأَخَذَ الشِّطْرَنْجَ فَرَمَى بِهِ؟ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ.
قِيلَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ إنْ كَسَرَ عُودًا أَوْ طُنْبُورًا؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْت أَبِي - فِي رَجُلٍ يَرَى مِثْلَ الطُّنْبُورِ أَوْ الْعُودِ، أَوْ الطَّبْلِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا - مَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ مَكْشُوفًا فَاكْسِرْهُ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَالْمُنْكَرَ: أَيَكْسِرُهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ
وَقَالَ أَبُو الصَّقْرِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ رَأَى عُودًا أَوْ طُنْبُورًا فَكَسَرَهُ، مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي كَسْرِهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ كَسَرَ الطُّنْبُورَ وَالْعُودَ؟ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ أَوْ طَبْلًا مُغَطًّى: أَيَكْسِرُهُ؟ قَالَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ كَسَرَهُ
وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكْسِرُ الطُّنْبُورَ، أَوْ الطَّبْلَ: عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَكْسِرُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْرِ الطُّنْبُورِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مَعَ الصَّبِيِّ؟ قَالَ: يُكْسَرُ أَيْضًا، قُلْت: أَمُرُّ فِي السُّوقِ، فَأَرَى الطُّنْبُورَ يُبَاعُ: أَأَكْسِرُهُ؟ قَالَ: مَا أَرَاك تَقْوَى، إنْ قَوِيتَ - أَيْ فَافْعَلْ - قُلْت: أُدْعَى لِغُسْلِ الْمَيِّتِ، فَأَسْمَعُ صَوْتَ الطَّبْلِ؟ قَالَ: إنْ قَدَرْت عَلَى كَسْرِهِ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ. وَقَالَ: فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ - فِي الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَالطَّبْلَ وَالْقِنِّينَةَ - قَالَ: فَإِذَا كَانَ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ، وَفِي الْقِنِّينَةِ مُسْكِرٌ: اكْسِرْهُ.
وَفِي " مَسَائِلِ صَالِحٍ " قَالَ أَبِي: يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيُفْسِدُ الْخَمْرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ قُضَاةِ الْعَدْلِ.
قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ: كَسَرَ رَجُلٌ طُنْبُورًا، فَخَاصَمَهُ إلَى شُرَيْحٍ، فَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ الْمُبْطِلِ لِلصُّورَةِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ: فَغَيْرُ مَضْمُونٍ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْإِزَالَةِ، وَمَا فَوْقَهُ فَقَابِلٌ لِلتَّمَوُّلِ: لِتَأَتِّي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْمُنْكَرُ إنَّمَا هُوَ الْهَيْئَةُ الْمَخْصُوصَةُ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهَا؛ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ فِي الصَّائِلِ بِمَا زَادَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي الدَّفْعِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ فِي اتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ، وَالْإِجْهَازِ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَالْمَيْتَةِ: فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، لَا يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ أَحْرَقَ الْعِجْلَ الَّذِي عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَنَسَفَهُ فِي الْيَمِّ، وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَذَلِكَ مَحْقٌ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} وَهُوَ الْفُتَاتُ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الِاسْتِئْصَالِ
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ " وَالطَّبَرَانِيُّ فِي " الْمُعْجَمِ " مِنْ حَدِيثِ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي رَبِّي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْأَوْثَانِ، وَالصُّلُبِ وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ} لَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ.
وَالْفَرَجُ حِمْصِيٌّ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ثِقَةٌ.
وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ آخَرُونَ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ: دِمَشْقِيٌّ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ - وَهُوَ بَلَدِيُّهُ - لَا أَعْلَمُ بِهِ إلَّا خَيْرًا، وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ، " وَالْمَحْقُ " نِهَايَةُ الْإِتْلَافِ.
وَأَيْضًا: فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ الضَّمَانِ: هُوَ مَا قَبِلَ الْمُعَاوَضَةَ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَقْبَلُهَا أَلْبَتَّةَ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَقْبَلُ الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ} وَهَذَا نَصٌّ، وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ} وَالْمَلَاهِي مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّصِّ، فَحَرُمَ بَيْعُهَا.
وَأَمَّا قَبُولُ مَا فَوْقَ الْحَدِّ الْمُبْطِلِ لِلصُّورَةِ لِجَعْلِهِ آنِيَةً: فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ، لِسُقُوطِ حُرْمَتِهِ، حَيْثُ صَارَ جُزْءَ الْمُحَرَّمِ: أَوْ ظَرْفًا لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، فَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمُجَاوَرَةِ تَأْثِيرًا فِي الِامْتِهَانِ وَالْإِكْرَامِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ}.
وَ {سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْقَوْمِ: يَكُونُونَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، يُؤَاكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ} هَذَا لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُجَاوَرَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَكَيْفَ بِالْمُجَاوَرَةِ الَّتِي صَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحَرَّمِ، أَوْ لَصِيقَةً بِهِ؟ وَتَأْثِيرُ الْجِوَارِثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ - عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ - لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيُّ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: {أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ أَلَّا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتُهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتُهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَمْسِ الصُّوَرِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ، وَهَدْمِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ، فَيَرَى فِيهِ تَصَاوِيرَ، تَرَى أَنْ يَحُكَّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَحُجَّتُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ}.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلَّا نَقَضَهُ}.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ}.
فَهَؤُلَاءِ رُسُلُ اللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَخَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ عَلَى مَحْقِ الْمُحَرَّمِ وَإِتْلَافِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دُفِعَ إلَيَّ إبْرِيقُ فِضَّةٍ لِأَبِيعَهُ، أَتَرَى أَنْ أَكْسِرَهُ، أَوْ أَبِيعَهُ كَمَا هُوَ؟ قَالَ: اكْسِرْهُ.
وَقَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا، فَجِيءَ بِطَسْتِ فِضَّةٍ، وَإِبْرِيقِ فِضَّةٍ، فَكَسَرَهُ، فَأَعْجَبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَسْرُهُ.
وَقَالَ: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِمُكْحُلَةٍ رَأْسُهَا مُفَضَّضٌ، فَقَطَعْتهَا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَتَبَسَّمَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الصِّيَاغَةَ مُحَرَّمَةٌ، فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا حُرْمَةَ.
وَأَيْضًا: فَتَعْطِيلُ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَطْلُوبٌ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.(1/366)
فَالْأَوَّلُ الْمُنْكَرَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا؛ مِثْلَ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لَمَّا كَانَتْ صُوَرُهَا مُنْكَرَةً جَازَ إتْلَافُ مَادَّتِهَا؛ فَإِذَا كَانَتْ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا (1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4725) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ كَانَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ «(جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) زَادَ ابْنُ أَبِى عُمَرَ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وفي مصنف ابن أبي شيبة برقم (22240) عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ رَجُلاً وَرِثَ أَصْنَامًا مِنْ فِضَّةٍ وَخَنَازِيرَ وَخَمْرًا , فَسَأَلَ، عَنْهَا رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ الأََصْنَامَ فَيَجْعَلَهَا فِضَّةً وَنَهَاهُ، عَنِ الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ. صحيح
وفي مسند أحمد برقم (15033) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَهْرَاقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَمْرَ وَكَسَرَ جِرَارَهُ وَنَهَى عَنْ بَيْعِهِ وَبَيْعِ الأَصْنَامِ. وهو صحيح(1/367)
وَكَذَلِكَ آلَاتُ الْمَلَاهِي مِثْلَ الطُّنْبُورِ يَجُوزُ إتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد (1). وَمِثْلَ ذَلِكَ أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ؛ يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَخْرِيقُهَا؛ وَالْحَانُوتُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ حَانُوتٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ لِرُوَيْشِدِ الثَّقَفِيِّ؛ وَقَالَ: إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَا رُوَيْشِدٌ. وَكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَرْيَةٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ مِثْلُ الْأَوْعِيَةِ. وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا.
__________
(1) - وفي شرح ابن بطال - (ج 12 / ص 124)
قال: أما كسر الدنان التى فيها الخمر فلا معنى له، لأنه إضاعة المال، وما طهره الماء جاز الانتفاع به، ألا ترى أن النبى قال فى القدور: «اغسلوها» وأما الدنان فرأى مالك أن الماء لا يطهرها لما تداخلها وغاص فيها من الخمر، ورأى غيره تطهيرها وغسلها بالماء، لأن الماء أيضًا يغوص فيها، ويطهر ما غاص فيها من الخمر.
وقال الطبرى: فى حديث ابن مسعود من الفقه كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير والبرابط التى لا معنى لها إلا التلهى بها عن ذكر الله عز وجل، والشغل بها عما يحبه إلى ما يسخطه أن يغيره عن هيئته المكروهة إلى ما خالفها من الهيئات التى يزول عنها المعنى المكروه، وذلك أنه عليه السلام كسر الأصنام، والجوهر الذى فيه لا شك أنه يصلح إذا غير عن الهيئة المكروهة لكثير من منافع بنى آدم الحلال وقد روى عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهى، وروى سفيان عن منصور، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجوارى معهن الدفوف فى الطريق فيخرقونها. وروى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا وجد أحدًا يلعب بالنرد ضربه وأمر بها فكسرت.
قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان فى خشبها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشريد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما فعل عمر حين أحرق دار رويشد على بيع الخمر، وقد هم النبى بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا أصل فى العقوبة فى المال إذا رأى ذلك. وهتك النبى الستر الذى فيه الصور دليل على إفساد الصور وآلات الملاهى.
وقال ابن المنذر: فى معنى الأصنام الصور المتخذة من المدد والخشب وشبهها، وكل ما يتخذ الناس مما لا منفعة فيه إلا للهو المنهى عنه فلا يجوز بيع شىء منه إلا الأصنام التى تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هى عليه وصارت نقراُ، أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها.
وانظر فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 410) وأحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 28) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 14 / ص 234) وجامع العلوم والحكم - (ج 34 / ص 8) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 4 / ص 217) والفتاوى الهندية - (ج 39 / ص 492) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 10 / ص 191) ومجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 3 / ص 393) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4935) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 2997) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 532) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 519) ونيل الأوطار - (ج 12 / ص 423) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 3 / ص 492)(1/368)
وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ حَيْثُ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَابَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ فَأَرَاقَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) وَبِذَلِكَ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ (2)؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ {نَهَى أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ} (3) وَذَلِكَ بِخِلَافِ شَوْبِهِ لِلشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خُلِطَ لَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي مِقْدَارَ اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ؛ فَأَتْلَفَهُ عُمَرُ.
وَنَظِيرُهُ مَا أَفْتَى بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ: مِثْلَ الثِّيَابِ الَّتِي نُسِجَتْ نَسْجًا رَدِيئًا إنَّهُ يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا وَتَحْرِيقُهَا (4)؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَزَّقَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَفْزَعْت الصَّبِيَّ فَقَالَ: لَا تَكْسُوهُمْ الْحَرِيرَ (5).
كَذَلِكَ تَحْرِيقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (6).
__________
(1) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ برقم (2828) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو فَيَنْظُرُ إلَى الْأَسْوَاقِ، فَإِذَا رَأَى اللَّبَنَ أَمَرَ بِالْأَسْقِيَةِ فَفُتِحَتْ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهَا شَيْئًا مَغْشُوشًا قَدْ جُعِلَ فِيهِ مَاءً غُشَّ بِهِ أَهْرَاقَهَا ". هذا حديث صحيح
قَالَ الطحاوي: وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ غُشَّ فَفِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهُ , وَهُوَ كَذَلِكَ , وَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يُهْرِقْهُ إلَّا خَوْفًا مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَغُشُّوا بِهِ النَّاسَ فَأَهْرَاقَهُ لِذَلِكَ , وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَنْعُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْخَمْرَ خَلًّا لِمِثْلِ ذَلِكَ؛ خَوْفَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فَيَأْتِيَ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَمَرَهُ بِإِهْرَاقِهَا لِذَلِكَ. وَقَدْ شَدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الزِّقَاقِ الَّتِي خَرَقَهَا , وَقَدْ رَأَى زِقَاقًا غَيْرَهَا , وَفِيهَا خَمْرٌ، فَلَمْ يَخْرِقْهَا إذْ كَانَ أَهْلُهَا لَمْ يَفْعَلُوا فِيهَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلَهُ أَهْلُ تِلْكَ فِيهَا
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4449) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520) والفروع لابن مفلح - (ج 8 / ص 41) ومجلة المنار - (ج 18 / ص 193) والمنهيات - (ج 1 / ص 31) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 162) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 362) ونهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة - (ج 1 / ص 53)
(3) - أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ >> بَابُ الْعَيْنِ >> مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ >> برقم (40640) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا عَقِيلُ بْنُ يَحْيَى، ثنا غَالِبُ بْنُ فَرْقَدٍ أَبُو يَحْيَى، ثنا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " نُهِينَا أَنْ نَشُوبَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ " ضعيف
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4449) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520)
(5) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ >> كِتَابُ اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ >> بَابُ إِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِعُذْرٍ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى كَرَاهِيَتِهِ لِلصِّبْيَانِ >> برقم (2296) قَالَ مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِجَيْبِهِ فَشَقَّهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، لَقَدْ أَفْزَعْتَ الصَّبِيَّ، فَأَطَرْتَ قَلْبَهُ، قَالَ: " تَكْسُوهُمُ الْحَرِيرَ؟ "، قَالَ: فَإِنِّي أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، فَإِنُّهُمْ مِثْلُكَ " صحيح
وفي حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ برقم (118) حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَشَقَّ جَيْبَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، لَقَدْ أَفْزَعْتَ الصَّبِيَّ، وَأَطَرْتَ قَلْبَهُ، قَالَ: أَتُلْبِسُهُمُ الْحَرِيرَ؟ قَالَ: أَنَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، قَالَ: وَأَيُّهُمْ مِثْلُكَ؟، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَقَدْ كَانَ رُخِّصَ لَهُ فِي الْحَرِيرِ مِنَ الْقَمْلِ "
(6) - صحيح مسلم برقم (5555) عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ مَعْدَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَىَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا».
المعصفر: المصبوغ بالعصفر وهو نبات أصفر اللون
وفي صحيح مسلم برقم (5557) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ رَأَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَىَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ «أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا». قُلْتُ أَغْسِلُهُمَا. قَالَ «بَلْ أَحْرِقْهُمَا».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 156)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الثِّيَاب الْمُعَصْفَرَة، وَهِيَ الْمَصْبُوغَة بِعُصْفُرٍ، فَأَبَاحَهَا جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة، وَمَالِك، لَكِنَّهُ قَالَ: غَيْرهَا أَفْضَل مِنْهَا، وَفِي رِوَايَة عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ لُبْسهَا فِي الْبُيُوت وَأَفْنِيَة الدُّور، وَكَرِهَهُ فِي الْمَحَافِل وَالْأَسْوَاق وَنَحْوهَا، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: هُوَ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه، وَحَمَلُوا النَّهْي عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَبِسَ حُلَّة حَمْرَاء. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ بِالصُّفْرَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّهْي مُنْصَرِف إِلَى مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَاب بَعْد النَّسْج، فَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْله، ثُمَّ نُسِجَ، فَلَيْسَ بِدَاخِلِ فِي النَّهْي. وَحَمَلَ بَعْض الْعُلَمَاء النَّهْي هُنَا عَلَى الْمُحْرِم بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَة لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نُهِيَ الْمُحْرِم أَنْ يَلْبَس ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْس أَوْ زَعْفَرَان. وَأَمَّا الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَأَتْقَنَ الْمَسْأَلَة فَقَالَ فِي كِتَابه مَعْرِفَة السُّنَن: نَهَى الشَّافِعِيّ الرَّجُل عَنْ الْمُزَعْفَر، وَأَبَاحَ الْمُعَصْفَر. قَالَ الشَّافِعِيّ: وَإِنَّمَا رَخَّصْت فِي الْمُعَصْفَر لِأَنِّي لَمْ أَجِد أَحَدًا يَحْكِي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - النَّهْي عَنْهُ، إِلَّا مَا قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نَهَانِي، وَلَا أَقُول: نَهَاكُمْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيث تَدُلّ عَلَى النَّهْي عَلَى الْعُمُوم، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم، ثُمَّ أَحَادِيث أُخَر، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث الشَّافِعِيّ لَقَالَ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مَا صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ حَدِيث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خِلَاف قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ، وَدَعُوا قَوْلِي، وَفِي رِوَايَة: فَهُوَ مَذْهَبِي. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيّ: وَأَنْهَى الرَّجُل الْحَلَال بِكُلِّ حَال أَنْ يَتَزَعْفَر. قَالَ: وَآمُرهُ إِذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَتَبِعَ السُّنَّة فِي الْمُزَعْفَر، فَمُتَابَعَتهَا فِي الْمُعَصْفَر أَوْلَى. قَالَ: وَقَدْ كَرِهَ الْمُعَصْفَر بَعْض السَّلَف، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه الْحَلِيمِيّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَة، وَالسُّنَّة أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. وَاللَّه أَعْلَم.(1/369)
وَهَذَا كَمَا يُتْلِفُ مِنْ الْبَدَنِ الْمَحَلَّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ؛ فَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ وَتُقْطَعُ رِجْلُ الْمُحَارِبِ وَيَدُهُ (1).
وَكَذَلِكَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمُنْكَرُ فِي إتْلَافِهِ نُهِيَ عَنْ الْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ؛ وَلَيْسَ إتْلَافُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ مَفْسَدَةٌ جَازَ إبْقَاؤُهُ أَيْضًا؛ إمَّا لِلَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كَمَا أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ الْمَغْشُوشَ مِنْ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ وَالشِّوَاءِ كَالْخُبْزِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَمْ يَنْضَجْ وَكَالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ وَهُوَ: الَّذِي خُلِطَ بِالرَّدِيءِ وَأَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ جَيِّدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ: يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إتْلَافِهِ (2).
وَإِذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَتْلَفَ اللَّبَنَ الَّذِي شِيبَ لِلْبَيْعِ: فَلَأَنْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ وَزَجْرُهُ عَنْ الْعَوْدِ وَيَكُونُ انْتِفَاعُ الْفُقَرَاءِ بِذَلِكَ أَنْفَعَ مِنْ إتْلَافِهِ (3) وَعُمَرُ أَتْلَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُغْنِي النَّاسَ بِالْعَطَاءِ؛ فَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ إمَّا قَلِيلًا وَإِمَّا مَعْدُومِينَ
وَلِهَذَا جَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّصَدُّقَ بِهِ وَكَرِهُوا إتْلَافَهُ. فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ أَدَبًا لِصَاحِبِهِ (4) وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ
__________
(1) - لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33) سورة المائدة
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1395) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 660) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 17 / ص 121)
(3) - قلت: هذا هو الأفضل لورود النهي عن تضييع المال ففي البخاري برقم (419) عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي كَاتِبُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ "
وبرقم (2306) عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ "
(4) - وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 9 / ص 321)
أَمْره - صلى الله عليه وسلم - بِإِكْفَاء الْقُدُور فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِكَرَاهَةِ مَا صَنَعُوا مِنْ الذَّبْحِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقَالَ الْمُهَلَّب: إِنَّمَا أَكْفَأَ الْقُدُور لِيُعْلِمَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهَا بَعْدَ قِسْمَتِهِ لَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ فِيهَا (بِذِي الْحُلَيْفَةِ) وَأَجَابَ اِبْنُ الْمُنِير بِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّ الذَّبْحَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَدِّي كَانَ الْمَذْبُوح مَيْتَةً وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اِنْتَصَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ، أَوْ حَمَلَ الْإِكْفَاء عَلَى الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَال لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ ذَبَحُوا لَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ طَمَعُهُمْ كَانَتْ النِّكَايَة حَاصِلَة لَهُمْ. قَالَ: وَإِذَا جَوَّزْنَا هَذَا النَّوْع مِنْ الْعُقُوبَةِ فَعُقُوبَة صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِك: يُرَاقُ اللَّبَن الْمَغْشُوش وَلَا يُتْرَكُ لِصَاحِبِهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ أَدَبًا لَهُ اِنْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمَأْمُورُ بِإِكْفَائِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَرَقُ عُقُوبَة لِلَّذِينِ تَعَجَّلُوا، وَأَمَّا نَفْس اللَّحْمِ فَلَمْ يُتْلَفْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ وَرُدَّ إِلَى الْمَغَانِمِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ تَقَدَّمَ، وَالْجِنَايَة بِطَبْخِهِ لَمْ تَقَعْ مِنْ الْجَمِيعِ إِذْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَصْحَابُ الْخُمُسِ، وَمِنْ الْغَانِمِينَ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يُنْقَل أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ وَأَتْلَفُوهُ تَعَيَّنَ تَأْوِيله عَلَى وَفْق الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّة لَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا " أَنَّهَا رِجْس " وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُحُومَهَا لَمْ تُتْرَكْ بِخِلَافِ تِلْكَ وَاللَّه أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا أُبِيحُ لِلْغَازِي مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الْمَغَانِمِ مَا دَامُوا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ فِي (بَابِ مَا يُصِيبُ مِنْ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ) فِي أَوَاخِرِ فَرْضِ الْخُمُس.
وانظر الحاوي للفتاوي للسيوطي - (ج 1 / ص 176) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4447) ومن رسائل السيوطي - (ج 4 / ص 14) ومجلة المنار - (ج 17 / ص 833) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 6 / ص 462) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 352) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 167) وكتاب الاعتصام - (ج 1 / ص 412) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 362) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 4 / ص 463) ومطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 13) و (ج 1 / ص 125) و (ج 1 / ص 237 - 255)(1/370)
الْقَاسِمِ؛ وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. وَهَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْيَسِيرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ: لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا (1)؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهُرُ عَنْهُ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ؛ وَفِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ وَلَا يهراق. قِيلَ لِمَالِكِ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ غِشُّهُ فَهُوَ كَاللَّبَنِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا كَثُرَ مِنْهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ؛ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ. يُرِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرِهِ (2).
قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَسَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ سَاوَى فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؛ وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا
__________
(1) - بدائع السلك في طبائع الملك - (ج 1 / ص 61) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 362) ومطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 74) و (ج 1 / ص 122)
(2) - وفي تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 4 / ص 463)
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ غَشَّ فِي سِلْعَتِهِ أَهْلَ السُّوقِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي غَشَّ فِي السِّلْعَةِ، قِيلَ لَهُ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ فَأَرَاهُ مِثْلَ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ، يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا أَرَى بَأْسًا، وَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمَلَاحِمِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِتَقْطِيعِهَا خِرَقًا وَإِعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمَلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ.
وانظر مطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 239)(1/371)
كَانَ يَسِيرًا (1)؛ وَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ وَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ؛ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ وَرِثَهُ: فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ أَفْتَى بِجَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشِ (2) مِنْ الثِّيَابِ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ: تُحَرَّقُ بِالنَّارِ. وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ فِيهَا بِالتَّصَدُّقِ؛ وَقَالَ: تُقْطَعُ خِرَقًا وَتُعْطَى لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمِلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا. وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِإِعْطَاءِ الْخُبْزِ الْمَغْشُوشِ لِلْمَسَاكِينِ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَقَالَ: لَا يَحِلُّ هَذَا فِي مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِذْنِهِ (3). قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأُصْبُعِ: وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي جَوَابِهِ وَتَنَاقُضٌ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ فِي الْمَلَاحِفِ بِإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ أَشَدُّ مِنْ إعْطَاءِ هَذَا الْخُبْزِ لِلْمَسَاكِينِ وَابْنُ عَتَّابٍ أَضْبَطُ فِي أَصْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَتْبَعُ لِقَوْلِهِ (4).
وَإِذَا لَمْ يَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ عُقُوبَةَ الْغَاشِّ بِالصَّدَقَةِ أَوْ الْإِتْلَافِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْنَعَ وُصُولَ الضَّرَرِ إلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْغِشِّ إمَّا بِإِزَالَةِ الْغِشِّ؛ وَإِمَّا بِبَيْعِ الْمَغْشُوشِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ وَلَا يَغُشُّهُ عَلَى غَيْرِهِ (5).
__________
(1) - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 12 / ص 491)
(2) - مطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 246)
(3) - وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 11 / ص 157)
(قَوْلُهُ: وَتَصَدَّقَ بِمَا غَشَّ) أَيْ جَوَازًا لَا وُجُوبًا خِلَافًا لعبق لِمَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ آخِرًا مِنْ قَوْلِهِ، وَلَوْ كَثُرَ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالتَّصَدُّقُ عِنْدَهُ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّصَدُّقِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ: يُرَاقُ اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَتُحْرَقُ الْمَلَاحِفُ وَالثِّيَابُ الرَّدِيئَةُ النَّسْجِ قَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ وَقِيلَ: إنَّهَا تُقْطَعُ خِرَقًا خِرَقًا وَتُعْطَى لِلْمَسَاكِينِ وَقِيلَ: لَا يَحِلُّ الْأَدَبُ بِمَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقُ اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ وَلَا تُحْرَقُ الثِّيَابُ وَلَا تُقْطَعُ الثِّيَابُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ الْغَاشُّ بِالضَّرْبِ حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ سَهْلٍ، قَالَ ابْنُ نَاجِيٍّ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْمَغْشُوشِ هَلْ يَجُوزُ الْأَدَبُ فِيهِ أَمْ لَا، وَأَمَّا لَوْ زَنَى رَجُلٌ مَثَلًا فَلَا قَائِلَ فِيمَا عَلِمْت أَنَّهُ يُؤَدَّبُ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ بِالْحَدِّ وَمَا يَفْعَلُهُ الْوُلَاةُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَالَ الْوَنْشَرِيسِيُّ أَمَّا الْعُقُوبَةُ بِالْمَالِ فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ وَفَتْوَى الْبُرْزُلِيِّ بِتَحْلِيلِ الْمَغْرَمِ لَمْ يَزَلْ الشُّيُوخُ يَعُدُّونَهَا مِنْ الْخَطَأِ اهـ بْن.
