ـ[الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله]ـ
حققه وعلق عليه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هامة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي فرضها الله تعالى على هذه الأمة قال تعالى:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104) بل اعتبر أن عنصر الخيرية في هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110) وغير ذلك من آيات كثيرة
وقد ظن قوم أن المسلم لا علاقة له بغيره من الناس إذا كانوا صالحين استنادا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة: 105) وقد أبعدوا النجعة في فهم هذه الآية الكريمة فعَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» (1).
وسنبحث في هذه المقدمة النقاط التالية:
أولا- تعريف عام بالحسبة في الإسلام
ثانيا- أهم الكتب المؤلفة في هذا الموضوع
ثالثا- الكلام عن نسخ كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
رابعا- طريقة العمل في تحقيق هذا الكتاب
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (2321) وهو صحيح(1/1)
أولا- تعريف عام بالحسبة في الإسلام
مفهوم الحسبة في الإسلام
ولاية دينيةٌ يقوم وليُّ الأمر - الحاكم - بمقتضاها بتعيين من يتولى مهمة الأمر بالمعروف إذا أظهر الناسُ تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله، صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقا لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقاً لشرع الله تعالى.
العلاقة بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد أوجب الله تعالى على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب قدرته وعلمه، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (1).
وقد علمنا أن الحسبة ولاية دينية، أي أنها وظيفة رسمية من وظائف الدولة المسلمة تختص بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا يتضح لنا أن الحسبة هي وسيلة رسمية للقيام بهذا الواجب.
مجالات الحسبة
يقوم نظام الحسبة في جوهره على حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس، والمحافظة على المرافق العامة والأمن العام للمجتمع، إضافة إلى الإشراف العام على الأسواق وأصحاب الحرف والصناعات وإلزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى التزامهم بمقاييس الجودة في إنتاجهم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات ذات الاختصاص من وزارات ومؤسسات وغيرها.
أهمية الحسبة في النظام الإسلامي
يهدف الإسلام إلى خلق مجتمع آمن مستقر تسوده المحبة ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى لقوله تعالى: { .. وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة، حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض (2) وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان وهي عبادة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، ولأن الناس محتاجون دائما إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس، لزم أن يكون هناك من يذكِّرُ الناس بذلك ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (186)
(2) - لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور(1/2)
غايات الحسبة
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خيرَ الخيرين، وتدفع شرَّ الشرين، وتحصِّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما. وقد أمر الله تعالى عباده بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصلح - واجتناب الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر في التشريع الإسلامي: فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا .. } (16) سورة التغابن، المفسر لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران، وعلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « .. إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ» (1).
وعلى أن الواجب تحصيلُ المصالح وتكميلُها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدين مع احتمال أدناهما هو المشروع. ثم إن مقصد الولايات الشرعية من خلافةٍ وقضاء وحسبة وغيرها: أن يكون الدين كله لله (2)، وأن تكون كلمة الله هي العليا (3)، فولاية الحسبة إنما جعلت لإصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبيناُ، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، ولإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دينهم.
والشريعة إنما جاءت بأحكام تحفظ على الناس الكليات الخمس أو المصالح العليا الخمس وهى: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فكلُّ الأحكام الشرعية في هذا الخصوص إنما هي أوامر ونواهي للحفاظ على هذه الكليات، والحسبة إنما تسعى للتحقق من تطبيق هذه الأوامر والالتزام بالنواهي.
ويمكن أن نفصل هذه الناحية للحسبة في أهداف أساسية فيما يلي:
1 - حماية دين الله تعالى بضمان تطبيقه في حياة الناس الخاصة والعامة وصيانته من التعطيل أو التبديل أو التحريف.
فقد وكل إلى المحتسب حث الناس على الالتزام بأداء عبادتهم بكيفياتها الشرعية ومنعهم من التبديل والتحريف فيها، كما أنه يمنع البدع في الدين ويحاربها ويوقع العقاب على مرتكبيها. فالمحتسب يهتمُّ بكل ما يتعلق بالدين ويسعى لإحيائه وتمكينه.
2 - تهيئة المجتمع الصالح بتدعيم الفضائل وأنمائها، ومحاربة الرذائل وإخمادها.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (7288) وصحيح مسلمبرقم (3321) واللفظ لمسلم
(2) - قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (39) سورة الأنفال
(3) - ففي صحيح البخارى برقم (123) عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ - قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا - فَقَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».(1/3)
فالمحتسب يمنع المنكرات الظاهرة ويعاقب مرتكبيها إن كان مما يوكل إليه العقاب فيه، أو يرفعه إلى القضاء إن كان مما يختص القاضي بالفصل فيه.
كما أنه يتتبع مواطن الريب والشبهة فيمنع وقوع المنكرات فيها مثل مواطن اختلاط الرجال بالنساء، والأماكن التي يرتادها أهل الشك والريب.
3 - إعداد المؤمن الصالح المهتم بقضايا مجتمعه، وحماية مصالحه.
ذلك أن الإسلام جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على كل مسلم، حتى لا يرى منكراً قد ارتكب فيسكت عنه، أو يرى معروفاً ترك فيتواطأ على الترك.
فإذا قام بذلك كان أدعى إلى أن يأتي هو ذاته المعروف الذي أمر به وينتهي عن المنكر الذي نهى عنه غيره، لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة، ومن جانب آخر فإن الحسبة- وهي الحدُّ الرسميُّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - تؤمِّنُ لأفراد المجتمع المتابعة الدائمة لأنشطتهم بتدعيم الصالح منهما وتعزيزه، ومحاربة الفاسد منها والزجر منه.
4 - بناء الضمير الاجتماعي - الوازع الجماعي - الذي يحول دون هتك مبادئ المجتمع المسلم وقواعده وآدابه العامة وأعرافه:
ذلك أن للبيئة الاجتماعية أهمية قصوى في سلوك أفراد المجتمع، فإذا كان للمجتمع قواعد مرعية وآداب محفوظة ومبادئ محمية من سلطاته صعب على العصاة الخروج عليها، وتربي في أنفسهم الحياء من مخالفة المجتمع والخروج عليه.
أما إن كانت هذه المبادئ والقواعد منتهكة من غالب أفراد المجتمع، ولم تكن هناك سلطة تسعى للحفاظ عليها، بحجة أن تلك الأمور من الشئون الخاصة، سهل على الأفراد الخوض في المنكرات، بل إن العصاة يغرون الصالحين بسلوك نهجهم، لأن الناس يحبون التشبه ببعضهم بعضاً، لذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور، وأمر الله تعالى أن تكون العقوبات الشرعية علنية حتى يتعظ الناس بعذاب غيرهم، فقال بعد أن ذكر عقاب الزناة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور، كما أمر النساء بالحجاب وعدم إبداء الزينة لغير المحارم (1)، بل
__________
(1) - قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور(1/4)
وأمرهن بعدم التلين في الكلام بما يثير الرجال (1)،ثم بعد ذلك كله أمر كلًّا من الرجال والنساء بغض البصر منعاً للفتنة المثيرة للشهوة (2)
5 - استقامة الموازين الاجتماعية واتزان المفاهيم واستقرارها حتى لا ينقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
لذا نجد أن من أشد الأمور خطورة انتشار المنكرات ثم تواطؤ المجتمع على السكوت عنها ثم قبولها أخيرا!
فإذا بلغت المنكرات درجة القبول عند الناس، وذلك بأن يروها أموراً معتادة لا حاجة لاستنكارها فضلاً عن الإنكار على مرتكبيها، إذا بلغ الحال إلى هذا الحد، فإن المجتمع يفقد موازينه المستقيمة وتذوب مفاهيمه الصحيحة لكل القيم الفضيلة، وعندئذ يعجز كل قانون عن التأثير في الناس ولا سيما القوانين الوضعية التي تقوم على مبدأ عدم التدخل في الحريات الشخصية. فلو نظرنا إلى كثير من المجتمعات الإباحية نجد أن الأمور قد انفلتت من يد السلطات إذ أصبح المجتمع لا يستنكر سلوك الانحراف والشذوذ، والسلطة لا تقدر على محاربة الرذائل والمخدرات والجرائم التي يعتدَى فيها على حرمات الناس.
بينما نجد المجتمعات الإسلامية -على وجه العموم- لا تزال تحتفظ بأصولها ومبادئها، مما يجعل السلوك الانحرافي والشذوذ والخروج على قيم المجتمع أموراً مستقبحة ومستنكرة من عامة الناس.
6 - دفع العقاب العام من الله تعالى، ومنع حالات الفساد الجماعي.
ذلك أن فشو المنكرات وظهور الفساد يستحق العقاب من وجهين:
الأول: أن ارتكاب تلك المنكرات موجب للعقاب.
الثاني: أن السكوت عن هذه المنكرات من غير أصحابها موجب أخر للعقاب، لذا قال الله تعالى محذراً هذه الأمة أن تسكت عن المنكر: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (25) سورة الأنفال، وذلك حتى لا يقع لهم مثل ما وقع لمن قبلهم، الذين حكى الله تعالى حالهم في قوله: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
__________
(1) - قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (32) سورة الأحزاب
(2) - قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور(1/5)
[المائدة/78، 79]))، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» (1).
7 - تحقيق وصف الخيرية للأمة، كما قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .. } (110) سورة آل عمران، وذلك لأن صلاح المعاش والمعاد إنما يكون بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. وما تمت هذه الخيرية إلا بعد تحقيق الصفات المذكورة في الآية وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فمن اتصف بهذه الصفات من هذه الأمة دخل في هذا المدح، فعَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَرَأَى مِنَ النَّاسِ رِعَةً سَيِّئَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكِ الْأُمَّةِ، فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا " (2).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4340) عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ عَنْ خَالِدٍ وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ». وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ هُشَيْمٍ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ كَمَا قَالَ خَالِدٌ أَبُو أُسَامَةَ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ شُعْبَةُ فِيهِ «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى هُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ». وهو صحيح
(2) - تفسير الطبري برقم (6932) وهو صحيح مرسل(1/6)
ثانيا- أهم الكتب المؤلفة في هذا الموضوع
لقد ألفت كتب كثيرة في هذا الموضوع الهام، قديماً وحديثاً، بل لا يوجد كتاب فقهي إلا وتعرض لذلك ضمن أبواب كثيرة، ومن أهمها:
الطرق الحكمية لابن القيم
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك
تهذيب الرياسة وترتيب السياسة
مطالع التمام ونصائح الأنام
معالم القربة في طلب الحسبة
معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام
نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة
الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1/7)
ثالثا- خصائص كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
اشتمل كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الحسبة) على الأمور التالية:
مقدمةُ ... هامة حول موضوع الحسبة
وقد اشتمل على عدة فصول أهمها:
الفصلُ الأولُ ... -جِمَاعُ الدِّينِ الأَمْرُ وَالنَهْيُ
الفصل الثاني ... - اختصاصاتُ الولاياتِ الإسلامية
وذكر فيه للنقاط التالية:
- بعضُ واجباتِ المحتسبِ
- الاحتسابُ في المعاملاتِ المحرَّمةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ " الِاحْتِكَارِ " لِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ
- لماذا شرعتِ الولاياتُ؟
- جوازُ المزارعَةِ
- وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ مُقْطَعَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ مُقْطَعَةً
- وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ فَهُنَا يُؤْمَرُونَ بِالْوَاجِبِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ
- وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ: فَهَلْ يُجْبَرُ؟
الفصلُ الثالثُ ... - الغشُّ في الدياناتِ - الاحتسابُ في الجوانبِ العقديةِ والفكريةِ
الفصلُ الرابعُ ... -العقوباتُ الشرعيةُ من متمماتِ الاحتسابِ
الفصلُ الخامسُ- التعزيرُ بالعقوباتِ الماليةِ
وتعرض فيه لذكر التعزير ُفي منكراتِ الأعيانِ والصفاتِ
الفصل السادس- تغيير المنكر باليد
الفصل السابع ... -الثواب والعقاب من جنس العمل
وهذه الموضوعات التي تكلم عنها شيخ الإسلام رحمه الله، قد أشبعها بحثاً واستدلالاً، وفيها كثير من الاجتهادات النادرة، والتي نحن بأمس الحاجة إليها اليوم، خاصة حول التسعير الجبري، والتعزير، والاحتكار مما ستراه في هذه الرسالة النادرة إن شاء الله تعالى.
ولكن هناك صعوبة بالغة في بيان ذكر النصوص أو الأقوال التي أشار إليها شيخ الإسلام، لأنه قد ذكرها بالمعنى وليس باللفظ، فتحتاج لوقت طويل للحصول عليها(1/8)
رابعاً- الكلام عن نسخ كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يوجد نسخة مطبوعة بعنوان قاعدة في الحسبة، وهي لا تتجاوز الثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وهي خالية من التحقيق، ومن تشكيل الآيات والأحاديث أو تخريجها، ولا تخلوا من بعض الأخطاء المطبعية
وهناك نسخة في الشاملة 2 عدد الصفحات 50 صفحة
مصدر الكتاب: موقع الإسلام
http: //www. al-islam. com
ولكنها كالنسخة الأولى خالية من التحقيق والتعليق والتخريج
وهناك نسخة عدد صفحاتها (35) وهي كالأولى تماماً
mahawer. al-islam. com/dawaBooks/015. doc
http: //www. du3at. com/books/3. htm
وهناك نسخة نشر شبكة نور الإسلام وعدد صفحاتها أربعون صفحة الآيات مميزة ومشكلة، والأحاديث مميزنة ولكنها غير مخرجة
وهناك شرح لابن جبرين حفظه الله، وهو مفرغ من محاضرات صوتية، وهو شرح قيم وهو غير مخرج الأحاديث ولا الآيات القرآنية وهو موجود في ستة محاضرات صوتية على موقع الشيخ وغيره
http: //www. sona3el7yah. com/book. php?cat=7&book=222&toc=8659
والكتاب موجود ضمن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
وهو في الحسبة 28/ 60 - 120 - المحقق: أنور الباز - عامر الجزار = الناشر: دار الوفاء
الطبعة: الثالثة، 1426 هـ / 2005 م
عدد الأجزاء: 37 (35 + 2 فهارس)
وهي أهم طبعة للفتاوى وهي مشكلة، ولكنها خالية من التخريج والعزو والتعليقات نادرة جدا(1/9)
خامسا- طريقة العمل في تحقيق هذا الكتاب
أما طريقة عملي في هذا الكتاب فهي كما يلي:
1. مقدمة هامة حول هذا الموضوع
2. الباب الأول- الخلاصة أحكام الحسبة من أهم المصادر، حتى يكمل موضوع الكتاب، مع ذكر المصادر والمراجع بذيل كل فقرة
3. الباب الثاني - نص رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قمت بتدقيق النص أولا، ثم تخريج الايات القرآنية، ثم تحريج الأحاديث والحكم عليها إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، وتخريج كافة الأقوال التي استشهد بها، وكذلك شرح ما يحتاج لشرح من كلامه، ذكر الأدلة الكافية على الموضوعات التي أشار إليها ولم يذكر دليلها صراحة، وشرح كثير من هذه الأدلة، لتعم الفائدة، مع الإشارة لبعض التطبيقات المعاصرة، وذكر المصادر في آخر الكتاب، وكذلك الفهرسة الشاملة للكتاب عن طريق الورد، والتي تغني عن الكتاب الإلكتروني
هذا وأسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين.
قال تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164) سورة الأعراف
حققه وعلق عليه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 17جمادى الأولى 1425 هـ -الموافق 5/ 7/2004 م
وعدل تعديلا جذريا بتاريخ 19 ... جمادى الآخرة ... /1428هـ -الموافق ل ... 4/ 7 /2007 م(1/10)
الباب الأول
الخلاصة أحكام الحسبة
تَعْرِيفُ الحِسْبَةِ (1):
1 - الْحِسْبَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ الِاحْتِسَابِ , وَمِنْ مَعَانِيهَا الْأَجْرُ وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ , وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ حَسَنُ الْحِسْبَةِ فِي الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ. وَمِنْ مَعَانِي الِاحْتِسَابِ الْبِدَارُ إلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلِهِ , وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: أَيُّهَا النَّاسُ احْتَسِبُوا أَعْمَالَكُمْ فَإِنْ مَنْ احْتَسَبَ عَمَلَهُ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ وَأَجْرُ حِسْبَتِهِ (2). وَاسْمُ الْفَاعِلِ الْمُحْتَسِبُ أَيْ طَالِبُ الْأَجْرِ. وَمِنْ مَعَانِيهَا الْإِنْكَارُ يُقَالُ: احْتَسَبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ إذَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ. وَالِاخْتِبَارُ يُقَالُ: احْتَسَبْت فُلَانًا أَيْ اخْتَبَرْت مَا عِنْدَهُ (3).
وَالْحِسْبَةُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ , وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ (4).
(الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ):
أَوَّلًا: الْقَضَاءُ (5):
2 - الْقَضَاءُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ (6) , وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (7)، كَمَا أَنَّ الْحِسْبَةَ كَذَلِكَ قَاعِدَتُهَا وَأَصْلُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ (8).
وَقَدْ فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ فَرْقًا يَتَحَدَّدُ بِهِ مَعَالِمُ كُلِّ وِلَايَةٍ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ (9): "فَأَمَّا مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَمَقْصُورَةٌ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 370) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6021) ,موسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 58) ...
(2) - لم أجده وذكر في المصادر السابقة
(3) - لسان العرب 1/ 314 - 317والقاموس والمحيط والصحاح مادة: (حسن) وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7/ 14
(4) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 186) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6021) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 385) وتحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك - (ج 1 / ص 92) والأحكام السلطانية للماوردي ص 240 ولأبي يعلى ص 266 ومعالم القربة ص7 ونهاية التربة في طلب الحسبة ص 6
(5) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6021)
(6) - معين الحكام في يتردد بين الخصمين من الأحكام للطرابلسي ص 6
(7) - أدب القاضي للماوردي ص1/ 135
(8) - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 237
(9) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 489)(1/11)
فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ:
فَأَحَدُهُمَا: جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ وَسَمَاعِهِ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ , وَلَيْسَ فِي عُمُومِ الدَّعَاوَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ , وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي جَازَ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى فِيهَا إذَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافٍ وَإِقْرَارٍ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْيَسَارِ , فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ الْمُوسِرَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَدَفْعُهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا , لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهَا مُنْكَرًا هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي قُصُورِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ:
فَأَحَدُهُمَا قُصُورُهَا عَنْ سَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ الدَّعَاوَى فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُعْتَرَفِ بِهَا , فَأَمَّا مَا تَدَاخَلَهُ جَحْدٌ وَإِنْكَارٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي زِيَادَتِهَا عَلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ:
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ بِتَصَفُّحِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ مُسْتَعْدٍ , وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ يَجُوزُ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالْغِلْظَةِ تَجَوُّزًا فِيهَا. وَالْقَضَاءُ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ فَهُوَ بِالْأَنَاةِ وَالْوَقَارِ أَخَصُّ (1).
ثَانِيًا: الْمَظَالِمُ (2)
3 - وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ قَوْدُ الْمُتَظَالِمِينَ إلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ , وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعِينَ عَنْ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ الصِّلَةَ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَبَيْنَ الْمَظَالِمِ فَقَالَ (3): بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مُؤْتَلِفٌ وَفَرْقٌ مُخْتَلِفٌ , فَأَمَّا الشَّبَهُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا عَلَى الرَّهْبَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِقُوَّةِ السَّلْطَنَةِ.
__________
(1) - والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 285 - 286 وتحفة الناظر وغنية الذاكر ص 178و179وتبصرة الحكام لابن فرحون 1/ 19 والمعيار 10/ 101
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6022) و مجموع الفتاوى - (ج 20 / ص 392) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 332) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 388) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 348) ومجلة المنار - (ج 13 / ص 33) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 158) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 2) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 321) ومآثر الإنافة في معالم الخلافة - (ج 1 / ص 38)
(3) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 491)(1/12)
وَالثَّانِي: جَوَازُ التَّعَرُّضِ فِيهِمَا لِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ , وَالتَّطَلُّعِ إلَى إنْكَارِ الْعُدْوَانِ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ , وَالنَّظَرَ فِي الْحِسْبَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا رَفُهَ عَنْهُ الْقُضَاةُ , وَلِذَلِكَ كَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضُ , وَجَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوقِعَ إلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ , وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوقِعَ إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ , وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوقِعَ إلَى الْمُحْتَسِبِ , وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوقِعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ , وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُحْتَسِبِ.
ثَالِثًا: الْإِفْتَاءُ (1):
4 - الْإِفْتَاءُ تَبْلِيغٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالْمُفْتِي هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ دَرَكِ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ عَلَى يُسْرٍ مِنْ غَيْرِ مُعَانَاةِ تَعَلُّمٍ , وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُفْتِي فَتْوَى مَنْ اسْتَفْتَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُفْتٍ سِوَاهُ (2) لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة، الآية:159]،وَقَالَ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران، الآية:187]،هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ , فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ , وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّهَا هَلَكَةٌ , وَلَا يَتَكَلَّفَنَّ الرَّجُلُ مَا لَا يَعْلَمُ فَيَخْرُجُ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ (3). وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4).
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْإِفْتَاءِ وَبَيْنَ الْحِسْبَةِ مَعْنًى جَامِعٌ هُوَ التَّبْلِيغُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالْكَشْفُ عَنْ الْحَقِّ , وَإِرْشَادُ الْمُسْتَعْلِمِ الْجَاهِلِ , فَالْإِفْتَاءُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْحِسْبَةِ وَدُونَهَا فِي وَسَائِلِ الْكَشْفِ وَالْإِبَانَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى التَّعْرِيفُ بِالْحُكْمِ وَالِاحْتِسَابُ يَكُونُ التَّعْرِيفُ أَوْلَى مَرَاتِبِهِ.
رَابِعًا: الشَّهَادَةُ (5):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6023)
(2) - كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب 2/ 181 - 182
(3) - تفسير ابن أبي حاتم - (ج 16 / ص 289) برقم (4673) و الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (ج 3 / ص 269) برقم (1141) وكتاب الفقيه والمتفقه 2/ 181 - 182وإسناده صحيح
الميثاق: العهد= المتكلف: المبالغ لما لم يكلفه الشارع ولا أُمر به
(4) - مسند أحمد برقم (7782) وسنن ابن ماجه برقم (276) أنس والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 391) برقم (8172) طلق بن علي و المعجم الكبير للطبراني - (ج 8 / ص 431) برقم (9944) ابن مسعود وهو صحيح مشهور
(5) - بدائع الصنائع 9/ 4060وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 164و165 والفواكه الدواني 2/ 303 وتبصرة الحكام 2/ 204 والفروق 1/ 504 ونهاية المحتاج 8/ 304 والمغني لابن قدامة 10/ 215(1/13)
5 - الشَّهَادَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ إخْبَارُ الشَّاهِدِ الْحَاكِمَ إخْبَارًا نَاشِئًا عَنْ عِلْمٍ لَا عَنْ ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ , وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا إخْبَارٌ بِمَا حَصَلَ فِيهِ التَّرَافُعُ وَقُصِدَ بِهِ الْقَضَاءُ وَبَتُّ الْحُكْمِ (1).
وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [سورة البقرة، الآية:282]، وَلَهَا حَالَتَانِ حَالَةُ تَحَمُّلٍ وَحَالَةٌ أَدَاءً , وَحُكْمُ تَحَمُّلِهَا الْوُجُوبُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ إنْ وُجِدَ غَيْرُهُ , وَإِلَّا تَعَيَّنَ لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ .. } [سورة الطلاق، الآية:2].
وَأَمَّا الْأَدَاءُ فَفَرْضُ عَيْنٍ لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} [سورة البقرة، الآية:282].
وَيَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إلَى أَدَائِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي يُسْتَدَامُ فِيهَا التَّحْرِيمُ حِسْبَةً. أَمَّا مَا لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْحُدُودِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ , لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ (2) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « .. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. » (3).
وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّارِعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مَرْتَبَةً مِنْ مَرَاتِبِ الْحِسْبَةِ , وَوَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْحِسْبَةِ (4):
6 - شُرِعَتْ الْحِسْبَةُ طَرِيقًا لِلْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّوْجِيهِ إلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَمَنْعُ الضَّرَرِ. وَقَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ الْخَيْرَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَا إلَيْهِ , وَكَرَّهَ إلَيْهِمْ الْمُنْكَرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ (5) , كَمَا أَمَرَهُمْ بِمَنْعِ غَيْرِهِمْ مِنْ اقْتِرَافِهِ , وَأَمَرَهُمْ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى , فَقَالَ تَعَالَى: {.وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة، الآية:2]، وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أَمَةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 17 / ص 180)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6024) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 379) ودرر الحكام شرح غرر الأحكام 2/ 190 وحاشية رد المحتار 4/ 409وحاشية الدسوقي 4/ 174 - 175ونهاية المحتاج 8/ 315و الزواجر 2/ 27 والمغني 10/ 215
(3) - صحيح مسلم برقم (7028)
وفي تحفة الأحوذي - (ج 4 / ص 61):
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُرْفَعَ قِصَّتُهُ إِلَى الْوَالِي فَإِذَا رَأَى فِي مَعْصِيَةٍ فَيُنْكِرُهَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ عَجَزَ يَرْفَعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ. كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6024)
(5) - لفوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات، الآية:7](1/14)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِهَا , وَقَرَنَهَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ , مَعَ تَقْدِيمِهَا فِي الذِّكْرِ فِي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة، وَوَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِكَوْنِهِمْ عَامِلِينَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة، وَذَمَّ مَنْ تَرَكَهَا وَجَعَلَ تَرْكَهَا سَبَبًا لِلَّعْنَةِ فِي قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (79) سورة المائدة، وَجَعَلَ تَرْكَهَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَشِيعَتِهِ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (21) سورة النور، وَفَضَّلَ مَنْ يَقُومُ بِهَا مِنْ الْأُمَمِ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .. } (110) سورة آل عمران، وَامْتَدَحَ مَنْ يَقُومُ بِهَا مِنْ الْأُمَمِ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي قوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [سورة آل عمران، الآية:113 - 114]،وَجَعَلَ الْقِيَامَ بِهَا سَبَبًا لِلنَّجَاةِ فِي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (165) سورة الأعراف، وَإِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا شِرْعَةٌ فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِنَا مِنْ الْأُمَمِ وَذَلِكَ فِي قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (21) سورة آل عمران، ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِهَا مِنْ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.
وَلَقَدْ سَلَكَتْ السُّنَّةُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَلِكَ مَسْلَكَ الْكِتَابِ مِنْ الْأَمْرِ بِهَا , وَالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّهَاوُنِ فِيهَا , رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (186)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) =(1/15)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (فَلْيُغَيِّرْهُ) فَهُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة. وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين. وَلَمْ يُخَالِف فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْض الرَّافِضَة، وَلَا يُعْتَدّ بِخِلَافِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لَا يُكْتَرَث بِخِلَافِهِمْ فِي هَذَا، فَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَنْبُغ هَؤُلَاءِ. وَوُجُوبه بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَأَمَّا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَة أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِير غَيْركُمْ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَر، فَإِذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِل الْمُخَاطَب فَلَا عَتْبَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى الْفَاعِل لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول. وَاَللَّه أَعْلَم.
ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْض النَّاس سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيع أَثِمَ كُلّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْف. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَتَعَيَّن كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَم بِهِ إِلَّا هُوَ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَته إِلَّا هُوَ، وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَته أَوْ وَلَده أَوْ غُلَامه عَلَى مُنْكَر أَوْ تَقْصِير فِي الْمَعْرُوف قَالَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: وَلَا يَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لِكَوْنِهِ لَا يُفِيد فِي ظَنِّهِ بَلْ يَجِب عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول. وَكَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} وَمَثَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا بِمَنْ يَرَى إِنْسَانًا فِي الْحَمَّام أَوْ غَيْره مَكْشُوفَ بَعْضِ الْعَوْرَةِ وَنَحْو ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم. قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يُشْتَرَط فِي الْآمِر وَالنَّاهِي أَنْ يَكُون كَامِل الْحَال مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُر بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْر وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُر بِهِ، وَالنَّهْي وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُر نَفْسه وَيَنْهَاهَا، وَيَأْمُر غَيْره وَيَنْهَاهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْف يُبَاح لَهُ الْإِخْلَال بِالْآخَرِ؟ قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بِأَصْحَابِ الْوِلَايَات بَلْ ذَلِكَ جَائِز لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ غَيْر الْوُلَاة فِي الصَّدْر الْأَوَّل، وَالْعَصْر الَّذِي يَلِيه كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاة بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الْمُنْكَر، مَعَ تَقْرِير الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَتَرْكِ تَوْبِيخهمْ عَلَى التَّشَاغُل بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مِنْ غَيْر وِلَايَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُر وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُر بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الشَّيْء؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة، وَالْمُحَرَّمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزِّنَا وَالْخَمْر وَنَحْوهَا، فَكُلّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاء بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِق الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال وَمِمَّا يَتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَل فِيهِ، وَلَا لَهُمْ إِنْكَاره، بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ. ثُمَّ الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ لِأَنَّ عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ. وَعَلَى الْمَذْهَب الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد وَالْمُخْطِئ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا، وَالْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُ، لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف إِذَا لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر. وَذَكَرَ أَقْضَى الْقُضَاة أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابه " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّةُ " خِلَافًا بَيْن الْعُلَمَاء فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ السُّلْطَان الْحِسْبَة هَلْ لَهُ أَنْ يَحْمِل النَّاس عَلَى مَذْهَبه فِيمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاء إِذَا كَانَ الْمُحْتَسِب مِنْ أَهْل الِاجْتِهَاد أَمْ لَا يُغَيِّر مَا كَانَ عَلَى مَذْهَب غَيْره؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُغَيِّر لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمْ يَزَل الْخِلَاف فِي الْفُرُوع بَيْن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَلَا يُنْكِر مُحْتَسِب وَلَا غَيْره عَلَى غَيْره. وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِض عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إِذَا لَمْ يُخَالِف نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَاب أَعْنِي بَاب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر قَدْ ضُيِّعَ أَكْثَره مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَة، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَان إِلَّا رُسُوم قَلِيلَة جِدًّا. وَهُوَ بَاب عَظِيم بِهِ قِوَام الْأَمْر وَمِلَاكُهُ. وَإِذَا كَثُرَ أَوَّلًا عَمّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ. وَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَد الظَّالِم أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّه تَعَالَى بِعِقَابِهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْآخِرَة، وَالسَّاعِي فِي تَحْصِيل رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَذَا الْبَاب، فَإِنَّ نَفْعَهُ عَظِيم لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَهَبَ مُعْظَمُهُ، وَيُخْلِص نِيَّته، وَلَا يُهَادِن مَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ مَرْتَبَته؛ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاَللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْر عَلَى قَدْر النَّصَب، وَلَا يُتَارِكهُ أَيْضًا لِصَدَاقَتِهِ وَمَوَدَّته وَمُدَاهَنَته وَطَلَب الْوَجَاهَة عِنْده وَدَوَام الْمَنْزِلَة لَدَيْهِ؛ فَإِنَّ صَدَاقَته وَمَوَدَّته تُوجِب لَهُ حُرْمَة وَحَقًّا، وَمَنْ حَقّه أَنْ يَنْصَحهُ =(1/16)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَيَهْدِيه إِلَى مَصَالِح آخِرَته، وَيُنْقِذهُ مِنْ مَضَارِّهَا. وَصَدِيق الْإِنْسَان وَمُحِبُّهُ هُوَ مَنْ سَعَى فِي عِمَارَة آخِرَتِهِ وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نَقْصٍ فِي دُنْيَاهُ. وَعَدُوُّهُ مَنْ يَسْعَى فِي ذَهَاب أَوْ نَقْص آخِرَته وَإِنْ حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ صُورَة نَفْعٍ فِي دُنْيَاهُ. وَإِنَّمَا كَانَ إِبْلِيس عَدُوًّا لَنَا لِهَذَا وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَوْلِيَاء لِلْمُؤْمِنِينَ لِسَعْيِهِمْ فِي مَصَالِح آخِرَتهمْ، وَهِدَايَتهمْ إِلَيْهَا، وَنَسْأَل اللَّه الْكَرِيم تَوْفِيقنَا وَأَحْبَابنَا وَسَائِر الْمُسْلِمِينَ لِمَرْضَاتِهِ، وَأَنْ يَعُمَّنَا بِجُودِهِ وَرَحْمَته. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَيَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر أَنْ يَرْفُق لِيَكُونَ أَقْرَب إِلَى تَحْصِيل الْمَطْلُوب. فَقَدْ قَالَ الْإِمَام الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَة فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ) وَمِمَّا يَتَسَاهَل أَكْثَر النَّاس فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَاب مَا إِذَا رَأَى إِنْسَانًا يَبِيع مَتَاعًا مَعِيبًا أَوْ نَحْوه فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُعَرِّفُونَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ. وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يَجِب عَلَى مَنْ عَلِم ذَلِكَ أَنْ يُنْكِر عَلَى الْبَائِع، وَأَنْ يُعْلِم الْمُشْتَرِي بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا صِفَة النَّهْي وَمَرَاتِبه فَقَدْ قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح:" فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ "
فَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (فَبِقَلْبِهِ)
مَعْنَاهُ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِزَالَةٍ وَتَغْيِيرٍ مِنْهُ لِلْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي وُسْعِهِ.
وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان)
مَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَقَلُّهُ ثَمَرَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي صِفَة التَّغْيِير فَحَقُّ الْمُغَيِّر أَنْ يُغَيِّرهُ بِكُلِّ وَجْه أَمْكَنَهُ زَوَاله بِهِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا؛ فَيَكْسِر آلَات الْبَاطِل، وَيُرِيق الْمُسْكِر بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُر مَنْ يَفْعَلهُ، وَيَنْزِع الْغُصُوبَ وَيَرُدَّهَا إِلَى أَصْحَابهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَهُ وَيَرْفُق فِي التَّغْيِير جَهْده بِالْجَاهِلِ وَبِذِي الْعِزَّة الظَّالِم الْمَخُوف شَرّه؛ إِذْ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى قَبُول قَوْله. كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُون مُتَوَلِّي ذَلِكَ مِنْ أَهْل الصَّلَاح وَالْفَضْل لِهَذَا الْمَعْنَى. وَيُغْلِظ عَلَى الْمُتَمَادِي فِي غَيّه، وَالْمُسْرِف فِي بَطَالَته؛ إِذَا أَمِنَ أَنْ يُؤَثِّر إِغْلَاظُه مُنْكَرًا أَشَدّ مِمَّا غَيَّرَهُ لِكَوْنِ جَانِبه مَحْمِيًّا عَنْ سَطْوَة الظَّالِم. فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّه أَنَّ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ يُسَبِّبُ مُنْكَرًا أَشَدّ مِنْهُ مِنْ قَتْله أَوْ قَتْل غَيْره بِسَبَبٍ كَفَّ يَدَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْل بِاللِّسَانِ وَالْوَعْظ وَالتَّخْوِيف. فَإِنْ خَافَ أَنْ يُسَبِّب قَوْله مِثْل ذَلِكَ غَيَّرَ بِقَلْبِهِ، وَكَانَ فِي سَعَة، وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ اِسْتَعَانَ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى إِظْهَار سِلَاحٍ وَحَرْبٍ، وَلْيَرْفَع ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْر إِنْ كَانَ الْمُنْكَر مِنْ غَيْره، أَوْ يَقْتَصِر عَلَى تَغْيِيره بِقَلْبِهِ. هَذَا هُوَ فِقْه الْمَسْأَلَة، وَصَوَاب الْعَمَل فِيهَا عِنْد الْعُلَمَاء وَالْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِمَنْ رَأَى الْإِنْكَار بِالتَّصْرِيحِ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ قُتِلَ وَنِيل مِنْهُ كُلّ أَذَى. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّه: وَيَسُوغ لِآحَادِ الرَّعِيَّة أَنْ يَصُدَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَة وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع عَنْهَا بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْر إِلَى نَصْبِ قِتَال وَشَهْر سِلَاح. فَإِنْ اِنْتَهَى الْأَمْر إِلَى ذَلِكَ رَبَطَ الْأَمْر بِالسُّلْطَانِ قَالَ: وَإِذَا جَارَ وَالِي الْوَقْت، وَظَهَرَ ظُلْمُهُ وَغَشْمُهُ، وَلَمْ يَنْزَجِر حِين زُجِرَ عَنْ سُوء صَنِيعه بِالْقَوْلِ، فَلِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْد التَّوَاطُؤ عَلَى خَلْعه وَلَوْ بِشَهْرِ الْأَسْلِحَة وَنَصْبِ الْحُرُوب. هَذَا كَلَامُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ خَلْعه غَرِيب، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُ إِثَارَة مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ الْبَحْث وَالتَّنْقِير وَالتَّجَسُّس وَاقْتِحَام الدُّور بِالظُّنُونِ، بَلْ إِنْ عَثَرَ عَلَى مُنْكَر غَيَّرَهُ جَهْده. هَذَا كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَقَالَ أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات. فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اِسْتِسْرَار قَوْم بِهَا لِأَمَارَة وَآثَار ظَهَرَتْ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ.
أَحَدهمَا: أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي اِنْتَهَاك حُرْمَة يَفُوت اِسْتِدْرَاكهَا، مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلهُ أَوْ بِامْرَأَةِ لِيَزْنِيَ بِهَا فَيَجُوز لَهُ فِي مِثْل هَذَا الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِم عَلَى الْكَشْف وَالْبَحْث حَذَرًا مِنْ فَوَات مَا لَا يُسْتَدْرَك. وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَة جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَام عَلَى الْكَشْف وَالْإِنْكَار.
الضَّرْب الثَّانِي: مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَة فَلَا يَجُوز التَّجَسُّس عَلَيْهِ، وَلَا كَشْف الْأَسْتَار عَنْهُ. فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَات الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَة مِنْ دَارٍ أَنْكَرَهَا خَارِج الدَّار لَمْ يَهْجُم عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْمُنْكَر ظَاهِر وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِف عَنْ الْبَاطِن. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي آخَر الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة بَابًا حَسَنًا فِي الْحِسْبَة مُشْتَمِلًا عَلَى جُمَل مِنْ قَوَاعِد الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَقَدْ أَشَرْنَا هُنَا إِلَى مَقَاصِدهَا، وَبَسَطْت الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب لِعِظَمِ فَائِدَته، وَكَثْرَة الْحَاجَة إِلَيْهِ، وَكَوْنه مِنْ أَعْظَم قَوَاعِد الْإِسْلَام. وَاَللَّه أَعْلَم.(1/17)
وَجَاءَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِهَا ما روي َعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ». ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ «كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا» (1).
و عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (2).
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ" (3).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ (4):
7 - الْحِسْبَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا بِالنَّظَرِ إلَى مُتَعَلَّقِهَا، إذْ إنَّهَا قَدْ تَتَعَلَّقُ بِوَاجِبٍ يُؤْمَرُ بِهِ , أَوْ مَنْدُوبٍ يُطْلَبُ عَمَلُهُ , أَوْ حَرَامٍ يُنْهَى عَنْهُ , فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَاجِبٍ أَوْ حَرَامٍ فَوُجُوبُهَا حِينَئِذٍ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ , وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِمَنْدُوبٍ أَوْ بِمَكْرُوهٍ فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ وَاجِبَةً , بَلْ تَكُونُ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ تَبَعًا لِمُتَعَلَّقِهَا , إذْ الْغَرَضُ مِنْهَا الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ , وَالِامْتِثَالُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ وَاجِبًا بَلْ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا , فَتَكُونُ الْوَسِيلَةُ إلَيْهِ كَذَلِكَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ مَا يَجْعَلُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا دَاخِلًا فِي الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَتَكُونُ حَرَامًا. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحِسْبَةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي وَرَدَتْ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ (5): وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي النَّوْعِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى هُوَ الْمَعْرُوفُ بِوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ. وَقَاعِدَتُهُ وَأَصْلُهُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَوُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ".
وقَالَ الْجَصَّاصُ (6): "وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ , وَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ , وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى وُجُوبِهِ ".
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4338) وهو حديث حسن =تأطر: تعطفه عليه وتوجهه إليه
(2) - سنن الترمذى برقم (2323) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 14 / ص 467) برقم (37221) ومسند أحمد برقم (24002) وهو حديث حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 161) برقم (397) وهو حسن
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6026)
(5) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 322)
(6) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 191)(1/18)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ (1): وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ , وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْحِسْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (2) , وَقَدْ تَكُونُ فَرْضَ , عَيْنٍ فِي الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ , وَفِي حَقِّ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَا يَلِي:
الْأُولَى (3): الْأَئِمَّةُ وَالْوُلَاةُ وَمَنْ يَنْتَدِبُهُمْ أَوْ يَسْتَنِيبُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْهُ , لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَمَكِّنُونَ بِالْوِلَايَةِ وَوُجُوبِ الطَّاعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج، فَإِنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ مَا يَدْعُو إلَى الِاسْتِيلَاءِ , وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْوُلَاةُ وَالْحُكَّامُ , فَلَا عُذْرَ لِمَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ إذَا أَهْمَلَ الْوُلَاةُ وَالْحُكَّامُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ فَجَدِيرٌ أَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ , فَيُوشِكُ أَنْ تَضِيعَ حُرُمَاتُ الدِّينِ وَيُسْتَبَاحَ حِمَى الشَّرْعِ وَالْمُسْلِمِينَ (4).
الثَّانِيَةُ: مَنْ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ إلَّا هُوَ , أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَتِهِ غَيْرُهُ كَالزَّوْجِ وَالْأَبِ , وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُؤْتَمَرُ بِأَمْرِهِ , أَوْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ صَلَاحِيَّةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْجِدَالِ , أَوْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ , فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ (5).
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْحِسْبَةَ قَدْ تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَنْصُوبِ لَهَا بِحَسَبِ عَقْدٍ آخَرَ , وَعَلَى الْمَنْصُوبِ لِهَلْ تَجِبُ ابْتِدَاءً , كَمَا إذَا رَأَى الْمُودَعُ سَارِقًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ , وَكَذَلِكَ إذَا صَالَ فَحْلٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ , سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ أَوْ الَّذِي صَالَ عَلَيْهِ الْفَحْلُ , أَوْ مُعَيَّنًا لَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَلَا ضَمَانَ , لِأَنَّ دَفْعَهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فَنَابَ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5997) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 429)
(2) - أحكام القرآن للجصاص 2/ 315 وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 292وأحكام القرآن لإلكيا الهراسي 2/ 62 وشرح النووي على مسلم 2/ 23والطرق الحكمية ص 237 وقواعد الأحكام 1/ 50 وجمع الجوامع بشرح جلال الدين المحلي وحاشية العاطر 1/ 185 و186 والآدتب الشرعية 1/ 181 وغذاء الألباب 1/ 188
(3) - الأحكام السلطانية للمارودي ص 240 - 241وتحفة الناظر وغنية الذاكر 4و24 وتفسير القرطبي 4/ 165ونصاب الاحتساب 24و189وغرائب القرآن 4/ 28 والآداب الشرعية 1/ 182 والطرق الحكمية ص 237
(4) - ففي مسند أبي عوانة برقم (5670) عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنَّكَ كُنْتَ لَتُكْرِمُنِي فِي الصِّحَّةِ، وَتَعُودُنِي فِي الْمَرَضِ، وَلَوْلا مَا أَتَى بِهِ يَعْنِي الْمَوْتَ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ رَاعٍ غَشَّ رَعِيَّتَهُ، إِلا وَهُوَ فِي النَّارِ. وهو صحيح
(5) - شرح مسلم للنووي 2/ 23 والزواجر عن قتراف الكبائر 2/ 170 والآداب الشرعية 1/ 174 وغذاء الألباب 1/ 181 وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 292(1/19)
عَنْهُمْ فِيهِ (1). الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلَا يَسْقُطُ أَصْلًا , إذْ هُوَ كَرَاهَةُ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ كُفْرٌ لِحَدِيثِ « .. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (2).
الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ , فَالْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إلَى الْكُلِّ مَعَ إسْنَادِ الدَّعْوَةِ إلَى الْبَعْضِ بِمَا يُحَقِّقُ مَعْنَى فَرْضِيَّتِهَا عَلَى الْكِفَايَةِ , وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكُلِّ , لَكِنْ بِحَيْثُ إنْ أَقَامَهَا الْبَعْضُ سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ , وَلَوْ أَخَلَّ بِهَا الْكُلُّ أَثِمُوا جَمِيعًا. وَلِأَنَّهَا مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ وَعَزَائِمِهَا الَّتِي لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا الْعُلَمَاءُ الْعَالِمُونَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ , وَمَرَاتِبِ الِاحْتِسَابِ (3) , فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُهَا يُوشِكُ أَنْ يَأْمُرَ بِمُنْكَرٍ وَيَنْهَى عَنْ مَعْرُوفٍ , وَيَغْلُظَ فِي مَقَامِ اللِّينِ , وَيَلِينَ فِي مَقَامِ الْغِلْظَةِ , وَيُنْكِرَ عَلَى مَنْ لَا يَزِيدُهُ الْإِنْكَارُ إلَّا التَّمَادِي وَالْإِصْرَارَ (4).
وَيَكُونُ الِاحْتِسَابُ حَرَامًا فِي حَالَتَيْنِ:
الْأُولَى: فِي حَقِّ الْجَاهِلِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ مَوْضُوعَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ فَهَذَا يَحْرُمُ فِي حَقِّهِ , لِأَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَى عَنْ الْمَعْرُوفِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، مِثْلِ أَنْ يَنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَدِّي نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ فَهَذَا يَحْرُمُ فِي حَقِّهِ (5).
وَيَكُونُ الِاحْتِسَابُ مَكْرُوهًا إذَا أَدَّى إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ (6).
وَيَكُونُ الِاحْتِسَابُ مَنْدُوبًا فِي حَالَتَيْنِ:
الْأُولَى: إذَا تَرَكَ الْمَنْدُوبَ أَوْ فَعَلَ الْمَكْرُوهَ فَإِنَّ الِاحْتِسَابَ فِيهِمَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وُجُوبُ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً , لِأَنَّهَا مِنْ الشِّعَارِ الظَّاهِرِ فَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6028) والزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 3 / ص 165) وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 293 وأحكام القرآن لإلكيا الهراسي 2/ 62
(2) - صحيح مسلم برقم (186) حديث «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
(3) - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 5 / ص 53)
(4) - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 2/ 67
(5) - الفروق 4/ 257 وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7/ 27 والآداب الشرعية 1/ 185 وغذاء الألباب 1/ 191 و فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 173) وفتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 187) والمنتقى من فتاوى الفوزان - (ج 24 / ص 5) ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 7 / ص 261) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5365)
(6) - إحياء علوم الدين 2/ 428 وشرح إحياء علوم الدين للزبيدي 7/ 52 - 53(1/20)
الْأَمْرُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً. وَحَمَلُوا كَوْنَ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبًّا عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ , وَقَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا أَمَرَ بِنَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ صَوْمِهِ صَارَ وَاجِبًا , وَلَوْ أَمَرَ بِهِ بَعْضُ الْآحَادِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا.
وَالثَّانِيَةُ: إذَا سَقَطَ وُجُوبُ الِاحْتِسَابِ , كَمَا إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَئِسَ مِنْ السَّلَامَةِ وَأَدَّى الْإِنْكَارُ إلَى تَلَفِهَا. وَيَكُونُ حُكْمُ الِاحْتِسَابِ التَّوَقُّفَ إذَا تَسَاوَتْ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ , لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَصْلَحَةِ وَدَرْءَ الْمَفْسَدَةِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ , فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ فُعِلَ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ .. } (16) سورة التغابن، وَإِنْ تَعَذَّرَ الدَّرْءُ دُرِئَتْ الْمَفْسَدَةُ وَلَوْ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا .. } (219) سورة البقرة، حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ لِأَنَّ مَفْسَدَتَهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (1).وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْمَفَاسِدُ الْمَحْضَةُ , فَإِنْ أَمْكَنَ دَرْؤُهَا دُرِئَتْ , وَإِنْ تَعَذَّرَ دَرْءُ الْجَمِيعِ دُرِئَ الْأَفْسَدُ فَالْأَفْسَدُ , وَالْأَرْذَلُ فَالْأَرْذَلُ , وَإِنْ تَسَاوَتْ فَقَدْ يَتَوَقَّفُ , وَقَدْ يَتَخَيَّرُ , وَقَدْ يَخْتَلِفُ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتُ (2). وَيَقُولُ شيخُ الإسلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ , وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ , أَوْ تَزَاحَمَتْ , فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ , فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ , فَيُنْظَرُ فِي الْمَعَارِضِ لَهُ , فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ , بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ , لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قُدِّرَ لِإِنْسَانٍ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا , وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ , وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّخْصُ أَوْ الطَّائِفَةُ جَامِعِينَ بَيْنَ مَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا , بَلْ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوهُمَا جَمِيعًا , أَوْ يَتْرُكُوهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَا أَنْ يُنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ , بَلْ يُنْظَرُ , فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَكْثَرَ أَمَرَ بِهِ , وَإِنْ اسْتَلْزَمَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَعْرُوفٍ أَعْظَمَ مِنْهُ , بَلْ يَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَزَوَالِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ , وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ أَغْلِبَ نَهْي عَنْهُ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ فَوَاتَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ , وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنْكَرِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ أَمْرًا بِمُنْكَرٍ وَسَعْيًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ تَكَافَأَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ الْمُتَلَازِمَانِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُمَا. فَتَارَةً يَصْلُحُ الْأَمْرُ , وَتَارَةً يَصْلُحُ النَّهْيُ , وَتَارَةً لَا يَصْلُحُ لَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَإِذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ اسْتَبَانَ
__________
(1) - قواعد الأحكام 1/ 98
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6029) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 10110)(1/21)
الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ , فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا بِعِلْمٍ وَنِيَّةٍ , وَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ عَاصِيًا , فَتَرْكُ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ مَعْصِيَةٌ , وَفِعْلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ (1).
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحِسْبَةِ (2):
8 - مَا بَرِحَ النَّاسُ - فِي مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ - فِي حَاجَةٍ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ إذَا جَهِلُوا , وَيُذَكِّرُهُمْ إذَا نَسُوا , وَيُجَادِلُهُمْ إذَا ضَلُّوا , وَيَكُفُّ بَأْسَهُمْ إذَا أَضَلُّوا , وَإِذَا سَهُلَ تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ , وَتَذْكِيرُ النَّاسِي , فَإِنَّ جِدَالَ الضَّالِّ وَكَفَّ بَأْسِ الْمُضِلِّ لَا يَسْتَطِيعُهُمَا إلَّا ذُو بَصِيرَةٍ وَحِكْمَةٍ وَبَيَانٍ. وَلِمَنْعِ هَذَا شُرِعَتْ الدَّيَّانَاتُ , وَقَامَتْ النُّبُوَّاتُ وَظَهَرَتْ الرِّسَالَاتُ آمِرَةً بِالْمَعْرُوفِ , وَنَاهِيَةً عَنْ الْمُنْكَرِ , لِيَكُونَ الْأَمْنُ وَالسَّلَامُ , وَالِاسْتِقْرَارُ وَالنِّظَامُ , وَصَلَاحُ الْعِبَادِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (165) سورة الأعراف (3). وَمِنْ هَذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَبِيلَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ , وَطَرِيقَ الْمُرْشِدِينَ. الصَّادِقِينَ , وَمِنْهَاجَ الْهَادِينَ الصَّالِحِينَ , وَكَانَ أَمْرًا مُتَّبَعًا وَشَرِيعَةً ضَرُورِيَّةً وَمَذْهَبًا وَاجِبًا , سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَسُمِّيَتْ بِاسْمِ " الْحِسْبَةِ " أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَقَدْ صَارَتْ بِسَبَبِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قَالَ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران (4). وَرُوِيَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 129) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 337) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3892) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 3 / ص 144) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 382) والحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 152) ومسؤولية إمام المسجد - (ج 1 / ص 69)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6030)
(3) - لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين، جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق؛ وكان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها - وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة - وانتكسوا إلى عالم «الحيوان» حين تخلوا عن خصائص «الإنسان». فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان! -في ظلال القرآن - (ج 3 / ص 309)
(4) - إن التعبير بكلمة "أخرجت" المبني لغير الفاعل , تعبير يلفت النظر. وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة , تخرج هذه الأمة إخراجا ; وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب , ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله. . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى , لطيفة الدبيب. حركة تخرج على مسرح الوجود أمة. أمة ذات دور خاص. لها مقام خاص , ولها حساب خاص: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ; لتعرف حقيقتها وقيمتها , وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة , ولتكون لها القيادة , بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض. ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائما ما تعطيه. ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح , والتصور الصحيح , والنظام الصحيح , والخلق الصحيح , والمعرفة الصحيحة , والعلم الصحيح. . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها , وتحتمه عليها غاية وجودها. واجبها أن تكون في الطليعة دائما , وفي مركز القيادة دائما. ولهذا المركز تبعاته , فهو لا يؤخذ ادعاء , ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له. . وهي بتصورها الاعتقادي , وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي , وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلا له كذلك. . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ; ويدفعها إلى السبق في كل مجال. . لو أنها تتبعه وتلتزم به , وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
وفي أول مقتضيات هذا المكان , أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد. . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة , ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه). . كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر , وإقامتها على المعروف , مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة , بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب , وبكل ما في طريقها من أشواك. . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد. . وكل هذا متعب شاق , ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ; ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة. .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم , والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل. ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر , وللفضيلة والرذيلة , وللمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
وهذا ما يحققه الإيمان , بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون. . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر , وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير , الآمرون بالمعروف , الناهون عن المنكر , أن يمضوا في هذا الطريق الشاق , ويحتملوا تكاليفه. وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته , ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها , ويواجهون هبوط الأرواح , وكلل العزائم , وثقلة المطامع. . وزادهم هو الإيمان , وعدتهم هي الإيمان. وسندهم هو الله. . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل , وكل سند غير سند الله ينهار!
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية , التي تعرف بها في المجتمع الإنساني. فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة. وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة , وغير متحققة فيها صفة الإسلام. في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 62)(1/22)
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ». وفي رواية ٍ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» (1).
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 460) وسنن أبى داود برقم (4340) وسنن الترمذى برقم (3334) وهو صحيح(1/23)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِى الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا». وَقَالَ مَرَّةً «أَنْكَرَهَا». «كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» (1).
لِأَجْلِ ذَلِكَ عَهِدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ إلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَقُومَ طَائِفَةٌ مِنْهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إلَى الْخَيْرِ وَإِسْدَاءِ النُّصْحِ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ , وَلَا تَخْلُصُ مِنْ عُهْدَتِهَا حَتَّى تُؤَدِّيَهَا طَائِفَةٌ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ أَثَرًا فِي اسْتِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي. وَالْحِسْبَةُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَوَظِيفَةٌ دِينِيَّةٌ تَلِي فِي الْمَرْتَبَةِ وَظِيفَةَ الْقَضَاءِ , إذْ إنَّ وِلَايَاتِ رَفْعِ الْمَظَالِمِ عَنْ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:
أَسْمَاهَا وَأَقْوَاهَا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ , وَتَلِيهَا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ , وَتَلِيهَا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ (2). وَالْحِسْبَةُ مِنْ الْخُطَطِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْجِهَادِ , وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً , أَعْلَاهَا الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ , وَالْبَقِيَّةُ كُلُّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَهَا , وَهِيَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا , وَكُلُّهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهَا , وَدَاخِلَةٌ فِيهَا , لِعُمُومِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ , وَتَنْفِيذُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِيهَا عَلَى الْعُمُومِ , وَقَدْ عُنِيَ الْأَئِمَّةُ بِوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً , وَوَضَعُوا فِيهَا الْمُؤَلَّفَاتِ مُفَصِّلِينَ أَحْكَامَهَا وَمَرَاتِبَهَا , وَأَرْكَانَهَا , وَشَرَائِطَهَا , وَتَأْصِيلِ مَسَائِلِهَا , وَوَضْعِ الْقَوَاعِدِ فِي مُهِمَّاتِهَا (3).
أَنْوَاعُ الْحِسْبَةِ (4):
9 - وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ نَوْعَانِ: وِلَايَةٌ أَصْلِيَّةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ مِنْ الشَّارِعِ , وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي اقْتَضَاهَا التَّكْلِيفُ بِهَا لِتَثْبُتَ لِكُلِّ مَنْ طُلِبَتْ مِنْهُ. وَوِلَايَةٌ مُسْتَمَدَّةٌ وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي يَسْتَمِدُّهَا مَنْ عُهِدَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَلِيفَةِ أَوْ الْأَمِيرُ وَهُوَ الْمُحْتَسِبُ , وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ , لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا شَخْصِيًّا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ.
أَمَّا غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْوِلَايَةُ الَّتِي أَضْفَاهَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ وَهِيَ الْوِلَايَةُ الْأَصْلِيَّةُ , وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ كَمَا تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ مُبَاشَرَةً تَتَضَمَّنُ كَذَلِكَ الْقِيَامَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى اجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ , لَا عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِعْدَاءِ , وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّقَدُّمِ إلَى الْقَاضِي بِالدَّعْوَى بِالشَّهَادَةِ لَدَيْهِ , أَوْ بِاسْتِعْدَاءِ الْمُحْتَسِبِ , وَتُسَمَّى الدَّعْوَى لَدَى الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحُكْمِ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ دَعْوَى حِسْبَةٍ , وَلَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ ,
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4347) وصحيح الجامع (689) حديث حسن
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6032) والحسبة لابن تيمية 10و11 والطرق الحكمية ص 239 و الأحكام السلطانية للمارودي ص 241 - 242 والحاوي للفتاوى 1/ 248 وأحكام القرآن لابن العربي ص 1629 - 1633
(3) - غياث الأمم 146 و176و177ومقدمة ابن خلدون 2/ 2565و أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1629 - 1633
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6032)(1/24)
وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ مُدَّعِيًا بِالْحَقِّ وَشَاهِدًا بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِالِاحْتِسَابِ دُونَ انْتِدَابٍ لَهَا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْمُتَطَوِّعَ , أَمَّا مَنْ انْتَدَبَهُ الْإِمَامُ وَعَهِدَ إلَيْهِ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفَ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ فَهُوَ الْمُحْتَسِبُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ كَمَا بَيَّنَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَهِيَ (1): الْأَوَّلُ: أَنَّ قِيَامَ الْمُحْتَسَبِ بِالْوِلَايَةِ صَارَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا يَسُوغُ أَنْ يُشْتَغَلَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا وَقِيَامُ الْمُتَطَوِّعِ بِهَا مِنْ نَوَافِلِ عَمَلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِلِاسْتِعْدَاءِ فِيمَا يَجِبُ إنْكَارُهُ , وَلَيْسَ الْمُتَطَوِّعُ مَنْصُوبًا لِلِاسْتِعْدَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِالْوِلَايَةِ إجَابَةُ مَنْ اسْتَعْدَاهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ إجَابَتُهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لِيَصِلَ إلَى إنْكَارِهَا وَيَفْحَصَ عَمَّا تُرِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ , وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ بَحْثٌ وَلَا فَحْصٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَعْوَانًا , لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ لَهُ مَنْصُوبٌ وَإِلَيْهِ مَنْدُوبٌ لِيَكُونَ عَلَيْهِ أَقْدَرَ , وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَنْدُبَ لِذَلِكَ أَعْوَانًا.
السَّادِسُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ فِي الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَتَجَاوَزَ إلَى الْحُدُودِ , وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يُعَزِّرَ عَلَى مُنْكَرٍ.
السَّابِعُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى حِسْبَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى إنْكَارِ مُنْكَرٍ
الثَّامِنُ: أَنَّ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ , وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ فَيُقِرُّ وَيُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُتَطَوِّعِ (2).
أَرْكَانُ الْحِسْبَةِ (3):
10 - ذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ (4): الْمُحْتَسِبُ , وَالْمُحْتَسَبُ عَلَيْهِ , وَالْمُحْتَسَبُ فِيهِ , وَنَفْسُ الِاحْتِسَابِ. وَلِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ وَشُرُوطٌ تَخُصُّهُ:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْمُحْتَسِبُ (5):
وَهُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِلنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ , وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِ السُّوقِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ , وَاعْتِبَارِ مَوَازِينِهِمْ وَغِشِّهِمْ , وَمُرَاعَاةِ مَا يَسْرِي عَلَيْهِ أُمُورُهُمْ , وَاسْتِتَابَةِ الْمُخَالِفِينَ , وَتَحْذِيرِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ , وَتَعْزِيرِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ مِنْ التَّعْزِيرِ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ (6).
__________
(1) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 157) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 486) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 7)
(2) - الأحكام السلطانية للماوردي ص 240 و241 والأحكام السلطانية لبي يعلى ص 284 و285 وتحفة الناظر وغنية الذاكر ص 178 و نهاية الرب 6/ 292 - 293
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6034)
(4) - إحياء علوم الدين 2/ 398و شرحه إتحاف السادة المتقين 7/ 14
(5) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6034) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 148)
(6) - معالم القربة في احكام الحسبة ص 7 ونهاية التربية في طلب الحسبة ص 14(1/25)
شُرُوطُ الْمُحْتَسِبِ (1):
11 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي صَاحِبِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ شُرُوطًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا , وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
أَوَّلًا: الْإِسْلَامُ:
الْإِسْلَامُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاحْتِسَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلْطَنَةِ وَعِزِّ التَّحْكِيمِ , فَخَرَجَ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ ذَلِيلٌ لَا يَسْتَحِقُّ عِزَّ التَّحْكِيمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: { .. وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (141) سورة النساء، وَلِأَنَّ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نُصْرَةً لِلدِّينِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ جَاحِدٌ لِأَصْلِ الدِّينِ (2).
الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّكْلِيفُ (الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ):
12 - التَّكْلِيفُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَشَرْطُهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ , وَصَلَاحِيَةِ الْمُكَلَّفِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا , وَدِعَامَتُهُ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْفَهْمِ , وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلًا لِلدِّينِ وَلِلدُّنْيَا فَأَوْجَبَ التَّكْلِيفَ بِكَمَالِهِ. فَالتَّكْلِيفُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الِاحْتِسَابِ وَتُوَلِّي وِلَايَتِهَا , أَمَّا مُجَرَّدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ ذَلِكَ , أَمَّا إمْكَانُ الْفِعْلِ وَجَوَازُهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَسْتَدْعِي إلَّا الْعَقْلَ فَإِذَا عَقَلَ الْقُرْبَةَ وَعَرَفَ الْمُنَاكِرَ وَطَرِيقَ التَّغْيِيرِ فَتَبَرَّعَ بِهِ كَانَ مِنْهُ صَحِيحًا سَائِغًا , فَلَهُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ , وَلَهُ أَنْ يُرِيقَ الْخَمْرَ , وَكَسْرُ الْمَلَاهِي , وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ نَالَ بِهِ ثَوَابًا , وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، فَإِنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا كَالصَّلَاةِ وَالْإِمَامَةِ وَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ , وَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوِلَايَاتِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ التَّكْلِيفُ , وَلِذَلِكَ جَازَ لِآحَادِ النَّاسِ فِعْلُهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ , وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ وِلَايَةٍ وَسَلْطَنَةٍ , وَلَكِنَّهَا تُسْتَفَادُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ كَقَتْلِ الْمُحَارِبِ , وَإِبْطَالِ أَسْبَابِهِ , وَسَلْبِ أَسْلِحَتِهِ فَإِنَّهُ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ , فَالْمَنْعُ مِنْ الْفِسْقِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْكُفْرِ (3).