وفي تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 4 / ص 463)
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ غَشَّ فِي سِلْعَتِهِ أَهْلَ السُّوقِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي غَشَّ فِي السِّلْعَةِ، قِيلَ لَهُ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ فَأَرَاهُ مِثْلَ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ، يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا أَرَى بَأْسًا، وَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمَلَاحِمِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِتَقْطِيعِهَا خِرَقًا وَإِعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمَلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ.
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4434) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4447) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 11 / ص 157) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 353) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 168) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 364) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 272)
(4) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 364)
(5) - الفتاوى الهندية - (ج 22 / ص 483) و (ج 23 / ص 229) والدر المختار - (ج 5 / ص 368) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 16 / ص 472) ورد المحتار - (ج 20 / ص 343) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 11 / ص 382)(1/372)
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: قُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الماجشون لَمَّا نُهِينَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِالْمَغْشُوشِ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ: فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْوَزْنِ؟ قَالَا: يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ؛ وَمَا كَثُرَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ أَوْ غَشَّ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ فَلَا يُفَرَّقُ وَلَا يُنْهَبُ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ إلَيْه وَلْيُؤْمَرْ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مَنْ يَأْمَنُ أَنْ يَغُشَّ بِهِ وَبِكَسْرِ الْخُبْزِ إذَا كَثُرَ وَيُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ هَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ. قَالَ: وَهُوَ إيضَاحُ مَنْ اسْتَوْضَحْته ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ (1).
__________
(1) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 362)
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ " لَهُ: وَلِصَاحِبِ الْحِسْبَةِ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُبْزٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ، بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ "، أَدَبًا لِصَاحِبِهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، وَقَالَ: لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ - فِي الَّذِي غَشَّ اللَّبَنَ - مِثْلَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَقُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ فِي الْوَزْنِ؟ قَالَا: يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ، وَمَا غَشَّ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غَشَّ فِي الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: فَلَا يُهْرَاقُ وَلَا يُنْهَبُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَلْيَأْمُرْ ثِقَتُهُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَأْمَنُ أَلَّا يَغُشَّ بِهِ، وَيَكْسِرُ الْخُبْزَ إذَا كَسَدَ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ، وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ مَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ، وَهُوَ إيضَاحٌ مَا اسْتَوْضَحْته مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ عِنْدَهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إذْ فِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ
وَلَا يُهْرَاقُ.
وَقِيلَ لِمَالِكٍ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ، أَتَرَاهُ مِثْلَهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ ثَمَنُهُ، فَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ: فَلَا أَرَى ذَلِكَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، تَزِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَسَوَاءٌ - عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّهُ يُسَوِّي فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا كَانَ يَسِيرًا.
ذَلِكَ: إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ، أَوْ وَرِثَهُ: فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ: أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مُدَلِّسًا بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: يُبَاعُ عَلَى الَّذِي غَشَّهُ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ: أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: {إنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا} (30).
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي حَرِيسَةِ النَّخْلِ: {أَنَّ فِيهَا غَرَامَةَ مِثْلِهَا وَجَلَدَاتِ نَكَالٍ} وَمَا رُوِيَ عَنْهُ: {أَنَّ مَنْ وُجِدَ يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا، فَلِمَنْ وَجَدَهُ سَلَبُهُ}.
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ: نُسِخَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَعَادَتْ الْعُقُوبَاتُ فِي الْأَبْدَانِ، فَكَانَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ.
وَالْعَجَبُ: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ نَصَّ مَالِكٍ وَفِعْلَ عُمَرَ، ثُمَّ جَعَلَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْلَى، وَنَسَخَ النُّصُوصَ بِلَا نَاسِخٍ، فَقَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ: أَوْلَى بِالصَّوَابِ بَلْ هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ جِدًّا وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَعُمَرُ يَفْعَلُهُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَهُمْ يُقِرُّونَهُ، وَيُسَاعِدُونَهُ عَلَيْهِ، وَيُصَوِّبُونَهُ فِي فِعْلِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ كُلَّمَا اسْتَبْعَدُوا شَيْئًا، قَالُوا: مَنْسُوخٌ، وَمَتْرُوكٌ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ فِيهَا بِتَقْطِيعِهَا خِرَقًا، وَإِعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ، إذَا تَقَدَّمَ لِمُسْتَعْمِلِهَا فَلَمْ يَنْتَهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ابْنُ الْقَطَّانِ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ هَذَا فِي مَالِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، يُؤَدَّبُ فَاعِلُ ذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ عَلِيُّ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ: هَذَا اضْطِرَابٌ فِي جَوَابِهِ، وَتَنَاقُضٌ فِي قَوْلِهِ، لِأَنَّ جَوَابَهُ فِي الْمَلَاحِفِ بِإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ: أَشَدُّ مِنْ إعْطَائِهَا لِلْمَسَاكِينِ.
قَالَ: وَابْنُ عَتَّابٍ أَضْبَطُ لِأَصْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَتْبَعُ لِقَوْلِهِ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ " قَالَ عِيسَى: قَالَ مَالِكٌ - فِي الرَّجُلِ يَجْعَلُ فِي مِكْيَالِهِ زِفْتًا - إنَّهُ يُقَامُ مِنْ السُّوقِ، فَإِنَّهُ أَشَقُّ عَلَيْهِ، يُرِيدُ، مِنْ أَدَبِهِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.
وانظر مطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 240)(1/373)
الفصل السادس
[تغيير المنكر باليد] (1)
وَأَمَّا التَّغْيِيرُ (باليد فجائز) فَمِثْلُ مَا رَوَى أَبُو داود عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُكْسَرَ سِكَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ. (2)
__________
(1) - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 13 / ص 236) ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 2 / ص 162) وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 204) وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 368) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 173) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 430) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 24 / ص 5) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 27 / ص 9) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 230 / ص 17) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 179 - 182) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3283) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 9097) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 6072) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 3090) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 8 / ص 344) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 12 / ص 361) ونيل الأوطار - (ج 3 / ص 71) والمحلى [مشكول وبالحواشي]- (ج 11 / ص 774) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 338) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 2 / ص 414) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 9 / ص 100) ولواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية - (ج 1 / ص 465) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4801) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4854) ومطالع التمام ونصائح الأنام - (ج 1 / ص 241)
وقد أفردته ببحث مطول لأهميته
(2) - سنن أبى داود برقم (3451) وسنن ابن ماجه برقم (2349) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 8 / ص 163) برقم (22891) وهو حديث ضعيف.
سكة: الدراهم والدنانير المضروبة
وفي عون المعبود - (ج 7 / ص 438) 2992 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(أَنْ تُكْسَر) بِصِيغَةِ الْمَجْهُول
(سِكَّة الْمُسْلِمِينَ) بِكَسْرِ السِّين وَشِدَّة الْكَاف. قَالَ فِي النِّهَايَة: يَعْنِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير الْمَضْرُوبَة يُسَمَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا سِكَّة لِأَنَّهُ طُبِعَ بِسِكَّةِ الْحَدِيد اِنْتَهَى. وَسِكَّة الْحَدِيد هِيَ الْحَدِيدَة الْمَنْقُوشَة الَّتِي تُطْبَع عَلَيْهَا الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير
(الْجَائِزَة) يَعْنِي النَّافِقَة فِي مُعَامَلَتهمْ
(إِلَّا مِنْ بَأْس) كَأَنْ تَكُون زُيُوفًا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّة النَّهْي فَقَالَ بَعْضهمْ: إِنَّمَا كُرِهَ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْر اِسْم اللَّه سُبْحَانه، وَقَالَ بَعْضهمْ: كُرِهَ مِنْ أَجْل الْوَضِيعَة، وَفِيهِ تَضْيِيع الْمَال وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاس اِبْن سُرَيْج أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يُقْرِضُونَ الدَّرَاهِم وَيَأْخُذُونَ أَطْرَافهَا فَنُهُوا عَنْهُ. وَزَعَمَ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ إِنَّمَا كُرِهَ قَطْعهَا وَكَسْرهَا مِنْ أَجْل التَّدْنِيق. وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: لَعَنْ اللَّه الدَّانَق وَأَوَّل مَنْ أَحْدَثَ الدَّانَق اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَفِي النَّيْل: وَفِي مَعْنَى كَسْر الدَّرَاهِم كَسْر الدَّنَانِير وَالْفُلُوس الَّتِي عَلَيْهَا سِكَّة الْإِمَام، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّعَامُل بِذَلِكَ جَارِيًا بَيْن الْمُسْلِمِينَ كَثِيرًا. وَالْحِكْمَة فِي النَّهْي مَا فِي الْكَسْر مِنْ الضَّرَر بِإِضَاعَةِ الْمَال لِمَا يَحْصُل مِنْ النُّقْصَان فِي الدَّرَاهِم وَنَحْوهَا إِذَا كُسِرَتْ وَأُبْطِلَتْ الْمُعَامَلَة بِهَا.
قَالَ اِبْن رَسْلَان فِي شَرْح السُّنَن: لَوْ أَبْطَلَ السُّلْطَان الْمُعَامَلَة بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي ضَرَبَهَا السُّلْطَان الَّذِي قَبْله وَأَخْرَجَ غَيْرهَا جَازَ كَسْر تِلْكَ الدَّرَاهِم الَّتِي أُبْطِلَتْ وَسَبْكهَا لِإِخْرَاجِ الْفِضَّة الَّتِي فِيهَا، وَقَدْ يَحْصُل فِي سَبْكهَا وَكَسْرهَا رِبْح كَثِير لِفَاعِلِهِ اِنْتَهَى.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الشَّارِع لَمْ يَأْذَن فِي الْكَسْر إِلَّا إِذَا كَانَ بِهَا بَأْس وَمُجَرَّد الْإِبْدَال لِنَفْعِ الْبَعْض رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى الضَّرَر بِالْكَثِيرِ مِنْ النَّاس، فَالْجَزْم بِالْجَوَازِ مِنْ غَيْر تَقْيِيد بِانْتِفَاءِ الضَّرَر لَا يَنْبَغِي.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سُرَيْج: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقْرِضُونَ أَطْرَاف الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير بِالْمِقْرَاضِ وَيُخْرِجُونَهُمَا عَنْ السِّعْر الَّذِي يَأِخُذُونَهُمَا بِهِ وَيَجْمَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْقِرَاضَة شَيْئًا كَثِيرًا بِالسَّبْكِ كَمَا هُوَ مَعْهُود فِي الْمَمْلَكَة الشَّامِيَّة وَغَيْرهَا، وَهَذِهِ الْفَعْلَة هِيَ الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا قَوْم شُعَيْب بِقَوْلَةِ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاس أَشْيَاءَهُمْ} فَقَالُوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَفْعَل فِي أَمْوَالنَا} يَعْنِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير {مَا نَشَاء} مِنْ الْقَرْض وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَة اِنْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بْن فَضَاء الْأَزْدِيّ الْحِمْصِيُّ الْبَصْرِيّ الْمُعَبِّر لِلرُّؤْيَا كُنْيَته أَبُو بَحْر وَلَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ.
وانظر الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 6 / ص 316) وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 6 / ص 238) وشرح سنن ابن ماجه - (ج 1 / ص 164) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4450) و (ج 2 / ص 7150) و (ج 2 / ص 8770) و (ج 75 / ص 1 - 10) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 377) والفروع لابن مفلح - (ج 6 / ص 468) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 5 / ص 204) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 8 / ص 201) والإقناع - (ج 1 / ص 369) وقوت القلوب - (ج 2 / ص 259)(1/374)
فَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ الْجَائِزَةُ فِيهَا بَأْسٌ كُسِرَتْ، وَمِثْلُ تَغْيِيرِ الصُّورَةِ الْمُجَسَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْطُوءَةً؛ مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَتَانِى جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنِّى كُنْتُ أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ الْبَيْتَ الَّذِى كُنْتَ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فِى بَابِ الْبَيْتِ تِمْثَالُ الرِّجَالِ وَكَانَ فِى الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ وَكَانَ فِى الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِى بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَيَصِيرَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ وَيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ يُوَطَآنِ وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجْ». فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلْبُ جَرْوًا لِلْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو داود والترمذي وَصَحَّحَهُ (1). كُلُّ مَا
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4160) وسنن الترمذى برقم (3036) وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ومسند أحمد برقم (8266) والصحيحة برقم (356) وهو صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 118)
2730 - قَوْلُهُ: (أَتَيْتُك الْبَارِحَةَ) أَيْ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ
(فَلَمْ يَمْنَعْنِي) أَيْ مَانِعٌ
(أَنْ أَكُونَ) أَيْ مِنْ أَنْ أَكُونَ
(إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنَ
(كَانَ فِي بَابِ الْبَيْتِ) أَيْ فِي سِتْرِهِ
(تِمْثَالُ الرِّجَالِ) بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ تَصْوِيرُ الرِّجَالِ
(وَكَانَ) عَطْفٌ عَلَى كَانَ الْأُولَى، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ جَبْرَائِيلَ، أَيْ وَكَانَ أَيْضًا
(فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ) بِكَسْرِ السِّينِ، وَالْقِرَامُ بِكَسْرِ الْقَافِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْقِرَامُ كَكِتَابٍ السِّتْرُ الْأَحْمَرُ أَوْ ثَوْبٌ مُلَوَّنٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ رَقْمٌ وَنُقُوشٌ أَوْ سِتْرٌ رَقِيقٌ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْقِرَامُ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ الصَّفِيقُ مِنْ صُوفٍ ذِي أَلْوَانٍ وَالْإِضَافَةُ فِيهِ كَقَوْلِك: ثَوْبُ قَمِيصٍ، وَقِيلَ الْقِرَامُ السِّتْرُ الرَّقِيقُ وَرَاءَ السِّتْرِ الْغَلِيظِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ
(فِيهِ تَمَاثِيلُ) جَمْعُ تِمْثَالٍ، أَيْ تَصَاوِيرُ
(وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ) أَيْ أَيْضًا
(فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ) قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا بِأَنْ قُطِعَتْ رَأْسُهَا أَوْ حُلَّتْ أَوْصَالُهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْأَثَرُ عَلَى شِبْهِ الصُّوَرِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّصْوِيرِ إِذَا نُقِضَ حَتَّى تَقَطَّعَ أَوْصَالُهُ جَازَ اِسْتِعْمَالُهُ
(مُنْتَبِذَتَيْنِ) أَيْ مَطْرُوحَتَيْنِ مَفْرُوشَتَيْنِ
(تُوطَآنِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ تُهَانَانِ بِالْوَطْءِ عَلَيْهِمَا وَالْقُعُودِ فَوْقَهُمَا وَالِاسْتِنَادِ عَلَيْهِمَا، وَأَصْلُ الْوَطْءِ: الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ
(فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ
(وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلْبُ جَرْوًا لِلْحُسَيْنِ أَوْ لِلْحَسَنِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجَرْوُ مُثَلَّثَةٌ صَغِيرُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَنْظَلَ وَالْبِطِّيخَ وَنَحْوَهُ وَوَلَدُ الْكَلْبِ
(تَحْتَ نَضَدٍ لَهُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ تَحْتَ مَتَاعِ الْبَيْتِ الْمَنْضُودِ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ هُوَ السَّرِيرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّضَدَ يُوضَعُ عَلَيْهِ، أَيْ يُجْعَلُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ.(1/375)
كَانَ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ التَّأْلِيفِ الْمُحَرَّمِ فَإِزَالَتُهُ وَتَغْيِيرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إرَاقَةِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ؛ وَتَفْكِيكِ آلَاتِ الْمَلَاهِي؛ وَتَغْيِيرِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ إتْلَافِ مَحِلِّهَا تَبَعًا لِلْحَالِ، وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ حَرَامٌ (1)، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ (2) وَالْحَشِيشَةُ القنبية (3) وَغَيْرُ ذَلِكَ (4).
__________
(1) - لحديث في صحيح مسلم برقم (5336) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِى الآخِرَةِ».
(2) - صحيح البخارى برقم (4343) عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ «وَمَا هِىَ». قَالَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ. فَقُلْتُ لأَبِى بُرْدَةَ مَا الْبِتْعُ قَالَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ. فَقَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
وفي صحيح مسلم برقم (5329) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ».
البتع: نبيذ العسل
(3) - سنن أبى داود برقم (3688) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ. وهو حديث حسن ولا حجة لمن ضعفه =(1/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وفي عون المعبود - (ج 8 / ص 186) 3201 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
: قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاة: بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُفْتِرُ هُوَ الَّذِي إِذَا شُرِبَ أَحْمَى الْجَسَدَ وَصَارَ فِيهِ فُتُور وَهُوَ ضَعْف وَانْكِسَارٌ، يُقَال أَفْتَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُفْتِرٌ إِذَا ضَعُفَتْ جُفُونه وَانْكَسَرَ طَرْفُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَفْتَرَهُ بِمَعْنَى فَتَرَهُ أَيْ جَعَلَهُ فَاتِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُون أَفْتَرَ الشَّرَابُ إِذَا فَتَرَ شَارِبُهُ كَأَقْطَفَ الرَّجُلُ إِذَا قَطَفَتْ دَابَّتُهُ، وَمُقْتَضَى هَذَا سُكُون الْفَاء وَكَسْر الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة مَعَ التَّخْفِيف.
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُد أَنْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم الْبَنْج وَالشَّعْثَاء وَنَحْوهمَا مِمَّا يُفْتِر وَيُزِيل الْعَقْل، لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ إِزَالَة الْعَقْل مُطَّرِدَة فِيهِمَا. وَقَالَ فِي مِرْقَاة الصُّعُود: يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَجَم قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَطَلَب الدَّلِيل عَلَى تَحْرِيم الْحَشِيشَة، وَعُقِدَ لِذَلِكَ مَجْلِس حَضَرَهُ عُلَمَاء الْعَصْر فَاسْتَدَلَّ الْحَافِظ زَيْن الدِّين الْعِرَاقِيّ بِهَذَا الْحَدِيث فَأَعْجَبَ الْحَاضِرِينَ اِنْتَهَى.
وَقَالَ فِي السُّبُل: قَالَ الْمُصَنِّف: أَيْ الْحَافِظ اِبْن حَجَر مَنْ قَالَ إِنَّهَا أَيْ الْحَشِيشَة لَا تُسْكِر وَإِنَّمَا تُخَدِّر فَهِيَ مُكَابَرَة فَإِنَّهَا تُحْدِث مَا يُحْدِث الْخَمْر مِنْ الطَّرَب وَالنَّشْأَة قَالَ: وَإِذَا سُلِّمَ عَدَم الْإِسْكَار فَهِيَ مُفْتِرَة.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: " أَنَّهُ نَهَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلّ مُسْكِر وَمُفْتِر ".
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُفْتِر كُلّ شَرَاب يُورِث الْفُتُور وَالرَّخْوَة فِي الْأَعْضَاء وَالْخَدَرَ فِي الْأَطْرَاف وَهُوَ مُقَدِّمَة السُّكْر، وَنَهَى عَنْ شُرْبه لِئَلَّا يَكُون ذَرِيعَة إِلَى السُّكْر. وَحَكَى الْعِرَاقِيّ وَابْن تَيْمِيَّة الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم الْحَشِيشَة، وَأَنَّ مَنْ اِسْتَحَلَّهَا كَفَرَ.
قَالَ اِبْن تَيْمِيَّة: إِنَّ الْحَشِيشَة أَوَّل مَا ظَهَرَتْ فِي آخِر الْمِائَة السَّادِسَة مِنْ الْهِجْرَة حِين ظَهَرَتْ دَوْلَة التَّتَار، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَات وَهِيَ شَرٌّ مِنْ الْخَمْر مِنْ بَعْض الْوُجُوه، لِأَنَّهَا تُورِث نَشْأَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَتُصَعِّبُ الطَّعَامَ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْر، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّم فِيهَا الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنهمْ. وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَائِل: حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ وَأَمَّا الْبَنْج فَهُوَ حَرَام. قَالَ اِبْن تَيْمِيَّة: إِنَّ الْحَدّ فِي الْحَشِيشَة وَاجِب.
قَالَ اِبْن الْبَيْطَار: إِنَّ الْحَشِيشَة - وَتُسَمَّى الْقِنَّب يُوجَد فِي مِصْر - مُسْكِرَة جِدًّا إِذَا تَنَاوَلَ الْإِنْسَان مِنْهَا قَدْر دِرْهَم أَوْ دِرْهَمَيْنِ، وَقَبَائِح خِصَالهَا كَثِيرَةٌ وَعَدَّ مِنْهَا بَعْض الْعُلَمَاء مِائَة وَعِشْرِينَ مَضَرَّة دِينِيَّة وَدُنْيَوِيَّة، وَقَبَائِح خِصَالهَا مَوْجُودَة فِي الْأَفْيُون، وَفِيهِ زِيَادَة مَضَارّ.
قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد فِي الْجَوْزَة: إِنَّهَا مُسْكِرَة، وَنَقَلَهُ عَنْهُ مُتَأَخِّر عُلَمَاء الْفَرِيقَيْنِ وَاعْتَمَدُوهُ اِنْتَهَى.
وَقَالَ اِبْن رَسْلَان فِي شَرْح السُّنَن: الْمُفَتِّر بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْفَاء وَتَشْدِيد الْمُثَنَّاة فَوْق الْمَكْسُورَة وَيَجُوز فَتْحهَا وَيَجُوز تَخْفِيف التَّاء مَعَ الْكَسْر هُوَ كُلّ شَرَاب يُورِث الْفُتُور وَالْخَدَر فِي أَطْرَاف الْأَصَابِع وَهُوَ مُقَدِّمَة السُّكْر، وَعَطْف الْمُفَتِّر عَلَى الْمُسْكِر يَدُلّ عَلَى الْمُغَايَرَة بَيْن السُّكْر وَالتَّفْتِير، لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْن الشَّيْئَيْنِ، فَيَجُوز حَمْل الْمُسْكِر عَلَى الَّذِي فِيهِ شِدَّة مُطْرِبَةٍ وَهُوَ مُحَرَّم يَجِب فِيهِ الْحَدّ وَيُحْمَل الْمُفَتِّر عَلَى النَّبَات كَالْحَشِيشِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ السَّفِلَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّ النَّبَات الَّذِي يُسْكِر، وَلَيْسَ فِيهِ شِدَّة مُطْرِبَة يَحْرُم أَكْله وَلَا حَدّ فِيهِ.
قَالَ اِبْن رَسْلَان: وَيُقَال إِنَّ الزَّعْفَرَان يُسْكِر إِذَا اُسْتُعْمِلَ مُفْرَدًا بِخِلَافِ مَا إِذَا اُسْتُهْلِكَ فِي الطَّعَام وَكَذَا الْبَنْج شُرْب الْقَلِيل مِنْ مَائِهِ يُزِيل الْعَقْل وَهُوَ حَرَام إِذَا زَالَ الْعَقْل لَكِنْ لَا حَدّ فِيهِ اِنْتَهَى كَلَامه مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الْعَلَّامَة الْأَرْدَبِيلِيّ فِي الْأَزْهَار شَرْح الْمَصَابِيح نَاقِلًا عَنْ الْإِمَام شَرَف الدِّين إِنَّ الْجَوْز الْهِنْدِيّ وَالزَّعْفَرَان وَنَحْوهمَا يَحْرُم الْكَثِير مِنْهُ لِأَضْرَارِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَكَذَلِكَ القريط وَهُوَ الْأَفْيُون اِنْتَهَى.
وَقَالَ الْعَلَّامَة أَبُو بَكْر بْن قُطْب الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي تَكْرِيم الْمَعِيشَة: إِنَّ الْحَشِيشَة مُلْحَقَة بِجَوْزِ الطِّيب وَالزَّعْفَرَان وَالْأَفْيُون وَالْبَنْج وَهَذِهِ مِنْ الْمُسْكِرَات الْمُخَدِّرَات.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمُور الْمَذْكُورَة تُؤَثِّر فِي مُتَعَاطِيهَا الْمَعْنَى الَّذِي يُدْخِلهُ فِي حَدّ السَّكْرَان، فَإِنَّهُمْ قَالُوا السَّكْرَان هُوَ الَّذِي اِخْتَلَّ كَلَامه الْمَنْظُوم، وَانْكَشَفَ سِرّه الْمَكْتُوم.
وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ الَّذِي لَا يَعْرِف السَّمَاء مِنْ الْأَرْض.
وَقِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِسْكَارِ تَغْطِيَة الْعَقْل فَهَذِهِ كُلّهَا صَادِق عَلَيْهَا مَعْنَى الْإِسْكَار وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِسْكَارِ تَغْطِيَة الْعَقْل مَعَ الطَّرَب فَهِيَ خَارِجَة عَنْهُ، فَإِنَّ إِسْكَار الْخَمْر تَتَوَلَّى مِنْهُ النَّشْأَة وَالنَّشَاط وَالطَّرَب وَالْعَرْبَدَة وَالْحِمْيَة، وَالسَّكْرَان بِالْحَشِيشَةِ وَنَحْوهَا يَكُون =(1/377)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= مِمَّا فِيهِ ضِدّ ذَلِكَ، فَنُقَرِّر مِنْ هَذَا أَنَّهَا لَا تَحْرُم إِلَّا لِمَضَرَّتِهَا الْعَقْلَ، وَدُخُولهَا فِي الْمُفَتِّر الْمَنْهِيّ عَنْهُ، وَلَا يَجِب الْحَدّ عَلَى مُتَعَاطِيهَا، لِأَنَّ قِيَاسهَا عَلَى الْخَمْر مَعَ الْفَارِق، وَهُوَ اِنْتِفَاء بَعْض الْأَوْصَاف لَا يَصِحّ اِنْتَهَى.
وَفِي التَّلْوِيح: السُّكْر هُوَ حَالَة تَعْرِض لِلْإِنْسَانِ مِنْ اِمْتِلَاء دِمَاغه مِنْ الْأَبْخِرَة الْمُتَصَاعِدَة إِلَيْهِ، فَيُعَطَّل مَعَهُ عَقْلُهُ الْمُمَيِّز بَيْن الْأُمُور الْحَسَنَة وَالْقَبِيحَة اِنْتَهَى. وَفِي كَشْف الْكَبِير: قِيلَ هُوَ سُرُور يَغْلِب عَلَى الْعَقْل بِمُبَاشَرَةِ بَعْض الْأَسْبَاب الْمُوجِبَة لَهُ فَيَمْتَنِع الْإِنْسَان عَنْ الْعَمَل بِمُوجَبِ عَقْله مِنْ غَيْر أَنْ يُزِيلهُ وَبِهَذَا بَقِيَ السَّكْرَان أَهْلًا لِلْخِطَابِ اِنْتَهَى.
وَقَالَ السَّيِّد الشَّرِيف الْجُرْجَانِيّ فِي تَعْرِيفَاته: السُّكْر غَفْلَة تَعْرِض بِغَلَبَةِ السُّرُور عَلَى الْعَقْل بِمُبَاشَرَةِ مَا يُوجِبهَا مِنْ الْأَكْل وَالشُّرْب
وَالسُّكْر مِنْ الْخَمْر عِنْد أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه: أَنْ لَا يَعْلَم الْأَرْض مِنْ السَّمَاء وَعِنْد أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد الشَّافِعِيّ أَنْ يَخْتَلِط كَلَامه، وَعِنْد بَعْضهمْ أَنْ يَخْتَلِطَ فِي مَشْيه بِحَرَكَةٍ اِنْتَهَى.
وَفِي الْقَامُوس: فَتَرَ جِسْمه فُتُورًا لَانَتْ مَفَاصِله وَضَعُفَ، الْفُتَارُ كَغُرَابٍ اِبْتِدَاءُ النَّشْوَة، وَأَفْتَرَ الشَّرَابُ فَتَرَ شَارِبُهُ اِنْتَهَى.
وَفِي الْمِصْبَاح: وَخَدِرَ الْعُضْو خَدَرًا مِنْ بَاب تَعِبَ اِسْتَرْخَى فَلَا يُطِيق الْحَرَكَةَ وَقَالَ فِي النِّهَايَة فِي حَدِيث عُمَر أَنَّهُ رَزَقَ النَّاسَ الطِّلَاءَ فَشَرِبَهُ رَجُل فَتَخَدَّرَ أَيْ ضَعُفَ وَفَتَرَ كَمَا يُصِيب الشَّارِبَ قَبْلَ السُّكْرِ اِنْتَهَى. وَسَيَجِيءُ حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَفِي رَدّ الْمُحْتَار عَنْ الْخَانِيَّة فِي تَعْرِيف السَّكْرَان أَنَّهُ مَنْ يَخْتَلِط كَلَامه وَيَصِير غَالِبُهُ الْهَذَيَان.
وَقَالَ الشَّيْخ زَكَرِيَّا بْن مُحَمَّد الْقَزْوِينِيّ فِي كِتَابه عَجَائِب الْمَخْلُوقَات وَالْحَيَوَانَات وَغَرَائِب الْمَوْجُودَات: الزَّعْفَرَان يُقَوِّي الْقَلْب وَيُفْرِح وَيُورِث الضَّحِك، وَالزَّائِدُ عَلَى الدِّرْهَم سُمٌّ قَاتِل اِنْتَهَى.
وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ كَانَ يَكْتُب عَلَى جَام أَبْيَضَ بِزَعْفَرَانٍ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي عَسُرَ عَلَيْهَا وِلَادَتهَا، وَكَانَتْ الْمَرْأَة تَشْرَبهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزُّرْقَانِيّ فِي شَرْح الْمَوَاهِب، وَفِيهِ دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّ الْإِمَام أَحْمَد لَا يَرَى السُّكْر فِي الزَّعْفَرَان وَإِلَّا كَيْف يَجُوز لَهُ الْكِتَابَة بِزَعْفَرَانٍ لِأَجْلِ شُرْبهَا.
قَالَ الْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم فِي زَاد الْمَعَاد: قَالَ الْخَلَّال: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد قَالَ رَأَيْت أَبِي يَكْتُب لِلْمَرْأَةِ إِذَا عَسُرَ عَلَيْهَا وِلَادَتهَا فِي جَام أَبْيَضَ أَوْ شَيْء نَظِيف يَكْتُب حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: " لَا إِلَه إِلَّا اللَّه الْحَلِيم الْكَرِيم " إِلَى آخِر الْحَدِيث. قَالَ الْخَلَّال: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ أَبَا عَبْد اللَّه جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه تَكْتُب لِامْرَأَةٍ قَدْ عَسُرَ عَلَيْهَا وَلَدهَا مُنْذُ يَوْمَيْنِ، فَقَالَ قُلْ لَهُ يَجِيء بِجَامٍ وَاسِع وَزَعْفَرَان وَرَأَيْته يَكْتُب لِغَيْرِ وَاحِد.
قَالَ اِبْن الْقَيِّم: وَكُلّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الرُّقَى فَإِنَّ كِتَابَته نَافِعَة. وَرَخَّصَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف فِي كِتَابَة بَعْض الْقُرْآن وَشُرْبه، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشِّفَاء الَّذِي جَعَلَ اللَّه فِيهِ اِنْتَهَى.
وَالْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم أَيْضًا لَا يَرَى السُّكْر فِي الزَّعْفَرَان وَأَنَّهُ لَا يُذْكَر فِي زَاد الْمَعَاد شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَدْوِيَة الَّتِي فِيهَا سُكْر، وَقَدْ قُرِنَ الزَّعْفَرَان بِالْعَسَلِ الْمُصَفَّى، فَقَالَ فِي بَيَان الْفِضَّة هِيَ مِنْ الْأَدْوِيَة الْمُفْرِحَة النَّافِعَة مِنْ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحَزَن وَضَعْف الْقَلْب وَخَفَقَانه، وَتَدْخُل فِي الْمَعَاجِين الْكِبَار، وَتَجْتَذِب بِخَاصِّيَّتِهَا مَا يَتَوَلَّد فِي الْقَلْب مِنْ الْأَخْلَاط الْفَاسِدَة خُصُوصًا إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْعَسَل الْمُصَفَّى وَالزَّعْفَرَان اِنْتَهَى.
وَلِلْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّة فِيهِ كَلَام عَلَى طَرِيق آخَر، فَقَالَ الشَّامِيّ فِي رَدّ الْمُحْتَار، وَقَالَ مُحَمَّد: مَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام وَهُوَ نَجِس أَيْضًا اِنْتَهَى.
أَقُول الظَّاهِر أَنَّ هَذَا خَاصّ بِالْأَشْرِبَةِ الْمَائِعَة دُون الْجَامِد كَالْبَنْجِ وَالْأَفْيُون فَلَا يَحْرُم قَلِيلهَا بَلْ كَثِيرهَا الْمُسْكِر، وَبِهِ صَرَّحَ اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ فِي التُّحْفَة وَغَيْره وَهُوَ مَفْهُوم مِنْ كَلَام أَئِمَّتنَا لِأَنَّهُمْ عَدُّوهَا مِنْ الْأَدْوِيَة الْمُبَاحَة وَإِنْ حَرُمَ السُّكْر مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا قَالَ بِنَجَاسَتِهَا وَلَا بِنِحَاسَةِ زَعْفَرَان مَعَ أَنَّ كَثِيره مُسْكِر، وَلَمْ يُحَرِّمُوا أَكْل قَلِيلِهِ أَيْضًا، وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُحَدّ بِالسُّكْرِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَائِعَة فَأَنَّهُ يُحَدّ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله فِي غُرَر الْأَفْكَار وَهَذِهِ الْأَشْرِبَة عِنْد مُحَمَّد وَمُوَافِقِيهِ كَالْخَمْرِ بِلَا تَفَاوُت فِي الْأَحْكَام، وَبِهَذَا يُفْتَى فِي زَمَاننَا فَخُصّ الْخِلَاف بِالْأَشْرِبَةِ
وَالْحَاصِل أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ حُرْمَة الْكَثِير الْمُسْكِر حُرْمَة قَلِيله وَلَا نَجَاسَته مُطْلَقًا إِلَّا فِي الْمَائِعَات لِمَعْنًى خَاصّ بِهَا، أَمَّا الْجَامِدَات فَلَا يَحْرُم مِنْهَا إِلَّا الْكَثِير الْمُسْكِر وَلَا يَلْزَم مِنْ حُرْمَته نَجَاسَته كَالسُّمِّ الْقَاتِل فَإِنَّهُ حَرَام مَعَ أَنَّهُ طَاهِر اِنْتَهَى كَلَام الشَّامِيّ.
وَقَالَ فِي الدُّرّ الْمُخْتَار: وَيَحْرُم أَكْل الْبَنْج وَالْحَشِيشَة هِيَ وَرَق الْقِنَّب وَالْأَفْيُون لِأَنَّهُ مُفْسِد لِلْعَقْلِ. =(1/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قَالَ الشَّامِيّ: الْبَنْج بِالْفَتْحِ نَبَات يُسَمَّى شَيْكَرَان يُصَدِّع وَيُسَبِّت وَيَخْلِط الْعَقْل كَمَا فِي التَّذْكِرَة لِلشَّيْخِ دَاوُدَ. وَالْمُسَبَّت الَّذِي لَا يَتَحَرَّك. وَفِي الْقُهُسْتَانِيّ: هُوَ أَحَد نَوْعَيْ شَجَر الْقِنَّب حَرَام لِأَنَّهُ يُزِيل الْعَقْل وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ نَوْع آخَر مِنْهُ فَإِنَّهُ مُبَاح كَالْأَفْيُونِ لِأَنَّهُ وَإِنْ اِخْتَلَّ الْعَقْل بِهِ لَا يَزُول وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا فِي الْهِدَايَة وَغَيْرهَا مِنْ إِبَاحَة الْبَنْج كَمَا فِي شَرْح اللُّبَاب.
أَقُول هَذَا غَيْر ظَاهِر لِأَنَّ مَا يُخِلّ الْعَقْلَ لَا يَجُوز أَيْضًا بِلَا شُبْهَةٍ فَكَيْف يُقَال إِنَّهُ مُبَاح بَلْ الصَّوَاب أَنَّ مُرَاد صَاحِب الْهِدَايَة وَغَيْره إِبَاحَة قَلِيله لِلتَّدَاوِي وَنَحْوه وَمَنْ صَرَّحَ بِحُرْمَتِهِ أَرَادَ بِهِ الْقَدْر الْمُسْكِر مِنْهُ، يَدُلّ عَلَيْهِ مَا فِي غَايَة الْبَيَان عَنْ شَرْح شَيْخ الْإِسْلَام أَكْل قَلِيل السَّقَمُونِيَا وَالْبَنْج مُبَاح لِلتَّدَاوِي، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ يُفَتِّر أَوْ يُذْهِب الْعَقْلَ حَرَام فَهَذَا صَرِيح فِيمَا قُلْنَاهُ مُؤَيِّد لِمَا بَحَثْنَاهُ سَابِقًا مِنْ تَخْصِيص مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره حُرِّمَ قَلِيله بِالْمَائِعَاتِ، وَهَكَذَا يُقَال فِي غَيْره مِنْ الْأَشْيَاء الْجَامِدَة الْمُضِرَّة فِي الْعَقْل أَوْ غَيْره، يَحْرُم تَنَاوُل الْقَدْر الْمُضِرّ مِنْهَا دُون الْقَلِيل النَّافِع، لِأَنَّ حُرْمَتهَا لَيْسَتْ لِعَيْنِهَا بَلْ لِضَرَرِهَا.
وَفِي أَوَّل طَلَاق الْبَحْر مَنْ غَابَ عَقْله بِالْبَنْجِ وَالْأَفْيُون يَقَع طَلَاقه إِذَا اِسْتَعْمَلَ لِلَّهْوِ وَإِدْخَال الْآفَات قَصْدًا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَة، وَإِنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي فَلَا لِعَدَمِهَا كَذَا فِي فَتْح الْقَدِير، وَهُوَ صَرِيح فِي حُرْمَة الْبَنْج وَالْأَفْيُون لَا لِلدَّوَاءِ. وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَالتَّعْلِيل يُنَادِي بِحُرْمَتِهِ لَا لِلدَّوَاءِ. اِنْتَهَى كَلَام الْبَحْر. وَيُجْعَل فِي النَّهْر هَذَا التَّفْصِيل هُوَ الْحَقّ.
وَالْحَاصِل أَنَّ اِسْتِعْمَال الْكَثِير الْمُسْكِر مِنْهُ حَرَام مُطْلَقًا كَمَا يَدُلّ عَلَيْهِ كَلَام الْغَايَة، وَأَمَّا الْقَلِيل فَإِنْ كَانَ لِلَّهْوِ حَرُمَ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ يَقَع طَلَاقه، لِأَنَّ مَبْدَأ اِسْتِعْمَالِهِ كَانَ مَحْظُورًا، وَإِنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي وَحَصَلَ مِنْهُ إِسْكَار فَلَا. هَذَا آخِر كَلَام الشَّامِيّ.
ثُمَّ قَالَ الشَّامِيّ: وَكَذَا تَحْرُم جَوْزَة الطِّيب وَكَذَا الْعَنْبَر وَالزَّعْفَرَان كَمَا فِي الزَّوَاجِر لِابْنِ حَجَر الْمَكِّيّ، وَقَالَ فَهَذِهِ كُلّهَا مُسْكِرَةٌ وَمُرَادُهُمْ بِالْإِسْكَارِ هُنَا تَغْطِيَةُ الْعَقْل لَا مَعَ الشِّدَّة الْمُطْرِبَة لِأَنَّهَا مِنْ خُصُوصِيَّات الْمُسْكِرِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُسَمَّى مُخَدِّرَة، فَمَا جَاءَ فِي الْوَعِيد عَلَى الْخَمْر يَأْتِي فِيهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِزَالَة الْعَقْل الْمَقْصُود لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ.
أَقُول: وَمِثْله زَهْر الْقُطْن فَإِنَّهُ قَوِيّ التَّفْرِيح يَبْلُغ الْإِسْكَار كَمَا فِي التَّذْكِرَة، فَهَذَا كُلّه وَنَظَائِره يَحْرُم اِسْتِعْمَال الْقَدْر الْمُسْكِر مِنْهُ دُون الْقَلِيل كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَافْهَمْ، وَمِثْله بَلْ أَوْلَى الْبُرْش وَهُوَ شَيْء مُرَكَّب مِنْ الْبَنْج وَالْأَفْيُون وَغَيْرهمَا ذَكَرَ فِي التَّذْكِرَة أَنَّ إِدْمَانه يُفْسِد الْبَدَن وَالْعَقْل، وَيُسْقِط الشَّهْوَتَيْنِ، وَيُفْسِد اللَّوْن، وَيُنْقِص الْقُوَى وَيُنْهِكُ. وَقَدْ وَقَعَ بِهِ الْآن ضَرَر كَثِير اِنْتَهَى كَلَام الشَّامِيّ.
قُلْت: إِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَقَاوِيل لِلْعُلَمَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّ الزَّعْفَرَان وَالْعَنْبَر وَالْمِسْك لَيْسَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة سُكْر أَصْلًا بَلْ وَلَا تَفْتِير وَلَا تَخْدِير عَلَى التَّحْقِيق.
وَأَمَّا الْجَوْز الطِّيب وَالْبَسْبَاسَة وَالْعُود الْهِنْدِيّ فَهَذِهِ كُلّهَا لَيْسَ فِيهَا سُكْر أَيْضًا وَإِنَّمَا فِي بَعْضهَا التَّفْتِير، وَفِي بَعْضهَا التَّخْدِير، وَلَا رَيْب أَنَّ كُلّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام سَوَاء كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ، وَسَوَاء كَانَ يَقْوَى عَلَى الْإِسْكَار بَعْد الْخَلْط أَوْ لَا يَقْوَى، فَكُلّ هَذِهِ الْأَشْيَاء السِّتَّة لَيْسَ مِنْ جِنْس الْمُسْكِرَات قَطْعًا بَلْ بَعْضهَا لَيْسَ مِنْ جِنْس الْمُفَتِّرَات وَلَا الْمُخَدِّرَات عَلَى التَّحْقِيق، وَإِنَّمَا بَعْضهَا مِنْ جِنْس الْمُفَتِّرَات عَلَى رَأْي الْبَعْض وَمِنْ جِنْس الْمَضَارّ عَلَى رَأَى الْبَعْض، فَلَا يَحْرُم قَلِيله سَوَاء يُؤْكَل مُفْرَدًا أَوْ يُسْتَهْلَك فِي الطَّعَام أَوْ فِي الْأَدْوِيَة. نَعَمْ أَنْ يُؤْكَل الْمِقْدَار الزَّائِد الَّذِي يَحْصُل بِهِ التَّفْتِير لَا يَجُوز أَكْله لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كُلّ مُفَتِّر وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ كُلّ مَا أَفَتَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام. فَنَقُول عَلَى الْوَجْه الَّذِي قَالَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا نُحَدِّث مِنْ قِبَلِي شَيْئًا، فَالتَّحْرِيم لِلتَّفْتِيرِ لَا لِنَفْسِ الْمُفَتِّر فَيَجُوز قَلِيله الَّذِي لَا يُفَتِّر.
وَهَذِهِ الْعُلَمَاء الَّذِينَ نُقِلَتْ عِبَارَاتهمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَمْر وَاحِد، بَلْ اِخْتَلَفَتْ أَقْوَالهمْ، فَذَهَبَتْ الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيله وَهُوَ فِي الْمَائِعَات دُون الْجَامِدَات، وَهَكَذَا فِي غَيْره مِنْ الْأَشْيَاء الْجَامِدَة الْمُضِرَّة فِي الْعَقْل أَوْ غَيْره يَحْرُم تَنَاوُل الْقَدْر الْمُضِرّ مِنْهَا دُون الْقَلِيل النَّافِع لِأَنَّ حُرْمَتهَا لَيْسَتْ لِعَيْنِهَا بَلْ لِضَرَرِهَا فَيَحْرُم عِنْدهمْ اِسْتِعْمَال الْقَدْر الْمُسْكِر مِنْ الْجَامِدَات دُون الْقَلِيل مِنْهَا.
وَأَمَّا اِبْن رَسْلَان فَصَرَّحَ بِلَفْظِ التَّمْرِيض فَقَالَ وَيُقَال إِنَّ الزَّعْفَرَان يُسْكِر. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا يَبْعُد أَنْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم الْبَنْج.
وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد فِي الْجَوْزَة إِنَّهَا مُسْكِرَة.
وَقَالَ الْأَرْدَبِيلِيّ: إِنَّ الْجَوْز الْهِنْدِيّ وَالزَّعْفَرَان وَنَحْوهمَا يَحْرُم الْكَثِير مِنْهُ لِإِضْرَارِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا. وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن قُطْب الْقَسْطَلَّانِيُّ: الْجَوْز الطِّيب وَالزَّعْفَرَان وَالْبَنْج وَالْأَفْيُون هَذِهِ كُلّهَا مِنْ الْمُسْكِرَات الْمُخَدِّرَات.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاء لَا تَحْرُم إِلَّا لِمَضَرَّتِهَا الْعَقْلَ وَدُخُولهَا فِي الْمُفَتِّر الْمَنْهِيّ عَنْهُ.
وَقَالَ الْقَزْوِينِيّ: الزَّعْفَرَان الزَّائِد عَلَى الدِّرْهَم سُمّ قَاتِل.
قُلْت: وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيل قَوْل الْعَلَّامَة الْأَرْدَبِيلِيّ وَالزَّرْكَشِيّ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْكَلَام وَأَفْرَطَ فِيهِ الشَّيْخ الْفَقِيه اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ فِي كِتَابه الزَّوَاجِر عَنْ اِقْتِرَاف الْكَبَائِر، فَقَالَ الْكَبِيرَة السَّبْعُونَ بَعْد الْمِائَة أَكْل الْمُسْكِر الطَّاهِر كَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُون وَالشَّيْكَرَان بِفَتْحِ الشِّين =(1/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْبَنْج، وَكَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفَرَان وَجَوْزَة الطِّيب، فَهَذِهِ كُلّهَا مُسْكِرَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيّ فِي بَعْضهَا وَغَيْره فِي بَاقِيهَا، وَمُرَادهمْ بِالْإِسْكَارِ هُنَا تَغْطِيَة الْعَقْل لَا مَعَ الشِّدَّة الْمُطْرِبَة لِأَنَّهَا مِنْ خُصُوصِيَّات الْمُسْكِر الْمَائِع، وَبِمَا قَرَّرْته فِي مَعْنَى الْإِسْكَار فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَات عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّهَا تُسَمَّى مُخَدِّرَة، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ كُلّهَا مُسْكِرَة أَوْ مُخَدِّرَة، فَاسْتِعْمَالهَا كَبِيرَة وَفِسْق كَالْخَمْرِ، فَكُلّ مَا جَاءَ فِي وَعِيد شَارِبهَا يَأْتِي فِي مُسْتَعْمِل شَيْء مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَات لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِزَالَة الْعَقْل الْمَقْصُود لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ، فَكَانَ فِي تَعَاطِي مَا يُزِيلهُ وَعِيد الْخَمْر.
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيم كُلّ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَده وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه: " نَهَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلّ مُسْكِر وَمُفَتِّر ".
قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُفَتِّر كُلّ مَا يُورِث الْفُتُور وَالْخَدَر فِي الْأَطْرَاف، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَات كُلّهَا تُسْكِر وَتُخَدِّر وَتُفَتِّر.
وَحَكَى الْقَرَافِيّ وَابْن تَيْمِيَّة الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم الْحَشِيشَة وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ قَوْلًا أَنَّ النَّبَات الَّذِي فِيهِ شِدَّة مُطْرِبَة يَجِب فِيهِ الْحَدّ. وَصَرَّحَ اِبْن دَقِيق الْعِيد أَنَّ الْجَوْزَة مُسْكِرَة، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّة وَالْمَالِكِيَّة وَاعْتَمَدُوهُ. وَبَالَغَ اِبْن الْعِمَاد فَجَعَلَ الْحَشِيشَة مَقِيسَة عَلَى الْجَوْزَة، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حُكِيَ عَنْ الْقَرَافِيّ نَقْلًا عَنْ بَعْض الْفُقَهَاء أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إِسْكَار الْحَشِيشَة بَيْن كَوْنهَا وَرَقًا أَخْضَرَ فَلَا إِسْكَار فِيهَا بِخِلَافِهَا بَعْد التَّحْمِيص فَإِنَّهَا تُسْكِر، قَالَ وَالصَّوَاب أَنَّهُ لَا فَرْق لِأَنَّهَا مُلْحَقَة بِجَوْزَةِ الطِّيب وَالزَّعْفَرَان وَالْعَنْبَر وَالْأَفْيُون وَالْبَنْج وَهُوَ مِنْ الْمُسْكِرَات الْمُخَدِّرَات ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن الْقَسْطَلَّانِيّ اِنْتَهَى. فَتَأَمَّلْ تَعْبِيره بِالصَّوَابِ وَجَعْله الْحَشِيشَة الَّتِي أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيمهَا مَقِيسَة عَلَى الْجَوْزَة تَعْلَم أَنَّهُ لَا مِرْيَة فِي تَحْرِيم الْجَوْزَة لِإِسْكَارِهَا أَوْ تَخْدِيرهَا.
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة عَلَى إِسْكَارهَا الْحَنَابِلَة فَنَصَّ إِمَام مُتَأَخِّرِيهِمْ اِبْن تَيْمِيَّة وَتَبِعُوهُ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَة وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام بَعْض أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة، فَفِي فَتَاوَى الْمَرْغِينَانِيّ الْمُسْكِر مِنْ الْبَنْج وَلَبَن الرِّمَاك، أَيْ أُنَاثَى الْخَيْل حَرَام، وَلَا يُحَدّ شَارِبه اِنْتَهَى.