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْعِلْمُ
13 - الْعِلْمُ الَّذِي يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُهُ فِي الْمُحْتَسِبِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ , فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِهَا رُبَّمَا اسْتَحْسَنَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ وَارْتَكَبَ الْمَحْذُورَ وَهُوَ غَيْرُ مُلِمٍّ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغُ مَرْتَبَةِ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6034)
(2) - معالم القربة ص8 وإحياء علوم الدين 2/ 398
(3) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 149) وتيسير التحرير 2/ 248 وأدب القاضي للمارودي 1/ 275 وأدب الدنيا والدين ص 19وتحفة الناظر ص 7 ومعالم القربة ص 7(1/26)
الِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيِّ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ (1). وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْعُرْفِيَّ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف، وَالِاجْتِهَادُ الشَّرْعِيُّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ (2).
وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ إلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمُحْتَسِبِ لِيَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَنْ اشْتَرَطَ فِيهِ بُلُوغَهُ مَرْتَبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , أَمَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى رَأْيِهِ (3).
وَلَا يُنْكِرُ الْمُحْتَسِبُ إلَّا مُجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ أَوْ مَا يَرَى الْفَاعِلُ تَحْرِيمَهُ , أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنْكَارُهُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ وَتَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ (4).
وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا الْعُلَمَاءُ , وَكَذَلِكَ مَا اُخْتُصَّ عِلْمُهُ بِهِمْ دُونَ الْعَامَّةِ لِجَهْلِهِمْ بِهَا. فَالْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَحْتَسِبَ إلَّا فِي الْجَلِيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ , أَمَّا مَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يُطِيفُ بِهِ مِنْ الْأَنْفَالِ وَيَفْتَقِرُ إلَى اجْتِهَادٍ , فَالْعَاصِي إنْ خَاضَ فِيهِ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ صِفَةَ التَّغْيِيرِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ وَنَافِعٌ (5).
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ (6):
14 - الْعَدَالَةُ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ مِنْ اقْتِرَافِ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْخِسَّةِ , أَوْ مُبَاحٍ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ (7).
__________
(1) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 163) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 25) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 3)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6035) ومقالات الشيخ سلمان العودة - (ج 64 / ص 2) والمستصفى - (ج 2 / ص 415) والبحر المحيط - (ج 8 / ص 102) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 25) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 3) والإسلام والدستور - (ج 1 / ص 100)
(3) - تحفة الناظر ص 7 و معالم القربة ص 8 والزواجر 2/ 168 - 169 و الأحكام السلطانية للماوردي ص 41 وشرح النووي على مسلم 2/ 24
(4) - الزواجر 2/ 169 وإحياء علوم الدين 2/ 409 والآداب الشرعية 1/ 182 و191 وغذاء الألباب 1/ 190 والفروق 4/ 257
(5) - تحفة الناظر ص 4 والآداب الشرعية 1/ 174 و175 وإحياء علوم الدين 2/ 409 والفروق 4/ 255 وقواعد الأحكام 1/ 58
(6) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6036) والتشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 50) والمحصول - (ج 4 / ص 398)
(7) - الأشباه والنظائر للسيوطي 384 و المستصفى للغزالي 1/ 100(1/27)
وَقَالَ الْجَصَّاصُ (1): أَصْلُهَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَصِدْقُ اللَّهْجَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَالْعَدْلُ مَنْ يَكُونُ مُجْتَنِبًا عَنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى الصَّغَائِرِ , وَيَكُونُ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ , وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ , وَيَسْتَعْمِلُ الصِّدْقَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً وَيَجْتَنِبُ الْكَذِبَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً. وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَحَقُّقَ الْعَدَالَةِ فِي الْمُحْتَسِبِ إذَا كَانَ مُتَطَوِّعًا غَيْرَ صَاحِبِ وِلَايَةٍ , وَاشْتَرَطُوهَا فِي صَاحِبِ الْوِلَايَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَا سَيَأْتِي.
أَمَّا وَجْهُ عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِي الْأَوَّلِ , فَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تَشْمَلُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ , وَإِنْ تَرَكَ الْإِنْسَانُ لِبَعْضِ الْفُرُوضِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فُرُوضًا غَيْرَهَا , فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الصَّوْمِ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ , فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرِ , فَإِنْ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ , وَأَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - أَجْرَى فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ (2). فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ , وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ} (3).
َقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُقْبَانِيُّ التِّلْمِسَانِيُّ الْمَالِكِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي الْعَدَالَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِفَةِ الْمُغَيِّرِ (الْمُحْتَسِبِ) أَوْ لَا. فَاعْتَبَرَ قَوْمٌ شَرْطِيَّتَهَا , وَرَأَوْا أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُغَيِّرُ , وَأَبَى مِنْ اعْتِبَارِهَا آخَرُونَ , وَذَلِكَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الشَّخْصِ فِي رَقَبَتِهِ كَالصَّلَاةِ فَلَا يُسْقِطُهُ الْفِسْقُ , كَمَا لَا يَسْقُطُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ بِتَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِأَمْرِ الشَّرْعِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ} (4) وَلَيْسَ كَوْنُهُ فَاسِقًا أَوْ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ بِعَيْنِهِ يُخْرِجُهُ عَنْ خِطَابِ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ طَرِيقَ الْفَرْضِيَّةِ مُتَغَايِرٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ (5): وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ , لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ , وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ (6): الْحَقُّ أَنَّ لِلْفَاسِقِ أَنْ يَحْتَسِبَ , وَبُرْهَانُهُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاحْتِسَابِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاطِيهِ مَعْصُومًا عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا؟ فَإِنْ شُرِطَ ذَلِكَ فَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ , ثُمَّ حَسَمَ لِبَابِ الِاحْتِسَابِ , إذْ لَا عِصْمَةَ
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 272)
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 467)
(3) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 467) والمعجم الأوسط للطبراني برقم (6817) وشعب الإيمان للبيهقي برقم (7307) ومجمع الزوائد برقم (12185) والبدع لابن وضاح برقم (289) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِ، وَلاَ نَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى نَجْتَنِبَهُ كُلَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:بَلْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ = وهو ضعيف
(4) - صحيح مسلم برقم (186)
(5) - أحكام القرآن لابن العربي 2/ 52
(6) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 149)(1/28)
لِلصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ , وَأَنَّ جُنُودَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَزَلْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ , وَشَارِبِ الْخَمْرِ , وَظَالِمِ الْأَيْتَامِ , وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ الْغَزْوِ لَا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا بَعْدَهُ , وَأَنَّ الْحِسْبَةَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ نَحْوَ إرَاقَةِ الْخَمْرِ , وَكَسْرِ الْمَلَاهِي وَغَيْرِهَا , فَإِذَا مُنِعَ الْفَاسِقُ مِنْ الْحِسْبَةِ بِالْقَوْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ قَوْلِهِ عَمَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْحِسْبَةِ بِالْفِعْلِ , لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَهْرُ , وَتَمَامُ الْقَهْرِ أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْحُجَّةِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. فَإِنْ قَهَرَ بِالْفِعْلِ فَقَدْ قَهَرَ بِالْحُجَّةِ , وَأَنَّ الْحِسْبَةَ الْقَهْرِيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ , فَلَا حَرَجَ عَلَى الْفَاسِقِ فِي إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ الْمَلَاهِي إذَا قَدَرَ. وَكَمَا إذَا أَخْبَرَ وَلِيُّ الدَّمِ الْفَاسِقَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ مِنْ الْجَانِي وَلَوْ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ بِعَفْوِ وَلِيِّ الدَّمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
أَمَّا مَنْ اشْتَرَطَهَا فِي حَالَةِ التَّطَوُّعِ وَالِاحْتِسَابِ , فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالنَّكِيرِ الْوَارِدِ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ , مِثْلَ قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) سورة الصف، وقوله تعالى: فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ عليه السلام لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ عَنْ بَخْسِ الْمَوَازِينِ وَنَقْصِ الْمَكَايِيلِ: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ» (1).
أَمَّا وَجْهُ الِاشْتِرَاطِ فِي صَاحِبِ الْوِلَايَةِ , فَلِأَنَّهُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ النَّاظِرِ: إنَّ وِلَايَةَ الْحِسْبَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ قَدْرًا , وَأَعْظَمِهَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ مَكَانَةً وَفَخْرًا , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيهَا مُتَوَفِّرَةً فِيهِ شُرُوطُ الْوِلَايَةِ , فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَهَا إلَّا مَنْ طَالَتْ يَدُهُ فِي الْكَمَالَاتِ وَبَرَزَ فِي الْخَيْرِ وَأَحْرَزَ أَوْصَافَهُ الْمَرَضِيَّةَ , وَلَا تَنْعَقِدُ لِمَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ الشُّرُوطُ , لِأَنَّ مِنْ شَرَفِ مَنْزِلَةِ مَنْ تَوَلَّاهَا أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ (2).
وَلِأَنَّ سَبِيلَ عَقْدِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَنْ قَامَ بِهَا وَصْفُ فِسْقٍ وَفَقْدُ عَدَالَةٍ , إذْ الْعَدَالَةُ مُشْتَرَطَةٌ فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ , كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى فَمَا دُونَهَا , لِأَنَّ مَنْ انْعَقَدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي الْقِيَامِ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُهِمَّةِ فِي الدِّينِ صَارَ مُفَوَّضًا لَهُ فِيمَا قَدَّمَ إلَيْهِ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا أَيَّ أَمِينٍ , وَلَا أَمَانَةَ مَعَ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَصْفُ الْعَدَالَةِ (3).
__________
(1) - مسند أحمد برقم (12540) ... وهو صحيح لغيره
(2) - تحفة الناظر 176
(3) - تحفة الناظر ص 177(1/29)
وَلِهَذَا اشْتَرَطَهَا فِي وَالِي الْحِسْبَةِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) وَأَغْفَلَ اشْتِرَاطَهَا الشِّيرَازِيُّ وَابْنُ بَسَّامٍ (2) وَأَدَارَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ حُكْمَهَا كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ , وَابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ , وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ , وَأَوْرَدَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي تَعَذُّرِ الْعَدَالَةِ فِي الْوِلَايَاتِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَامَّةً أَمْ خَاصَّةً بِتَوْلِيَةِ أَقَلِّهِمْ فُسُوقًا (3).
وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ خُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ الْأَصْلَحُ الْمَوْجُودُ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي مَوْجُودِهِ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ فَيُخْتَارُ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ بِحَسَبِهِ (4) ... .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْقُدْرَةُ:
15 - قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (5): وَأَمَّا الْقُدْرَةُ فَهِيَ أَصْلٌ وَتَكُونُ مِنْهُ فِي النَّفْسِ , وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنْ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ بِيَدِهِ , فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّرْبَ , أَوْ الْقَتْلَ مِنْ تَغْيِيرِهِ , فَإِنْ رَجَا زَوَالَهُ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الِاقْتِحَامُ عِنْدَ هَذَا الْغَرَرِ , وَإِنْ لَمْ يَرْجُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ النِّيَّةَ إذَا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَلَا يُبَالِي. وَعِنْدَهُ أَنَّ تَخْلِيصَ الْآدَمِيِّ أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ تَفْصِيلٌ فِيمَا تَسْقُطُ بِهِ الْحِسْبَةُ وُجُوبًا غَيْرِ الْعَجْزِ الْحِسِّيِّ , وَهُوَ أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْ الِاحْتِسَابِ مَكْرُوهٌ , أَوْ يَعْلَمَ أَنَّ احْتِسَابَهُ لَا يُفِيدُ , وَعِنْدَهُ أَنَّ الْمَكْرُوهَ هُوَ ضِدُّ الْمَطْلُوبِ , وَمُطَالَبُ الْإِنْسَانِ تَرْجِعُ إلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: هِيَ الْعِلْمُ وَالصِّحَّةُ , وَالثَّرْوَةُ , وَالْجَاهُ , وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ يَطْلُبُهَا الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَلِأَقَارِبِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ , وَالْمَكْرُوهُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: زَوَالُ مَا هُوَ حَاصِلٌ مَوْجُودًا. وَالْآخَرُ امْتِنَاعُ مَا هُوَ مُنْتَظَرٌ مَفْقُودٌ , ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ فِي بَيَانِ مَا يُعَدُّ مُؤَثِّرًا فِي إسْقَاطِ الْحِسْبَةِ وَمَا لَا يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ (6)، وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ فِي الِاحْتِسَابِ , كَمَا أَنَّهَا شَرْطٌ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ , وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَالْوُلَاةِ , وَالْقُضَاةِ , وَسَائِرِ الْحُكَّامِ , فَإِنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ بِعُلُوِّ الْيَدِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ , وَوُجُوبِ الطَّاعَةِ , وَانْبِسَاطِ الْوِلَايَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج.
__________
(1) - الأحكام السلطانية للماوردي 241 ولأبي يعلى 285 ومعالم القربة ص 7
(2) - لكل منهما كاتب يحمل اسم نهاية الرتبة في طلب الحسبة
(3) - قواعد الأحكام 1/ 86 و-87
(4) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 369) ومجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 14 / ص 4) والقواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - الرقمية - (ج 1 / ص 103) والسياسة الشرعية - (ج 1 / ص 5) والإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 120)
(5) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 52)
(6) - إحياء علوم الدين 2/ 407 - 412 و إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 157)(1/30)
فَإِنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ مَا يَدْعُو إلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْوُلَاةُ وَالْحَاكِمُ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّهُ إذَا أَهْمَلَ هَؤُلَاءِ الْقِيَامَ بِذَلِكَ فَجَدِيرٌ أَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ , فَيُوشِكُ أَنْ تَضِيعَ حُرُمَاتُ الدِّينِ وَيُسْتَبَاحَ حِمَى الشَّرْعِ وَالْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا كَانَتْ وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ مِنْ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ وَتَفْوِيضِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِنَابَةِ , وَيَقُومُ بِهَا نِيَابَةً عَنْهُ وَطَبِيعَتُهَا تَقُومُ عَلَى الرَّهْبَةِ , وَاسْتِطَالَةِ الْحُمَاةِ , وَسَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ , وَاِتِّخَاذِ الْأَعْوَانِ , كَانَ الْقِيَامُ بِالْحِسْبَةِ فِي حَقِّهِ مِنْ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَالٍ , بِخِلَافِ الْآحَادِ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُمْ الْحِسْبَةُ إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالسَّلَامَةِ , فَمَنْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَصِلُهُ مَكْرُوهٌ فِي بَدَنِهِ بِالضَّرْبِ , أَوْ فِي مَالِهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ , أَوْ فِي جَاهِهِ بِالِاسْتِخْفَافِ بِهِ بِوَجْهٍ يَقْدَحُ فِي مُرُوءَتِهِ أَوْ عَلِمَ أَنَّ حِسْبَتَهُ لَا تُفِيدُ سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ , أَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُصَابُ بِأَذًى فِيمَا ذُكِرَ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ وَكَذَلِكَ إذَا اُحْتُمِلَ الْأَمْرَانِ. وَإِذَا سَقَطَ الْوُجُوبُ هَلْ يَحْسُنُ الْإِنْكَارُ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِهِ , أَمْ إنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ؟ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ لقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّرْكُ أَفْضَلُ لقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة، لَكِنْ ذَهَبَ ابْنُ رُشْدٍ إلَى وُجُوبِ التَّرْكِ مَعَ تَيَقُّنِ الْأَذَى لَا سُقُوطِ الْوُجُوبِ وَبَقَاءِ الِاسْتِحْبَابِ فَتِلْكَ طَرِيقَةُ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَعَيْنُ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ (1).
الشَّرْطُ السَّادِسُ: الْإِذْنُ مِنْ الْإِمَامِ (2):
16 - اشْتَرَطَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ أَوْ الْوَالِي , وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْآحَادِ مِنْ الرَّعِيَّةِ الْحِسْبَةُ , وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ إلَّا فِيمَا كَانَ مُحْتَاجًا فِيهِ إلَى الِاسْتِعَانَةِ وَجَمْعِ الْأَعْوَانِ , وَمَا كَانَ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ أَوْ نُوَّابِهِمْ , كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ , وَحِفْظِ الْبَيْضَةِ , وَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَسْيِيرِ الْجُيُوشِ , أَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ لِآحَادِ النَّاسِ الْقِيَامَ بِهِ , لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالرَّدْعِ عَامَّةٌ , وَالتَّخْصِيصُ بِشَرْطِ التَّفْوِيضِ مِنْ الْإِمَامِ تَحَكُّمٌ لَا أَصْلَ لَهُ , وَأَنَّ احْتِسَابَ السَّلَفِ عَلَى وُلَاتِهِمْ قَاطِعٌ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الِاسْتِفْتَاءِ عَنْ التَّفْوِيضِ (3). وَشَرَحَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ (4): إنَّ الْحِسْبَةَ لَهَا خَمْسُ مَرَاتِبَ:
__________
(1) - تحفة الناظر ص 6 والآداب الشرعية 1/ 180
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6042)
(3) - الإحياء 2/ 403 وشرح مسلم للنووي 2/ 23و معالم القربة 21 والآداب الشرعية 1/ 195 و تحفة الناظر 9 و10 والزواجر 2/ 170 والفواكه الدواني 2/ 394
(4) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 152)(1/31)
أَوَّلُهَا التَّعْرِيفُ , وَالثَّانِي الْوَعْظُ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ , وَالثَّالِثُ السَّبُّ وَالتَّعْنِيفُ , وَالرَّابِعُ الْمَنْعُ بِالْقَهْرِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ , كَكَسْرِ الْمَلَاهِي وَنَحْوِهِ , وَالْخَامِسُ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ , ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا التَّعْرِيفُ وَالْوَعْظُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ , وَأَمَّا التَّجْهِيلُ , وَالتَّحْمِيقُ , وَالنِّسْبَةُ إلَى الْفِسْقِ , وَقِلَّةِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَهُوَ كَلَامُ صِدْقٍ , وَالصِّدْقُ مُسْتَحِقٌّ لِحَدِيثِ: {أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إمَامٍ جَائِرٍ} (1) فَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى مُرَاغَمَتِهِ فَكَيْفَ يُحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ؟!.
وَكَذَلِكَ كَسْرُ الْمَلَاهِي , وَإِرَاقَةُ الْخُمُورِ , فَإِنَّ تَعَاطِيَ مَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقًّا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ , وَأَمَّا جَمْعُ الْأَعْوَانِ , وَشَهْرُ الْأَسْلِحَةِ فَذَلِكَ قَدْ يَجُرُّ إلَى فِتْنَةٍ عَامَّةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ (2).
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَمْهَرَةُ الْعُلَمَاءِ , لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَهَيَجَانِ الْفَسَادِ وخرابِ البلادِ (3).
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَا الْآحَادُ كَالْقِصَاصِ , فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ , لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِاسْتِيفَائِهِ مُحَرِّكٌ لِلْفِتَنِ , وَمِثْلُهُ حَدُّ الْقَذْفِ لَا يَنْفَرِدُ مُسْتَحِقُّهُ بِاسْتِيفَائِهِ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي شِدَّةِ وَقْعِهِ وَإِيلَامِهِ. وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ لَا يُفَوَّضُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إلَّا أَنْ يَضْبِطَهُ الْإِمَامُ بِالْحَبْسِ فِي مَكَان مَعْلُومٍ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ , فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُسْتَحِقُّ (4).
__________
(1) - مسند أحمد برقم (11442) والمستدرك للحاكم برقم (8543) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 327) برقم (8007) وشعب الإيمان للبيهقي برقم (7319) ومسند الشهاب القضاعي برقم (1188) وصحيح الجامع (1100) وهو صحيح لغيره
(2) - الإحياء 2/ 402 و إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 168) والآداب الشرعية - (ج 1 / ص 220) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 347)
وقال الغزالي مكملاً:
وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث. وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب. والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف. ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر. فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛ لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد. فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله. والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد. وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة. فلا يغير به قانون القياس. بل يقال: كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه. فالمسألة إذن محتملة - كما ذكرناه - فهذه درجات الحسبة فلنذكر آدابها والله الموفق.
(3) - الزواجر 2/ 170 و شرح مسلم للنووي 2/ 23 والآداب الشرعية 1/ 195 والأحكام السلطانية للماوردي 240 وأبي يعلى 284 وبدائع الصنائع 9/ 4204 - 4207
(4) - قواعد الأحكام 2/ 197 و198(1/32)
أَمَّا لَوْ فَوَّضَ الْإِمَامُ قَطْعَ السَّرِقَةِ إلَى السَّارِقِ أَوْ وَكَّلَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي قَطْعِ الْعُضْوِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاسْتِيفَائِهِ , وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِغَيْرِهِ أُزْجَرُ لَهُ (1).
وَقَدْ بَيَّنَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ , وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا , وَمَا يَلْزَمُهُمْ فِي حِفْظِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَنْ النَّوَائِبِ , وَالتَّغَالُبِ , وَالتَّقَاطُعِ , وَالتَّدَابُرِ , وَالتَّوَاصُلِ , وَأَنَّ الْحُدُودَ بِجُمْلَتِهَا مَنُوطَةٌ إلَى الْأَئِمَّةِ وَاَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْأُمُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ (2).
الشَّرْطُ السَّابِعُ: الذُّكُورَةُ (3).
17 - اشْتَرَطَتْ طَائِفَةٌ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْحِسْبَةَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا , وَأَيَّدَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ , وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ (4): إنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ , وَلَا أَنْ تُخَالِطَ الرِّجَالَ , وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ , لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا , وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ , وَتَكُونُ مُنَظِّرَةً لَهُمْ , وَلَنْ يُفْلِحَ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ الْوِلَايَةِ بِحَدِيثِ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» (5)، وَقَالَ: فِيمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ إنَّهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ (6).
وَأَجَازَ تَوْلِيَتَهَا آخَرُونَ لِمَا رويَ عَنْ أَبِي بَلْجٍ يَحْيَى بن أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ سَمْرَاءَ بنتَ نَهِيكٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتِ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -:عَلَيْهَا دِرْعٌ غَلِيظٌ، وَخِمَارٌ غَلِيظٌ، بِيَدِهَا سَوْطٌ تُؤَدِّبُ النَّاسَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ (7).
__________
(1) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 371)
(2) - غياث الأمم في التياث الظلم - (ج 1 / ص 86)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6043)
(4) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4149) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 213) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 8260)
(5) - صحيح البخارى برمق (4425)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 12 / ص 247)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيث أَنَّ الْمَرْأَة لَا تَلِي الْإِمَارَة وَلَا الْقَضَاء، وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تُزَوِّج نَفْسهَا، وَلَا تَلِي الْعَقْد عَلَى غَيْرهَا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مُتَعَقَّب وَالْمَنْع مِنْ أَنْ تَلِي الْإِمَارَة وَالْقَضَاء قَوْل الْجُمْهُور، وَأَجَازَهُ الطَّبَرِيُّ وَهِيَ رِوَايَة عَنْ مَالِك، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة تَلِي الْحُكْم فِيمَا تَجُوز فِيهِ شَهَادَة النِّسَاء. وَمُنَاسَبَة هَذَا الْحَدِيث لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَة أَنَّهُ تَتِمَّة قِصَّة كِسْرَى الَّذِي مَزَّقَ كِتَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -،فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِ اِبْنه فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَتَلَ إِخْوَته حَتَّى أَفْضَى الْأَمْر بِهِمْ إِلَى تَأْمِير الْمَرْأَة، فَجَرَّ ذَلِكَ إِلَى ذَهَاب مُلْكهمْ وَمُزِّقُوا كَمَا دَعَا بِهِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -.
(6) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4148) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 212) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4587)
(7) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 48) برقم (20240)
ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني برقم (7065) ومجمع الزوائد برقم (15440) وقال: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال - (ج 1 / ص 128) برقم (107) وهو حديث صحيح
الدرع: قميص المرأة = غليظ: سميك خشن = السوط: أداة جِلْدية تستخدم في الجَلْد والضرب(1/33)
وَيُسْتَدَلُّ عَلَى جَوَازِ وِلَايَتِهَا وَعَدَمِهِ بِالْخِلَافِ الْوَارِدِ فِي جَوَازِ تَوْلِيَتِهَا الْإِمَارَةَ وَالْقَضَاءَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ: إنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي الْإِمَارَةَ وَلَا الْقَضَاءَ , وَأَنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَلَا تَلِي الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِهَا , وَالْمَنْعُ مِنْ أَنْ تَلِيَ الْإِمَارَةَ وَالْقَضَاءَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَهُ الطَّبَرِيُّ , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ , وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَلِي الْحُكْمَ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ (1).
ارْتِزَاقُ الْمُحْتَسِبِ (2):
18 - الرِّزْقُ مَا يُرَتِّبُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُلَّ شَهْرٍ سُمِّيَ رِزْقًا , وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُلَّ عَامٍ سُمِّيَ عَطَاءً (3).
وَمِمَّا جَاءَ فِي رَدِّ الْإِمَامِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الْخَلِيفَةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلُهُ (4): فَاجْعَلْ - أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ - مَا يَجْرِي عَلَى الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , مِنْ جِبَايَةِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ , لِأَنَّهُمْ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ , يَجْرِي عَلَى كُلِّ وَالِي مَدِينَةٍ وَقَاضِيهَا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ , وَكُلُّ رَجُلٍ تُصَيِّرُهُ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ , فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ (5).
وَيُعْطَى الْمُحْتَسِبُ الْمَنْصُوبُ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ , لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ مَحْبُوسٌ لَهُمْ , فَتَكُونُ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ كَالْوُلَاةِ , وَالْقُضَاةِ , وَالْغُزَاةِ , وَالْمُفْتِينَ , وَالْمُعَلِّمِينَ (6).
وَكَذَلِكَ سَبِيلُ أَرْزَاقِ أَعْوَانِهِ سَبِيلُ أَرْزَاقِ الْأَعْوَانِ الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ الْحَاكِمُ فِي مَصَالِحِ النَّاسِ، تَكُونُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَأَرْزَاقِ سَائِرِ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ , لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِذَلِكَ يُضَيِّعُ عَلَيْهِمْ الزَّمَانَ فِي شَأْنِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَعَايِشِهِمْ وَطَلَبِ أَقْوَاتِهِمْ (7).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 12 / ص 247) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 19 / ص 238) وتحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 48) وكشف المشكل من حديث الصحيحين - (ج 1 / ص 325) وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 2 / ص 409) و نيل الأوطار (8/ 274)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6044)
(3) - فتح الباري 16/ 271 والرتاج شرح كتاب الخراج 1/ 128 و2/ 414 - 416
(4) - الخراج لأبي يوسف - (ج 1 / ص 186)
(5) - الرتاج شرح كتاب الخراج 2/ 414 - 415
(6) - نصاب الاحتساب ص 24 وتحفة الناظر 178 والأحكام السلطانية للماوردي 240 و الأحكام السلطانية لأبي يعلى 285 ومعالم القربة 11 والسياسة الشرعية لابن تيمية 48 و50 وكتاب الفقيه والمتفقه 2/ 164 و165
(7) - تحفة الناظر 16 - 17(1/34)
وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَعْوَانِهِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ النَّاسِ لِأَجْلِ الِاحْتِسَابِ , لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الرِّشْوَةِ , وَهِيَ حَرَامٌ شَرْعًا , لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُحْتَسِبُ يُنْظَرُ فِيهِ , إنْ أَخَذَهُ لِيُسَامِحَ فِي مُنْكَرٍ , أَوْ يُدَاهِنَ فِيهِ , أَوْ يُقَصِّرَ فِي مَعْرُوفٍ , فَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الرِّشْوَةِ وَأَنَّهَا حَرَامٌ (1).
وَإِذَا جُعِلَ لِمَنْ وَلِيَ فِي السُّوقِ شَيْءٌ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ فِيمَا يَشْتَرُونَهُ سَامَحَهُمْ فِي الْفَسَادِ بِمَا لَهُ مَعَهُمْ فِيهِ مِنْ النَّصِيبِ (2) , أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ كَانَ لَا يَكْفِيهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يُرَخِّصُ لَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ , لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُمْ , فَيَأْخُذُونَ كِفَايَتَهُمْ (3) , أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَا تَجُوزُ , لِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُسْلِمِ قَهْرًا وَغَلَبَةً بِغَيْرِ رِضَاهُ , لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ .. } (29) سورة النساء، وَقَدْ شَدَّدَ الْعُلَمَاءُ النَّكِيرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ مِنْ النَّاسِ بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ. وَالْأَرْزَاقُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ أَلْبَتَّةَ لِجَوَازِهَا فِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ , وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ , فَلَا وَرَعَ حِينَئِذٍ فِي تَرْكِ تَنَاوُلِ الرِّزْقِ وَالْأَرْزَاقُ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَإِنَّمَا يَقَعُ الْوَرَعُ مِنْ جِهَةِ قِيَامِهِ بِالْوَظِيفَةِ خَاصَّةً , فَإِنَّ الْأَرْزَاقَ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا إلَّا لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ فِي إطْلَاقِهِ لِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ (4).
آدَابُ الْمُحْتَسِبِ (5):
19 - الْمَقْصُودُ مِنْ الْآدَابِ الْأَخْذُ بِمَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا , وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ , فَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَخْذُ نَفْسِهِ بِهَا حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا , وَقَوْلُهُ مَسْمُوعًا , وَتُحَقِّقُ وِلَايَتُهُ الْهَدَفَ مِنْهَا , وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ قَبُولِ الْهَدَايَا مِنْ أَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ وَالْمَهَرَةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ لِعِرْضِهِ وَأَقْوَمُ لِهَيْبَتِهِ , وَأَنْ يُلَازِمَ الْأَسْوَاقَ , وَيَدُورَ عَلَى الْبَاعَةِ , وَيَكْشِفَ الدَّكَاكِينَ وَالطَّرَقَاتِ , وَيَتَفَقَّدَ الْمَوَازِينَ وَالْأَطْعِمَةَ , وَيَقِفَ عَلَى وَسَائِلِ الْغِشِّ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَعَلَى غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا , وَيَسْتَعِينُ فِي عَمَلِهِ بِالْأُمَنَاءِ الْعَارِفِينَ الثِّقَاتِ , لِيَعْتَمِدَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ فِيهَا , وَيُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ , فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ وَقَعَ إلَى مُحْتَسِبٍ كَانَ فِي وَقْتِ وَزَارَتِهِ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادَ " الْحِسْبَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَجَبَةَ فَطُفْ الْأَسْوَاقَ تَحِلَّ لَك الْأَرْزَاقُ , وَاَللَّهِ إنْ لَزِمْت دَارَك نَهَارًا لَأُضْرِمَنهَا عَلَيْك نَارًا وَالسَّلَامُ " (6).
__________
(1) - نصاب الاحتساب 135 و136 و معالم القربة 13 - 14
(2) - تحفة الناظر 17
(3) - نصاب الاحتساب 134
(4) - الفروق 3/ 504 و أنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 4 / ص 346)
(5) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6045) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 168)
(6) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 288) و معالم القربة 124 و219(1/35)
وَأَنْ يَتَّخِذَ أَعْوَانًا يَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ , وَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعِفَّةُ وَالصِّيَانَةُ , وَيُؤَدِّبُهُمْ وَيُهَذِّبُهُمْ , وَيُعَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَتَصَرَّفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ , وَكَيْفَ يَخْرُجُونَ فِي طَلَبِ الْغُرَمَاءِ , وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ إلَّا بَعْدَ مَشُورَتِهِ. وَأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي السِّرِّ إنْ اسْتَطَاعَ , لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ , فَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوْعِظَةُ فِي السِّرِّ أَمَرَهُ بِالْعَلَانِيَةِ , وَقَدْ أَوْصَى بَعْضُ الْوُزَرَاءِ الصَّالِحِينَ بَعْضَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ (1): " اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ فَإِنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ ".
وَأَنْ يَقْصِدَ مِنْ حِسْبَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازَ دِينِهِ , وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ , وَأَنْ يَتَحَلَّى بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالشَّفَقَةِ , وَلَا يَقْصِدَ إلَّا الْإِصْلَاحَ وَلَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ , وَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ مُنَاسِبَةً مَعَ جُرْمِ كُلِّ إنْسَانٍ وَحَالِهِ , وَمَا يَلِيقُ بِهِ , وَيَكُونُ مُتَأَنِّيًا غَيْرَ مُبَادِرٍ إلَى الْعُقُوبَةِ , وَلَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِأَوَّلِ ذَنْبٍ يَصْدُرُ مِنْهُ , وَلَا يُعَاقِبُ بِأَوَّلِ زِلَّةٍ تَبْدُو , وَإِذَا عَثَرَ عَلَى مَنْ نَقَصَ الْمِكْيَالَ أَوْ بَخَسَ الْمِيزَانَ أَوْ غَشَّ بِضَاعَةً أَوْ صِنَاعَةً اسْتَتَابَهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ , وَوَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ وَأَنْذَرَهُ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ , فَإِنْ عَادَ إلَى فِعْلِهِ عَزَّرَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ التَّعْزِيرِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ (2).
وَمِنْ آكَدِ وَأَلْزَمْ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ وَالرِّفْقِ وَالصَّبْرِ , الْعِلْمُ قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , وَالرِّفْقُ مَعَهُ , وَالصَّبْرُ بَعْدَهُ فَإِذَا جَمَعَ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بُعْدَ النَّظَرِ مَعَ الْفَطِنَةِ وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالصَّرَامَةِ فِي الْحَقِّ وَأَحْكَمَ أُمُورَهُ وَتَحَرَّى الْإِصَابَةَ فِيهَا فَإِنَّهُ حَرِيٌّ أَنْ تُثْمِرَ هَذِهِ الْوِلَايَةُ أَطْيَبَ الثِّمَارِ , وَتُحَقِّقَ الْغَايَةَ الْمَرْجُوَّةَ مِنْهَا (3).
عَزْلُ الْمُحْتَسِبِ (4):
20 - أَجْمَلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَسْبَابَ الْعَزْلِ مِنْ الْوِلَايَةِ فِي عِدَّةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا الْخِيَانَةُ , وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الْعَجْزُ وَالْقُصُورُ , وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ اخْتِلَالَ الْعَمَلِ مِنْ عَسْفٍ وَجَوْرٍ , أَوْ ضَعْفٍ وَقِلَّةِ هَيْبَةٍ , وَالْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ وُجُودُ مَنْ هُوَ أَكْفَأُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ مَعَالِمِ الْقُرْبَةِ (5) أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْمُحْتَسِبَ أَمْرٌ وَتَرَكَهُ أَثِمَ , وَإِنْ تَكَرَّرَ شَكْوَى ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَأْخُذْ لَهُ بِحَقِّهِ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ شَرْعًا , أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْحِسْبَةِ وَسَقَطَتْ مُرُوءَتُهُ وَعَدَالَتُهُ , وَلَا يَبْقَى مُحْتَسِبًا شَرْعًا , وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ يَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ , وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ إدْرَارُ رِزْقِهِ الَّذِي يَكْفِيهِ وَتَعْجِيلُهُ , وَبَسْطُ يَدِهِ , وَتَرْكُ مُعَارَضَتِهِ , وَرَدُّ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
__________
(1) - جامع العلوم والحكم - (ج 36 / ص 12) وجامع العلوم والحكم محقق - (ج 38 / ص 11) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 161) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 402)
(2) - نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة - (ج 1 / ص 6)
(3) - الحسبة لابن تيمية 86 والإحياء 2/ 425 - 428 والآداب الشرعية 1/ 214 ونصاب الاحتساب 199
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6047)
(5) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 292)(1/36)
الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُحْتَسَبُ فِيهِ (1):
21 - تَجْرِي الْحِسْبَةُ فِي كُلِّ مَعْرُوفٍ إذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ , وَفِي كُلِّ مُنْكَرٍ إذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ , وَيَجْمَعُهَا لَفْظُ (الْخَيْرِ) فِي قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، فَالْخَيْرُ يَشْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ يُرْغَبُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ وَكُلُّ مَا فِيهِ صَلَاحٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ جِنْسٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: التَّرْغِيبُ فِي فِعْلِ مَا يَنْبَغِي وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ.
وَالثَّانِي: التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَذَكَرَ الْحَقُّ جَلَّ وَعَلَا الْجِنْسَ أَوَّلًا وَهُوَ الْخَيْرُ , ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِنَوْعَيْهِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ.
مَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ (2):
22 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جُمْلَةَ مَعَانٍ لِلْمَعْرُوفِ بَيْنَهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِمَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ , وَصِلَةِ الرَّحِمِ , أَوْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَالنَّوَافِلِ وَصَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ أَشْمَلَ وَأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ (3): هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ , وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِكُلِّ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ , وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُحَسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ , وَهُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ , وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفُ (الْعَدْلُ) وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ (4)، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّفْسِيرِ (5): الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا يَعْرِفُ كُلُّ عَاقِلٍ صَوَابَهُ , وَقِيلَ الْمَعْرُوفُ هَاهُنَا طَاعَةُ اللَّهِ.
أَقْسَامُ الْمَعْرُوفِ (6):
يَنْقَسِمُ الْمَعْرُوفُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
23 - أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4023) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6048) ونهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة - (ج 1 / ص 53)
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 2 / ص 498) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6048)
(3) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 1 / ص 413) وعون المعبود - (ج 10 / ص 333) وتحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 225)
(4) - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 321)
(5) - زاد المسير - (ج 1 / ص 391)
(6) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6049)(1/37)
وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. وَمَعْنَى حَقِّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ , وَحَقِّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ. لِأَنَّ التَّكَالِيفَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ , وَقِسْمٌ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ , وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا مَحْضًا لِلْعَبْدِ وَبَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ الْمَحْضَ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ , وَإِلَّا فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ , وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ , فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ , وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُصُومٌ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى نِيَابَةً عَنْهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ , أَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَنْتَصِبُ أَحَدٌ خَصْمًا عَنْ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ انْتِصَابَهُ خَصْمًا (1)
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ (2):
24 - أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَتَلْزَمُ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ , فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ , فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِإِقَامَتِهَا , وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا , وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، فَلَهُ فِيهِمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ (3):
إحْدَاهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُ الْمُحْتَسِبِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ , فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا , وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إلَى أَمْرِهِ بِهَا , وَيَكُونُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْهُ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا , وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا , لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ , فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ تَعْطِيلُ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ , فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا؟
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 313) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 2 / ص 86)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6049) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 13 / ص 427) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 277) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 492) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 24)
(3) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 24)(1/38)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ (1):
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا , فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا , لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ , وَلَا يَقُودُهُمْ إلَى مَذْهَبِهِ , وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ , وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إجْزَاءِ الْجُمُعَةِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: صَلَاةُ الْعِيدِ وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ , أَوْ مِنْ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَنْ قَالَ إنَّهَا مَسْنُونَةٌ قَالَ: يُنْدَبُ الْأَمْرُ بِهَا , وَمَنْ قَالَ إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ قَالَ: الْأَمْرُ بِهَا يَكُونُ حَتْمًا (2).
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ (3): صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , وَعَلَامَاتِ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ , فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ , وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ , كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ , وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ , أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ , عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ , وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ (4).
فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ , فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا , لِأَنَّهَا مِنْ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ , إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ , أَوْ يَجْعَلَهُ إلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافُ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ , فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ , وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ , كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِى أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِى بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّى بِالنَّاسِ ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ عَلَى مَنْ فِيهَا» (5).
__________
(1) - الموافقات في أصول الشريعة - (ج 2 / ص 409) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 493)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6050) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6156) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 493)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6051) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 494)
(4) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 494) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 26)
(5) - صحيح مسلم برقم (1515)
وفي شرح ابن بطال - (ج 3 / ص 341)
وقوله: «لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب ... »،دليل على تأكيد الجماعة، وعظيم أمرها، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات بقوله: {حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238]، ومن تمام محافظتها صلاتها فى جماعة.
وأجمع الفقهاء أن الجماعة فى الصلوات سنة إلا أهل الظاهر، فإنها عندهم فريضة، واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: هى كل صلاة.
واختلفوا فى الصلاة التى هم النبى عليه السلام، بأن يأمر فيحطب فيحرق رجلٌ من تخلف عنها، فقالت طائفة: هى صلاة العشاء، واحتجوا بما رواه ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: «لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء، أو لأحرقن حول بيوتهم»،ويشهد لهذا القول قوله: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا، لشهد العشاء»،هذا قول سعيد بن المسيب، وقال آخرون: هى الجمعة، رواه أبو إسحاق، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، عن النبى - صلى الله عليه وسلم -،قال: «هى الجمعة»،وهو قول الحسن البصرى، وقاله يحيى بن معين: أن الحديث فى الإحراق على من تخلف عن الرسول: يوم الجمعة لا فى غيرها.(1/39)
الضَّرْبُ الثَّانِي (1):مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا , فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا , وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا , فَإِنْ قَالَ: تَرَكْتهَا لِنِسْيَانٍ , حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ , وَإِنْ تَرَكَهَا لِتَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا , وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ , وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمَاعَاتِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا , وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ لَا؟.
مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ رَاعَى أَنَّ اعْتِيَادَ تَأْخِيرِهَا وَإِطْبَاقَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مُفْضٍ إلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَنْشَأُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْوَقْتُ دُونَ مَا قَبْلَهُ , وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ الْمُحْتَسِبُ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ وَمَا يَرَاهُ مِنْ التَّأْخِيرِ.
فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ , فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ , وَإِنْ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ , إذَا كَانَ مَا يُفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ , وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ , وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ , أَوْ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ , وَالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَةِ , فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ (2).
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ (3):
25 - الْمَعْرُوفُ الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ضَرْبَانِ:
عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْبَلَدِ إذَا تَعَطَّلَ شِرْبُهُ , أَوْ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ , أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ , نَظَرَ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ , لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ مَصْرُوفٌ إلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ , فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ
__________
(1) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 159) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 494) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 26)
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 206) والعناية شرح الهداية - (ج 1 / ص 166) وأصول السرخسي - (ج 2 / ص 170) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 367) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 495) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 28)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6052) والمسودة في أصول الفقه - (ج 1 / ص 10) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 24)(1/40)
ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ , وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ , لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ , وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ , فَأَمَّا إذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ , وَإِصْلَاحِ شِرْبِهِمْ , وَعُمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ , وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ مِنْهُمْ , وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ , فَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ , وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ , سَقَطَ عَنْ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ , وَلَا يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ , وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا , وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُرِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنْ الْمُسْتَرِمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ إلَّا بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ , لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِمْ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ , هَذَا فِي السُّورِ وَالْجَوَامِعِ , وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمُخْتَصَرَةُ فَلَا يَسْتَأْذِنُونَ فِيهَا (1).
وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ. فَأَمَّا إذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعُمَارَةِ مَا اسْتَرَمَّ , فَإِنْ كَانَ الْمُقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشِّرْبُ , وَإِنْ فَسَدَ أَوْ قَلَّ مُقْنِعًا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ , وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمُقَامُ فِيهِ لِتَعَطُّلِ شِرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ , فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَفْسَحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ , وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ , وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إعْلَامُ السُّلْطَانِ وَتَرْغِيبُ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَلَدُ ثَغْرًا مُضِرًّا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَرَ وَحُكْمُهُ أَخَفَّ , وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ , لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِعِمَارَتِهِ , وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَقُولُ لَهُمْ الْمُحْتَسِبُ مَا دَامَ عَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْهُ: أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوْ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ. فَإِنْ أَجَابُوا إلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ وَيَقُولُ: لِيُخْرِجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ , وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ تَعَيَّنَ اجْتِمَاعُهَا بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا , شَرَعَ الْمُحْتَسِبُ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ , وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ , وَإِنْ عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا , لِئَلَّا يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ , إذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ , وَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ (2).
__________
(1) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 496)
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 497)(1/41)
وَأَمَّا الْخَاصُّ (1) فَكَالْحُقُوقِ إذَا مُطِلَتْ , وَالدُّيُونِ إذَا أُخِّرَتْ , فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْهَا , لِأَنَّ الْحَبْسَ حُكْمٌ وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا , لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَدَائِهَا , وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنْ الصِّغَارِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ , وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا.
فَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ , وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى , ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ (2).
26 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ (3):
كَأَخْذِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إذَا طَلَبْنَ (4) , وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إذَا فُورِقْنَ (5) , وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ النِّسَاءِ , وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ , وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ أَوْ عَزَّرَهُ عَلَى النَّفْيِ أَدَبًا (6) , وَيَأْخُذُ أَرْبَابَ الْبَهَائِمِ
__________
(1) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 498) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 29)
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 498) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 29)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6055) و الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 379) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 499) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 30)
(4) - ففي صحيح البخارى برقم (5092) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - (وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) قَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِى هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ صَدَاقَهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ، قَالَتْ وَاسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ) إِلَى (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِى نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِى قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الأَوْفَى فِى الصَّدَاقِ.
وفي سنن ابن ماجه برقم (2043) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» وهو صحيح لغيره.
(5) - لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) سورة الطلاق
(6) - ففي صحيح البخارى برقم (2421) عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَانِى أَخِى إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ، فَإِنَّهُ ابْنِى. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِى وَابْنُ أَمَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى. فَرَأَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَبَهًا بَيِّنًا فَقَالَ «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».
وفي مسند أحمد برقم (4899) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنِ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ لِيَفْضَحَهُ فِى الدُّنْيَا فَضَحَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ قِصَاصٌ بَقِصَاصٍ» وهو صحيح لغيره.(1/42)
بِعَلَفِهَا إذَا قَصَّرُوا فِيهَا (1) , وَأَلَّا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ (2) , وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا (3) فَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنْ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا (4) , وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إذَا قَصَّرَ فِيهَا أَخَذَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا أَوْ تَسْلِيمِهَا إلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا (5) , وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا لِلَّقِيطِ , وَإِذَا سَلَّمَ الضَّالَّةَ إلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ , ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ (6).
مَعْنَى الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ (7):
27 - الْمُنْكَرُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ (8)،وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَاهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا , فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْكُفْرِ (9) وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِمُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ (10) وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ (11).
__________
(1) - ففي سنن أبى داود برقم (2550) عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً» وهو صحيح.
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 379) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 3) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 499)
(3) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 499)
(4) - ففي صحيح البخارى برقم (5304) عَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا». وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2840) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 18 / ص 50) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 12 / ص 197)
(5) - ففي صحيح البخارى برقم (2438) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضى الله عنه - أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اللُّقَطَةِ قَالَ «عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا». وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، قَالَ «مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا». وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ. فَقَالَ «هِىَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ».
الحذاء: أراد أنها تقوى على المشى =العفاص: الوعاء الذى تكون فيه النفقة =تمعر: تغير =استنفق: اجعل فى نفقتك = الوكاء: الخيط الذى تشد به الصرة والكيس وغيرهما
(6) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 499) الأحكام السلطانية للماوردي 243و247و ولأبي يعلى 287 - 291و معالم القربة 22 - 27وغرائب القرآن 24و28و29 والفروق 1/ 140 و142 وتهذيب الفروق بهامشه 157و158 و نهاية الأرب 6/ 296 - 302
(7) - عون المعبود - (ج 1 / ص 75) وحاشية ابن القيم على سنن أبي داود - (ج 1 / ص 10) و الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6055)
(8) - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 322) ...
(9) - البحر المحيط 3/ 20 و21
(10) - الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/ 168
(11) - - البحر المحيط 3/ 21 وأحكام القرآن للجصاص 2/ 322(1/43)
وَاسْتَعْمَلَهُ آخَرُونَ فِي كُلِّ مَا عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُهُ (1).
وَقَالَ غَيْرُهُمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ , هُوَ مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ وَتَتَأَذَّى بِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ وَنَافَرَهُ الطَّبْعُ وَتَعَاظَمَ اسْتِكْبَارُهُ وَقَبُحَ غَايَةَ الْقُبْحِ اسْتِظْهَارُهُ فِي مَحَلِّ الْمَلَأِ (2) فعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» (3).
وَالْمُنْكَرُ مِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ , وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ إطْلَاقِهِمْ , وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يُسَاوِي الْمُحَرَّمَ , وَيُسَمَّى أَيْضًا مَعْصِيَةً وَذَنْبًا (4) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ , أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْمُنْكَرِ الْمَكْرُوهِ مُسْتَحَبٌّ , وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ , وَلَيْسَ بِحَرَامٍ , وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ , فَإِنَّ لِلْكَرَاهَةِ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ إلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ. أَمَّا الْمَحْظُورُ فَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ إذَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ , وَبِهَذَا اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ , أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا (5).
__________
(1) - لباب التأويل في معاني التنزيل 1/ 399و معالم القربة 22
(2) - المفردات في غريب القرآن مادة نكر والنهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 115 وغذاء الألباب 1/ 181 والآداب الشرعية 1/ 174 وإتحاف السادة المتقين 7/ 34
(3) -صحيح مسلم (6680) والترمذي برقم (2565)
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 176)
قَوْلُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:الْبِرُّ) أَيْ أَعْظَمُ خِصَالِهِ أَوْ الْبِرُّ كُلُّهُ مُجْمَلًا
(حُسْنُ الْخُلُقِ) أَيْ مَعَ الْخُلُقِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْبِرُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ وَبِمَعْنَى اللُّطْفِ وَالْمَبَرَّةِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ، وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مَجَامِعُ حُسْنِ الْخُلُقِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ فَسَّرَ الْبِرَّ فِي الْحَدِيثِ بِمَعَانٍ شَتَّى، فَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِمَا اِطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِالْإِيمَانِ، وَفِي مَوْضِعٍ بِمَا يُقَرِّبُك إِلَى اللَّهِ، وَهُنَا بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَسَّرَ حُسْنَ الْخُلُقِ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَقِلَّةِ الْغَضَبِ وَبَسَطَ الْوَجْهَ وَطِيبَ الْكَلَامِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى
(وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك) أَيْ تَحَرَّكَ فِيهَا وَتَرَدَّدَ، وَلَنْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ، وَحَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ الشَّكُّ، وَخَوْفُ كَوْنِهِ ذَنْبًا. وَقِيلَ يَعْنِي الْإِثْمُ مَا أَثَّرَ قُبْحُهُ فِي قَلْبِك أَوْ تَرَدَّدَ فِي قَلْبِك، وَلَمْ تُرِدْ أَنْ تُظْهِرَهُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا وَهُوَ الْمَعْنَى
بِقَوْلِهِ: (وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ) أَيْ أَعْيَانُهُمْ وَأَمَاثِلُهُمْ، إِذْ الْجِنْسُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ بِطَبْعِهَا تُحِبُّ اِطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى خَيْرِهَا، فَإِذَا كَرِهْت الِاطِّلَاعَ عَلَى بَعْضِ أَفْعَالِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا بِرَّ فَهُوَ إِذًا إِثْمٌ وَشَرٌّ.
(4) - إتحاف السادة المتقين 7/ 52 - 53 والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 86 والفواكه الدواني 2/ 394
(5) - إحياء علوم الدين 2/ 428 وشرحه إتحاف السادة المتقين 7/ 52 - 53 والفواكه الدواني 2/ 394(1/44)
(شُرُوطُ الْمُنْكَرِ) (1):
28 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُنْكَرِ الْمَطْلُوبِ تَغْيِيرُهُ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ (2): الْمُنْكَرُ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ , إذْ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ , وَكَذَا إنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ , وَهَذَا لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ , إذْ مَعْصِيَةٌ لَا عَاصِيَ بِهَا مُحَالٌ , وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبَا الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ (3): لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ , بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ , وَسَاقَا جُمْلَةَ أَمْثِلَةٍ لِلْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ تَغْيِيرُهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ. أَحَدُهَا (4): أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ , وَنَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أُمَمَهُمْ أَوَّلَ بَعْثِهِمْ (5).
الثَّانِي: قِتَالُ الْبُغَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأَوُّلِهِمْ (6).
الثَّالِثُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ (7) وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ (8).
الرَّابِعُ: قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ (9).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6056) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14544)
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 473) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 160) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 358)
(3) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 225)
(4) - تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 485) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 443 و 444)
(5) - لفوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) ... قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54)} [سورة الأنبياء، الآية: 52 - 54]
(6) - قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (9) سورة الحجرات
(7) - لحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ» أخرجه أبو داود برقم (495) وهو صحيح.
(8) - تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 485) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 443و444)
(9) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 226) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 485) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 443و444)(1/45)
الْخَامِسُ: إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ أَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَأَرَادَ الِاقْتِصَاصَ , فَلِلْفَاسِقِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إلَّا بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ (1).
السَّادِسُ: ضَرْبُ الْبَهَائِمِ فِي التَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّرَاسِ وَالْجِمَاحِ , وَكَذَلِكَ ضَرْبُهَا حَمْلًا عَلَى الْإِسْرَاعِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْقِتَالِ (2).
وَلَا يَقْتَصِرُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ , بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْ الصَّغَائِرِ أَيْضًا (3).
(الشَّرْطُ الثَّانِي):أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ (4).
29 - أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مُسْتَمِرًّا عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ , فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ إنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ , وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْحِسْبَةِ عَلَى مَنْ فَرَغَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَاحْتِرَازٌ عَمَّا سَيُوجَدُ , كَمَنْ يَعْلَمُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الشُّرْبِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا حِسْبَةَ عَلَيْهِ إلَّا بِالْوَعْظِ , وَإِنْ أَنْكَرَ عَزْمَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ وَعْظُهُ أَيْضًا , فَإِنَّ فِيهِ إسَاءَةَ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ , وَرُبَّمَا صُدِّقَ فِي قَوْلِهِ , وَرُبَّمَا لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ لِعَائِقٍ , وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَانِ (5):
الْحَالَةُ الْأُولَى: الْإِصْرَارُ عَلَى فِعْلِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ تَوْبَةٍ فَهَذَا يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَفِي رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَعَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ وَعَدَمِهِ , أَمَّا عَنْ وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَقَاوِيلَ نُوجِزُهَا فِي الْآتِي:
ذَهَبَ الْأَحْنَافُ إلَى أَنَّ الشَّاهِدَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ (أَسْبَابُ الْحُدُودِ) مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ (6). قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { .. وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ .. } (2) سورة الطلاق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ " (7).
__________
(1) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 12 / ص 84) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 226)
(2) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 226)
(3) - الإحياء 2/ 414
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6058) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14545) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 478)
(5) - الآداب الشرعية 1/ 292 و غذاء الألباب 1/ 226
(6) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 379) والعناية شرح الهداية - (ج 10 / ص 376)
(7) - مصنف عبد الرزاق برقم (18934) وهو صحيح
وفي صحيح مسلم برقم (6759) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِى الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».(1/46)
وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ , وَالسِّتْرُ أَوْلَى (1).
وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ (2).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ (3): تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إنْ اسْتَدَامَ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ , وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ , وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ.
وَفِي الْمَوَّاقِ أَنَّ سَتْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا (4).
وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَفْصِيلًا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ , أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابَسَةٍ لَا إثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا (5).
30 - النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مُفْسِدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ إعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ , وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إلَيْهِ سَتْرُهُ كَحَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ. ثُمَّ قَالَ (6): وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ , فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا , فَيَشْهَدُوا بِهَا مِثْلَ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ , وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلَ زَلَّةٍ مِنْ هَذِهِ الزَّلَّاتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا لحديثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ: «يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 379)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 2294) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 14 / ص 379)
(3) - حاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 9 / ص 403)
(4) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 17 / ص 225) وحاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 9 / ص 404)
(5) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 322)
(6) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 325)(1/47)
بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» (1). وَحَدِيثِ «أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ» (2). وَحَدِيثِ «لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِى الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (3).
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْلِيغُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ , فَإِنِ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلَّا رَفَعَهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ لَمْ يَتُبْ , فَهَذَا يَجِبُ إنْكَارُ فِعْلِهِ الْمَاضِي وَإِنْكَارُ إصْرَارِهِ (4).
31 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْمُنْكَرِ فِي الْحَالِ:
الْإِنْكَارُ عَلَى أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي تَفْصِيلِ مَا إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ: فَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الدِّينِ فَيَنْقَسِمُ إلَى: النَّظَرِ فِي أَصْلِ الدِّينِ , وَإِلَى النَّظَرِ فِي فُرُوعِهِ , فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَصْلِ الدِّينِ فَيَنْقَسِمُ إلَى حِفْظِ الدِّينِ بِأَقْصَى الْوُسْعِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَدَفْعُ شُبُهَاتِ الزَّائِفِينَ , وَإِلَى دُعَاءِ الْجَاحِدِينَ وَالْكَافِرِينَ إلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ الْمُبِينِ (5).
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ وَدَعَا إلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ مِنْ تَظَاهَرَ بِمَعْصِيَةِ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ أَوْ دَعَا إلَيْهَا , يُؤَدِّبُ , أَوَيَزْجُرُ , أَوْ يَقْتُلُ , إنْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ (6).
وَيَرَى الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْبِدَعَ كُلَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْسَمَ أَبْوَابُهَا وَتُنْكَرَ عَلَى الْمُبْتَدَعِينَ بِدَعُهُمْ وَإِنْ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا الْحَقُّ (7).
وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وُجُوبَ إتْلَافِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْبِدْعَةِ , وَأَنَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ إتْلَافِ آنِيَةِ الْخَمْرِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ , وَلِأَنَّ الْحِسْبَةَ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ أَهَمُّ مِنْ الْحِسْبَةِ عَلَى كُلِّ الْمُنْكَرَاتِ (8).
الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ (9):
32 - التَّجَسُّسُ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْأَمَارَاتِ الْمُعَرِّفَةِ، فَالْأَمَارَةُ الْمُعَرِّفَةُ إنْ حَصَلَتْ وَأَوْرَثَتْ الْمَعْرِفَةَ جَازَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا , أَمَّا طَلَبُهَا فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ , وَالْحِكْمَةُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَنَّنَا أُمِرْنَا أَنْ نُجْرِيَ أَحْكَامَ النَّاسِ عَلَى الظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْشَافٍ عَنِ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
__________
(1) - موطأ مالك برقم (1505) المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 73) برقم (17977) صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود برقم (4377) وهو صحيح
(3) - صحيح مسلم برقم (6760)
(4) - الآداب الشرعية - (ج 1 / ص 324) والآداب الشرعية 218و219و292 والمغني لابن قدامة 9/ 48 - 49و10/ 215 - 216 وغذاء الألباب 1/ 207
(5) - غياث الأمم في التياث الظلم - (ج 1 / ص 72)
(6) - الموافقات في أصول الشريعة - (ج 3 / ص 128)
(7) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 163)
(8) - الطرق الحكمية ص 77
(9) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 161) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6060)(1/48)
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - يَقُولُ إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْىِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَإِنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَىْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِى سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ (1).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قوله تعالى (2): {وَلَا تَجَسَّسُوا} خُذُوا مَا ظَهَرَ , وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , أَيْ لَا يَبْحَثْ أَحَدُكُمْ عَنْ عَيْبِ أَخِيهِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَلَا أَنْ يَبْحَثَ أَوْ يَقْتَحِمَ عَلَى النَّاسِ دُورَهُمْ بِظَنِّ أَنَّ فِيهَا مُنْكَرًا , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (3) وَفِي حُكْمِهِ مَنْ ابْتَعَدَ عَنْ الْأَنْظَارِ (4) وَاسْتَتَرَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ غَالِبًا غَيْرُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَكْتُمُهُ وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ (5).
وَالنَّاسُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَسْتُورٌ لَا يُعْرَفُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي , فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَهَتْكُهَا وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا , لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ , وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور، وَالْمُرَادُ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ.
وَالثَّانِي (6): مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي مُعْلِنًا بِهَا وَلَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ , فَهَذَا هُوَ الْفَاجِرُ الْمُعْلِنُ وَلَيْسَ لَهُ غِيبَةٌ , وَمِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ.
أَمَّا تَسَوُّرُ الْجُدْرَانِ عَلَى مَنْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ فَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (7)،وَيَتَحَقَّقُ الْإِظْهَارُ فِي حَالَةِ مَا إذَا أَتَى مَعْصِيَةً بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ ,
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2641)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 5274) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 18 / ص 22) والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 9 / ص 269) وطرح التثريب - (ج 8 / ص 345)
(3) - ففي صحيح البخارى برقم (5143) عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا»
وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/ 169 ونصاب الاحتساب 202.
(4) - الآداب الشرعية 1/ 292
(5) - غذاء الألباب 1/ 226
(6) - جامع العلوم والحكم - (ج 36 / ص 13) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 403)
(7) - جامع العلوم والحكم - (ج 34 / ص 13) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 6 / ص 12) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 403)(1/49)
أَوْ يُعْلَمُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الدَّارِ , وَمَا ظَهَرَتْ دَلَالَتُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَسْتُورٍ بَلْ هُوَ مَكْشُوفٌ (1).
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ (2): لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَةٍ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا , مِثْلِ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ , أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا , فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ , وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْإِنْكَارِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارُ عَنْهُ , فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْبَاطِنِ (3).
الْإِنْكَارُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ (4):
الظَّنُّ نَوْعَانِ (5):
33 - نَوْعٌ مَذْمُومٌ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ مَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ , مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ بِإِنْسَانٍ أَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ أَخَذَ مَالًا أَوْ ثَلَبَ عِرْضًا , فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ظَنُّهُ , وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، ولحديثِ الأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «
__________
(1) - التشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 57) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 161)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 231) وشرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 8 / ص 125) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 393و401) وجامع العلوم والحكم - (ج 34 / ص 13) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3407) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 130) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5512) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5623) والفروع لابن مفلح - (ج 12 / ص 429) والآداب الشرعية - (ج 1 / ص 351) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 403) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 8) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 42)
(3) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 394و401)
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6062) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14545)
(5) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 120 / ص 3)(1/50)
إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا» (1)
وَنَوْعٌ مَحْمُودٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَصَالِحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّنُونِ الْمَضْبُوطَةِ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَذَا النَّوْعِ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ غَالِبَةٍ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ (2) وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حِكْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِأَجْلِهَا (3) وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ فِي مِثْلِ الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ (4):
الْأُولَى: لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَسْلُبَ ثِيَابَ إنْسَانٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ يَدِ الْمَسْلُوبِ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ امْرَأَةً إلَى مَنْزِلِهِ يَزْعُمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَقْتُلُ إنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَخَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ , لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ , لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ , وَالدَّارُ دَالَّةٌ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهَا لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ وَأَمْثَالِهَا يُعْمَلُ بِالظُّنُونِ، فَإِنْ أَصَابَ مَنْ قَامَ بِهَا فَقَدْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ لَمْ يُصِبْ كَانَ مَعْذُورًا وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ.
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَطُوفَ فِي السُّوقِ وَأَنْ يَتَفَحَّصَ أَحْوَالَ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدٌ بِخِيَانَتِهِمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ بَلْ هُوَ مِنْ صَمِيمِ عَمَلِهِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْغَلَهُ عَنْهُ شَاغِلٌ كَمَا سَبَقَ فِي بَحْثِ آدَابِ الْمُحْتَسِبِ (5).
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَعْلُومًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ (6) ,
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (5143) وصحيح مسلم برقم (6701)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 357)
الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ظَنِّ السُّوء. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ تَحْقِيق الظَّنّ وَتَصْدِيقه دُون مَا يَهْجِس فِي النَّفْس؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْلَك. وَمُرَاد الْخَطَّابِيِّ أَنَّ الْمُحَرَّم مِنْ الظَّنّ مَا يَسْتَمِرّ صَاحِبه عَلَيْهِ، وَيَسْتَقِرّ فِي قَلْبه، دُون مَا يَعْرِض فِي الْقَلْب، وَلَا يَسْتَقِرّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيث " تَجَاوَزَ اللَّه تَعَالَى عَمَّا تَحَدَّثَتْ بِهِ الْأُمَّة مَا لَمْ تَتَكَلَّم أَوْ تَعْمِد " وَسَبَقَ تَأْوِيله عَلَى الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تَسْتَقِرّ - وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ قَالَ: الظَّنّ الَّذِي يَأْثَم بِهِ هُوَ مَا ظَنَّهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّم لَمْ يَأْثَم. قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد الْحُكْم فِي الشَّرْع بِظَنٍّ مُجَرَّد مِنْ غَيْر بِنَاء عَلَى أَصْل وَلَا نَظَر وَاسْتِدْلَال، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
(2) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 60) و2/ 62 وأحكام القرآن لابن العربي 4/ 12 - 15 والجامع لأحكام القرآن 16/ 332 وأحكام القرآن للجصاص 5/ 287 - 289 والآداب الشرعية 1/ 317
(3) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 58)
(4) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 2 / ص 56) و الفروق 4/ 257 و الآداب الشرعية 1/ 317
(5) - نصاب الاحتساب 156 و157 و1/ 2 و202
(6) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6063) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14545) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 478و479)(1/51)
فَكُلُّ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ فَلَا حِسْبَةَ فِيهِ (1)،وَعَبَّرَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ (2): أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ , أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ , أَوْ مِنْ. الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَالزِّنَى , وَالْقَتْلِ , وَالسَّرِقَةِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَقَطْعِ الطَّرِيقِ , وَالْغَصْبِ , وَالرِّبَا , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِهَا وَلَا يَخْتَصُّ الِاحْتِسَابُ بِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ سِوَى الْعُلَمَاءِ , مِثْلُ فُرُوعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَهَذَا الضَّرْبُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي تَعَلُّقِ الْحِسْبَةِ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَلٌ فِيهِ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ , فَكُلُّ مَا هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَلَا حِسْبَةَ فِيهِ (3).
وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ (4)؛بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْخِلَافُ الَّذِي لَهُ دَلِيلٌ , أَمَّا مَا لَا دَلِيلَ لَهُ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَيُقَرِّرُ هَذَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ وَالْفَتْوَى , أَوْ الْعَمَلِ.
__________
(1) - الإحياء 2/ 416
(2) - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني - (ج 8 / ص 164)
(3) - شرح مسلم للنووي 2/ 23 وكتاب الفقيه والمتفقه 2/ 67و68 وإحياء علوم الدين 2/ 415 والآداب الشرعية 1/ 186 - 187وتحفة الناظر 4 و7 والزواجر 2/ 169
(4) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى - (ج 9 / ص 112)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَبَيَّنَّا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا بِكَلَامٍ غَلِيظٍ يُخْرِجُهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ يُفْتِي بِهَا وَيَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ الدَّلَالَةُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا مَعَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَإِنْ كُنَّا نَعْذُرُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي بَعْضِهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَعْيَانَ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّبِيذِ وَنَحْوِهَا بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ فَرَدَّهَا مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ مَعَهُمْ فِيهِمَا سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، لَكِنَّ سُنَّةَ الْمُتْعَةِ مَنْسُوخَةٌ، وَحَدِيثُ الصَّرْفِ يُفَسِّرُهُ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ، فَكَيْفَ بِالْحِيَلِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مِنْ سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا بَلْ السُّنَنُ وَالْآثَارُ تُخَالِفُهَا
وَقَوْلُهُمْ مَسَائِلُ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ، إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُكْمِ أَوْ الْعَمَلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً، أَوْ إجْمَاعًا قَدِيمًا وَجَبَ إنْكَارُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْكَرُ بِمَعْنَى بَيَانِ ضَعْفِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُمْ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ أَيْضًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ شَارِبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَكَمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّبَعَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا، أَوْ مُقَلِّدًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ - وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَةِ.
أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ
وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا.
مِثْلُ كَوْنِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَأَنَّ الْجِمَاعَ الْمُجَرَّدَ عَنْ إنْزَالٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ.
وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَالْمُتْعَةَ حَرَامٌ، وَأَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرُّكُوعِ الْأَخْذُ بِالرُّكَبِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ رُبُعِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي.
وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ.
وَأَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ يَكْفِي فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْكُوعَيْنِ.
وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ حَضَرًا وَسَفْرًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى.
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ بَلَغَهُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَنْهَاهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ.
وَنَقُولُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ مَا قُلْت حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْت، أَوْ تَقُولَ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا تَعْبَأْ بِقَوْلِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُعَلِّمُ هَذِهِ الْحِيَلَ وَيُفْتِي بِهَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِدِينِ اللَّهِ أَصْلًا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الدِّينِ.(1/52)
أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا شَائِعًا وَجَبَ إنْكَارُهُ اتِّفَاقًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ إنْكَارُ مِثْلِهِ , وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ , وَكَيْفَ يَقُولُ فَقِيهٌ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ قَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (1).
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ أَوْ إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ لَمْ تُنْكَرْ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ (2): وَلَا يُنْكِرُ مُحْتَسِبٌ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 1937) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 246) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 56) ومن أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية - (ج 1 / ص 181) والآداب الشرعية - (ج 1 / ص 214) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 338)
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وفتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 194)(1/53)
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْقُضُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقِيَاسَ (1).
أَقْسَامُ الْمُنْكَرِ (2):
34 - الْمُنْكَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ.
فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى أَقْسَامٍ (3):
أَحَدُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَقَائِدِ.
وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ.
وَالثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ.
وَالرَّابِعُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ.
فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَقَائِدِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا هُوَ جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (4).
وَمِنْ أَخَصِّ خَصَائِصِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أُمَّ الْكِتَابِ وَيَتْرُكُونَ الْمُتَشَابِهَ (5) , وَأُمُّ الْكِتَابِ يَعُمُّ مَا هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ (6).
وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَتِهَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُتَعَمِّدِ تَغْيِيرَ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ , مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ , وَالْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ , أَوْ يَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ , فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا , وَتَأْدِيبُ الْمُعَانِدِ فِيهَا , إذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إمَامٌ مَتْبُوعٌ
وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ وَمَظَانِّ التُّهْمَةِ (7) , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» (8).
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وفتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 194) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 92) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 393و399) والفروق 4/ 40 و41 وتهذيب الفروق 4/ 80 والوفاكه الدواني 2/ 394و حاشية رد المحتار 5/ 292 و400 - 402و685و تسيسر التحرير 4/ 34و كتاب الفقهيه والمتفقه 2/ 65 وغاية الوصول شرح لب الأصول 149 وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك 149 - 150
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6064) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14546)
(3) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 500) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 31)
(4) - حاشية ابن عابدين 4/ 70
(5) - قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران
(6) - الموافقات 4/ 177 - 178
(7) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 238) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 379) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 4)
(8) - سنن الترمذى برقم (2708) صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 310)
قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: أَيْ اُتْرُكْ مَا اِعْتَرَضَ لَك مِنْ الشَّكِّ فِيهِ مُنْقَلِبًا عَنْهُ إِلَى مَا لَا شَكَّ فِيهِ، يُقَالُ دَعْ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ اِسْتَبْدِلْهُ بِهِ اِنْتَهَى. وَالْمَعْنَى اُتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ لَا أَوْ سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ وَاعْدِلْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْهُمَا وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَبْنِيَ الْمُكَلَّفُ أَمْرَهُ عَلَى الْيَقِينِ الْبَحْتِ وَالتَّحْقِيقِ الصِّرْفِ وَيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ(1/54)
فَيُقَدِّمُ الْإِنْكَارَ وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ (1).
وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمعَامِلَاتِ الْمُنْكَرَةِ كَالرِّبَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ , وَمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ إذَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ , فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ (2).
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إنْكَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ , كَرِبَا النَّقْدِ , فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ , وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ (3).
وَمِمَّا هُوَ عُمْدَةُ نَظَرِهِ الْمَنْعُ مِنْ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ (4) , وَلَهُ الْأَدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ (5).
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 379) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 4)
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 380) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 10)
(3) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 10)
(4) - 1 - الصّنج لغةً: شيء يتّخذ من صفر يضرب أحدهما على الآخر، وآلة بأوتار يضرب بها، ويقال لما يجعل في إطار الدّفّ من النّحاس المدوّر صغاراً صنوج - أيضاً -.
ويؤخذ من استعمالات الفقهاء للفظ الصّنجة أنّ المراد بها عندهم: قطع معدنيّة ذات أثقال محدودة مختلفة المقادير يوزن بها.
الحكم الإجماليّ
2 - ينبغي للبائع أن يتّخذ ما يزن به من قطع من الحديد أو نحوه ممّا لا يتآكل، وتعيّر على الصّنج الطّيّارة، ولا يتّخذها من الحجارة، لأنّها تنتحت إذا قرع بعضها بعضاً فتنقص، فإذا دعت الحاجة إلى اتّخاذها من الحجارة لقصور يده عن اتّخاذها من الحديد أو نحوه أمره المحتسب بتجليدها، ثمّ يختمها المحتسب بعد العيار، ويجدّد المحتسب النّظر فيها بعد كلّ حين، لئلاّ يتّخذ البائع مثلها من الخشب.
قال أبو يعلى: وممّا يتأكّد على المحتسب المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصّنجات، وليكن الأدب عليه أظهر وأكثر، ويجوز له إذا استراب بموازين السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها.
ولو كان له على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلاّ به كان أحوط وأسلم، فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع بطابعه توجّه الإنكار عليهم إن كان مبخوساً من وجهين:
أحدهما: مخالفته في العدول عن مطبوعه، وإنكاره من الحقوق السّلطانيّة.
والثّاني: البخس والتّطفيف في الحقوق، وإنكاره من الحقوق الشّرعيّة.
وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليماً من بخس ونقص توجّه الإنكار بحقّ السّلطنة وحدها لأجل المخالفة.
وللتّفصيل ر: «مقادير».
هذا عن الصّنجة بمعنى ما يوزن به.
أمّا الصّنج بمعنى ما يتّخذ من صفر يضرب أحدهما على الآخر، أو الآلة بأوتار يضرب بها أو ما يجعل في إطار الدّفّ من النّحاس المدوّر فتفصيله في مصطلح: «معازف».الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 9899)
(5) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 11)(1/55)
وَيَجُوزُ لَهُ إذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ أَهْلِ السُّوقِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا , وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابَعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا يَتَعَامَلُونَ إلَّا بِهِ كَانَ أَحْوَطَ وَأَسْلَمَ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ طَابِعُهُ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ - إنْ كَانَ مَبْخُوسًا - مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِمُخَالَفَتِهِ فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ مِنْ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ (1). وَالثَّانِي: لِلْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ , فَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ. وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ وَهُوَ أَغْلَظُ النُّكْرَيْنِ , وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً (2).
وَأَمَّا الْحِسْبَةُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ (3):
فَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِيرَانِ مِثْلُ أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ , أَوْ فِي حَرِيمٍ لِدَارِهِ , أَوْ فِي وَضْعِ أَجْذَاعٍ عَلَى جِدَارِهِ , فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَعْدِهِ الْجَارُ , لِأَنَّهُ حَقٌّ يَخُصُّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ , فَإِنْ خَاصَمَهُ إلَى الْمُحْتَسِبِ نَظَرَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَنَاكُرٌ , وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بِإِزَالَةِ تَعَدِّيهِ , وَكَانَ تَأْدِيبُهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِ الْحَالِ (4).
وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْبَابِ الْمِهَنِ وَالصِّنَاعَاتِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى حَالُهُ فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ
فَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ , لِأَنَّ لِلطَّبِيبِ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ , وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا , فَيُقِرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عِلْمُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ , وَيَمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ (5).
__________
(1) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 11)
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 11)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6066)
(4) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 14)
(5) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 16)(1/56)
وَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى حَالُهُ فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ، فَمِثْلُ الصَّاغَةِ وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ , لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ , فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ فَيُقِرُّهُمْ , وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ (1).
وَأَمَّا مَنْ يُرَاعَى عَمَلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفَسَادِ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعْدِيًا , وَإِمَّا فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ , فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ , فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ رُوعِيَ حَالُ الْغُرْمِ , فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى تَقْدِيرٍ أَوْ تَقْوِيمٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ حُكْمِيٍّ , وَكَانَ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ , وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْوِيمٍ وَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْمِثْلَ الَّذِي لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَلَا تَنَازُعَ , فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِإِلْزَامِ الْغُرْمِ وَالتَّأْدِيبِ عَلَى فِعْلِهِ , لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ وَزَجْرٌ عَنْ التَّعَدِّي (2).
وَأَمَّا الْحِسْبَةُ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ (3):
فَكَالْمَنْعِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ النَّاسِ , وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَا بِنَاؤُهُ أَنْ يَسْتُرَ سَطْحَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْرِفَ عَلَى غَيْرِهِ (4).
وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ وَالْجَوَامِعِ الْحَافِلَةِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ (5) , وَإِذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يَحْجُبُ الْخُصُومَ إذَا قَصَدُوهُ بِمَنْعِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَيَتَضَرَّرَ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ , وَلَا يَمْنَعُ عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ (6).
وَإِنْ كَانَ فِي أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ (7).
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا (8) , وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ , وَإِذَا حُمِلَ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ حَجَزَ بَيْنَهُمْ بِحَائِلٍ, وَإِذَا اتَّسَعَتْ السُّفُنُ نُصِّبَ لِلنِّسَاءِ مَخَارِجُ لِلْبِرَازِ لِئَلَّا يَتَبَرَّجْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ (9).
__________
(1) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 16)
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 16)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6067)
(4) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 18)
(5) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 18)
(6) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 18)
(7) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381)
(8) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 163) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 21)
(9) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 21) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 163)(1/57)
وَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الرِّيبَةُ وَبَانَ عَلَيْهِ الْفُجُورُ مَنَعَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِنَّ وَأَدَّبَهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لَهُنَّ (1).
وَإِنْ بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلًا مَنَعَ مِنْهُ , وَإِنْ اتَّسَعَ لَهُ الطَّرِيقُ , وَيَأْخُذُهُمْ بِهَدْمِ مَا بَنَوْهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا , لِأَنَّ مَرَافِقَ الطَّرِيقِ لِلسُّلُوكِ لَا لِلْأَبْنِيَةِ. وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ (2).
وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُكِّنُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ؛ وَمُنِعُوا مِنْهُ إنْ اسْتَضَرُّوا بِهِ.
وَهَكذَا الْقَوْلُ فِي إخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَسْبِطَةِ وَمَجَارِي الْمِيَاهِ وَآبَارِ الْحُشُوشِ يُقِرُّ مَا لَا يَضُرُّ وَيَمْنَعُ مَا ضَرَّ وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ رَأْيَهُ فِيمَا ضَرَّ، وَمَا لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالشَّرْعِ، وَالِاجْتِهَادُ الْعُرْفِيُّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ، وَيُوَضَّحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ مَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمُحْتَسِبِ، مِمَّا هُوَ مَمْنُوعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ (3).
. وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي مِلْكٍ أَوْ مُبَاحٍ إلَّا مِنْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دَفَنَهُ فِيهَا بِنَقْلِهِ مِنْهَا. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضٍ قَدْ لَحِقَهَا سَيْلٌ أَوْ نَدًى فَجَوَّزَهُ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبَاهُ غَيْرُهُ (4).
وَيَمْنَعَ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ فِيهِ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَازُعٌ وَتَنَاكُرٌ (5).
وَيَمْنَعُ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا لِلْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُؤَدِّبُ مَنْ يَصْبُغُ بِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، فَيَمْنَعُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ (6).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُحْتَسَبُ عَلَيْهِ (7):
__________
(1) - روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 3) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 22)
(2) - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 8 / ص 162) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 24)
(3) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 25) و الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 163) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 3)
(4) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) والإنصاف - (ج 4 / ص 213) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 25)
(5) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 26)
(6) - شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 298) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) والأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 27)
(7) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4023) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 156 - 167) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6068 - 6071)(1/58)
35 - الْمُحْتَسَبُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ , أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ (1).
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ (2): وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَصِيرِ الْفِعْلِ الْمَمْنُوعِ فِي حَقِّهِ مُنْكَرًا , وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا , وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ أَنْ يَكُونَا عَاصِيَيْنِ (3). وأقلُّ ما يكفي في ذلك أنْْ يكونَ إنساناً، ولا يشترطُ كونهُ مكلفاً، إذ بينا أنَّ الصبيَّ لو شربَ الخمرَ مُنعَ منهُ واحتسبُ عليهِ، وإنْ كانَ قبلَ البلوغِ، ولا يشترطُ كونهُ مميزاً إذ بيَّنَّا أنَّ المجنونَ لو كانَ يزني بمجنونةٍ أو يأتي بهيمةً منعَهُ منهُ. نعمْ مِنَ الأفعالِ ما لا يكونُ منكراً في حقِّ المجنونِ كترك ِالصلاة ِوالصومِ وغيرهِ. ولكنَّا لسنا نلتفتُ إلى اختلافِ التفاصيلِ، فإنَّ ذلكَ أيضاً مما يختلفُ فيه المقيمُ والمسافرُ والمريضُ والصحيحُ. وغرضُنا الإشارةُ إلى الصفةِ التي بها يتهيأُ توجُّهُ أصلِ الإنكار ِعليهِ لا ما بها يتهيأُ للتفاصيلِ (4).
أَوَّلًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى الصِّبْيَانِ (5):
36 - صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ بِالْوُجُوبِ , وَنَقَلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ إنْكَارُ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ , بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً لِخُصُوصِ الْفَاعِلِ , كَمَنْعِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَى (6).
وَرَجَّحَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَالسَّفَارِينِيُّ الْوُجُوبَ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ , وَرَجَّحَ الْحَجَّاوِيُّ الِاسْتِحْبَابَ، وَقَالَ: يُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إنَاثًا تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا (7).
ثَانِيًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ (8):
37 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِمَا , لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقَةٌ تَشْمَلُ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا , وَلِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِمَنْفَعَةِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ , وَالْأَبُ وَالْأُمُّ أَحَقُّ أَنْ يُوصِلَ الْوَلَدُ إلَيْهِمَا الْمَنْفَعَةَ (9)، وَلَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَتَيْ التَّعَرُّفِ وَالتَّعْرِيفِ , وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
__________
(1) - الذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 12 / ص 84) وقواعد الأحكام في مصالح الأنام - (ج 1 / ص 225) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 4 / ص 485) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 8 / ص 443 - 444)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4023) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 163)
(3) - قواعد الأحكام في مصالح الأنام 121 والفروق 4/ 256 - 257 وحاشية رد المحتار 4/ 66
(4) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 163) ومعالم القربة 27 - 37 والأحكام السلطانية لبي يعلى 291 - 308و غرائب القرآن 4/ 28 - 29 وشرح مسلم للنووي 2/ 23 و الزواجر 2/ 169 وتحفة الناظر 164
(5) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6068)
(6) - الزواجر 2/ 169
(7) - الآداب الشرعية 1/ 209 وغذاء الألباب 1/ 202و203 و فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 10 / ص 497)
(8) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6068)
(9) - نصاب الاحتساب 89 والفروق 4/ 356وإحياء علوم الدين 2/ 416،والآداب الشرعية 1/ 505(1/59)
فِيمَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إلَى سَخَطِهِمَا بِأَنْ يَكْسِرَ مَثَلًا عُودًا , أَوْ يُرِيقَ خَمْرًا , أَوْ يَحُلَّ الْخُيُوطَ عَنْ ثِيَابِهِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْحَرِيرِ , أَوْ يَرُدَّ مَا يَجِدُهُ فِي بَيْتِهِمَا مِنْ الْمَالِ الْحَرَامِ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ لِلْوَلَدِ فِعْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْأَبِ. فَسَخَطُ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْشَؤُهُ حُبُّهُ لِلْبَاطِلِ وَلِلْحَرَامِ (1).
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَحْمَدَ. قَالَ صَاحِبُ نِصَابُ الِاحْتِسَابِ (2): السُّنَّةُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِهِ مَرَّةً فَإِنْ قَبِلَا فَبِهَا , وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا , وَاشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا , فَإِنَّهُ تَعَالَى يَكْفِيهِ مَا يُهِمُّهُ مِنْ أَمْرِهِمَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (3):يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخْبِرَ الْمُحْتَسِبَ بِمَعْصِيَةِ وَالِدَيْهِ إذَا عَلِمَ الْوَلَدُ أَنْ أَبَوَيْهِ لَا يَمْتَنِعَانِ بِمَوْعِظَتِهِ.
وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يُؤْمَرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَيَانِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ (4).
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ , وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ , وَلَا يُغَلِّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ , وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ, وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمَا , وَخَرَجَ عَنْهُمَا (5).
أَمَّا الِاحْتِسَابُ بِالتَّعْنِيفِ وَالضَّرْبِ وَالْإِرْهَاقِ إلَى تَرْكِ الْبَاطِلِ , فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ يَتَّفِقُ مَعَ غَيْرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَرَدَ عَامًّا , وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إيذَاءِ الْأَبَوَيْنِ فَقَدْ وَرَدَ خَاصًّا فِي حَقِّهِمَا مِمَّا يُوجِبُ اسْتِثْنَاءَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ , إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَلَّادَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ فِي الزِّنَى حَدًّا , وَلَا لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ , بَلْ لَا يُبَاشِرُ قَتْلَ أَبِيهِ الْكَافِرِ , بَلْ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ لَمْ يَلْزَمْ قِصَاصٌ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ , فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ عَلَى جِنَايَةٍ سَابِقَةٍ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ إيذَاؤُهُ بِعُقُوبَةٍ هِيَ مَنْعٌ عَنْ جِنَايَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مُتَوَقَّعَةٍ بَلْ أَوْلَى (6)، وَتَرَخَّصَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ مُجَاوَزَةِ الرِّفْقِ إلَى الشِّدَّةِ (7).
ثَالِثًا - احْتِسَابُ التِّلْمِيذِ عَلَى الشَّيْخِ , وَالزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا , وَالتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ (8):
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 154)
(2) - نصاب الاحتساب 89 و90
(3) - نصاب الاحتساب 157
(4) - الفروق 4/ 256
(5) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1493) والآداب الشرعية - (ج 2 / ص 58)
(6) - التشريع الجنائي في الإسلام - (ج 2 / ص 62) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 155)
(7) - الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/ 171
(8) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6070)(1/60)
38 - عَقَدَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ بَابًا فِي وَعْظِ الْإِنْسَانِ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَقَالَ (1): اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا تَتَأَكَّدُ الْعِنَايَةُ بِهِ , فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ النَّصِيحَةُ , وَالْوَعْظُ , وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ , إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ عَلَى وَعْظِهِ.
وَأَلْحَقَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ الزَّوْجَةَ بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجِهَا بِالْوَلَدِ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِيهِ. وَقَالَ فِي بَابِ مَا يَقُولُهُ التَّابِعُ لِلْمَتْبُوعِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَهُ (2):
اعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلتَّابِعِ إذَا رَأَى شَيْخَهُ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِ شَيْئًا فِي ظَاهِرِهِ مُخَالَفَةُ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ بِنِيَّةِ الِاسْتِرْشَادِ , فَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ نَاسِيًا تَدَارَكَهُ , وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا وَهُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيَّنَهُ لَهُ , وَأَوْرَدَ جُمْلَةَ آثَارٍ فِي ذَلِكَ. وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ تَفْصِيلٌ , فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ كَأَصْلٍ عَامٍّ أَنَّ الْمُحْتَرَمَ هُوَ الْأُسْتَاذُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ , وَلَا حُرْمَةَ لِعَالِمٍ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَيُعَامِلُهُ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْهُ (3). قَالَ بِسُقُوطِ الْحِسْبَةِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا مُعَلِّمًا وَاحِدًا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الرِّحْلَةِ إلَى غَيْرِهِ , وَعَلِمَ أَنَّ الْمُحْتَسِبَ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْوُصُولِ إلَيْهِ , كَكَوْنِ الْعَالِمِ مُطِيعًا لَهُ أَوْ مُسْتَمِعًا لِقَوْلِهِ , فَالصَّبْرُ عَلَى الْجَهْلِ مَحْذُورٌ , وَالسُّكُوتُ عَلَى الْمُنْكَرِ مَحْذُورٌ , وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِتَفَاحُشِ الْمُنْكَرِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الْعِلْمِ لِتَعَلُّقِهِ بِمُهِمَّاتِ الدِّينِ (4).
وَنَاطَ الِاحْتِسَابَ وَتَرَكَهُ بِاجْتِهَادِ الْمُحْتَسِبِ حَتَّى يَسْتَفْتِيَ فِيهَا قَلْبَهُ , وَيَزِنَ أَحَدَ الْمَحْذُورَيْنِ بِالْآخَرِ وَيُرَجِّحَ بِنَظَرِ الدِّينِ لَا بِمُوجِبِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ (5).
رَابِعًا - احْتِسَابُ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ (6):
39 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (7) , وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ (8)، وَيَرَى الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْجَائِزَ فِي الْحِسْبَةِ مِنْ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ رُتْبَتَانِ: التَّعْرِيفُ
__________
(1) - الأذكار للنووي - (ج 1 / ص 316)
(2) - الأذكار للنووي - (ج 1 / ص 323) وآفات على الطريق كامل - (ج 1 / ص 309)
(3) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 155)
(4) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 158)
(5) - الإحياء 2/ 411 - 412
(6) - الموسوعة الفقهية 1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6071) وقد أفردناه ببحث مطول لأهميته
(7) - لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء
(8) - شرح مسلم للنووي 12/ 220 - 221(1/61)
وَالْوَعْظُ , أَمَّا مَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ الْفِتْنَةَ وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ , وَيَكُونُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ الْمَحْذُورِ أَكْثَرَ (1).
وَزَادَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2).
وقال الجصاص (3):
إذَا كَانَ فِي تَلَفِ نَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الدِّينِ فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة، وَقَالَ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران، وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (207) سورة البقرة، فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّينِ فَبَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ} (4).
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: {أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ} (5).
__________
(1) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 2 / ص 343) ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 11 / ص 342) ومجلة المنار - (ج 9 / ص 421) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 152و177) والآداب الشرعية - (ج 1 / ص 222) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 352)
(2) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 2 / ص 343) وفيض القدير - (ج 1 / ص 354) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5061) والآداب الشرعية - (ج 1 / ص 222) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 352)
(3) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 2 / ص 164 - 165)
(4) - المستدرك برقم (4876) وصحيح الجامع (3158) والصحيحة (374) وهو حديث صحيح
(5) - سنن النسائى برقم (4226) وأحمد برقم (11442 و19343) والطبراني في الكبري برقم (8006 و8007) من طرق وهو صحيح
وفي شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 495)
فَإِنَّهُ جِهَاد قَلَّ مَنْ يَنْجُو فِيهِ وَقَلَّ مَنْ يُصَوِّبُ صَاحِبَهُ بَلْ الْكُلُّ يُخَطِّئُونَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَدِّي إِلَى الْمَوْت بِأَشَدّ طَرِيق عِنْدهمْ بِلَا قِتَال بَلْ صَبْرًا وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.(1/62)
وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: {شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ} (1). وَذَمُّ الْجُبْنِ يُوجِبُ مَدْحَ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الدِّينِ وَإِنْ أَيْقَنَ فِيهِ بِالتَّلَفِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
خَامِسًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ (2):
40 - أَهْلُ الذِّمَّةِ (3) عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , إذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ , وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ , وَبِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَإِنَّ إقَامَتَهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا , وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ دُونَ هَؤُلَاءِ (4).
وَمِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ إنْ أَقَامُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يُحْتَسَبُ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ فِي كُلِّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ , وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ , وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (5). وَإِذَا انْفَرَدُوا فِي مِصْرِهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ فِي الْقُرَى , وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِ سُكَّانِهَا مُسْلِمُونَ , لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إعْلَامِ الدِّينِ مِنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.
وَإِذَا أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ فِي قُرَاهُمْ مِمَّا لَمْ يُصَالِحُوا عَلَيْهِ مِثْلَ الزِّنَى وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ مُنِعُوا مِنْهُ , لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِيَانَةٍ مِنْهُمْ , وَلَكِنَّهُ فِسْقٌ فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ (6).
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة برقم (26601) وتهذيب الآثار للطبري - (ج 1 / ص 152) برقم (139 و140) وهو صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6071) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 43) ونهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة - (ج 1 / ص 101)
(3) - المراد بأهل الذّمّة في اصطلاح الفقهاء الذّمّيّون، والذّمّيّ نسبة إلى الذّمّة، أي العهد من الإمام - أو ممّن ينوب عنه - بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام.
وتحصل الذّمّة لأهل الكتاب ومن في حكمهم بالعقد أو القرائن أو التّبعيّة، فيقرّون على كفرهم في مقابل الجزية =الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 2487)
(4) - أحكام أهل الذنة لابن القيم 2/ 475و476 والسير الكبير 4/ 1529
(5) - المغني - (ج 11 / ص 129) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 1 / ص 364)
(6) - السير الكبير 4/ 1532والرتاج شرح أحكام الخراج 2/ 312 ونصاب الاحتساب 122و123 وتحفة الناظر 164و165 والشرح الصغير 2/ 315 والتاج والإكليل لمختصر خليل هامش مواهب الجليل 3/ 385 والخرشي 3/ 148و149 والمهذب 253 - 255 ومعالم القربة 38 - 45 والآداب الشرعية 1/ 210 - 212 والمغني 5/ 249و9/ 223و347 - 353 والشرقاوي على التحرير 2/ 413(1/63)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ الْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ تَعْلِيَةِ الْبُنَيَّانِ عَلَى جِيرَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ.
وقال (2): " وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْخَلَاءِ إنْ حَصَلَ مِنْهُمْ تَضْيِيقٌ، أَوْ فَسَادُ مَاءٍ، أَوْ تَنْجِيسٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ ضَرَرٌ، وَلَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ مُزَاحَمَتُهُمْ ".
وفي تبصرة الحكام (3): وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الزِّنَا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ زَوَاجِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ إنْ اسْتَحَلُّوهُ مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ.
وقال الماوردي (4): وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ تَعْلِيَةِ أَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ مَلَكُوا أَبْنِيَةً عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا وَمُنِعُوا مِنْ الْإِشْرَافِ مِنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي ذِمَّتِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْغِيَارِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ وَيُمْنَعُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَبٍّ أَوْ أَذًى، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ.
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: فِي الِاحْتِسَابِ وَمَرَاتِبِهِ (5):
41 - الْقِيَامُ بِالْحِسْبَةِ - وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُحْتَسَبَاتِ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَامْتَدَحَهُ فِيهِ بِأَسَالِيبَ عَدِيدَةٍ , وَكَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ أَوْفَرَ وَذِكْرُهُ فِيهَا أَكْثَرَ , وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحَ , وَمَا يُدْرَأُ بِهِ مِنْ مَفَاسِدَ , وَذَلِكَ أَسَاسُ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ الدِّينُ , وَحِكْمَةُ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ يُحَقِّقُهَا وَمَفْسَدَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , فَإِذَا رَجَحَتْ الْمَصْلَحَةُ أَمَرَ بِهِ , وَإِذَا رَجَحَتْ الْمَفْسَدَةُ نَهَى عَنْهُ. كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَشْرُوعًا وَطَاعَةً مَطْلُوبَةً , وَكَانَ تَرْكُهَا , أَوْ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ عِصْيَانًا وَأَمْرًا مُحَرَّمًا مَطْلُوبًا تَرْكُهُ , لِأَنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (6).
مَرَاتِبُ الِاحْتِسَابِ (7):
ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ مَا يُمْكِنُ إيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:
42 - النَّوْعُ الْأَوَّلُ: التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ (8):
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 8 / ص 409)
(2) الفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 444)
(3) - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 291)
(4) - الأحكام السلطانية - (ج 2 / ص 18)
(5) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6072)
(6) - الحسبة في الإسلام 65 - 66
(7) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6072)
(8) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073)(1/64)
وَذَلِكَ فِيمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُزِيلُ فَسَادَ مَا وَقَعَ لِصُدُورِ ذَلِكَ عَلَى غِرَّةٍ وَجَهَالَةٍ , كَمَا يَقَعُ مِنْ الْجَاهِلِ بِدَقَائِقِ الْفَسَادِ فِي الْبُيُوعِ , وَمُسَالِك الرِّبَا الَّتِي يُعْلَمُ خَفَاؤُهَا عَنْهُ , وَكَذَلِكَ مَا يَصْدُرُ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِ الْعِبَادَاتِ فَيُنَبَّهُونَ بِطَرِيقِ التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ وَالِاسْتِمَالَةِ (1).
43 - النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَعْظُ وَالتَّخْوِيفُ مِنْ اللَّهِ (2):
وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ اقْتَرَفَ الْمُنْكَرَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ فَيَتَعَاهَدُهُ الْمُحْتَسِبُ بِالْعِظَةِ وَالْإِخَافَةِ مِنْ رَبِّهِ.
44 - النَّوْعُ الثَّالِثُ: الزَّجْرُ وَالتَّأْنِيبُ وَالْإِغْلَاظُ بِالْقَوْلِ وَالتَّقْرِيعِ بِاللِّسَانِ وَالشِّدَّةِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْإِنْكَارِ (3):
وَذَلِكَ فِيمَنْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَعْظٌ , وَلَا يَنْجَحُ فِي شَأْنِهِ تَحْذِيرٌ بِرِفْقٍ , بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَبَادِئُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِظَةِ , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَا لَا يُعَدُّ فُحْشًا فِي الْقَوْلِ وَلَا إسْرَافًا فِيهِ خَالِيًا مِنْ الْكَذِبِ , وَمِنْ أَنْ يَنْسُبَ إلَى مَنْ نَصَحَهُ مَا لَيْسَ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ نَتِيجَتِهِ إصْرَارٌ وَاسْتِكْبَارٌ.
45 - النَّوْعُ الرَّابِعُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ (4):
وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ حَامِلًا الْخَمْرَ , أَوْ مَاسِكًا لِمَالٍ مَغْصُوبٍ , وَعَيْنُهُ قَائِمَةٌ بِيَدِهِ , وَرَبُّهُ مُتَظَلِّمٌ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ بِيَدِهِ , طَالِبٌ رَفْعَ الْمُنْكَرِ فِي بَقَائِهِ تَحْتَ حَوْزِهِ وَتَصَرُّفِهِ , فَأَمْثَالُ هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الزَّجْرِ وَالْإِغْلَاظِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلْإِزَالَةِ بِالْيَدِ , أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْيَدِ كَأَمْرِ الْأَعْوَانِ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ الْمُغَيِّرِ فِي إزَالَةِ الْمُنْكَرِ.
46 - النَّوْعُ الْخَامِسُ: إيقَاعُ الْعُقُوبَةِ بِالنَّكَالِ وَالضَّرْبِ (5).
وَذَلِكَ فِيمَنْ تَجَاهَرَ بِالْمُنْكَرِ وَتَلَبَّسَ بِإِظْهَارِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إلَّا بِذَلِكَ.
47 - النَّوْعُ السَّادِسُ: الِاسْتِعْدَاءُ وَرَفْعُ الْأَمْرِ إلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ (6):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 68) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 87 / ص 24) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 266) والتنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين - (ج 1 / ص 6)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073)
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073)
(5) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 266) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14547)
(6) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 266) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6073) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14547)(1/65)
لِمَا لَهُ مِنْ عُمُومِ النَّظَرِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ , مَا لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ لِتَرْكِ النُّصْرَةِ بِهِ لِمَا يُخْشَى مِنْ فَوَاتِ التَّغْيِيرِ , فَيَجِبُ قِيَامُ الْمُحْتَسِبِ بِمَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي الْحَالِ (1).
48 - وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ بِمَا يَرَى فِيهِ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ , وَزَجْرَ الْمُفْسِدِينَ:
وَلَهُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ - بِوَجْهٍ خَاصٍّ - التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ , مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي , وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ , أَوْ الْحَبْسِ , أَوْ الْإِتْلَافِ , أَوْ الْقَتْلِ أَوْ النَّفْيِ (2).
خَطَأُ الْمُحْتَسِبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الضَّمَانِ " ضَمَانُ الْوُلَاةِ " (3):
49 - الْمُحْتَسِبُ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ , فَلَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى كُلِّ مَنْ اقْتَرَفَ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا , وَقَدْ يَحْدُثُ أَثْنَاءَ ذَلِكَ تَجَاوُزٌ فِي الْعُقُوبَةِ , فَيَتَسَبَّبُ عَنْهُ تَلَفٌ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الْبَدَنِ فَهَلْ يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّجَاوُزِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا (4) وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ ... (5): لَا ضَمَانَ فِي إتْلَافِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ , وَكَذَا لَوْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ صَنَمًا. لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.
أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهَدًى لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِى رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ وَالأَوْثَانِ وَالصُّلُبِ وَأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ .. » (6).
__________
(1) - تحفة الناظر 10 - 12 وإحياء علوم الدين 2/ 420 - 425و معالم القربة 195 - 197 و الطرق الحكمية 101 وما بعدها
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 193) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 211) والفتاوى الكبرى - (ج 8 / ص 390) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 12 / ص 114) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2976) وفتاوى ابن حجر الهيثمى - (ج 1 / ص 467) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4545) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 2 / ص 58) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 4 / ص 153) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 124) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 8 / ص 358) والإقناع - (ج 2 / ص 182) والإنصاف - (ج 15 / ص 454) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 20 / ص 482) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 18 / ص 217) وزاد المستقنع في إختصار المقنع - (ج 1 / ص 48) وشرح أخصر المختصرات لإبن جبرين حفظه الله - (ج 226 / ص 103) وشرح زاد المستقنع - (ج 383 / ص 12) ومنار السبيل شرح الدليل - (ج 2 / ص 268) والشرح الكبير - (ج 10 / ص 343) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 183)
(3) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 208) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6074)
(4) - نصاب الاحتساب 194
(5) - المغني - (ج 11 / ص 133) (4000) و نصاب الاحتساب 194 و195 والآداب الشرعية 1/ 220 وغذاء الألباب 1/ 208 - 212
(6) - مسند أحمد برقم (22967) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 217) برقم (7708) ومسند الطيالسي برقم (1217) وبنحوه عن علي في تحريم النرد والشطرنج للآجري - (ج 1 / ص 71) برقم (59 - 61) وهو ضعيف(1/66)
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَفِي كَسْرِ آنِيَةِ الْخَمْرِ رِوَايَتَانِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إلَى الضَّمَانِ إذَا تَجَاوَزَ الْمُحْتَسِبُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ النَّاظِرِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: إذَا لَمْ يَقَعْ التَّمَكُّنُ مِنْ إرَاقَةِ الْخَمْرِ إلَّا بِكَسْرِ أَنَابِيبِهَا وَتَحْرِيقِ وِعَائِهَا , فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذَا النَّوْعِ , وَإِنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عَيْنِهَا مَعَ بَقَاءِ الْوِعَاءِ سَلِيمًا وَلَمْ يَخَفْ الْفَاعِلُ مُضَايَقَةً فِي الزَّمَانِ وَلَا فِي الْمَكَانِ بِتَغَلُّبِ فَاعِلِهِ مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ , إنْ كَانَ لِأَمْثَالِهِ قِيمَةٌ وَهُوَ يُنْتَفَعُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ (1).
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ (2): وَفِي إرَاقَةِ الْخُمُورِ يَتَوَقَّى كَسْرَ الْأَوَانِي إنْ وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَحَيْثُ كَانَتْ الْإِرَاقَةُ مُتَيَسِّرَةً بِلَا كَسْرٍ , فَكَسَرَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ. وَقَالَ أَيْضًا (3): الْوَالِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ , وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِكَسْرِ الظُّرُوفِ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ زَجْرًا , وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَأْكِيدًا لِلزَّجْرِ , وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ (4) , وَلَكِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ وَالْفِطَامِ شَدِيدَةً , فَإِذَا رَأَى الْوَالِي بِاجْتِهَادِهِ مِثْلَ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ هَذَا مَنُوطًا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ دَقِيقٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ (5).
الضَّمَانُ فِي تَلَفِ النُّفُوسِ (6):
50 - أَمَّا الشِّقُّ الْآخَرُ وَهُوَ الضَّمَانُ فِي تَلَفِ النُّفُوسِ بِسَبَبِ مَا يَقُومُ بِهِ الْمُحْتَسِبُ , فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالًا فِي ذَلِكَ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ , لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ , فَلَمْ يُضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا كَالْحَدِّ , وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ , وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ , وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ , فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ (7).
__________
(1) - تحفة الناظر 12 - 13 والمغني 5/ 250
(2) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 167)
(3) - إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 167)
(4) - انظر مشكل الآثار للطحاوي - (ج 7 / ص 363) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 1 / ص 257)
(5) - الإحياء 2/ 424
(6) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6075)
(7) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6075) و الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6705) والمغني - (ج 20 / ص 371) والكافي في فقه ابن حنبل - (ج 7 / ص 20) و شرح فتح القدير 5/ 2و3و حاشية رد المحتار 4/ 78 - 79و الأشباه والنظائر لابن نجيم 289 كتاب الجنابات(1/67)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ (1): فَإِنْ عَزَّرَ الْحَاكِمُ أَحَدًا فَمَاتَ أَوْ سَرَى ذَلِكَ إلَى النَّفْسِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ , وَكَذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ , وَفِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ إذَا عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ فِي التَّعْزِيرِ لَمْ يَضْمَنْ الْإِمَامُ شَيْئًا لَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً (2).
وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ فُقَهَائِهِمْ (3) إلَى أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ , فَإِنْ شَكَّ فِيهَا ضَمِنَ مَا سَرَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ , وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ السَّلَامَةِ فَالْقِصَاصُ.
وَالشَّافِعِيُّ يَرَى التَّضْمِينَ فِي التَّعْزِيرِ إذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ , لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَا يُعْفَى مِنْ التَّعْزِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ بِنَحْوِ تَوْبِيخٍ بِكَلَامٍ وَصَفْعٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ عَزَّرَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ (4) , وَلَا عَلَى مَنْ عَزَّرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ (5)، قَالَ الرَّمْلِيُّ: لِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ بَعْدَ طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ وَإِنْ زَادَ عَلَى التَّعْزِيرِ بَلْ وَإِنْ أَدَّى إلَى مَوْتِهِ لِأَنَّهُ بِحَقٍّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ (6).
وَلَا يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا , فَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ ... (7).
مِقْدَارُ الضَّمَانِ وَعَلَى مَنْ يَجِبُ (8):
51 - وَحَيْثُ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لُزُومُ كَامِلِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَعُدْوَانِ الضَّارِبِ , فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِي , كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطًا فَمَاتَ بِهِ , وَلِأَنَّهُ تَلَفٌ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَى سَفِينَةٍ مُوقَرَةٍ حَجَرًا فَغَرَّقَهَا , وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (9).
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ تَلَفٌ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ , فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ (10).
__________
(1) - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 278)
(2) - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 278)
(3) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 5 / ص 39) والفقه على المذاهب الأربعة - (ج 7 / ص 139) والشرح الكبير للشيخ الدردير - (ج 4 / ص 355) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير - (ج 19 / ص 45) وحاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 10 / ص 360)
(4) - حاشية القليوبي على المنهج 4/ 208
(5) - حاشية القليوبي على المنهج 2/ 286
(6) - حاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 8 / ص 16) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 8 / ص 20) ومنهاج الطالبين 4/ 208
(7) - المغني لابن قدامة 9/ 145و146 والشرح الصغير 4/ 505 والخرشي على خليل 7/ 110
(8) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6076)
(9) - منهاج الطالبين 4/ 208 - 209 والمغني 9/ 145و146 و المغني - (ج 20 / ص 336) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 135)
(10) - منهاج الطالبين 4/ 208و209 ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 15 / ص 178) والمغني - (ج 19 / ص 168) والمغني - (ج 20 / ص 335) والمغني - (ج 20 / ص 336) ودرر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 3 / ص 301) والفتاوى الهندية - (ج 37 / ص 73) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 14 / ص 400)(1/68)
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى بِهِ (1).
عَلَى مَنْ يَجِبُ الضَّمَانُ (2):
52 - فِي غَيْرِ حَالَاتِ التَّعَمُّدِ وَالتَّعَدِّي إذَا قُلْنَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3).
وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ , كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا. وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4).
__________
(1) - شرح فتح القدير 5/ 290و291وتبصرة الحكام 2/ 301 ومنهاج الطالبين 4/ 208 والمغني 9/ 146 والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 136)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6076)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6076) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6705) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 136) والمغني - (ج 20 / ص 336)
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6076) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 7351) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 136) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 20 / ص 409) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 18 / ص 83) والمغني - (ج 20 / ص 337)(1/69)
وقفاتٌ مع الحسبة (1)
الوقفة الأولى: أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ومن أسباب خيريتها الحسبة.
قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)) آل عمران110.
الوقفة الثانية: الحسبة من أحب الأعمال إلى الله:
فعَنْ رَجُلٍ مِنْ خَثْعَمَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ:" نَعَمْ ".قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:" إِيمَانٌ بِاللَّهِ ".قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ:" ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ ".قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:" الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ".قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ:" ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ".قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ:" ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ " (2).
الوقفة الثالثة: الحسبة تعدل ثمني الإسلام:
عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ:" الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ الإِسْلامُ سَهْمٌ، وَالصَّلاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالصِّيَامُ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ " (3).
الوقفة الرابعة: الحسبة من الواجبات الشرعية:
قال تعالى: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) آل عمران104
وقال تعالى: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) لقمان17.
و عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ تُنْكِرُهُ فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْداً حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ وَثِقْتُ بِكَ وَفَرِقْتُ مِنَ النَّاسِ» رواه أحمد (4).
الوقفة الخامسة: الحسبة من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) - انظر http://www.alriyadh1.com/vb/f25/t22681.html
(2) - مسند أبي يعلى برقم (6690) وصحيح الجامع (166) حديث حسن
(3) - مسند البزار برقم (2927) عن حذيفة به وأبو يعلى برقم (500) عن علي مرفوعا وموقوفا وهو صحيح
(4) - مسند أحمد برقم (11549) وهو صحيح = فرقت: خشيت(1/70)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف، وهو قدوة قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) الأحزاب21.
الوقفة السادسة: من فضائل الحسبة:
أ- أن الحسبة صدقة تنفع صاحبها فِعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «تَبَسُّمُكَ فِى وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِى أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِىءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِى دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ». رواه الترمذي (1).
ب- أن المحتسب إذا قتل في حسبته فهو شهيد، فعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وَالْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ شَهِيدٌ)) رواه ابن عساكر (2).
ج- أن الحسبة تكفر الخطايا فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ» رواه البخاري (3).
الوقفة السابعة: آثار الحسبة على المحتسب والمجتمع:
أ- الحسبة من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) آل عمران104
ب- الحسبة من أسباب الرحمة، قال تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) التوبة71.
ج- الحسبة من أسباب الصلاح، قال تعالى: ((لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) [آل عمران/113 - 115])).
__________
(1) - سنن الترمذى برقم (2083) و الصحيحة (572) و صحيح الجامع (2908) و الإحسان (474 و 529) وهو صحيح
(2) - أخرجه ابن عساكر (53/ 166) و صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (7621) وهو صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى برقم (3586)(1/71)
د- الحسبة من أسباب البشرة، قال تعالى: ((التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) التوبة112.
هـ- الحسبة من أسباب النصر، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج/40 - 42].
و- الحسبة من أسباب سلامة المجتمع من الهلاك، فعن النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» رواه البخاري (1).
الوقفة الثامنة: آثار ترك الحسبة على الفرد والمجتمع:
أ- ترك الحسبة من أسباب الطرد والبعد عن رحمة الله، قال تعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) [المائدة/78، 79]))
ب- ترك الحسبة من أسباب عموم العقاب على المجتمع، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) هود117.
و عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» رواه أحمد (2).
و عَنْ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِى قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا» رواه أبو داود (3).
ج- ترك الحسبة من أسباب عدم استجابة الدعاء، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ أَنْ قَدْ حَفَزَهُ شَىْءٌ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ خَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَداً فَدَنَوْتُ مِنَ الْحُجُرَاتِ فَسَمِعْتُهُ
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2493)
(2) - مسند أحمد برقم (1) وهو صحيح
(3) - سنن أبى داود برقم (4341) حديث حسن(1/72)
يَقُولُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِى فَلاَ أُجِيبُكُمْ وَتَسْأَلُونِى فَلاَ أُعْطِيكُمْ وَتَسْتَنْصِرُونِى فَلاَ أَنْصُرُكُمْ». رواه أحمد (1).
و عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رواه الترمذي (2).
د- ترك الحسبة من أسباب الخسف والمسخ والقذف، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَكُونُ فِى آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ «نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخَبَثُ» رواه الترمذي (3).
هـ- ترك الحسبة من أسباب انتكاسة القلوب، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ. فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَجَارِهِ قَالُوا أَجَلْ. قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِى تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ حُذَيْفَةُ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ أَنَا. قَالَ أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ. قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» رواه مسلم (4).
و- ترك الحسبة والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من صفات المنافقين، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة.
الوقفة التاسعة: استدراكات:
1 - لابد من التفريق بين المنكر وفاعله، فعن أبي سعيد الخدري سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» رواه مسلم. (5)
__________
(1) - مسند أحمد برقم (25997) وهو حسن لغيره
حَفز: الحفز الحث والإعجال
(2) - سنن الترمذى برقم (2323) وهو حسن لغيره
(3) - سنن الترمذى برقم (2344) والصحيحة (1787) وصحيح الجامع (8156) صحيح لغيره
(4) - صحيح مسلم برقم (386)
المجخى: المائل عن الاستقامة والاعتدال = المرباد: المتغير سواده بكُدْرَة = الصفا: جمع الصفاة وهى الصخرة الملساء
(5) - صحيح مسلم برقم (186)(1/73)
فالضمير في قوله (فليغيره) يعود على المنكر لأن الضمير يعود على آخر اسم وأما الفاعل فمقامه النصيحة.
2 - احذر أيها المحتسب أن يخالف فعلك قولك في الحسبة، فعَنْ أَبِى وَائِلٍ، قَالَ قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلاَنًا فَكَلَّمْتَهُ. قَالَ إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ، إِنِّى أُكُلِّمُهُ فِى السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلاَ أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَىَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالُوا وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِى النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ أَىْ فُلاَنُ، مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» أخرجه البخاري (1).
3 - شبهة يقولها البعض - بقصدٍ أو بدون قصدٍ- أنَّ صلاح النفس يكفي ولا يضرنا فساد الآخرين، وهذا تقرير يفارق الصواب، فعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ قَالَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ لاَ يُغَيِّرُونَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» رواه ابن ماجه (2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3267) = الأَقتاب: جمع القتب وهو الأمعاء
(2) - سنن ابن ماجه برقم (4140) وهو صحيح(1/74)
الحسبة في الإسلام نظام فعّال
إن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية يعد وظيفة أساسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولجميع أفراد أمته من بعده، ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو الوسيلة الأولى لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض وإصلاحها للبشرية جمعاء، لذا فقد وضع له الإسلام أسساً تضمن فعاليته في المجتمع، ويمكن أجمال تلك الأسس فيما يلي:
1 - إن الله تعالى جعل ذلك واجباً دينياً على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته. قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (1).
2 - إضافة إلى كونه واجباً على الأفراد، فقد جعله الله تعالى واجباً دينياً ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج
3 - لكي تتحد مسؤولية الدولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وضع له نظاما محدداً وولاية خاصة هي ولاية الحسبة، يقوم عليها أشخاص يختارون لها اختياراً دقيقاً وفق شروط واضحة، حتى يتم الإشراف عليهم من قبل الدولة.
4 - حتى تزداد فعالية هذا الواجب -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -فقد ربط الشرع بين مهمته ورعاية مصالح الناس، حيث جعل الغاية منه تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم بالحفاظ على المنافع وتنميتها ومحاربة المضار وإخمادها. لذا قال الله تعالى: { .. وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.
5 - ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأفراد، وحتى يمتثل الأفراد لهذا الواجب، فقد ربطه الله تعالى بالوعد والوعيد، فوعد من قام به بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، كما أوعد من تخلف عن القيام به بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة، وقال الله تعالى في صفات المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة، وقال
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (186)(1/75)
حذيفة: لَتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَحَاضُّنَّ عَلَى الْخَيْرِ أَوْ لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً بِعَذَابٍ أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. (1)
6 - إن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محوراً للإصلاح، حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلاً وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي، لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة، وقال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصف/2، 3]))
7 - وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدعاة للارتكان إلى الغير والاعتذار بذلك فقد وزع الشرع المسؤوليات على كل فئات المجتمع مراعياً في ذلك التدرج ليشمل الأفراد والأسرة والوالي الأعلى للدولة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (2).وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
8 - لأن الأسرة هي الخلية الأولى لبناء المجتمع الصالح، فقد اهتم بها الإسلام اهتماماً كبيراً، لذا كان أول من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبلاغه الدعوة هم أقرب الناس إليه، قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (214) سورة الشعراء، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (132) سورة طه.
9 - وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظياً دون أن تكون للقائم به سلطة أو نفوذ، فقد خوَّل الإسلام للمحتسب بعض صلاحيات التنفيذ فيما يدخل في مكانته وقدرته، إلا أنه ميزه عن القاضي بأنه لا ينتظر أن يرفع إليه الأمر ليفصل فيه بل يقتحم الموضع الذي يظهر فيه المنكر أو يهجرُ فيه المعروف فيقوم بواجب الأمر والنهي تغييرا أو تعميرا. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد، فبين الله تعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل معه الحديد الذي هو القوة ليحمي الكتاب ودعاته ويعين على تطبيق أحكامه
__________
(1) - مسند أحمد برقم (24014) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى برقم (893)(1/76)
10 - وأخيراً فإن الشارع الحكيم وضع ضمانات وضوابط عديدة لمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تصونه عن الانحراف وتحدَّ من الآثار السالبة التي يمكن أن تقع من المحتسب، وأهم هذه الضوابط ما يلي:
أ-تقديم الأهم على المهم. وهذا يعنى أن المحتسب عليه أن يدرك الأمور التي يريد الاحتساب فيها ثم يرتبها بحسب أهميتها، فيبدأ بأولاها بالاهتمام ثم الذي يليه، لذا لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِى أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» (1).
ب- اتباع الوسائل المشروعة لمعرفة المنكر المرتكب أو المعروف المتروك. فالمحتسب ملزم بقواعد الشرع في ذلك، فلا يجوز له أن يتجسس بحجة الوصول إلى المنكر، كما لا يجوز له الغش والخداع في سبيل ذلك، وإنما واجبه وعمله متعلق بالمنكرات الظاهرة فقط دون المستورة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، فعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ». فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا (2).
ج- إن ميزان الحكم على الشيء بأنه معروف أو منكر إنما هو بالشرع، فما ثبت الشرع بأنه معروف أمر به المحتسب، وما ثبت شرعاً بأنه منكر نهى عنه، أما ما سوى ذلك فلا يتدخل فيه.
د- قيام شروط الإنكار في الفعل وهي:
1 - أن يثبت أن الفعل منكر شرعاً.
2 - أن يكون المنكر موجوداً في الحال.
3 - أن يكون ظاهراً بغير تجسس.
4 - أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد.
هـ- التدرج في الإنكار: يجب على المحتسب أن يتدرج في إنكار المنكر مبتدئاً بالدرجة الأخف، فيعرف صاحب المنكر بأن هذا الفعل منكر شرعاً وأنه لا يجوز اقترافه، ثم ينهاه عنه بالوعظ والتخويف من الله تعالى، فإن أبى فيغلظ في القول ثم بالتهديد والتخويف، فإن لم ينته -وكان الناهي
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (1586) صحيح
الكرائم: جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(2) - سنن أبى داود برقم (4890) صحيح(1/77)
محتسباً أو ذا سلطة -سعى إلى التغير باليد، وذلك بناء على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (1). والمراد بتغيير اليد هنا إزالة المنكر فقط دون تجاوز ولا تعد على فاعله، فإن كان المنكر خمراً أزيلت، أو صنماً كسر، ونحو ذلك.
و- التثبت: على المحتسب أن يتبين الأمر حتى يتضح له قبل أن يحكم عليه بالإنكار رعاية لحقوق الغير وصوناً لحرمات الناس، فمتى ثبت له داعي الإنكار أقدم فأنكر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات.
صفات المحتسب
يشترط فيمن يختار الإمام لمنصب الحسبة أن تتوفر فيه صفات أساسية حتى يضمن حسن قيامه بواجبه وتؤتي مهمته ثمارها في الحفاظ على المجتمع وصيانته من المنكرات وفشوها، وأهم تلك الصفات هي:
أولاً: الإخلاص والتجرد: فالمحتسب يقوم بواجبه امتثالاً لأمر الشارع له، فيجب أن لا تكون له مصلحة شخصية فيما يأمر أو ينهي عنه وإنما تكون غايته الإصلاح، كما قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود.
ثانياً: العلم والحكمة: ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي لذا يجب على من يقوم به أن يكون عالماً بمواضع الأمر والإنكار، وحكيماً في ذلك حتى لا يكون فعله للفساد أقرب منه للصلاح. قال الله تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف، وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
ثالثاً: الرفق والحلم: فالمحتسب ليس منتقماً لنفسه، ولا قاصدا إيذاء فاعل المنكر، وإنما غايته حمله على ترك المنكر، لذا وجب عليه أن يأخذه بالرفق والحلم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» (2).
وقال تعالى واصفاً الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، وقال تعالى آمراً موسى وهارون لما بعثهما إلى
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (186)
(2) - صحيح مسلم برقم (6767)(1/78)
الطاغية فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44) سورة طه، فإذا كان الله تعالى قد أمر اللين مع فرعون - وهو قد ادعى الألوهية- فبغيره أولى وأحرى.(1/79)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)
أولاً: بيان معنى كُلٍّ من المعروف والمُنكر
المعروف في اللُّغة: ضِدُّ المُنكر. قال الزَّجَّاج: "هو ما يُستحسَنُ من الأفعال، وهو اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما عُرِف من طاعة الله، والتَّقرُّب إليه، والإحسان إلى النَّاس (2). والمُنكر ضِدُّ ذلك جمعيه، وقد سُمِّي معروفاً، لأنَّه مألوفٌ مقبولٌ مرضيٌّ عنه، وأُريد به ما يُقبل عند أهل العُقُول، وفي الشَّرائع، وهو الحقُّ والصَّلاح" (3)."والمُنكر من الأمر خلاف المعروف (4)، وأُريد به الباطل والفساد" (5)، وهو اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما عُرِف بالشَّرع والعقل قُبْحُه، من معصية الله تعالى، وظُلْم عباده.
فالأمر بالمعروف: أمر بما يوافق الكتاب والسنة، والنهي عن المنكر نهي عما تميل إليه النفس والشهوة. وقيل: الأمر بالمعروف الإشارة إلى ما يرضي الله تعالى من أقوال العبد وأفعاله، والنهي عن المنكر تقبيح ما تنفر عنه الشريعة والعفة، وهو ما لا يجوز في شرع الله تعالى (6).
والناظرُ في هذه التَّعريفات يدْرِكُ ـ بداهةً ـ أنَّ المقياس في تحديد المعروف والمُنكر هو الشَّرع وليس العقل، إذ التَّحسين والتَّقبيح شرعيَّان لا عقليَّان (7)، وكذلك ليس المقياس العُرْف، إذ من العُرْف ما هو صحيحٌ مُعتَبَرٌ، ومنه ما هو فاسدٌ لا قيمةَ له (8). ولعلَّ العُرْف الفاسد قد جعل كثيراً من المُنكرات معروفاً، وصيَّر كثيراً من المعروف مُنكراً، والمتأمل في حياة الناس لا يعدم كثيراً من الأمثلة التي يستبين منها حقيقة الأمر ومن ذلك:
1ـ ما يظنه بعض الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في خصوصيات الناس وتعدٍّ على حرياتهم، وبالمقابل جعلوا السُّكُوت على المُنكر وإقراره حكمةً ووقاراً وسكينةً ورزانةً، حتى شاعت بين المُسلمين مقولات تدلُّ على مدى ما أصابهم من جهل وانحطاط، كقولهم: دع الخلق للخالق، وأترك المُلْك للمالك، أقام العباد فيما أراد، وقولهم للآمر والنَّاهي: أنت تُريد أن تُصلِح الكون؟!!!
__________
(1) - انظر بحث مقدمات في فقه الحسبة د. عبد الحي يوسف
(2) - ابن منظور - لسان العرب 9/ 240، ابن فارس - معجم مقاييس اللغة 4/ 281.
(3) - ابن عاشور - التحرير والتنوير 4/ 40.
(4) - ابن منظور - لسان العرب 5/ 233.
(5) - ابن علان - دليل الفالحين 1/ 345، ابن عاشور - التحرير والتنوير 4/ 40.
(6) - التعريفات للجرجاني/37 نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم 3/ 526
(7) - انظرها في: إحكام الأحكام للآمدي 1/ 41، الإبهاج للسبكي 1/ 85، المستصفى1/ 36، روضة الناظر/42.
(8) - د. التركي -أصول مذاهب الإمام أحمد 586، د. الزحيلي - أصول الفقه الإسلامي 830(1/80)
2ـ ما استقر عند كثيرين من أن التعدي على الأموال العامة وسرقتها ـ تارة بالغصب وتارة بتسخيرها في مصالح خاصة ـ إنما هو نوع من الذكاء وحسن التصرف؛ كما أن المحافظة عليها والورع في استخدامها بلاهة وعدم تبصر بعواقب الأمور!!!
3ـ التعفف والتزام الحياء في التعامل بين الجنسين ـ عند بعض الناس ـ نوع من التعقيد وعدم مجاراة روح العصر، كما أن الانفتاح بغير الضوابط الشرعية هو قمة الحضارة ودليل الرقي عندهم!!!
4ـ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر في القضايا العامة وتناول الشأن العام للمسلمين، وتنبيههم على مكايد أعدائهم ـ عند بعض الناس ـ خُرُوجٌ على السُّلطان، وإشاعةٌ للفوضى، وتعريضٌ لمصالح البلاد للخطر، وافتئات على حقِّ من ولاَّه الله الأمر، وبالمقابل جعلوا السُّكُوت على المُنكر وإقراره حكمةً ووقاراً وسكينةً ورزانةً!!!
5ـ معاصي البيع والشراء من النجش والغش وبيع المعدوم والمجهول والتعامل بالربا (1) عادت عند كثير من الناس أموراً مشروعة ينكرون على من ينكرها متذرعين بأنهم لو اتبعوا ما يقول لبارت تجارتهم وكسدت أسواقهم!!!
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون (2).