وَقَدْ عَلِمْت مِنْ كَلَام اِبْن دَقِيق الْعِيد وَغَيْره أَنَّ الْجَوْزَة كَالْبَنْجِ، فَإِذَا قَالَ الْحَنَفِيَّة بِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُمْ الْقَوْل بِإِسْكَارِ الْجَوْزَة.
فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا حَرَام عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الشَّافِعِيَّة وَالْمَالِكِيَّة وَالْحَنَابِلَة بِالنَّصِّ، وَالْحَنَفِيَّة بِالِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهَا إِمَّا مُسْكِرَة أَوْ مُخَدِّرَة. وَأَصْل ذَلِكَ فِي الْحَشِيشَة الْمَقِيسَة عَلَى الْجَوْزَة.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي كِتَابه التَّذْكِرَة وَالنَّوَوِيّ فِي شَرْح الْمُهَذَّب وَابْن دَقِيق الْعِيد أَنَّهَا مُسْكِرَة.
وَقَدْ يَدْخُل فِي حَدِيث السَّكْرَان بِأَنَّهُ الَّذِي اِخْتَلَّ كَلَامه الْمَنْظُوم وَانْكَشَفَ سِرّه الْمَكْتُوم أَوْ الَّذِي لَا يَعْرِف السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْض وَلَا الطُّول مِنْ الْعَرْض ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْقَرَافِيّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَنَفَى عَنْهَا الْإِسْكَار وَأَثْبَت لَهَا الْإِفْسَاد ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى إِسْكَارهَا أَيْضًا الْعُلَمَاء بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَطِبَّاء، وَكَذَلِكَ اِبْن تَيْمِيَّة وَالْحَقّ فِي ذَلِكَ خِلَاف الْإِطْلَاقَيْنِ إِطْلَاق الْإِسْكَار وَإِطْلَاق الْإِفْسَاد، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَار يُطْلَق وَيُرَاد بِهِ مُطْلَق تَغْطِيَة الْعَقْل، وَهَذَا إِطْلَاق أَعَمُّ وَيُطْلَق وَيُرَاد بِهِ تَغْطِيَة الْعَقْل مَعَ نَشْوَة وَطَرَب، وَهَذَا إِطْلَاق أَخَصّ وَهُوَ الْمُرَاد مِنْ الْإِسْكَار حَيْثُ أُطْلِقَ، فَعَلَى الْإِطْلَاق الْأَوَّل بَيْن الْمُسْكِر وَالْمُخَدِّر عُمُوم مُطْلَق، إِذْ كُلّ مُخَدِّر مُسْكِر وَلَيْسَ كُلّ مُسْكِر مُخَدِّرًا، فَإِطْلَاق الْإِسْكَار عَلَى الْحَشِيشَة وَالْجَوْزَة وَنَحْوهمَا الْمُرَاد مِنْهُ التَّخْدِير، وَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَخَصّ. وَتَحْقِيقه أَنَّ مِنْ شَأْن السُّكْر بِنَحْوِ الْخَمْر أَنَّهُ يَتَوَلَّد عَنْهُ النَّشْوَة وَالنَّشَاط وَالطَّرَب وَالْعَرْبَدَة وَالْحَمِيَّة، وَمِنْ شَأْن السُّكْر بِنَحْوِ الْحَشِيشَة وَالْجَوْز أَنَّهُ يَتَوَلَّد عَنْهُ أَضْدَاد ذَلِكَ مِنْ تَخْدِير الْبَدَن وَفُتُوره، وَمِنْ طُول السُّكُوت وَالنَّوْم وَعَدَم الْحِمْيَة. وَفِي كِتَاب السِّيَاسَة لِابْنِ تَيْمِيَّة أَنَّ الْحَدّ وَاجِب فِي الْحَشِيشَة كَالْخَمْرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَمَادًا وَلَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاء فِي نَجَاسَتهَا عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمَد وَغَيْره، فَقِيلَ نَجِسَة وَهُوَ الصَّحِيح اِنْتَهَى.
وَقَالَ اِبْن بَيْطَار: وَمِنْ الْقِنَّب الْهِنْدِيّ نَوْع ثَالِث يُقَال لَهُ الْقِنَّب وَلَمْ أَرَهُ بِغَيْرِ مِصْر وَيُزْرَع فِي الْبَسَاتِين، وَيُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ أَيْضًا وَهُوَ يُسْكِر جِدًّا إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ الْإِنْسَان يَسِيرًا قَدْر دِرْهَم أَوْ دِرْهَمَيْنِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إِلَى حَدّ الرُّعُونَة، وَقَدْ اِسْتَعْمَلَهُ قَوْم فَاخْتَلَّتْ عُقُولهمْ، وَأَدَّى بِهِمْ الْحَال إِلَى الْجُنُون، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ: الْحَشِيشَة كَالْخَمْرِ فِي النَّجَاسَة وَالْحَدّ وَتَوَقَّفَ بَعْض الْعُلَمَاء عَنْ الْحَدّ فِيهَا وَرَأَى فِيهَا التَّعْزِير لِأَنَّهَا تُغَيِّر الْعَقْل مِنْ غَيْر طَرَب كَالْبَنْجِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجِد لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا وَلَيْسَ ذَلِكَ بَلْ آكِلُوهَا يَحْصُل لَهُمْ نَشْوَة وَاشْتِهَاء كَشَرَابِ الْخَمْر، وَلِكَوْنِهَا جَامِدَة مَطْعُومَة تَنَازَعَ الْعُلَمَاء فِي نَجَاسَتهَا عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمَد وَغَيْره، فَقِيلَ هِيَ نَجِسَة كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَة وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَار الصَّحِيح، وَقِيلَ لَا لِجُمُودِهَا، وَقِيلَ يُفَرَّق بَيْن جَامِدهَا وَمَائِعهَا وَبِكُلِّ حَال فَهِيَ دَاخِلَة فِيمَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله مِنْ الْخَمْر الْمُسْكِر لَفْظًا وَمَعْنًى. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَا رَسُول اللَّه أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْع وَهُوَ مِنْ الْعَسَل يُنْبَذ حَتَّى يَشْتَدّ، وَالْمِزْر وَهُوَ مِنْ الذُّرَة وَالشَّعِير يُنْبَذ حَتَّى يَشْتَدّ، قَالَ وَكَانَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِع الْكَلِم بِخَوَاتِيمِهِ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " كُلّ مُسْكِر حَرَام " وَقَالَ =(1/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= - صلى الله عليه وسلم -: " مَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام "، وَلَمْ يُفَرِّق - صلى الله عليه وسلم - بَيْن نَوْع وَنَوْع كَكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا عَلَى أَنَّ الْخَمْر قَدْ تُؤْكَل بِالْخُبْزِ، وَالْحَشِيشَة قَدْ تُذَاب وَتُشْرَب اِنْتَهَى كَلَام الذَّهَبِيّ. هَذَا آخِر كَلَام اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ مُلَخَّصًا
قُلْت قَوْل اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ هَذَا مُبَالَغَة عَظِيمَة، فَإِنَّهُ عَدَّ الْعَنْبَر وَالزَّعْفَرَان مِنْ الْمُسْكِرَات وَجَعَلَ اِسْتِعْمَالهَا مِنْ الْكَبَائِر كَالْخَمْرِ، وَهَذَا كَلَام بَاطِل وَسَاقِط الِاعْتِبَار، وَلَمْ يَثْبُت قَطّ عَنْ الْأَئِمَّة الْقُدَمَاء مِنْ الْعُلَمَاء بِالنَّبَاتِ سُكْرهمَا كَمَا سَيَجِيءُ وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَى السُّكْر مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاء، وَلَيْسَ فِي تَعْرِيف السُّكْر تَغْطِيَة الْعَقْل بِنَوْعٍ مَا كَمَا فَهِمَهُ اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ، بَلْ بِوَجْهٍ يُعَطِّل عَقْله الْمُمَيِّز بَيْن الْأُمُور الْحَسَنَة وَالْقَبِيحَة أَوْ مَعَ ذَلِكَ يَحْصُل لَهُ بِهِ الطَّرَب وَالنَّشَاط وَالْعَرْبَدَة وَغَيْر ذَلِكَ. وَقَوْله وَبِمَا قَرَّرْته فِي مَعْنَى الْإِسْكَار فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَات عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَات تُسَمَّى مُخَدِّرَة.
قُلْت: لَمْ يَثْبُت قَطّ أَنَّ كُلّ الْمَذْكُورَات بِأَجْمَعِهَا فِيهَا سُكْر، وَثَبَتَ فِي مَحَلّه أَنَّ السُّكْر غَيْر الْخَدَر فَإِطْلَاق السُّكْر عَلَى الْخَدَر غَيْر صَحِيح، فَإِنَّ الْخَدَر هُوَ الضَّعْف فِي الْبَدَن وَالْفَتَر الَّذِي يُصِيب الشَّارِب قَبْل السُّكْر كَمَا صَرَّحَ بِهِ اِبْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فَأَنَّى يَصِحّ الْقَوْل بِأَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَات تُسَمَّى مُسْكِرَة وَمُخَدِّرَة.
وَقَوْله: وَالْأَصْل فِي تَحْرِيم كُلّ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ إِلَى آخِره.
قُلْت: إِنَّا نُسَلِّم أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كُلّ مُسْكِر وَمُفَتِّر، بَلْ وَنَهَى عَنْ كُلّ مُخَدِّر أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله مِنْهُ حَرَام، وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَا أَفْتَرَ كَثِيره فَقَلِيله مِنْهُ حَرَام أَوْ مَا خَدَّرَ كَثِيره فَقَلِيله مِنْهُ حَرَام، وَلَيْسَ الْمُسْكِر وَالْمُخَدِّر وَالْمُفَتِّر شَيْئًا وَاحِدًا، وَاَلَّذِي يُسْكِر فَكَثِيره وَقَلِيله سَوَاء فِي الْحُرْمَة، وَالَّذِي يُفَتِّر أَوْ يُخَدِّر فَلَا يَحْرُم مِنْهُمَا إِلَّا قَدْر التَّفْتِير أَوْ قَدْر التَّخْدِير.
وَيُؤَيِّدهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم كَمَا فِي كَنْز الْعُمَّال عَنْ الْحَكَم بْن عُتَيْبَة عَنْ أَنَس بْن حُذَيْفَة صَاحِب الْبَحْرَيْنِ قَالَ " كَتَبْت إِلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّاس قَدْ اِتَّخَذُوا بَعْد الْخَمْر أَشْرِبَة تُسْكِرهُمْ كَمَا تُسْكِر الْخَمْر مِنْ التَّمْر وَالزَّبِيب يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فِي الدُّبَّاء وَالنَّقِير وَالْمُزَفَّت وَالْحَنْتَم، فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ كُلّ شَرَاب أَسْكَرَ حَرَام، وَالْمُزَفَّت حَرَام، وَالنَّقِير حَرَام، وَالْحَنْتَم حَرَام، فَاشْرَبُوا فِي الْقِرَب وَشُدُّوا الْأَوْكِيَة، فَاتَّخَذَ النَّاس فِي الْقِرَب مَا يُسْكِر، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ فِي النَّاس فَقَالَ إِنَّهُ لَا يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا أَهْل النَّار، أَلَا إِنَّ كُلّ مُسْكِر حَرَام، وَكُلّ مُفَتِّر وَكُلّ مُخَدِّر حَرَام، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام.
وَفِي رِوَايَة لِأَبِي نُعَيْم عَنْ أَنَس بْن حُذَيْفَة " أَلَا إِنَّ كُلّ مُسْكِر حَرَام وَكُلّ مُخَدِّر حَرَام وَمَا أَسْكَرَ كَثِيره حَرُمَ قَلِيله وَمَا خَمَّرَ الْعَقْل فَهُوَ حَرَام اِنْتَهَى " فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّه تَعَالَى وَإِيَّايَ بِعَيْنِ الْإِنْصَاف أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أَلَا إِنَّ كُلّ مُسْكِر حَرَام، وَكُلّ مُفَتِّر وَكُلّ مُخَدِّر حَرَام، وَمَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام " فَالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - صَرَّحَ أَوَّلًا بِالْحُرْمَةِ عَلَى كُلّ مِنْ الْمُسْكِر وَالْمُفَتِّر وَالْمُخَدِّر ثُمَّ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ " إِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام " وَمَا قَالَ إِنَّ مَا أَفْتَرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام أَوْ مَا خَدَّرَ كَثِيره فَقَلِيله حَرَام، وَالسُّكُوت عَنْ الْبَيَان فِي وَقْت الْحَاجَة لَا يَجُوز، فَذَكَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حُرْمَة هَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة فِي وَقْت وَاحِد، ثُمَّ فِي ذِكْره لِحُرْمَةِ قَلِيل مِنْ الْمُسْكِر وَعَدَم ذِكْره لِحُرْمَةِ قَلِيل مِنْ الْمُفَتِّر وَالْمُخَدِّر أَبْيَنُ دَلِيل وَأَصْرَحُ بَيَان عَلَى أَنَّ حُكْم قَلِيل مِنْ الْمُفَتِّر وَحُكْم قَلِيل مِنْ الْمُخَدِّر غَيْر حُكْم قَلِيل مِنْ الْمُسْكِر، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنْ الْمُسْكِر يَحْرُم، وَقَلِيلًا مِنْ الْمُخَدِّر وَالْمُفَتِّر لَا يَحْرُم وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْله إِنَّ الْإِسْكَار يُطْلَق وَيُرَاد بِهِ مُطْلَق تَغْطِيَة الْعَقْل وَهَذَا إِطْلَاق أَعَمُّ.
قُلْت: إِنْ أَرَادَ بِتَغْطِيَةِ الْعَقْل وَفَتَر الْأَعْضَاء وَاسْتِرْخَائِهَا فَهُوَ يُسَمَّى مُخَدِّرًا وَلَا يُسَمَّى بِمُسْكِرٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِتَغْطِيَةِ الْعَقْل مُخَامَرَةَ الْعَقْل بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الْإِنْسَان الْعَمَل بِمُوجَبِ عَقْله وَلَا يُمَيِّز بَيْن الْأُمُور الْحَسَنَة وَالْقَبِيحَة فَهُوَ يُسَمَّى مُسْكِرًا وَلَا يُسَمَّى مُخَدِّرًا
وَقَوْله فَعَلَى الْإِطْلَاق الْأَوَّل بَيْن الْمُسْكِر وَالْمُخَدِّر عُمُوم مُطْلَق.
قُلْت: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْكِر غَيْر الْمُخَدِّر فَلَا يُقَال بَيْنهمَا عُمُوم مُطْلَق، فَإِنَّ النُّعَاس مُقَدِّمَة النَّوْم، فَمَنْ نَعَسَ لَا يُقَال لَهُ إِنَّهُ نَائِم فَلَيْسَ كُلّ مُخَدِّر مُسْكِرًا كَمَا لَيْسَ كُلّ مُسْكِر مُخَدِّرًا، وَيُؤَيِّدهُ مَا أَخْرَجَهُ اِبْن رَاهْوَيْهِ كَمَا فِي كَنْز الْعُمَّال عَنْ سُفْيَان بْن وَهْب الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: كُنْت مَعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب بِالشَّامِ فَقَالَ أَهْل الذِّمَّة إِنَّكَ كَلَّفْتنَا وَفَرَضْت عَلَيْنَا أَنْ نَرْزُق الْمُسْلِمِينَ الْعَسَل وَلَا نَجِدهُ، فَقَالَ عُمَر إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا أَرْضًا فَلَمْ يُوَطِّنُوا فِيهَا اِشْتَدَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْرَبُوا الْمَاء الْقَرَاح فَلَا بُدّ لَهُمْ مِمَّا يُصْلِحهُمْ، فَقَالُوا إِنَّ عِنْدنَا شَرَابًا نُصْلِحهُ مِنْ الْعِنَب شَيْئًا يُشْبِه الْعَسَل، قَالَ فَأَتَوْا بِهِ فَجَعَلَ يَرْفَعهُ بِأُصْبُعِهِ فَيَمُدّهُ كَهَيْئَةِ الْعَسَل فَقَالَ كَأَنَّ هَذَا طِلَاء الْإِبِل، فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَفَضَ فَشَرِبَ مِنْهُ وَشَرِبَ أَصْحَابه وَقَالَ مَا أَطْيَبَ هَذَا فَارْزُقُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، فَأَرْزَقُوهُمْ مِنْهُ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا خَدِرَ مِنْهُ فَقَامَ الْمُسْلِمُونَ فَضَرَبُوهُ بِنِعَالِهِمْ وَقَالُوا سَكْرَان، فَقَالَ الرَّجُل: لَا تَقْتُلُونِي فَوَاَللَّهِ مَا شَرِبْت إِلَّا الَّذِي رَزَقَنَا عُمَر، فَقَامَ عُمَر بَيْن ظَهْرَانَيْ النَّاس فَقَالَ يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّمَا أَنَا بَشَر لَسْت أُحِلّ حَرَامًا وَلَا أُحَرِّم حَلَالًا، وَإِنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ فَرُفِعَ الْوَحْي، فَأَخَذَ عُمَر بِثَوْبِهِ =(1/381)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= فَقَالَ إِنِّي أَبْرَأ إِلَى اللَّه مِنْ هَذَا أَنْ أُحِلّ لَكُمْ حَرَامًا فَاتْرُكُوهُ فَإِنِّي أَخَاف أَنْ يَدْخُل النَّاس فِيهِ مَدْخَلًا، وَقَدْ سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول كُلّ مُسْكِر حَرَام فَدَعُوهُ.
فَهَذَا عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن السُّكْر وَالْخَدَر، وَمَا زَجَرَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَخَدَّرَ بَعْد شُرْب الطِّلَاء قَائِلًا بِأَنَّك شَرِبْت الْمُسْكِر بَلْ قَالَ لِلضَّارِبِينَ لَهُ اُتْرُكُوهُ، ثُمَّ قَالَ عُمَر سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول " كُلّ مُسْكِر حَرَام ". وَلَمَّا كَانَ عِنْد عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْفَرْق بَيْن السُّكْر وَالْخَدَر أَمْر مُحَقَّق قَالَ هَذَا الْقَوْل وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى التَّفْرِقَة بَيْنهمَا إِطْلَاقًا، وَعَلَى أَنَّ كُلّ مُسْكِر حَرَام، وَلَيْسَ كُلّ مُخَدِّر حَرَامًا، فَهَذَا الْأَثَر وَاسْتِدْلَال عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى التَّفْرِقَة بَيْن السُّكْر وَالْخَدَر إِطْلَاقًا، وَعَلَى أَنَّ الْحُرْمَة لَيْسَتْ مُشْتَرِكَة بَيْن الْمُسْكِر وَالْمُخَدِّر، وَإِنَّمَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُخَدِّر لَيْسَ كَالْمُسْكِرِ فِي الْحُرْمَة لِعَدَمِ بُلُوغه الْخَبَر، وَهُوَ نَهْيُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَهُ عَنْ كُلّ مُسْكِر وَمُفَتِّر أَوْ لِعَدَمِ صِحَّة هَذَا الْخَبَر عِنْده، وَعَلَى كُلّ حَال فَرَّقَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَيْن الْمُخَدِّر وَالْمُسْكِر وَإِنْ كَانَ الْمُخَدِّر عِنْده مُسْكِرًا لَمَا سَكَتَ عَنْ الرَّجُل وَلَمَا أَمَرَ بِتَرْكِ ضَرْبه.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيق سُوَيْد بْن غَفَلَة قَالَ كَتَبَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِلَى بَعْض عُمَّاله أَنْ أَرْزِقْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطِّلَاء مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثه.
وَأَخْرَجَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ حَدِيث شُرْب الطِّلَاء بِنَحْوٍ آخَر عَنْ مَحْمُود بْن لَبِيد الْأَنْصَارِيّ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب حِين قَدِمَ الشَّام فَشَكَا إِلَيْهِ أَهْل الشَّام وَبَاء الْأَرْض وَثِقَلهَا وَقَالُوا لَا يُصْلِحنَا إِلَّا هَذَا الشَّرَاب، فَقَالَ عُمَر اِشْرَبُوا الْعَسَل، فَقَالُوا لَا يُصْلِحنَا الْعَسَل، فَقَالَ رَجُل مِنْ أَهْل الْأَرْض هَلْ لَك أَنْ تَجْعَل لَنَا مِنْ هَذَا الشَّرَاب شَيْئًا لَا يُسْكِر؟ قَالَ نَعَمْ فَطَبَخُوهُ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَبَقِيَ الثُّلُث، فَأَتَوْا بِهِ عُمَر فَأَدْخَلَ فِيهِ عُمَر أُصْبُعه ثُمَّ رَفَعَ يَده فَتَبِعَهَا يَتَمَطَّط فَقَالَ هَذَا الطِّلَاء هَذَا مِثْل طِلَاء الْإِبِل، فَأَمَرَهُمْ عُمَر أَنْ يَشْرَبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَادَةُ بْن الصَّامِت أَحْلَلْتهَا وَاَللَّه، فَقَالَ عُمَر كَلَّا وَاَللَّه اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا أُحَرِّم عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ اِنْتَهَى.
قُلْت: الطِّلَاء بِكَسْرِ الطَّاء الْمُهْمَلَة وَالْمَدّ هُوَ مَا طُبِخَ مِنْ الْعَصِير حَتَّى يَغْلُظ، وَشُبِّهَ بِطِلَاءِ الْإِبِل وَهُوَ الْقَطِرَان الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْجَرَب، كَذَا فِي مُقَدِّمَة الْفَتْح. وَهَذَا الْأَثَر فِيهِ دَلِيل عَلَى الَّذِي أَحَلَّهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ الطِّلَاء، وَالْمُثَلَّث الْعِنَبِيّ مَا لَمْ يَكُنْ يَبْلُغ حَدّ الْإِسْكَار وَالتَّخْدِير عِنْده لَيْسَ فِي حُكْم الْإِسْكَار، فَلِذَا شَرِبَ عُمَر بِنَفْسِهِ الطِّلَاء وَأَمَرَ إِلَى عُمَّاله أَنْ اُرْزُقْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطِّلَاء، وَمَا زَجَرَ الرَّجُلَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ شُرْبه الْخَدَر وَمَا تَعَرَّضَ لَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى هَذَا الْفِعْل كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الطِّلَاء حَدّ الْإِسْكَار فَلَمْ يَحِلّ عِنْد عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ السَّائِب بْن يَزِيد أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنِّي وَجَدْت مِنْ فُلَان رِيح شَرَاب، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَاب الطِّلَاء، وَأَنَا سَائِل عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِر جَلَدْته، فَجَلَدَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب الْحَدّ تَامًّا اِنْتَهَى أَيْ ثَمَانِينَ جَلْدَة. وَفُلَان هُوَ اِبْنه عُبَيْد اللَّه بِضَمِّ الْعَيْن كَمَا فِي الْبُخَارِيّ
وَرَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ السَّائِب وَسَمَّاهُ عُبَيْد اللَّه وَزَادَ قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ فَأَخْبَرَنِي مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ السَّائِب قَالَ فَرَأَيْت عُمَر يَجْلِدهُ كَذَا فِي شَرْح الزُّرْقَانِيّ.
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُثَلَّث الْعِنَبِيّ إِذَا أَسْكَرَ يَصِير حَرَامًا قَلِيله وَكَثِيره فِيهِ سَوَاء، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَفْصِل عُمَر هَلْ شَرِبَ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. قَالَ الْحَافِظ: وَاَلَّذِي أَحَلَّهُ عُمَر مِنْ الطِّلَاء مَا لَمْ يَكُنْ يَبْلُغ حَدّ الْإِسْكَار فَإِذَا بَلَغَ لَمْ يَحِلّ عِنْده اِنْتَهَى.
وَفِي الْمُحَلَّى شَرْح الْمُوَطَّأ وَفِي رِوَايَة مَحْمُود بْن لَبِيد عَنْ عُمَر دَلَالَة عَلَى حِلّ الْمُثَلَّث الْعِنَبِيّ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَة غَالِبًا لَا يُسْكِر، فَإِنْ كَانَ يُسْكِر حَرُمَ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل الطِّلَاء الَّذِي حَدّ عُمَر شَارِبه اِنْتَهَى.
وَالْحَاصِل أَنَّ الطِّلَاء لَا يُسْكِر إِنْ اِشْتَدَّ وَأَحْيَانًا يُخَدِّر، وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَرِبَ الطِّلَاء وَأَمَرَ النَّاس بِشُرْبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَبْلُغ حَدّ الْإِسْكَار، فَلَمَّا بَلَغَ حَدّ الْإِسْكَار ضَرَبَ الْحَدّ لِشَارِبِهِ لِكَوْنِهِ شَارِبًا لِلْمُسْكِرِ، وَأَمَّا مَنْ خَدِرَ بِشُرْبِهِ فَمَا قَالَ لَهُ عُمَر شَيْئًا لِلْفَرْقِ عِنْده بَيْن الْمُسْكِر وَالْمُخَدِّر وَإِنْ كَانَ عِنْده شَيْء وَاحِد لَضَرَبَ الْحَدّ عَلَى شَارِب الْمُخَدِّر كَمَا ضَرَبَ الْحَدّ عَلَى شَارِب الْمُسْكِر وَاَللَّه أَعْلَمُ وَعِلْمه أَتَمُّ.