وإذا كان المُسلمون الجَهَلة يَنْعَوْن على الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المُنكر اشتغالهم بغيرهم، واهتمامهم بأمر النَّاس من حولهم، فإنَّنا نجد أئمَّتنا الأعلام يُشَدِّدون النَّكير على من يُؤْذون أمثال هؤلاء الدُّعاة إلى الخير، ولو كان أذىً باللِّسان حتى قالوا: "إنَّ القائل لمن يأمر بالمعروف: أنت فضوليٌّ يُخشى عليه الكُفْر" (3). أمَّا من يُؤذونهم بأكثر من ذلك فهم شرُّ النَّاس. عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ:" رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلٌ أَمَرَ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ ".ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، سورة آل عمران:21،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) - سيمر تفصيل كل واحدة إن شاء الله
(2) - إحياء علوم الدين 2/ 306
(3) - معجم المناهي اللفظية 162 نقلا عن حاشية ابن عابدين 5/ 106.(1/81)
وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ آمِرِيهِمْ بِالْعَدْلِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ قَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُكُوبِ مَعَاصِيهِ (1).
فائدة في الفرق بين الفحشاء والمُنكر
جمع الله جل حلاله بين اللَّفظين في قوله جل حلاله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) سورة النحل، وقد اختلفت عبارات المُفسِّرين رحمهم الله في التَّفريق بينهما، فقال الزَّمخشريُّ: "الفحشاء ما جاوز حدود الله، والمُنكر ما تُنْكِره العُقُول" (2)، وقيل: "الفحشاء الإفراط في مُتابعة القُوَّة الشَّهْوانيَّة، والمُنكر الإفراط في إظهار القُوَّة الغضبيَّة" (3)، ومن المُفسِّرين من ذهب إلى القول بأنَّ بين اللَّفظين عموماً وخصوصاً، كابن عطيَّة ـ رحمه الله ـ حيث قال: "كأنَّهم خصَّصوها بمعاني الفروج، والمُنكر أعمُّ منه؛ لأنَّه يَعُمُّ جميع المعاصي والرذائل والإدانات على الاختلاف أنواعها" (4)، وقال سيد قطب رحمه الله: "الفحشاء كُلُّ أمر يَفْحُش، أي يتجاوز الحدَّ، والمُنكر كُلُّ فعل تُنْكِره الفطرة، ومن ثَمَّ تنكره الشريعة" (5).
ثانياً: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر
لا يخلو مجتمع من منكر، هذا أمر بدهي لا ينكره أحد، ولو كان مجتمع يسلم من المنكرات جميعها صغيرها وكبيرها، لكان مجتمع الصحابة رضي الله عنه؛ لكننا نقرأ في السنة أن معاصي قد حصلت من بعض الصحابة الكرام كما في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه (6)، وقصة الغامدية
__________
(1) - الطبري برقم (6189) وفيه جهالة
(2) - الزمخشري - الكشاف 2/ 341 قال ابن المنير -رحمه الله-: "وهذه لفتة إلى الاعتزال، ولو قال: المُنكر ما أنكره الشَّرع لوافق الحق ولكنه لا يدع بدعة المتعزلة في التحسين والتقبيح بالعقل". انظر: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال 2/ 241.
(3) - الرازي التفسير الكبير 20/ 160، الألوسي -روح المعاني14/ 318.
(4) - ابن عطية -المحرر الوجيز 8/ 496.
(5) - سيد قطب -في ظلال القرآن 4/ 2191.
(6) - صحيح مسلم برقم (4524) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى أَصَبْتُ فَاحِشَةً فَأَقِمْهُ عَلَىَّ. فَرَدَّهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِرَارًا قَالَ ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إِلاَّ أَنَّهُ أَصَابَ شَيْئًا يَرَى أَنَّهُ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ - قَالَ - فَرَجَعَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمَهُ - قَالَ - فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ - قَالَ - فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلاَ حَفَرْنَا لَهُ - قَالَ - فَرَمَيْنَاهُ بِالْعَظْمِ وَالْمَدَرِ وَالْخَزَفِ - قَالَ - فَاشْتَدَّ فَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ حَتَّى أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ فَانْتَصَبَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِجَلاَمِيدِ الْحَرَّةِ - يَعْنِى الْحِجَارَةَ - حَتَّى سَكَتَ - قَالَ - ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا مِنَ الْعَشِىِّ فَقَالَ «أَوَكُلَّمَا انْطَلَقْنَا غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِى عِيَالِنَا لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ عَلَىَّ أَنْ لاَ أُوتَى بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ إِلاَّ نَكَّلْتُ بِهِ». قَالَ فَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَلاَ سَبَّهُ.
الجلاميد: جمع جلمود وهو الحجارة الكبار = المدَر: الطين اليابس جمع مدرة = النبيب: صوت التيس عند السفاد(1/82)
(1)، وكلاهما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد على نفسه بالزنا، وقصة الرجل الذي كان يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شرب خمراً (2)؛ وذلك الذي وقع منه الغش في بيع الطعام (3)، فوجود المعاصي القليلة المستخفية في مجتمع ما هو من ضرورة البشرية، ولا يقدح ذلك في سلامة المجتمع. لكن المصيبة العظمى والطامة الكبرى حين يصير المنكر مستعلناً به يمارسه أهله جهاراً نهاراً ولا يجدون من ينكر عليهم أو يغير منكرهم، وأشنع من ذلك حين يصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً حين تنتكس الفطر وتنطمس البصائر (4).
ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة بشرية؛ لما جبل عليه الإنسان من الجهل والظلم، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب، وحب الجدل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (54) سورة الكهف، والقدرة على الخصومة بالباطل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} (77) سورة
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4527) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فِيمَ أُطَهِّرُكَ». فَقَالَ مِنَ الزِّنَى. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَبِهِ جُنُونٌ». فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. فَقَالَ «أَشَرِبَ خَمْرًا». فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَزَنَيْتَ». فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ فِى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِى بِالْحِجَارَةِ - قَالَ - فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ». قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ». قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ «وَيْحَكِ ارْجِعِى فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ». فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِى كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. قَالَ «وَمَا ذَاكِ». قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ «آنْتِ». قَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا «حَتَّى تَضَعِى مَا فِى بَطْنِكِ». قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ. فَقَالَ «إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ». فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ. قَالَ فَرَجَمَهَا.
استنكه: شم ريح فمه
(2) - صحيح البخارى برقم (6780) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
(3) - صحيح مسلم برقم (295) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى».
السماء: المطر = الصبرة: الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن
(4) - وفي الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ برقم (11381) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ قَالَ:" وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ سَيَكُونُ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟ " وهو حسن لغيره(1/83)
يس، مع صفات نقص أخرى من التفريط والنسيان والكفر بنعمة الله وغير ذلك مما هو جبلة وطبيعة فيه؛ فجاءت الشريعة آمرة أتباعها بأن يتواصوا بالحق والصبر (1)، وأن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وينهى بعضهم بعضاً عن المنكر (2)؛ ليحصل تدارك النقص وتلافي الخلل.
يقول الله جل حلاله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى "فلا بُدَّ من جماعة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر، وهو تكليفٌ ليس بالهيِّن ولا اليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشَهَوات النَّاس ونَزَواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغُرُور بعضهم وكبريائهم، وفيهم الجبَّار الغاشم، وفيهم الحاكم المُتسلِّط، وفيهم المُنْحَلُّ الذي يكره الجِدَّ، وفيهم الظالم الذي يكره العدل، وفيهم المُنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم من يُنكرون المعروف ويعرفون المُنكر. ولا تُفلِح الأُمَّة، ولا تُفْلِح البشريَّة، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفاً والمُنكر منكراً" (3).
وفي موضعٍ آخرَ من السُّورة نفسها يمدح الله جل حلاله أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - مُبيِّناً مُسَوِّغات هذا المدح بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران. قال القُرطُبيُّ رحمه الله "مَدْحٌ لهذه الأُمَّة ما أقاموا ذلك واتَّصفوا به؛ فإذا تركوا التَّغيير وتواطئوا على المُنكر زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذَّمِّ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم" (4). و عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا وَرَأَى مِنَ النَّاسِ رِعَةً سَيِّئَةً، فَقَرَأَ هَذِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكِ الْأُمَّةِ، فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ مِنْهَا " (5).
والنَّظرة العَجْلى في كتاب الله الكريم يتبيَّن المرء منها أنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر وظيفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا خليل الرَّحمن إبراهيم عليه السلام ينهى عن المُنكر بيده حيث أعملها في الأصنام تكسيراً فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ
__________
(1) - قال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
(2) - قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (114) سورة آل عمران
(3) - سيد قطب - في ظلال القرآن 438.
(4) - القرطبي - الجامع لأحكام القرآن 4/ 173.
(5) - تفسير الطبري - (ج 7 / ص 102) برقم (7612) وبرقم (6932) و تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 103)
صحيح مرسل
الرعة (بكسر الراء وفتح العين) أصلها من الورع، مثل"العدة" من"الوعد". والرعة: الهدى وسوء الهيئة أو حسن الهيئة، أي هي بمعنى: الشأن والأمر والأدب. وفي حديث الحسن: "ازدحموا عليه فرأى منهم رعة سيئة فقال: اللهم إليك"،أي سوء أدب، لم يحسنوا الكف عما يشين.(1/84)
أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) [الصافات/93 - 97] (1)،وينهي عنه بلسانه حين يقول لقومه ـ مُنكِراً ومُوَبِّخاً ـ {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) [الأنبياء/66، 67] وقال تعالى {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) [الصافات/85 - 87]}، ويأمر أباه بالمعروف وينهاه عن المنكر ـ كما حكى ربُّنا سبحانه في سورة مريم ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) [مريم/41 - 46]
وهذا كليم الله موسى عليه السلام ينهي عن المُنكر بيده، حين رجع فوجد قومه يَعْكُفون على عجلٍ جَسَدٍ له خُوَار؛ فخاطب الدَّجَّال الذي أضلَّهم ـ وهو السَّامريُّ ـ بقوله: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (97) سورة طه. ويقول لقومه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (5) سورة الصف
وكذلك نَبيُّ الله عيسى عليه السلام يأمر بالمعروف حين يقول للحواريِّين: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (112) سورة المائدة
أما نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت حياته كُلُّها أمراً بالمعروف ونهياً عن المُنكر، منذ أن شرَّفه الله بالرِّسالة، وحتى لقي ربَّه الكريم الحليم، حتى إنَّ القرآن ليَنُصُّ على أنَّ وظيفة النِّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأساسيَّة ومُهِمَّتُه الأولى هي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، يقول الله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف. ويبين
__________
(1) - وقال تعالى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) [الأنبياء/51 - 58]}(1/85)
ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر من أوصاف المؤمنين اللاَّزمة، فيقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة، في مقابل ذلك وصف من كانوا ضِدَّهم وعلى النَّقيض منهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة.
ولو أنَّ المُسلمين عرفوا هذه الآيات حقَّ المعرفة، وعملوا بها على الوجه الأتمِّ الأكمل والسَّبيل الأرشد الأقوم لما استطاع أهل الشر والفساد من عُتاة البشر أن يفعلوا بالأُمَّة الأفاعيل، وينشروا بين بنيها الترهات والأباطيل، ولو أنَّ الدَّاعية الآمر بالمعروف والنَّاهي عن المُنكر وجد من ورائه أُمَّة من النَّاس يوالونه ويناصرونه لما استطاع شرير أن ينال مصلحاً بأذىً. لكنَّ حقيقة الأمر أنَّ النَّاس مُسلِمُوه وخاذِلوه (1)، فينفرد أهل الشر والفساد بالمصلحين واحداً بعد الآخر يسومونهم سوء العذاب وأشدَّ النَّكال؛ تارة بتنفير الناس منهم وتارة بإطلاق نعوت السوء عليهم كقولهم: هؤلاء رجعيون، ظلاميون، متخلفون، متطرفون، متشددون، متنطعون .. إلى آخر تلك الألقاب السيئة: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (53) سورة الذاريات.
وفي سُنَّة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نقرأ أحاديث نتبيَّن من خلالها أنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر سنة ماضيةٌ وفريضةٌ محكمةٌ ليست راجعةً إلى اختيار النَّاس، بل هي من ضرورات الدِّين لا قيام لحياة الناس إلا بها، فليست هي حقّاً مُكْتَسَباً كما يُطالب بذلك دُعاة الدِّيمقراطية، بل هي فريضةٌ دينيَّة وهداية ربَّانيَّة لهذه الأُمَّة المحمدية. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ - أَوْ نَقُولَ - بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» (2).
وقد نطق بهذا الحديث عبادة رضي الله عنه لما أنكر عليه بعض النَّاس أمره بالمعروف ونهيه عن المُنكر، فقال له: ما كنتَ معنا ـ ليلةَ العقبة ـ حين بايْعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -} وذكر الحديث (3)، ويأمرنا عليه الصَّلاة والسَّلام أن نُغيِّر المُنكر بما نستطيع «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (4).
__________
(1) - وفي صحيح مسلم برقم (6706) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
(2) - صحيح البخارى برقم (7199) و صحيح مسلم برقم (4874)
(3) - انظر القصة في سير أعلام النبلاء 2/ 7.
(4) - صحيح مسلم برقم (186)(1/86)
ويجعل - صلى الله عليه وسلم - التَّغيير بالقلب فرضاً مُتعيِّناً على كل مُسلم بقوله {وذلك أضعف الإيمان} وكأنَّ الذي يرى المُنكر ولا يُغيِّر حتى بقلبه قد جانب وصف الإيمان، وما استحقَّ أن يُنْعَت به، لأنَّه ما امْتَعَضَ ولا غَضِبَ ـ حتى بقلبه ـ لله، ولا تَمَعَّر فيه وجهه. ويقول عليه الصلاة والسلام «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (1).
وإذا كان تغيير المُنكر واجباً بعمومه، وصاحبه مأجوراً في الدَّرجات العلى، فإنَّه أعظم أجراً إذا وقع في مُواجهة الظَّالم الجائر والمُستبدِّ الغاشم. عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (2).
وفي حديث آخر يسوي - صلى الله عليه وسلم - بين الآمر بالمعروف والنَّاهي عن المُنكر بين يدي السُّلْطان الجائر وبين سيِّد الشُّهداء حمزة، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ " (3) ولا تحريضَ على القيام بهذه الفريضة أعظم من ذلك وأكبر.
وينهانا نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام عن التَّقاعُس عن القيام بهذه المُهمَّة العظيمة استصغاراً للنَّفس أو تعظيماً للظَّلَمة أو خشيةً من الفَسَقة. فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالاً ثُمَّ لاَ يَقُولُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ. فَيَقُولُ وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ تَخْشَى» (4).
ويجعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - التَّخاذل أمام هؤلاء الظَّلَمة وترك أمرهم ونهيهم ـ مهابةً منهم ـ قريناً لضياع هذه الأُمَّة وذهاب شوكتها واندثار هيبتها «إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِى تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» (5).
الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر دليل بقاء خيريَّة هذه الأُمَّة، وجدارتها بقيادة الأُمَم، وأنَّها ـ حقّاً ـ الأُمَّة الوارثة لهداية النَّبيين. عَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِى لَهَبٍ (6) قَالَتْ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - «خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُمْ (7) وَأَتْقَاهُمْ وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (8) وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» (9).
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم (4139) صحيح لغيره
(2) - سنن النسائى برقم (4226) وهو صحيح
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ برقم (4872) وقال: قَالَ:" صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " * وهو كما قال
(4) - مسند أحمد برقم (11559) وهو صحيح
(5) - مسند أحمد برقم (6959) والمستدرك برقم (7136) وهو صحيح لغيره
(6) - بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلمت وهاجرت وقدمت المدينة، نزلت في دار رافع بن المعلى. يقال: تزوج بها دحية بن خليفة الكلبي. أعلام النساء 1/ 409، أسد الغابة 7/ 103، الإصابة 12/ 245، سير النبلاء 2/ 275.
(7) - أي أكثرهم كرماً.
(8) - أي أكثرهم أمراً بالمعروف.
(9) - مسند أحمد برقم (28196) وفيه جهالة.(1/87)
"وقد جرت سُنَّة الأنبياء والمُرسلين والسَّلف الصَّالحين على الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، وإن كان محفوفاً بالمكاره، وكم قُتِل في سبيل ذلك من نبيٍّ وصِدِّيق فكانوا أفضل الشُّهداء" (1).
وقد أجمع المُسلمون ـ كما ذكر أبو عمر بن عبد البرِّ ـ أنَّ المُنكر واجبٌ تغييره على كُلِّ من قدر عليه، وأنَّه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يتعدَّى إلى الأذى فإنَّ ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه فقد أدَّى ما عليه إذا لم يستطيع سوى ذلك. قال الحسن: إنما يُكلَّم مُؤمنٌ يُرجى أو جاهلٌ يُعلَّم، فأمَّا من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتَّقني اتَّقني فما لك وله (2). وأئمَّة المالكيَّة رحمهم الله يُصرِّحون كذلك بالوجوب. قال ابن رشد (3): "الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر واجبٌ على كُلِّ مُسلم بثلاثة شروط، أحدها: أن يكون عالماً بالمعروف والمُنكر، لأنه إن لم يكن عارفاً بهما لم يصحَّ له أمر ولا نهي؛ إذ لا يأمن أن ينهى عن معروف أو يأمر بمنكر، الثَّاني: أن يأمن أن يؤدِّي إنكاره المُنكر إلى منكر أكثر منه، مثل أن ينهى عن شُرْب خمر، فيؤول نهيه عن ذلك إلى قتل نفسه وما أشبه ذلك؛ لأنَّه إذا لم يأمن لم يجز له أمر ولا نهي، الثَّالث: أن يعلم أو يغلب على ظنِّه أن إنكاره المُنكر مُزيلٌ له، وأن أمره بالمعروف مُؤثِّر فيه ونافع؛ لأنه إذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنِّه لم يجب عليه أمرٌ ولا نهي، فالشَّرطان الأوَّل والثَّاني مُشترَطان في الجواز، والشَّرط الثَّالث مُشترَط في الوجوب" (4). وينقل الإمام ابن حزم (5) رحمه الله كذلك القول بالوجوب فيقول: "والأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر فرضٌ على كُلِّ مُسلِم إن قَدِرَ بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه، وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بُدَّ، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له" (6).
ثالثاً: الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
1ـ كثرة الخبث؛ فإن المنكر إذا أعلن في مجتمع ولم يجد من ينكره، ويأخذ على يد فاعليه؛ فإنه عما قليل يمتد سلطانه ويشتد عوده؛ حتى يألفه الناس فيصبح ـ والعياذ بالله ـ معروفاً، وما تزال
__________
(1) - رشيد رضا - المنار 4/ 32.
(2) - القرطبي - الجامع لأحكام القرآن 4/ 48.
(3) - أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، قاضي الجماعة بقرطبة، مولده سنة 450هـ ووفاته سنة 520هـ. من تصانيفه: المقدمات الممهدات، البيان والتحصيل، الفتاوى. انظر: الديباج المذهب 278.
(4) - ابن رشد - المقدمات الممهدات 3/ 425 - 426 - دار الغرب الإسلامي - الطبعة الأولى.
(5) - أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، الإمام الأوحد البحر الحافظ الفقيه، ناصر الدين والوزير الظاهري، مولده -رحمه الله- بقرطبة سنة 384هـ ووفاته سنة 456هـ. من تصانيفه: المحلي، الفصل في الملل والنحل، جوامع السيرة، النَّاسخ والمنسوخ، الأحكام في أصول الحكام في أصول الأحكام، طوق الحمامة. انظر في ترجمته: البداية والنهاية 12/ 91، سير النبلاء 18/ 184، لسان الميزان 4/ 198، وفيات الأعيان 3/ 325.
(6) - ابن حزم - المحلي 9/ 361 رقم المسألة 1772.(1/88)
المنكرات تفشو بين الناس حتى يكثر الخبث، وفي الصحيحين من حديث زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ - رضى الله عنهن أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ».وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ» (1).
2ـ حلول العذاب الإلهي العام؛ لقول ربنا جل حلاله {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (25) سورة الأنفال، و عَنْ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِى قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا» (2).
وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» (3).
3ـ حصول الاختلاف والتناحر؛ فإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحول المجتمع إلى فئات متناحرة تتنازعها الأهواء؛ حين يستعلن أهل الشر بفسادهم فيعمد الصالحون إلى إزالة المنكر بالقوة فيحدث شغب وإخلال بالأمن وتناكر للقلوب؛ مع ما في ذلك من أضرار في العاجل والآجل، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ». ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ «كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا» (4).
4ـ تسليط الأعداء: وقد مني المسلمون بشيء من ذلك في تاريخهم، وأوضح مثال لذلك ما كان في الأندلس حين شاعت المنكرات بين الناس بلا نكير فسُلِّط عليهم النصارى يسومونهم سوء العذاب؛ حتى صار ملوكهم وسادتهم ينادى عليهم في أسواق الرقيق، وفي واقعنا المعاصر ما يعانيه المسلمون من تسلط أعدائهم إنما هو جزء من عقوبة إلهية حلت بهم.
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (3346) ومسلم برقم (7416)
(2) - سنن أبى داود برقم (4341) صحيح لغيره
(3) - سنن أبى داود برقم (4340) صحيح
(4) - سنن أبى داود برقم (4338) حديث حسن = تأطر: تعطفه عليه وتوجهه إليه(1/89)
5ـ عدم إجابة الدعاء (1)؛ فالمسلمون التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستجاب دعاؤهم بل توصد دونهم أبواب الإجابة جزاء وفاقاً على تضييعهم أمر الله تعالى، وفي حديث حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (2).
رابعاً: مسائلُ تتعلَّق بموضوع البحث
إذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر ذا أثر عظيم في تخليص الأُمَّة من المنكرات والفساد، وعصمة النَّاس من مُضِلاَّت الفتن، كما قيل: "كُلُّ بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمامٌ عادلٌ لا يظلم، وعالمٌ على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينْهَوْن عن المُنكر ويحرِّضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرَّجن تبرُّج الجاهليَّة الأولى" (3).
إلا أنَّ القيام بهذه الفريضة يستلزم معرفة بعض الأحكام، والتقيُّد بجملةٍ من الآداب؛ حتى تكون ثماره حلوةً، ويُؤتي أُكُلَه كُلَّ حين بإذن ربه، ولئلا يكون ـ في ذاته ـ سبباً في أن يرسِّخ أهل المنكر أقدامهم ويُوطِّد أركانهم مُستغلين جهل بعض النَّاس وطيش آخرين وخفة الحمقى والمُغفَّلين:
أولاها: الآمر بالمعروف والنَّاهي عن المُنكر لا بُدَّ له من أن يستصحب الإخلاص في أمره كُلِّه بدايةً ونهاية؛ لأنَّ في إخلاصِ ساعةٍ نجاةُ الأبد، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: " مَنْ يُصْلِحْ سَرِيرَتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ " (4)، والمُخلِص تُؤتي نصيحته أُكُلَها، وقد قال علماؤنا: "النَّصيحة لأئمة المُسلمين تكون بحُبِّ صلاحهم ورُشْدِهم وعدلهم، وحُبِّ اجتماع الأُمَّة عليهم، وكراهة افتراق الأُمَّة عليهم، والتَّديُّن بطاعتهم في طاعة الله جل حلاله " (5). ومن فقد الإخلاص فإنَّ نصيحته تكون وبالاً عليه في الدُّنيا إذ لا صبر له على البلاء، لأنَّه مُراءٍ، ولا صبر له كذلك عما يعرض عليه من شهوات الدُّنيا في مناصب أو أموال أو رُتَب، لأنَّه أراد بنصيحته الحياة الدُّنيا وزينتها، ولم يرد وجه الله والدَّار الآخرة، فليحذرِ امرؤٌ غايةَ الحذر من أن يقوم مقاماً يأمر فيه حاكماً أو والياً بمعروف أو ينهاه عن منكر، وهو يُريد بذلك سُمْعة أو شُهْرة؛
__________
(1) - انظر رسالة (حتى لا تغرق السفينة) للشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله تعالى
(2) - سنن الترمذى برقم (2323) وهو حديث حسن
(3) - القرطبي - الجامع لأحكام القرآن 4/ 49.
(4) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 106) برقم (20780) عَنْ إِدْرِيسَ الأَوْدِىِّ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى بُرْدَةَ كِتَابًا وَقَالَ هَذَا كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِى مُوسَى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ: ثُمَّ إِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْقَلَقَ وَالتَّأَذِّىَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ بِالْخُصُومِ فِى مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِى يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الأَجْرَ وَيَكْسِبُ بِهَا الذُّخْرَ فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحْ سَرِيرَتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلاَفَ ذَلِكَ يُشِنْهُ اللَّهُ فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِى عَاجِلِ الدُّنْيَا وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلاَمُ. وهو حديث حسن
(5) - ابن رجب الحنبلي - جامع العلوم والحكم/ 79(1/90)
ليقول النَّاس: ما أشجعه، ما أجرأه. ونحو ذلك، إذ أنَّ مُقَامه ذلك لا يزيده من الله إلا بُعْداً وعند السُّلْطان إلا مقتاً، ولو قُتِل على تلك الحال فما له عند الله شيءٌ من ثواب؛ إذ الرِّياء مُحبطٌ للعمل، مُذهبٌ للأجر، وليتذكَّر أنَّ إخلاصه لله في تلك النَّصيحة قد ينتج عنه صلاح البلاد والعباد واستقامة الأمر في الحال والمآل، وقد قال العبد الصَّالح الفُضَيْل بن عياض: "لو أنَّ لي دعوةً مُستجابةً ما جعلتها إلا في إمام، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد" (1).
ثانيها: واجب على كل من الآمر والمأمور اتباع الحق المأمور به؛ لدلالة القرآن على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار؛ وذلك في قوله تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) [المدثر/49 - 52] ودلالة السنة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم وذلك فيما رواه البخاريُّ عَنْ أَبِى وَائِلٍ، قَالَ قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلاَنًا فَكَلَّمْتَهُ. قَالَ إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ، إِنِّى أُكُلِّمُهُ فِى السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلاَ أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَىَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.قَالُوا وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِى النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ أَىْ فُلاَنُ، مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (2).
وقد قيل:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض (3)
ثالثها: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إذا كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بمنكر وينهى عن معروف؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف، وينبغي أن تكون دعوته بلطف؛ قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل، ويصبر على أذى الناس كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان.
رابعها: يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر؛ لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين، ويشترط في وجوبه مظنة النفع به؛ فإن جزم بعدم الفائدة فيه
__________
(1) - ابن رجب الحنبلي - جامع العلوم والحكم/ 79
(2) - صحيح البخارى برقم (3267) الأَقتاب: جمع القتب وهو الأمعاء
(3) - محاضرات الأدباء - (ج 1 / ص 54) وجواهر البلاغة للهاشمي - (ج 1 / ص 12) وشعب الإيمان للبيهقي برقم (1876)(1/91)
لم يجب عليه؛ لقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} (9) سورة الأعلى، وعَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِى حَكِيمٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِىُّ حَدَّثَنِى أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِىُّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِى هَذِهِ الآيَةِ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ - يَعْنِى بِنَفْسِكَ - وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ» (1).
خامسها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثلاث حكم:
إقامة حجة الله على خلقه؛ كما قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (165) سورة النساء.
وخروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف؛ كما قال سبحانه {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164) سورة الأعراف، وقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} (54) سورة الذاريات.
ورجاء النفع للمأمور؛ كما قال سبحانه {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (164) سورة الأعراف، وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (55) سورة الذاريات
سادسها: من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»} رواه أبو داود والترمذي (2).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: واعلم أن الحديث الصحيح قد بيَّن أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث:
الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن ذلك هو مظنة الفائدة (3).
الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهة منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان.
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4343) حديث حسن
(2) - سنن النسائى برقم (4226) و مسند أحمد برقم (11442) وسنن أبى داود برقم (4346) وسنن الترمذى برقم (2329) وهو صحيح لغيره
(3) - قال تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44) سورة طه(1/92)
الثالثة: أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعاً له عليه، فهذا شريكه في الإثم؛ فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ «لاَ مَا صَلَّوْا». أَىْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ (1).
سابعها: الآمر بالمعروف النَّاهي عن المُنكر بين يدي المُستبدِّ الظَّالم، لا بُدَّ له من أن يزن عمله بميزان الشَّرع مع تنحيته الهوى جانباً، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فلا بُدَّ من عِلْمٍ غزير، وبصيرةٍ نافذةٍ، وإحاطةٍ بواقع الأمر كُلِّه، حتى لا يكون نهيه عن المُنكر ـ في ذاته ـ مُنْكراً، ولا يكون أمره بالمعروف في مقابل تضييع معروفٍ أعظم، وتفويت منفعةٍ أكبر. يقول الإمام أبو عبد الله بن القيِّم رحمه الله: " ... النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شرع لأُمَّته إيجابَ إنكار المُنكر؛ ليحصل ـ بإنكاره ـ من المعروف ما يُحِبُّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المُنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنَّه لا يسوغ إنكاره ..
فإنكار المُنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويَخْلُفَه ضِدُّه، الثَّانية: أن يقلَّ وإن لم يَزُلْ بجُمْلَتِهِ، الثَّالثة: أن يَخْلُفَه ما هو مثله، الرَّابعة: أن يَخْلُفَه ما هو شرٌّ منه، فالدَّرجتان الأوليان مشروعتان، والثَّالثة موضع اجتهاد، والرَّابعة مُحَرَّمة" (2).
ثامنها: لا يعني إنكار المُنكر الدَّعْوَة إلى الخُرُوج على أُمَراء الجَوْر والحُكَّام الظَّالمين، خاصَّة في زماننا هذا الذي صارت مفسدة الخُرُوج فيه عظيمةً، من تقتيل الدُّعاة وسفك دماء الأبرياء والتَّضييق على الدَّعْوة، ولربَّما أدَّى الأمر إلى أن تُدكَّ البلاد دكّاً دكّاً .. إذ الظالمون أحرص النَّاس على مُلكٍ وجاهٍ، فما إن يسمع أحدهم ببادرة خُرُوجٍ أو عصيان حتى يطيش لُبُّه، ويذهب حِلْمُه، ويغلب عليه شيطانه؛ فلا يبالي بما يفعل، وأعظم من هذا كله أن يَسُدَّ منافذَ تبليغ الدَّعوة ونشر العلم الشَّرعي الصحيح، ويفتح الأبواب ـ بدلاً من ذلك ـ لأهل البدَع والخُرَافات والأباطيل والتَّرَّهات، ليُضلُّوا النَّاس عن سواء السَّبيل، وتنشأ أجيال من المُسلمين لا تعرف من دين الله إلا صورةً شائهةً، وعباداتٍ ميتةً لا روح فيها ولا حياة (3).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4907) وانظر أضواء البيان 2/ 178
(2) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 151) و انظر في ذلك كلاماً نفسياً لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- في الحسبة 76.
(3) - هناك فرق كبير بين إمام جائر ومع هذا يحكم بما أنزل الله، فهذا لا يجب الخروج عليه، ولكن إذا كان خارجاً عن الشريعة أصلاً موالياً لأعداء الله تعالى ورسوله، مقربا الفجار مطارداً للأخيار، فلا خلاف في الخروج عليه، وأن ولايته على المسلمين باطلة
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 59)
قَوْله (عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّه فِيهِ بُرْهَان) أَيْ نَصّ آيَة أَوْ خَبَر صَحِيح لَا يَحْتَمِل التَّأْوِيل، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلهمْ يَحْتَمِل التَّأْوِيل، قَالَ النَّوَوِيّ: الْمُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَة، وَمَعْنَى الْحَدِيث لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ اِنْتَهَى. وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِالْإِثْمِ هُنَا الْمَعْصِيَة وَالْكُفْر، فَلَا يُعْتَرَض عَلَى السُّلْطَان إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِي الْكُفْر الظَّاهِر، وَاَلَّذِي يَظْهَر حَمْل رِوَايَة الْكُفْر عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِي الْوِلَايَة فَلَا يُنَازِعهُ بِمَا يَقْدَح فِي الْوِلَايَة إِلَّا إِذَا اِرْتَكَبَ الْكُفْر، وَحَمْل رِوَايَة الْمَعْصِيَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْمُنَازَعَة فِيمَا عَدَا الْوِلَايَة، فَإِذَا لَمْ يَقْدَح فِي الْوِلَايَة نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَة بِأَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَيَتَوَصَّل إِلَى تَثْبِيت الْحَقّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْف، وَمَحَلّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا وَاَللَّه أَعْلَم. وَنَقَلَ اِبْن التِّين عَنْ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي أُمَرَاء الْجَوْر أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعه بِغَيْرِ فِتْنَة وَلَا ظُلْم وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِب الصَّبْر. وَعَنْ بَعْضهمْ لَا يَجُوز عَقْد الْوِلَايَة لِفَاسِقٍ اِبْتِدَاء، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْخُرُوج عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح الْمَنْع إِلَّا أَنْ يُكَفِّر فَيُجِبْ الْخُرُوج عَلَيْهِ.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 314)
وَمَعْنَى الْحَدِيث: لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث بِمَعْنَى مَا ذَكَرْته، وَأَجْمَعَ أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ لَا يَنْعَزِل السُّلْطَان بِالْفِسْقِ، وَأَمَّا الْوَجْه الْمَذْكُور فِي كُتُب الْفِقْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَنْعَزِل، وَحُكِيَ عَنْ الْمُعْتَزِلَة أَيْضًا، فَغَلَط مِنْ قَائِله، مُخَالِف لِلْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب عَدَم اِنْعِزَاله وَتَحْرِيم الْخُرُوج عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَن، وَإِرَاقَة الدِّمَاء، وَفَسَاد ذَات الْبَيْن، فَتَكُون الْمَفْسَدَة فِي عَزْله أَكْثَر مِنْهَا فِي بَقَائِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِمَامَة لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ عِنْد جُمْهُورهمْ الْبِدْعَة، قَالَ: وَقَالَ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ: تَنْعَقِد لَهُ، وَتُسْتَدَام لَهُ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّل، قَالَ الْقَاضِي: فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْر وَتَغْيِير لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَة خَرَجَ عَنْ حُكْم الْوِلَايَة، وَسَقَطَتْ طَاعَته، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَام عَلَيْهِ، وَخَلْعه وَنَصْب إِمَام عَادِل إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقَع ذَلِكَ إِلَّا لِطَائِفَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِيَام بِخَلْعِ الْكَافِر، وَلَا يَجِب فِي الْمُبْتَدِع إِلَّا إِذَا ظَنُّوا الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَإِنْ تَحَقَّقُوا الْعَجْز لَمْ يَجِب الْقِيَام، وَلْيُهَاجِرْ الْمُسْلِم عَنْ أَرْضه إِلَى غَيْرهَا، وَيَفِرّ بِدِينِهِ، قَالَ: وَلَا تَنْعَقِد لِفَاسِقٍ اِبْتِدَاء، فَلَوْ طَرَأَ عَلَى الْخَلِيفَة فِسْق قَالَ بَعْضهمْ: يَجِب خَلْعه إِلَّا أَنْ تَتَرَتَّب عَلَيْهِ فِتْنَة وَحَرْب، وَقَالَ جَمَاهِير أَهْل السُّنَّة مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ وَالظُّلْم وَتَعْطِيل الْحُقُوق، وَلَا يُخْلَع وَلَا يَجُوز الْخُرُوج عَلَيْهِ بِذَلِكَ، بَلْ يَجِب وَعْظه وَتَخْوِيفه؛ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ اِدَّعَى أَبُو بَكْر بْن مُجَاهِد فِي هَذَا الْإِجْمَاع، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضهمْ هَذَا بِقِيَامِ الْحَسَن وَابْن الزُّبَيْر وَأَهْل الْمَدِينَة عَلَى بَنِي أُمَيَّة، وَبِقِيَامِ جَمَاعَة عَظْمِيَّة مِنْ التَّابِعِينَ وَالصَّدْر الْأَوَّل عَلَى الْحَجَّاج مَعَ اِبْن الْأَشْعَث، وَتَأَوَّلَ هَذَا الْقَائِل قَوْله: أَلَّا نُنَازِع الْأَمْر أَهْله فِي أَئِمَّة الْعَدْل، وَحُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ قِيَامهمْ عَلَى الْحَجَّاج لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْق، بَلْ لَمَّا غَيَّرَ مِنْ الشَّرْع وَظَاهَرَ مِنْ الْكُفْر، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْخِلَاف كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِجْمَاع عَلَى مَنْع الْخُرُوج عَلَيْهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَم(1/93)
"ولهذا لو تأمَّل المُنصِف في تاريخ الإسلام، وما جرَّه الخُرُوج على أئمَّة الجَوْر من البلاء والعناء وسفك الدِّماء، لأدرك لِمَ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخُرُوج عليهم ومناهضتهم، كما في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ «لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» (1).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4910)(1/94)
ولهذا كان من أصول أهل السُّنَّة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمَّة (1)، وترك القتال في الفتنة" (2)، "ولأنَّه يترتَّب على الخُرُوج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جَوْرهم، بل في الصَّبْر على جَوْرهم تكفير السَّيئات ومُضاعفة الأُجور" (3).
يقول الإمام النَّوويُّ رحمه الله في حكم الخُرُوج على الإمام الظَّالم والحاكم الجائر: " وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ." (4).
وهذا الإجماع الذي ينقله الإمام النَّوويُّ رحمه الله يُشْكِل عليه خُرُوج جماعةٍ من أهل العلم والدِّين على الحُكَّام الظَّالمين كما فعل الحُسيْن وابن الزُّبيْر رضي الله عنه في دولة بني أُمَيَّة، وخُرُوج ابن الأشعث على الحجَّاج، وقد أجاب بعض العُلَماء على هذا الإشكال بأنَّ الخلاف كان أولاً، ثم استقرَّ الأمر على ترك ذلك لمَّا رأوه قد أفضى إلى أشدَّ منه، وحصل الإجماع على منع الخُرُوج عليهم (5).
وهذه الأحكام جديرٌ بشباب الصَّحْوَة أن يدرسوها، مُستصحِبين وقائع التَّاريخ وشواهد الواقع المُعاصر، حتى يعلموا أنَّ مفسدة الخُرُوج عظيمةٌ إذا ما قيست إلى مفسدة بقاء الظَّالم، كما يقول القُرْطُبيُّ رحمه الله: "ففيه ـ أي الخُرُوج ـ استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدِّماء، وانطلاق أيدي السُّفهاء، وشنُّ الغارات على المُسلمين، والفساد في الأرض" (6).
وهاهنا أنقل كلاماً نفسياً لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله وهو من هو في جهاده للظَّالمين وقمعه لأهل المُنكر والمُبتدعين، يقول رحمه الله: " إِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامِ ظَالِمٍ: خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إمَامٍ. وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَةُ ظُلْمِهِ: فَذَاكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ وَيُثَابُونَ عَلَيْهَا، وَيَرْجِعُونَ فِيهَا إلَى اللَّهِ، ويستغفرونه وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ. وَكَذَلِك مَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ. وَأَمَّا مَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَيَقُولُ - أَيْ يَدَّعِي - أَنَّهُ نَبِيٌّ: فَلَوْ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَأْيِيدَ الصَّادِقِ: لَلَزِمَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّادِقِ. فَيَسْتَوِي الْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَطَرِيقُ الْجَنَّةِ وَطَرِيقُ النَّارِ. وَيَرْتَفِعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْفَسَادَ الْعَامَّ لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى الدِّينِ الْفَاسِدِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَالْخَوَارِجِ. وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ. وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ." (7) أ. هـ.
__________
(1) - الذين يحكمون بما أنزل الله
(2) - ابن تيمية - الحسبة في الإسلام 76 - الطبعة الأولى 1403هـ 1983م توزيع رئاسة البحوث العلمية.
(3) - ابن أبي العز الحنفي - شرح العقيدة الطحاوية 430 - المكتب الإسلامي - الطبعة الخامسة 1399هـ - بيروت.
(4) - النووي - شرح مسلم 12/ 229.
(5) - ابن حجر - تهذيب التهذيب 2/ 288.
(6) - القرطبي - الجامع لأحكام القرآن 2/ 209
(7) - ابن تيمية - مجموع الفتاوى 14/ 269 ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 270)(1/95)
الحسبة والشرطة والعسس في الدولة الإسلاميّة (1)
عرّف ابن خلدون الحسبة بأنّها: وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمر المسلمين.
وجاء في اصطلاح الماوردي أنّها: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله (2).
وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران
الفرق بين المتطوّع والمحتسب:
وجد الماوردي أنّ بين المتطوّع والمحتسب تسعة أوجه (3):
1 ـ أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية.
2 ـ أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّّفه الذي يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجب أن يتشاغل عنه بغيره.
3 ـ أنّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.
4 ـ أنّّ على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.
5 ـ أنّّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
6 ـ أنّ له أن يتخذ على إنكاره أعواناً، لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب، ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوّّع أن يندب لذلك أعوانا.
7 ـ أنّّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة لا يتجاوز إلى الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر على منكر.
8 ـ أنّّ له أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر.
9 ـ أنّّ له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوّع، فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كان يأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين غيره من المتطوّعين، وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر من هذه الوجوه التسعة.
علم آداب الحسبة:
__________
(1) - انظر http://www.alghoraba.com/hadara/21_alshurta.htm
(2) - الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 486) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 2)
(3) - الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 260 أبو الحسن الماوردي. و الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 486) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 7)(1/96)
هي من جملة الواجبات ولا بد وأن يكون المحتسب عالماًً بمواقع الحسبة وأن يكون ورعاً حسن الخلق إذ العلم والورع لا يكفي في اللطف والرفق ما لم يكن لصاحبه حسن الخلق، ومن آدابها تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه ويقطع الطمع حتى تزول عنه المداهنة، وهذا العلم من العلوم المتعلقة بالعادات ذكره في مدينة العلوم وقد تقدّّم الكلام عليه أيضا في علم الاحتساب (1).
شروطُ المحتسب:
وأجمل الفقهاء المسلمون وفي مقدّمتهم الشيزري صاحب كتاب (نهاية الرتبة في طلب الحسبة) الشروط الواجب توفّرها في المحتسب ومنها (2):
أن يكون فقيهاً عارفاً بأحكام الشريعة، وأن يعمل بما يعلم بحيث لا يكون فعله مخالفاً لقوله، وأن يقصد في قوله وفعله وجه الله تعالى، وطلب مرضاته، مخلصاً النية، لا يشوبه في طوّية رياء ولا مراء، وأن يكون مواظباً على سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع القيام على الفرائض والواجبات، وأن يكون من شيمته الرفق، ولين القول، وطلاقة الوجه، وسهولة الأخلاق عند أمره للناس ونهيهم، وأن يكون عفيفاً عن أموال الناس، متورّعاً عن قبول الهديّة من المتعيّّشين وأرباب الصناعات لأنّها رشوة، وعليه أن يلزم أعوانه وغلمانه بما التزمه بهذه الشروط.
بالغاً، عاقلاً، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، وان يكون عالماً من أهل الاجتهاد، عفيفاً منزّهاً عن قبول الرشوة.
مهمّة المحتسب:
إذا كانت الحسبة وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ينبغي أن يقصر أمرها ونهيها على حقوق الله، وما حدّه من حدود، بل يشملان في الحسبة حقوق البشر، والحقوق المشتركة بين الله وعباده.
وقد أجمل الدكتور القوصي مهام المحتسب في التالي: مراقبة التجار وأرباب الحرف، كإجبار الطبيب على دفع ديّة المريض الذي يموت بسبب سوء علاجه، ووضع الشروط على الحرف التي تتطلب النظافة، وتتصل بالطعام والشراب، كالعجّانين والسقائين والجزّارين والحلوانيين وغيرهم، ومراقبة الأسعار والموازين، ومنع التلاعب في الأسعار، أو الغش في الكيل والميزان، ومنع الاحتكار، ومراقبة أبنية السوق وطرقاته، وأن يجعل لكل صنعة سوقاً، وأن يجعل على أهل كل صنعة عريفا ًمن صالح أهلها، خبيراً بصيراً بغشوشهم وتدليسهم، ومراقبة الأخلاق العامّة، كمنع شرب الخمر، ومنع تعرّض الرجال للنساء في السوق، وعدم طرح الأقذار على جوانب الطريق، وإرسال الماء من المزاريب إلى الطريق، ومراقبة العبادات إذ يأخذ المسلمين لصلاة الجمعة والجماعات والأعياد، ويمنعهم من الإفطار
__________
(1) - أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم ج 2 ص 36 صديق حسن خان.
(2) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 3) ونهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة - (ج 1 / ص 2)(1/97)
في رمضان، وعنايته بنظافة الجوامع، وإظهار هيبة الإسلام، كما يراقب المحتسب حسن معاملة العبيد والإماء والرفق بالحيوان، وعدم تسخيره فيما لا يطيق، ويرعى الأطفال اللقطاء، ويمنع معلمي الصبيان من ضرب صبيانهم ضرباً مبرّحاً، ويمنع الحمّالين وأهل السفن من زيادة التحميل خوفاً من غرق السفينة (1).
وكان المحتسب يأخذ على الأطباء، وأصحاب المهن الطبيّة عهد (أبقراط): ألاّ يعطوا أحداً دواءً مضراً، ولا يركّبوا له سمّاً، ولا يصفوا التمائم عند أحد من العامّة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجّنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغضّوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار.
ويحيل على رئيس الأطباء من يريد مزاولة الطب من الكحّالين، والمجبّرين، والجرائحيّين وغيرهم للامتحان بل إعطائهم إجازة العمل.
وذكر محمد ابن الأخوة، صاحب (معالم القربة في مسائل الحسبة) أنّّ المحتسب كان يمتحن الكحّالين بكتاب حنين بن إسحق (العشر مقالات في العين) قبل أن يأذن لهم بالتصدّي لمداواة أعين الناس؛ أما الجرائحيّون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس في الجراحات والمراهم، وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان.
يقول الفقيه ابن عبدون الأندلسي: يجب ألا يترك أحد يتسوّر في شيء لا يحسنه، لا سيما صناعة الطب الذي فيه إتلاف المهج (2).
وذكر القفطي، وابن أبي أصيبعة، أنّ الخلفاء كانوا يباشرون مهمّة المحتسب بأنفسهم في بعض الأحيان، ويقومون بتطهير هذه المهنة العلميّة من الجهلة والمتطفّّلين عليها، وتحدّثوا عن رواية امتحان المأمون لصيادلة بغداد، وعن امتحان المعتصم بالله العبّاسي للصيادلة في معسكره.
ورأى الماوردي في أحكامه، أنّّ من واجبات المحتسب مراقبة المتسوّلين، ومنع الأغنياء من طلب الصدقة، وتأديبهم إذا لم يمتنعوا، وإعلامهم بأنّها محرّمة على المستغني عنها، وإذا ما رأى السائل ذا جلد وقوّة على العمل زجره وأمره أن يحترف عملاً ما، فإذا أقام على التسول عزّره وأدّبه حتى يقلع عنه، وعليه منع التكسّب بالكهانة واللهو والتأديب على ذلك، وأخذ أهل الذمّة بما شرط عليهم، وعليه أن يمنع عنهم من يتعرّض لهم بأذى، ويؤدّب من خالف ذلك، ويمنع المحتسب كشف حرمات المنازل، والاستطالة عليها، حتى أنّ محتسب الكوفة لم يسمح للمؤذن بصعود المئذنة إلاّ إذا كان كفيفاً.
المحتسب يستنفر الناس للجهاد:
__________
(1) - الحضارة الإسلامية ص 50 د. عطية القوصي.
(2) - دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية ص 132 د. أمين توفيق الطيبي.(1/98)
ذكر كمال الدين بن أبي جرادة كيفيّة النفير بطرسوس، وكيف كان يجري أمره، قرأت بخط أبي عمرو القاضي في كتابه قال: يركب المتولي لعمل الحسبة أي وقت وقع النفير من ليل أو نهار ورجالته بين يديه ينادون بأعلى أصواتهم أجمع صوتاً واحداً يقولون النفير يا أصحاب الخيل والرجالة، النفير حملكم الله إلى باب الجهاد، وإن أراد إلى باب قلميه أو إلى باب الصاف أو إلى أي باب اتفق وتغلق سائر أبواب المدينة وتحصل مفاتيحها عند صاحب الشرطة فلا تزال مغلقة حتى يعود السلطان من النفير ويستقر في داره، ثم تفتح الأبواب المغلقة كلّها، ويطوف المحتسب ورجالته الشوارع الجداد كلّها، فإن كان ذلك نهاراً إنصاف إلى رجالته عدد كثير من الصبيان وساعدوهم على النداء بالنفير وربما احتاجوا إلى حشد الناس لشدّة الأمر وصعوبة الحال فأمر أهل الأسواق بالنفير، وحضهم على المسير في أثر الأمير أين أخذ وكيف سار، ويكون مركز صاحب الشرطة إذا وقع النفير مع رجالته الموسومين به عند الباب الأوّل الذي يلي المدينة الذي يخرج منه الناس إلى النفير، وكذلك المحتسب إلاّ أنّ المحتسب يتردّد في الأسواق إذا طال أمر النفير وتأخّر خبره ويبعث على اللحوق بمن سار مع الأمير وبمن توجه إلى النفير، فلا يزال الأمر على هذا حتى يعود السلطان إلى دار الإمارة، ويخرج إلى النفير قوّاد الرجّالة معروفون متى عقد السلطان لقائد من الفرسان فبعثه للقاء من ورد من ذلك الوجه أضاف إليه قائداً من قوّاد الرجّالة وأتبعه (1).
وظيفة المحتسب وظيفة القضاء:
وعندما تولى منصب الاحتساب بمصر مصطفى كاشف كرد، طلب قوائم مشتريات التجّار، ونظر في مكايلهم فضاق خناق أكثر الناس من ذلك لكونهم لم يعتادوه من محتسب قبله، وكأنه وصله خبر ولاة الحسبة وأحكامهم في الدول المصرية، فإنّ وظيفة أمين الاحتساب وظيفة قضاء، وله التحكّم والعدالة والتكلّم على جميع الأشياء وكان لا يتولاها إلاّ المتضلّع من جميع المعارف والعلوم والقوانين ونظام العدالة حتى على من يتصدّر لتقرير العلوم فيحضر مجلسه ويباحثه، فإن وجد فيه أهليّة للإلقاء أذن له بالتصدّر أو منعه حتى يستكمل، وكذلك الأطبّاء والجراحيّة حتى البياطريّة والبزدريّة ومعلمو الأطفال في المكاتب ومعلمو السباحة في الماء والنظر في وسق المراكب في الأسفار وأحمال الدواب في نقل الأشياء ومقادير روايا الماء مما يطول شرحه، وفي ذلك مؤلف للشيخ بن الرفعة وقد يسهل بعض ذلك مع العدالة وعدم الاحتكار وطمع المتولي وتطلّعه لما في أيدي الناس وأرزاقهم (2).
الشرطة:
وظيفة هامّة في الدولة الإسلاميّة، ترتبط بالقضاة وتساعدهم في تنفيذ الأحكام الشرعيّة وإقامة الحدود، وكان يطلق على صاحب الشرطة: صاحب الليل، وصاحب المدينة، لأنّه يقوم بحفظ النظام،
__________
(1) - بغية الطلب في تاريخ حلب ج 1 ص 188 كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة.
(2) - تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج 3 ص 565 عبد الرحمن الجبرتي.(1/99)
ويساعد الوالي على استتباب الأمن في المدينة، ويقبض على الجناة وأصحاب الفساد والشر لتقديمهم إلى القضاء، وكانت توكل إلى كبار القوّاد والموالي المخلصين لهم (1).
وسمي الشرط لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها الواحد شرطة و شرطي بسكون الراء فيهما، وقال أبو عبيد: سمّوا شرطاً لأنّهم أعدّوا من قولهم أشرط من إبله وغنمه أي أعد منها شيئا للبيع (2).
قال ابن خلدون في مقدمته: وكان أصل وضعها في الدولة العباسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلاً ثم الحدود بعد استيفائها، فإنّ التهم التي تعرض في الجرائم لا نظير للشرع إلاّ في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يُكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك، فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود إذا تنزّه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة، وربّما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي.
ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القواد، وعظماء الخاصّة من مواليهم، ولم تكن عامّة التنفيذ في طبقات الناس إنّما حكمهم على الدهماء وأهل الريب، والضرب على أيدي الرعاع والفجرة، ثم عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوعت إلى شرطة كبرى، وشرطة صغرى (3).
وجرت عادة العباسيّين على اختيار صاحب الشرطة من علية القوم، ومن أهل العصبيّة والقوّة، وكانت مهمّة الشرطة الكبرى الضرب على أيدي الزعماء وعلى أيدي أقاربهم في الظلامات، والصغرى تحكم في الرعاع وعامّة الناس.
واجبات الشرطة:
أجمل الأستاذ أنور الرفاعي، في كتابه القيّم (الإنسان العربي والحضارة) واجبات الشرطة بما يلي: حفظ النظام، وحفظ الأمن، مراقبة أماكن اللهو واللعب ومنع ما يقع فيها من مخالفات، وتنفيذ أوامر السلطان، وتنفيذ أوامر القضاة، وإدارة السجون (4).
كما أوكل إليها حراسة بيت المال، والنظر في الجرائم، ومراقبة الأماكن العامّة، ومساعدة عمال الخراج، ومراقبة أبواب المدن، والنظر في الحدود، وكان صاحب الشرطة ينوب عن الأمير إذا غاب، وعلى العموم فقد كان أصل وضعها لمن كان يقيم أحكام الجرائم في حالة استبرائها أوّلاً، ثم الحدود بعد استيفائها.
شروط صاحب الشرطة:
__________
(1) - بناء الدولة العربية الإسلامية ص 129 د. محمد حسين محاسنة.
(2) - مختار الصحاح ج 1 ص 141 محمد بن أبي بكر الرازي.
(3) - مقدمة ابن خلدون ص 277 عبد الرحمن بن خلدون.
(4) - الإنسان العربي والحضارة ص 235 أنور الرفاعي.(1/100)
ذكر ابن أبي الربيع صاحب كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) ما ينبغي أن يكون عليه صاحب الشرطة من خصال فقال: أمّا صاحب الشرطة فينبغي أن يكون حليماً مهيباً، دائم الصمت، طويل الفكر، بعيد الغور.
وأضاف قائلاً: وأن يكون غليظاً على أهل الريب في تصاريف الحيل، شديد الفطنة؛ وأن يكون ظاهر النزاهة غير عجول، وأن يكون نظره شزراً، قليل التبسّم، غير ملتفت إلى الشفاعات؛ وأن يأمر أصحابه بملازمة المحابس، وتفتيش الأطعمة وما يدخل السجون؛ ويجب عليه عمارة سور المدينة وأبوابها، ولمّ شعثها، ومعرفة من يدخلها.
العسسُ أو حرّاسُ الليل:
نظام أمني في الدولة الإسلاميّة، مهمّته الطواف بالليل، لتتبع اللصوص، وطلب أهل الفساد.
وفي لسان العرب: عس يعس عسساً، وعسا أي طاف بالليل ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنّه كان يعسّ بالمدينة أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة والعسس اسم منه كالطلب وقد يكون جمعاً لعاسّ كحارس وحرس و العسّ نفض الليل عن أهل الريبة (1).
وأوّل من استن نظام العسس الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان يعسّ بالمدينة يحرس الناس، وينفض الليل عن أهل الريبة ويكشفهم (2).
ويروي ابن سعيد المغربي أنّه كان للأندلس دروب تغلق ليلاً، وتحرس بواسطة رجال الشرطة المسمون (بالدرّابين) وأنّ كلّ واحد كان معه سلاح وكلب وسراج.
وأجاز فقهاء الأندلس في عهد المرابطين فرض ضريبة أطلق عليها (التعتيب) كان الغرض منها تأمين الأموال الكافية لترميم الحصون والقلاع والأسوار حول المدن الرئيسيّة، ومن حصيلتها كانت تقوم
__________
(1) - لسان العرب ج 6 ص 139 محمد بن مكرم بن منظور.
(2) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ >> بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ مِنْ سَتْرِ عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَمَا لَهُ >>برقم (397) عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،" أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَرَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً عَلَى فَاحِشَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لِلنَّاسِ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ إِمَامًا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً عَلَى فَاحِشَةٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمَا الْحَدَّ مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ إِمَامٌ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، إِذَنْ يُقَامُ عَلَيْكَ الْحَدُّ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَأْمَنْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ثُمَّ تَرَكَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ، فَقَالَ الْقَوْمُ مِثْلَ مَقَالَتِهِمُ الْأُولَى، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ " وهو صحيح
وفي مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ >> بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ مِنْ سَتْرِ عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَمَا لَهُ >>برقم (419) عَنْ ثَوْرٍ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،" كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ، فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ فِي بَيْتٍ يَتَغَنَّى، فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ امْرَأَةً، وَعِنْدَهُ خَمْرًا، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُكَ وَأَنْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنْ أَكُنْ عَصَيْتُ اللَّهَ وَاحِدَةً، فَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَجَسَّسُوا، وَقَدْ تَجَسَّسْتَ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وَقَدْ تَسَوَّرْتَ عَلَيَّ، وَدَخَلْتَ عَلَيَّ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِغَيْرِ سَلَامٍ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ خَيْرٍ إِنْ عَفَوْتُ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَئِنْ عَفَوْتَ عَنِّي لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا أَبَدًا، قَالَ: فَعَفَا عَنْهُ، وَخَرَجَ وَتَرَكَهُ " وهو حسن(1/101)
بالإنفاق على أرزاق الجند والموظّفين، وإنشاء المشروعات العامّة، ونفقات الحملات العسكرية، وشراء الأسلحة والمعدّات الحربيّة، وترتيب العسس والدرّابين لحراسة الأسواق والطرقات والدروب وغير ذلك (1).
سبق في ميدان التنظيم المدني:
حدث بمراكش أيام الموحدين سنة 571 هـ طاعون شديد، فكان الرجل لا يخرج من منزله حتى يكتب اسمه ونسبه وموضعه في بطاقة يضعها في جيبه، فإن مات حمل إلى أهله بالموضع المذكور في البطاقة.
وتستخدم الجيوش في زمن الحرب الآن بطاقة معدنيّة، يعلّقها الجنود في سلسلة معدنيّة خفيفة بصدورهم، مع إضافة الرقم العسكري، والزمرة الدموية، والدين، لتسهيل إسعاف الجرحى، وإجراء المراسم الدينية لمن يقتل منهم.
ويعلّق الأستاذ محمد المنوني في كتابه (حضارة الموحّدين) على هذه البطاقة فيقول: هذا النوع من (الكارني) الذي سبق الموحّدون إلى استعماله، كاف في الإعراب عن عظمته، ناطق بعبقرية الموحّدين في ميداني الابتكار والنظام (2).
__________
(1) - المجتمع الأندلسي في العصر الأموي ص 374 د. حسين يوسف دويدار.
(2) - حضارة الموحدين ص 94 محمد المنوني.(1/102)
من هم رجال الحسبة؟ (1)
رجال الحسبة هم أناس متفرغون لإنكار المنكرات الظاهرة سواء تبرع أو بمرتبات من بيت مال المسلمين، ومن وظائفهم الاحتساب في إنكار المنكرات في الأسواق وغيرها مثل:
1 - الاختلاط والتبرج المحرمين شرعاً.
2 - تشبه أحد الجنسين بالآخر.
3 - تعرض الرجال للنساء بالقول أو بالفعل.
4 - الجهر بالألفاظ المخلة بالحياء، أو المنافية للآداب.
5 - تشغيل المذياع، أو التلفزيون، أو المسجلات وما ماثل ذلك بالقرب من المساجد أو على أي نحو يشوش على المصلين.
6 - إظهار غير المسلمين لمعتقداتهم، أو شعائر مللهم، أو إظهارهم عدم الاحترام لشعائر الإسلام وأحكامه.
7 - عرض، أو بيع الصور، والكتب، أو التسجيلات المرئية، أو الصوتية، المنافية للآداب الشرعية، أو المخالفة للعقيدة الإسلامية اشتراكاً مع الجهات المعنية.
8 - عرض الصور المجسمة، أو الخليعة، أو شعارات الملل غير الإسلامية كالصليب، أو نجمة داوود، أو صور بوذا، أو ما ماثل ذلك.
9 - صنع المسكرات أو ترويجها، أو تعاطيها اشتراكاً مع الجهات المعنية.
10 - منع دواعي ارتكاب الفواحش "مثل الزنا واللواط والقمار" أو إدارة البيوت، أو الأماكن لارتكاب المنكرات، والفواحش.
11 - البدع الظاهرة كتعظيم بعض الأوقات، أو الأماكن غير المنصوص عليها شرعاً، أو الاحتفال بالأعياد، والمناسبات البدعية غير الإسلامية.
12 - أعمال السحر والشعوذة، والدجل، لأكل أموال الناس بالباطل.
13 - تطفيف الموازين والمكاييل.
كما يدخل في عملهم كذلك:
1 - مراقبة المسالخ، للتحقق من الصفة الشرعية للذبح.
2 - مراقبة المعارض، ومحلات حياكة ملابس النساء.
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1264) سؤال رقم 13817 - ما معنى الحسبة ورجال الحسبة؟ و مجلة الحسبة العدد/39.(1/103)
ولا يغني عنهم وجود شرطة الآداب لأن شرطة الآداب الموجودة في بعض البلدان لا يقومون بإنكار كل هذه المنكرات والقضاء عليها، بل يطبقون قانوناً هو على أحسن الأحوال يشتمل على حق وباطل، بينما رجال الحسبة يأمرون بكل ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -،ويلزمون الناس بالواجب، وينهون عما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتدخلون لمنع المحرمات(1/104)
ضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة في الإسلام، بل هي الشعيرة المميزة للأمة المسلمة، كما قال الله تعالى: " {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (110) سورة آل عمران، وهي الشعيرة الفارقة بين المؤمنين والمنافقين {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة، وقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة، وهي شعيرة معدودة في أسباب النجاة من العذاب {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (165) سورة الأعراف، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بالأثر الخطير لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ». ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ «كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا» (2).
ومع هذه الأهمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الأمة فلابد من معرفة جملة من الأمور المهمة.
شروط إنكار المنكر:
وضع الفقهاء عدة شروط لإنكار المنكر متى تم استيفاؤها لزم الإنكار أو التغيير، وأهم هذه الشروط خمسة:
(1) وجود منكر.
(2) أن يكون المنكر موجوداً في الحال.
(3) أن يكون المنكر ظاهراً دون تجسس
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 12 / ص 478) ضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر =المجيب د. علي بن عمر با دحدح = عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة -التاريخ 29/ 10/1424هـ
(2) - سنن أبى داود برقم (4338) و الترمذي برقم (2323) وهو حديث حسن
تأطر: تعطفه عليه وتوجهه إليه(1/105)
(4) أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد.
(5) أن يدفع المنكر بأيسر ما يندفع به.
الشرط الأول: وجود منكر:
ونعني به كل معصية حرمتها أو كرهتها الشريعة:
الشرط الثاني: أن يكون المنكر موجوداً في الحال:
والمعنى أن يكون مقارف المنكر مباشراً له في الحال أي وقت النهي أو التغيير، فليس هناك نهي على من باشر المنكر وانتهى منه، فذلك أمره إلى السلطات العامة لتوقيع العقاب عليه، وأيضاً ليس هناك نهي على المنكرات المستقبلية، كأن يعرف الناهي بقرينة الحال أن الشخص قد عزم على الشراب في ليلة فليس له إلا وعظه، وإن أنكر عزمه على ذلك لم يجز وعظه؛ لأن في ذلك إساءة ظن بالمسلم.
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً دون تجسس:
أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس أو تفتيش، فإذا توقف إظهار المنكر على إيهام لم يجز الإنكار لتحريم التجسس كتاباً وسنة، فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية: «إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ». فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. أخرجه أبو داود (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ» أخرجه أبو داود (2). ... ولكن ذلك مقيد بعدم ظهور آثار لذلك المنكر.
الشرط الرابع: أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد:
فكل أمر محل اجتهاد لا نهي فيه، وليس للمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موضع الخلاف.
الشرط الخامس: أن يدفع المنكر بأيسر ما يندفع به:
ويشترط في دفع المنكر أن يدفع بما دفعه وبأيسر ما يدفعه، فلا يجوز أن يدفع المنكر بأقل مما يدفعه ما دام الدافع قادراً على دفعه بالأكثر، ولا يجوز أن يدفع بأكثر مما يدفعه لأن ما زاد على الحاجة يعتبر جريمة، ولكن يجوز دفع المنكر بأقل مما يدفعه في حال عدم القدرة كالدفع بالقلب لمن لا يستطيع
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4890) وهو صحيح
(2) - سنن أبى داود برقم (4882) وهو صحيح(1/106)
الإنكار باليد أو اللسان ... ، وإذا كان المقصود بالأمر بالمعروف إيقاع المعروف والنهي عن المنكر فإذا ارتفع الغرض بالأمر السهل لم يجز العدول عنه إلى الأمر الصعب، وهذا مما يعلم عقلاً وشرعاً.
شروط القائم بالأمر والنهي:
الشرط الأول: الإسلام
وليس على غير المسلم التزام بمثل هذا الواجب؛ لأن معنى إلزامه به هو إلزام بالدعوة إلى غير ما يعتقده ويؤمن به، وذلك يدخل في باب الإكراه المنهي عنه في الإسلام في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .. } (256) سورة البقرة، فضلاً عن أن ذلك معارض من وجهين: الأول أن الاحتساب واجب ديني، وثانيهما أنه سلطة وولاية، وليس لغير المسلم ولاية على المسلم.
الشرط الثاني: التكليف:
ويشترط في من يمارس الرقابة أن يكون مكلفاً أي بالغاً عاقلاً لا يحول دون تكليفه حائل، وهذا الشرط شرط للوجوب وليس شرطاً للأداء، أي أن الرقابة باعتبارها واجباً لا يثبت إلا في حق المكلف فقط ويسأل عن تركها، بعكس غير المكلف الذي لا يلزم بأدائها ولا يسأل عن تركها.
الشرط الثالث: العلم:
ولا يكون العمل صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه، كما قال عمر بن عبد العزيز: مَنْ تَعَبَّدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، (1)." ولابد أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به وينهى عنه .. فإن الحسن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبحه.
الشرط الرابع: القدرة:
ولها أربع أحوال:
الحالة الأولى: أن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضر به إذا تكلم، فلا تجب عليه الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع، ولكن يلزمه عدم حضور مواضع المنكر والاعتزال في بيته، وعدم الخروج إلا لحاجة ملحة أو واجب، وعليه الهجرة إذا أرهق على الفساد وكان قادراً عليها.
الحالة الثانية: يعلم بأن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يسبب له مكروهاً، فيجب الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة.
الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروهاً، فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تستحب، لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين.
__________
(1) - سُنَنُ الدَّارِمِيِّ >> بَابُ مَنْ قَالَ: الْعِلْمُ: الْخَشْيَةُ وَتَقْوَى اللَّهِ >>برقم (321) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:" كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أنَّهُ مَنْ تَعَبَّدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ، وَمَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ، كَثُرَ تَنَقُّلُهُ " وهو صحيح(1/107)
الحالة الرابعة: وهو أنه يعلم أنه سيصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله، كأن يريق الخمر من يد الفاسق ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب.
وقد قال الحسن البصري رحمه الله: (إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله؟) (1) و عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَنْبَغِى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».
قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ. قَالَ «يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ» أخرجه الترمذي (2).
قال الحافظ ابن حجر (3): وَقَالَ بَعْضهمْ: يَجِب إِنْكَار الْمُنْكَر، لَكِنَّ شَرْطه أَنْ لَا يَلْحَق الْمُنْكِر بَلَاء لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوه.
وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِر بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَة مَرْفُوعًا " يُسْتَعْمَل عَلَيْكُمْ أُمَرَاء بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ " الْحَدِيث (4) قَالَ: وَالصَّوَاب اِعْتِبَار الشَّرْط الْمَذْكُور وَيَدُلّ عَلَيْهِ حَدِيث " لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسه (5) " ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّض مِنْ الْبَلَاء لِمَا لَا يُطِيق اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ غَيْره (غير الطبري): يَجِب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسه مِنْهُ ضَرَرًا وَلَوْ كَانَ الْآمِر مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَة يُؤْجَر عَلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُطَاعًا، وَأَمَّا إِثْمه الْخَاصّ بِهِ فَقَدْ يَغْفِرهُ اللَّه لَهُ وَقَدْ يُؤَاخِذهُ بِهِ.
معيار الموازنة عند كل من ابن قيم الجوزية وابن تيمية:
أ. عند ابن قيم الجوزية: يرى أن الموازنة بين إنكار المنكر ونتيجته تتمثل في أربع حالات.
1. أن يزول المنكر ويخلفه ضده.
2. أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته.
3. أن يخلف المنكر ما هو مثله.
4. أن يخلف المنكر ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
حدود القدرة والاستطاعة:
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 23 / ص 283)
(2) - سنن الترمذى برقم (2420) وهو حديث حسن
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 106)
(4) - أخرجه مسلم برقم (4907)
(5) - مر تخريجه قبل قليل(1/108)
إن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوضحت لنا - بلا أدنى شك - حدود الاستطاعة البشرية في الإنكار ... والعبرة هو حديث مسلم الذي رواه عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (1). ويكتمل المعنى في هذا الحديث بحديثين آخرين يوضحان حد القدرة التي يقف عندها كل مسلم في إنكاره ... وأولهما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ .. » (2).
وثانيهما: هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ (3).
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أ. الإنكار القلبي (المقاومة السلمية):
قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (113) سورة هود.
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «سَيَكُونُ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَغِبَ وَتَابَعَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ «لاَ مَا صَلَّوُا الصَّلاَةَ» (4).
و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي لاَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلا يَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي (5).
ب. الإنكار القولي:
وللإنكار القولي درجات ومراحل منها:
1. التعريف: فقد يقدم المكلف على اقتراف المنكر جهلاً منه بكونه منكراً، حتى إذا وجد من يرده إلى طريق الحق اهتدى، فيلزم التعريف أولاً بأسلوب هادئ رقيق، وينبه الإمام الغزالي إلى آفة خطيرة،
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (186)
(2) - صحيح البخارى برقم (7288) وصحيح مسلم برقم (6259) واللفظ لمسلم
(3) - مسند البزار برقم (2790) وهو حديث حسن
(4) - مسند أحمد برقم (27365) وهو صحيح
(5) - المستدرك للحاكم برقم (265) وأحمد (14815) وهو صحيح(1/109)
وهي أن يدل العالم على مقترف المنكر بعلمه، فيكون هدفه إثبات تفوقه عليه، فإن كان الباعث هذا فهذا منكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه.
2. النهي بالوعظ، والنصح والتخويف بالله تعالى، ويكون فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصرَّ عليه بعد أن عرف كونه منكراً، ويباشر المحتسب النصح في هذا المقام من غير عنف ولا غضب.
3. السب والتعنيف بالقول الخشن: ويكون ذلك عند العجز عن منعه باللطف، وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وليس المقصود بالسب أن يرميه بهجر القول والفاحشة، بل يقتصر على السب الخفيف الذي يصدق على واقع الحال، كأن يقول له: يا من لا يتقي الله، يا فاسق يا جاهل ... إلخ، وهنا ينبغي مراعاة ما يلي:
أ. أن لا يقدم على التعنيف إلا عند الضرورة والعجز بالطريقة الأولى.
ب. أن لا ينطق إلا بصدق، ولا يسرف في الكلام، بل يقتصر على قدر الحاجة.
4. التهديد والتخويف: وشرط ذلك أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله: لأنهبن دارك، أو لأسبين زوجتك، وما يجري مجراه فهذا حرام إن قصد فعله، وكذب إن لم يقصد إليه.
ج. الإنكار الفعلي: وهو نوعان:
(أ) الإنكار باليد فيما دون استخدام السلاح
(ب) الإنكار باليد بالخروج والسلاح عند الضرورة.
إن الأمر والنهي دين وشرع وليس مشاعر خاصة ولا حماسة طارئة ولا رد فعل عارض، فلابد من الانضباط الشرعي، ومراعاة المصالح والمفاسد على أساس شرعي، مع اليقين التام والتسليم الكامل بأن ما في الشرع هو المحقق للمصالح الدنيوية والأخروية، وهو الأجدى، والأنفع للفرد والمجتمع، ومن هنا نقول:
أ. الإنكار القلبي إنكار تغييري بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"فليغيره" ثم ذكر وسائل التغيير "بقلبه" وفيه فوائد:
* إبقاء جذوة الإيمان متقدة.
* التفريق بين المؤمن والمنافق فكلاهما لم يغير باليد، لكن الأول كاره والثاني راض.
*المحاصرة النفسية والعملية لفاعل المنكر؛ حتى لا يجد من يعينه أو يهون عليه المنكر، بل يرى نفسه مهجوراً مذموماً.
ب. الإنكار القولي: وهو جهاد الدعوة ومداه واسع وأثره كبير وفوائده عديدة ووسائله متنوعة والتقصير فيه كبير، ويمكن أن يكون تأثيره كبيراً في تغيير كثير من المنكرات.(1/110)
ج. الإنكار باليد يمكن ممارسته في دائرة الولاية داخل الأسرة أو داخل العمل الذي يملكه الإنسان ويتصرف فيه، ولكن لابد من مراعاة المراتب والتدرج وكذلك الأسلوب.
أما الإنكار العام فإن كان يؤدي إلى منكرات أكبر أو اضطراب في الأحوال وخلل في الأوضاع وحتى ضرر مؤكد أو غالب على الإنسان فتركه صحيح، وأما الخروج فضرره أكبر وخطره أعظم في الجملة، والبعد عنه والتحذير منه مهم لدفع مفاسده، والله أعلم.(1/111)
ضرب المتهم عند التحقيق! (1)
إن قيام المسئول بضرب الجاني أو المعتدي المنتهك لحق من حقوق الله أو حقوق العباد أو كان الضرب لانتزاع الاعتراف من شخص اشتهر بالفساد أو له سوابق من ذلك - فالضرب لهؤلاء وأمثالهم جائز شرعاً. وثبت في السنن أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِى تُهْمَةٍ (2).
وفي غزوة بدر ظفر المسلمون برجلين على الماء فجأوا بهما إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي -ورجوا أن يكونا من جيش أبي سفيان وهما يقولان: فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ الْمَاءِ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ فَضَرَبُوهُمَا. فَلَمّا أَذْلَقُوهُمَا قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا. وَرَكَعَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ ثُمّ سَلّمَ وَقَالَ إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا " (3).
وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إقرار على الضرب التهمة وإنما أنكر على أصحابه استمرار الضرب بسبب بعد اعتراف المتهم.
وعلى هذا فإن الضرب في هذه الأحوال:
1 - إذا كان الضرب لانتزاع الاعتراف من شخص مشهور بالفساد مع وجود قرائن عديدة على ارتكابه لذلك الجرم إذا كان في إنكاره ضياع للحق العام أو الحقوق الخاصة.
2 - الضرب للتأديب كتأديب عاق الوالدين أو من يقومون بأذية الناس والجيران في حالة انتهاء القضية دون وصولها للشرع.
ونحوها فيما لا يتوقف الحكم فيها على الدعوى (الخصومة) وإنما على الحسبة فقط وعامة الجزاءات المعمول بها عند الشرط هي في الأصل من باب الاحتساب وعلى الضابط وهو يقوم بضرب المتهم المشهور بالفساد أو من له سوابق فيه أن يتذكر أنه يقوم مقام المحتسب فلا يظلم ولا يحابي قريبًا أو صديقًا.
__________
(1) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 352) ضرب المتهم عند التحقيق
(2) - سنن أبى داود برقم (3632) وهو صحيح
(3) - السيرة النبوية لابن هشام (3/ 163 - 164)، وتاريخ الطبري (2/ 28)، والثقات لابن حبان (1/ 160 - 161)(1/112)
وجوب تمييز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باللباس (1)
لقد نقل الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (2) إجماع العلماء على وجوب أن يلبس أهل الذمة لباساً أو علامة تميزهم عن المسلمين، وقد اشترط عمر رضي الله عنه على نصارى الشام أن لا يتشبهوا بالمسلمين، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه، فكان ذلك إجماعاً، وعلى ذلك مضى عمل الخلفاء من بعده، والحكمة في ذلك ظاهرة بينه - والحمد لله - وهي أن أهل الذمة الذين يعيشون مع المسلمين، ويختلطون بهم في نواديهم وأسواقهم لا يختلفون في أحكامهم وحقوقهم العامة عن المسلمين، لكن المسلمين مخاطبون بأحكام الشريعة، ومؤاخذون بها في القانون الإسلامي، في العبادات والمعاملات، مما هو من خصائص أهل الإسلام دون غيرهم، فوجب تميزهم لأمور منها:
1/ حماية جناب الشريعة، وتحقيق مقاصدها، بظهور خصائص الإسلام وتعاليمه على أشخاص المسلمين وفي واقع حياتهم، ومنع أسباب التمازج المفضي إلى وجود الذريعة للفسقة والمنافقين للتملص من قيود الشرع وتكاليفه.
2/ الحفاظ على خصوصية المجتمع المسلم، ومنها مطالبته بالتزام الزي الموافق لهدي الإسلام، ومنعه من تقليد غير المسلمين، مما يكون سبباً في ذوبان الشخصية، ولهذا لو تنازل المسلمون عن لباس الحشمة، وتشبهوا بلباس غير المسلمين، لم يطالب أولئك بالتميز عنهم.
3/ التفريق في الأحكام أثناء تطبيق قوانين الشريعة، خاصة في الأحكام التي تندرج تحت عمل الحسبة، وفي أعمال البيع والتجارة، فيؤخذ المسلمون بما هو من دين الإسلام، ولا يطالب غيرهم بما تكفلت الشريعة بإسقاطه، أو عدم مؤاخذتهم به، كالجهاد والصلاة والصيام، وكدخول الكنائس والعمل فيها، وكأكل الربا والخنزير، وشرب الخمر، لو عثر عليهم متلبسين بشيء من ذلك. ثم إننا نرى أن غير المسلمين في بلادهم لا يحترمون مشاعر المسلمين وخصوصياتهم الدينية، ألا ترى العالم قد فضل عطلة اليهود والنصارى السبت والأحد على عطلة المسلمين الجمعة، ولم يرفع رأساً بأعيادهم، ولا تأريخهم الهجري، ولم يمتنع من المجاهرة بشرب الخمر، والزنا، والربا، والتعري .. وكلها محرمة في دين المسلمين، ولم يقل أحد بأن ذلك غير لائق في العصر الحاضر، وهذه الأمور التي يفعلها غير المسلمين لأشد ضرراً على المسلمين من دعوة غير المسلمين إلى الامتياز بزي معين، روعيت فيه مصالح الطرفين، وكان القصد الأول منه الحفاظ على هوية المجتمع المسلم، وليس انتقاص غيرهم، أو الإساءة إليهم.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4151) -رقم الفتوى 8607 وجوب تمييز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باللباس -تاريخ الفتوى:19 ربيع الأول 1422
(2) -28/ 651(1/113)
الحسبة ... أركانها وآدابها ومراتبها (1)
الحُسبة لغة: مشتقة من الاحتساب وهو طلب الأجر كما في الحديث: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (2). أي طلب الأجر من الله تعالى.
أما في الاصطلاح فهي "أمر بالمعروف إذا ظهر تَرْكُه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله" (3).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم من الحسبة، فيؤمر بالمعروف وإن لم يترك، وينهى عن المنكر وإن لم يرتكب، كما يفعل الخطباء والعلماء من الحث على فعل الخيرات وترك المنكرات، فتكون الحسبة أخص من حيث إنها تتعلق بالمعروف الذي ترك، والمنكر الذي فعل.
وأركان الحسبة هم:1) مُحتسب 2) مُحتسَب عليه 3) مُحتسَب فيه 4) احتساب.
فالمحُتسب هو من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يشترط فيه إذن من ولي الأمر"السلطان" فكل مسلم مأمور بتغيير المنكر لحديث «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (4).
ونقل القرطبي الإجماع على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، ثم إن من الحسبة، الحسبة على السلاطين، فكيف يُطلب منهم الإذن للاحتساب عليهم؟!
ولكون المحتسب يُرجى له الحصول على أجر الاحتساب شروط نذكر منها ما لا بد منه: وهو الإسلام وإخلاص النية والمتابعة .. أي متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاحتساب. ومنها: العلم بما يأمر به وينهى عنه، وبأحوال المأمور والمنهي والملابسات وظروف المنكر. ومنها: القدرة على التغيير من اليد إلى اللسان إلى القلب الذي لا يُعفى منه أحد.
وهناك آداب للمحتسب من أهمها:
الرفق في الاحتساب ووضعه في موضعه، ومن الآداب: البدء بالنفس، والبدء بالأهم، ومراعاة سنة التدرج، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والصبر واحتمال الأذى، والسعي لإيجاد البدائل الإسلامية للمنكرات المراد إزالتها.
المحتسب عليه:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4023) رقم الفتوى 17092 الحسبة ... أركانها وآدابها ومراتبها-تاريخ الفتوى:22 ربيع الأول 1423
(2) - صحيح البخارى برقم (37) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
(3) - الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 237) والأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 486) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 2)
(4) - صحيح مسلم برقم (186)(1/114)
هو من يؤمر بالمعروف ويُنْهى عن المنكر، ومن شروطه، أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً؛ وإن لم يكن معصية يحاسب عليها ديانة، فكل من الصبي والمجنون والناسي والجاهل يمنع من المنكر، وإن لم يكن مؤاخذاً به شرعاً عند الله. والمحتسب عليهم يختلفون باختلاف حالهم في القرابة والبعد والقوة والشوكة ودخولهم في الإسلام وغير ذلك. ولكل واحد منهم أحكام ومباحث لا يتسع المجال لتفصيلها.
المحُتسب فيه:
هو المنكر الموجود الظاهر للمحتسب بغير تجسس، ويكون مما يعلم أنه منكر بغير اجتهاد، ومن شروطه: أن يكون موجوداً في الحال هو أو مقدماته، أما ما فات فليس فيه إلا النصح، وأن يكون ظاهراً يراه المحُتسب أو يسمعه أو ينُقل له نقلاً موثوقاً، كل ذلك بدون تجسس، ومن شروطه: أن لا يكون مما اختلف فيه من مسائل الاجتهاد اختلافاً معتبراً، فلا إنكار في مسائل الاجتهاد.
الاحتساب:
وهو القيام بالحسبة: وهو مراتب ولكل مرتبة شروط.
الأولى: التغيير باليد وهي أقوى مراتب الحسبة، ومن أهم شروطها: القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من الاحتساب.
المرتبة الثانية: التغيير باللسان، وإنما ينتقل إليها إذا عجز عن اليد.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب، وهذا لا رخصة لأحد في تركه، بل يجب أن يكون بعض المنكر وكراهيته في قلب كل مسلم، فآخر حدود الإيمان هو الإنكار بالقلب.
وحقيقة الإنكار بالقلب، عدم الرضا بالمنكر ومفارقته والنفور منه.(1/115)
التسعير .. أحكامه وأحواله (1)
لا يخلو التسعير من حالتين: أن يكون في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، أو أن يكون في حالة الغلاء. وفي كلا الحالتين اختلف أهل العلم رحمهم الله في جوازه وبيان اختلافهم كالتالي:
الحالة الأولى: التسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: عدم جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء في الأسعار، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو قول ابن عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، واستدلوا بقول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
ووجه الدلاله في الآية الكريمة أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة رخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
واستدلوا أيضاً بما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِى بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلاَ مَالٍ» (2).
وبما رواه أبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ «بَلْ أَدْعُو». ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ «بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِى مَظْلَمَةٌ» (3).
ووجه الدلاله من هذين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه، وإذا كان عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد طلب منه التسعير رغم غلاء السعر كما ورد في الحديث، فمن باب أولى أن لا يكون تسعير في الأحوال التي تكون فيها الأسعار عادية.
قال ابن قدامة في المغني (4): قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: التَّسْعِيرُ سَبَبُ الْغَلَاءِ، لِأَنَّ الْجَالِبِينَ إذَا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، لَمْ يَقْدَمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6701) -رقم الفتوى 26530 التسعير .. أحكامه وأحواله -تاريخ الفتوى:03 ذو القعدة 1423
(2) - سنن أبى داود برقم (3453) وهو صحيح
(3) - سنن أبى داود برقم (3452) صحيح
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4089) و المغني - (ج 8 / ص 401)(1/116)
بَيْعِهَا، وَيَكْتُمُهَا، وَيَطْلُبُهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَا يَجِدُونَهَا إلَّا قَلِيلًا، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إلَيْهَا، فَتَغْلُوا الْأَسْعَارُ، وَيَحْصُلُ الْإِضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ الْمُلَّاكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ، وَجَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا.
القول الثاني: جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء الأسعار. وهذا القول نقل عن سعيد بن المسيب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري، فالتسعير عندهم جائز مطلقاً، وعللوا بأن فيه مصلحة للناس، وفيه منعٌ من إغلاء السعر.
والذي ذهب إليه الجمهور هو الأولى بالأخذ والاعتبار، ونظراً لقوة الأدلة التي استدلوا بها، ولأن الأصل في الشريعة هو حرية التعامل بين الناس ماداموا واقفين عند حدود الله فلا ظلم ولا غش ولا احتكار ولا تلاعب في الأسعار، ولا شك أن هذه الحرية تعدُّ عاملاً قوياً في زيادة الفعالية الاقتصادية وتوفير أنواع المتاع، والتسعير دون الحاجة إليه عمل يخالف الأصل الذي بني عليه التعامل، ويقيد الحرية ويؤدي إلى اختفاء السلع .. الأمر الذي لا يعود على الأمة إلا بالغلاء، ويؤدي إلى انتشار السوق السوداء على نطاق واسع.
الحالة الثانية: التسعير في حالة الغلاء: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الرأي الأول: رأي المانعين للتسعير، وقد ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية والحنابلة والمالكية، واستدل هؤلاء بما أخرجه الطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ:"بَلْ أَدْعُو اللَّهَ"، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ:"بَلِ اللَّهُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ" (1).
ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن التسعير يعد إجباراً للناس على بيع ما عندهم بغير طيب من أنفسهم، وهذا ظلم لهم.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي في سننه من طريق الشافعي عَنْ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ بِسُوقِ الْمُصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُ قَدْ حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكَ فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِى السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ. فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِى دَارِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِى قُلْتُ لَيْسَ بِعَزْمَةٍ مِنِّى وَلاَ قَضَاءٍ إِنَّمَا هُوَ شَىْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَهْلِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ (2).
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 121) برقم (278) وهو صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 6 / ص 29) برقم (11477) وهو صحيح مرسل(1/117)
قال الشافعي رحمه الله في سياق هذا الحديث: وبه أقول لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلتزمهم، وهذا ليس منها. (1) انتهى
الرأي الثاني: رأي المجيزين للتسعير، وهو ما ذهب إليه الحنفية وبعض المالكية وابن تيمية وابن القيم، يقول صاحب الفتاوى الهندية: وَلَا يُسَعِّرُ بِالْإِجْمَاعِ (2) إلَّا إذَا كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَمَّلُونَ وَيَتَعَدَّوْنَ عَنْ الْقِيمَةِ وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إلَّا بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصَرِ هُوَ الْمُخْتَارُ وَبِهِ يُفْتَى (3).
ويقول ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بعد ذكره حديث أنس: والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين ..... وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وما فعله حكم؛ لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى (4).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (5): فَمِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ أَرْبَابُ السِّلَعِ مِنْ بَيْعِهَا مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهَا إلَّا بِزِيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلَا مَعْنَى لِلتَّسْعِيرِ إلَّا إلْزَامَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ.
وما ذهب إليه الفريق الثاني من جواز التسعير في حالة الغلاء هو الأولى بالأخذ لأنه يوافق روح الشريعة التي تقوم أصلاً على مراعاة الصالح العام، وإذا كانت المصلحة الفردية قد روعيت في كثير من الأحاديث والوقائع فإن مراعاة المصلحة العامة تكون من باب أولى.
ويمكن حمل الأحاديث المانعة من التسعير رغم غلاء السعر على أن يكون في الأحوال العادية التي يخضع فيها السعر لما يعرف بقانون العرض والطلب والتي لا دخل فيها لإرادة الإنسان، ولا تكون بسبب الرغبة في زيادة الثمن من قبل أرباب السلع. وأما حينما تستبين الرغبة في الظلم الناتج عن تعمد زيادة الثمن ووضع المشتري تحت الأمر الواقع فهذا مغاير لمفهوم الشريعة وليس هو مفهوم النصوص، ولأن الغلاء بلاء: وهو يؤدي بالإنسان إلى أحد أمرين كلاهما مر:
-أن لا يشتري السلعة رغم حاجته إليها فيقع في الحرج.
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 91) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 328) والحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 147) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 35) ومختصر المزني - (ج 1 / ص 102) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 347)
(2) - قلت: لعله يقصد إجماع الحنفية، وإلا فالمسالة مختلف فيها كما هو معلوم
(3) - الفتاوى الهندية - (ج 22 / ص 476)
(4) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6704) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4138)
(5) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 76) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 326)(1/118)
-أو أن يضطر إلى شرائها رغم عدم قدرته المادية فيضطر إلى إرهاق نفسه بالدين الذي هو سبب من أسباب الفقر (1).
__________
(1) - انظر كتاب (قضايا فقهية معاصرة) للكتور ماجد أبو رضيه.(1/119)
حكم اطلاع الأب على الرسائل الخاصة بأبنائه (1)
الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يطلع أو يتطلع على خصوصيات الآخرين أو يتجسس عليهم أو يظن بهم السوء، وذلك داخل في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ» (2).
وروى أبو داود وابن حبان عن معاوبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى لله عليه وسلم يقول: «إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ». فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا" (3). هذا من حيث العموم.
أما إذا علم أن لأبنائه علاقات محرمة أو ما أشبه ذلك فله بحكم الولاية عليهم التحقيق في ذلك وفي حدود المصلحة بما يردعهم عن المنكر، فلا يقل حال الأب هنا عن حال المحتسب الذي جوز له العلماء البحث والكشف على مرتكب المعصية؛ فقد جاء في الموسوعة الفقهية (4): وللمحتسب أن يكشف على مرتكبي المعاصي لأن قاعدة ولاية الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 5477) -رقم الفتوى 46982 حكم اطلاع الأب على الرسائل الخاصة بأبنائه -تاريخ الفتوى:29 صفر 1425
(2) - سنن أبى داود برقم (4882) صحيح
(3) - سنن أبى داودبرقم (4890) وهو صحيح
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 5 / ص 261)
هذه الأحاديث من الأحاديث التي يتبين فيها أن الإنسان لا يتجسس على إخوانه المسلمين ولا يتتبع عوراتهم بل ما ظهر منها فإنه يعامل من أظهرها بما يليق به، وما لم يظهر فلا يجوز التجسس ولا التحسس، كما في حديث معاوية رضي الله عنه، أن الإنسان إذا تتبع عورات المسلمين أهلكهم أو كاد أن يهلكهم، لأن كثيرا من الأمور تجري بين الإنسان وبين ربه، لا يعلمها إلا هو، فإذا لم يعلم بها أحد وبقى عليه ستر الله عز وجل، وتاب إلى ربه وأناب حسنت حاله ولم يطلع على عورته أحد، ولكن إذا كان الإنسان والعياذ بالله يتتبع عورات الناس، ماذا قال فلان وماذا فعل، وإذا ذكر له عورة مسلم، ذهب يتجسس، إما أن يصرح، وإما أن يلمح فيقول مثلا، قالوا إن فلانا قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا فينشر ما عنده عند الخلق والعياذ بالله، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في بيت أمه نسأل الله العافية جزاء وفاقا، مثل من تتبع عورات المسلمين ليفضحهم، يتتبع الله عز وجل عورته حتى يفضحه نسأل الله العافية ولا يغنيه جدران ولا ستور، وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتى برجل تقطر لحيته خمرا، لكنه شربه مختفيا، ولكن هؤلاء القوم تجسسوا عليه حتى أخرجوا على هذه الحالة، فبين رضي الله عنه أن من أبدى لنا عورته أو عيبه أخذناه به، ومن استتر بستر الله فلا نؤاخذه، وهذا أيضا يدل على أنه لا يجوز التجسس
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3585)(1/120)
التصرف الواجب تجاه من يلصق التهم بالأبرياء (1)
سُئِلَ -شيخ الإسلام ابن تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ؟
فَأَجَابَ:
إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ فَلَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ فَيَشْتُمَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ: كَالْكَذِبِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ كَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ السُّفَهَاءِ وَلَوْ عُزِّرَ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّتْمِ جَازَ؛ وَهُوَ الَّذِي يَشْرَعُ إذَا تَكَرَّرَ سَفَهُهُ أَوْ عُدْوَانُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلْعُونٌ وَلَدُ زِنًا؟
فَأَجَابَ:
يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ قَصْدِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ خَبِيثٌ كَفِعْلِ وَلَدِ الزِّنَا (2).
وقال صاحب معالم القربة في معالم الحسبة وهو شافعي: مَنْ أَتَى مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا، وَلَا كَفَّارَةَ كَالْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالسَّرِقَةِ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَالْخِيَانَةِ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي عُزِّرَ (3).
وقال الز يلعي في نصب الراية: وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ) لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِعَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ: يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ. (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ مَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ، وَقِيلَ: فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ وَهَذَا أَحْسَنُ (4).
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 42) -رقم الفتوى 50053 التصرف الواجب تجاه من يلصق التهم بالبريئين -تاريخ الفتوى:27 ربيع الثاني 1425
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 34 / ص 228)
(3) - التشريع الجنائي في الإسلام - (ج 1 / ص 155) والمهذب للشيرازي - (ج 5 / ص 361) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 121) والأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 462) ومعالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 250)
(4) - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 7 / ص 494) ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 11 / ص 277)(1/121)
الحسبة على الحاكم ووسائلها في الشريعة الإسلامية (1)
تمهيد -في بيان أن تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة من أصل الدين وأساس عقيدة التوحيد:
في أواخر عهد الخلافة العثمانية صدر قانون التجارة عام 1850 م، نقلاً عن القانون الفرنسي، فكانت أول نقطة تراجع للشريعة الإسلامية في عقر دار الإسلام، ثم أعقب ذلك - وثم للتراخي - مرحلة نشاط الخديوي إسماعيل على إثر أولى محاولات تغريب مصر على يد محمد علي وأبنائه، نشاط الخديوي في إحلال القوانين الوضعية محل التشريعات الإسلامية، ثم تتابعت بعد ذلك مؤامرات تنحية الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً تزحف على بلاد الإسلام.
وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، ثم ما بعده انفرط العقد فتناثرت حباته، ونقضت عروة الحكم في بلاد الإسلام، وهي أول عرى الإسلام تنقض، فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِى تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ» (2).
ومنذ ذلك الحين والأصوات الصادقة لا تكف عن المطالبة بضرورة العودة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، وأنها ضرورة لا تحتمل التأخير ولا التهاون و التأجيل.
انطلقت هذه الصيحات من إيمانها بأن الحكم بما أنزل الله تعالى من مقتضى الشهادتين اللتين هما عنوان هذا الدين، ومن أصل التوحيد الذي يقوم عليه كل دين الإسلام، ولهذا جعل الله تعالى التحاكم إلى غيره عبادة للطاغوت، كما قال الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (60) سورة النساء، وجعل الإشراك به في حكمه من الشرك بالله تعالى، قال تعالى: { .. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (26) سورة الكهف، وقرئ (ولا تُشْرِكْ في حُكْمِهِ أحداً)،وجعل الصدود عن حكم الله من أخص صفات المنافقين كما قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} (61) سورة النساء، ونفى الإيمان عمن لا يحكم بما جاء به الرسول في كل شيء كما قال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء،
__________
(1) - الحسبة على الحاكم ووسائلها في الشريعة الإسلامية - بقلم فضيلة الشيخ: حامد بن عبدالله العلي - بتصرف واختصار
http://www.h-alali.net/b_open.php?id=349b6322-fb6c-1029-a701-0010dc91cf69
http://www.sona3.com/vb/showthread.php?t=2558
(2) - مسند أحمد برقم (22817) صحيح(1/122)
وسمى الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافراً وظالماً وفاسِقاً، قال تعالى: { .. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة، وإنما نزلت في اليهود الذين وضعوا تشريعا واحداً بدل حكم الله تعالى (1)، وهم يعلمون أنهم وضعوه من عند أنفسهم لا من عند الله، فكيف بمن وضع تشريعاً عاماً وهو يقر أنه اتبع فيه الكفرة الملاحدة أعداء الرسل دون ما أنزل الله تعالى، وإذا كان الله تعالى قد جعل تغيير حكمه في الأشهر الحرم زيادة في الكفر كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (37) سورة التوبة، وقد كان في إرجاء أهل الجاهلية الشهر الحرام وإبداله بالحل ليقاتلوا عدوهم فيه، إذ كانوا يحرِّمون القتال في الأشهر الحرم تعظيماً لها، فسمّى الله فعلهم هذا في تغيير وإرجاء حكم الله تعالى في الشهر الحرام، زيادة في الكفر، فكيف بمن أرجأ الشريعة كُلها أو جُلَّها، وأحلَّ محلها قوانين الكفرة الملاحدة أعداء الرسل والدين، فإلى أي مدى تبلغ زيادة كفره إذن؟.
غير أن هذه الأصوات لم تصل إلا إلى شيء واحد فحسب، هو أن تبقى على ذلك النص التقليدي الذي تصدر بعض دساتير الدول العربية (دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع)،وهو كما قال عبد الحميد متولي متهكماً: (إن هذا النص لا يترتب عليه أي التزام بتحكيم الشريعة وإنما هو بمثابة تحية كريمة للعقيدة الدينية التي تدين بها الأغلبية أو كفارة تقدمها الدولة لعدم التزام أحكام الشريعة في تشريعاتها).
ولا ريب أن هذا النص ما هو إلا أحد الأمثلة على ضروب التناقض التي تعيشها الأمة الإسلامية التي ضلت طريق الهدى بعد نبذ كتاب الله تعالى وأحكامه، ويعكس مدى الحيرة والتيه الذي صارت إليه.
ذلك أن معنى الدين هو الخضوع بالطاعة والانقياد، ومعنى الإسلام الاستسلام لله تعالى ورأس ذلك التسليم لأحكامه كلها بلا استثناء، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (131) سورة البقرة، وقال تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4536) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ مُرَّ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَهُودِىٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا فَدَعَاهُمْ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِى فِى كِتَابِكُمْ».
قَالُوا نَعَمْ. فَدَعَا رَجُلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ «أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِى فِى كِتَابِكُمْ». قَالَ لاَ وَلَوْلاَ أَنَّكَ نَشَدْتَنِى بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ نَجِدُهُ الرَّجْمَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِى أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ قُلْنَا تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَىْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اللَّهُمَّ إِنِّى أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ». فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ) إِلَى قَوْلِهِ (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يَقُولُ ائْتُوا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فِى الْكُفَّارِ كُلُّهَا. المحمم: مسود الوجه(1/123)
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (85) سورة البقرة.
وكما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} [الناس/1 - 3] ِ، فالرب هو الذي يخلق وينعم، والملك هو الذي يأمر وينهى ويحكم، والإله هو المعبود، فمن أكمل هذه المقامات الثلاثة أتم دين الإسلام كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: أن لا يتخذ سواه رباً، ولا إلهاً، ولا غيره حكماً) (1).
فالإيمان بالله تعالى والإقرار بدين الإسلام يقتضي ضرورة التحاكم إليه وحده دون سواه، ومع هذا كله، فقد صار هذا النصُّ منقوضاً بنفس الدساتير التي تصدره فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
العودة إلى الشريعة الإسلامية تقوم على أمرين:
ولا بد إذا أردنا عودة صادقة للشريعة الإسلامية أن نقيم هذا المشروع على أمرين:
الأمر الأول: تقريب الفقه الإسلامي، بحيث يحتوي المسائل العصرية ويستوعب أحكامها، بصورة واضحة التفاصيل، حتى لا يكون القانون الوضعي الذي يتميز بالتفصيل والوضوح أدنى إلى المهتمين بهذا المجال من أحكام الشريعة الإسلامية من جهة الفهم والدراسة النظرية والتطبيق العملي.
والسبب في كون أحكام الشريعة لم توضع في مثل صورة القانون الوضعي، أعني من جهة وضوح التفاصيل المناسبة للمستجدات العصرية وبلغتها، هو تعطيلها بل محاربتها، فتباطأت عملية تطوير وسائل تيسير تداولها نظرياً وعملياً، ولهذا تجدها في كثير من النواحي، قد بقيت في صنعتها وصيغها ومصطلحاتها الخاصة، وقد تتطلب جهداً لفهمها.
ومن هنا فقد أخطأ خطأً عظيماً من رجال القانون من وصف بعض النواحي في الفقه الإسلامي، مثل القانون العام في الشريعة الإسلامية أنه في (عهد الطفولة) كما قال عبد الرزاق السنهوري (2)،
__________
(1) - (مدارج السالكين 2/ 190)
(2) - تعريف بالدكتور عبد الرزاق السنهوري
و ثَبْت بأعمالِه القانونيةِ والفكِريةِ
أولاً: سيرته في سطور
- ... ولد السنهوري في 11 أغسطس سنة 1895م بمدينة الإسكندرية لأسرة فقيرة، وعاش طفولته يتيمًا، حيث توفي والده (الموظف بمجلس بلدية الإسكندرية) ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من خمس سنوات.
- ... بدأ تعليمه في الكُتَّاب ثم التحق بمدارس التعليم العام وتدرّج بها حتى حصل على الشهادة الثانوية سنة 1913م، وكان ترتيبه الثاني على طلاب القطر المصري.
- ... قرأ في مرحلة مبكرة من عمره درر التراث العربي، حيث قرأ كتب: الأغاني، والأمالي، والعقد الفريد، وقرأ ديوان المتنبي، وكان كثير الإعجاب به ويفضله على غيره من شعراء العربية. =(1/124)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= - ... نال درجة الليسانس في الحقوق سنة 1917م من مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة (باللغة الإنجليزية)، وجاء ترتيبه الأول على جميع الطلاب، رغم أنه كان يعمل موظفًا بوزارة المالية إلى جانب دراسته.
- ... تأثر في مرحلة شبابه بالزعيم المصري الوطني المصري "مصطفى كامل"، وتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها، كما كان معجبًا بالكواكبي وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد وجدي.
- ... عين بعد حصوله على ليسانس الحقوق بالنيابة العامة في سلك القضاء بمدينة المنصورة بشمال مصر.
- ... شارك أثناء عمله بالنيابة العامة في ثورة 1919م، فعاقبته سلطات الاستعمار الإنجليزي بالنقل إلى مدينة أسيوط أقصى جنوب مصر.
- ... ترقى سنة 1920م إلى منصب وكيل النائب العام، وفي نفس العام انتقل من العمل بالنيابة إلى تدريس القانون في مدرسة القضاء الشرعي، وهي واحدة من أهم مؤسسات التعليم العالي المصري التي أسهمت في تجديد الفكر الإسلامي منذ إنشائها سنة 1907م، وزامل فيها كوكبة من أعلام التجديد والاجتهاد، مثل الأساتذة أحمد إبراهيم وعبد الوهاب خلاف وعبد الوهاب عزام وأحمد أمين، وتتلمذ عليه عدد من أشهر علماء مصر، وعلى رأسهم الشيخ محمد أبو زهرة.
- ... سافر إلى فرنسا سنة 1921م في بعثة علمية لدراسة القانون بجامعة ليون، وهناك تبلورت عنده الفكرة الإسلامية، وبدأ يتخذ الموقف النقدي من الحضارة الغربية، فانتقد الانبهار بالغرب، وهاجم تبني د/منصور فهمي لمقولات المستشرقين، وهاجم موقف الشيخ على عبد الرازق من الخلافة الإسلامية وتأثره فيه بالمناهج العلمانية والرؤية النصرانية.
- ... وفي فرنسا وضع د/عبد الرزاق السنهوري رسالته الإصلاحية التي عرفت بـ (مواد البرنامج) الذي يتضمن رؤيته في الإصلاح، وأنجز خلال وجوده في فرنسا رسالته للدكتوراه (القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي)، ونال عنها جائزة أحسن رسالة دكتوراه.
- ... وأثناء وجوده هناك ألغيت الخلافة الإسلامية، فأنجز رسالة أخرى للدكتوراه عن (فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية) رغم عدم تكليفه بها وتحذير أساتذته من صعوبتها والمناخ الأوروبي السياسي والفكري المعادي لفكرتها!.
- ... عيّن بعد عودته سنة 1926م مدرسًا للقانون المدني بكلية الحقوق بالجامعة المصرية (القاهرة الآن).
- ... شارك في المعارك السياسية والفكرية التي كانت تموج بها الحياة في مصر قبل الثورة، وكان قريبًا من كل تيارات التغيير والإصلاح رغم عدم انضمامه لحزب أو تنظيم.
- ... فصلته الحكومة سنة 1934م من الجامعة لأسباب سياسية، منها تأسيسه لـ "جمعية الشبان المصريين".
- ... سافر إلى العراق سنة 1935م بدعوة من حكومتها، فأنشأ هناك كلية للحقوق، وأصدر مجلة القضاء، ووضع مشروع القانون المدني للدولة، ووضع عددًا من المؤلفات القانونية لطلاب العراق.
- ... عين بعد عودته لمصر من بغداد سنة 1937م عميدًا لكلية الحقوق ورأس وفد مصر في المؤتمر الدولي للقانون المقارن بلاهاي.
- ... أسندت إليه وزارة العدل المصرية مشروع القانون المدني الجديد للبلاد، فاستطاع إنجاز المشروع، ورفض الحصول على أي مكافأة.
- ... أجبر مرة أخرى على ترك التدريس بالجامعة سنة 1937م فاتجه إلى القضاء فأصبح قاضيًا للمحكمة المختلطة بالمنصورة، ثم وكيلاً لوزارة العدل، فمستشارًا فوكيلاً لوزارة المعارف العمومية، إلى أن أبعد منها لأسباب سياسية سنة 1942م فاضطر إلى العمل بالمحاماة رغم عدم حبه لها.
- ... عاد للعراق مرة أخرى سنة 1943م لاستكمال مشروع القانون المدني الجديد، ولكن بسبب ضغوط الحكومة المصرية (الوفدية) على الحكومة العراقية اضطر للسفر إلى دمشق، وبدأ وضع مشروع القانون المدني لها، ولكن أعيد مرة أخرى لمصر بسبب ضغوط حكومية.
- ... وضع أثناء وجوده في دمشق أول مخطط لإنشاء اتحاد عربي سنة 1944م قبل قيام الجامعة العربية، ووضع مشروع معهد الدراسات العربية العليا الذي تأجل تنفيذه حتى سنة 1952م في إطار جامعة الدول العربية. =(1/125)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= - ... تولى وزارة المعارف العمومية في أكثر من وزارة من عام 1945م حتى 1949م، وقام أثناءها بتأسيس جامعتي فاروق (الإسكندرية الآن) وجامعة محمد علي.
- ... عيّن عضوًا بمجمع اللغة العربية في مصر سنة 1946م.
- ... عيّن سنة 1949م رئيسًا لمجلس الدولة المصري، وأحدث أكبر تطوير تنظيمي وإداري للمجلس في تاريخه، وأصدر أول مجلة له، وتحول المجلس في عهده للحريات واستمر فيه إلى ما بعد ثورة يوليو سنة 1952م.
- ... شارك في وضع الدستور المصري بعد إلغاء دستور 1923م.
- ... سافر إلى ليبيا بعد استقلالها، حيث وضع لها قانونها المدني الذي صدر سنة 1953م دون مقابل.
- ... حدث صدام بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954م أقيل بسببه من مجلس الدولة، فاعتزل الحياة العامة حتى وفاته، وفرض عليه النظام الناصري عُزلة إجبارية حتى عام 1970م.
- ... استطاع أثناء عزلته (من 1954 - 1970) إنجاز عدد من المؤلفات القانونية المهمة، كما وضع المقدمات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة، ولم تسمح له السلطات المصرية بالسفر إلا مرة واحدة تلبية لدعوة أمير الكويت سنة 1960م، واستطاع خلال هذه المدة وضع دستور دولة الكويت واستكمال المقومات الدستورية القانونية التي تؤهلها لعضوية الأمم المتحدة.
- ... توفى في 21/ 7/1971م ولم يترك من الأبناء إلا ابنته الوحيدة د/نادية عبد الرزاق السنهوري زوجة د/توفيق الشاوي أستاذ القانون والمفكر الإسلامي الكبير.
ثانيًا: ثبت بأعماله القانونية والفكرية
من الصعب الادّعاء بأن الآثار الفكرية للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا قد تم حصرها وفق الاستقصاء والاستقراء الدقيقين .. فتلك مهمة تحتاج "فرز" أوراق مكتبته .. واستقراء دوريات عصره ... وجمع مذكراته القانونية عندما اشتغل بالمحاماة .. وكذلك حيثيات أحكامه عندما تولى القضاء .. وما له من أبحاث في مؤتمرات مجمع اللغة العربية ولجانه .. وكذلك أبحاثه في المؤتمرات التي شارك فيها .. واللجان التي كان عضوًا بها .. والوزارات التي تولاها ..
كما أن له آثارًا فكرية أخرى بغير اللغة العربية أهمها تلك الأبحاث التي قدمها عن الشريعة الإسلامية في المؤتمرات الدولية للقانون المقارن، بالإضافة إلى الأبحاث والدراسات والمذكرات والتقارير التي ألفها ونشرها خارج مصر ولم يتم حصرها إلى الآن، وخاصة ما نشره في العراق أثناء وجوده بها لوضع القانون المدني لها.
- وهو ما يعني أنه لا يوجد حصر كامل ونهائي إلى الآن لأعماله الكاملة، وإن كان الثبت التالي بأعماله يُعد الأقرب إليها.
ونحن نصنف آثاره الفكرية في هذه القائمة، مميزين فيها بين مشاريع القوانين المدنية، ومشاريع الدساتير التي وضعها .. وبين آثاره الفكرية، كتبًا كانت أو دراسات مع الترتيب التاريخي لكتابتها:
أً: مشروعات القوانين المدنية .. والدساتير:
1 ... - ... (القانون المدني المصري) ومذكرته الإيضاحية .. وشروحه (الوسيط) - وهو في حقيقته "مبسوط" لا وسيط - و (الوجيز).
2 ... - ... (القانون المدني العراقي) ومذكرته الإيضاحية.
3 ... - ... (القانون المدني السوري) ومذكرته الإيضاحية .. وقانون البينات - بما فيه من قواعد الإثبات الموضوعية والإجرائية.
4 ... - ... (دستور دولة الكويت) وقوانينها: التجاري .. والجنائي .. والإجراءات الجنائية .. والمرافعات .. وقانون الشركات .. وقوانين عقود المقاولة، والوكالة عن المسئولية التقصيرية وعن كل الفروع .. وهي التي جمعت -فيما بعد- في القانون المدني الكويتي.
5 ... - ... (القانون المدني الليبي) ومذكرته الإيضاحية.
6 ... - ... (دستور دولة السودان).
7 ... - ... (دستور دولة اتحاد الإمارات العربية). =(1/126)
ويتردد هذا القول الخاطئ المبني على عدم فهم لطبيعة الفقه الإسلامي، يتردد بين كثير من المفكرين المتأثرين بالقانون الوضعي.
وهؤلاء يفقدون الموضوعية في منهجية البحث، عندما يزيحون عامل إبعاد الشريعة الإسلامية عن التطبيق الواقعي مما أبقى خطاباتها العامة ولغتها بعيدة عن فهمهم هُمْ لقصور فيهم، لا لقصور في الفقه الإسلامي، ومما أبقى كثيراً من تفاصيل الحياة العصرية المعقدة مدلولاً عليها بالقواعد الكلية للشريعة، أو بعموم نصوص أو قياس على أشباه ونظائر غير متداولة في هذا العصر، وهم أمر لا يفهمه إلا الخواص من العلماء.
ولم يمكن - بسبب تعطيلها ومحاربتها - من تيسير ذكرها مفصلة فروعها بوضوح وفي متناول الدارسين، ولو كان الفقه الإسلامي يطبق في واقع الحياة وسمح له بأن يتطور من جهة وسائله وإلحاق تفاصيله بكلياته، ويعتني به شرحاً وإيضاحاً وتسهيلاً وتقريباً فِي جوانبه المدنية والجزائية والقانون العام ونحوها، لصار بحيث من العار أن يقارن به قانون آخر أصلاً، وهو أيضا في أصله لا يقارن به قانون وضعي، لأنه من عند الله تعالى العليم الخبير، هذا مع أنه قد نشطت في الآونة الأخيرة لجان كثيرة عالمية ومحلية للعناية بهذا الأمر، ونشير هنا إلى جهود مشكورة في هذا المجال المهم للجنة استكمال تطبيق أحكام الشريعة في الكويت.
الأمر الثاني: الذي يقوم عليه مشروع إعادة تحكيم الشريعة - هو: إيمان الحكام بضرورة الشريعة الإسلامية، وأنها ضرورة عُظمى، وأنها هي رمز الاعتزاز بهوية الأمة وتميزها، وأن تركها ليس معه فلاح لهذه الأمة أبداً، بل ستبقى في التخلف وراء الأمم كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (18) سورة الجاثية.
الحسبة بمعناها العام تجسيد لمبدأ رقابة الأمة على الحكام:
الحسبة هي الاسم الشرعي لإشراك الأمة في مبدأ الرقابة والمحاسبة، ومن المعلوم أن هذا المبدأ هو أحد ركائز ما يُسمى في هذا العصر بالنظام الديمقراطي، الذي يقوم في الأصل على مبدأ إشراك الأمة، غير أن هذا النظام باصطلاحه الأصلي يتجاوز بالأمة أيضاً حدوداً لا يجوز تجاوزها عندما يعطيها حق التشريع المطلق ولو حكم الله تعالى.
أما الفقه الإسلامي قد سبق ما يسمى بالنظام الديمقراطي في محاسنه، وسَلِمَ من مساوِئِه، فقد احتوى الفقه الإسلامي على إشراك الأمة في القرار وهو نظام الشورى الذي ورد في القرآن، وعلى تكليفها بالرقابة على الدولة، ومتابعة التزامها بـ (الدستور) الذي هو الشريعة الإسلامية، وتقويمها إذا انحرفت عنه، كما احتوى على تحميل الأمة مهمة النهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع
__________
=
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/Arts/2000/article35.shtml
http://www.prameg.com/vb/showthread.php?t=26278(1/127)
لحمايته من انتشار عوامل ضعفه أو تفككه أو فقدانه هويته بذوبانه في هوية ثقافات أجنبية أخرى، وقيد كل هذه المهام بأن تكون وفق هداية الله تعالى والتزام شريعته.
منزلة الحسبة في نظام الحكم الإسلامي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ إنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى: مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرْطَةِ: وَوِلَايَةُ الْحُكْمِ؛ أَوْ وِلَايَةُ الْمَالِ وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ؛ وَوِلَايَةُ الْحِسْبَةِ " (1).
وهذه العبارة تصف بدقة منزلة الحسبة في الإسلام، فجميع الولايات الإسلامية وجدت لهدف تحقيق الحسبة بمعناها العام، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بمعناها الخاص وهو الولاية الخاصة التي تسمى ولاية الحسبة، وهي التي تختص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نطاق ضيق محدد.
والدليل على أهمية مكانة الحسبة بمعناها العام، قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج.
ومعلوم أن الصلاة والزكاة من المعروف الذي يأمر به، فقد جعل الله تعالى في هذه الآية الغاية النهائية من التمكين في الأرض الذي أمر الله به المؤمنين، وأمر باتخاذ وسائله من الجهاد ونصب الإمام وإقامة الولاية، هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا فإن المقصود بالإمامة في الشريعة إقامة الدين، والدين هو فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه، كما قال شيخ الإسلام أيضاً: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها) (2).
ومعلوم أن الدولة في الإسلام أصل وجودها لتحقيق الحسبة بمعناها العام، وهي أيضاً أعني الحسبة أمانة في عنق الأمة، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .. } (110) سورة آل عمران.
والدولة إذا عطلت هذا الأمر - وهو الأمر الذي نسب إليه نظام الدولة في الإسلام في النصوص التي جاءت بلفظ (أولي الأمر) - فقدت أصل مشروعيتها، بل سبب وجودها الشرعي، ولهذا جاء في الحديث: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» (3)،فـ (الأمر) هو الذي
__________
(1) -مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 323) و (مجموع الفتاوى 28/ 66) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 476)
(2) - (مجموع الفتاوى 28/ 390)
(3) - سنن الترمذى برقم (2825) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ «لَقَدْ سَأَلْتَنِى عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ». ثُمَّ قَالَ «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ». قَالَ ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ». قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ». ثُمَّ قَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ». قُلْتُ بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا». فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
ثكلت: فقدت -الجنة: الوقاية(1/128)
جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - المدلول عليه بآية (اْلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي اْلأرْضِ ... ) الآية، ووليه هو القائم عليه الذي يرعاه ويقيمه، فإن لم يرعه ولم يقمه لم يصلح أن يكون ولياً له.
والعجب ممن يجعل كل متولٍ على المسلمين بأي شريعة يحكمهم وليُّ أمر شرعيٍّ، فليت شعري أفلا يتدبر هذا القائل - إن لم يؤت الفقه في الدين - اللفظ الظاهر على أقل تقدير، فأي (أمر) تولاه الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى، حتى يستحق هذا الاسم، أهو أمر (دين الإسلام) أمر الله ورسوله، أم أمر المناهج الوضعية والنظم الطاغوتية، ويا للعجب فبأي شريعة يصح أن يكون متول إقامة الطاغوت حاكماً بين العباد من دون الله تعالى، ولي أمر المسلمين، وأي أمر للمسلمين غير دينهم الذي قال الله تعالى عنه مُمتناً عليهم: { .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا .. } (3) سورة المائدة، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (115) سورة الأنعام، أي تمت كلمته الشرعية التي تضمنها كتابه المفصل الحاكم بين العباد، صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
أنواع الحسبة بمفهومها العام:
وبناء على المفهوم الشرعي للحسبة والذي ذكرناه سابقاً، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: حسبة الدولة على الرعية:
ومقتضاها أن يكون ضمن مؤسسات الدولة ما يكون اختصاصه حفظ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ومراقبة حالة المجتمع ومدى تمثل مبادئ الإسلام فيه، وقد قدمنا آنفاً، أن نظام الدولة في حد ذاته في الشريعة الإسلامية، وسيلة لتحقيق هذا الأمر بمعناه العام.
النوع الثاني: حسبة الرعية على الدولة:
ولم نقل هنا حسبة الدولة على الدولة، لأن الحسبة الذاتية لا يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه الحالة التي يتعلق بها مصير الأمة والمجتمع، فلهذا أقامت الشريعة الإسلامية هنا مبدأ الحسبة على الدولة منطلقاً من الأمة، وحمَّلتها مسؤولية تقييد السلطة بقيد هو احترام الدستور (الشريعة الإسلامية) وتقويم الدولة إذا انحرفت عنه.
تقييد السلطة ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية:
وتقييد السلطة في الإسلام ضرورة اجتماعية، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين:(1/129)
الأولى: أن تولي السلطة واحتكار أدوات القوة والقدرة على استعمال العنف مدعاة إلى الاستبداد ضرورة انقياد الطبيعة البشرية لحب التسلط المركوز فيها، وهذه الطبيعة وإن كانت يمكن معارضتها بالوازع الذاتي، غير أنه محجوب في طي القلوب، ولا يمكن ضمانه أو ضمان استمراره، فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحه الاستبداد بالرأي، وهو ملاصق للسلطة المطلقة من القيود، وهذا الباب قد دخل منه من ظنَّ فيه الاستقامة والمثالية وقوة الوازع الذاتي الذي يفترض أن يمنع من سوء استعمال السلطة إلى ارتكاب عظائم من التعسف في استعمال السلطة باسم الدين، فإذن تقييد السلطة والحسبة بمعنى الرقابة والمحاسبة الشعبية للسلطة ضرورة اجتماعية.
الثانية: أن تضخم أجهزة الدولة في العصر الحديث وتشعبها إلى مختلف أنشطة الحياة وتملكها إلى جانب استعمال أدوات العنف (الشرطة، الأمن، الجيش، أجهزة الاستخبارات .. إلخ)، أدوات تمكنها من تشكيل العقول وصياغتها وخداعها (الإعلام، التعليم .. إلخ) وأدوات التحكم في الإنتاج والاقتصاد ومستوى حياة الأفراد المعيشية وقدرتها على زيادة هامش التحكم في المجتمع وزيادة توسيع صلاحياته المركزة وإخضاعه من فوقه بشتى أنواع الإخضاع، كل هذا يقتضي بالضرورة العقلية والواقعية عدم ترك السلطة التي هذا شأنها بلا قيود، لأن سوء استعمال السلطة والحالة هذه يؤدي إلى كوارث شاملة ماحقة قد تصل إلى تقويض المجتمع وزواله، أو تغيير جذريٍّ في تاريخه، وكم من أمم ودول زالت وصارت تاريخاً، بسبب الاستبداد وترك السلطة بلا قيود.
ومن يستقرأ تاريخ الأمم يلحظ بوضوح تلك النقطة البارزة التي كانت وراء الدمار الهائل الذي أصابها في كثير من الأحيان، وهي نقطة استبداد الدولة، ومن الأمثلة القريبة النظام الفاشستي الذي تولى كبره موسوليني، وعرفه بقوله: (إن المفهوم الفاشستي للدولة مفهوم شامل، وخارج نطاقه لا وجود لقيم إنسانية أو روحية، ولا لأي قيمة أخرى، كثر ذلك أو قل، وبالنسبة للفاشستية الدولة مطلقة، والأفراد والمجموعات لا يقبل بهم إلا بقدر ما يتصرفون وفق ما تريده الدولة)،وقد اعتبر هذا التفسير الرسمي للفاشستية بمثابة ميثاق عام للشيوعية، ولا يخفى أن الإنسان لم يكن له أي اعتبار، ولا لأي قيم روحية أخرى في الأنظمة الاستبدادية التي عملت بهذا المفهوم سواء في بلادنا العربية وغيرها، وإهدار قيمة الإنسان وحقوقه يعد في حد ذاته، كارثة لا تدانيها أية كارثة.
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً ما لقيته الشعوب الروسية من فرض التجربة الماركسية فرضاً باستبداد الدولة حتى قال: (يلتسن) رئيس روسيا السابق، واصفاً ما لقيه شعبه: (إن بلادنا ليست محظوظة، فقد فرض علينا تنفيذ التجربة الماركسية والقدر هو الذي دفع بنا في هذا الاتجاه، وبدلاً من أن تتم هذه التجربة على دولة ما في أفريقيا مثلاً فقد بدؤوا بنا، وفي النهاية استطعنا إثبات أنه لا مكان لهذه الفكرة، ولكن بعد أن دفعت بنا بعيداً عن مسار الدول المتحضرة في العالم، وينعكس علينا هذه اليوم حيث أن 40 / من الشعب يعيش تحت خط الفقر، فضلاً عن الإهانة المستمرة التي(1/130)
تلحق به وهو يستخدم البطاقات للحصول على احتياجاته، إنها إهانة مستمرة تذكر المواطن في كل وقت بأنه مجرد عبد في هذه الدولة).
ومعلوم أن الإسلام قد جاء بتحصيل المنافع والمصالح، منافع ومصالح الناس في دينهم ودنياهم بحسب الاستطاعة، وإلغاء وتفويت المضار والمفاسد في الدين والدنيا بحسب الاستطاعة، فلا يمكن أن يكون هناك شأن من الشئون، الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، في حال تفردهم واجتماعهم، إلا ويأتي في الإسلام الأمر به والحث عليه، ولهذا فقد سبق الفقه الإسلامي جميع النظم الوضعية في تقرير هذا المبدأ، مبدأ تقييد السلطة، ورقابة الشعب للدولة، هو حسبة الرعية على الدولة.
وفي هذا الإطار، نجد جميع الآلات والوسائل التي تستخدمها النظم الحديثة لتحقيق هذا الأمر المهم، وضمان عدم انحراف الدولة عن مقصودها الأساسي - وهو إدارة وتنظيم أحوال الرعية بحيث تتحقق مصالحهم بحسب نظام الشريعة الإسلامية المطهرة - نجدها منصوص عليها أو مدلول عليها بالأدلة العامة أو القواعد الكلية أو القياس المطرد الصحيح في الشريعة الإسلامية، وقد مارسها علماء الإسلام قبل النظم الوضعية بقرون.
غير أن الفقه الإسلامي في نصوصه العامة ومصادره الأصلية - في عامة القضايا المتعلقة بتنظيم الحياة المتغيرة والمتطورة -يوجه نحو المعاني والحقائق العامة، ويحرك عوامل التفكر والتدبر، ويدع للإنسان التفريع على القواعد، حتى يتسنَّى استيعابُ المتغير، وذلك بخلاف القضايا الثابتة المتعلقة بالعبادات مثلاً، وهو أيضاً في تلك القضايا الحياتية يربط القانون الإسلامي - وأعني به القواعد الشرعية والأصول العامة - يربطه بأسماء خاصة لها دلالة واضحة على البعد الإيماني بالآخرة، على سبيل المثال اسم الحسبة واسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، لأن الفقه الإسلامي يضع عند وضع القوانين الحياة الآخرة نصب عينيه، وتوجيهها نحو حفظ المبدأ العام في الإسلام وهو أن تكون قضية الإيمان بالله والآخر أعظم قضية أمام الإنسان، ومن هنا فإن الذين يتجاوزون هذه النقطة عند المقارنة بين القوانين الإسلامية والوضعية يفقدون نقطة في غاية الأهمية في منهجية بحث المقارنة نفسه.
وسائل تقييد السلطة في الفقه الإسلامي على أساس مبدأ الحسبة:
وسوف نستعرض بعض الأدلة والنماذج من التاريخ للتأكيد على أن الفقه الإسلامي، وضع أصول ووسائل تقييد السلطة والحسبة عليها قبل أن تعرفها النظم الوضعية بقرون.
وسأذكر على سبيل المثال أربع وسائل:
الوسيلة الأولى: وسيلة محاسبة أهل العقد والحل للحاكم:(1/131)
ومن ذلك ما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين (1): (أن عمر رضي الله عنه وقف في الناس وعليه ثوبان فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان الفارسي: لا نسمع، فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟،قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك ثوبان، فقال لا تعجل، يا عبد الله، يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال يا عبد الله بن عمر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين , فقال: نشدتك الله الثوب ائتزرت به أهو ثوبك، قال: نعم، اللهم نعم، فقال سلمان: أما الآن فقل نسمع).
ويبدو لي - بغض النظر عن مدى صحة إسناد هذه القصة حيث لا أعلم درجته من حيث الرواية - لكن استئناساً بنقل العلماء لهذه القصة مقرين لها مستدلين بها على مبدأ محاسبة الحاكم مما يدل على سلامة المبدأ من حيث الجملة علماً بأن الأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر أصلاً، يبدو لي أنه ليس مقصود (سلمان) رضي الله عنه إباحة التمرد على السلطة، وشق وحدة الأمة بسبب أدنى مخالفة، بل مقصوده - والله أعلم - الإيماء إلى حقيقة أن الإخلال بالمبادئ من قبل الحاكم سيؤدي إلى إخلال الرعية بالطاعة، وهذه قاعدة لا تتخلف قدراً أيضاً، وذلك من الميزان الذي وضعه الله تعالى وأنزل به الكتاب، وهذا من عظيم الفقه الذي تميز به سلف هذه الأمة حيث كانوا يعبرون عن المعاني والمفاهيم الكبيرة العظيمة بأوجز الألفاظ أو بالمواقف أحياناً، وكما قال ذلك الصحابي الجليل لعمر رضي الله عنه لما تعجب من تبليغ المسلمين الأموال العظيمة القدر من الغنائم غير منقوصة بريئة من الخيانة، فقال له تقريراً للقاعدة السالفة: (عففت يا أمير المؤمنين فعفت الرعية) (2).