وَأَمَّا الْكَلَام عَلَى الزَّعْفَرَان وَالْعَنْبَر خُصُوصًا عَلَى طَرِيق الطِّبّ فَأَقُول: إِنَّ كَيْفِيَّات الْأَدْوِيَة وَأَفْعَالهَا وَخَوَاصّهَا لَا تَثْبُت عَلَى بَدَن الْإِنْسَان بِبُرْهَانٍ إِنِّيّ وَلَا بِبُرْهَانٍ لَمِّيّ بَلْ تَثْبُت أَفْعَالهَا وَخَوَاصّهَا بِالتَّجَارِبِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ الْعَنْبَر يُقَوِّي الْحَوَاسّ وَأَمَّا سَائِر الْأَشْيَاء الْمُسْكِرَة فَيَنْتَشِر فِي الْحَوَاسّ فَالْقَوْل بِسُكْرِ الْعَنْبَر مِنْ عَجَب الْعُجَاب، وَمِنْ أَبَاطِيل الْأَقْوَال وَمُخَالِف لِكَلَامِ الْقُدَمَاء الْأَطِبَّاء بِأَسْرِهَا، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَا ذَهَبَ إِلَى سُكْره.
قَالَ الشَّيْخ فِي الْقَانُون: عَنْبَر يَنْفَع الدِّمَاغ وَالْحَوَاسّ وَيَنْفَع الْقَلْب جِدًّا. اِنْتَهَى مُخْتَصَرًا. =(1/382)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَفِي التَّذْكِرَة لِلشَّيْخِ دَاوُدَ: عَنْبَر يَنْفَع سَائِر أَمْرَاض الدِّمَاغ الْبَارِدَة طَبْعًا وَغَيْرهَا خَاصِّيَّة وَمِنْ الْجُنُون وَالشَّقِيقَة وَالنَّزَلَات وَأَمْرَاض الْأُذُن وَالْأَنْف وَعِلَل الصَّدْر وَالسُّعَال شَمًّا وَأَكْلًا وَكَيْف كَانَ فَهُوَ أَجَلّ الْمُفْرَدَات فِي كُلّ مَا ذُكِرَ شَدِيدُ التَّفْرِيحِ خُصُوصًا بِمِثْلِهِ بَنَفْسَجٌ وَنِصْفُهُ صَمْغٌ أَوْ فِي الشَّرَاب مُفْرَدًا، وَيُقَوِّي الْحَوَاسّ وَيَحْفَظ الْأَرْوَاح اِنْتَهَى مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ الزَّعْفَرَان يُفَرِّح الْقَلْب فَرَحًا شَدِيدًا وَيُقَوِّيهَا وَلَا يُسْكِر أَبَدًا وَأَنْ لَا يُسْتَعْمَل عَلَى الزَّائِد عَلَى الْقَدْر الْمُعَيَّن، نَعَمْ اِسْتِعْمَاله عَلَى الْقَدْر الزَّائِد يُنْشِئُ الْفَتَرَ وَلِينَةَ الْأَعْضَاء عَلَى رَأْي الْبَعْض.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ وَصَحَّ عَنْ أَئِمَّة الطِّبّ أَنَّ كُلّ الْمُفَرِّحَات الْمُطَيِّبَات أَنْ يَخْتَلِط بِالْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَة فَإِنَّهَا تَزْدَاد قُوَّة السُّكْر. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الزَّعْفَرَان يُسْكِر مُفْرَدًا فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنَّمَا صَدَرَ هَذَا الْقَوْل مِنْهُ تَقْلِيدًا لِلْعَلَّامَةِ عَلَاء الدِّين عَلِيّ الْقُرَشِيّ مِنْ غَيْر تَجْرِبَة وَلَا بَحْث فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُوجَز الْقَانُون وَالنَّفِيسِيّ فِي شَرْحه وَالْمُسْكِرَات بِسُرْعَةٍ كَالتَّنَقُّلِ بِجَوْزِ الطِّيب وَنَقْعه فِي الشَّرَاب وَكَذَلِكَ الْعُود الْهِنْدِيّ وَالشَّيْلَم وَوَرَق الْقِنَّب وَالزَّعْفَرَان وَكُلّ هَذِهِ يُسْكِر مُفْرَده فَكَيْف مَعَ الشَّرَاب، وَأَمَّا الْبَنْج وَاللُّفَّاح وَالشَّوْكَرَان وَالْأَفْيُون فَمُفْرِط فِي الْإِسْكَار اِنْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرَشِيّ فِي شَرْح قَانُون الشَّيْخ: الزَّعْفَرَان يُقَوِّي الْمَعِدَة وَالْكَبِد وَيُفَرِّح الْقَلْب وَلِأَجْلِ لَطَافَة أَرْضِيَّته يَقْبَل التَّصَعُّد كَثِيرًا، فَلِذَلِكَ يُصَدِّع وَيُسْكِر بِكَثْرَةِ مَا يَتَصَعَّد مِنْهُ إِلَى الدِّمَاغ اِنْتَهَى.
وَقَوْله يُسْكِر بِكَثْرَةِ مَا يَتَصَعَّد مِنْهُ إِلَى الدِّمَاغ ظَنٌّ مَحْضٌ مِنْ الْعَلَّامَة الْقُرَشِيّ وَخِلَاف لِلْوَاقِعِ، وَأَنَّ الْأَطِبَّاء الْقُدَمَاء قَاطِبَة قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُسْكِر إِذَا جُعِلَ فِي الشَّرَاب وَلَمْ يُنْقَل عَنْ وَاحِد مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى سُكْره مُفْرَدًا أَوْ مَعَ اِسْتِهْلَاك الطَّعَام.
هَذَا اِبْن بَيْطَار الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الرِّيَاسَة فِي عِلْم الطِّبّ ذَكَرَ الزَّعْفَرَان فِي جَامِعه، وَنَقَلَ أَقْوَال الْأَئِمَّة الْقُدَمَاء بِكَثْرَةٍ وَأَطَالَ الْكَلَام فِيهِ بِمَا لَا مَزِيد عَلَيْهِ وَمَا ذُكِرَ عَنْ وَاحِد مِنْهُمْ أَنَّ الزَّعْفَرَان يُسْكِر مُفْرَدًا، فَقَالَ الزَّعْفَرَان تُحَسِّن اللَّوْن وَتُذْهِب الْخُمَار إِذَا شُرِبَ بالميفختج، وَقَدْ يُقَال إِنَّهُ يَقْتُل إِذَا شُرِبَ مِنْهُ مِقْدَار وَزْن ثَلَاثَة مَثَاقِيل بِمَاءٍ، وَلَهُ خَاصِّيَّة شَدِيدَة عَظِيمَة فِي تَقْوِيَة جَوْهَر الرُّوح وَتَفْرِيحه.
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي الْحَاوِي: وَهُوَ يُسْكِر سَكَرًا شَدِيدًا إِذَا جُعِلَ فِي الشَّرَاب، وَيُفَرِّح حَتَّى إِنَّهُ يَأْخُذ مِنْهُ الْجُنُون مِنْ شِدَّة الْفَرَح. اِنْتَهَى كَلَام اِبْن بَيْطَار مُخْتَصَرًا.
وَهَذَا الشَّيْخ الرَّئِيس أَبُو عَلِيّ إِمَام الْفَنّ قَالَ فِي الْقَانُون: الزَّعْفَرَان حَارّ يَابِس قَابِض مُحَلِّل مُصَدِّع يَضُرّ الرَّأْس وَيُشْرَب بالميفختج لِلْخُمَارِ، وَهُوَ مُنَوِّم مُظْلِم لِلْحَوَاسِّ إِذَا سُقِيَ فِي الشَّرَاب أَسْكَرَ حَتَّى يُرْعِنَ مُقَوٍّ لِلْقَلْبِ مُفَرِّح. قِيلَ إِنَّ ثَلَاثَة مَثَاقِيل مِنْهُ تَقْتُل بِالتَّفْرِيحِ. اِنْتَهَى مُلَخَّصًا مُخْتَصَرًا.
وَهَذَا عَلِيّ بْن الْعَبَّاس إِمَام الْفَنّ بِلَا نِزَاع قَالَ فِي كَامِل الصِّنَاعَة فِي الْبَاب السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: الزَّعْفَرَان حَارّ يَابِس لَطِيف مُجَفَّف تَجْفِيفًا مَعَ قَبْض يَسِير، وَلِذَلِكَ صَارَ يُدِرّ الْبَوْل وَفِيهِ مُنْضِجَة وَيَنْفَع أَوْرَام الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة إِذَا شُرِبَ وَضُمِّدَ بِهِ مِنْ خَارِج وَيَفْتَح السُّدَد الَّتِي فِي الْكَبِد أَوْ فِي الْعُرُوق وَيُقَوِّي جَمِيع الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة وَيُنْفِذ الْأَدْوِيَة الَّتِي يُخْلَط بِهَا إِلَى جَمِيع الْبَدَن اِنْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخ دَاوُدُ الْأَنْطَاكِيّ فِي تَذْكِرَته: الزَّعْفَرَان يُفَرِّح الْقَلْب، وَيُقَوِّي الْحَوَاسّ، وَيُهَيِّج شَهْوَة الْبَاءَة فِيمَنْ يَئِسَ مِنْهُ، وَلَوْ شَمًّا، وَيُذْهِب الْخَفَقَان فِي الشَّرَاب، وَيُسْرِع بِالسُّكْرِ عَلَى أَنَّهُ يَقْطَعهُ إِذَا شُرِبَ بالميفختج عَنْ تَجْرِبَة اِنْتَهَى.
وَقَالَ الأقصرائي: زَعْفَرَان يَسُرّ مَعَ الشَّرَاب جِدًّا حَتَّى يُرْعِنَ أَيْ يُورِث الرُّعُونَة، وَهِيَ خِفَّة الْعَقْل، وَقِيلَ: إِنَّ ثَلَاثَة مَثَاقِيل مِنْ الزَّعْفَرَان يَقْتُل بِالتَّفْرِيحِ اِنْتَهَى.
فَمِنْ أَيْنَ قَالَ الْعَلَّامَة الْقُرَشِيّ: إِنَّ الزَّعْفَرَان يُسْكِر مُفْرَدًا أَيْضًا، هَلْ حَصَلَتْ لَهُ التَّجْرِبَة عَلَى أَنَّهُ يُسْكِر مُفْرَدًا، كَلَّا بَلْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّهُ لَا يُسْكِر إِلَّا مَعَ الشَّرَاب.
وَقَدْ سَأَلْت غَيْر مَرَّة مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ الْأَطِبَّاء الْحُذَّاق أَصْحَاب التَّجْرِبَة وَالْعِلْم وَالْفَهْم، فَكُلّهمْ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْكِر مُفْرَدًا، بَلْ قَالُوا إِنَّ الْقَوْل بِالسُّكْرِ غَلَط وَحَكَى لِي شَيْخنَا الْعَلَّامَة الدَّهْلَوِيّ فِي سَنَة أَرْبَع وَتِسْعِينَ بَعْد الْأَلْف وَالْمِائَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة أَنَّ قَبْل ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ سَنَة أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جَرَى الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الزَّعْفَرَان بَيْن الْأَطِبَّاء وَالْعُلَمَاء، فَتَحَقَّقَ الْأَمْر عَلَى أَنَّ الزَّعْفَرَان لَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَإِنَّمَا فِيهِ تَفْتِير، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ آرَاء الْأَطِبَّاء وَالْعُلَمَاء كَافَّة، عَلَى أَنَّ الْفَرْق بَيْن حُكْم الْمَائِعَات وَالْجَامِدَات مُحَقَّق بَيْن الْأَئِمَّة الْأَحْنَاف اِنْتَهَى.
وَقَدْ أَطْنَبَ الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الزَّعْفَرَان الْفَاضِل السَّيِّد رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابه دَلِيل الطَّالِب فَقَالَ إِنْ ثَبَتَ السُّكْر فِي الزَّعْفَرَان فَهُوَ مُسْكِر، وَإِنْ ثَبَتَ التَّفْتِير فَقَطْ فَهُوَ مُفَتِّر اِنْتَهَى حَاصِله. =(1/383)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قُلْت: ذَلِكَ الْفَاضِل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى تَرَدَّدَ فِي أَمْر الزَّعْفَرَان وَلَمْ يَتَرَجَّح لَهُ سُكْر وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُل إِنْ دَخَلَ فِي الْأَرْض الَّتِي فِيهَا زَرْع الزَّعْفَرَان لَا يَمْلِك نَفْسه مِنْ شِدَّة الْفَرَح بَلْ يَخِرّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْل غَلَط بَاطِل لَا أَصْل لَهُ، وَقَدْ كَذَّبَ قَوْل هَذَا الْقَائِل وَغَلَّطَهُ بَعْضُ الثِّقَات مِنْ أَهْل الْكَشْمِير وَكَانَ صَاحِب أَرْض وَزَرْع لِلزَّعْفَرَانِ وَاَللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَإِنْ شَاءَ رَبِّي سَأُفَصِّلُ الْكَلَام عَلَى الْوَجْه التَّمَام فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي رِسَالَة مُسْتَقِلَّة أُسَمِّيهَا بِغَايَةِ الْبَيَان فِي حُكْم اِسْتِعْمَال الْعَنْبَر وَالزَّعْفَرَان وَاَللَّه الْمُوَفِّق.
وَحَدِيث الْبَاب قَالَ الْإِمَام الْمُنْذِرِيُّ: فِيهِ شَهْر بْن حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل وَيَحْيَى بْن مَعِين، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْر وَاحِد، وَالتِّرْمِذِيّ يُصَحِّح حَدِيثه اِنْتَهَى.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي بَعْض فَتَاوَاهُ هَذَا حَدِيث صَالِح لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ سَكَتَ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْكُت إِلَّا عَمَّا هُوَ صَالِح لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ مِثْل اِبْن الصَّلَاح، وَزَيْن الدِّين الْعِرَاقِيّ، وَالنَّوَوِيّ وَغَيْرهمْ. وَإِذَا أَرَدْنَا الْكَشْف عَنْ حَقِيقَة رِجَال إِسْنَاده فَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُتَكَلَّم فِيهِ إِلَّا شَهْر بْن حَوْشَبٍ وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي شَأْنه أَئِمَّة الْجَرْح وَالتَّعْدِيل، فَوَثَّقَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَيَحْيَى بْن مَعِين وَهُمَا إِمَامَا الْجَرْح وَالتَّعْدِيل مَا اِجْتَمَعَا عَلَى تَوْثِيق رَجُل إِلَّا وَكَانَ ثِقَة، وَلَا عَلَى تَضْعِيف رَجُل إِلَّا وَكَانَ ضَعِيفًا، فَأَقَلّ أَحْوَال حَدِيث شَهْر الْمَذْكُور أَنْ يَكُون حَسَنًا وَالتِّرْمِذِيّ يُصَحِّح حَدِيثه كَمَا يَعْرِف ذَلِكَ مَنْ لَهُ مُمَارَسَة بِجَامِعِهِ اِنْتَهَى.
قُلْت: قَالَ مُسْلِم فِي مُقَدِّمَة صَحِيحه: سُئِلَ اِبْن عَوْن عَنْ حَدِيث الشَّهْر وَهُوَ قَائِم عَلَى أُسْكُفَّة الْبَاب فَقَالَ إِنَّ شَهْرًا تَرَكُوهُ إِنَّ شَهْرًا تَرَكُوهُ اِنْتَهَى.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرْحه: إِنَّ شَهْرًا لَيْسَ مَتْرُوكًا بَلْ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ مِنْ كِبَار أَئِمَّة السَّلَف أَوْ أَكْثَرُهُمْ، فَمِمَّنْ وَثَّقَهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَيَحْيَى بْن مَعِين وَآخَرُونَ. وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: مَا أَحْسَنَ حَدِيثَهُ وَوَثَّقَهُ. وَقَالَ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الْعِجْلِيُّ: هُوَ تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْن مَعِين هُوَ ثِقَة وَلَمْ يَذْكُر اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ غَيْر هَذَا، وَقَالَ أَبُو زُرْعَة لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ قَالَ مُحَمَّد يَعْنِي الْبُخَارِيّ شَهْر حَسَن الْحَدِيث وَقَوِيٌّ أَمْرُهُ وَقَالَ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ اِبْن عَوْن، وَقَالَ يَعْقُوب بْن شَيْبَةَ شَهْر ثِقَة. وَقَالَ صَالِح بْن مُحَمَّد: شَهْر رَوَى عَنْهُ النَّاس مِنْ أَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْبَصْرَة وَأَهْل الشَّام وَلَمْ يُوقَف مِنْهُ عَلَى كَذِب، وَكَانَ رَجُلًا يَنْسَك أَيْ يَتَعَبَّد إِلَّا أَنَّهُ رَوَى أَحَادِيث وَلَمْ يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد، فَهَذَا كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَرْحه أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَة مِنْ بَيْت الْمَال فَقَدْ حَمَلَهُ الْعُلَمَاء الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَحَلّ صَحِيح. وَقَوْل أَبِي حَاتِم بْن حِبَّان إِنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَفِيقه فِي الْحَجّ عَلَيْهِ غَيْر مَقْبُول عِنْد الْمُحَقِّقِينَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ اِنْتَهَى.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان: شَهْر بْن حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ عَنْ أُمّ سَلَمَة وَأَبِي هُرَيْرَة وَجَمَاعَة، وَعَنْهُ قَتَادَة وَدَاوُد بْن أَبِي هِنْد وَعَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام وَجَمَاعَة.
قَالَ أَحْمَد: رَوَى عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد أَحَادِيثَ حِسَانًا، وَرَوَى اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ وَمُعَاوِيَة اِبْن أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن مَعِين ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ هُوَ بِدُونِ أَبِي الزُّبَيْر وَلَا يُحْتَجّ بِهِ وَقَالَ أَبُو زُرْعَة لَا بَأْس بِهِ. وَرَوَى النَّضْر بْن شُمَيْلٍ عَنْ اِبْن عَوْن قَالَ: إِنَّ شَهْرًا تَرَكُوهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَابْن عَدِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ الدُّولَابِيّ: شَهْر لَا يُشْبِه حَدِيثه حَدِيث النَّاس. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: كَانَ يَحْيَى بْن سَعِيد لَا يُحَدِّث عَنْ شَهْر وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَن يُحَدِّث عَنْهُ وَقَالَ اِبْن عَوْن لِمُعَاذِ بْن مُعَاذ: إِنَّ شُعْبَة قَدْ تَرَكَ شَهْرًا. وَقَالَ عَلِيّ بْن حَفْص الْمَدَايِنِيّ: سَأَلْت شُعْبَة عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام فَقَالَ صَدُوق إِلَّا أَنَّهُ يُحَدِّث عَنْ شَهْر. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: قَالَ مُحَمَّد وَهُوَ الْبُخَارِيّ: شَهْر حَسَن الْحَدِيث وَقَوِيٌّ أَمْرُهُ. وَقَالَ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الْعِجْلِيُّ ثِقَة شَامِيّ. وَرَوَى عَبَّاس عَنْ يَحْيَى ثَبْت. وَقَالَ يَعْقُوب بْن شَيْبَة شَهْر ثِقَة طَعَنَ فِيهِ بَعْضهمْ. وَقَالَ اِبْن عَدِيّ: شَهْر مِمَّنْ لَا يُحْتَجّ بِهِ. قَالَ الذَّهَبِيّ: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الِاحْتِجَاج بِهِ جَمَاعَة، فَقَالَ حَرْب الْكَرْمَانِيُّ عَنْ أَحْمَد مَا أَحْسَنَ حَدِيثَهُ وَوَثَّقَهُ وَهُوَ حِمْصِيّ. وَرَوَى حَنْبَل عَنْ أَحْمَد لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ النِّسْوِيّ: شَهْر وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ اِبْن عَوْن فَهُوَ ثِقَة.
وَقَالَ صَالِح جَزَرَة قَدِمَ عَلَى الْحِجَاز فَحَدَّثَ بِالْعِرَاقِ وَلَمْ يُوقَف مِنْهُ عَلَى كَذِب وَكَانَ رَجُلًا مُنْسِكًا، وَتَفَرَّدَ ثَابِت عَنْهُ عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كُلّ مُسْكِر وَمُفَتِّر. اِنْتَهَى كَلَام الذَّهَبِيّ مُلَخَّصًا.
ثُمَّ اِعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمُبَاشَرَة بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْكِرَة الْمُحَرَّمَة بِأَيِّ وَجْه كَانَ لَمْ يُرَخِّصهَا الشَّارِع بَلْ نَهَى عَنْهَا أَشَدّ النَّهْي.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَاب السُّنَن عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:
" كُلّ مُسْكِر خَمْر وَكُلّ مُسْكِر حَرَام " وهو صحيح مشهور. =(1/384)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَعَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: " لَعَنَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَمْر عَشَرَة: " عَاصِرهَا وَمُعْتَصِرهَا وَشَارِبهَا وَحَامِلهَا وَالْمَحْمُولَة إِلَيْهِ وَسَاقِيهَا وَبَائِعهَا وَآكِل ثَمَنهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاة لَهُ " رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، وَقَالَ حَدِيث غَرِيب، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيب: وَرُوَاته ثِقَات.
وَعَنْ اِبْن عُمَر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " لَعَنَ اللَّه الْخَمْر وَشَارِبهَا وَسَاقِيهَا وَمُبْتَاعهَا وَبَائِعهَا وَعَاصِرهَا وَمُعْتَصِرهَا وَحَامِلهَا وَالْمَحْمُولَة إِلَيْهِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظ لَهُ، وَابْن مَاجَهْ وَزَادَ " وَآكِل ثَمَنهَا ".
فَإِنْ كَانَ فِي الْعَنْبَر وَالْمِسْك وَالزَّعْفَرَان وَالْعُود سُكْر لَزَجَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اِسْتِعْمَالهَا وَمُبَاشَرَتهَا بِجَمِيعِ الْوُجُوه كُلّهَا كَمَا فَعَلَ بِالْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَة، لَكِنْ لَمْ يَثْبُت قَطّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ اِسْتِعْمَال الزَّعْفَرَان وَالْعَنْبَر وَالْمِسْك وَالْعُود لِأَجْلِ سُكْرهَا بَلْ كَانَ وُجُودهَا زَمَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَعْمَلَهَا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ الصَّحَابَة فِي حَضْرَته وَكَذَا بَعْده.
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ اِبْن عُمَر " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَس النِّعَال السِّبْتِيَّة وَيُصَفِّر لِحْيَته بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَان وَكَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَل ذَلِكَ " وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْد اللَّه بْن زَيْد عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ يَصْبُغ ثِيَابه بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ كَانَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ ".
وَأَخْرَجَ مَالِك عَنْ نَافِع " أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَلْبَس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بِالْمِشْقِ وَالْمَصْبُوغ بِالزَّعْفَرَانِ ".
وَفِي الْمُوَطَّأ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ قَالَ " بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق قَالَ لِعَائِشَة وَهُوَ مَرِيض فِي كَمْ كُفِّنَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَتْ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب بِيض سَحُولِيَّة، فَقَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق خُذُوا هَذَا الثَّوْب لِثَوْبٍ عَلَيْهِ قَدْ أَصَابَهُ مِشْق أَوْ زَعْفَرَان فَاغْسِلُوهُ ثُمَّ كَفِّنُونِي فِيهِ مَعَ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ " الْحَدِيث.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَاب السُّنَن عَنْ أَنَس قَالَ " نَهَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَزَعْفَر الرَّجُل " قَالَ الزُّرْقَانِيّ: وَفِي أَنَّ النَّهْي لِلَوْنِهِ أَوْ لِرَائِحَتِهِ تَرَدُّد لِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ، وَفِعْله لِبَيَانِ الْجَوَاز أَوْ النَّهْي مَحْمُول عَلَى تَزَعْفُر الْجَسَد لَا الثَّوْب أَوْ عَلَى الْمُحْرِم بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ لِأَنَّهُ مِنْ الطِّيب وَقَدْ نُهِيَ الْمُحْرِم عَنْهُ اِنْتَهَى.
وَفِي الْمِرْقَاة أَيْ نَهَى أَنْ يُسْتَعْمَل الزَّعْفَرَان فِي ثَوْبه وَبَدَنه لِأَنَّهُ عَادَة النِّسَاء اِنْتَهَى وَيَجِيء تَحْقِيقه فِي كِتَاب اللِّبَاس.
وَفِي شَرْح الْمُوَطَّأ قَالَ مَالِك: لَا بَأْس بِالْمُزَعْفَرِ لِغَيْرِ الْإِحْرَام وَكُنْت أَلْبَسهُ اِنْتَهَى. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن عَطَاء الْهَاشِمِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ قَالَ " سَأَلْت عَائِشَة أَكَانَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَتَطَيَّب؟ قَالَتْ نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيب وَالْمِسْك وَالْعَنْبَر ".
وَعَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل اِتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَب وَحَشَتْهُ مِسْكًا قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هُوَ أَطْيَبُ الطِّيب " وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِع قَالَ " كَانَ اِبْن عُمَر إِذَا اِسْتَجْمَرَ اِسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ غَيْر مُطَرَّاة وَبِكَافُورٍ يَطْرَحهُ مَعَ الْأَلُوَّة ثُمَّ قَالَ هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِر رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وانظر الإنصاف - (ج 15 / ص 438) وفتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 57) وعون المعبود - (ج 8 / ص 186) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 11 / ص 360) وجامع العلوم والحكم - (ج 46 / ص 11) ومجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 442) وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 206) وفتاوى الرملي - (ج 5 / ص 231) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 9 / ص 320 - 338) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص 71) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 12 / ص 96 - 105) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5525) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 13 / ص 38) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4180) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3620) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4409) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 1729) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 819) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 22 / ص 182) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3039) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3782 - 3786) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 444 - 450) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 7 / ص 440) وسبل السلام - (ج 6 / ص 94) والروضة الندية - (ج 1 / ص 25) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 23) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 20) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 195) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 7 / ص 83 - 88) وفقه السنة - (ج 2 / ص 386 - 389) ومجلة المنار - (ج 35 / ص 550) وتكملة حاشية رد المحتار - (ج 1 / ص 14) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 15 / ص 31) ورد المحتار - (ج 7 / ص 450) ورد المحتار - (ج 10 / ص 471) =(1/385)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ورد المحتار - (ج 27 / ص 211) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 1 / ص 293) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 1 / ص 373) والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 8 / ص 117) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 120) وأسنى المطالب - (ج 11 / ص 210) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 147) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 13 / ص 201) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 21 / ص 179) والمبدع شرح المقنع - (ج 9 / ص 352) وشرح زاد المستقنع - (ج 380 / ص 9) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 1 / ص 306) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 1 / ص 308) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 2 / ص 354 - 359) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 314) والكبائر - (ج 1 / ص 30) والزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 2 / ص 57 - 66) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 4 / ص 445) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 399) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 668) وبدائع السلك في طبائع الملك - (ج 1 / ص 144) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 131) ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - (ج 2 / ص 391)
(4) - وفي الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3782)
1 - الخدر - بالتّحريك - استرخاء يغشى بعض الأعضاء أو الجسد كلّه.
والخدر: الكسل والفتور.
وخدّر العضو تخديراً: جعله خدراً، وحقنه بمخدّر لإزالة إحساسه.
ويقال: خدّره الشّراب وخدّره المرض.
والمخدّر: مادّة تسبّب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة، كالبنج والحشيش والأفيون، والجمع مخدّرات، وهي محدثة.
ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّخدير عن المعنى اللّغويّ.
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - التّفتير»
2 - فتر عن العمل فتوراً: انكسرت حدّته ولان بعد شدّته، ومنه: فتر الحرّ إذا انكسر، فيكون التّفتير تكسيراً للحدة، وتلييناً بعد الشّدّة.
وعلى هذا فالتّفتير أعمّ من التّخدير، إذ التّخدير نوع من التّفتير.
«ب - الإغماء»
3 - أغمي عليه: عرض له ما أفقده الحسّ والحركة.
والإغماء: فتور غير أصليّ يزيل عمل القوى لا بمخدّر.
فالتّخدير مباين للإغماء.
«ج - الإسكار»
4 - أسكره الشّراب أزال عقله، فالإسكار: إزالة الشّراب للعقل دون الحسّ والحركة، فيكون التّخدير أعمّ من الإسكار.
وهناك ألفاظ أخرى لها صلة بالتّخدير كالمفسد والمرقِّد.
قال الحطّاب: فائدة تنفع الفقيه، يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد، فالمسكر: ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوة وفرح، والمفسد: ما غيّب العقل دون الحواسّ لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر، والمرقد: ما غيّب العقل والحواسّ كالسيكران.
الحكم التّكليفيّ
5 - المخدّرات أنواع متعدّدة تختلف لاختلاف أصولها المستخرجة منها.
وتناول المخدّرات كالحشيشة والأفيون والقاتّ والكوكايين والبنج والكفتة وجوزة الطّيب والبرش وغيرها بالمضغ أو التّدخين أو غيرهما ينتج عنه تغييب العقل، وقد يؤدّي إلى الإدمان، ممّا يسبّب تدهوراً في عقليّة المدمنين وصحّتهم، وتغيّر الحال المعتدلة في الخلق والخلق.
قال ابن تيميّة: كلّ ما يغيّب العقل فإنّه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإنّ تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، أي إلاّ لغرض معتبر شرعاً.
6 - وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدّرات الّتي تغشى العقل، ولو كانت لا تحدث الشّدّة المطربة الّتي لا ينفكّ عنها المسكر المائع. =(1/386)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وكما أنّ ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات، كذلك يحرم مطلقاً ما يخدّر من الأشياء الجامدة المضرّة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد.
وذلك إذا تناول قدراً مضرّاً منها.
دون ما يؤخذ منها من أجل المداواة، لأنّ حرمتها ليست لعينها، بل لضررها.
7 - وعلى هذا يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التّداوي، لأنّ ذلك كلّه مفسد للعقل، فيحدث لمتناوله فساداً، ويصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة.
لكن تحريم ذلك ليس لعينه بل لنتائجه.
8 - ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطّيب، فإنّها مخدّرة، لكن حرمتها دون حرمة الحشيشة.
9 - وذهب الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازيّ الشّافعيّ إلى تحريم القاتّ في مؤلّفه في تحريم القاتّ.
حيث يقول: إنّي رأيت من أكلها الضّرر في بدني وديني فتركت لها، فقد ذكر العلماء: أنّ المضرّات من أشهر المحرّمات، فمن ضررها أنّ آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثمّ يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق.
وكذلك ذهب الفقيه حمزة النّاشريّ إلى تحريمه واحتجّ بحديث أمّ سلمة رضي الله عنها «أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كلّ مسكر ومفتر».
«أدلّة تحريم المخدّرات»
10 - الأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلّ مسكر ومفتر».
قال العلماء: المفتر: كلّ ما يورث الفتور والخدر في الأطراف.
قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه، فإنّها تسكر وتخدّر وتفتر.
وحكى القرافيّ وابن تيميّة الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ابن تيميّة: ومن استحلّها فقد كفر، وإنّما لم تتكلّم فيها الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم، لأنّها لم تكن في زمنهم، وإنّما ظهرت في آخر المائة السّادسة وأوّل المائة السّابعة حين ظهرت دولة التّتار.
«طهارة المخدّرات ونجاستها»
11 - المخدّرات الجامدة كلّها عند جمهور الفقهاء طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها، ولا تصير نجسةً بمجرّد إذابتها في الماء ولو قصد شربها، لأنّ الحكم الفقهيّ أنّ نجاسة المسكرات مخصوصة بالمائعات منها، وهي الخمر الّتي سمّيت رجساً في القرآن الكريم، وما يلحق بها من سائر المسكرات المائعة.
بل قد حكى ابن دقيق العيد الإجماع على طهارة المخدّرات.
على أنّ بعض الحنابلة رجّح الحكم بنجاسة هذه المخدّرات الجامدة.
وتفصيل ذلك في موضوع النّجاسات.
«علاج مدمني المخدّرات»
12 - سئل ابن حجر المكّيّ الشّافعيّ عمّن ابتلي بأكل الأفيون والحشيش ونحوهما، وصار إن لم يأكل منه هلك.
فأجاب: إن علم أنّه يهلك قطعاً حلّ له، بل وجب، لاضطراره إلى إبقاء روحه، كالميتة للمضطرّ، ويجب عليه التّدرّج في تقليل الكميّة الّتي يتناولها شيئاً فشيئاً، حتّى يزول تولّع المعدة به من غير أن تشعر، قال الرّمليّ من الحنفيّة: وقواعدنا لا تخالفه في ذلك. «بيع المخدّرات وضمان إتلافها»
13 - لمّا كانت المخدّرات طاهرةً - كما سبق تفصيل ذلك - وأنّها قد تنفع في التّداوي بها جاز بيعها للتّداوي عند جمهور الفقهاء، وضمن متلفها، واستثنى بعض الفقهاء الحشيشة، فقالوا بحرمة بيعها كابن نجيم الحنفيّ، وذلك لقيام المعصية بذاتها، وذكر ابن الشّحنة أنّه يعاقب بائعها، وصحّح ابن تيميّة نجاستها وأنّها كالخمر، وبيع الخمر لا يصحّ فكذا الحشيشة عند الحنابلة، وذهب بعض المالكيّة إلى ما ذهب إليه ابن تيميّة.
أمّا إذا كان بيعها لا لغرض شرعيّ كالتّداوي، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى تحريم بيع المخدّرات لمن يعلم أو يظنّ تناوله لها على الوجه المحرّم، ولا يضمن متلفها، خلافاً للشّيخ أبي حامد - أي الإسفرايينيّ - ويفهم من كلام ابن عابدين في حاشيته أنّ البيع مكروه ويضمن متلفها.
«تصرّفات متناول المخدّرات»
14 - إنّ متناول القدر المزيل للعقل من المخدّرات، إمّا أن يكون للتّداوي أو لا، فإن كان للتّداوي فإنّ تصرّفاته لا تصحّ عند جماهير الفقهاء.
أمّا إذا كان زوال العقل بتناول المخدّرات لا للتّداوي، فإنّ الفقهاء مختلفون فيما يصحّ من تصرّفاته وما لا يصحّ.
فذهب الحنفيّة إلى أنّ تصرّفاته صحيحة إذا استعمل الأفيون للهو، لكونه معصيةً، واستثنى الحنفيّة الرّدّة والإقرار بالحدود والإشهاد على شهادة نفسه فإنّها لا تصحّ، ومحلّ ذلك إذا كان لا يعرف الأرض من السّماء، أمّا إذا كان يعرف ذلك فهو كالصّاحي، فكفره صحيح، وكذلك طلاقه وعتاقه وخلعه.
قال ابن عابدين في الحشيشة والسّكر بها: فلمّا ظهر من أمرها - أي الحشيشة - من الفساد كثير وفشا، عاد مشايخ المذهبين - الحنفيّة والشّافعيّة - إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطّلاق بها.
وزاد بعض الحنفيّة على ما تقدّم أنّ زوال العقل إذا كان بالبنج والأفيون، وكان للتّداوي - أي على سبيل الجواز - أنّ الطّلاق يقع زجراً وعليه الفتوى.
وذهب المالكيّة إلى صحّة طلاقه وعتقه وتلزمه الحدود والجنايات على نفس ومال، بخلاف عقوده من بيع وشراء وإجارة ونكاح وإقرارات فلا تصحّ ولا تلزم على المشهور.
وذهب الشّافعيّة إلى صحّة جميع تصرّفاته، لعصيانه بسبب زوال عقله، فجعل كأنّه لم يزل.
والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّ تناول البنج ونحوه لغير حاجة - إذا زال العقل به كالمجنون - لا يقع طلاق من تناوله، لأنّه لا لذّة فيه، وفرّق الإمام أحمد بينه وبين السّكران فألحقه بالمجنون، وقدّمه في «النّظم» «والفروع» وهو الظّاهر من كلام الخرقيّ فإنّه قال: وطلاق الزّائل العقل بلا سكر لا يقع.
قال الزّركشيّ - من الحنابلة - وممّا يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة، وأبو العبّاس ابن تيميّة يرى أنّ حكمها حكم الشّراب المسكر حتّى في إيجاب الحدّ، وهو الصّحيح إن أسكرت، أو أسكر كثيرها وإلاّ حرمت، وعزّر فقط فيها.
«عقوبة متناول المخدّرات»
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ متناول المخدّرات للتّداوي ولو زال عقله لا عقوبة عليه، من حدّ أو تعزير.
أمّا إذا تناول القدر المزيل للعقل بدون عذر فإنّه لا حدّ عليه أيضاً عند جماهير العلماء - إلاّ ما ذهب إليه ابن تيميّة في إيجاب الحدّ على من سكر من الحشيشة، مفرّقاً بينها وبين سائر المخدّرات.
بأنّ الحشيشة تشتهى وتطلب بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النّفس.
واتّفق الفقهاء أيضاً على تعزير متناول المخدّرات بدون عذر، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأفيون وغيره إذا أذيب واشتدّ وقذف بالزّبد، فإنّه يلحق بالخمر في النّجاسة والحدّ، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك، بل أولى.
وقيّد الشّافعيّة عقوبة متناول المخدّرات بما إذا لم يصل إلى حالة تلجئه إلى ذلك كما سبق، فإن وصل إلى تلك الحالة لا يعزّر، بل يجب عليه الإقلاع عنه إمّا باستعمال ضدّه أو تقليله تدريجيّاً.(1/387)
وَأَمَّا التَّغْرِيمُ: فَمِثْلُ مَا رَوَى أَبُو داود وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» (1).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (1712 و4392) والترمذي برقم (1336) والنسائي برقم (4975) صحيح
الميتاء: الطريق المسلوكة التى يأتيها الناس = الجرين: موضع تجفيف التمر
المجن: الترس =الخبنة: طرف الثوب والمراد لا يأخذ فى ثوبه
وفي عون المعبود - (ج 4 / ص 115) 1455 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(الثَّمَر الْمُعَلَّق): الْمُرَاد بِالثَّمَرِ الْمُعَلَّق مَا كَانَ مُعَلَّقًا فِي النَّخْل قَبْل أَنْ يُجَذّ وَيُجْرَنَ وَالثَّمَر اِسْم جَامِع لِلرَّطْبِ وَالْيَابِس مِنْ التَّمْر وَالْعِنَب وَغَيْرهمَا
(مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ): فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْذ الْمُحْتَاج بِفِيهِ لِسَدِّ فَاقَته فَإِنَّهُ مُبَاح لَهُ
(غَيْر مُتَّخِذ خُبْنَة): بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمُوَحَّدَة فَنُون وَهُوَ مِعْطَف الْإِزَار وَطَرْف الثَّوْب أَيْ لَا يَأْخُذ مِنْهُ فِي ثَوْبه، يُقَال أَخْبَنَ الرَّجُل إِذَا خَبَّأَ شَيْئًا فِي خُبْنَة ثَوْبه أَوْ سَرَاوِيله اِنْتَهَى مَا فِي النِّهَايَة.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْخُبْنَة مَا يَأْخُذهُ الرَّجُل فِي ثَوْبه فَيَرْفَعهُ إِلَى فَوْقُ. وَيُقَال لِلرَّجُلِ إِذَا رَفَعَ ذَيْله فِي الْمَشْي قَدْ رَفَعَ خُبْنَته اِنْتَهَى
(وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ): مِنْ الثَّمَر وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْرُم عَلَيْهِ الْخُرُوج بِشَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون قَبْل أَنْ يُجَذّ وَيَأْوِيه الْجَرِين أَوْ بَعْده فَإِنْ كَانَ قَبْل الْجَذّ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَة وَالْعُقُوبَة، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْقَطْع وَإِيوَاء الْجَرِين لَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْع مَعَ بُلُوغ الْمَأْخُوذ لِلنَّصَّابِ لِقَوْلِهِ فَبَلَغَ ثَمَن الْمِجَنّ، وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ الْجَرِين حِرْز كَمَا هُوَ الْغَالِب، إِذْ لَا قَطْع إِلَّا مِنْ حِرْز كَذَا فِي السُّبُل
(فَعَلَيْهِ غَرَامَة مِثْلَيْهِ): بِالتَّثْنِيَةِ
(وَالْعُقُوبَة): بِالرَّفْعِ أَيْ التَّغْرِير، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ بِأَنَّ الْعُقُوبَة جَلَدَات نَكَال. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز الْعُقُوبَة بِالْمَالِ، فَإِنَّ غَرَامَة مِثْلَيْهِ مِنْ الْعُقُوبَة بِالْمَالِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ لَا يُضَاعَف الْغَرَامَة عَلَى أَحَد فِي شَيْء إِنَّمَا الْعُقُوبَة فِي الْأَبَدَانِ لَا فِي الْأَمْوَال، وَقَالَ هَذَا مَنْسُوخ وَالنَّاسِخ لَهُ قَضَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْل الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ مَا أَتْلَفَتْ فَهُوَ ضَامِن أَيْ مَضْمُون عَلَى أَهْلهَا، قَالَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُونَهُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِه أَنْ يَكُون هَذَا عَلَى سَبِيل التَّوَعُّد فَيَنْتَهِي فَاعِل ذَلِكَ عَنْهُ وَالْأَصْل أَنْ لَا وَاجِب عَلَى مُتْلِف الشَّيْء أَكْثَر مِنْ مِثْله. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام يَقَع بَعْض الْعُقُوبَات عَلَى الْأَفْعَال ثُمَّ نُسِخَ وَإِنَّمَا أُسْقِط الْقَطْع عَمَّنْ سَرَقَ الثَّمَر الْمُعَلَّق لِأَنَّ حَوَائِط الْمَدِينَة لَيْسَ عَلَيْهَا حِيطَان وَلَيْسَ سُقُوطُهَا عَنْهُ مِنْ أَجْل أَنْ لَا قَطْع فِي غَيْر الثَّمَرَة فَإِنَّهُ مَال كَسَائِرِ الْأَمْوَال اِنْتَهَى(1/388)
وَفِيمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْوَى إلَى الْمَرَاحِ: أَنَّ عَلَيْهِ جَلَدَاتُ نَكَالٍ وَغُرْمُهُ مَرَّتَيْنِ ... (1).
__________
(1) - أخرج في موطأ مالك 832/ 2 برقم (1525) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 8 / ص 266) برقم (17684) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى حُسَيْنٍ الْمَكِّىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ قَطْعَ فِى ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِى حَرِيسَةِ جَبَلٍ» فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. وروي من طرق موصولا قهو صحيح لغيره
الجرين: موضع تجفيف التمر = الحريسة: التى يدركها الليل قبل أن تصل إلى مراحها = المراح: المكان الذى تأوى إليه
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 167)
1310 - (ش): قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ مُعَلَّقٍ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الثَّمَرَ فِي أَشْجَارِهَا إِذَا كَانَ فِي الْحَوَائِطِ وَشِبْهِهَا، وَأَمَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ ثَمَرِ نَخْلَةٍ فِي دَارِ رَجُلٍ قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ يُقْطَعُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ رُبْعَ دِينَارٍ قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَوَائِطِ وَالْبَسَاتِينِ لَمْ يُقْطَعْ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبُسْتَانَ لَيْسَ بِمَسْكَنٍ وَلَا حِرْزًا لِلنَّخْلِ وَلَا مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا اتِّصَالَ خِلْقَةٍ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي الزَّرْعِ الْقَائِمِ لَا قَطْعَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ النَّخْلَةُ فِي الدَّارِ فَالدَّارُ مَسْكَنٌ وَحِرْزٌ لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَجَرَةٍ أَوْ ثَمَرِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا إِذَا جُدَّ التَّمْرُ وَوُضِعَ فِي وُصَلِ النَّخْلَةِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ يُقْطَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ حَارِسٍ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ يُحْصَدُ فَيَجْمَعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحَائِطِ لِيُحْمَلَ إِلَى الْجَرِينِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي زَرْعِ مِصْرَ يُحْصَدُ وَيُتْرَكُ فِي مَوْضِعِهِ أَيَّامًا يَيْبَسُ لَيْسَ هَذَا جَرِينًا، وَمَا هُوَ عِنْدِي بِالْبَيِّنِ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيْنَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقْطَعُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ يُحْرَزُ فِيهِ فَإِنْ وَضَعَهُ لِيُحْمَلَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِحِرْزٍ لَهُ كَالْمَاشِيَةِ فِي الْمَرْعَى لَيْسَ الْمَرْعَى حِرْزًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْقَلُ مِنْهُ إِلَى حِرْزِهَا وَهُوَ الْمَرَاحُ وَالْمَبِيتُ.
(مَسْأَلَةٌ) وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَقْثَأَةِ حَتَّى تُجْمَعَ فِي الْجَرِينِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ لَيُحْمَلَ إِلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ لِلنَّقْلِ إِلَى الْحِرْزِ وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَيُقْطَعُ فِي الْبَقْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا إِذَا حُصِدَ وَحُرِزَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ إِلَى مَوْضِعٍ يُجْمَعُ فِيهِ، وَلَوْ نُقِلَ إِلَى الْمَوْضِعِ يُجْمَعُ فِيهِ لِلْبَيْعِ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَقْثَأَةِ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْمَاشِيَةَ الَّتِي تَحْرُسُ فِي الْجَبَلِ رَاعِيَةً، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: حَرِيسَةُ الْجَبَلِ كُلُّ شَيْءٍ يَسْرَحُ لِلْمَرْعَى مِنْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّوَابِّ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُنَا عِنْدَهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضِعُ مَشْيِهَا وَرَعْيِهَا وَالْمَوْضِعُ مُشْتَرَكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا إِذَا أَوَى الْمَاشِيَةَ الْمَرَاحُ فَفِيهَا الْقَطْعُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ دُورٍ وَلَا تَحْظِيرٍ وَلَا غَلْقٍ وَأَهْلُهَا فِي مُدُنِهِمْ، قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّاعِي يَبْعُدُ بِغَنَمِهِ فَيُدْرِكُهُ اللَّيْلُ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَرَاحًا فَيَجْمَعُهَا، ثُمَّ يَبِيتُ فَيُسْرَقُ مِنْهَا قَالَ يُقْطَعُ السَّارِقُ وَهُوَ كَمَرَاحِهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَوْضِعَ حِرْزًا لَهَا وَمُسْتَقَرًّا فِي مَبِيتِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) وَإِذَا جَمَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ فَسَاقَهَا إِلَى الْمَرَاحِ فَسُرِقَ مِنْهَا فِي طَرِيقِهَا عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ فِي الَّذِي يَسُوقُ غَنَمَهُ مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى سَرْحِهَا فَسَرَقَ مِنْهَا أَحَدٌ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّهَا مِنْ مَسْرَحِهَا إِلَى مَرَاحِهَا فَسُرِقَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ الْقَرْيَةَ فَفِيهَا الْقَطْعُ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ الْمَرَاحَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الْقَرْيَةِ فَهِيَ بَعْدُ مُجْتَمِعَةٌ غَيْرُ سَارِحَةٍ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ أَخَذَتْ فِي السَّرْحِ فَكَانَ لَهَا حُكْمُ السَّارِحَةِ فِي الْجَبَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ فَجَمَعَهَا وَسَاقَهَا لِلْمَرَاحِ أَنَّهُ أَدْخَلَهَا بُيُوتَ الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْمَعُهَا غَالِبًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ فَإِذَا أَوَى إِلَى الْمَرَاحِ وَالْجَرِينِ فَالْقَطْعُ يُرِيدُ إِذَا أَوَى إِلَى الْمَرَاحِ الْمَاشِيَةَ وَالْجَرِينِ التَّمْرَ فَعَلَّقَ بِهَا الْقَطْعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزٌ وَمُسْتَقَرٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَوْلُهُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4450) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 19 / ص 211) والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 7 / ص 492) ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 11 / ص 221) وموطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 2 / ص 364) وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 7 / ص 422) والروضة الندية - (ج 2 / ص 61) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 72) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 15 / ص 180) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 12 / ص 231) والمدونة - (ج 15 / ص 423) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 759) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 11 / ص 41) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 99)(1/389)
وَكَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ أَنَّهُ يُضَعَّفُ غُرْمُهَا (1) وَبِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ مِثْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَأَضْعَفَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ الْغُرْمَ فِي نَاقَةِ أَعْرَابِيٍّ أَخَذَهَا مَمَالِيكُ جِيَاعٌ فَأَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَيِّدِهِمْ وَدَرَأَ عَنْهُمْ الْقَطْعَ (2).
__________
(1) - أخرج عبد الرزاق برقم (16703) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُمَا يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ مِنَ الْإِبِلِ فَدِيَتُهَا مِثْلُهَا إِنْ أَدَّاهَا بَعْدَمَا يَكْتُمُهَا أَوْ وُجِدَتْ عِنْدَهُ، فَعَلَيْهِ قَرِينَتُهَا مِثْلُهَا " حديث حسن مرسل
وفي الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 10074)
3 - الضّوالّ الّتي تمتنع من صغار السّباع لقوّتها وكبر جثّتها - كالإبل والبقر والخيل والبغال - أو تمتنع لسرعة عدوها كالظّباء أو تمتنع لطيرانها، هذه الضّوالّ إن كانت في الصّحراء فإنّه يحرم أخذها للتّملّك، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة، وذلك لحديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله تعالى عنه: «سئل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ضالّة الإبل فقال: مالك ولها، دعها، فإنّ معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يجدها ربّها».
إلاّ أنّه يجوز لوليّ الأمر أخذها على وجه الحفظ لربّها، لا على أنّها لقطة، فإنّ عمر رضي الله تعالى عنه حمى موضعاً يقال له: النّقيع لخيل المجاهدين والضّوالّ، ولأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب، وفي أخذ الضّوالّ حفظ لها عن الهلاك، ولا يلزم الإمام تعريفها، لأنّ عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يعرّف الضّوالّ، ومن كانت له ضالّة فإنّه يجيء إلى موضع الضّوالّ، فإذا عرف ضالّته أقام البيّنة وأخذها، لكن قال السّبكيّ من الشّافعيّة: إن لم يخش على الضّالّة الضّياع فلا يتعرّض لها وليّ الأمر، بل جزم الأذرعيّ بتركها عند اكتفائها بالرّعي والأمن عليها. =(1/390)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= كما أجاز الشّافعيّة في الأصحّ لغير وليّ الأمر أخذها للحفظ لربّها إذا خشى عليها من أخذ خائن، فإذا أمن عليها امتنع أخذها قطعاً، فإذا أخذها ضمنها لربّها، ولا يبرأ إلاّ بردّها للحاكم، لكن هذا إذا لم يعرف صاحبها، وإلاّ جاز له أخذها، وتكون أمانةً في يده.