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (3): وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ " وُلَاةُ الْأُمُورِ " الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ اسْتَقَامَ عَامَّةُ النَّاسِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِلْمَرْأَةِ الأحمسية لَمَّا سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ: قَالَتْ مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِى جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ (4). " وَفِي الْأَثَرِ {صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ} (5) أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْحَدِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
__________
(1) - (2/ 180) و إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 278)
(2) - فَضَائلُ الصِّحَابَةِ للدَّارَقُطْنِيِّ برقم (19) و السِّيَرُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ برقم (221)
(3) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 378) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 344)
(4) - صحيح البخارى برقم (3834) عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ، فَقَالَ مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ قَالُوا حَجَّتْ مُصْمِتَةً. قَالَ لَهَا تَكَلَّمِى، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَتَكَلَّمَتْ، فَقَالَتْ مَنْ أَنْتَ قَالَ امْرُؤٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَتْ أَىُّ الْمُهَاجِرِينَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَتْ مِنْ أَىِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ قَالَ إِنَّكِ لَسَئُولٌ أَنَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَتْ مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِى جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ. قَالَتْ وَمَا الأَئِمَّةُ قَالَ أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ قَالَتْ بَلَى. قَالَ فَهُمْ أُولَئِكَ عَلَى النَّاسِ.
(5) - الْعَادِلِينَ مِنَ الْوُلَاةِ برقم (33) والحلية برقم (4985) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" اثْنَانِ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَلَحًا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ " * وفي سنده الاسم: محمد بن زياد اليشكرى الطحان الرقى ثم الكوفى و يقال الجندى، متهم
قلت: ومعناه صحيح بلا ريب(1/132)
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد. وَهُمْ " أُولُو الْأَمْرِ " فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء. وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِمْ يَقَعُ الْفَسَادُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ {إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ} (1) انتهى.
وإنما تعني المرأة بـ (الأمر) استقامة الحال وصلاح الأحوال واجتماع الشمل وانتشار العدل خلاف ما كانوا عليه في الجاهلية، فبين لها أن ذلك مرهون باستقامة ولاة الأمر، ولهذا قال من قال من العلماء: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان، لأن في صلاحه صلاح الناس، كما قيل (الناس على دين ملوكها)،وهو أمر معلوم بضرورة العقل وشهادة الواقع والحس، ومن الخطأ الشائع الظن أن فساد السلطة نتيجة لفساد الرعية، والعكس أولى بالصواب، غير أن الرعية تعاقب على سكوتها عن ظلم السلطان (2)، ورضاها به، باستدامة ذلك الظلم عليهم جزاء وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
ذلك أن السكوت على ظلم الظالم من أعظم أسباب عقوبة الله تعالى، وقد ورد فيه حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رواه الترمذي (3).
وعَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ عَنْ خَالِدٍ وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ». وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ هُشَيْمٍ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» رواه أبو داود (4).
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 57) برقم (16701) عن معاذ و سنن الدارمى برقم (674) مقطوعا وهو صحيح لغيره
(2) - قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (113) سورة هود
لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين , أصحاب القوة في الأرض , الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير الله من العبيد. . لا تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم علىهذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه , ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير. (فتمسكم النار). .جزاء هذا الانحراف. (وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون). .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 268)
(3) - سنن الترمذى برقم (2323) وهو صحيح لغيره
(4) - سنن أبى داود برقم (4340) وهو صحيح(1/133)
ولهذا ورد في السنة كما في صحيح مسلم أن من الخِلال الحسنة في الروم كونهم أمنع الناس لظلم الملوك (1)، ولما كانت هذه الخُلة الجميلة فيهم، لا يكاد يسلط عليهم ظالم من أنفسهم يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم.
كما أن مقصود (سلمان) رضي الله عنه أيضاً - والله أعلم - الإشارة إلى أن من حق أهل الحل والعقد محاسبة الحاكم ومراقبته على نفقاته ودخله، وهو ما يسمى هذه الأيام (الوضع المالي للدولة الذي يشرف عليه ديوان المحاسبة)،ولم يعرف التاريخ في ذلك الوقت، ولا بعده بقرون مديدة، مثل هذا الوعي السياسي إلا في الفقه الإسلامي، فليقرأ الذين أعماهم الإعجاب بثقافة الغرب في الناحية السياسية ما في هذا الدين العظيم من تأسيس مبادئ الإصلاح السياسي للمجتمع قبل أن يعرفه العالم بأسره بقرون متطاولة، بل نجزم بأن ما لدى غير المسلمين من مبادئ السياسة الصحيحة في إصلاح الراعي والرعية، إنما أخذ من المسلمين بعد احتكاك أوروبا بالثقافة الإسلامية.
ولا ريب أن في التاريخ نماذج كثيرة غير أننا نكتفي بهذا المثال، ولا ريب أن جميع الوسائل العصرية - حتى لو كانت مقتبسة في الأصل من غير المسلمين - إذا لم تكن محرمة لذاتها وصارت وسيلة لتحقيق مبدأ محاسبة أهل الحل والعقد للحاكم، لضمان عدم انحراف السلطة، إنها مشروعة ومطلوبة في الفقه الإسلامي السياسي.
ولعل الشريعة قد أومأت إلى هذا المبدأ النافع العظيم، في فقه الصلاة نفسها، والتي هي عمود هذا الدين، ومعلوم أن الصلاة نموذج يشير إلى علاقة السلطة بالرعية، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذه العلاقة عندما قالوا عن الصديق (اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - لِدِيِنِنَا أفلا نختاره لدنيانا) (2) وقد ذكر غير واحد من العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى تولية الصديق الخلافة، بتأكيد على توليته إمامة الصلاة، وذلك من باب القياس والاعتبار.
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (7461) عن مُوسَى بْنِ عُلَىٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِىُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ». فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعاً إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. تحفة 11259 - 2898/ 35
(2) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ >> طَبَقَاتُ الْبَدْرِيِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ >> برقم (3157) قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ:" لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرْنَا فِي أَمْرِنَا، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، فَرَضِينَا لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِدِينِنَا، فَقَدَّمْنَا أَبَا بَكْرٍ "
فَضَائِلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ برقم (188) عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: امْرُؤٌ سَمَّاهُ اللَّهُ الصديق عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَكَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّلَاةِ فَرَضِيَهُ لِدِينِنَا وَرَضِينَاهُ لِدُنْيَانَا وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ * وفي أسانيدها ضعف(1/134)
ثم انك إذا اعتبرت ذلك فقها، علمت ما أوتيه صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقه العميق، والنظر الدقيق، وبيانه أننا وجدنا الإمام في الصلاة، يليه أولو الأحلام والنهى كما قد صح في الحديث (1)،وهم بإزاء أهل الحل والعقد في النظام السياسي.
وعلى المأمومون أن يختاروا لإمامتهم أقومهم بأمر الصلاة كما صح في الأحاديث، وكذلك الأمة تختار للإمامة العظمى أقومها بها بصيرة في الدين وقوة في سياسة الدنيا به، كما قال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) [ص/45]).
ثم الإمام مقيد بأداء الصلاة كما في الشرع، ليس له أن يتجاوز ذلك، وكذلك الإمام في النظام السياسي مقيد بممارسة مهامه وفق الشريعة ليس له أن يتجاوز ذلك، فإذا بدر من الإمام خطأ في الصلاة نُبِّه على ذلك - علناً لا سراً - ممن يليه وهو مقصود اختيارهم لهذا الموضع، وذلك لأن الخطأ هنا يتعدَّى لغيره وليس قاصراً على نفسه حتى يسرَّ إليه بالنصيحة، وكذلك في النظام السياسي، يوضع أهل الحل والعقد وراء الإمام لينبهوه إذا أخطأ، فإن فعل ما يقتضي بطلان الصلاة عامداً فارقه المصلون إذ قد بطلت صلاته، وكذلك في النظام السياسي إن أبطل الشريعة (دستور الدولة الإسلامية).
فهذا بإزاء هذا، وذاك بإزاء ذلك {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء، فتدير عظمة هذا الدين والله الموفق.
الوسيلة الثانية: حرية الكلمة والتعبير عن الرأي:
ومن صورها العصرية حرية الصحافة، وكالحصانة التي يعطيها المجلس النيابي لأشخاص ينتخبهم الشعب، ولهم الحق في النقد العلني والمحاسبة والانتقاد لكبح جماح السلطة.
وأصل ذلك في الفقه الإسلامي ضمان بذل النصيحة وبقاؤها حقًّا عامًّا للرعية لا يجوز مصادرته من قبل السلطة ما دام في دائرة الكلمة الحرة، كما صح في الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ قَالَ «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه مسلم (2).
ولهذا وجدنا في الأحاديث أعلى درجات الحض على العمل بهذا المبدأ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أفضل المسلمين عملاً من ينتقد السلطة إذا جارت كما روى النسائي عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (3).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (693) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ:" اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ "
(2) - صحيح مسلم برقم (205)
(3) - سنن النسائى برقم (4226) صحيح(1/135)
وعن جابر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم (1).
ومعلوم أن الجهاد أفضل متطوع به، وفي هذا الحديث أن أفضله هو كلمة الحق الناقدة لجور الحاكم.
وليس في هذا ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد، بل هو إلى الحض على إعلانها أقرب، لأن ما جعلت أفضل الجهاد إلا من أجل أن في الإعلان التعرض لبطش الظالم وفي ذلك أعظم البذل للجهد وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى، وإما الإسرار فليس فيه في الغالب بذل النفس لأنه ليس مظنة القتل غالباً، ولأن في ذلك تخويف الحاكم الجائر من تشجيع المجاهر بالإنكار لغيره على الإنكار أيضاً مما يؤدي إلى ارتداعه عن الظلم، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها.
أمثلة من النقد العلني للحاكم:
ومن الأمثلة التي ذكرت في التاريخ لقيام العلماء بهذا الواجب المهم ما يلي:
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ فَيَبْدَأُ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّى صَلاَتَهُ وَسَلَّمَ قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِى مُصَلاَّهُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا وَكَانَ يَقُولُ «تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا». وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَخَرَجْتُ مُخَاصِرًا مَرْوَانَ حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَدْ بَنَى مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ فَإِذَا مَرْوَانُ يُنَازِعُنِى يَدَهُ كَأَنَّهُ يَجُرُّنِى نَحْوَ الْمِنْبَرِ وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلاَةِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ قُلْتُ أَيْنَ الاِبْتِدَاءُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ لاَ يَا أَبَا سَعِيدٍ قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ. قُلْتُ كَلاَّ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ. ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ انْصَرَفَ. رواه مسلم (2)، وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (3).
وفي هذين الحديثين أن أبا سعيد أنكر على الوالي وكذلك أنكر ذلك الرجل علناً، قال النووي:"أو أنه خاف وخاطر بنفسه وذلك جائز بل متسحب، ويحتمل أن أبا سعيد هَمَّ بالإنكار فبادره الرجل فعضده أبو سعيد " وقال:" وأما قوله فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالإنكار أيضاً من أبي سعيد " (4).
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم (4872) وهو صحيح
(2) - صحيح مسلم برقم (2090)
(3) - صحيح مسلم برقم (186)
(4) - (شرح مسلم 2/ 22)(1/136)
وقال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1): (والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإقامة حق الله سبحانه على بقائهم واختيارهم لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم) وقال الغزلي: (وإذا جار أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة. وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك. فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراماً. وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه. فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر) (2).
ومما ذكر في التاريخ أيضاً في هذا الباب ما ذكره ابن عبدالهادي في العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية من جملة أشياء تدل على استعماله هذا المبدأ في الحسبة على الدولة، من ذلك موقفه مع السلطان محمد بن الناصر قلاوون في أول مجلس له بعد رجوع الحكم إليه في محضر أعيان العلماء والكبراء والشيوخ والقضاة والأمراء، وعرض على السلطان طلب من النصارى بدفع مال زيادة على ما كانوا يدفعون ليؤذن لهم بالعودة إلى ما كانوا يلبسون مثل المسلمين، فسكت الحاضرون، فجثا الشيخ على ركبتيه وقال للسلطان: (لا تفعل وإني أعيذك أن يكون أول مراسيمك - في أول مجلس لك بعد أن عاد الله إليك الملك ونصرك على عدوك - أن تنصر فيه الكفار وتعزهم من أجل الدنيا الفانية) (3).
ومن ذلك ما ذكره الذهبي في ترجمة أبي بكر النابلسي (4):
__________
(1) - ص201
(2) - وفي إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 156)
(3) - (1/ 281)
(4) - سير أعلام النبلاء - (ج 5 / ص 262) و (سير أعلام النبلاء 16/ 148).(1/137)
" قَالَ أَبُو ذَرٍّ الْحَافِظُ: سَجَنَهُ بَنُو عُبَيْدٍ، وَصَلَبُوهُ عَلَى السُّنَّةِ، سَمِعْتُ الدَّارَقُطْنِيَّ يَذْكُرُهُ، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: كَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُسْلَخُ: { .. كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (58) سورة الإسراء
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: أَقَامَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ لِأَبِي تَمِيمٍ صَاحِبِ مِصْرَ أَبَا بَكْرٍ النَّابُلُسِيَّ، وَكَانَ يَنْزِلُ الْأَكْوَاخَ، فَقَالَ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: الجزء السادس عشر إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، وَجَبَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الرُّومِ سَهْمًا، وَفِينَا تِسْعَةً، قَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا، بَلْ قُلْتُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، وَجَبَ أَنْ يَرْمِيَكُمْ بِتِسْعَةٍ، وَأَنْ يَرْمِيَ الْعَاشِرَ فِيكُمْ أَيْضًا، فَإِنَّكُمْ غَيَّرْتُمُ الْمِلَّةَ، وَقَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ، وَادَّعَيْتُمْ نُورَ الْإِلَهِيَّةِ، فَشَهَرَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ، ثُمَّ أَمَرَ يَهُودِيًّا فَسَلَخَهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَكْفَانِيِّ: تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّابُلُسِيِّ، كَانَ يَرَى قِتَالَ الْمَغَارِبَةِ، هَرَبَ مِنَ الرَّمْلَةِ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَخَذَهُ مُتَوَلِّيهَا أَبُو مَحْمُودٍ الْكُتَّامِيُّ، وَجَعَلَهُ فِي قَفَصٍ خَشَبٍ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا وَصَلَ قَالُوا: أَنْتَ الْقَائِلُ، لَوْ أَنَّ مَعِيَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ ... وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، فَسُلِخَ وَحُشِيَ تِبْنًا، وَصُلِبَ.
قَالَ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ الصُّوفِيُّ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سُلِخَ مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى بَلَغَ الْوَجْهَ، فَكَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيَصْبِرُ حَتَّى بَلَغَ الصَّدْرَ فَرَحِمَهُ السَّلَّاخُ، فَوَكَزَهُ بِالسِّكِّينِ مَوْضِعَ قَلْبِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، صَائِمَ الدَّهْرِ، كَبِيرَ الصَّوْلَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَلَمَّا سُلِخَ كَانَ يُسْمَعُ مِنْ جَسَدِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، فَغَلَبَ الْمَغْرِبِيُّ بِالشَّامِ، وَأَظْهَرَ الْمَذْهَبَ الرَّدِيءَ، وَأَبْطَلَ التَّرَاوِيحَ وَالضُّحَى، وَأَمَرَ بِالْقُنُوتِ فِي الظُّهْرِ، وَقَتَلَ النَّابُلُسِيَّ سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَكَانَ نَبِيلًا رَئِيسَ الرَّمْلَةِ، فَهَرَبَ، فَأُخِذَ مِنْ دِمَشْقَ".
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن الجوزي في المنتظم عن الإمام أحمد بن بديل الكوفي وكان قاضياً قال (1): (بعث إلي المعتز رسولاً بعد رسول فلبست عمتي ولبست نعلا طاقاً، فأتيت بابه فقال الحاجب: يا شيخ، نعليك! فلم ألتفت إليه ودخلت الباب الثاني فقال الحاجب نعليك! فلم ألتفت إليه فدخلت الباب الثالث، فقال الحاجب: يا شيخ نعليك! فلم ألتفت إليه ثم قلت: أبالوادي المقدس أنا فأخلع نعلي؟ فدخلت بنعلي، فرفع المجلس وجلست على مصلاه، فقال أتعبناك أبا جعفر؟ فقلت: أتعبتني وذعرتني، فقال: ما أردنا إلا الخير، أردنا أن نسمع العلم، قلت: ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي، قال نعتب أبا جعفر، فقلت: خلبتني بحسن أدبك أكتب ما شئت، فأخذ الكتاب والدواة والقرطاس، فقلت: أتكتب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قرطاس بمداد؟ قال: فيم أكتب؟ قلت: في رق بحبر، فأخذ الكتاب يريد أن يكتب، فأمليت عليه حديثين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة، والثاني: ما من أمير يأمر عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً).
__________
(1) - (12/ 140) و الطبقات السنية في تراجم الحنفية - (ج 1 / ص 96) وتاريخ دمشق - (ج 18 / ص 319) وتاريخ بغداد - (ج 2 / ص 200) وتاريخ الإسلام للذهبي - (ج 4 / ص 474)(1/138)
وبالجملة فالأمثلة كثيرة، وهى وإن كان بعضها لم تجتمع فيه شروط الصحة من جهة الإسناد، غير أنه مما لم يعلم كذبه فتجوز روايته تحت أصل صحيح، ومعلوم أن قيام العلماء بواجب الإنكار العلني على السلطة مع أمن وقوع مفسدة أكبر مستفيض استفاضة تغني عن التفتيش عن إسناد كل خبر على حدة، والنماذج من تاريخنا كثيرة جداً، ولهذا قال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1): (والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإعزاز الشرع على حفظ مهجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم).
وأما ما يقرره بعض الباحثين من أن نقد الحاكم الجائر لا يجوز أن يكون إلا سرًّا في جميع الأحوال، فليس عليه دليل يقتضي الحصر، حتى لو سلم صحة حديث عياض بن غنم الذي يدل على بذل النصيحة للسلطان سرَّاً (2) - مع أنه متكلم في إسناده - فإن سبيل الجمع بينه وبين الأحاديث التي تعارضه أن يحمل ما ورد في شأن الإسرار على ما كان من النصيحة في مخالفات الحاكم القاصرة عليه، وما ورد في الإعلان على المنكر المتعدي كالظلم وإشاعة الفساد ونحو ذلك، ولم يزل العلماء يوفقون بين النصوص التي يظن بينها تعارض على هذا النحو، كما قيل في التوفيق بين أحاديث استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة، ونقض الوضوء بلمس الذكر، وصلاة المأمومين إذا صلى الإمام جالساً، وأحاديث نفي العدوى مع الأمر بالفرار من المجذوم، وما ورد في المخابرة في باب المزارعة، ونحوها كثير، وأما إلغاء النصوص التي عضدها عمل الفقهاء وعادة العلماء وتعطيل دلالاتها، والتمسك بنص واحد دون سواه رضوخاً لضغط الواقع، ثم تأويل الشرع ليوافقه، فليس من صنيع أهل الفقه والتحقيق.
الوسيلة الثالثة: الاستفادة من أثر الرأي العام للرقابة على السلطة:
ومن الأمثلة في التاريخ ما رواه ابن الجوزي بإسناده أن المأمون قال: (لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يُتقى؟،قال ويحك، إني أخاف أن يرد علي، فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة، فقال له الرجل: فأنا أخبر لك ذلك منه، فقال له: نعم، قال: فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد بن هارون، فدخل عليه المسجد، وجلس إليه فقال له: يا أبا
__________
(1) - ص 201
(2) - مسند أحمد برقم (15728) {3/ 404} عن شُرَيْحَ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِىُّ وَغَيْرُهُ قَالَ جَلَدَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ صَاحِبَ دَارَا حِينَ فُتِحَتْ فَأَغْلَظَ لَهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ الْقَوْلَ حَتَّى غَضِبَ عِيَاضٌ ثُمَّ مَكَثَ لَيَالِىَ فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ لِعِيَاضٍ َلَمْ تَسْمَعِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً أَشَدَّهُمْ عَذَاباً فِى الدُّنْيَا لِلنَّاسِ». فَقَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ يَا هِشَامُ بْنَ حَكِيمٍ قَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ وَرَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلاَ يُبْدِ لَهُ عَلاَنِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ لَهُ». وَإِنَّكَ يَا هِشَامُ لأَنْتَ الْجَرِىءُ إِذْ تَجْتَرِئُ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ فَهَلاَّ خَشِيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ السُّلْطَانُ فَتَكُونَ قَتِيلَ سُلْطَانِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وفيه ضعف وأكثره صحيح(1/139)
خالد إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفون، فإن كنت صادقاً فعد غداً إلى المجلس، فإذا اجتمع الناس فقل، قال: فلما كان الغد اجتمع الناس فقام، فقال: يا أبا خالد، رضي الله عنك، إن أمير المؤمنين يقرئك السّلام ويقول لك: (إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق، فما عندك في ذلك؟ قال: كذبت في ذلك على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحد، قال: فقدم فقال: يا أمير المؤمنين، كنت أنت أعلم، قال: وكان من القصة كيت وكيت، فقال له: ويحك، لعب بك) (1).
وقوله: (أنا أخبر لك ذلك منه) يقصد به أرى إن كان الإمام يزيد بن هارون سيستعمل قدرته على التأثير على الرأي العام ضد السلطة فيما لو أظهرت هذا القول، أم سوف يكون إنكاره لها رأياً شخصياً بيننا وبينه فقط أو سوف يُؤثِر السكوت، أو نحو ذلك مما سيكون تأثيره محدوداً.
وفي هذه القصة أن الإمام يزيد بن هارون أراد أن يبلغ السلطة أنه سوف يستفيد من تأثيره على الرأي العام لتحجيمها ومنعها من استغلال موقعها لفرض آرائها الفكرية الخاطئة، ولهذا دعا رسول الخليفة أمام الناس ليشهدهم على موقفه، ويكون في ذلك إشارة واضحة للسلطة لتكف عما تخطط له، ولم يكتف رحمه الله بذكر ذلك فيما بينه وبين مندوب السلطة خاصة، وهو يدل على قيام العلماء في ذلك الزمان برسالتهم ووعيهم الوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافها.
وقد روى لنا التاريخ أيضاً هذه القصة الطريفة: جاء في حسن المحاضرة: (أنه كان بمصر مغنية تدعى عجيبة، أولع بها الملك الكامل، فكانت تحضر إليه ليلاً، وتغنيه في مجلس ابن شيخ الشيوخ وغيره، فاتفقت قضية شهد فيها الملك الكامل عنده، وهو في دست ملكه، فقال القاضي عبد الله بن الصفراوي الملقب بعين الدولة، هذا السلطان يأمر، ولا يشهد، فأعاد عليه القول، فلما زاد الأمر، وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد، تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا، ما أقبلك وعجيبة تطلع إليك كل ليلة، وتنزل ثاني يوم بكره، وهي تتمايل سكرى على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك، فقال له السلطان: يا كبواج! وهي كلمة شتم بالفارسية، فقال القاضي: ما في الشرع يا كبواج! اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي، ونهض، فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل، فقال له: المصلحة إعادته، لئلا يقال لأي شيء عزل القاضي نفسه، وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة، فنهض الكامل إلى القاضي وترضاه) (2).
__________
(1) - سير أعلام النبلاء - (ج 9 / ص 364) وسير أعلام النبلاء - (ج 11 / ص 237) وتذكرة الحفاظ - (ج 1 / ص 320) وتاريخ بغداد - (ج 6 / ص 323) و (المنتظم 10/ 158)
(2) - حاشية كتاب رفع الإصر لمحققه 2/ 302،(1/140)
ويستفاد من القصة أن القاضي استعمل أثر الرأي العام لتحجيم السلطة ومنعها من التدخل في القضاء والتعسف في استعمال موقعها لإضاعة حقوق العباد، ويمكن أن يستفاد من هذه القصة استعمال وسيلة الإضراب عن العمل للضغط على السلطة بغية إلزامها بالحق وعدم التدخل للتأثير على القضاء ضد الشريعة (1).
وفي الجملة فالأمثلة كثيرة، وعلماء الإسلام لم يغفلوا عن أي وسيلة تمكنهم من منع السلطة من التعسف في استعمال أدواتها للالتفاف على الشريعة الإسلامية التي تمثل ثوابت الأمة التي لا تقبل الالتفاف عليها بوجه من الوجوه، لأن كيان الأمة أصلاً مبني على إقامة الشريعة الإسلامية وبدونها تضيع هويتها وتسلب مكانتها وتتهاوى هيبتها.
الوسيلة الرابعة: وسيلة استعمال جماعات الضغط في المجتمع:
والمقصود بهذه الوسيلة أن تستغل جماعات الضغط (وهي التكتلات التي تخشى السلطة من ردة فعلها إذا تعدت السلطة صلاحياتها أو قصرت في واجبها، ويكون لهذه التكتلات التي توجد في كل مجتمع قدرة على التأثير في السلطة، وربما كانت هذه التكتلات أحزاباً فكرية أو جبهة من العلماء الذين لهم ما يسمَّى هذه الأيام (سلطة روحية) على الشعب وقد تكون منافسة لسلطة الدولة، وربما كانت أقوى من سلطة الدولة في بعض الأحيان، أو طوائف مهنية أو مذهبية .. الخ) تستغل جماعات الضغط موقعها للرقابة وتقييد السلطة، وقد ورد في التاريخ الإسلامي كثير من النماذج التي تدل على وعي العلماء بأهمية هذه الوسيلة للرقابة على الحكام والقيام بواجب الحسبة عليهم:
فمن ذلك: ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم قال في حوادث سنة 464هـ، قال: (2) (وفي جمادى الآخرة لقي أبو سعد بن أبي عمامة مغنية قد خرجت من عند تركي بنهر طابق فقبض على عودها وقطع أوتاره، فعادت إلى التركي فأخبرته، فبعث التركي إليه من كبس داره وأفلت، وعبر إلى الحريم إلى ابن أبي موسى الهاشمي شاكياً ما لقي، واجتمع الحنابلة في جامع القصر من الغد فأقاموا فيه مستغيثين، وأدخلوا معهم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه، وطلبوا قلع المواخير وتتبع المفسدات ومن يبيع النبيذ وضرب دراهم المعاملة بها عوض القراضة، فتقدم أمير المؤمنين بذلك، فهرب المفسدات، وكبست الدور، وارتفعت الأنبذة، ووعد بقلع المواخير ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها، فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد، وأظهر أبو إسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة سكتته).
__________
(1) - انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2584) رقم الفتوى 14719 المشاركة في الإضرابات ... رؤية شرعية و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2325) رقم الفتوى 62803 إضراب المدرسين عن العمل حتى تتحقق مطالبهم
(2) - (16/ 139) وانظر:
http://www.h-alali.net/f_open.php?id=d05a6424-dc23-1029-a62a-0010dc91cf69(1/141)
ويستفاد من هذه الحادثة عناية العلماء برسالة الإصلاح في المجتمع، سواء كانت إصلاح الأخلاق أو الاقتصاد كما يدل على ذلك تقدمهم بإصلاح نظام النقد، كما يستفاد منها تعاون العلماء والمصلحين فيما يتفقون عليه - بالرغم من الخلاف المشهور بين الحنابلة والشافعية - لتحقيق المصلحة العامة للإسلام، واستعمالهم وسيلة الاعتصام إذا أمنت الفتنة والمفسدة الراجحة، وحققت مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا وقد منع بعض المعاصرين استعمال هذه الوسائل العصرية التي تسمى وسائل الاحتجاج السلمي كالإضراب والاعتصام والمسيرة السلمية مطلقاً، وقبل أن ننقد هذا الرأي الذي نراه مجانباً للصواب من جهة إطلاقه، نذكر قاعدة اتفق عليها العلماء، وحاصلها أنه لا يصح في مناهج أهل التحقيق الخوض في الأحكام الشرعية، قبل تفصيل القول في الألقاب والأسماء التي تتعلق بها هذه الأحكام، وتبيين ما كان منها من مجمل يحتمل عدة معان حتى لا تشتبه الأحكام المختلفة، لاشتباه معاني متعلقاتها.
فعلى سبيل المثال لفظ المظاهرات، قد حدث فيه اشتباه بسبب الإجمال، فهو ربما أطلق وأريد به إثارة الشغب والفوضى والفساد، وغالب ما يتبادر إلى ذهن العامة هذا المعنى، ويطلق ويراد به أي صورة من صور التجمهر ولو لم يكن فيه غير الاعتصام في موضع معين، ويطلق ويراد به اجتماع الناس لسماع الخطب وما يسمى هذه الأيام المهرجان الخطابي، ويطلق ويراد به ما يسمَّى المسيرة السلمية وهي أن يخرج الناس يسيرون بأعداد كبيرة للاحتجاج على أمر ما أو المطالبة بأمر ما، وقد تكون على صورة اتباع جنازة يتعمد متبعوها أن يسار بها علناً لمسافة طويلة ويحشد لاتباعها عدد كبير من المشيعين في رسالة احتجاج تتعلق بحدث اقترن بهذه الجنازة، وكل هذه الصور قد تحدث بإذن السلطات أو بغير ذلك، بل قد تكون بأمر السلطات، وقد تحدث في بلاد الإسلام تحت إمامة شرعية، وقد لا تكون كذلك، بل تكون في أرض العدو الذي لا يمكن قتاله بالسلاح كما في فلسطين، أو في بلاد الكفار الذين اعتادوا على ذلك وسمحوا به مثل بلاد الغرب.
وقد تصاحبها المنكرات كاختلاط الرجال والنساء لأنها مما لا يمكن السيطرة عليها، وقد يترتب عليها مفسدة راجحة، وقد يحدث الضد، فيترتب عليها مصالح عظيمة للدعوة.
وبعضها يقصد به إثارة الشغب والفوضى ويستعمل فيها العنف - كما أشرنا- لإسقاط النظام أو إسقاط الثقة به ليؤدي إلى الثورة ضده.
وغالبها يقصد بها استحثاث وسائل الإعلام، لاستدعاء الرأي العام العالمي أو المحلي لقضية يرى أصحابها أنها لا تحظى بالاهتمام المطلوب الذي يتوقع أن يؤدي إلى حلها، وغالباً ما يحدث هذا النوع في الأنظمة التي تسمح بوسائل الاحتجاج السلمية مثل الكويت، فقد نصت المادة 44 من دستورها على ذلك صراحة.(1/142)
والمقصود أن هذه صور مختلفة جداً ولا يجوز البتة في النظر الفقهي الصحيح أن يطلق حكم واحد على جميع ما يحتمله اللفظ العام من الصور والمعاني مع اختلاف أحوالها، إذا كان مناط التحريم أو الإباحة يختلف باختلاف تلك الصور.
ولا أريد أن أتعرض هنا لمظاهرات العنف فإن تحريمها ما لم تكن ضد عدو في أرض حرب مثل الأرض المحتلة في فلسطين وما يشبهها، وما في حكمها مثل الخروج على الحاكم الكافر، وتحريمها واضح لا يحتاج إلى بيان، وإنما المقصود مناقشة من يحرمها مطلقاً وان كانت سلمية مقصدها إعلامي يهدف إلى ممارسة الضغط المعنوي فحسب.
هذا وقد سلك المحرِّمون لهذه الوسائل وإن كانت سلمية يسمح بها النظام ثلاث طرق:
الأولى: دخولها في عموم النصوص المحرمة للتشبه بالكفار.
الثانية: دخولها في عموم النصوص المحرمة للإحداث في الدين لأنها لم توجد في العصر الأول.
الثالثة: الاحتجاج بقاعدة سد الذرائع، إذ هذه الوسائل ذريعة لوقوع منكر أكبر مما يراد إزالته بها غالبا، ومعلوم أن الحكم إنما يعلق على غالب الأحوال لأنه مثار غالب الظن الذي تنبني عليه أحكام الفروع.
أما الطريق الأولى: فالاحتجاج بها ضرب من الغفلة عند أهل التحقيق ذلك أن الوسائل والصناعات والعادات المحضة ونحوها، إذا عمت في الناس يفعلها المسلمون والكفار، ولم تختص بالكفار بحيث تصير شعاراً لهم خاصة دون غيرهم، فإنها لا تدخل في تحريم التشبه بالكفار إذ لا يتحقق فيها هذا المعنى، ولا يصدق عليها اللفظ والمبنى.
فالوسائل - ما لم تكن محرمة بعينها أو صارت شعاراً للكفار دون سواهم - فلا بأس من الاستفادة منها في مقاصد الشريعة، كما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في النفع الذي يفعله المسلم والكافر كالبناء والخياطة والنسيج والصناعة ونحو ذلك أنه يجوز أخذه من غير المسلم (1) ,وذكر أنه لهذا أجاز المسلمون استعمال القوس الفارسية بعد فتح فارس في عهد عمر رضي الله عنه لأنهم وجدوها أفضل من العربية، وكذلك كان الصحابة ومن بعدهم من المسلمين يلبسون الملابس التي وردت من بلاد الكفار، وقد استفادوا بعد الفتح بعض التنظيمات الإدارية من الكفار (2).
ومعلوم أن الصناعات والتنظيمات الإدارية - على سبيل المثال - التي أنشأها غير المسلمين، قد تصير وسائل لإنكار المنكر والدعوة إلى الله تعالى، وفي هذا العصر تداخلت الوسائل الإدارية والمادية التي تنظم شؤون الناس بصورة لم يسبق لها مثيل، ولا يكاد شيء منها يختص بجنس من البشر حتى يقال أنه من عمل الكفار دون المسلمين، ولهذا تجد المانعين لمثل هذه الوسائل (المظاهرات السلمية ونحوها)
__________
(1) - ينظر الفتاوى 30/ 206
(2) - ينظر التفسير الكبير لابن تيميه 7/ 547،548 وينظر أيضاً مجموع الفتاوى 31/ 85(1/143)
محتجين بأنها تشبه بالكفار لابد أن يتناقضوا تناقضاً بيناً، فهم يستعملون من الوسائل الحادثة ما لا يعد كثرة حتى ما ورد في أصله التحريم مثل التصوير ونحو ذلك ويجيزونه في بعض وسائل الدعوة، بل ما يسمَّى فن الصحافة إنما نشأ في بلاد الكفار ثم عم في الناس، وسائر وسائل الإعلام وفنونه التي أضحت اليوم من أهم وسائل الدعوة، يستعملون هذه الوسائل الحادثة التي اخترعها غير المسلمين وانتشرت فيهم قبل أن تصل إلى بلاد الإسلام، ثّمَّ يحرمون وسائل الاحتجاج في العمل النقابي لأنها من بلاد الكفار فتأمل هذا التناقص العجيب.
فضلاً عن استعمال بعض هؤلاء المتناقضين الذين يحرمون الشيء، ويبيحون لأنفسهم نظيره، النظم الإدارية التي أحدثها غير المسلمين، حتى تنظيماتهم الدعوية وما تستدعي من نظم داخلية، وبعض هؤلاء المتناقضين يستبيح لنفسه طلب علوم الشرع في بلاد الكفرة وفي جامعات النصارى لِيُزَكُّوُهُ في علم شريعة الإسلام!!
وبعضهم لا يرى غضاضة في دراسة الشريعة بنظام الماجستير والدكتوراه وهو في الأصل نظام أحدثه غير المسلمين، وغيرهم يرى وجوب دخول البرلمانات التي هي أوروبية المنشأ، وغير ذلك من الصور ما لا يحصى، والصواب أن هذا كله داخل فيما يباح بالبراءة الأصلية، فإن صار وسيلة لخير أو شر دخل في قاعدة الوسائل لها حكم المقاصد، وإنما لم تدخل هذه الوسائل في عموم النهي عن التشبه بالكفار لأنها ليست شعاراً لهم ولا مختصة بهم، بل عامة في الناس يفعلها المسلم والكافر في جميع بقاع الأرض وقد صارت من جنس الصناعات، وما كان مختصاً بهم قد يجوز للضرورة أو لارتكاب أخف الضررين أيضاً
هذا مع أنه لا يسلم البتة - كما سيأتي بيانه بالأدلة والوقائع التاريخية - أن هذه الوسائل الاحتجاجية السلمية لم يعرفها المسلمون في تاريخهم، بل هو خطأ محض لا يقوله من يعرف التاريخ الإسلامي، ولا من تأمل في سنن الحياة، إذ لا معنى لاختصاص الكفار بأمر يتولد من النظام الاجتماعي نفسه , وتستدعيه نفس طبائع بني آدم في اجتماعهم.
الطريقة الثانية: التي اعتمد عليها من حرم المظاهرات وغيرها من الوسائل السلمية في الاحتجاج أو التعبير عن الرأي هي دخولها في عموم النصوص الناهية عن الإحداث في الدين لأنها لم تكن في العصر الأول، ولنا مسلكان في إبطال هذه الطرق:
الأول: إبطال الحجة من رأسها ببيان أن الوسائل العصرية التي يتوصل بها إلى الدعوة وإنكار المنكرات لا تدخل في الإحداث في الدين.
الثاني: بيان أن هذه الوسائل كانت في العصور الأولى بل نص عليها بعض الأئمة، واشتهرت ولم تنكر، فدل على أنها ليست محدثة أصلاً.
أما المسلك الأول: فحاصله إن الإحداث في الدين يقصد به عند العلماء التقرب إلى الله تعالى بعبادة لم يشرعها، وهي البدع التي عَظُمَ نكِيْرُ السلف على فاعلها والتحذير منها، حتى عدّوها أشد خطراً من(1/144)
الكبائر، وهي نوعان: أصلية وهي إحداث عبادة ليست مشروعة أصلاً مثل إقامة المناحات في ذكرى موت الصالحين والمولد ونحو ذلك، وإضافية مثل تخصيص فضل لمكان أو زمان أو هيئة في عبادة مشروعة في الأصل، لكن بلا دليل على التخصيص مثل تعيين فضل للدعاء عند قبور الصالحين أو الذكر الجماعي على هيئة معينة وإن كان الدعاء والذكر مشروعين بالأصل.
أما الوسائل التي يتوصل بها لأداء الواجب المطلق - وهو الذي لم يأت الشرع بتحديد كيفية أدائه على صورة مخصوصة مثل الجهاد وقيام الإمامة بإصلاح شؤون الرعية، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الناس وبر الوالدين ونحو ذلك - أو التي تتعلق بالعبادة تعلق الوسائل فحسب، فلا تدخل في الإحداث في الدين، لأنها لا يقصد بها التقرب بها بخصوصها وإنما تستعمل لأداء الواجب أو غيره من باب الوسائل، فلو تغير الزمان أو المكان تغيرت، فهي غير مقصوده لذاتها.
وفي هذا الباب أمثلة كثيرة، ففي أحكام الأذان مثلاً: استعمال مكبرات الصوت ورفعها على المآذن لإسماع الناس بعد أن علت الدُور وتباعدت واحتيج إلى تبليغ الصوت، وفي الصلاة: مثل استعمال البوصلة الحديثة لمعرفة القبلة، وكما وضعت خطوط قوسيّة مؤخراً في المسجد الحرام يستدل بها الذي لا يرى الكعبة على اتجاه القبلة لأنه يجب عليه استقبال عينها في المسجد الحرام، وفي الزكاة: حسابها بالوسائل العصرية وإخراجها بها مثل الخصم الحسابي بالأقساط قبل الحول شهريا تيسيراً على مخرجها، لأنه يجوز تعجيل إخراجها على الصحيح، وفي الحج: مثل إنشاء الطابق الثاني في المسجد الحرام للطواف والسعي ورمي الجمرات، وفي الجهاد: مثل وسائل الجهاد العصرية التي لم تكن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كوسائل الاستخبارات العسكرية المتطورة والسلاح، ونظم إدارة الجيوش ومراتب الجند ونحوها للقيام بالجهاد في أكمل صوره.
وفي باب الدعوة إلى الله تعالى: مثل استعمال الإعلام والصحافة واضطرار الدعاة أحياناً إلى استعمال الصور لإيضاح أحوال المسلمين واستحثاث الناس لإعانتهم، وفي طلب العلم الشرعي: مثل مسابقات تحفيظ القرآن وغيرها مما يقصد به حث الناس على العلم الشرعي، ومثل جعل طلب العلوم الشرعية على نظام الكليات الحديثة والطرق العصرية التي لم تعرف في العصر الأول، وفي إنكار المنكرات: قد أفتى أجلة العلماء بجواز دخول الدعاة المجالس النيابية في البلاد التي تجعل للشعب سلطة الرقابة على النظام ومحاسبته وتشرك الشعب في اتخاذ القرارات، وإنما يتحقق ذلك بالتصويت والانتخابات العصرية، وكذلك دخول نقابات العمال واتحادات الطلبة ونحوها، وكلها وسائل حادثة يقصد بها تحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية، وكذلك الوسائل العصرية في مكافحة الجريمة، وتتبع المجرمين وكشفهم وهو من باب إنكار المنكر المأمور به شرعاً ويدخل في هذه البصمات اليدوية والوراثية وأحماض الدم(1/145)
وحتى الكلاب البوليسية، وغيرها من الوسائل الحديثة في مكافحة الجريمة، ومعلوم أن مكافحة الجريمة من إنكار المنكر، بل ولاية الدولة كلها إنما المقصود بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما بينا.
والأمثلة لا تحصى في هذا الباب، وكل هذه الوسائل لم تكن في العصر الأول، وكل ذلك لا يدخل في الإحداث في الدين، ولا يفتي بذلك من يعرف مقاصد الشريعة ولا من يعلم قواعد الفقه وأصوله التي تنبني عليها الأحكام، ولهذا يفرق العلماء بين ابتداع ذكر على هيئة مخصوصة لم تشرع وبأذكار مخترعة لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو السماع الصوفي، ويجعلون كل ذلك بدعة، وبين استعمال وسيلة السبحة لِعَد الأذكار المشروعة والواردة في السنة، ولشيخ الإسلام فتوى مشهورة بإباحة السبحة لأنها من باب الوسائل، وإن كان في ذلك خلاف مشهور لكن المقصود أنه لا ينكر على فاعله، كما يفرّقون بين الزيادة على ألفاظ الأذان لأنها بدعة، وبين استعمال المآذن العالية وسيلة لتبليغ الصوت كما في الحرمين فهو مشروع، ويفرقون بين الزيادة على خطبتي الجمعة خطبة ثالثة أو صلاة الظهر بعدها فهما بدعتان، وبين جعل المنبر أكثر من ثلاث درجات إن احتيج إلى ذلك لكثرة الناس فهو مشروع وكذا أن تكون الخطبة بِلُغَةِ المصلين إذا لم يكونوا من العرب فهو مشروع مع أنه لم يفعل على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وحتى في باب الإمامة العظمى ينبغي التفريق بين بدعة توريثها على سبيل المثال، وبين استعمال وسائل أكثر فاعلية لانتخاب وبيعة الإمام وتنظيم سلطات الدولة، لضمان سلامة أداءها لواجباتها، فهذه وسائل تتبع حكم مقاصدها، وتلك - توريث الإمامة العظمى - بدعة لا تجوز إلا لدفع ضرر أكبر كخشية وقوع نزاع يفضي إلى فتنة بين المسلمين وضرب وحدة الأمة.
والمقصود أن الأمثلة لا تحصى والتفريق بين الأمرين: (البدعة المحرمة والوسائل التي لها حكم مقاصدها) لا بد منه شرعاً وعقلاً، بل لو حرمت كل وسيلة عصرية يتوصل بها إلى أداء ما أمر الله تعالى به أو ندب إليه، لكان ذلك من الضلال المبين والجناية على الدين، بل تحريم هذه الوسائل في حد ذاته بدعة شنيعة.
والقاعدة في هذا الباب أن الوسائل التي يتوصل بها إلى امتثال الشرع لا تمنع لمجرد كونها لم تكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عصر السلف، لأنها قد لا توجد لعدم المقتضى حينئذ لفعلها في عهده - صلى الله عليه وسلم -،إما لأنها لم في ذلك الزمان أصلاً، أو لعدم الحاجة إليها في ذلك العصر , أو لوجود مانع من ذلك , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (1):
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 21 / ص 317) ومجموع الفتاوى 21/ 381 و ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 462)(1/146)
"وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَيَّزْنَا بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ فُعِلَ عَلَى زَمَانِهِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَمْ يُفْعَلْ عَلَى زَمَانِهِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي حِينَئِذٍ لِفِعْلِهِ أَوْ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ ".
وانطلاقاً من هذا الفهم الدقيق استعمل الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه وسائل لم تكن على زمن التنزيل إن لم يرد فيها نص مانع، كما أنشأ عمر الدواوين وكما جعل دية قتل الخطأ على أهل الديوان وجعلهم العاقلة بدل العصبة، وكان فقهه رضي الله عنه قائم على هذا الفهم السديد للشريعة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فَإِنَّ جُنْدَ الشَّامِ كَتَبُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّا إذَا لَقِينَا الْعَدُوَّ وَرَأَيْنَاهُمْ قَدْ كَفَّرُوا - أَيْ: غَطَّوْا أَسْلِحَتَهُمْ بِالْحَرِيرِ - وَجَدْنَا لِذَلِكَ رُعْبًا فِي قُلُوبِنَا. فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ: وَأَنْتُمْ فَكَفِّرُوا أَسْلِحَتَكُمْ كَمَا يُكَفِّرُونَ أَسْلِحَتَهُمْ) (1).
ولم يقل عمر إنه تشبه بالكفار ولا قال لم يكن ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،مع أن لبس الحرير قد ورد فيه النهي، غير أن الفقهاء أجازوه للضرورة في القتال ولهم قولان في لبسه لإرهاب العدو، وإنما لم يقل عمر رضي الله ذلك لأنه من باب الوسائل وما كان كذلك لا يكون من الإحداث في الدين , كما أنه يباح للمصلحة الراجحة، كرؤية المخطوبة ونحو ذلك مما عرف مواضعه في الفقه، وكما جمع الصحابة المصحف، وكما أمر عثمان بتحريق المصاحف إلا واحداً درء للفتنة.
وكل من جرب القضاء والفُتيا العامة، وفي النوازل تيقن ما ذكرناه هنا، ولهذا لا يسلم من يحرم الوسائل العصرية للاحتجاج الجماعي بحجة أنها محدثة من تناقض أيضاً، فتجده يجيز ما لا يحصى من وسائل الدعوة وتحصيل العلم والجهاد وغيرها مما لم يكن في العصر الأول فإذا جاء إلى هذه الوسيلة حرمها لأنها لم تكن في العصر الأول فيا للعجب.
وأما المسلك الثاني: فالتاريخ الإسلامي حافل منذ العصور الأولى بشواهد القيام الجماعي لإنكار المنكر، والعجب كل العجب ممن ينكر هذا مع استفاضته، ويَدَّعِى أن السلف لم يفعلوا شيئاً منه، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى ذُبَابٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ». فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. فَرَخَّصَ فِى ضَرْبِهِنَّ فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» أخرجه أبو داود (2).
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 27) ... ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 313) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3428)
(2) - سنن أبى داود برقم (2148) صحيح =ذئر: اجترأ(1/147)
فهذا الحديث الصحيح نصٌّ في محل النزاع، فقد تظاهرت النساء حول بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجاجاً على ضربهن المبرح، فلم ينكر عليهن، بل سمع قولهن وأنكر على من أساء إليهن بغير حقٍّ.
كما أن الإمام أحمد رحمه الله كان يفتي بأن يجتمع الناس لإنكار المنكر للتهويل والتشهير بالمنكر وأهله، فقد روى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَرْبٍ، حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُلِ، يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُهُ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ؟ قَالَ:" تَجْمَعُ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ، وَتُهَوِّلُ عَلَيْهِ " (1).
وفيه أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيَّ، حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ، يَمُرُّ بِالْقَوْمِ يُغَنُّونَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَ لَهُ، هُمْ دَاخِلٌ، قُلْتُ: لَكِنَّ الصَّوْتَ يُسْمَعُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: هَذَا قَدْ ظَهْرَ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ، وَرَأَى أَنْ يُنْكِرَ الطَّبْلَ، يَعْنِي إِذَا سَمِعَ حِسَّهُ. قِيلَ لَهُ: مَرَرْنَا بِقَوْمٍ وَقَدْ أَشْرَفُوا مِنْ عِلْيَةٍ لَهُمْ، وَهُمْ يُغَنُّونَ، فَجِئْنَا إِلَى صَاحِبِ الْخَبَرِ فَأَخْبَرْنَاهُ؟ فَقَالَ: لَمْ تَكَلَّمُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمِعْتُمْ؟ فَقِيلَ: لَا، قَالَ:" كَانَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَكَلَّمُوا، لَعَلَّ النَّاسَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ وَكَانُوا يُشَهِّرُونَ ") (2)
وفيه أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْمُقْرِيءُ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الْمَجِيدِ، يَقُولُ: مَرَّ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْعَابِدُ بِدَارٍ، فَسَمِعَ صَوْتَ عُودٍ يُضْرَبُ بِهِ، فَقَرَعَ الْبَابَ، فَنَزَلَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، قُولِي لِمَوْلَاتِكِ تَحْدِرُ الْعُودَ حَتَّى أَكْسِرَهُ، قَالَ: فَصَعِدَتْ، فَقَالَتْ لِمَوْلَاتِهَا: شَيْخٌ بِالْبَابِ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: هَذَا شَيْخٌ أَحْمَقُ، فَضَرَبَتْ بِعُودَيْنِ، فَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَقَرَأَ، فَاجْتَمَعَ الْخَلْقُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ، فَسَمِعَتِ الْمَرْأَةُ الضَّجَّةَ، فَقَالَتْ: يَا مَوْلَاتِي، تَعَالِي، انْزِلِي وَاسْمَعِي، فَلَمَّا سَمِعَتْ قَالَتْ:" احْدِرِي الْعُودَيْنِ حَتَّى يَكْسِرَهُمَا " (3)
وفيه أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكُوفِيُّ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ، عُودٍ أَوْ طُنْبُورٍ مِنْ دَارٍ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ أَرْسِلُوا إِلَيَّ ذَلِكَ الْخَبِيثَ، فَإِنْ أَرْسَلُوا بِهِ إِلَيْهِ كَسَرَهُ، وَإِلَّا قَعَدَ إِلَى الْبَابِ فَقَرَأَ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ: مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، فَلَا يَدَعُ حَتَّى يُخْرَجَ إِلَيْهِ فَيَكْسِرُهُ " (4).
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم قال: (واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية، والنصرية، وشارع دار الرقيق، وباب البصرة، والقلائين، ونهر طابق، بعد أن أغلقوا دكاكينهم، وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ - أي منكرين لبدعة إظهار شتم الصحابة التي وقعت من أهل الكرخ - واجتمعوا وازدحموا على باب
__________
(1) - ص50 و الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهِيُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ >> بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ تَغْيِيرِ ذَلِكَ إِذَا سَمِعَ وَعَلِمَ >>برقم (75) ...
(2) - برقم (76) وص 50/ 51
(3) - برقم (77)
(4) - برقم (79)(1/148)
الغربة، وتكلموا من غير تحفظ في القول فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم، وتقدمنا بأن لا يقع معاودة , فانصرفوا) (1).
وأما ما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية فكثير جداً، فمن ذلك:
ما ذكره خادم الشيخ إبراهيم الغياني قال: (فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل (الباب الصغير) الذي عند (درب النافدانيين) فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبدالله بن تيمية قال: فخرجنا لكسره , فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق، فاجتمع معنا خلق كثير) (2).
وشواهد التاريخ لا تحصى كثرة، والعاقل يعلم أن مثل هذه الوسائل السلمية للاحتجاج الجماعي إنما تتولد من النظام الاجتماعي نفسه، ومن كون الإنسان اجتماعياً بطبعه، يجتمع مع بني جنسه فيما يتفقون عليه فهو أمر لا يخلو منه عصر، ولا يحتاج إلى فكر، وإنما تدفع إليه الحاجة، والناس إذا توافقوا تعاونوا، فالعجب ممن يظن أن هذه الوسائل حادثة، ومن طرائف الأخبار أن شاباً ممن اعتاد على إلغاء عقله بتقليد حزبه، ذكر له أن جماعة من الدعاة أقاموا تجمهراً حشد له الناس في خيمة كبيرة بهدف إظهار النكير لإضعاف المنكر، وسئل هل يجيز هذا الأمر حزبه الذي يحرم التجمهر لأنه في زعمهم تشبه بالكفار ولم يفعله السلف، قال هذا يجوز لأنه تحت الخيمة، فقيل له أرأيت لو أزلنا الخيمة وكان ذلك كله في العراء، قال لا يجوز حينئذ لأنه مظاهرة، وعش تر ما لم تر!!!
الطريقة الثالثة التي سلكها المانعون لوسائل الاحتجاج السلمي هي:
وهي قاعدة سد الذرائع، وقالوا: إن هذه الوسائل غالباً ما تفضي إلى مفاسد أرجح من المصالح التي تبتغي بها، وقد علم من دلائل الشريعة الكثيرة حظر ما يفضي إلى المفسدة، ويكتفى في اعتبار ذلك بغالب الأحوال إذ هي مثار غالب الظن الذي تنبني عليه الأحكام.
وهذا الطريق أسلم حجة استدل بها على المنع، غير أن المعلوم أن الذرائع تقدر بقدرها لا أكثر من قدرها، ويجب عند العمل بهذه القاعدة، أن يتوفر أمران:
الأول: العلم بأن الوسيلة هي حقاً ذريعة إلى مفسدة تربو على المصلحة، لا أن يكون ذلك بناء على الوهم أو ضرب من الوسوسة أو بدافع الخوف النفساني المجرد أو بناء على أحوال يختلف فيها القياس والتمثيل.
الثاني: أن لا يتجاوز بالذريعة قدرها فيؤدي إلى تحريم المباح أو تفويت مصالح شرعية محققة، فمثلاً إذا كان الاعتصام بغير إذن السلطة يفضي إلى مفسدة راجحة، فلا يحرم ما كان حقاً مكفولاً بحكم القانون إلا إذا أفضى إلى مثل ذلك، وقس على ذلك.
__________
(1) - 16/ 94
(2) - ص 10 رسالة بعنوان ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب(1/149)
وعليه، وبناء على ما سبق، فإن حكم ما يسمَّى وسائل الاحتجاج الجماعي من مظاهرات واعتصامات وإضرابات ومهرجانات خطابية ومسيرات ..... الخ،
أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: محرمة، وذلك فيما لو كانت بقصد العنف المحرم - يستثنى ما يقع في أرض عدو محارب كفلسطين وغيرها ما لم يكن الضرر أعظم كما هو الحال في حكم الجهاد - أو كانت سلمية لكن يخشى إفضاؤها إلى عنف لعدم القدرة على السيطرة عليها، أو كانت سلمية أيضاً لكنها متضمنة لما يمنع شرعاً كاختلاط محرم بين الرجال والنساء، أو أدت إلى وقوع منكر أكبر، أو ضرر يصيب المسلمين أو شعائر دينهم كما يفعل الملحدون الروافض في الحرم، أو ضرر يلحق بالدعوة الإسلامية يربو على ما يتحقق بهذه الوسيلة من مصالح، وغالباً ما تكون كذلك في الأنظمة التي لا تنص قوانينها على حق المواطنين في التعبير عن الاحتجاج بهذه الوسائل العصرية، وهي في بلادنا الشرقية والعربية خاصة أكثر من غيرها.
القسم الثاني: مباحة، وهي فيما إذا كانت السلطة تسمح بهذه الوسائل وتنظيمها للاتحادات والنقابات ونحوها فتستعمل للوصول إلى غرض مباح، مثل زيادة الأجور أو تخفيف ساعات العمل أو الحصول على الحقوق المادية ونحو ذلك، أو تأمر بها الدولة لاستحثاث وسائل الإعلام لحماية مصالح مواطنيها في دولة أخرى أو إثارة قضية تخصها مثل الأسرى ونحو ذلك، فهذه كلها مباحة ما لم تؤد إلى الوقوع في محظور كما في القسم الأول فتمنع.
القسم الثاني: مستحبة - أو واجبة بحسب الحال وما يراد تحقيقه بها - وذلك فيما إذا كان مقصدها مستحباً أو واجباً، ومن أمثلة هذا النوع أن تكون في أرض العدو للضغط عليه للوصول إلى مصلحة شرعية للمسلمين، كما كان فيما سمي (مظاهرات الحجارة) التي قصد بها الشعب الفلسطيني إثارة الرأي العالمي ضد جرائم اليهود بالمسلمين، بغية تحريك القضية وفضح مكائد اليهود، ولم يبلغنا أن أحداً من علماء المسلمين حرم تلك المظاهرات، أو تكون للضغط على المحتل الكافر لإخراجه من البلاد كما كان يفعل المسلمون إبّان الاستعمار الذي عم البلاد الإسلامية، أو كانت وسيلة للخروج على حاكم يجب الخروج عليه مع القدرة لظهور الكفر البواح، وهذه فيما يخص مظاهرات العنف، ويجب أن يراعى فيها أن لا تتعدى إلى الاعتداء على المسلمين أو تؤدي إلى ضرر عليهم راجح على مصالحها.
وأما السلمية فتدخل في هذا القسم إذا كانت في أنظمة تسمح بها وتجعلها حقاً للأفراد عبر منظمات لهم تسمَّى نقابات أو اتحادات، فيسمح لهم القانون أن ينظموا إضراباً أو اعتصاماً أو مسيرة سلمية للحصول على مطالبهم فإذا كانت تلك المطالب شرعية دعوية، كان لهذه الوسيلة حكم مقصدها، وهذا - أعني السماح بهذه الوسائل - قد يكون عرفاً سائداً لا قانوناً منصوصاً عليه، فهذه كلها إذا خلت من محاذير أخرى فهي مستحبة - أو واجبة إذا لم يتم الواجب إلا بها وبحسب(1/150)
مقصدها -،ولا مانع شرعاً البتة أن تستعمل لتحيق بعض أهداف الدعوة أو إنكار المنكر، وكل ذلك ما لم تُفْضِ إلى الوقوع في منكر أكبر.
وفي هذا الباب يحصل المسلمون في بلاد الغرب - حيث تنص غالب الدساتير على حقوق الشعوب باستعمال هذه الوسائل - على كثير من حقوقهم ويخففون الأذى عليهم من أعداءهم، مستغلين هذه الوسائل المسوح بها وإذاعة وسائل الإعلام لها لإيصال صوتهم إلى العالم، وكل ذلك مشروع ما لم يفض إلى محرم أشد ضرراً.
هذا، وتحقيق هذه الفتوى على الواقع، يجتهد فيه أهل كل بلد ممن له أهلية ذلك لأنهم أعرف بأحوالهم، ولا عجب أن يفتي بتحريم هذه الوسائل مطلقاً من ينكر وجود سلطة في العالم تسمح لمواطنيها بالاحتجاج العلني عليها، ويقول حتى لو وجدت فلا تلبث أن تبطش بهم، غير أنه لم يعد خافياً أن وجود مثل هذه القوانين التي تعطي الشعب حق الاعتراض والنقد العلني كحرية الصحافة وتنظيم وسائل الاحتجاج الجماعية ونحوها، إنما يتحقق في الأنظمة التي تقوم على فصل السلطات، وفيها تكون السلطة التنفيذية ما هي إلا سلطة واحدة من الدولة والشعب يشارك فيها بقوة القانون أيضاً، وتشاركهم في اتخاذ القرارات - بل هي المخولة أصلاً ـ ولها حق مراقبة الحكومة وتفرض عليها الخضوع للقوانين التي منها حقوق الرعية بالتعبير عن رأيهم، فحتى لو كرهت السلطة التنفيذية الإنكار عليها فإنها لا تستطيع أن تمنع ذلك وتتجاوز صلاحياتها، حتى ربما استطاع الشعب عبر ممثليه أن يغير السلطة التنفيذية، ويأتي بغيرها، وكل ذلك يكثر وجوده في حكومات العالم الغربي حيث يعيش المسلمون هناك وربما احتاجوا إلى تلك الوسائل لحماية أنفسهم ودينهم، وتوجد في بعض البلاد الإسلامية كذلك، هذا والواجب أن يتعرف المفتي على هذا الواقع حتى يعلم تحقق قاعدة سد الذرائع في البلاد التي أفتى لأهلها بالمنع المطلق أم لا.
هذا، وإنه لمن المقرر في أحكام الفتوى وآدابها أن لا يقصر المفتي نظره على البلاد التي يعيش فيها فحسب، ويرى العالم كله من خلالها، ويبني الفتوى على ما يراه حوله فقط، فإن هذا من شأنه أن يجعل الفتوى تأتي بضد مقصودها.
كما ننبه هنا أنه لا يجوز أن نغفل سد ذرائع المنكر، عندما ننظر إلى سد ذرائع الأضرار التي تترتب على إنكار المنكر، فقد يكون المنكر منكراً إلى درجة يهون معها وقوع الأذى الجزئي في إعلان النكير على فاعليه حتى لو كانت السلطة، فلا شيء يبيد النعم كظلم السلطة، وقد ورد في الحديث (أخوف ما أخاف عليكم حيف الأئمة) (1) وفيه (أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ) (2) ولهذا صار أعظم الجهاد الإنكار على جور السلطان، لأن في استمراره على جوره وقوع الفساد العام، وإنما تحل العقوبة
__________
(1) - الإبانة الكبرى لابن بطة برقم (1518) ومسند البزار برقم (507) صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود برقم (4254) صحيح(1/151)
الإلهية عند السكوت عنه كما صح في الحديث، كما أن في ترك إظهار الإنكار بالكلية خشية حصول مفاسد جزئية، اختلاط الحق بالباطل، وانقلاب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وخفاء الدين على الناس، واندراس معالمه، ولعمري، إن هذه المفاسد لا تضاهيها مفسدة، فينبغي أن ينظر في سد هذه الذريعة أيضاً عند الترجيح، وقد وجدنا بعض المفتين لا يعير لهذا الجانب، اهتماماً وإنما يتوجه نظره فحسب إلى منع الدعاة من إعلان النكير على شيء خوفاً عليهم، حتى عمت المنكرات وطمت، وصار ما كان يحذر منه، قد وقع في أعظم منه، فهذا باب مهم جداً.(1/152)
جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية
الفصل الأول - الأدلة على جواز التغيير باليد لآحاد الرعية
أولاً: من القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:104)
فهذه الآية الكريمة نص قاطع في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ نُصْرَةُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إذَا عَرَفَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَاحِيَّةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْجِدَالِ، أَوْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ يَقُومُ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةَ.)) (1).
وقال الجصاص: ((قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ.)) (2).
وقال الحافظ ابن كثير: ((والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»)) (4).
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي (1/ 292) و أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 114)
(2) - أحكام القرآن للجصاص (2/ 29) و أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 455)
(3) - في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة وهو خطأ والصواب ما أثبتناه. وهو في مسلم برقم (186)
(4) - تفسير القرآن العظيم (1/ 391) و تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 91) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4592) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 14 / ص 112)(1/153)
قلت: قول ابن كثير -رحمه الله-: ((وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه)) معناه بحسب قدرته، ويدل على ذلك استشهاده بحديث أبي سعيد الذي جعل مناط الأمر بالتغيير هو الاستطاعة.
وفي معنى هذه الآية آيات أُخر منها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... } (آل عمران:110) وقوله تعالى في نعت المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى: {اْلَّتَائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (التوبة:112)
قال الجصاص بعد أن ذكر طائفة من هذه الآيات الكريمة: ((فَهَذِهِ الْآيُ وَنَظَائِرُهَا مُقْتَضِيَةٌ لِإِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ عَلَى مَنَازِلَ: أَوَّلُهَا تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ إذَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَكَانَ فِي نَفْيِهِ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ.)) (1) أ. هـ.