أمّا زمن النّهب والفساد فيجوز التقاطها للتّملّك في الصّحراء وغيرها.
ويضمن كذلك - عند الحنابلة - من أخذ ما حرّم التقاطه من الضّوالّ إن تلف أو نقص، لعدم إذن الشّارع فيه، فإن كتمه عن ربّه ثمّ ثبت بإقرار أو بيّنة فتلف فعليه قيمته مرّتين لربّه نصّاً، لحديث: «وفي الضّالّة المكتومة غرامتها ومثلها معها» وهذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يردّ.
ويزول الضّمان بردّ الضّالّة إلى ربّها إن وجده، أو دفعها إلى الإمام إن لم يجد ربّها، أو ردّها إلى مكانها إن أمره الإمام بذلك.
هذا بالنّسبة للضّوالّ الّتي بالصّحراء والممتنعة من صغار السّباع، أمّا إن وجدت بقرية: فعند الشّافعيّة في الأصحّ يجوز التقاطها للتّملّك، لأنّ في العمران يضيع بامتداد اليد الخائنة إليه، بخلاف المفازة فإنّ طروقها لا يعمّ، ومقابل الأصحّ: المنع لإطلاق الحديث، ولم يفرّق الحنابلة في الحكم بين الصّحراء وغيرها.
4 - أمّا الضّوالّ الّتي لا تمتنع من صغار السّباع - كالشّاة والفصيل - فإنّه يجوز التقاطها، سواء كانت في الصّحراء أو في العمران، وذلك صوناً لها عن الخونة والسّباع، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة، قال ابن قدامة: إذا وجد الشّاة بمصر أو بمهلكة فإنّه يباح أخذها والتقاطها، هذا الصّحيح من مذهب أحمد، وقول أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنّ ضالّة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها، وكذلك الحكم في كلّ ما لا يمتنع من صغار السّباع، كفصلان الإبل وعجول البقر وأفلاء الخيل، والدّجاج والإوزّ ونحوها يجوز التقاطه، لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سئل عن الشّاة: «خذها فإنّما هي لك، أو لأخيك أو للذّئب» ولأنّه يخشى عليه التّلف والضّياع فأشبه لقطة غير الحيوان، ولا فرق بين أن يجدها في مصر أو مهلكة، لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «خذها» ولم يفرّق ولم يستفصل، ولو افترق الحال لسأل واستفصل، ولأنّها لقطة فاستوى فيها المصر والصّحراء، كسائر اللّقطات.
وروي عن الإمام أحمد رواية أخرى: أنّه لا يجوز لغير الإمام التقاطها، وقال اللّيث بن سعد: لا أحبّ أن يقربها إلاّ أن يحرزها لصاحبها لأنّه حيوان أشبه الإبل، إلاّ أنّ جواز الأخذ مقيّد عند الحنابلة بما إذا أمن نفسه على اللّقطة، وقوي على تعريفها، أمّا من لم يأمن نفسه عليها فلا يجوز له أخذها.
ويتخيّر أخذ هذا النّوع بين ثلاث خصال:
أ - أن يحفظه لربّه، ويعرّفه وينفق عليه مدّة التّعريف، ويتملّكه بعد التّعريف إن لم يجد ربّه.
ب - أن يبيعه ويحفظ الثّمن لربّه، ثمّ يعرّف الضّالّة الّتي باعها، ويتملّك الثّمن إن لم يجد ربّ الضّالّة.
ج - أن يأكله ويغرم قيمته إن ظهر مالكه، لحديث: «هي لك أو لأخيك أو للذّئب».
لكن التّخيير بين هذه الخصال إنّما هو بالنّسبة للضّوالّ الّتي أخذت من الصّحراء، فإن أخذت من العمران فالتّخيير بين الخصلتين الأوليين، أي: الحفظ أو البيع، وليس له الأكل في الأظهر.
ومقابل الأظهر: له الأكل وهذا عند الشّافعيّة.
5 - وذهب الحنفيّة إلى أنّه يندب التقاط البهيمة الضّالّة للحفظ لربّها، لأنّها لقطة يتوهّم ضياعها، فيستحبّ أخذها وتعريفها صيانةً لأموال النّاس، كالشّاة، وأمّا قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ضالّة الإبل: «مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يلقاها ربّها» فقد قال السّرخسيّ في المبسوط: إنّ ذلك كان إذ ذاك لغلبة أهل الصّلاح والأمانة لا تصل إليها يد خائنة، فإذا تركها وجدها، وأمّا في زماننا فلا يأمن وصول يد خائنة إليها بعده، ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى، فإن غلب على ظنّه ضياعها وجب التقاطها، وهذا حقّ، للقطع بأنّ مقصود الشّارع وصولها إلى ربّها وأنّ ذلك طريق الوصول، لأنّ الزّمان إذا تغيّر وصار طريق التّلف تغيّر الحكم بلا شكّ، وهو الالتقاط للحفظ.
ويؤيّد هذا ما روي عن عياض بن حمار رضي الله عنه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال في اللّقطة: «فإن وجد صاحبها فليردّها عليه، وإلاّ فهو مال الله عزّ وجلّ يؤتيه من يشاء».
ولم يفرّق الحنفيّة بين الشّاة وغيرها في الحكم، كما أنّهم لم يفرّقوا بين الصّحراء والعمران.
6 - وللمالكيّة تفصيل يختلف عن المذاهب الأخرى، وذلك على النّحو التّالي:
أوّلاً: الضّالّة إذا كانت في الصّحراء: =(1/391)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أ - ضالّة الإبل في الصّحراء لا يجوز أخذها، ولو كانت في موضع يخاف عليها من السّباع أو الجوع أو العطش، لحديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «دعها فإنّ معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشّجر» فإن تعدّى وأخذها فإنّه يعرّفها سنةً ثمّ يتركها بمحلّها، لكن إذا خاف عليها من خائن وجب التقاطها وتعريفها.
ب - ضالّة البقر في الصّحراء إذا كان لا يخشى عليها من السّباع أو الجوع أو العطش أو السّارق فإنّها تترك، ولا يجوز أخذها.
وإن كان يخشى عليها من السّارق فقط وجب التقاطها، وإن كان يخشى عليها من السّباع أو الجوع أو العطش فإنّه يأخذها، فإن أمكن سوقها للعمران وجب سوقها، وإن لم يمكن سوقها للعمران جاز له ذبحها وأكلها، ولا ضمان عليه.
فالإبل والبقر عند خوف السّارق سيّان في وجوب الالتقاط، أمّا عند الخوف من الجوع أو السّباع فإنّ الإبل تترك، والبقر يجوز أكلها بالصّحراء إن تعذّر سوقها للعمران.
ج - الشّاة يجوز أخذها وأكلها بالصّحراء إذا لم يتيسّر حملها أو سوقها للعمران على المعتمد، وقيل بجواز أكلها في الصّحراء ولو من تيسّر سوقها للعمران، وهو ظاهر المدوّنة.
وإن أتى بها حيّةً للعمران وجب تعريفها لأنّها صارت كاللّقطة، ولو ذبحها في الصّحراء ولم يأكلها حتّى دخل العمران فلا يجوز له أكلها إلاّ إذا لم يعرف ربّها، ولم يتيسّر بيعها.
ثانياً: الضّالّة إذا كانت في العمران:
إذا كانت الضّالّة في العمران فإنّه يجب التقاطها عند خوف الخائن، دون تفريق بين إبل وخيل وبقر وغير ذلك.
وانظر والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 6 / ص 465) وشرح منتهى الإرادات - (ج 7 / ص 68) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 14 / ص 130) ومنار السبيل شرح الدليل - (ج 1 / ص 321) والقواعد لابن رجب - (ج 3 / ص 146)
(2) - موطأ مالك برقم (1441) عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِىِّ كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ فَقَالَ الْمُزَنِىُّ قَدْ كُنْتُ وَاللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ عُمَرُ أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ. فيه انقطاع
وأخرجه عبد الرزاق موصولا برقم (18304) عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ , أَنَّ غِلْمَةً , لِأَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ سَرَقُوا بَعِيرًا , فَانْتَحَرُوهُ , فَوُجِدَ عِنْدَهُمْ جِلْدُهُ , وَرَأْسُهُ , فَرُفِعَ أَمْرُهُمْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " فَأَمَرَ بِقَطْعِهِمْ " , فَمَكَثُوا سَاعَةً , وَمَا نُرَى إِلَّا أَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ قَطْعِهِمْ , ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: " عَلَيَّ بِهِمْ " , ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: " وَاللَّهُ , إِنِّي لَأَرَاكَ تَسْتَعْمِلُهُمْ , ثُمَّ تُجِيعُهُمْ , وَتُسِيءُ إِلَيْهِمْ , حَتَّى لَوْ وَجَدُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , لَحَلَّ لَهُمْ " , ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ: " كَمْ كُنْتَ تُعْطَى لِبَعِيرِكَ؟ " قَالَ: أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ , قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: " قُمْ فَاغْرَمْ لَهُمْ ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمْ " وهو حديث حسن
قَالَ يَحْيَى سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِى تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ مَضَى أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَغْرَمُ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ أَوِ الدَّابَّةِ يَوْمَ يَأْخُذُهَا.
المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 49)
1240 - (ش): قَوْلُهُ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَانْتَحَرُوهَا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْعَبِيدِ مَعَ دَعْوَى الْمُزَنِيِّ، أَوْ بِدَعْوَى الْمُزَنِيِّ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ حَاطِبٍ وَطَلَبِهِ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ فَنَكَلَ حَاطِبٌ وَحَلَفَ الْمُزَنِيُّ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ نُكُولِ حَاطِبٍ وَحَلَفَ الْمُزَنِيُّ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عَبْدٍ انْتَحَرَ حِمَارًا، وَقَالَ خِفْت أَنْ أَمُوتَ جُوعًا لَا يُقْطَعُ وَيُغَرَّمُ سَيِّدُهُ ثَمَنَ الْحِمَارِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّيِّدَ كَانَ يُجِيعُهُ فَيَغْرَمُ، أَوْ يُسَلِّمُهُ، وَإِنَّمَا غَرَّمَ عُمَرُ حَاطِبًا وَتَرَكَ قَطْعَ عَبِيدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُجِيعُهُمْ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقِيمَةِ. وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ فَعَلَى رَأْيِ ابْنِ الْمَوَّازِ انْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى التَّقْوِيمِ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يُجِيعُهُمْ وَعَلَى رَأْيِ أَصْبَغَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَعَلَّهُ كَانَ لِلْعَبِيدِ مَالٌ فَوَقَعَ الْغُرْمُ مِنْهُ، وَقَالَ لِحَاطِبٍ لَأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ عَبِيدِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَذَ جَمِيعُهُ أَوْ الْكَثِيرُ مِنْهُ فَبِهِ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ الْعَبِيدِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْبَلُ مِنْ إقْرَارِ الْعَبِيدِ إِلَّا مَا يَنْصَرِفُ إِلَى جَسَدِهِ فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ سَيِّدَهُ بِهِ أَمْرٌ فَلَا، فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَيُعَرَّى فِي الْقَضِيَّةِ مِمَّا يُقَوِّيهَا، وَأَمَّا إِذَا اُقْتُرِنَ بِالْقَضِيَّةِ مَا =(1/392)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= يَشْهَدُ لَهَا مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ مَقْبُولٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ سَيِّدِهِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي عَبْدٍ أَصَابَ صَبِيًّا بِمُوضِحَةٍ فَأَتَى مُتَعَلِّقًا بِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِهِ وَيَأْتِي مَكَانَهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَلْيُقْبَلْ مِنْهُ فَأَمَّا بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ كُنْت فَعَلْته فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي عَبِيدٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَعِنْدَهُمْ شَاتَانِ مَذْبُوحَتَانِ يَعْرِفَانِ لِجَارِهِمْ فَأَقَرَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَجَحَدَ الثَّالِثُ إِنَّ غُرْمَ ذَلِكَ عَلَى سَادَتِهِمْ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أُغْرِمَ حَاطِبًا لَمَّا وُجِدَتْ النَّاقَةُ بَيْنَ أَيْدِي الْعَبِيدِ وَعُرِفَ أَنَّهَا كَانَتْ لِلْمُزَنِيِّ الطَّالِبِ لَهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ فَأَمَرَ عُمَرُ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ قَالَ عِيسَى فِي الْمُدَوَّنَةِ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ سَرَقُوهَا مِنْ حِرْزِهَا وَلَمْ يَسْرِقُوهَا مِنْ الْمَرْعَى وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْحِرْزِ مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ أَرَاكَ تُجِيعُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ قَدْ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرُوا بِهِ لِسَرِقَتِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِيهِمْ مِنْ الضَّعْفِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ إجَاعَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنَّ لَا يُجِيعَ رَقِيقَهُ بَلْ يُشْبِعَهُمْ الْوَسَطَ أَوْ يَبِيعَهُمْ لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك يُرِيدُ بِهِ الْغُرْمَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ حَاطِبًا يَتَوَجَّعُ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَلَعَلَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ وَالتَّعْزِيرِ لِحَاطِبٍ عَلَى إجَاعَتِهِ لِرَقِيقِهِ وَإِحْوَاجِهِ لَهُمْ إِلَى السَّرِقَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَسَبَبَ إتْلَافِ نَاقَةِ الْمُزَنِيِّ فَرَأَى أَنْ يُغَرِّمَهُ إيَّاهَا وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ كَرَّرَ نَهْيَهُ إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَدَّ لَهُ فِي قُوتِهِمْ حَدًّا لَمْ يَمْتَثِلْهُ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ اتَّخَذَ فِي مَاشِيَتِهِ كَلْبًا عَقُورًا فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ فِي إزَالَتِهِ فَلَمْ يُزِلْهُ وَقَتَلَ أَحَدًا أَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ دِيَتَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ غَشَّ لَبَنًا أَوْ زَعْفَرَانًا، أَوْ مِسْكًا لَا يُهْرَاقُ وَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ وَلَمْ يَخُصَّ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْيَسِيرِ فَأَمَّا الْكَثِيرُ فَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيُوجَعُ أَدَبًا هَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْغَرِيمَ لِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ النَّاقَةِ لِمَا اعْتَقَدَهُ مِنْ كَثْرَةِ قِيمَتِهَا وَإِنَّ حَاطِبًا شَقَّ عَلَيْهِ غُرْمُ مِثْلِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ سَأَلَ ابْنُ مُزَيْنٍ أَصْبَغَ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مَالِكٌ يَرْعَى عَلَى السَّيِّدِ الْغُرْمَ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ. قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا أَقَلُّ وَلَا أَكْثَرُ لَا فِي مَالِهِ وَلَا فِي رِقَابِ الْعَبِيدِ الْقَطْعُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْقَطْعَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ أَمَرَ بِقَطْعِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَرَاك تُجِيعُهُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِصَرْفِهِمْ وَلَمْ يَقْطَعْهُمْ وَعَذَرَهُمْ بِالْجُوعِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَةِ عُمَرَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ سَارِقًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ هَذَا مُفَسَّرًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَاطِبٍ قَالَ تُوُفِّيَ حَاطِبٌ وَتَرَكَ أَعْبُدًا مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ يَعْمَلُونَ فِي مَالٍ لِحَاطِبٍ بِسَوَانٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ فَقَالَ هَؤُلَاءِ عَبِيدُك قَدْ سَرَقُوا وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا وَجَبَ عَلَى السَّارِقِ فَانْتَحَرُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَاعْتَرَفُوا بِهَا وَمَعَهُمْ الْمُزَنِيُّ فَأَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ وَرَاءَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِمْ فَجَاءَ بِهِمْ فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَمَا لَوْلَا أَنِّي أَظُنُّكُمْ تستعملونهم وَتُجِيعُونَهُمْ حَتَّى لَوْ وَجَدُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ لَأَكَلُوهُ لَقَطَعْتهمْ وَلَكِنْ وَاَللَّهِ إِذَا تَرَكْتهمْ لَأُغَرِّمَنَّكَ غَرَامَةً تُوجِعُك.
(مَسْأَلَةٌ) وَإِنْ كَانَ لِلْعَبِيدِ أَمْوَالٌ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ غُرْمُهَا فِي أَمْوَالِ الْعَبِيدِ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ مَا كَانَ مِنْ سَرِقَةٍ لَا قَطْعَ فِيهَا فَيُخَيَّرُ السَّيِّدُ بَيْنَ إسْلَامِهِمْ، أَوْ افْتِكَاكِهِمْ بِقِيمَتِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يُتْبَعُ فِي السَّرِقَةِ الَّتِي تُقْطَعُ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا لَمْ تُوجَدْ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ مَالَهُ إنَّمَا صَارَ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ لِلْمُزَنِيِّ كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِك يُرِيدُ قِيمَتَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمَّا انْتَفَى حَاطِبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَارِمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَأَ بالمزني لِيَعْرِفَ مُنْتَهَى مَا يَدَّعِيه ثُمَّ تَوَقَّفَ حَاطِبٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ وَالْإِنْكَارُ لَهُ وَهَكَذَا وَجْهُ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ مُدَّعًى عَلَيْهِ حَتَّى يُعْلَمَ مُنْتَهَى دَعْوَى الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ تِلْكَ فِي قَدْرِهَا وَجِنْسِهَا فَيَصِحُّ تَوْقِيفُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ لِيُقِرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يُنْكِرَ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ كُنْت وَاَللَّهِ أَمْنَعُهَا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِقِيمَتِهَا عَلَى التَّحَرِّي بِذَلِكَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ مِنْ قِيمَتِهَا وَمَا كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَسَمَهُ عَلَى مَعْنَى تَحْقِيقِ دَعْوَاهُ وَالْإِخْبَارِ عَنْ تَيَقُّنِهِ كَمَا قَالَ وَمَا أَدْعَى مِنْ الْقِيمَةِ لَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ لِلْقِيمَةِ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ يَحْتَجَّ عُمَرُ أَنْ يُحَلِّفَهُ إمَّا؛ لِأَنَّ حَاطِبًا صَدَقَ؛ لِأَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ بَنَى أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْ حَاطِبٍ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى مَعْنَى التَّأْدِيبِ لَهُ لِمَا جَنَاهُ بِإِجَاعَةِ رَقِيقِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قِيمَةِ نَاقَتِهِ حَتَّى أَضْعَفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأْيُ الْمُزَنِيِّ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جُنِيَ عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ نَاقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَخَذَ قِيمَتَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَدْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَيْنِهَا فَفَوَّتَهُ عَيْنَهَا بِسَرِقَتِهَا وَنَحْرِهَا، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا لِاجْتِهَادِ عُمَرَ فَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَ عَلَى مَنْ جَنَى بِتَعَدٍّ، أَوْ غَيْرِهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ هَذَا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ تَضْعِيفَ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ وَقَصَدَ وَجْهًا مِنْ وُجُوهٍ سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ ظَاهِرُهُ تَضْعِيفُ الْقِيمَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْمُزَنِيُّ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ بِإِثْرِ الْحَدِيثِ لَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنْ يَغْرَمَ الرَّجُلُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ يَوْمَ يَأْخُذُهُ ظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى ظَاهِرَ حَدِيثِ عُمَرَ فِي تَضْعِيفِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عُمَرُ إنَّمَا أَضْعَفَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ قِيمَةَ نَاقَةٍ فِي بَلَدٍ، أَوْ زَمَنٍ غَيْرِ الْبَلَدِ وَالزَّمَنِ الَّتِي سُرِقَتْ بِهِ وَالْقِيمَةُ تَتَضَاعَفُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ قِيمَةُ الْبَعِيرِ يَوْمَ أَخْذِهِ يُرِيدُ أَنَّ قِيمَتَهُ إِنْ زَادَتْ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ صَاحِبُهَا قِيمَتَهُ بِتَغْيِيرِ الْأَسْوَاقِ بِانْتِقَالِ زَمَنٍ، أَوْ بِنَقْلِهِ إِلَى مَكَانٍ فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَلَوْ نَقَصَتْ لَكَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رَأَيْت لِابْنِ كِنَانَةَ أَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ ثَمَنِ نَاقَتِهِ فَأَضْعَفَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَادِفَ تَضْعِيفَ الْقِيمَةِ قِيمَتُهَا الْيَوْمَ قَالَ غَيْرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ بَعْدَهُ لَمْ يَجِبْ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَتَرَكَ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا إِلَّا لِأَمْرٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وانظر المحلى [مشكول وبالحواشي]- (ج 6 / ص 264) والمحلى لابن حزم - (ج 4 / ص 96) وفقه السنة - (ج 2 / ص 492) ومختصر المزني - (ج 1 / ص 447) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 285) والمغني - (ج 19 / ص 109) و (ج 20 / ص 244) والأم - (ج 7 / ص 394)(1/393)
وَأَضْعَفَ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ عَمْدًا إنَّهُ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ (1).
__________
(1) - وفي الدِّيَاتُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ >> بَابُ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا خَطَأً >> برقم (244) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ " (وهو صحيح))
قَالَ الْقَاضِي: فَكُلُّ مَقْتُولٍ خَطَأً، وَكُلُّ مَقْتُولٍ عَمْدًا، فَأَهْلُهُ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، أَوْ يَعْفُوا، وَالذِّمِّيُ وَالْمُسْلِمُ سَوَاءٌ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْلِمًا دُونَ ذَمِّيٍّ، بَلْ عَمَّ بِهِ، وَمِمَّنْ يَرَى قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ، رَوَاهُ الْحَكَمُ عَنْهُمْ، وَمِمَّنْ أَوْجَبَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ *
وانظر فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 66) والمبسوط - (ج 29 / ص 217) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 17 / ص 390) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 520) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 1 / ص 376) وفقه السنة - (ج 2 / ص 528) وشرح معاني الآثار - (ج 4 / ص 177) والمدونة - (ج 16 / ص 283) وشرح ميارة - (ج 4 / ص 77) والكافي في فقه ابن حنبل - (ج 6 / ص 96)(1/394)
الفصل السابع
الثواب والعقاب من جنس العمل (1)
فالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَكُونَانِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي قَدَرِ اللَّهِ وَفِي شَرْعِهِ: فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (149) سورة النساء، وَقَالَ تعالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور.
__________
(1) - وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 265)
[يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَمِثَالِهِ] وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَذَلَ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ، وَمَنْ سَمَحَ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ، وَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَمَنْ أَنْفَقَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَوْعَى أَوْعَى عَلَيْهِ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا اللَّهُ لَهُ عَنْ حَقِّهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ اسْتَقْصَى اسْتَقْصَى اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الشَّارِعُ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ، وَاقْتِضَائِهَا لِأَحْكَامِهَا، وَعَدَمِ تَخَلُّفِهَا عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ يُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَيُوجِبُ تَخَلُّفُ أَثَرِهَا عَنْهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}.
وانظر فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 244) و (ج 20 / ص 45) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 7 / ص 402) وعون المعبود - (ج 10 / ص 58) وتحفة الأحوذي - (ج 2 / ص 53) وشرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 36) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 1 / ص 212) وجامع العلوم والحكم - (ج 20 / ص 7) وشرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 99) وتيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (ج 1 / ص 104) وفيض الباري شرح صحيح البخاري - (ج 1 / ص 239) ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (ج 1 / ص 283) وشرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم - (ج 3 / ص 259) وفتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (ج 1 / ص 61) وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 184) ومجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 192) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 3 / ص 130) وفتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 109) ومجموع فتاوى ومقالات ابن باز - (ج 3 / ص 77) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3431) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 5422) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 8 / ص 174) وفقه السنة - (ج 2 / ص 538) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 14 / ص 164) وحاشية رد المحتار - (ج 1 / ص 22) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 15 / ص 156) وشرح زاد المستقنع - (ج 160 / ص 5) والكبائر - (ج 1 / ص 11) والزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 1 / ص 445) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 6 / ص 179) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 68) ومدارج السالكين - (ج 4 / ص 26) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 28) وغيرهم(1/395)
وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ». (1)
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» (2).
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ .. » (3).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (5997) ومسلم برقم (6170) عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا. فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ».
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 129)
قَوْله: (مَنْ لَا يَرْحَم لَا يُرْحَم) هُوَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْخَبَر، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء " مَنْ " مَوْصُولَة وَيَجُوز أَنْ تَكُون شَرْطِيَّة فَيُقْرَأ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: جَعْله عَلَى الْخَبَر أَشْبَه بِسِيَاقِ الْكَلَام، لِأَنَّهُ سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: " إِنَّ لِي عَشَرَة مِنْ الْوَلَد إِلَخْ " أَيْ الَّذِي يَفْعَل هَذَا الْفِعْل لَا يُرْحَم، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطِيَّة لَكَانَ فِي الْكَلَام بَعْض اِنْقِطَاع لِأَنَّ الشَّرْط وَجَوَابه كَلَام مُسْتَأْنَف. قُلْت: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جِهَة أُخْرَى لِأَنْ يَصِير مِنْ نَوْع ضَرْب الْمِثْل، وَرَجَّحَ بَعْضهمْ كَوْنهَا مَوْصُولَة لِكَوْنِ الشَّرْط إِذَا أَعْقَبَهُ نَفْي يُنْفَى غَالِبًا بِلَمْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَرْجِيحًا إِذَا كَانَ الْمَقَام لَائِقًا بِكَوْنِهَا شَرْطِيَّة. وَأَجَازَ بَعْض شُرَّاح " الْمَشَارِق " الرَّفْع فِي الْجُزْءَيْنِ وَالْجَزْم فِيهِمَا وَالرَّفْع فِي الْأُولَى وَالْجَزْم فِي الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ فَيَحْصُل أَرْبَعَة أَوْجُه، وَاسْتُبْعِدَ الثَّالِث، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَكُون فِي الثَّانِي بِمَعْنَى النَّهْي أَيْ لَا تَرْحَمُوا مَنْ لَا يَرْحَم النَّاس، وَأَمَّا الرَّابِع فَظَاهِر وَتَقْدِيره مَنْ لَا يَكُنْ مِنْ أَهْل الرَّحْمَة فَإِنَّهُ لَا يُرْحَم، وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر: فَقُلْت لَهُ اِحْمِلْ فَوْق طَوْقك إِنَّهَا مُطَوَّقَة مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرهَا وَفِي جَوَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْأَقْرَعِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ تَقْبِيل الْوَلَد وَغَيْره مِنْ الْأَهْل الْمَحَارِم وَغَيْرهمْ مِنْ الْأَجَانِب إِنَّمَا يَكُون لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَة لَا لِلَّذَّةِ وَالشَّهْوَة، وَكَذَا الضَّمّ وَالشَّمّ وَالْمُعَانَقَة.
(2) - سنن الترمذى برقم (455) صحيح لغيره.
تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 489)
(إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْوِتْرُ الْفَرْدُ وَتُكْسَرُ وَاوُهُ وَتُفْتَحُ، فَاَللَّهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ وَالتَّجْزِئَةَ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلَا شِبْهَ لَهُ وَلَا مِثْلَ، وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مُعِينَ
(يُحِبُّ الْوِتْرَ) أَيْ يُثِيبُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عَامِلِهِ. قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْءَ أَدْنَى مُنَاسَبَةٍ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ
(فَأَوْتِرُوا) أَمْرٌ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى ثُمَّ يُصَلِّيَ فِي آخِرِهَا رَكْعَةً مُفْرَدَةً أَوْ يُضِيفَهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الرَّكَعَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ اِبْنُ الْمَلَكِ: الْفَاءُ تُؤْذِنُ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا اِنْتَهَى
(يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ) أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ عَامَّةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ قَرَأَ أَمْ لَمْ يَقْرَأْ، إِنْ كَانَ الْأَكْمَلُ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ وَحَفِظَ وَعَلِمَ وَعَمِلَ شَامِلَةٌ مِمَّنْ تَوَلَّى قِيَامَ تِلَاوَتِهِ وَمُرَاعَاةَ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ.
(3) - صحيح مسلم برقم (275) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ».
البطر: التكبر على الحق فلا يقبله = الغمط: الاحتقار والاستهانة
شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 194)
أَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (لَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ كِبْر)
فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيله. فَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّ الْمُرَاد التَّكَبُّر عَنْ الْإِيمَان فَصَاحِبه لَا يَدْخُل الْجَنَّة أَصْلًا إِذَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَكُون فِي قَلْبه كِبْر حَال دُخُوله الْجَنَّة، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ فِيهِمَا بُعْد فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيث وَرَدَ فِي سِيَاق النَّهْيِ عَنْ الْكِبْرِ الْمَعْرُوف وَهُوَ الِارْتِفَاع عَلَى النَّاس، وَاحْتِقَارهمْ، وَدَفْع الْحَقِّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُخْرِجَيْنِ لَهُ عَنْ الْمَطْلُوب. بَلْ الظَّاهِر مَا اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة دُون مُجَازَاةٍ إِنْ جَازَاهُ. وَقِيلَ: هَذَا جَزَاؤُهُ لَوْ جَازَاهُ، وَقَدْ يَتَكَرَّم بِأَنَّهُ لَا يُجَازِيه، بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَدْخُل كُلّ الْمُوَحِّدِينَ الْجَنَّة إِمَّا أَوَّلًا، وَإِمَّا ثَانِيًا بَعْد تَعْذِيب بَعْض أَصْحَاب الْكَبَائِر الَّذِينَ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: لَا يَدْخُل مَعَ الْمُتَّقِينَ أَوَّل وَهْلَة.
وَأَمَّا قَوْله: (قَالَ رَجُل إِنَّ الرَّجُل يُحِبّ أَنْ يَكُون ثَوْبه حَسَنًا)
وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ اللَّه جَمِيل يُحِبّ الْجَمَال) اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلّ أَمْره سُبْحَانه وَتَعَالَى حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَلَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى، وَصِفَات الْجَمَال وَالْكَمَال. وَقِيلَ: جَمِيلٌ بِمَعْنَى مُجَمِّل كَكَرِيمِ وَسَمِيع بِمَعْنَى مُكَرِّم وَمُسَمِّع. وَقَالَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ جَلِيل. وَحَكَى الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ بِمَعْنَى ذِي النُّور وَالْبَهْجَة أَيْ مَالِكهمَا. جَمِيل الْأَفْعَال بِكُمْ، بِاللُّطْفِ وَالنَّظَر إِلَيْكُمْ، يُكَلِّفكُمْ الْيَسِير مِنْ الْعَمَل، وَيُعِين عَلَيْهِ، وَيُثِيب عَلَيْهِ الْجَزِيل، وَيَشْكُر عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْم وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح وَلَكِنَّهُ مِنْ أَخْبَار الْآحَاد. وَوَرَدَ أَيْضًا فِي حَدِيث الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَفِي إِسْنَاده مَقَالٌ. وَالْمُخْتَار جَوَازُ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّه تَعَالَى: وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ مَنَعَهُ. قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِطْلَاقِهِ فِي أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَصِفَاته أَطْلَقْنَاهُ، وَمَا مَنَعَ الشَّرْع مِنْ إِطْلَاقه مَنَعْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَرِد فِيهِ إِذْن وَلَا مَنْع لَمْ نَقْضِ فِيهِ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّةَ تُتَلَقَّى مِنْ مَوَارِد الشَّرْع، وَلَوْ قَضَيْنَا بِتَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ لَكُنَّا مُثْبِتِينَ حُكْمًا بِغَيْرِ الشَّرْع. قَالَ: ثُمَّ لَا يُشْتَرَط فِي جَوَاز الْإِطْلَاق وُرُود مَا يُقْطَع بِهِ فِي الشَّرْع، وَلَكِنْ مَا يَقْتَضِي الْعَمَل وَإِنْ لَمْ يُوجِب الْعِلْم فَإِنَّهُ كَافٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَقْيِسَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ مُقْتَضَيَات الْعَمَل، وَلَا يَجُوز التَّمَسُّك بِهِنَّ فِي تَسْمِيَة اللَّه تَعَالَى، وَوَصْفه. هَذَا كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمَحَلّه مِنْ الْإِتْقَان وَالتَّحْقِيق بِالْعِلْمِ مُطْلَقًا وَبِهَذَا الْفَنّ خُصُوصًا مَعْرُوفٌ بِالْغَايَةِ الْعُلْيَا.
وَأَمَّا قَوْله: لَمْ نَقْضِ فِيهِ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا بِالشَّرْعِ: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَذْهَب الْمُخْتَار فِي حُكْم الْأَشْيَاء قَبْل وُرُود الشَّرْع فَإِنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا حُكْم فِيهَا لَا بِتَحْلِيلٍ، وَلَا تَحْرِيمٍ، وَلَا إِبَاحَةٍ، وَلَا غَيْر ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْم عِنْد أَهْل السُّنَّة لَا يَكُون إِلَّا بِالشَّرْعِ. وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَة وَقَالَ بَعْضهمْ: عَلَى التَّحْرِيم، وَقَالَ بَعْضهمْ: عَلَى الْوَقْف. لَا يُعْلَم مَا يُقَال فِيهَا. وَالْمُخْتَار الْأَوَّل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّة فِي تَسْمِيَة اللَّه وَتَعَالَى وَوَصْفه مِنْ أَوْصَاف الْكَمَال وَالْجَلَال وَالْمَدْح بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْع وَلَا مَنَعَهُ فَأَجَازَهُ طَائِفَة، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ إِلَّا أَنْ يَرِد بِهِ شَرْعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ نَصِّ كِتَاب اللَّه، أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ عَلَى إِطْلَاقه. فَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَجَازَهُ طَائِفَة، وَقَالُوا: الدُّعَاء بِهِ وَالثَّنَاء مِنْ بَاب الْعَمَل، وَذَلِكَ جَائِز بِخَبَرِ الْوَاحِد. وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إِلَى اِعْتِقَاد مَا يَجُوز أَوْ يَسْتَحِيل عَلَى اللَّه تَعَالَى. وَطَرِيق هَذَا الْقَطْع. قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّوَاب جَوَازُهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعَمَل، وَلِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (بَطْر الْحَقِّ) فَهُوَ دَفْعه وَإِنْكَاره تَرَفُّعًا وَتَجَبُّرًا.
وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَغَمْط النَّاسِ) وَمَعْنَاهُ اِحْتِقَارهمْ(1/396)
وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا .. » (1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (2393) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 457)
قَالَ الْقَاضِي: الطَّيِّب فِي صِفَة اللَّه تَعَالَى بِمَعْنَى الْمُنَزَّه عَنْ النَّقَائِص، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقُدُّوس، وَأَصْل الطِّيب الزَّكَاة وَالطَّهَارَة وَالسَّلَامَة مِنْ الْخُبْث. وَهَذَا الْحَدِيث أَحَد الْأَحَادِيث الَّتِي هِيَ قَوَاعِد الْإِسْلَام وَمَبَانِي الْأَحْكَام، وَقَدْ جَمَعْت مِنْهَا أَرْبَعِينَ حَدِيثًا فِي جُزْء، وَفِيهِ: الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق مِنْ الْحَلَال، وَالنَّهْي عَنْ الْإِنْفَاق مِنْ غَيْره. وَفِيهِ: أَنَّ الْمَشْرُوب وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوس وَنَحْو ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون حَلَالًا خَالِصًا لَا شُبْهَة فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّعَاء كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْره.
قَوْله: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَر أَشْعَث أَغْبَر يَمُدّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا رَبّ يَا رَبّ) إِلَى آخِره. مَعْنَاهُ - وَاَللَّه أَعْلَم -: أَنَّهُ يُطِيل السَّفَر فِي وُجُوه الطَّاعَات كَحَجٍّ وَزِيَارَة مُسْتَحَبَّة وَصِلَة رَحِم وَغَيْر ذَلِكَ.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَغُذِيَ بِالْحِرَامِ) هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن وَتَخْفِيف الذَّال الْمَكْسُورَة.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (فَأَنَّى يُسْتَجَاب لِذَلِكَ) أَيْ مِنْ أَيْنَ يُسْتَجَاب لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ؟ وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ لَهُ؟(1/397)
وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ} (1).
وَلِهَذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ وَشَرَعَ قَطْعَ يَدِ الْمُحَارِبِ وَرِجْلِهِ؛ وَشَرَعَ الْقِصَاصَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْشَارِ، فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْصِيَةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْرُوعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَاهِدِ الزُّورِ إنَّهُ أَمَرَ بِإِرْكَابِهِ دَابَّةً مَقْلُوبًا وَتَسْوِيدِ وَجْهِهِ (2)؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَلَبَ الْحَدِيثَ قَلَبَ وَجْهَهُ وَلَمَّا سَوَّدَ وَجْهَهُ بِالْكَذِبِ سَوَّدَ وَجْهَهُ. وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.
وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (72) سورة الإسراء.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه/124 - 126]}. وَفِي الْحَدِيثِ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِى صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِى جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ» (3).
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (3029) عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِى حَسَّانَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أُرَاهُ قَالَ أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ فَقَالَ حَدَّثَنِيهِ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ. وهو حديث واه
وفي الْكُنَى وَالْأَسْمَاءُ لِلدُّولَابِيِّ >> بَابُ حَرْفِ الطَّاءِ >> برقم (867) عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، جَوَّادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ , طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوَا بِالْيَهُودِ تَجْمَعُ الْأَكْبَاءَ فِي دُورِهَا " وفيه أَبُو الطَّيِّبِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ متهم
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيّ برقم (18833) عَنْ مَكْحُولٍ , وَعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا , وَسَخَمَ وَجْهَهُ , وَطَافَ بِهِ بِالْمَدِينَةِ " وهو صحيح مرسل
وبرقم (18834) , عَنْ مَكْحُولٍ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ فِي كُورِ الشَّامِ فِي شَاهِدِ الزُّورِ: " أَنْ يُجْلَدَ أَرْبَعِينَ , وَيُحْلَقَ رَأْسُهُ , وَيُسْخَمَ وَجْهُهُ , وَيُطَافَ بِهِ , وَيُطَالَ حَبْسُهُ ". هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ وَمُنْقَطِعَتَانِ قلت: هذا حديث حسن مرسل
الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 9329) و (ج 2 / ص 9334) و (ج 2 / ص 9329) و (ج 2 / ص 9334)
وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 405) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 12 / ص 366) وفتح القدير - (ج 17 / ص 317) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام - (ج 8 / ص 303) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 319) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 522) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 3 / ص 16) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 124) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 18 / ص 226) والسياسة الشرعية - (ج 1 / ص 104)
(3) - سنن الترمذى برقم (2680) وهو حديث حسن
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 284)
حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ) عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ. أَيْ أَذِلَّاءَ مُهَانِينَ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ وَإِنَّمَا مَنَعَنَا عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِهِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ حَتَّى إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ غُرْلًا يُعَادُ مِنْهُمْ مَا اِنْفَصَلَ عَنْهُمْ مِنْ الْقُلْفَةِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ). قَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا قَالَ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَمْثَالَ الذَّرِّ قَطْعًا مِنْهُ: حَمَلَ قَوْلَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَدَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يُحْشَرُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَتَحْقِيقًا لِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ. وَقَالَ الْمُظَهَّرُ: يَعْنِي صُوَرُهُمْ صُوَرُ الْإِنْسَانِ وَجُثَّتُهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرِّ فِي الصِّغَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَفْظُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ تَشْبِيهٌ لَهُمْ بِالذَّرِّ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الشَّبَهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ الصِّغَرَ فِي الْجُثَّةِ وَأَنْ يَكُونَ الْحَقَارَةَ وَالصِّغَارَ فَقَوْلُهُ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ بَيَانٌ لِلْوَجْهِ وَدَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ خِلَافَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ (إِنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ) فَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا تُعَادَ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مِثْلِ الذَّرِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ وَعَلَى هَذِهِ الْحَقَارَةِ مَلْزُومُ هَذَا التَّرْكِيبِ فَلَا يُنَافِي إِرَادَةَ الْجُثَّةِ مَعَ الْحَقَارَةِ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَادَ تُعَادُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ حَتَّى إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ غُرْلًا. قَالَ الْقَارِي: التَّحْقِيقُ أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهُمْ عِنْدَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ عَلَى أَكْمَلِ صُوَرِهِمْ وَجَمْعِ أَجْزَائِهِمْ الْمَعْدُومَةِ تَحْقِيقًا لِوَصْفِ الْإِعَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْجَزَاءِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إِهَانَةً وَتَذْلِيلًا لَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا، أَوْ يَتَصَاغَرُونَ مِنْ الْهَيْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ وَظُهُورِ أَثَرِ الْعُقُوبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ لَصَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا اِنْتَهَى.(1/398)
فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَذَلُّوا عِبَادَ اللَّهِ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ (1)؛ فَجَعَلَ الْعِبَادَ مُتَوَاضِعِينَ لَهُ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى يُصْلِحُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَيُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَسَائِرِ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
__________
(1) - وفي مُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ برقم (11554) وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً، وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ " وهو حسن
وفي صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ برقم (5770) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً، حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَمَنْ يَتَكَبَّرْ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ مَا غَيَّبَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ " وهو حديث حسن
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً " يُرِيدُ بِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِي اللَّهِ، فَأَضْمَرَ الْخَلْقَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: " وَمَنْ يَتَكَبَّرُ " أَرَادَ بِهِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَأَضْمَرَ الْخَلْقَ فِيهِ إِذِ الْمُتَكَبِّرُ عَلَى اللَّهِ كَافِرٌ بِهِ *
وفي مُسْنَدُ الشِّهَابِ الْقُضَاعِيِّ برقم (323) عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، وَحَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ " حديث حسن.(1/399)
المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم
2. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
3. برنامج قالون
4. تفسير ابن أبي حاتم
5. تفسير ابن كثير
6. تفسير الطبري
7. في ظلال القرآن
8. أحكام القرآن لابن العربي
9. أحكام القرآن للجصاص
10. أحكام القرآن للشافعي
11. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
12. الدرر السنية كاملة
13. أخبار مكة للأزرقي
14. الأحاديث المختارة للضياء
15. السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
16. المستدرك على الصحيحين للحاكم
17. المعجم الأوسط للطبراني
18. المعجم الكبير للطبراني
19. المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود
20. بلوغ المرام من أدلة الأحكام
21. بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
22. تفسير ابن أبي حاتم
23. تهذيب الآثار للطبري
24. جامع الأحاديث
25. دلائل النبوة للبيهقي
26. سنن أبى داود
27. سنن ابن ماجه(1/400)
28. سنن الترمذى
29. سنن الدارقطنى
30. سنن الدارمى
31. سنن النسائى
32. شرح معاني الآثار
33. شعب الإيمان للبيهقي
34. صحيح ابن حبان
35. صحيح البخارى
36. صحيح مسلم
37. مجمع الزوائد
38. مسند أبي عوانة مشكلا
39. مسند أبي يعلى الموصلي
40. مسند أحمد
41. مسند البزار 1 - 10
42. مسند الشاميين للطبراني
43. مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
44. مصنف عبد الرزاق مشكل
45. موسوعة السنة النبوية
46. موطأ مالك
47. الأربعين العشارية
48. البدع لابن وضاح
49. الدعاء للطبراني
50. السنة لأبي بكر بن الخلال
51. الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي
52. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي
53. المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي
54. المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني
55. تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي
56. فضائل الخلفاء الراشدين لأبي نعيم الأصبهاني(1/401)
57. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل
58. فضائل الصحابة للدارقطني
59. فضيلة العادلين لأبي نعيم الأصبهاني
60. مكارم الأخلاق للخرائطي
61. إحياء علوم الدين ومعه تخريج الحافظ العراقي
62. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل
63. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير
64. المقاصد الحسنة للسخاوي
65. كشف الخفاء
66. كنز العمال
67. نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية
68. آداب الزفاف
69. إرواء الغليل
70. السلسلة الصحيحة
71. السلسلة الضعيفة
72. صحيح أبي داود
73. صحيح ابن ماجة
74. صحيح الترغيب والترهيب
75. صحيح الترمذي
76. صحيح وضعيف الجامع الصغير
77. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
78. التحفة الربانية شرح الأربعين النووية
79. التمهيد لابن عبد البر
80. المنتقى - شرح الموطأ
81. بلوغ المرام من أدلة الأحكام
82. تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام
83. جامع العلوم والحكم
84. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود
85. حاشية السندي على ابن ماجه(1/402)
86. حاشية السندي على النسائي
87. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
88. شرح ابن بطال
89. شرح الأربعين النووية
90. شرح الزرقاني على موطأ مالك
91. شرح النووي على مسلم
92. شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم
93. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
94. شرح سنن ابن ماجه
95. شرح سنن النسائي
96. شرح سنن النسائي
97. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
98. عون المعبود
99. فتح الباري لابن حجر
100. فيض القدير
101. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
102. موطأ محمد بشرح اللكنوي
103. الحاوي للفتاوي للسيوطي
104. الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية
105. الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي
106. الفتاوى الفقهية الكبرى
107. الفتاوى الهندية
108. الفقه الإسلامي وأدلته
109. الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة
110. فتاوى إسلامية
111. فتاوى الأزهر
112. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
113. فتاوى الرملي
114. فتاوى الزحيلي(1/403)
115. فتاوى السبكي
116. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
117. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
118. فتاوى من موقع الإسلام اليوم
119. فتاوى نور على الدرب
120. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
121. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
122. فتاوى يسألونك
123. لقاءات الباب المفتوح
124. مجموع فتاوى ابن باز
125. مجموع فتاوى ابن تيمية
126. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
127. التشريع الجنائي في الإسلام
128. الحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي
129. الروضة الندية
130. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية
131. الفقه على المذاهب الأربعة
132. المحلى [مشكول وبالحواشي]
133. سبل السلام
134. شرح النيل وشفاء العليل - إباضية
135. طرح التثريب
136. فتاوى السبكي
137. فقه السنة
138. مجلة المنار
139. موسوعة الأسرة المسلمة معدلة
140. موسوعة الفقه الإسلامي
141. نيل الأوطار
142. يسألونك فتاوى
143. الأشباه والنظائر - حنفي(1/404)
144. البحر الرائق شرح كنز الدقائق
145. المبسوط
146. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
147. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
148. حاشية رد المحتار
149. درر الحكام شرح غرر الأحكام
150. فتح القدير
151. التاج والإكليل لمختصر خليل
152. الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي
153. الشرح الكبير للشيخ الدردير
154. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
155. المدونة
156. بداية المجتهد ونهاية المقتصد
157. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير
158. حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني
159. رسالة القيرواني
160. منح الجليل شرح مختصر خليل
161. مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل
162. أسنى المطالب
163. الأم للشافعي مشكل
164. الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي
165. المجموع شرح المهذب
166. تحفة المحتاج في شرح المنهاج
167. حاشية البجيرمي على الخطيب
168. حاشية البجيرمي على المنهج
169. روضة الطالبين وعمدة المفتين
170. شرح البهجة الوردية
171. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج
172. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج(1/405)
173. الإقناع
174. الروض المربع
175. الشرح الكبير لابن قدامة
176. الشرح الممتع على زاد المستقنع
177. الفروع لابن مفلح
178. المغني لابن قدامة
179. شرح زاد المستقنع
180. شرح منتهى الإرادات
181. كشاف القناع عن متن الإقناع
182. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
183. منار السبيل شرح الدليل
184. (08) الضوابط الشرعية 0 الوشلي
185. أصول السرخسي
186. أنوار البروق في أنواع الفروق
187. إرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول
188. إعلام الموقعين عن رب العالمين
189. الأحكام لابن حزم
190. الأشباه والنظائر
191. الإحكام في أصول الأحكام
192. الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
193. البحر المحيط
194. البرهان في أصول الفقه - الرقمية
195. التقرير والتحبير
196. الفروق
197. الفصول في الأصول
198. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية
199. المستصفى
200. الموافقات في أصول الشريعة
201. تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية(1/406)
202. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع
203. حجة الله البالغة
204. شرح الكوكب المنير
205. قواعد الأحكام في مصالح الأنام
206. كتاب الاعتصام
207. كتب وليد بن راشد السعيدان
208. من أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية
209. آفات على الطريق كامل
210. أدب الدنيا والدين
211. إحياء علوم الدين
212. الآداب الشرعية
213. الأذكار للنووي
214. الزواجر عن اقتراف الكبائر
215. الكبائر
216. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
217. حلية الأولياء
218. رياض الصالحين
219. مدارج السالكين
220. موسوعة خطب المنبر
221. الأحكام السلطانية
222. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة
223. الاقتصاد الإسلامي
224. الحسبة لابن تيمية
225. الخراج لأبي يوسف
226. السياسة الشرعية
227. الطرق الحكمية
228. بدائع السلك في طبائع الملك
229. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
230. تهذيب الرياسة وترتيب السياسة(1/407)
231. درر الحكام في شرح مجلة الأحكام
232. شرح السير الكبير
233. شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
234. غياث الأمم في التياث الظلم
235. مطالع التمام ونصائح الأنام
236. معالم القربة في طلب الحسبة
237. معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام
238. نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة
239. أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره
240. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
241. سيرة ابن هشام
242. الإصابة في معرفة الصحابة
243. الطبقات الكبرى لابن سعد
244. الكامل لابن عدي
245. تاريخ دمشق
246. تعجيل المنفعة
247. تقريب التهذيب
248. تهذيب التهذيب
249. تهذيب الكمال للمزي
250. ثقات ابن حبان
251. سير أعلام النبلاء
252. ضعفاء العقيلي
253. كنى البخاري
254. لسان الميزان
255. معرفة الثقات
256. ميزان الاعتدال
257. البداية والنهاية لابن كثير مدقق
258. المنتظم
259. تاريخ الإسلام للذهبي(1/408)
260. تاريخ الرسل والملوك
261. تاريخ المدينة
262. تاريخ بغداد
263. مقدمة ابن خلدون
264. المعجم الوسيط
265. النهاية في غريب الأثر
266. تاج العروس
267. لسان العرب
268. أدب الاختلاف في الاسلام
269. موسوعة كتب ابن القيم(1/409)