والمقصود من ذلك أنه قد ثَبَتَ بهذه الآيات وغيرها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه فرض على الكفاية، وهذا الحكم شامل لكل مراتب التغيير، ولا نعلم دليلاً واحداً يخصُّ الحكام بمرتبة من هذه المراتب، فمن ادعَّى شيئاً من ذلك فعليه الدليل.
ثانيًا: من السنة النبوية الشريفة
الحديث الأول: عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (2).
وقد دل هذا الحديث على أن لآحاد الرعية تغيير المنكر بأيديهم من وجوه:
الوجه الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -[مَنْ] وهي من صيغ العموم، وذلك يعني أن الخطاب موجه إلى كل فرد من الأمة وليس إلى طائفة معينة منهم، وعلى من ادعى تخصيص طائفة معينة بشيء مما ورد في هذا الحديث أن يأتينا بالمخصص وأنى له ذلك؟
الوجه الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -[منكم] والقائل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الحاكم، والمخاطَبون بذلك هم الرعية فلو كان الذي يغير بيده هو الحاكم وحده فكيف خوطب الرعية بذلك؟!
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص (2/ 30) و أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 456)
(2) - مسلم (49) و صحيح مسلم برقم (186) وأبو داود (1140، 4340) والترمذي (2172) وابن ماجه (1275، 4013) ... والنسائي (8/ 111 - 112) وأحمد (3/ 54).(1/154)
الوجه الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -[فإن لم يستطع] وذلك يقتضي أن المخاطب بالأمر الأول هو عينه المخاطب بالأمر الثاني وهو عينه المخاطب بالأمر الثالث؛ فهو شخص واحد إن لم يستطع أن يُغير بيده فله أن ينتقل إلى البدل وهو التغيير باللسان فإن لم يستطع فله الانتقال إلى البدل وهو التغيير بالقلب.
وشبيه بهذا المعنى ما جاء في حديث الرجل الذي واقع امرأته في نهار رمضان حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: [«فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ».قَالَ لاَ. فَقَالَ «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا».قَالَ لاَ.] (1) الحديث.
فالشخص شخص واحد، ولما وجده الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير مستطيع للأمر الأول وهو العتق انتقل به إلى الأمر الثاني وهو الصيام، فلما وجده غير مستطيع لهذا أيضاً انتقل به إلى الأمر الثالث وهو الإطعام. وهكذا نقول هنا والله أعلم
الوجه الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -[فإن لم يستطع] أيضاً فلو كان التغيير باليد قاصراً على الحاكم لما كان لقوله [فإن لم يستطع] معنى لأن الأصل في الحاكم أنه مستطيع التغيير باليد على كل حال.
الحديث الثاني: روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (2).
وفي هذا الحديث أيضاً العموم في قوله [فمن جاهدهم] فهذا خطاب عام لا مخصص له، بل إنه نصٌّ في أن للرعية أن يغيروا منكرات الأمراء بأيديهم؛ فقد قال ابن رجب الحنبلي بعد أن ذكر الحديث السابق: ... ((جهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك،)) (3).
الحديث الثالث: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ». قَالُوا أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ «لاَ مَا صَلَّوْا».،وفي رواية «
__________
(1) - أخرجه البخاري (1936) ومسلم (1111) وأبو داود (2390) والترمذي (724) وابن ماجه (1671) وأحمد (2/ 241) من حديث أبي هريرة.
(2) - صحيح مسلم (50) كتاب الإيمان باب (كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان) و صحيح مسلم برقم (188)
(3) - جامع العلوم والحكم (شرح حديث من رأى منكم منكرًا ... ص:282). و جامع العلوم والحكم - (ج 34 / ص 8)(1/155)
إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ «لاَ مَا صَلَّوْا». أَىْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ.] (1).
فهذا الحديث يوضح أنه في حالة وجود أمراء تقع منهم المخالفات لشرع الله فإن سلامة المسلم في دينه تتحقق بالإنكار عليهم، والإنكار هنا عام يدخل فيه التغيير باليد واللسان والقلب. وإليك ما قاله الإمام النووي في شرح هذا الحديث، قال -رحمه الله-: ((مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْمُنْكَر فَقَدْ بَرِئَ مِنْ إِثْمه وَعُقُوبَته، وَهَذَا فِي حَقّ مَنْ لَا يَسْتَطِيع إِنْكَاره بِيَدِهِ لَا لِسَانه فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ، وَلْيَبْرَأْ.
وَأَمَّا مَنْ رَوَى (فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ بَرِئَ) فَمَعْنَاهُ - وَاَللَّه أَعْلَم - فَمَنْ عَرَفَ الْمُنْكَر وَلَمْ يَشْتَبِه عَلَيْهِ؛ فَقَدْ صَارَتْ لَهُ طَرِيق إِلَى الْبَرَاءَة مِنْ إِثْمه وَعُقُوبَته بِأَنْ يُغَيِّرهُ بِيَدَيْهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ.)) (2).
فيتبين من ذلك أن الرجل المسلم له أن يغير منكرات الأمراء بيده أو لسانه فإن عجز فبقلبه وإن كان المنكر عليه هو الأمير فهل يسوغ مع ذلك أن يُقال: إنه لا تغيير باليد إلا للأمراء والحكام؟!
الحديث الرابع: عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ فَيَنْهَاهَا فَلاَ تَنْتَهِى وَيَزْجُرُهَا فَلاَ تَنْزَجِرُ - قَالَ - فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَشْتِمُهُ فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِى بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ «أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِى عَلَيْهِ حَقٌّ إِلاَّ قَامَ». فَقَامَ الأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ تَشْتِمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلاَ تَنْتَهِى وَأَزْجُرُهَا فَلاَ تَنْزَجِرُ وَلِى مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَكَانَتْ بِى رَفِيقَةً فَلَمَّا كَانَتِ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتِمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِى بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «أَلاَ اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» (3).
فهذا الحديث يدل على أن هذا الرجل وجد منكراً وحاول أن يغيره باللسان والوعظ والنصح فلم تنته صاحبته، فما كان منه إلا أن غير بيده وكان التغيير باليد هنا هو استعمال السيف؛ لأن منكر هذه المرأة لا يزول بأقل من هذا فقتلها دون إذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما عَلِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّه على ذلك.
__________
(1) - أخرجه مسلم (1854) و صحيح مسلم برقم (4906) وأبو داود (4760) والترمذي (2265) وأحمد (6/ 302،305،321).
(2) - شرح صحيح مسلم (12/ 243) و شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 327)
(3) - سنن أبى داود برقم (4363) و أخرجه أبو داود (4361) والنسائي (7/ 107 - 108) والحاكم (4/ 354) وهو صحيح
المغول: شبه سيف قصير(1/156)
الحديث الخامس: عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتِمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَمَهَا (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الحديث نص في جواز قتلها، لأجل شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ... (2).
قلت: فهذا الرجل قتل المرأة دون إذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقره النبي على ذلك ونحن نرى أن هذا من باب تغيير المنكر باليد كما ذكرنا في القصة السابقة.
الحديث السادس: عَنْ عَلِىٍّ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اجْلِسْ». وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبَىَّ فَذَهَبْتُ لأَنْهَضَ بِهِ فَرَأَى مِنِّى ضَعْفاً فَنَزَلَ وَجَلَسَ لِى نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ «اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبَىَّ». قَالَ فَصَعَدْتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. قَالَ فَنَهَضَ بِى. قَالَ فَإِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَىَّ أَنِّى لَوْ شِئْتُ لَنِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدْتُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ تِمْثَالُ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ فَجَعَلْتُ أُزَاوِلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اقْذِفْ بِهِ». فَقَذَفْتُ بِهِ فَتَكَسَّرَ كَمَا تَتَكَسَّرُ الْقَوَارِيرُ ثُمَّ نَزَلْتُ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَسْتَبِقُ حَتَّى تَوَارَيْنَا بِالْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يَلْقَانَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ (3) ... .
قلت: هذا الحديث نص في تغييره - صلى الله عليه وسلم - المنكر بيده قبل الهجرة، ومعلوم أنه لم يكن يومئذ حاكماً ولا كانت قد قامت دولة الإسلام بعد.
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4364) و رواه أبو داود (4362) وهو حديث حسن وقال ابن تيمية في (الصارم المسلول) هذا الحديث جيد وذكر أن الشعبي رأى عليًا وروى عنه (راجع تفصيل ذلك في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص:61).
(2) - الصارم المسلول ص:62.
(3) - مسند أحمد برقم (654) و أخرجه أحمد (1/ 84) وابنه عبد الله في زوائده (المسند 1/ 151) والحاكم (2/ 366،3/ 5) وأبو يعلى (1/ 251) والبزار (769) والنسائي في خصائص علي ص:74،والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 203) وفي موضح أوهام الجمع والتفريق (2/ 432) وابن حرير في تهذيب الآثار: مسند علي (4/ 236،237) وهو صحيح والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 23) وقال: ((رواه أحمد وابنه وأبو يعلى والبزار. ورجال الجميع ثقات)) أ. هـ. وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (2/ 57) وقال ((ومن الواضح أن هذه القصة كانت قبل الهجرة)) وصححه الحاكم (2/ 366) وقال الذهبي في التلخيص: ((إسناده نظيف والمتن منكر)) وصححه الطبري في تهذيب الآثار (4/ 238).
والحديث مدار طرقه على أبي مريم الثقفي المدائني الراوي عن علي واسمه قيس وقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 314)،وقال ابن حجر في التقريب (2/ 471):مجهول
قلت: قول الحافظ -رحمه الله- لا يخلو من نظر؛ فإن أبا مريم الثقفي قد وثقه النسائي كما في خلاصة تذهيب التهذيب (3/ 244) وميزان الاعتدال (4/ 573) ولسان الميزان (7/ 482) والكاشف (3/ 376)،كما أنه لا ينطبق عليه ما ذكره الحافظ من تعريف المجهول في مقدمة التقريب (1/ 5) فقد ذكر أن المجهول هو ((من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق)) وأبو مريم الثقفي قد روى عنه اثنان، فقد قال البخاري في التاريخ الكبير (4/ 1/151): ((روى عنه نعيم وعبد الملك ابنا حكيم))،وقد وثقه النسائي كما أسلفنا.
أما قول الذهبي: (والمتن منكر) فإنه لم يبين وجه نكارته ولا نرى في المتن ما يخالف شيئاً من القرآن والسنة، وعليه فدعوى النكارة دعوى عارية عن الدليل فيما نعلم وعلى من يدعي ذلك أن يأتي بالدليل وإلى أن يأتي الدليل فإننا نقول بصحة الحديث سنداً ومتناً -والله أعلم.(1/157)
وقال الإمام الطبري تعليقاً على هذا الحديث: ((والذي فيه من ذلك الدلالة على صحة قول من قال: لا بأس على الرجل المسلم إذا رأى بعض ما يتخذه أهل الكفر وأهل الفسوق والفجور من الأشياء التي يعصى الله بها، مما لا يصلح لغير معصية الله به، وهو بهيئته، وذلك مثل الطنابير والعيدان والمزامير والبرابط والصنوج التي لا معنى فيها، وهي بهيئتها، إلا التلهي بها عن ذكر الله، والشغل بها عما يحبه الله إلى ما يسخطه، أن يغيره عن هيئته المكروهة التي يعصى الله به وهو بها، إلى خلافها من الهيئات التي يزول عنه معها المعنى المكروه، والأمر الذي يصلح معه لأهل معاصي الله العصيان به. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليا بكسر الصنم الذي كانت قريش وضعته فوق الكعبة، ومعلوم أن الصنم لا معنى فيه، إذ كان تمثالا من صفر، أو نحاس أو غير ذلك، إلا كفر من يكفر بالله بعبادته إياه، وتعظيمه له، والسجود له من دون الله تعالى ذكره، من غير أن يكون للصنم في ذلك من فعله إرادة، ولا دعاء إليه، ولا علم بما يفعل به، إذ كان جمادا لا يعقل، ولا يفقه ولا يسمع ولا يبصر، ولا شيء فيه إلا الهيئة التي هيئت، والصورة التي صورت لمعصية الله بها، والكفر بالله من أجلها. والجوهر الذي ذلك فيه، لا شك أنه يصلح، إذا غير عنه ما هو به من الهيئة المكروهة، لكثير من منافع بني آدم الحلال غير الحرام. فإذا كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا بكسره وتغييره عن هيئته المكروهة التي يعصى الله به من أجلها، إنما كان لما وصفت، مع الأسباب التي ذكرت، فمعلوم أن ما ذكرت من الطنابير والعيدان والمزامير، وما أشبه ذلك من الأشياء التي يعصى الله باللهو بها، أولى وألزم للمرء المسلم تغييرها عن هيئتها المكروهة التي يعصى الله بها، إذ كان فيها الأسباب التي توجب للاهي بها سخط الله وغضبه، من تغيير التماثيل التي هي أصنام لا شيء فيها إلا ما يحدثه أهل الكفر في أنفسهم من الكفر بالله بسجودهم لها، وتعظيمهم إياها، عن هيئتها بكسرها، إذا أمن على نفسه من أن تنال بما لا قبل لها به. وبنحو الذي قلنا في ذلك وردت الآثار عن السلف الماضين من علماء الأمة، وعمل به التابعون لهم بإحسان)) (1).
ثالثًا: الإجماع
1 - قال الإمام النووي - في شرح مسلم - ((قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بِأَصْحَابِ الْوِلَايَات بَلْ ذَلِكَ جَائِز لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ غَيْر الْوُلَاة فِي الصَّدْر الْأَوَّل، وَالْعَصْر الَّذِي يَلِيه كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاة بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الْمُنْكَر، مَعَ تَقْرِير الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَتَرْكِ تَوْبِيخهمْ عَلَى التَّشَاغُل بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مِنْ غَيْر وِلَايَة. وَاَللَّه أَعْلَم.)) (2).
وهذا كلام عام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل درجاته لم يخصص إمام الحرمين نوعاً منها.
__________
(1) - تهذيب الآثار للطبري - (ج 4 / ص 392) و عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 14 / ص 243)
(2) - شرح مسلم (2/ 23) وشرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131)(1/158)
2 - قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الَّنَبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍ ... } (آل عمران:21):
((أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أَنّ المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره؛ فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك)) (1).
فهذا الإجماع الصحيح يدل على وجوب تغيير المنكر على كل من قدر عليه سواء كان حاكماً أو محكوماً.
رابعًا: فعل الصحابة رضي الله عنهم
?1 - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَىْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَىْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهْوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِى أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِى فَارْتَفَعَ، فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَقُلْتُ لَهُ غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ. فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ. فَقُلْتُ مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لاَ أَعْلَمُ. فَقَالَ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ (2).
فها هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قد باشر التغيير بيده فجبذ بثوب مروان، وهو الأمير يومئذٍ.
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ((وَفِيهِ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَر عَلَيْهِ وَالِيًا وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْكَار عَلَيْهِ يَكُون بِالْيَدِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ، وَلَا يُجْزِي عَنْ الْيَد اللِّسَان مَعَ إِمْكَان الْيَد.)) (3).أ. هـ.
2 - و عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّامِ فَأَتَاهُ نَبَطِىٌّ مَضْرُوبٌ مُشَجَّجٌ مُسْتَعْدِى فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ لِصُهَيْبٍ: انْظُرْ مَنْ صَاحِبُ هَذَا فَانْطَلَقَ صُهَيْبٌ فَإِذَا هُوَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِىُّ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا
__________
(1) - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) (4/ 48) و الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 969) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 23 / ص 281) والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 5 / ص 12) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4023)
(2) - أخرجه البخاري (956) واللفظ له ومسلم (889) والنسائي (3/ 187) وابن ماجه (1288) ... وأحمد (3/ 36،54).
(3) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 7 / ص 579) وشرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 280) و شرح صحيح مسلم (6/ 178)(1/159)
فَلَوْ أَتَيْتَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَمَشَى مَعَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكَ بَادِرَتَهُ فَجَاءَ مَعَهُ مُعَاذٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ عُمَرُ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: أَيْنَ صُهَيْبٌ؟ فَقَالَ: أَنَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: أَجِئْتَ بِالرَّجُلِ الَّذِى ضَرَبَهُ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَاسْمَعْ مِنْهُ وَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا لَكَ وَلِهَذَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأَيْتُهُ يَسُوقُ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ فَنَخَسَ الْحِمَارَ لِيَصْرَعَهَا فَلَمْ تُصْرَعْ ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَنِ الْحِمَارِ فَغَشِيَهَا فَفَعَلْتُ مَا تَرَى قَالَ: ائْتِنِى بِالْمَرْأَةِ لِتُصَدِّقَكَ فَأَتَى عَوْفٌ الْمَرْأَةَ فَذَكَرَ الَّذِى قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا: مَا أَرَدْتَ بِصَاحِبَتِنَا فَضَحْتَهَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ لأَذْهَبَنَّ مَعَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا: نَحْنُ نُبَلِّغُ عَنْكِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَيَا فَصَدَّقَا عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ بِمَا قَالَ، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْيَهُودِىِّ: وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا عَاهَدْنَاكُمْ فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فُوَا بِذِمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ هَذَا فَلاَ ذِمَّةَ لَهُ. قَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَصْلُوبٍ رَأَيْتُهُ ... (1).
فهذا عوف بن مالك - وهو صحابي جليل - رأى منكراً فغيره بيده، ولم يكن المنكر ليندفع إلا بالضرب، فضرب عوف بن مالك صاحب المنكر، فشجَّ رأسه فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه وعرف حقيقة الأمر، ما عنَّفَهُ بل أقام حُكم الله في هذا الذمي وهو أن يُقتل.
3 - وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ (2) ... .
وهذا تغيير باليد وقع من غير حاكم كما ترى.
خامسًا: فعل التابعين
1 - عن إبراهيم قال: [كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري معهن الدفوف في الطرق فيخرقونها] (3).
2 - عَنْ أَبِى حَصِينٍ: أَنَّ رَجُلاً كَسَرَ طُنْبُورًا لِرَجُلٍ فَرَفَعَهُ إِلَى شُرَيْحٍ فَلَمْ يُضَمِّنْهُ (4) ... .
وعدم تضمين القاضي شريح لهذا الرجل يدل على أنه يجوز له كسر هذا الطنبور.
سادساً: أقوال العلماء في هذه المسألة
__________
(1) - أخرجه البيهقي (9/ 201) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 9 / ص 201) برقم (19181) وأبو عبيد في كتاب الأموال (485) والحديث حسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/ 119). والمجموع شرح المهذب - (ج 19 / ص 424)
(2) - علقه البخاري في كتاب الجنائز باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ. (81) بصيغة الجزم و وقد ذكر الحافظ في الفتح (3/ 264) أن ابن سعد أخرجه موصولاً. والفسطاط بيت من الشَّعر وقد يطلق على غير الشَّعر.
(3) - أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (4/ 240) وتهذيب الآثار للطبري - (ج 4 / ص 394) برقم (1637) بسند صحيح ...
(4) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 6 / ص 101) برقم (11884) وتهذيب الآثار للطبري - (ج 4 / ص 397) برقم (1640) وفتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 410) وهو حديث حسن(1/160)
(1) من أقوال الحنفية:
قال الإمام أبو بكر الجصاص: ((وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَهُمَا حَالَانِ: حَالٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتُهُ، فَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَنْ يُزِيلَهُ؛ وَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إزَالَتُهُ إلَّا بِالسَّيْفِ، وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
كَمَنْ رَأَى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ}،فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ)) (1) أ. هـ.
(2) من أقوال المالكية:
1 - قال الإمام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنكَرِ} (آل عمران:104):
((الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ}.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَرِيبِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَدَأَ فِي الْبَيَانِ بِالْأَخِيرِ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْيَدِ.
يَعْنِي أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ مُتَعَاطِيهِ بِنَزْعِهِ وَبِجَذْبِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا بِمُقَاتَلَةٍ وَسِلَاحٍ فَلْيَتْرُكْهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إلَى السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مَخْرَجًا إلَى الْفِتْنَةِ، وَآيِلًا إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، إلَّا أَنْ يَقْوَى الْمُنْكَرُ؛ مِثْلُ أَنْ يَرَى عَدُوًّا يَقْتُلُ عَدُوًّا فَيَنْزِعُهُ عَنْهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَدْفَعَهُ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ قَتَلَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُسَلِّمُهُ بِحَالٍ، وَلْيُخْرِجْ السِّلَاحَ.)) (2).
ويلاحظ هنا قول الإمام أبو بكر بن العربي: ((فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان)) ومعنى ذلك أن ما قبل ذلك من تغيير باليد من غير سلاح ليس محتاجاً إلى السلطان، ومع ذلك فقد استثنى الشيخ حالة يجوز فيها للآحاد استعمال السلاح وهي أن يقوى المنكر كأن يرى رجلاً يقتل آخر ويتحقق أنه لو تركه قتله، فهنا يجوز له إشهار السلاح في تغيير هذا المنكر.
__________
(1) - (أحكام القرآن) للجصاص (2/ 31). و أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 460)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي (1/ 293) و أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 115)(1/161)
2 - نقل النووي في شرح حديث: [من رأى منكم منكراً] قولاً للقاضي عياض يقول فيه: ((هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي صِفَة التَّغْيِير فَحَقُّ الْمُغَيِّر أَنْ يُغَيِّرهُ بِكُلِّ وَجْه أَمْكَنَهُ زَوَاله بِهِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا؛ فَيَكْسِر آلَات الْبَاطِل، وَيُرِيق الْمُسْكِر بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُر مَنْ يَفْعَلهُ، وَيَنْزِع الْغُصُوبَ وَيَرُدَّهَا إِلَى أَصْحَابهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَهُ وَيَرْفُق فِي التَّغْيِير جَهْده بِالْجَاهِلِ وَبِذِي الْعِزَّة الظَّالِم الْمَخُوف شَرّه؛ إِذْ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى قَبُول قَوْله.)) (1) ?.
وكلام القاضي عياض هنا يبين صفة التغيير أيَّاً كان المغير حاكماً أو محكوماً فله أن يكسر آلات الباطل أو يريق المسكر أو ينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه، فلم يفرق في ذلك بين الوالي والرعية.
3 - وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الَّنَبِيِينَ بِغَيْرِ حَقٍ .... } (آل عمران:21): ((ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه، إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به)) (2).
فانظر كيف عبر بقوله (زيد) وذلك يفيد أنه أي فرد ولا يشترط أن يكون الحاكم، هذا وقد مر بنا من قبل عند ذكر الإجماع ما نقله القرطبي - رحمه الله - من ذكر الإجماع على أن تغيير المنكر واجب على كل من قدر عليه باليد فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه.
4 - قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: ((فانظروا يرحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها)) (3).
وهذا من الإمام الطرطوشي خطاب للمسلمين جميعاً، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل.
(3) من أقوال الشافعية:
1 - قال الإمام النووي: ((قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّه: وَيَسُوغ لِآحَادِ الرَّعِيَّة أَنْ يَصُدَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَة وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع عَنْهَا بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْر إِلَى نَصْبِ قِتَال وَشَهْر سِلَاح. فَإِنْ اِنْتَهَى الْأَمْر إِلَى ذَلِكَ رَبَطَ الْأَمْر بِالسُّلْطَانِ)) (4).
2 - وقال إمام الحرمين - الجويني- أيضاً في غياث الأمم عند الحديث عن خلو
الزمان عن الإمام أو الخليفة: ((أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم لكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجُمَع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص
__________
(1) - شرح صحيح مسلم (2/ 25) و شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وفتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 181) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6434)
(2) - تفسير القرطبي (4/ 49) و الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 970)
(3) - الحوادث والبدع ص:105 و. الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 1 / ص 295)
(4) - شرح صحيح مسلم (2/ 25) وشرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 393)(1/162)
في النفس والطرف فيتولاه الناس عند خلو الدهر، ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فهم من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (1).
ومن هذا النص يتبين لنا أن الجويني -رحمه الله- يرى أن ما يسوغ لآحاد الرعية أن يقوموا به من غير إذن السلطان-وإن كان الأدب يقتضي مراجعته في ذلك-،فإن الناس يقومون به إذا خلا الزمان عن إمام. وذكر من أمثلة ذلك عقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف.
وأنه لو سعى طوائف من ذوي النجدة في حال غياب الإمام بنفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد فإن ذلك من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويدل هذا الجزء الأخير من كلام الجويني على أن القيام بتغيير المنكر وتطهير الأرض من الساعين فيها بالفساد جائز لآحاد الرعية سواء في حال وجود الإمام أو حال غيابه -والله أعلم-
3 - قال الإمام الغزالي في الإحياء بعد كلام له في عدم وجوب استئذان الإمام في التغيير: (( ... وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام، وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي ... )) (2).
وقال عند ذكره لدرجات الحسبة: الدرجة السابعة: ((مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف)) (34).
وقال: ((الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح وربما يستمد الفاسق أيضًا بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان، ويتقاتلا فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام، فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد، وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه، ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛ لأن الكافر لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو
__________
(1) - غياث الأمم في التياث الظلم ص:279 وغياث الأمم في التياث الظلم - (ج 1 / ص 153)
(2) - إحياء علوم الدين (2/ 315) و الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6043) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 152)(1/163)
شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله، والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة فلا يغير به قانون القياس)) (1) أ. هـ.
ويتضح من هذا العرض لكلام الغزالي .. أن تغيير المنكر باليد له درجات:
الأولى: إزالة المنكر من غير تعرض لفاعله، وهي الدرجة الخامسة في ترتيب الغزالي لدرجات الحسبة، فهذه كما رأينا في كلامه جائزة للآحاد ولا تفتقر إلى إذن الإمام.
الثانية: وهي مباشرة الضرب باليد والرجل؛ أي ضرب فاعل المنكر ما لم يصل الأمر إلى شهر السلاح، وهي الدرجة السابعة في ترتيب الغزالي، فهذه أيضًا جائزة بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة
الثالثة: وهي شهر السلاح وجمع الأعوان وهي الدرجة الثامنة في ترتيب الغزالي، وهذه الدرجة هي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء فمنهم من أجازها لآحاد الرعية ومنهم من قصرها على الحكام وقد رجح الغزالي جوازها لآحاد الرعية كما رأينا.
قال الشيخ محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق تعقيبًا على كلام الغزالي السابق:
((وهذا نص يكتب بماء الذهب وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب)) (2).
4 - وقد تكلم ابن القيم في الطرق الحكمية عن تكسير آلات اللهو والصور، وهل يضمن من يكسر شيئًا من ذلك؟ فقال: ((وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ الْمُبْطِلِ لِلصُّورَةِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ: فَغَيْرُ مَضْمُونٍ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْإِزَالَةِ،)) (3).
وذلك يعني أن الرجل إذا أتلف الجزء المحرم فلا شيء عليه، فإن تعدى ذلك إلى إتلاف ما ليس بمحرم فإنه يضمن بقيمة ذلك.
5 - قال الإمام النووي -في شرح حديث أبي سعيد الذي في باب صلاة العيدين-: ((وَفِيهِ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَر عَلَيْهِ وَالِيًا وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْكَار عَلَيْهِ يَكُون بِالْيَدِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ، وَلَا يُجْزِي عَنْ الْيَد اللِّسَان مَعَ إِمْكَان الْيَد.)) (4).
وقال في رياض الصالحين عند ذكره لحديث أم سلمة: [إنه يستعمل عليكم
أمراء ... إلخ] قال: ((معناه: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ إنْكَاراً بِيَدٍ وَلا لِسَانٍ فقَدْ بَرِىءَ مِنَ الإِثْمِ، وَأَدَّى وَظيفَتَهُ، وَمَنْ أَنْكَرَ بحَسَبِ طَاقَتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ هذِهِ المَعْصِيَةِ وَمَنْ رَضِيَ بِفِعْلِهِمْ وَتَابَعَهُمْ فَهُوَ العَاصِي)) (5) ... .
__________
(1) - المصدر السابق (2/ 332).
(2) - المنطلق ص:152.
(3) - (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص:272 و الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 368)
(4) - شرح صحيح مسلم (6/ 178) و شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 280)
(5) - رياض الصالحين - (ج 1 / ص 33) ورياض الصالحين - (ج 1 / ص 148) ورياض الصالحين ص:116 وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 8 / ص 429) وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 2 / ص 196)(1/164)
وقال في كتاب الأربعين النووية: ((وأعلى ثمرة الإيمان في باب النهي عن المنكر؛ أن ينهي بيده وإن قتل شهيدًا، قال الله تعالى: {يَا بُنيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعَرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لقمان:17)) (1).
6 - قال ابن دقيق العيد: ((قالوا ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولاية، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين)) (2).أ. هـ.
ويلاحظ في ذلك أنه أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لآحاد المسلمين ولم يستثن من درجاته شيئاً فدل ذلك على أن جميع الدرجات ثابتة لآحاد المسلمين بما فيها اليد، والله أعلم.
(4) من أقوال الحنابلة:
1 - قال العلامة ابن القيم: ((وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ أَوْ طَبْلًا مُغَطًّى: أَيَكْسِرُهُ؟ قَالَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ كَسَرَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكْسِرُ الطُّنْبُورَ، أَوْ الطَّبْلَ: عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَكْسِرُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْرِ الطُّنْبُورِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مَعَ الصَّبِيِّ؟ قَالَ: يُكْسَرُ أَيْضًا، قُلْت: أَمُرُّ فِي السُّوقِ، فَأَرَى الطُّنْبُورَ يُبَاعُ: أَأَكْسِرُهُ؟ قَالَ: مَا أَرَاك تَقْوَى، إنْ قَوِيتَ - أَيْ فَافْعَلْ - قُلْت: أُدْعَى لِغُسْلِ الْمَيِّتِ، فَأَسْمَعُ صَوْتَ الطَّبْلِ؟ قَالَ: إنْ قَدَرْت عَلَى كَسْرِهِ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ.
وَقَالَ: فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ - فِي الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَالطَّبْلَ وَالْقِنِّينَةَ - قَالَ: فَإِذَا كَانَ طُنْبُورٌ أَوْ طَبْلٌ، وَفِي الْقِنِّينَةِ مُسْكِرٌ: اكْسِرْهُ.
وَفِي " مَسَائِلِ صَالِحٍ " قَالَ أَبِي: يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيُفْسِدُ الْخَمْرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ قُضَاةِ الْعَدْلِ.)) (3).
وقال ابن القيم أيضًا في نفس الكتاب: ((وقال الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دُفِعَ إلَيَّ إبْرِيقُ فِضَّةٍ لِأَبِيعَهُ، أَتَرَى أَنْ أَكْسِرَهُ، أَوْ أَبِيعَهُ كَمَا هُوَ؟ قَالَ: اكْسِرْهُ.
__________
(1) الأربعون النووية ص:111.
(2) - شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص:137،وابن دقيق هو فقيه المذهبين الشافعي والمالكي. و شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 29) وشرح الأربعين نووية - (ج 1 / ص 86) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 4)
(3) - الطرق الحكمية ص: 271،272 والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 367)(1/165)
وَقَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا، فَجِيءَ بِطَسْتِ فِضَّةٍ، وَإِبْرِيقِ فِضَّةٍ، فَكَسَرَهُ، فَأَعْجَبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَسْرُهُ.
وَقَالَ: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِمُكْحُلَةٍ رَأْسُهَا مُفَضَّضٌ، فَقَطَعْتهَا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَتَبَسَّمَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الصِّيَاغَةَ مُحَرَّمَةٌ، فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَلَا حُرْمَةَ.
وَأَيْضًا: فَتَعْطِيلُ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَطْلُوبٌ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.)) (1).
2 - قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- عند حديثه عن الوليمة وما يفعله من دُعي إليها فوجد فيها معصية: (((5672) فَصْلٌ: فَإِنْ رَأَى نُقُوشًا، وَصُوَرَ شَجَرٍ، وَنَحْوَهَا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ نُقُوشٌ، فَهِيَ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ.
وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ صُوَرُ حَيَوَانٍ، فِي مَوْضِعٍ يُوطَأُ أَوْ يُتَّكَأُ عَلَيْهَا، كَاَلَّتِي فِي الْبُسُطِ، وَالْوَسَائِد، جَازَ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى السُّتُورِ وَالْحِيطَانِ، وَمَا لَا يُوطَأُ، وَأَمْكَنَهُ حَطُّهَا، أَوْ قَطْعُ رُءُوسِهَا، فَعَلَ وَجَلَسَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، انْصَرَفَ وَلَمْ يَجْلِسْ؛ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ.)) (2).
3 - وقال ابن القيم عند حديثه عن الأنصاب: ((وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله تعالى كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين)) (3).
4 - قال الإمام ابن كثير: ((وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك.)) (4).
5 - وقال ابن القيم عند حديثه عن طائفة يغنون في المساجد: ((ومن أعظم المنكرات: تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله فى المسجد الأقصى، عشية عرفة. ويقيمونه أيضاً فى، مسجد الخيف أيام منى. وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفى مراراً، ورأيتهم يقيمون بالمسجد الحرام نفسه والناس فى الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم. ورأيتهم يقيمون بعرفات، والناس فى الدعاء، والتضرع، والابتهال والضجيج إلى الله، وهم فى هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء.)) (5).
__________
(1) - الآداب الشرعية - (ج 1 / ص 213) و المصدر السابق ص:274،275.والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 371)
(2) - المغني لابن قدامة (8/ 111).و المغني - (ج 15 / ص 499) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 2525)
(3) - إغاثة اللهفان (1/ 212) و الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 1 / ص 297) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 10 / ص 189)
(4) - البداية والنهاية (14/ 12) و البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 15 / ص 71)
(5) - إغاثة اللهفان (1/ 231).و موسوعة كتب ابن القيم - (ج 66 / ص 189)(1/166)
فمن هذا يتبين أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه كانوا يباشرون التغيير بأيديهم؛ لعلمهم أنه ليس هناك من دليل على اختصاص ذلك بالولاة.
6 - قال ابن رجب الحنبلي: ((التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ،)) (1).
(5) من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين من العلماء:
1 - قال الإمام ابن حزم في المحلى في (أحكام الإمامة) ((- مَسْأَلَةٌ: وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إنْ قَدَرَ بِيَدِهِ فَبِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِلِسَانِهِ فَبِقَلْبِهِ وَلا بُدَّ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلا إيمَانَ لَهُ.
وَمَنْ خَافَ الْقَتْلَ أَوْ الضَّرْبَ، أَوْ ذَهَابَ الْمَالِ، فَهُوَ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ بِقَلْبِهِ فَقَطْ وَيَسْكُتَ عَنْ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقَطْ.
وَلا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ: الْعَوْنُ بِلِسَانٍ، أَوْ بِيَدٍ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُنْكَرِ أَصْلا)) (2).
2 - قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار: ((كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكراً أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وظهور كون الشيء منكراً يحصل بكونه مخالفاً لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو لإجماع المسلمين، ثم إذا كان قادراً على تغييره بيده كان ذلك فرضاً عليه ولو بالمقاتلة، وهو إن قُتل فهو شهيد، وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله، ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها، فإذا كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرض، فإن لم يستطع الإنكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -)) (3).
فهذه أقوال العلماء من فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، تبين بوضوح وجلاء جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية، وإنما وقع الخلاف فيما لو وصل التغيير باليد إلى جمع الأعوان وشهر السلاح، ففيهم من أجاز التغيير عند ذلك أيضاً كالغزالي -رحمه الله - ومنهم من منع التغيير حينئذٍ كالإمام الجويني.
__________
(1) - جامع العلوم والحكم شرح حديث [من رأى منكم منكرًا] ص:282 و. جامع العلوم والحكم - (ج 34 / ص 8) وجامع العلوم والحكم محقق - (ج 36 / ص 8)
(2) - المحلى (9/ 361). و المحلى [مشكول و بالحواشي]- (ج 8 / ص 445) برقم (1776) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4712) و المحلى لابن حزم - (ج 5 / ص 277)
(3) - السيل الجرار (4/ 586). و السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 982)(1/167)
وفي مثل هذا الخلاف يمكننا - والله أعلم - أن نجمع بين الرأيين؛ وذلك بالنظر إلى جسامة المنكر وخطورته، فإذا كان المنكر من الجسامة بحيث يترتب على بقائه مفسدة أكبر من تلك التي تتوقع من تغييره عن طريق شهر السلاح وجمع الأعوان، فلا بأس حينئذٍ من اللجوء إلى هذه الوسيلة في التغيير، أما إن كان المنكر أهون من ذلك، فلا يلجأ حينئذٍ إلى تلك الوسيلة، وهذا يدخل في باب قياس المصالح والمفاسد.(1/168)
الفصل الثاني -ضوابط التغيير باليد
بعد أن تحدثنا عن جواز التغيير باليد لآحاد الرعية، لابد أن نعلم أن هناك شروطاً لذلك، وقد استنبط العلماء هذه الشروط من نظراتهم في النصوص الشرعية وفي المقاصد العامة للشريعة، ونحن نبين في هذا الفصل أهم هذه الشروط وهي:
أولاً: أن يكون المنكر موجوداً في الحال:
فلا تغيير باليد لمنكر لم يقع بعد ولا لمنكر قد وقع وانتهى، وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي: ((المعصية لها ثلاثة أحوال:
إحداها: أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد، أو تعزير وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد
والثانية: أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها؛ كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت لآحاد الرعية.
الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة)) (1).
ثانياً: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس:
وذلك لعموم النصوص الناهية عن التجسس كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اْجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تجَسَّسُوا ... } (الحجرات:12)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» (2).
و عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ أُتِىَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَىْءٌ نَأْخُذْ بِهِ (3)،إلى غير ذلك من الأدلة القاضية بحرمة التجسس على المسلمين ولا يستثنى من ذلك إلا حالة الضرورة؛ كأن يتعين البحث والتجسس طريقاً لإنقاذ نفس من الهلاك، قال النووي في شرح مسلم: ((وَقَالَ أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ
__________
(1) - إحياء علوم الدين (2/ 324) وإحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 160)
(2) - أخرجه البخاري (5143،4064،6066،6724) ومسلم (2563) و صحيح مسلمبرقم (6701) وأبو داود (4917) ...
(3) - سنن أبى داود برقم (4892) و أخرجه أبو داود (4890) وهو صحيح(1/169)
يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات. فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اِسْتِسْرَار قَوْم بِهَا لِأَمَارَة وَآثَار ظَهَرَتْ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ.
أَحَدهمَا: أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي اِنْتَهَاك حُرْمَة يَفُوت اِسْتِدْرَاكهَا، مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلهُ أَوْ بِامْرَأَةِ لِيَزْنِيَ بِهَا فَيَجُوز لَهُ فِي مِثْل هَذَا الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِم عَلَى الْكَشْف وَالْبَحْث حَذَرًا مِنْ فَوَات مَا لَا يُسْتَدْرَك. وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَة جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَام عَلَى الْكَشْف وَالْإِنْكَار.
الضَّرْب الثَّانِي: مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَة فَلَا يَجُوز التَّجَسُّس عَلَيْهِ، وَلَا كَشْف الْأَسْتَار عَنْهُ. فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَات الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَة مِنْ دَارٍ أَنْكَرَهَا خَارِج الدَّار لَمْ يَهْجُم عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْمُنْكَر ظَاهِر وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِف عَنْ الْبَاطِن)) (1).
ثالثاً: أن يلتزم الدرجات الشرعية التي ذكرها العلماء في التغيير:
فقد ذكر الغزالي -في الإحياء-: ((أن درجات التغيير تبدأ بالتعريف؛ أي تعريف الفاعل للمنكر أن هذا منكر، ثم الوعظ اللين ثم السب والتعنيف بالقول ثم التغيير باليد؛ ككسر الملاهي وإراقة الخمر ثم التهديد والتخويف ثم مباشرة الضرب باليد والرجل ثم جمع الأعوان وشهر السلاح)) (2).
وهذه الدرجات يمكن تقسيمها إلى نوعين: أحدهما الإصلاح بالوعظ، والآخر الإصلاح بالقوة على هذا الترتيب (3)، والأصل في ذلك ما ورد في أمر الجهاد من البدء بالدعوة قبل القتال وكذا قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اْقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي .... } (الحجرات:9)،فأمر بالإصلاح قبل القتال.
قال القرطبي: ((فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تُلُقي من قوله تعالى: {فَقَاتِلُواْ الْتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلىَ أَمْرِ اللهِ})) (4).
وقال ابن العربي: ((وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْيَدِ.)) (5).
وقال الشوكاني: ((ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين، فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن، فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد، ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها)) (6).
__________
(1) - شرح مسلم (2/ 26) و شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) و فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 231) وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 8 / ص 125) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6061) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 39 / ص 393)
(2) - انظر إحياء علوم الدين (2/ 329 - 333).
(3) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجلال الدين العمري ص:174.
(4) - الجامع لأحكام القرآن (4/ 49). و الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 970)
(5) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 293). و أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 115)
(6) - السيل الجرار (4/ 586). و السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 982)(1/170)
لكن إن علم أنه لا ينتهي عن منكره بمجرد القول، جاز له البدء بالدرجة الأعلى، وقد قال الجصاص: ((كَمَنْ رَأَى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ}،فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ:" وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ " وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ:" وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ:" يَسَعُكَ قَتْلُهُ " وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك، قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ " وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ.
وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ} يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ.
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ: إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ.
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ، وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ، وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا مِنْهُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ، فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ؛ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ، وَذَلِكَ إذَا رَجَا أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجُ(1/171)
ذَلِكَ، وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ.
} وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:" إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.)) (1).
رابعاً: أن يقتصر على القدر المحتاج إليه:
فإذا أمكن أن يغير المنكر بيده دون التعرض لفاعله، فليس له أن يباشر الضرب على فاعل المنكر، وإن احتاج إلى ضربه: فإن كان المنكر يندفع بضربه بيده فليس له رفع العصا في وجهه، وقد قال الغزالي -رحمه الله- ((وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده، فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط)) (2).
وقد مر بنا ما نقله ابن القيم في الطرق الحكمية عن الشافعية في أن المغير إذا أتلف ما زاد عن الحد المبطل للصورة، فإنه يُضمن بقيمة ذلك، وإنما كان الأمر كذلك لأنه مأمور بإزالة المنكر فقط، ومتى قدر على إزالة المنكر بغير إيذاء فاعله لم يكن له إيذاؤه، ومتى أمكن إزالة المنكر بأذى قليل، لم يجز الأذى الكثير - والله أعلم-
خامساً: أن لا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه:
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية فقال:
((إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ؛ بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ؛ لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا وَإِلَّا اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَقُلْ إنْ تعوز النُّصُوصَ مَنْ يَكُونُ خَبِيرًا بِهَا وَبِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ. وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّخْصُ أَوْ الطَّائِفَةُ جَامِعَيْنِ بَيْنَ مَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوهُمَا جَمِيعًا؛ أَوْ يَتْرُكُوهَا جَمِيعًا: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرُوا بِمَعْرُوفِ وَلَا أَنْ يُنْهُوا مِنْ مُنْكَرٍ؛ يَنْظُرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَكْثَرَ أَمَرَ بِهِ؛ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ. وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَعْرُوفٍ أَعْظَمَ مِنْهُ؛ بَلْ يَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَزَوَالِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ أَغْلَبَ نَهَى عَنْهُ؛ وَإِنْ
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص (1/ 31،32). و أحكام القرآن للجصاص - (ج 3 / ص 461) فما بعدها
(2) - الإحياء (2/ 331).(1/172)
اسْتَلْزَمَ فَوَاتَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ. وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنْكَرِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ أَمْرًا بِمُنْكَرِ وَسَعْيًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ تَكَافَأَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ الْمُتَلَازِمَانِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُمَا. فَتَارَةً يَصْلُحُ الْأَمْرُ؛ وَتَارَةً يَصْلُحُ النَّهْيُ؛ وَتَارَةً لَا يَصْلُحُ لَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ حَيْثُ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ مُتَلَازِمَيْنِ؛ وَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الْوَاقِعَةِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّوْعِ فَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا. وَفِي الْفَاعِلِ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَةِ يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفِهَا وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرِهَا وَيُحْمَدُ مَحْمُودُهَا وَيُذَمُّ مَذْمُومُهَا؛ بِحَيْثُ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِمَعْرُوفِ فَوَاتَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ حُصُولَ مُنْكَرٍ فَوْقَهُ وَلَا يَتَضَمَّنُ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ حُصُولَ أَنْكَرَ مِنْهُ أَوْ فَوَاتَ مَعْرُوفٍ أَرْجَحَ مِنْهُ. وَإِذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ اسْتَبَانَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا بِعِلْمِ وَنِيَّةٍ؛ وَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ عَاصِيًا فَتَرْكُ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ مَعْصِيَةٌ؛ وَفِعْلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إقْرَارُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ لِمَا لَهُمْ مِنْ أَعْوَانٍ فَإِزَالَةُ مُنْكَرِهِ بِنَوْعِ مِنْ عِقَابِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ إزَالَةَ مَعْرُوفٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِغَضَبِ قَوْمِهِ وَحَمِيَّتِهِمْ؛ وَبِنُفُورِ النَّاسِ إذَا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛)) (1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((إنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ)) فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ،
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ،
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ،
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 129 - 131)(1/173)
لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ.)) (1).
هذا ونحب أن نؤكد على قضية مهمة وهي أن قياس المصالح والمفاسد يجب أن يكون بمقياس الشرع، لا بمقياس العقول والأهواء، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا وَإِلَّا اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ)) (2).
سادساً: أن لا ينكر العامي إلا في الأمور الجلية الظاهرة التي لا تحتاج إلى اجتهاد:
وفي ذلك يقول النووي -رحمه الله-: ((إِنَّمَا يَأْمُر وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُر بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الشَّيْء؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة، وَالْمُحَرَّمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزِّنَا وَالْخَمْر وَنَحْوهَا، فَكُلّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاء بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِق الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال وَمِمَّا يَتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَل فِيهِ، وَلَا لَهُمْ إِنْكَاره، بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ. ثُمَّ الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ لِأَنَّ عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ. وَعَلَى الْمَذْهَب الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد وَالْمُخْطِئ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا، وَالْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُ، لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف إِذَا لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر.)) (3).
وإنما اشترط ذلك لأن الجاهل قد يوقعه جهله في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وهو لا يدري، كما أنَّا قد قدمنا أنه يلزمه تقديم الدعوة والبيان، وأنَّى له أن يدعو وأن يبين وهو جاهل، والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلىَ اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف:108)
فمن أين له بالبصيرة في دقائق العلم وهو عاميٌّ جاهل.
__________
(1) - إعلام الموقعين (3/ 7،8) وفتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 368) وموسوعة كتب ابن القيم - (ج 39 / ص 3) والإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 169) و إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 151)
(2) - رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (28/ 129) و مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 129) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6030) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 382)
(3) - شرح مسلم (2/ 23) و شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 131) وشرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 29) ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 15 / ص 6) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 4 / ص 4) وشرح البهجة الوردية - (ج 18 / ص 348) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4555)(1/174)
الباب الثاني
نص رسالة الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
مقدمةُ
قاعدةِ الحسبةِ
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ؛ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إلَيْهِ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (1)؛ أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (2)، فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ. وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ. وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا؛ وَآذَانًا صُمًّا؛ وَقُلُوبًا غُلْفًا (3)، حَيْثُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ؛ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ؛ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ (4)؛ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ (5)؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا؛ وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ: ((قَاعِدَةٌ فِي الْحِسْبَةِ)).أَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ؛ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا (6)؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَبِهِ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء، وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ
__________
(1) - أصله حديث في صحيح مسلم برقم (2045)
(2) - لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (46) سورة الأحزاب
(3) - الحديث في صحيح البخارى برقم (4838) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِى فِى الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) قَالَ فِى التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.= الحرز: الحصن، سخاب: صيَّاح
(4) - استنادا لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج
(5) - لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (99) سورة الحجر واليقين الموت
(6) - لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الأنفال، الآية:39](1/175)
اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36) سورة النحل.
وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف، وَعِبَادَاتُهُ تَكُونُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (- صلى الله عليه وسلم -) وَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ وَالْبِرُّ؛ وَالتَّقْوَى وَالْحَسَنَاتُ؛ وَالْقُرُبَاتُ وَالْبَاقِيَاتُ وَالصَّالِحَاتُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَيْنَهَا فُرُوقٌ لَطِيفَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا.
وَهَذَا الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْخَلْقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) (39) سورة الأنفال. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى مُوسَى -
__________
(1) - لقد جاء الإسلام ليكون إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين. . وأن معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها , والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض , الحكم فيه للبشر في صورة من الصور. . . الخ.
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين , ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان , ويرجعون بعبوديتهم لله وحده , ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال. . وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام , وتنفذه في عالم الواقع , وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين , أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه. .
وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأول , ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها , بحيث لا تكون هناك دينونةإلا لله وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله - وليس هو مجرد الاعتقاد. .
إن الذي يعنيه هذا النص: (ويكون الدين كله لله). . هو إزالة الحواجز المادية , المتمثلة في سلطان الطواغيت , وفي الأوضاع القاهرة للأفراد , فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله , ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله. . فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين , ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى , ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله. .
إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم , على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً , فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد.
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله , ولن يتحرر "الإنسان" في "الأرض" , إلا حين يكون الدين كله لله , فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له , قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه , ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره , وتركوا هذا لله:
(فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير). .
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
(وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم. نعم المولى ونعم النصير). .
هذه تكاليف هذا الدين ; وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ; ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس. .في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 215)(1/176)
رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» (1).
وَكُلُّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ (2)،فَالتَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى جَلْبِ مَنَافِعِهِمْ؛ وَالتَّنَاصُرُ لِدَفْعِ مَضَارِّهِمْ (3)؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ (4). فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أُمُورٍ يَفْعَلُونَهَا يَجْتَلِبُونَ بِهَا الْمَصْلَحَةَ. وَأُمُورٍ يَجْتَنِبُونَهَا لِمَا
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (5029)
(2) - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات
(3) - قال تعالى: { .. وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة
(4) - إن الإنسان بدافع من طبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده ويسعى إلى المحافظة على وجوده من خلال مجتمع من الأفراد يعيش بينهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل طبيعته لا تمكنه من العيش بمعزل عن الناس، ولا يمكن أن يقوم وحده بسد حاجاته، بل هو مضطر إلى أن يعيش في جماعة يتفاعل معها وتتفاعل معه، فيتبادل مع هذه الجماعة المنافع، وبهذا تنشأ بين أفراد هذه الجماعة علائق متعددة، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وغيرها وهذه العلائق لا يمكن أن تقوم بحال إلا وفق ضوابط تحكمها، حتى لا يختل توازن هذه الجماعة، وهذه الضوابط هي النظم والقوانين، فبدون القانون تصبح الأمور فوضى تسير وفق الأهواء والرغبات الفردية، وحالة عدم وجود القانون حالة لا يمكن أن يتصور دوامها لأن مجرى السنة الكونية يحتم وجود قانون، ولو افترض وجود حالة الفوضى فلا بد أن يكون الحكم للقوة، فيتحكم الأقوياء بالضعفاء، وفق ما يريدون ويشتهون فيكون هناك قانون القوة أو الغابة، بغض النظر عن كون هذا القانون سليما وموافقا للحق أو بعكس ذلك. ومن هنا يتبين أن القانون ضرورة اجتماعية لا بد منه؛ ليحكم نشاط الأفراد، وينظم علاقاتهم.
ولم يدع الله تعالى الناس يشرعون من القوانين حسب أهوائهم وشهواتهم، بل أنزل لهم تشريعا كاملا متكاملا، وكان هذا التشريع مرافقا لرحلة هذا الإنسان على الأرض قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه/123 - 127]
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة
ويقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: (إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج، وعمّ السيف وشمل القحط، وهلكت المواشي، وتعطلت الصناعات، وكان كل من غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أُسٌّ والسلطان حارس، ومالا أُسَّ له فمهدوم. وما لا حارس له فضائع وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم، وما هم عليه من تشتت الأهواء، وتباين الآراء لو خُلُّوا وشأنهم، ولو لم يكن لهم رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم , وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدين ونظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعًا، فكان وجوب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك. أ. هـ ((الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص 199) ط. 1393 هـ. ن. مكتبة الجندي بمصر.)،).
قلت: وخير دليل على ذلك: الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، ففيه دلالة قاطعة على أنه لن تقوم للإسلام قائمة إلا بالرجوع إلى الله، ثم السعي إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي ما فتئ أعداء الإسلام ينخرون في جنباتها حتى قوضوها، وصار لهم ما أرادوا فبعد أن أُبعدت الخلافة الإسلامية، ونُحي الإسلام عن قيادة الأمة، عُطلت الحدود، وانتهكت الأعراض والحرمات، وعطلت راية الجهاد، وقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات متناحرة يضرب بعضها رقاب بعض. وسلبت خيرات المسلمين من أراضيهم، وتكالبت عليهم الأمم الكافرة من كل حدب وصوب (وما الذل الذي يخيم على المسلمين فيجعلهم يعيشون على هامش العالم، وفي ذيل الأمم ومؤخرة التأريخ، إلا قعود المسلمين عن العمل لإقامة الخلافة وعدم مبادرتهم إلى نصب خليفة لهم التزامًا بالحكم الشرعي الذي أصبح معلومًا من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم والحج، فالقعود عن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية معصية من أكبر المعاصي، لذلك كان نصب خليفة لهذه الأمة فرضًا لازمًا لتطبيق الأحكام على المسلمين، وحمل الدعوة الإسلامية إلى جميع أنحاء العالم).
لذلك فلا خلاص لهذه الأمة مما هي فيه اليوم من الذل والهوان إلا بالإنابة إلى الله، ثم إقامة حكم الله على هذه الأرض وفق ما ارتضى لها ربها عز وجل.
انظر للتوسع مقدمة ابن خلدون - (ج 1 / ص 5) والإسلام والدستور - (ج 1 / ص 9) وحجة الله البالغة - (ج 2 / ص 199) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 13 / ص 379) ومجلة المنار - (ج 1 / ص 774) ومجلة المنار - (ج 1 / ص 866) ومجلة المنار - (ج 2 / ص 321) ومجلة المنار - (ج 4 / ص 9) وتكملة حاشية رد المحتار - (ج 2 / ص 17) وتهذيب الأخلاق - (ج 1 / ص 10) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 4 / ص 54) والإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 19 - 20)(1/177)
فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ؛ وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ لِلْآمِرِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّاهِي عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، فَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ مُلُوكَهُمْ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ؛ مُصِيبِينَ تَارَةً وَمُخْطِئِينَ أُخْرَى (1)، وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ: مُطِيعُونَ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَغَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَمُتَّفِقُونَ عَلَى الْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ (2).فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ (3) وَلِهَذَا يُرْوَى:" {اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً} (4) ".
__________
(1) - قال تعالى على لسان فرعون: { .. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (29) سورة غافر
(2) - يعني إثابة الطائع ومعاقبة العاصي، وهذا موجود في جميع قوانين الأرض فهي تنص على الثواب والعقاب، بصرف النظر عن كونه موافقا لمنهج الله تعالى أم
(3) - إن أحكام الإسلام عدل كلها، وحكمة كلها، وخير كلها، لأنها من عند الله الحكيم العليم، وإذا كان الله تعالى قد ذكر أن العمل بالتوراة والإنجيل من أسباب الرخاء والحياة الطيبة فقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة:66]
فلأن يكون ذلك بإقامة أحكام القرآن من باب أولى، فهو الكتاب الذي أنزله الله "مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه"
فمن أقام أحكام الإسلام فقد أقام العدل وحصل له الخير والبركة، وكذلك لو أن المسلمين لم يقيموا دينهم، ويعملوا به، فسدت عليهم الدنيا، وعم فيهم الشر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم " فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة.
والله أعلم. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4426)
رقم الفتوى 24439 من أقام أحكام الإسلام فقد أقام العدل وحصلت له البركة تاريخ الفتوى:23 شعبان 1423
(4) - أمر الإسلام بالعدل، وجعله غاية الحكم الإسلامي وهدفه، والعدل هو: إعطاء كل ذي حق حقه كاملاً غير منقوص. وهذا العدل مسئولية الحاكم، وواجب من الواجبات المفروضة عليه، والأمة لها الحق في أن تحاسب الحاكم إذا ظلم أحدًا. ويشمل العدل كل الحقوق المتعلقة بالأرواح والأعراض والحريات والأموال، للمسلم وغير المسلم.
وتحدثت كثير من الآيات في القرآن عن العدل، وحذرت من الظلم وعواقبه، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم الله لعلكم تذكرون} [النحل: 90]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
ومن العدل أن يكون الناس أمام القانون سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا غني وفقير، فالعدل يخضع له الجميع، وبذلك يكون العدل هو أساس استمرار الدول والحفاظ عليها، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
ومن أجل أن يتحقق العدل فلابد له من قوة تحميه، ولا بد أن يكون حاكمًا لا خاضعًا، ولذلك نجد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يحرص على جعل القضاء الذي يقيم العدل مستقلاً عن كل سلطة، حتى عن سلطة الحاكم، وصار ذلك مبدأ من مبادئ الحكم الإسلامي، فعندما تولى عمر الخلافة، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، عين لكل إقليم قاضيًا مستقلاً، ونظم السلطة القضائية وميزها عن غيرها.
إن العدل يشعر المواطن بالأمن على ماله وعرضه وسائر حقوقه، ففي ظل العدل تختفي الجريمة، وينصرف كل إنسان إلى عمله، ويسهم في بناء مجتمعه وأمته، وبالعدل يجنى الإنسان ثمرة عمله وتعبه، وينطلق في ميادين التنافس الشريف في ميادين
الخير، وبالعدل تتم المساواة، ويتفاضل الناس بحسب قدراتهم وجهدهم. إن الإسلام سبق كل الذين دَعَوْا إلى العدل، وأرسى دعائمه، وقد طبق العدل أروع تطبيق في حياة المسلمين.(1/178)
وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دُخُولَ الْمَرْءِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَهُ وَهُوَ الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ. وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ (1)،وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
__________
(1) - قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف(1/179)
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/64، 65]} (1).وَقَالَ تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء. وَقَالَ تعالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) [النساء/13 - 15]}
وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لِلْجُمُعَةِ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» (2).
وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلاَ يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا» ... (3).
وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ وَالشَّرَائِعِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ فَأَرْسَلَهُ إلَى خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (4) وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ (5) وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ (6)،وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ (7) فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (8).
__________
(1) - لقد أَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ وُجُوبَ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَأَبَانَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}،فَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَجَعَلَ مُخَالِفَ أَمْرِ الرَّسُولِ وَالْمُمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا جَاءَ بِهِ وَالشَّاكَّ فِيهِ خَارِجًا مِنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قِيلَ فِي الْحَرَجِ هَهُنَا إنَّهُ الشَّكُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ
وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْلِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَلَّا كَانَ أَمْرُ الرَّسُولِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَانَتْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهَا إرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَامِرَهُ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ " افْعَلْ " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَاحِدًا لِآمِرَيْنِ كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَائِلَيْنِ وَلَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ. أحكام القرآن للجصاص - (ج 4 / ص 451)
(2) - صحيح مسلم برقم (2042)
(3) - سنن أبى داود برقم (1099) وفي سنده جهالة
(4) - قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
(5) - قال تعالى: { .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة
(6) - ففي صحيح البخارى برقم (7280) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى».
وفي صحيح مسلم برقم (403) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
(7) - قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19) سورة آل عمران
(8) - قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران(1/180)
وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْحَدِيدَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد (1). وَلِهَذَا أَمَرَ
__________
(1) - المراد بالبينات فى قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} الحجج والدلائل التى تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله - تعالى - وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا.
والمراد بالكتاب: جنس الكتب. وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما.
والميزان: الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها فى المكاييل وغيرها. . . والمراد بها العدل بين الناس فى أحكامهم ومعاملاتهم.
وشاع إطلاق الميزان على العدل، باستعارة لفظ الميزان على العدل، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس، والمراد بإنزاله، تبليغه ونشره بين الناس.
أى: بالله لقد أرسلنا رسلنا، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم كبتنا السماوية، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه، وإلى إعطاء كل ذى حق حقه.
قال ابن كثير: يقول الله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} أى: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} وهو النقل الصدق {والميزان} وهو العدل أو وهوالحق الذى تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة.
وأكد - سبحانه - هذا الإرسال، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام، وأن رسالته إنما هى امتداد لرسالتهم. . . وقوله - تعالى -: {لِيَقُومَ الناس بالقسط} علة لما قبله. أى: أرسلنا الرسل. وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم، واستقامة أحوالهم، عن طريق التزامهم بالحق والقسط فى كل أمورهم
قال الآلوسى:" والقيام بالقسط " أى: بالعدل، يشمل التسوية فى أمور التعامل باستعمال الميزان، وفى أمور المعاد باحتذاء الكتاب، وهو - أى: القسط - لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغى الاتصاف به، معاشا ومعادا.
وقوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} معطوف على ما قبله.
والمراد بإنزال الحديد: خلقه وإيجاده. وتهيئته للناس، والإنعام به عليهم، كما فى قوله - سبحانه - {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} والمراد بالبأس الشديد: القوة الشديدة التى تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه، أى: لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم.
وأوجدنا الحديد، وأنعمنا به عليكم، ليكون قوة شديدة لكم فى الدفاع عن أنفسكم، وفى تأديب أعدائكم، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم فى مصالحكم وفى شئون حياتكم.
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب. . ومنه - ومعه غيره - تتكون القصور الفارهة، والمبانى العالية الواسعة، والمصانع النافعة. . . وآلات الزراعة والتجارة.
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله - تعالى - قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التى تهدى الناس إلى ما يسعدهم. الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4102)(1/181)
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَهُ بِتَوْلِيَةِ وُلَاةِ أُمُورٍ عَلَيْهِمْ (1) وَأَمَرَ وُلَاةَ الْأُمُورِ أَنْ يَرُدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا؛ وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (2)، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى (3)؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِى سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» (4). وَفِي سُنَنِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ (5). وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِثَلاَثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلاَةٍ إِلاَّ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» (6).
فَإِذَا كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أَقَلِّ الْجَمَاعَاتِ وَأَقْصَرِ الِاجْتِمَاعَاتِ أَنْ يُوَلَّى أَحَدُهُمْ: كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ - لِمَنْ يَتَّخِذُهَا دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ وَيَفْعَلُ فِيهَا الْوَاجِبَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، حَتَّى قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِساً إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَاباً إِمَامٌ جَائِرٌ» (7).
__________
(1) - في سنن أبى داود برقم (2610) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِى سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» وهو صحيح.
هذا في سفر قد يكون بضع ساعات، فكيف بإمرة المسلمين؟
وفي صحيح مسلم برقم (4899) عَنْ نَافِعٍ قَالَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ اطْرَحُوا لأَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً فَقَالَ إِنِّى لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
(2) - قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء
(3) - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء
(4) - سنن أبى داود برقم (2610) وهو صحيح
(5) - في سنن أبى داود برقم (2611) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِى سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» وهو صحيح.
(6) - مسند أحمد برقم (6806) وهو حسن
(7) - مسند أحمد برقم (11838) وهو ضعيف = الجور: البغي والظلم والميل عن الحق(1/182)
الفصلُ الأولُ
جِمَاعُ الدِّينِ الأَمْرُ وَالنَهْيُ
وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ؛ فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة. وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هُوَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ وَعَلَيْهِمْ مِنْ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ. فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن، الآية:16] (1).
وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ إنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى: مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرْطَةِ: وَوِلَايَةُ الْحُكْمِ؛ أَوْ وِلَايَةُ الْمَالِ وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ؛ وَوِلَايَةُ الْحِسْبَةِ. لَكِنْ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ؛ مِثْلَ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ وَمِثْلَ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ؛ وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ مِثْلَ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ، وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ: تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ وَهُمَا قَرِينَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) [الأنعام/115، 116].وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ذَكَرَ الظَّلَمَةَ:" «إِنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِى أُمَرَاءُ مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّى وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَىَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَىَّ الْحَوْضَ» (2).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 113 / ص 43) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 375) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 14 / ص 534) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 322)
(2) - سنن النسائى برقم (4224) وهو صحيح
وفي شرح سنن النسائي - (ج 5 / ص 494) 4136 -
حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ:
قَوْله (مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ) مِنْ التَّصْدِيق وَالْبَاء فِي بِكَذِبِهِمْ بِمَعْنَى فِي أَيْ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي الْكَلَام فَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِي كَلَامهمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ صَدَقْتُمْ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ
(فَلَيْسَ مِنِّي) تَغْلِيظٌ وَتَشْدِيد بِأَنَّهُ قَدْ اِنْقَطَعَ الْمُوَالَاة بَيْنِي وَبَيْنهمْ
(عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاء
(وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقهُمْ) أَيْ اِتِّقَاء وَتَوَرُّعًا وَهَذَا لَا يَكُون إِلَّا لِلْمُتَدَيِّنِ فَلِذَلِكَ قَالَ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُجَرَّد الصَّبْر عَنْ صُحْبَتهمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان مَعَ الْإِيمَان مُفْضِيًا إِلَى هَذِهِ الرُّتْبَة الْعَلِيَّة أَوْ مِنْ صَبْر يُوَفِّق لِأَعْمَالٍ تُفْضِيه إِلَى ذَلِكَ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.(1/183)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (1).
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء/221، 222]،وَقَالَ تعالَى: " كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) [العلق/15 - 17]}.
فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ اسْتَعَانَ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ (2) وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَظُلْمٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ (3) وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ (4)،وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَقْدُورِ (5).
__________
(1) - صحيح البخاري برقم (6094) وصحيح مسلم برقم (6805) واللفظ له
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 429)
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّ الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْعَمَل الصَّالِح الْخَالِص مِنْ كُلّ مَذْمُوم، وَالْبِرّ اِسْم جَامِع لِلْخَيْرِ كُلّه. وَقِيلَ: الْبِرّ الْجَنَّة. وَيَجُوز أَنْ يَتَنَاوَل الْعَمَل الصَّالِح وَالْجَنَّة. وَأَمَّا الْكَذِب فَيُوصِل إِلَى الْفُجُور، وَهُوَ الْمَيْل عَنْ الِاسْتِقَامَة، وَقِيلَ؛ الِانْبِعَاث فِي الْمَعَاصِي.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنَّ الرَّجُل لَيَصْدُق حَتَّى يُكْتَب عِنْد اللَّه صِدِّيقًا، وَإِنَّ الرَّجُل لَيَكْذِب حَتَّى يُكْتَب عِنْد اللَّه كَذَّابًا) وَفِي رِوَايَة (لِيَتَحَرَّى الصِّدْق وَلِيَتَحَرَّى الْكَذِب) وَفِي رِوَايَة (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْبِرّ. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِب) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْق، وَهُوَ قَصْده، وَالِاعْتِنَاء بِهِ، وَعَلَى التَّحْذِير مِنْ الْكَذِب وَالتَّسَاهُل فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ كَثُرَ مِنْهُ، فَعُرِفَ بِهِ، وَكَتَبَهُ اللَّه لِمُبَالَغَتِهِ صِدِّيقًا إِنْ اِعْتَادَهُ، أَوْ كَذَّابًا إِنْ اِعْتَادَهُ. وَمَعْنَى يُكْتَب هُنَا يُحْكَم لَهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَحِقّ الْوَصْف بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَثَوَابهمْ، أَوْ صِفَة الْكَذَّابِينَ وَعِقَابهمْ، وَالْمُرَاد إِظْهَار ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِينَ إِمَّا بِأَنْ يَكْتُبهُ فِي ذَلِكَ لِيَشْتَهِر بِحَظِّهِ مِنْ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَلَأ الْأَعْلَى، وَإِمَّا بِأَنْ يُلْقِي ذَلِكَ فِي قُلُوب النَّاس وَأَلْسِنَتهمْ، وَكَمَا يُوضَع لَهُ الْقَبُول وَالْبَغْضَاء وَإِلَّا فَقَدَر اللَّه تَعَالَى وَكِتَابه السَّابِق بِكُلِّ ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
(2) - يعني أحسن الموجود في عصره
(3) - ففي صحيح البخارى برقم (4203) عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِى الإِسْلاَمَ «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، حَتَّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ، فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُمًا، فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ «قُمْ يَا فُلاَنُ فَأَذِّنْ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ».
(4) - ففي مسند أحمد برقم (20994) عَنْ أَبِى بَكْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ» وهو صحيح.
(5) - قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16) سورة التغابن(1/184)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ» (1).
فَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ الْأَرْضَى مِنْ الْمَوْجُودِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَامِلٌ فَيَفْعَلُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَيَدْفَعُ شَرَّ الشَّرَّيْنِ (2)؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ (3): أَشْكُو إلَيْك جَلَدَ الْفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ (4). وَقَدْ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 118) برقم (20861) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 322) برقم (11053) والمستدرك للحاكم برقم (7023) وهو حديث حسن
(2) - إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدَّم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين.
لقد حكى الله تعالى عن الخضر عليه السلام أنه خرق السفينة التي كانت لمساكين حتى لا يستولي عليها الملك الظالم الذي يغصب السفن الصالحة من أصحابها، هذا مع أن خرقها مفسدة؛ لكن لما كان في فعلها دفع لمفسدة هي أعظم منها وهي ذهاب السفينة بأسرها واستيلاء الظالم عليها، جاز دفع تلك المفسدة العظيمة بما هو أقل فسادا منها وهو الخرق الذي يمكن إصلاحه، قال تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا {الكهف: 79} قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، وذلك ثابت في العقل؛ كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وهذا باب التعارض .. باب واسع جدا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3564)
رقم الفتوى 74088 استعمال (باب التعارض) في كشف المرأة لوجهها تاريخ الفتوى:10 ربيع الثاني 1427
(3) - لم أجده بهذا اللفظ
(4) - عجز الثقة وجَلَد الفاجر
حسن الأشرف
"اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة"، هكذا أعلنها عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ مدوية صريحة بليغة. ويحق التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء تعوذ الخليفة الثاني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصنفين من الرجال: الفاجر المثابر والجريء القوي، ومن الثقة الصالح السلبي المستكين، (الذي لا يهش ولا ينش)،ويكفيه أنه في حاله، لا يسكن أبعد من ثيابه، ولا يرى أكثر من أنفه. فلماذا تعوذ منهما عمر؟ ألهذا الحد هذان النوعان من الناس لا خير فيهما؟.
مظاهر عجز الثقة
الرجل الثقة العاجز لن يفيد الأمة بشيء يُذكَر، مادام تردده وضعفه نواقص قد حث الإسلام المسلم على عدم الاتصاف بها، فقد قال رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ''المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف''، ويضيف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السياق ذاته:'' احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان"''، فالدعوة هنا صريحة غاية الصراحة، موجهة إلى كل مسلم بأن يحرص على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، مستعينا بالله وحده، ولا يجعله فشل ما عرض في حياته أو عمله عاجزا عن الاستمرار في مساره، كما يرتضيه الله تعالى ورسوله الكريم، في شتى مناحي الحياتين: الأولى والأخرى.
والرجل الصالح إذا كان عاجزا لا ينفع المجتمع رغم شهادة الأرض له بالاستقامة والثقة، فهو بالكاد ينفع نفسه، بل قد يفضي عجزه وتردده في اتخاذ القرارات الحاسمة إلى تهيئ تربة خصبة لكثير من الآفات والأباطيل في المجتمع، فالمرء الطيب العاجز يستطيع إصلاح نفسه فقط، غير أنه لا يساهم بشكل فعال في إصلاح الجماعة، التي تحتاج أساسا إلى الإنسان الصالح المصلح أيضا، الذي تتجاوز رسالته ذاتَه إلى محاولة إصلاح المجتمع بالوسائل المتاحة له ولو كانت يسيرة قليلة. فهناك فئام من الناس يظنون أنهم بصلاتهم وزكاتهم وصومهم =(1/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وحجهم قد أدوا ما عليهم تجاه مجتمعهم وبلدهم. غير أن الحقيقة ليست كذلك، وما هم في ميزان الجماعة إلا كنقط مضيئة يعلوها غبار يحول بينها وبين التوهج والإشعاع.
إن المجتمع المسلم ليس بحاجة إلى عابد غافل، ولا إلى ساجد عاكف، ولا إلى زاهد جامد لا يراوح مكانه، بل هو في أمس الحاجة إلى عابد متنبه ومتيقظ، وإلى ساجد مرتفع الهامة ومنتصب القامة، وإلى زاهد يمسك بتلابيب الحياة لبلوغ مرمى الآخرة. وقد يتساءل البعض ما فائدة عبادة هؤلاء إن لم تكن تنفع المجتمع وتفيد الأمة كلها؟، وما جدوى علم لا يبدد دياجير الظلام السائد في كثير من الأمكنة في مجتمعاتنا المسلمة؟. فعجز الصالح الثقة على التفاعل مع محيطه القريب قبل البعيد، والمساهمة في إصلاح عيوب المجتمع أفرادا وجماعات ومؤسسات، يجعله يستقر في المؤخرة، ويرضى بالسلبية منهجا، فارا من مواجهة المشاكل وتحدي العراقيل، مفضلا السلامة والدعة والعيش في هناء، قد يلهيه كسب قوت يومه، وقد يغرق في التفاصيل المملة لواقعه، أو خائفا على منصبه، يتبع سير السفهاء ويرنو إلى عيش الغوغاء .. وإن سألتَه عن حاجة المجتمع لصلاحه وإصلاحه، بسط أمامك ألف عذر وعذر ليقنعك أنه مفيد في حالة سكونه وتقوقعه أكثر من انطلاقه وحركيته في ظل واقع موبوء لا يشي بالخير ..
والصواب أن الفرد الثقة الصالح ينبغي أن يكون صالحا لنفسه ومُصلِحا لمن حوله، وثقته تقاس أساسا بمدى عطائه الفردي والجماعي، وحجم تأثيره الإيجابي في محيطه
مثال عجز الثقة
ولعل من أبرز الأمثلة التي تبرز عجز كثير من أهل الصلاح والثقة أنهم إذا تولوا مناصب أو مراكز وأنيطت بهم المسؤوليات، وكان المرجو منهم خدمة مجتمعاتهم وعقيدتهم، كانوا أقرب إلى التردد في اتخاذ القرارات الحاسمة منهم إلى القيادة القوية، ربما حتى لا يقال عنهم أنهم انحازوا لمبادئهم وعقيدتهم، أو اتهِموا بتهم تشكك في سلامة نواياهم، كما حدث ويحدث لكثير من أبناء الصحوة الإسلامية اليوم، حيث تُكال التهم لهم بدون وازع تحت دواعي ومزاعم واهية محبوكة بكثير من الخبث واللؤم العالميين. وفي المقابل، يجتهد أهل الباطل والفجور في استغلال مناصبهم ومسؤولياتهم ومنابرهم لبث أفكارهم والدفع بمشاريعهم الهدامة إلى الأمام، غير آبهين بالأصوات المنتقدة أو الأيادي النظيفة التي تدعوهم إلى التعقل وتحاول محاربتهم بالتي هي أحسن.
المطلوب من الثقة
و المطلوب من الثقة أن يكون نافعا لنفسه، نافعا لغيره أيضا.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ. المعجم الكبير للطبراني - (ج 11 / ص 83) برقم (13468) وهو حسن لغيره
ففي هذا الحديث الجامع، يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس. والنفع لا يكون فقط ماديا، بل يشمل النفع بالنصيحة والنفع بالمشورة والتوجيه إلى الخير، فالدال على الخير كفاعله، وغير هذه الأبواب كثير .. فكل من ينفع الآخر فهو داخل ـ إن شاء الله تعالى ـ في الذين يحبهم الله تعالى: ''أحب الناس إلى الله أنفعهم''.
ولعل المثال الساطع الذي يوضح بجلاء المهام التي ينبغي أن يضطلع بها الثقة الصادق والصالح هو ما حواه جواب الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه صحابي يسأله: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ ". فكان رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بليغا يختزل المضمون العميق لما يجب أن يكون عليه المسلم الثقة الصالح من قوة ونفع للناس عوض التقوقع والتشكي من سوء أحوال البلاد والعباد .. أجابه الرسول الكريم بالقول: "انْظُرْ مَا يُؤْذِي النَّاسَ فَاعْزِلْهُ عَنْ طَرِيقِهِمْ " (حديث حسن). ولعل الأذى الذي يقصده المصطفى يعم أذى الطريق من أزبال وحجارة وشوك، ويتعداه إلى إماطة الأذى الأكبر من طريق المسلمين، والمتمثل في التحديات الخطيرة التي تقف أمام نمو المجتمع المسلم، من مشاكل اقتصادية وتنموية وتواصلية وسياسية أيضا، مثل معضلة البطالة والفقر والأمية .. الخ. و أحب الأعمال إلى الله كثيرة، تبتدئ بإدخال السرور على قلب المسلم بأن تزوره في مرضه وعافيته، وشدته ورخائه، وبالسؤال عنه ومعرفة ما يفرحه وما يترحه، كيف يعيش، وهل يحتاج إلى مساعدة أو عليه دين حتى تبادر إلى مد يد العون له، أو على الأقل تذليل =(1/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= العقبات أمامه، وبِكشف الكرب عنه، أو بطرد الجوع عنه، وهو عمل من أعمال البر الجليلة، ويجزي عنها الخالق سبحانه بجنة عالية، قطوفها دانية، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إن من ينفع الناس ويشارك في بناء المجتمع بناء قائما على الخير والفضيلة هو من الأخيار ولا شك، أما الذي يدوس على مشاعر الناس غير آبه بما يحتاجونه ولا بما يهمهم، فهو من الأشرار ولا قيمة له تذكر في المجتمع. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ». قَالَ فَسَكَتُوا فَقَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ رَجُلٌ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا. قَالَ «خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ». رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
جرأة الفاجر
والثقات العاجزون يمنحون ـ بسبب عجزهم وسلبيتهم ـ فرصا تلو أخرى للسفهاء الذين يستطيعون ـ بفضل دهائهم وذكائهم ـ أن يسيروا دواليب حياة الناس ويدبروا شؤونهم. وهؤلاء أيضا رغم جَلدهم وعناصر التفوق في شخصياتهم لا يفيدون المجتمع بقدر ما يسيئون إليه. وهو الصنف الثاني الذي تعوذ منه الفاروق عمر رضي الله عنه فهو الفاجر الذي يمتاز بالجَلَد والصبر وقوة الشكيمة ونبوغ الفكرة.
ويبرز مثال جلد الفاجر وجرأته على نشر الباطل والفساد في كثير من القائمين على وسائل الإعلام والصحافة في بلادنا الإسلامية، حيث ينبرون للدفاع عن أفعالهم رغم قبحها، وعن توجهاتهم رغم دناءتها، يدافعون عنها دفاعا شرسا، حتى أنه قد تنطلي الحيلة على البعض من شدة حرصهم على الذود عن حياض قيمهم الموغلة في الفساد، وهو فساد قديم قدم البشرية نفسها، إنما تتجدد الوجوه والأماكن والأزمنة، ويظل الصراع بين الحق والباطل هو جوهر شتى مناحي حياة الإنسان.
وفي بعض البلاد الإسلامية ـ المغرب مثلا ـ تندفع صحف وجرائد لتسيء لشخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أو تستهزئ بالذات الإلهية العظيمة، كما حدث منذ بضعة أسابيع حين نشرت مجلة مغربية فاق خبثها خبث الصحف الدانماركية التي أساءت لمقام المصطفى عليه الصلاة والسلام بنشرها رسوما كاريكاتورية مقيتة، فقد أفردت في ملف صحفي كامل أنواعا من نكت سخيفة لا تضحك أحدا، ومنها نكتة تصور الله عز وجل يخاطب الصحابي الجليل أبو هريرة ويخوفه بالنار، ثم يقول له إنها "كاميرا خفية" فقط ..
وجرأة الفاجر في هذا المثال تكمن أساسا في دفاع المجلة عن خطها التحريري الذي تفوح منه العداء لكل ما هو دين، ولها سوابق عديدة في هذا المجال، واعتبر أصحابها أنهم لم يقصدوا الإساءة لأحد، وانبرت وسائل إعلام أخرى تدافع عن ما أسموه بحرية التعبير والحق في الاختلاف، وغيرها من المفاهيم الكبيرة التي تستدعي جعجعة ولا طحين.
وهذا هو دأب الفاجر حين يكون ذا جلد وجرأة وقوة، تجده يدافع عن باطله كأنه الحق الذي لا مراء فيه، ويستعمل جميع إمكانياته الذاتية والموضوعية ليقوي من مركزه ويساعد أعوانه في الشر والزيغ والفساد والإفساد .. وهكذا إن كان الثقة الصالح عاجزا لا يصلح ما حوله، فإن الفاجر يكون صابرا مقداما، فاسدا في ذاته ويتفنن في إفساد محيطه.
الميزان
والمطلوب الذي يحتاجه المجتمع المسلم في واقعنا الحالي هو الجمع بين الصفتين الحميدتين في الفئتين معا: الجلد والقوة عند الفاجر، والثقة والصلاح عند العاجز.
وهذان عنصران أساسيان في بناء كل فرد وكل جماعة. وما أحوج المجتمع الإسلامي اليوم قبل أي وقت مضى لأناس يمتلكون الشخصية القوية الجذابة، ومعهم ما يكفي من الصلاح والتقوى والورع لبناء أسس الأمة لبنة لبنة.
فدعاء عمر رضي الله عنه: ''اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر ومن عجز الثقة''، مَثلَ الخصال الطيبة في هذين النوعين من الناس وجسدها في أدق عبارة وأجملها.
وهو نفسه رضي الله عنه كان مثالا نادرًا للصلاح والثقة، وللزهد والورع والتواضع والإحساس بثقل مسؤولية الحكم حينما تولى خلافة المسلمين بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إنه كان يخرج ليلا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة تُجسد الجلد وقوة الحق المطلوب أن يتصف بها كل مسلم، حتى تحفظ الأمة من جلد الفاجر وعجز الثقة.
موقع المسلم http://www.almoslim.net/print.cfm?artid=2071(1/187)
كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ؛ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ " سُورَةَ الرُّومِ " لَمَّا اقْتَتَلَتْ الرُّومُ وَفَارِسُ؛ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ (1).
وَكَذَلِكَ يُوسُفُ عليهِ السَّلامُ كَانَ نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ وَفَعَلَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ (2).
__________
(1) - قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم/2 - 5]
(2) - وفي الأحكام السلطانية - (ج 1 / ص 129)
(فَصْلٌ) فَأَمَّا طَلَبُ الْقَضَاءِ وَخُطْبَةُ الْوُلَاةِ عَلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ كَانَ تَعَرُّضُهُ لِطَلَبِهِ مَحْظُورًا وَصَارَ بِالطَّلَبِ مَجْرُوحًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا نَظَرُهُ فَلَهُ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، إمَّا لِنَقْصِ عِلْمِهِ، وَإِمَّا لِظُهُورِ جَوْرِهِ فَيَخْطُبُ الْقَضَاءَ دَفْعًا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِيَكُونَ فِيمَنْ هُوَ بِالْقَضَاءِ أَحَقُّ فَهَذَا سَائِغٌ لِمَا تَضْمَنَّهُ مِنْ دَفْعِ مُنْكَرٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ قَصْدِهِ إزَالَةَ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ اخْتِصَاصَهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ مُبَاحًا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي مُسْتَحِقِّهِ وَمَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهُ إمَّا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا لِيَجُرَّ بِالْقَضَاءِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا؛ فَهَذَا الطَّلَبُ مَحْظُورٌ وَهُوَ بِهَذَا الطَّلَبِ مَجْرُوحٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ نَاظِرٌ وَهُوَ خَالٍ مِنْ وَالٍ عَلَيْهِ؛ فَيُرَاعِي فِي طَلَبِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى رِزْقِ الْقَضَاءِ الْمُسْتَحَقِّ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَانَ طَلَبُهُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ لِرَغْبَةٍ فِي إقَامَةِ الْحَقِّ وَخَوْفِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ كَانَ طَلَبُهُ مُسْتَحَبًّا، فَإِنْ قَصَدَ بِطَلَبِهِ الْمُبَاهَاةَ وَالْمَنْزِلَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهِ، فَكَرِهَتْهُ طَائِفَةٌ لِأَنَّ طَلَبَ الْمُبَاهَاةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إلَى أَنَّ طَلَبَهُ لِذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ مِمَّا أُبِيحَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ رَغِبَ نَبِيُّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى فِرْعَوْنَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ فَقَالَ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.فَطَلَبُ الْوِلَايَةِ وَوَصْفُ نَفْسِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي عَلِيمٌ بِمَا وَلَّيْتَنِي، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَفِيظٌ لِلْحِسَابِ عَلِيمٌ بِالْأَلْسُنِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ سُفْيَانَ، وَخَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ حَدِّ التَّزْكِيَةِ لِنَفْسِهِ وَالْمَدْحِ لَهَا لِأَنَّهُ كَانَ لِسَبَبٍ دَعَا إلَيْهِ.
وَاخْتُلِفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي جَوَازِ الْوِلَايَةِ مِنْ قِبَلِ الظَّالِمِ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى جَوَازِهَا إذَا عَمِلَ بِالْحَقِّ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ، لِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَلَّى مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ بِعَدْلِهِ دَافِعًا لِجَوْرِهِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إلَى حَظْرِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَوَلِّي الظَّالِمِينَ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ أَوْ أَمْرِهِمْ.
وَأَجَابُوا عَنْ وِلَايَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ صَالِحًا وَإِنَّمَا الطَّاغِي فِرْعَوْن مُوسَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَظَرَ فِي أَمْلَاكِهِ دُونَ أَعْمَالِهِ.(1/188)
الفصل الثاني
اختصاصاتُ الولاياتِ الإسلامية
فعُمُومُ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصُهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يَتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ.
فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقُضَاةِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ آخَرَ؛ وَبِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ الْحِسْبَةُ وَوِلَايَةُ الْمَالِ. وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ هِيَ فِي الْأَصْلِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَمَنَاصِبُ دِينِيَّةٌ، فَأَيُّ مَنْ عَدَلَ فِي وِلَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ فَسَاسَهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ الصَّالِحِينَ، وَأَيُّ مَنْ ظَلَمَ وَعَمِلَ فِيهَا بِجَهْلِ فَهُوَ مِنْ الْفُجَّارِ الظَّالِمِينَ. إنَّمَا الضَّابِطُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) [الإنفطار/13 - 15]}.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَوِلَايَةُ الْحَرْبِ فِي عُرْفِ هَذَا الزَّمَانِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ تَخْتَصُّ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا إتْلَافٌ مِثْلَ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ مَا لَيْسَ فِيهِ إتْلَافٌ؛ كَجَلْدِ السَّارِقِ. وَيَدْخُلُ فِيهَا الْحُكْمُ فِي الْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ؛ وَدَوَاعِي التُّهَمِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كِتَابٌ وَشُهُودٌ. كَمَا تَخْتَصُّ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِمَا فِيهِ كِتَابٌ وَشُهُودٌ وَكَمَا تَخْتَصُّ بِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالْحُكْمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ نُظَّارِ الْوُقُوفِ وَأَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى كَبِلَادِ الْمَغْرِبِ: لَيْسَ لِوَالِي الْحَرْبِ حُكْمٌ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ مُتَوَلِّي الْقَضَاءِ؛ وَهَذَا اتَّبَعَ السُّنَّةَ الْقَدِيمَةَ؛ وَلِهَذَا أَسْبَابٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَالْعَادَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (1).
[بعضُ واجباتِ المحتسبِ]
وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَلَهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ وَنَحْوُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ وُلَاةِ الْأُمُورِ.
فَمَنْ أَدَّى فِيهِ الْوَاجِبَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيهِ.
َعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ الْعَامَّةَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَيُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ؛ وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِلَى غَيْرِهِ وَيَتَعَهَّدُ الْأَئِمَّةَ وَالْمُؤَذِّنِينَ؛ فَمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الْإِمَامَةِ أَوْ خَرَجَ عَنْ الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَعَانَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِوَالِي الْحَرْبِ وَالْحُكْمِ وَكُلُّ مُطَاعٍ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ (2).
__________
(1) - يعني أن الأمر تابع للأعراف ن وهي متغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة
(2) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 15 / ص 39) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 325)(1/189)
وَذَلِكَ أَنَّ " الصَّلَاةَ " (1) هِيَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْأَعْمَالِ (2) وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ (3) وَأَعْظَمُ شَرَائِعِهِ، وَهِيَ قَرِينَةُ الشَّهَادَتَيْنِ (4) وَإِنَّمَا فَرَضَهَا اللَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَخَاطَبَ بِهَا الرَّسُولَ بِلَا وَاسِطَةٍ لَمْ يَبْعَثْ بِهَا رَسُولًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ (5)، وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَهُ (6)، وَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالذِّكْرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (170) سورة الأعراف، وَقَوْلِهِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت.
وَهِيَ الْمَقْرُونَةُ بِالصَّبْرِ وَبِالزَّكَاةِ وَبِالنُّسُكِ وَبِالْجِهَادِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (45) سورة البقرة، وَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة البقرة، وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) سورة الأنعام، وَقَوْلِهِ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
__________
(1) - في مسند أحمد برقم (22167) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ». قُلْتُ لاَ. قَالَ «قُمْ فَصَلِّ». قَالَ فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ. فَقَالَ «يَا أبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلإِنْسِ شَيَاطِينُ قَالَ «نَعَمْ».
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلاَةُ. قَالَ «خَيْرٌ مَوْضُوعٌ مَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ» وهو حسن لغيره.
(2) - في صحيح البخارى برقم (527 عن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِىَّ قالَ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا». قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ «الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».
(3) - وفي مسند أحمد برقم (22665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْماً قَرِيباً مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ». ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ». فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «رَأْسُ الأَمْرِ وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ .. » وهو صحيح لغيره
(4) - في صحيح البخارى برقم (8) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
(5) - سنن ابن ماجه برقم (1463) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِى خَمْسِينَ صَلاَةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ. حَتَّى آتِىَ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مُوسَى مَاذَا افْتَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُ رَبِّى فَوَضَعَ عَنِّى شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُ رَبِّى فَقَالَ هِىَ خَمْسٌ وَهِىَ خَمْسُونَ لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ. فَقُلْتُ قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى» وهو صحيح على شرطهما وأصله عندهما.
(6) - في مسند أحمد برقم (12498) عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُغَرْغِرُ بِهَا صَدْرُهُ وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ. وهو صحيح(1/190)
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) [النساء/102، 103]}.وَأَمْرُهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ (1)،فَاعْتِنَاءُ
__________
(1) - الصلاة التي يريدها الإسلام، ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب، ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة، ويخطفها خطف الغراب، ويلتفت فيها التفات الثعلب: كلا، فالصلاة المقبولة هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.
ذلك أن القصد الأول من الصلاة ـ بل من العبادات كافة ـ هو تذكير الإنسان بربه الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما فرضت الصلاة، وأمر بالحج، وأشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله تعالى" وأشار إلى روح الصلاة فقال: "إنما الصلاة تمسكن ودعاء وتضرع، وتضع يديك فتقول: اللهم: اللهم" فمن لم يفعل فهي خداج" أي ناقصة.
فهذا تنبيه على أهمية حضور القلب في الصلاة، وأما حضور العقل فحسبنا قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فنبه بهذا التعليل على وجوب حضور العقل في الصلاة، فكم من مصل لا يعلم ما يقول في صلاته، وهو لم يشرب خمرا، وإنما أسكره الجهل والغفلة وحب الدنيا واتباع الهوى!
ويقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكير خير من قيام ليلة والقلب ساه.
هذه هي الصلاة التي كانت قرة عينه عليه الصلاة والسلام، والتي كان يحن إليها، ويتلهف عليها ويقول لبلال: أرحنا بها! هذه هي صلاة الأنس والحب، لا صلاة النقر والخطف، التي يؤديها كثير من المسلمين، وما أعظم الفرق بين من يقوم إلى صلاته وهو يقول: أرحنا "بها"، وبين من يقوم إليها وهو يقول: أرحنا "منها"!
سر تكرار الصلاة في اليوم
جعل الله الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا، أمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون، وعشيا وحين يظهرون، كررها خمس مرات في اليوم لتكون "حماما" روحيا للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه، وأدران خطاياه، وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في حديثه الشريف فقال: أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟ قالوا: لا قال: كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" وأي إنسان يمر عليه يوم من غير خطايا وهفوات؟!
لقد خلق هذا الإنسان خلقا عجيبا، فيه من الملاك روحانيته، ومن البهيمة شهوتها، ومن السباع حميتها، وكثيرا ما تغلبه الشهوة، ويستفزه الغضب، ويجذبه تراب الأرض الذي خلق منه، فيقع في الأخطاء، ويتردى في الخطايا، وليس العيب أن يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن العيب أن يتمادى في الخطأ، ويستمر في الانحدار، حتى يصير كالأنعام أو أضل سبيلا.
وفي الصلوات اليومية الخمس فرصة يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويفيق المغرور من سباته، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا السعار المادي الذي أججته المطامع والشهوات، ونسيان الله والدار الآخرة.
وفي هذا المعنى يقول الرسول صلوات الله عليه: "إن لله ملكا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها" إنها نار موقدة، تطلع على الأفئدة وتلفح القلوب والعقول. والصلاة هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار، وتمسح دخانها، وسوادها، وتغسل أثرها من بين جوانح الإنسان. ويوضح هذا ابن مسعود في حديثه الذي يقول: "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا! ".
ويصور الرسول لأصحابه ـ بكل وسائل التوضيح ـ عمل الصلاة في محو الخطايا التي تبدر من الإنسان في صباحه ومسائه، فيروي لنا عنه سلمان الفارسي: أنه كان معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا، فهزم حتى تحات ورقه، ثم قال: يا سلمان، ألا تسألني، لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه، كما تحات هذا الورق، ثم تلا الآية الكريمة: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
وليس أثر الصلوات مقصورا على هذا الجانب من غسل الأدران، وتكفير الخطايا، ومطاردة السيئات، ولكنها تقوم بمهمة إيجابية أخرى، فإنها للحظات خصبة مباركة، تلك المرات الخمس التي ينتزع الإنسان فيها نفسه كل يوم من دنياه، دنيا الطين والحمأ المسنون، دنيا الأحقاد والصراع، وتنازع البقاء أو تنازع الفناء، ليقف بين يدي مولاه لحظات خاشعة يخفف بها من غلواء الحياة، وضغط الطين والمادة الكثيفة على القلوب والأرواح.
إنها تقوم بتغذية ذلك الجزء العلوي الإلهي في كيان الإنسان، وهو المشار إليه بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) ذلك الكائن الروحي الذي يعيش بين جوانح الإنسان، لا يكفي لتغذيته علم العلماء، ولا أدب الأدباء، ولا فلسفة المتفلسفين، ولا يغذيه إلا معرفة الله وحسن الصلة به، وهذه الصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح، كما أن للمعدة وجباتها اليومية، ففي مناجاة العبد لربه في صلاته شحنة روحية تنير قلبه، وتشرح صدره، وتأخذ بيده من الأرض إلى السماء، وتدخله إلى الله بلا باب، وتقفه بين يديه بلا حجاب، فيكلمه بلا ترجمان، ويناجيه فيناجي قريبا غير بعيد، ويستعين به فيستعين بعزيز غير ذليل، ويسأله فيسأل غنيا غير بخيل، تكاد تشف روحه وتصفو نفسه، فتسمع كلام الله الذي يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين" قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: "الرحمن الرحيم" قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: "مالك يوم الدين" قال: مجدني عبدي، فإذا قال: "إياك نعبد وإياك نستعين" قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ويعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوة الصلة بين العبد وربه في الصلاة فيقول: "إن الرجل إذا دخل صلاته أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه، .. العبادة في الإسلام للقرضاوي- (ج 1 / ص 144 - 148)(1/191)
وُلَاةِ الْأَمْرِ بِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ اعْتِنَائِهِمْ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: أَنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَشَدُّ إضَاعَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ (1). وَيَأْمُرُ الْمُحْتَسِبُ بِالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَبِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ.
[الاحتسابُ في المعاملاتِ المحرَّمةِ]
وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرَاتِ: مِنْ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ (2): وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْغِشِّ فِي الصِّنَاعَاتِ (3)؛ والبياعات وَالدِّيَانَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
__________
(1) - وفي موطأ مالك برقم (6) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِى الصَّلاَةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ. ثُمَّ كَتَبَ أَنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إِذَا كَانَ الْفَىْءُ ذِرَاعًا إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَالْعِشَاءَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَمَنْ نَامَ فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ فَمَنْ نَامَ فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ فَمَنْ نَامَ وفي الزهد والرقائق لابن المبارك برقم (815) عن سعد قال: «كل الخلال يطبع عليه المؤمن، إلا الكذب والخيانة» وهو حدبث صحيح، وورد مرفوعاً
الخلة: السمة والخصلة والصفة فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ وَالصَّبْحَ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ.
(2) - وهو صحيح مرسل
(3) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 384):
وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلَ قَسْمِ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوِكَالَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُقُودِ والقبوض؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِيهَا هُوَ قِوَامُ الْعَالَمِينَ لَا تَصْلُحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إلَّا بِهِ. فَمِنْ الْعَدْلِ فِيهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعَقْلِهِ كَوُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَتَحْرِيمِ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَوُجُوبِ الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ وَتَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَأَنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ. وَمِنْهُ مَا هُوَ خَفِيٌّ جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ أَوْ شَرِيعَتُنَا - أَهْلُ الْإِسْلَامِ - فَإِنَّ عَامَّةَ مَا نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَعُودُ إلَى تَحْقِيقِ الْعَدْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ: دِقِّهِ وَجِلِّهِ؛ مِثْلَ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَجِنْسِهِ مِنْ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ. وَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالنَّجْشِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الْفَاسِدَةِ. كَالْمُخَابَرَةِ بِزَرْعِ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ الْأَرْضِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لِخَفَائِهِ وَاشْتِبَاهِهِ فَقَدْ يُرَى هَذَا الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ صَحِيحًا عَدْلًا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَرَى فِيهِ جَوْرًا يُوجِبُ فَسَادَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا لَا يُشَرِّعُ لَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى شَرْعِهِ؛ إذْ الدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ حَيْثُ حَرَّمُوا مِنْ دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِأَنْ نَجْعَلَ الْحَلَالَ مَا حَلَّلْته وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمْته وَالدِّينَ مَا شَرَعْته.(1/192)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) [المطففين/1 - 6]}،وَقَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عليه السلامُ: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) [الشعراء/181 - 183]}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (107) سورة النساء، وَقَالَ: { .. وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (52) سورة يوسف. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2110) ومسلم برقم (3937)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 431)
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَاد أَنْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ هَلْ لِلتَّفَرُّقِ الْمَذْكُور حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ؟ وَالْمَشْهُور الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَب الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعُرْف، فَكُلُّ مَا عُدَّ فِي الْعُرْفِ تَفَرُّقًا حُكِمَ بِهِ وَمَا لَا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا) أَيْ صَدَقَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِ الْمُشْتَرَى مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ فِي السِّلْعَة، وَصَدَقَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ مَثَلًا وَبَيَّنَ الْعَيْب إِنْ كَانَ فِي الثَّمَن، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَذِكْرُ أَحَدِهِمَا تَأْكِيدٌ لِلْآخَرِ.
قَوْله: (مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ شُؤْمَ التَّدْلِيس وَالْكَذِب وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعَقْد فَمَحَقَ بَرَكَتَهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّادِقُ مَأْجُورًا وَالْكَاذِبُ مَأْزُورًا. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّدْلِيسُ، وَالْعَيْبُ دُونَ الْآخَرِ، وَرَجَّحَهُ اِبْن أَبِي جَمْرَة. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الصِّدْقِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ وَذَمُّ الْكَذِبِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِذَهَابِ الْبَرَكَةِ، وَأَنَّ عَمَل الْآخِرَةِ يُحَصِّلُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.(1/193)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى» (1). وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ غَشَّنِي فَلَيْسَ مِنِّي» (2)،فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْغَاشَّ لَيْسَ بِدَاخِلِ فِي مُطْلَقِ اسْمِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ» (3).
فَسَلَبَهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ حُصُولَ الثَّوَابِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْعِقَابِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُفَارِقُ بِهِ الْكُفَّارَ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ.
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (295)
السماء: المطر =الصبرة: الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 206)
فَأَمَّا تَأْوِيل الْحَدِيث فَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَيَكْفُر وَيَخْرُج مِنْ الْمِلَّة، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى سِيرَتنَا الْكَامِلَة وَهَدْيِنَا. وَكَانَ سُفْيَانُ بْن عُيَيْنَة رَحِمَهُ اللَّه يَكْرَه قَوْل مَنْ يُفَسِّرُهُ بِلَيْسَ عَلَى هَدْيِنَا، وَيَقُولُ بِئْسَ هَذَا الْقَوْل، يَعْنِي بَلْ يُمْسِك عَنْ تَأْوِيلِهِ لِيَكُونَ أَوْقَع فِي النُّفُوس وَأَبْلَغَ فِي الزَّجْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
(2) - أخرجه أبي يعلى الموصلي في مسنده برقم (6388) وهو صحيح
(3) - صحيح البخارى برقم (2475 و5578،6772،6810) ومسلم برقم (211)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 148)
هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ. فَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِي وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان. وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظ الَّتِي تُطْلَق عَلَى نَفْيِ الشَّيْء وَيُرَاد نَفْي كَمَالِهِ وَمُخْتَاره كَمَا يُقَال: لَا عِلْم إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة. وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ وَغَيْره " مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " وَحَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا، وَلَا يَعْصُوا إِلَى آخِره. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ - صلى الله عليه وسلم - " فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَته، وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَب فَهُوَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَعَ نَظَائِرهمَا فِي الصَّحِيح مَعَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر غَيْر الشِّرْك، لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ نَاقِصُو الْإِيمَان. إِنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتهمْ، وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِر كَانُوا فِي الْمَشِيئَة. فَإِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة أَوَّلًا، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة. وَكُلّ هَذِهِ الْأَدِلَّة تَضْطَرُّنَا إِلَى تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث وَشِبْهِهِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّأْوِيل ظَاهِرٌ سَائِغ فِي اللُّغَة مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا كَثِير. وَإِذَا وَرَدَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ظَاهِرًا وَجَبَ الْجَمْع بَيْنهمَا. وَقَدْ وَرَدَا هُنَا فَيُجِبْ الْجَمْع وَقَدْ جَمَعْنَا. وَتَأَوَّلَ بَعْض الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ مَعَ عِلْمه بِوُرُودِ الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ الْحَسَن وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ يُنْزَع مِنْهُ اِسْم الْمَدْح الَّذِي يُسَمَّى بِهِ أَوْلِيَاء اللَّه الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَحِقُّ اِسْم الذَّمّ فَيُقَال: سَارِق، وَزَانٍ وَفَاجِر، وَفَاسِق. وَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: يُنْزَع مِنْهُ نُور الْإِيمَان. وَفِيهِ حَدِيث مَرْفُوع. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: يُنْزَع مِنْهُ بَصِيرَته فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى. وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث. وَمَا أَشْبَهَهُ، يُؤْمَنُ بِهَا، وَيُمَرُّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَلَا يُخَاض فِي مَعْنَاهَا وَأَنَّا لَا نَعْلَم مَعْنَاهَا. وَقَالَ: أَمِرُّوهَا كَمَا أَمَرَّهَا مَنْ قَبْلكُمْ. وَقِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيث غَيْر مَا ذَكَرْته مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ بَعْضهَا غَلَطٌ، فَتَرَكْتهَا. وَهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكَرْتهَا فِي تَأْوِيله كُلُّهَا مُحْتَمَلَة. وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى الْحَدِيث مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا وَاَللَّه أَعْلَم.(1/194)
وَالْغِشُّ يَدْخُلُ فِي الْبُيُوعِ بِكِتْمَانِ الْعُيُوبِ وَتَدْلِيسِ السِّلَعِ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْمَبِيعِ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ؛ كَاَلَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. وَيَدْخُلُ فِي الصِّنَاعَاتِ مِثْلَ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْمَطْعُومَاتِ مِنْ الْخُبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْعَدَسِ وَالشِّوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ يَصْنَعُونَ الْمَلْبُوسَاتِ كَالنَّسَّاجِينَ وَالْخَيَّاطِينَ وَنَحْوِهِمْ أَوْ يَصْنَعُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ فَيَجِبُ نَهْيُهُمْ عَنْ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالْكِتْمَانِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ " الْكِيمَاوِيَّةُ " (1) الَّذِينَ يَغُشُّونَ النُّقُودَ وَالْجَوَاهِرَ وَالْعِطْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَصْنَعُونَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ عَنْبَرًا أَوْ مِسْكًا أَوْ جَوَاهِرَ أَوْ زَعْفَرَانًا أَوْ مَاءَ وَرْدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ يُضَاهُونَ بِهِ خَلْقَ اللَّهِ (2): وَلَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا
__________
(1) - كيمياء هى في الأصل كلمة عربية مثل السيمياء، مأخوذة من (الكَمِيّ) وهو الشجاع، و (المُتَكَمِّي) في سلاحه أي المتغطي المتستِّر بالدرع والبيضة، وسُمِيت كذلك لأن الكيمياءيين القدماء كانوا يحتفظون بمعلوماتهم سرية عن الآخرين، وتعنى كمصطلح: العلم الذى يدرس المادة وتفاعلاتها وعلاقاتها بالطاقة. ونظرا لتعدد واختلاف حالات المادة, والتي عادة ما تكون في شكل ذرات, فإن الكيميائين غالبا ما يقوموا بدراسة كيفية تفاعل الذرات لتكوين الجزيئات وكيفية تفاعل الجزيئات مع بعضها البعض.
والكيمياء هو علم يدرس العناصر الكيميائية والمواد الكيميائية (التركيب والخواص والبناء) والتحولات المتبادلة فيما بينها (التفاعلات الكيميائية).
تقسم الكيمياء إلى عدة فروع رتيسية:
تنقسم الكيمياء بصفة عامة إلى عدة فروع رئيسية. كما يوجد أيضا تفرعات لهذه الفروع, وموضوعات ذات تخصص أكبر داخل هذه الفروع.
الكيمياء التحليلية
هى تحليل عينات من المادة لمعرفة التركيب الكيميائى لها وكيفية بنائها.
الكيمياء الحيوية
هى دراسة المواد الكيميائية, والتفاعلات الكيميائية التى تحدث في الكائنات الحية.
الكيمياء غير العضوية
هى دراسة خواص وتفاعلات المركبات الغير عضوية. ولا يوجد هناك حد واضح للتفريق بين الكيمياء العضوية والغير عضوية, كما أن هناك تداخل كبير بينهما, ويكون أهمه في فرع أخر يسمى كيمياء الفلزات العضوية.
كيمياء عضوية
هى دراسة تركيب, وخواص, وتفاعلات المركبات العضوية.
الكيمياء الفيزيائية هى دراسة الأصل الفيزيائى للتفاعلات والأنظمة الكيميائية. ولمزيد من التحديد فإنها تدرس تغييريات حالات الطاقة في التفاعلات الكيميائية. ومن الفروع التى تهم الكيميائيين المتخصصين في الكيمياء الحرارية, الكيمياء الحركية, كيمياء الكم, الميكانيكا الإحصائية, علم الأطياف.
والكيمياء ماده شيقة تعلمنا الكثير والمفيد في حياتنا اليومية وقد نبغ عدد كبير من علماء المسلمين في هذا المجال كابن جبر والإدريسي. تساعدنا الكيمياء في فهم أصل المواد وأسرار المادة وكيفية تكوينها.
تستخدم الكيمياء في مجالات جديدة كالبترول والطاقة والكهرباء. تساعدنا الكيمياء على التفكير في قدرة الله، كما نعرف أن الكيمياء تقسم إلى عدة مجالات مثل مجال السوائل والمحاليل والحساب والمختبرات والحركة والمواد الكيميائية.
http://www.khayma.com/science/chemistry.htm
http://www.tedlal.com/vb/showthread.php?t=19690
(2) - قلت: ليس في عمل هؤلاء مضاهاة لخلق الله تعالى، فهم يستخدمون القوانين التي بثها الله تعالى في الكون، ويسخرونها لخدمة الإنسان.
أما الغشُّ فيها فحرام كما في غيرها من الأشياء، وليس له علاقة بتغيير خلق الله تعالى.(1/195)
فَيَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ يَخْلُقُوا كَخَلْقِهِ بَلْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ رَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (1).
وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَصْنُوعَاتُ مِثْلَ الأطبخة وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ إلَّا بِتَوَسُّطِ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى: {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس/41، 42].وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) [الصافات/95، 96]}.
وَكَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالدَّوَابِّ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لِبَنِي آدَمَ أَنْ يَصْنَعُوهَا؛ لَكِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ عَلَى سَبِيلِ الْغِشِّ. وَهَذَا حَقِيقَةُ الْكِيمْيَاءِ؛ فَإِنَّهُ الْمُشَبَّهُ؛ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (2).
وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرَاتِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ (3):
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (5953)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 60)
قَالَ اِبْن بَطَّال: فَهِمَ أَبُو هُرَيْرَة أَنَّ التَّصْوِير يَتَنَاوَل مَا لَهُ ظِلّ وَمَا لَيْسَ لَهُ ظِلّ، فَلِهَذَا أَنْكَرَ مَا يُنْقَش فِي الْحِيطَان. قُلْت: هُوَ ظَاهِر مِنْ عُمُوم اللَّفْظ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُقْصَر عَلَى مَا لَهُ ظِلّ مِنْ جِهَة قَوْله:" كَخَلْقِي " فَإِنَّ خَلْقه الَّذِي اِخْتَرَعَهُ لَيْسَ صُورَة فِي حَائِط بَلْ هُوَ خَلْق تَامّ، لَكِنْ بَقِيَّة الْحَدِيث تَقْتَضِي تَعْمِيم الزَّجْر عَنْ تَصْوِير كُلّ شَيْء وَهِيَ قَوْله:" فَلْيَخْلُقُوا حَبَّة وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة " وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الرَّاء، وَيُجَاب عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَاد إِيجَاد حَبَّة عَلَى الْحَقِيقَة لَا تَصْوِيرهَا. وَوَقَعَ لِابْنِ فُضَيْلٍ مِنْ الزِّيَادَة " وَلْيَخْلُقُوا شَعْرَة " وَالْمُرَاد بِالْحَبَّةِ حَبَّة الْقَمْح بِقَرِينَةِ ذِكْر الشَّعِير، أَوْ الْحَبَّة أَعَمّ، وَالْمُرَاد بِالذَّرَّةِ النَّمْلَة، وَالْغَرَض تَعْجِيزهمْ تَارَة بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْق حَيَوَان وَهُوَ أَشَدّ وَأُخْرَى بِتَكْلِيفِهِمْ خَلْق جَمَاد وَهُوَ أَهْوَن، وَمَعَ ذَلِكَ لَا قُدْرَة لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
(2) - قلت: في كلامه رحمه الله نظر، فليس في الكيمياء تغيير لخلق الله تعالى، بل استخدام قوانين الكون التي أمرنا الله تعالى أن نستفيد منها، ومنها تحسين النوع في النبات والحيوان، فليس فيه تغيير لخلق الله تعالى، ومنها الجراحة التجميلية لمن به تشوُّه فلا حرج فيها، إذ ليس فيها تغيير لخلق الله تعالى.
أما تحويل الذكر لأنثى عن طريق الهرمونات والأنثى لذكر مثلا فهذا قطعا حرام، وهو من تغيير خلق الله تعالى.
وانظر فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 41) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 224) حكم عمليات التجميل وأحكام الجراحة الطبية ص 185 - 187 وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 251) رقم الفتوى 1509 يجوز إجراء عمليات التجميل بشروط
(3) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 19)
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ: وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ وَلَا يُشْرَعُ الْتِزَامُ الْفَسَادِ مِمَّنْ يُشْرَعُ [لَهُ] دَفْعُهُ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ؛ يُخَالِفُ فِي هَذَا لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ: لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ مُطْلَقِ النَّهْيِ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ. فَقِيلَ لَهُمْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفَ أَنَّ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ؟ قَالُوا: بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: هَذَا =(1/196)
. . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= صَحِيحٌ وَهَذَا فَاسِدٌ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا أَدِلَّةَ الشَّرْعِ الْوَاقِعَةَ؛ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الشَّارِعِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ: شُرُوطُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ: كَذَا وَكَذَا. وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ؛ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ. وَإِنَّمَا الشَّارِعُ دَلَّ النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَبِقَوْلِهِ فِي عُقُودٍ:" هَذَا لَا يَصْلُحُ " عُلِمَ أَنَّهُ فَسَادٌ كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تَمْرًا:" لَا يَصْلُحُ " وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا تَعَارَضَ فِيهِ نَصَّانِ فَتَوَقَّفَ. وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ أَبَاحَ الْجَمْعَ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاحِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ. وَلَا يَنْهَى عَمَّا يُحِبُّهُ. وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا لَا يُحِبُّهُ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَاسِدٌ؛ لَيْسَ بِصَالِحِ. وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَمَصْلَحَتُهُ مَرْجُوحَةٌ بِمَفْسَدَتِهِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ رَفْعُ الْفَسَادِ وَمَنْعُهُ؛ لَا إيقَاعُهُ وَالْإِلْزَامُ بِهِ. فَلَوْ أُلْزِمُوا مُوجِبَ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَكَانُوا مُفْسِدِينَ غَيْرَ مُصْلِحِينَ وَاَللَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: لَا تَعْمَلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ فَالشَّارِعُ يَنْهَى عَنْهُ لِيَمْنَعَ الْفَسَادَ وَيَدْفَعَهُ وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ النَّهْيِ صُورَةٌ ثَبَتَتْ فِيهَا الصِّحَّةُ بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ. فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: فِيهِمَا نِزَاعٌ وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ. لَكِنْ مِنْ الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمَعِيبِ وَتَلَقِّي السِّلَعَ وَالنَّجْش وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارِعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ؛ بَلْ جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ وَالْخِيَرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ وَالشَّارِعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاَللَّهِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ؛ بَلْ هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ وَيَعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ وَيَرْضَى بِأَنْ يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي جَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ بَيْعِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِيهِ الرِّضَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِذَا فَقَدَ الشَّرْطَ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ وَغَيْرُ لَازِمٍ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَى الْمُجِيزِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ، كالخرقي وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَحْسِبُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ. ثُمَّ تَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى؛ وَلَيْسَ بِفَاسِدِ. فَالنَّهْيُ يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَ. وَيَقُولُ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ هَذَا فَسَادٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ النَّجْشِ إذَا نَجَشَ الْبَائِعُ أَوْ وَاطَأَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ عَلَى بَيْعِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ الْمَعِيبِ الْمُدَلِّسِ. فَلَمَّا عُورِضَ بِالْمُصَرَّاةِ تَوَقَّفَ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ مُطْلَقًا وَبَيْعُ النَّجْشِ بِلَا خِيَارٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُنْ النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ، كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَبَيْعِ الرِّبَا؛ بَلْ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ؛ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ يَنْجُشُ. وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَازَ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْجُشُ. وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ مَتَى أَذِنَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا جَازَ. وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ هُنَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ: لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ صَحِيحًا لَازِمًا. كَالْحَلَالِ؛ بَلْ أَثْبَتَ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْخِيَارِ. فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ. فَالْمُشْتَرِي مَعَ النَّجْشِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ فَحَصَلَ بِهَذَا مَقْصُودُهُ. وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ إذَا عَلِمَ بِالنَّجْشِ. فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا وَإِنْ رَضِيَ بِهِ: فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ. وَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْمُدَلَّسِ وَالْمُصَرَّاةِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ هَذَا الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ هَذَا الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ وَيَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهُ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهَا عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ. إنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ؛ إذْ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ. وَإِذَا قِيلَ: هُوَ غَيْرُ قَلْبِ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ. قِيلَ: إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا؛ بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ. وَإِنْ شِئْت عَفَوْت عَنْهُ فأنفذنا نِكَاحَهُ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ. وَطَبْخِ الطَّعَامِ بِحَطَبِ مَغْصُوبٍ. وَتَسْخِينِ الْمَاءِ بِوَقُودٍ مَغْصُوبٍ؛ كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ. وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ. فَإِذَا أَعْطَاهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ: فَأَعْطَاهُ كَرْيَ الدَّارِ وَثَمَنَ الْحَطَبِ وَتَابَ هُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَتْ صَلَاتُهُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ مُبَاحٍ. وَالطَّعَامُ كَالطَّعَامِ بِوَقُودٍ مُبَاحٍ؛ وَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مُبَاحَةٍ. =(1/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّكِّينِ أُجْرَةُ ذَبْحِهِ. وَلَا تَحْرُمُ الشَّاةُ كُلُّهَا؛ لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَهَذَا إذَا كَانَ أَكَلَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُوَفِّهِ ثَمَنَهُ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ: لَيْسَ فِعْلُهُ حَرَامًا وَلَا هُوَ حَلَالًا مَحْضًا فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ لِصَاحِبِ الْوَقُودِ فِيهِ شَرِكَةٌ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ الظُّلْمِ يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَدْرِهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ كَبَرَاءَةِ مَنْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً وَلَا يُعَاقَبُ كَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ؛ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ. وَكَذَلِكَ آكِلُ الطَّعَامِ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ وَبِالْمَكَانِ: يُعِيدُ؛ بِخِلَافِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِأَنْ يَرُدَّ أَرْضَ الْمَظْلُومِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ: الْحَقُّ فِيهَا لِلَّهِ؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا اشْتَمَلَتْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الرِّجْسِ الْخَبِيثِ: فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ؛ بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا: فَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ. لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعُدَّةِ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الطَّلَاقِ. فَيُقَالُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهَا إلَى فَسَادٍ خَارِجٍ عَنْهَا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ النِّكَاحِ. وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَالرِّبَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ عَقْدِ الْمَيْسِرِ وَالرِّبَا. فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَلْ لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ؛ لَكِنْ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الذَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا مَعْنًى فِيهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ - الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ النَّهْيَ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ - مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِوَصْفٍ فِي الْفِعْلِ؛ لَا فِي أَصْلِهِ. فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ قَالُوا: هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِ الْعِيدَيْنِ؛ لَا لِجِنْسِ الصَّوْمِ فَإِذَا صَامَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَوْمًا. فَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ: جِنْسٌ مَشْرُوعٌ؛ وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِوَصْفٍ خَاصٍّ: وَهُوَ الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْقُولٌ لَا تَأْثِيرَ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ صِفَةٌ فِي الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَذَلِكَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ. قِيلَ: وَالصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ - زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ - كَالصِّفَةِ فِي فَاعِلِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ غَيْرِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى أَوْ الْمَرْمِيِّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ لِصِفَةٍ فِي الْجِهَةِ لَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ وَلَوْ صَامَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ هَذَا زَمَانًا. فَإِذَا قِيلَ: اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا. قِيلَ: وَيَوْمُ الْعِيدِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَالْفَرْقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ مَعْقُولًا وَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ بِحَيْثُ عَلَّقَ بِهِ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَوْ يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَصْلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْمُفَرَّقُ قَدْ يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ: النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَقْدِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَمَّا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِثْلَ حَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَيُنْهَى عَنْ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيُنْهَى عَنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَيُنْهَى مَعَ ذَلِكَ عَنْ الزِّنَا وَالظُّلْمِ لِلنَّاسِ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْ الصَّيْدِ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لِحَقِّ الْمَالِكِ. وَلَوْ زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يَفْسُدُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَدَّ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ وَفَخْرٌ؛ كَالْمُسَبَّلَةِ وَالْحَرِيرِ كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسَبِّلٍ}. وَالثَّوْبُ النَّجِسُ =(1/198)
مِثْلَ عُقُودِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ (1)؛
__________
= فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ يَشْغَلُ عَنْ الْجُمُعَةِ؛ كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ وَكُلُّ مَا شَغَلَ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي؛ مِثْلَ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْفَاحِشَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - {حُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ} فَإِذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ لَا تُمْلَكُ إنْ لَمْ تُتْرَكْ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ كَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ بِسَبَبِ تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ حُصُولَ الْحُلْوَانِ وَالْمَهْرِ بِالْكِهَانَةِ وَالْبِغَاءِ؛ وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: إنْ تَرَكْت الصَّلَاةَ الْيَوْمَ أَعْطَيْنَاك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ كَذَلِكَ مَا يُمْلَكُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ خَبِيثًا مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ جَائِزٌ كَذَلِكَ جِنْسُ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ إنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ وَلَوْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغِيِّ وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لَا يُعْطَى لِلزَّانِي. وَكَذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذَ صَاحِبُهُ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً فَلَا يَجْمَعُ لَهُ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ بَيْعِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْخَمْرُ بِالثَّمَنِ فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْخَمْرَ وَأَعْطَى الثَّمَنَ وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي أَنْ يَزْنِيَ وَإِنْ أَعْطَى فَكَيْفَ إذَا أَعْطَى الْمَالَ وَالزِّنَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ هَذَا الْمَالِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ وَقْتَ النِّدَاءِ بِرِبْحِ وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ فَإِنْ فَاتَتْ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْمُشْتَرِي فَيَكُونُ أَعَانَهُ عَلَى الشِّرَاءِ. وَالْمُشْتَرِي يَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيُعِيدُ السِّلْعَةَ فَإِنْ بَاعَهَا بِرِبْحٍ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْبَائِعِ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ رِبْحَيْنِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يَمْلِكُ؟ أَوْ لَا يَمْلِكُ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ أَوْ لَا يَفُوتَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 74)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ:" قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ " وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ وَيَعْلَمُهُ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ. فَالْأَوَّلُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ؛ حَيْثُ قَبَضَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ؛ لَكِنَّهُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَكَوْنِ الْقَبْضَ عَنْ التَّرَاضِي هَلْ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَا يَتَصَرَّفُ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي الْمِلْكِ. هَلْ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؟. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ: مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا يَتَعَاقَدُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ مِثْلُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَالْخِنْزِيرِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْنَا أُمْضِيَتْ لَهُمْ وَيَمْلِكُونَ مَا قَبَضُوهُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ. وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ فُسِخَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ بَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ رُءُوسَ الْأَمْوَالِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ أَمَّا إذَا طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَبَيْنَهُمَا عَقْدُ رِبًا فَيَنْفَسِخُ وَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَبْضَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَكُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ رَدَّهُ وَحَاسَبْنَاهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْرِيرٍ: مِثْلُ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُبِيحُهَا مُجَوِّزُو الْحِيَلِ. وَمِثْلُ بَيْعِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ. وَمِثْلُ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَعْضَهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا حَصَلَ فِيهَا التَّقَابُضُ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ لَمْ تُنْقَضْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لَا بِحُكْمِ وَلَا بِرُجُوعٍ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا إذَا تَحَاكَمَ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَهَا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ اسْتَفْتَيَاهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُمَا الْخَطَأُ فَرَجَعَ عَنْ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ فَمَا كَانَ قَدْ قُبِضَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ أُمْضِيَ. وَإِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ رَأْسُ الْمَالِ وَزِيَادَةٌ رِبَوِيَّةٌ: أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ وَرَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ. وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَابِضِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بَاطِلٌ قَطْعًا.
وانظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 13 / ص 167) وفتاوى يسألونك - (ج 8 / ص 101) فما بعدها وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 920) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 326).(1/199)
وَمِثْلَ بَيْعِ الْغَرَرِ (1) وَكَحَبَلِ الْحَبَلَةِ (2)؛ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ (3)؛
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (3881) وسنن أبى داود برقم (3378) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
وف عون المعبود - (ج 7 / ص 362) 2932 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(نَهَى عَنْ بَيْع الْغَرَر):قَالَ الْخَطَّابِيّ: أَصْل الْغَرَر هُوَ مَا طُوِيَ عَنْك وَخَفِيَ عَلَيْك بَاطِنه، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ طَوَيْت الثَّوْب عَلَى غِرَّة أَيْ كَسْره الْأَوَّل، وَكُلّ بَيْع كَانَ الْمَقْصُود مِنْهُ مَجْهُولًا غَيْر مَعْلُوم أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْر مَقْدُور عَلَيْهِ فَهُوَ غَرَر، وَإِنَّمَا نَهَى - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع الْغَرَر تَحْصِينًا لِلْأَمْوَالِ أَنْ تَضِيع، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ بَيْن النَّاس. وَأَبْوَاب الْغَرَر كَثِيرَة
(وَالْحَصَاة):قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات أَحَدهَا أَنْ يَقُول بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَاب مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أَرْمِيهَا أَوْ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْض مِنْ هُنَا إِلَى مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاة. وَالثَّانِي أَنْ يَقُول بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إِلَى أَنْ أَرْمِي بِهَذِهِ الْحَصَاة. وَالثَّالِث أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْي بِالْحَصَاةِ بَيْعًا، فَيَقُول إِذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْب بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيع مِنْك بِكَذَا اِنْتَهَى.
(2) - صحيح البخارى برقم (2143) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِى فِى بَطْنِهَا.
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 471)
قَالَ النَّوَوِيّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْع الْغَرَر أَصْلٌ مِنْ أُصُول الْبَيْع فَيَدْخُل تَحْتَهُ مَسَائِل كَثِيرَة جِدًّا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ بَيْع الْغَرَر أَمْرَانِ أَحَدهمَا مَا يَدْخُلُ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا فَلَوْ أُفْرِدَ لَمْ يَصِحَّ بَيْعه، وَالثَّانِي مَا يُتَسَامَحُ بِمِثْلِهِ إِمَّا لِحَقَارَتِهِ أَوْ لِلْمَشَقَّةِ فِي تَمْيِيزِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَمِنْ الْأَوَّلِ بَيْعُ أَسَاسِ الدَّارِ، وَالدَّابَّةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا اللَّبَنُ، وَالْحَامِلِ، وَمِنْ الثَّانِي الْجُبَّة الْمَحْشُوَّة وَالشُّرْب مِنْ السِّقَاءِ، قَالَ: وَمَا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اِخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِهِ حَقِيرًا أَوْ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ تَعْيِينُهُ فَيَكُونُ الْغَرَر فِيهِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَبِالْعَكْسِ، وَقَالَ وَمِنْ بُيُوع الْغَرَر مَا اِعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ الِاسْتِجْرَارِ مِنْ الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَاقِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ حَاضِرًا فَيَكُونُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ صِيغَةٌ يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ، وَرَوَى الطَّبَرِيّ عَنْ اِبْنِ سِيرِينَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: لَا أَعْلَمُ بِبَيْع الْغَرَر بَأْسًا. قَالَ اِبْن بَطَّال: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ يَصِحُّ غَالِبًا كَالثَّمَرَةِ فِي أَوَّل بُدُوِّ صَلَاحِهَا أَوْ كَانَ مُسْتَمِرًّا تَبَعًا كَالْحَمْلِ مَعَ الْحَامِلِ جَازَ لِقِلَّة الْغَرَر، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اِبْنُ سِيرِينَ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِق إِذَا كَانَ عِلْمهمَا فِيهِ وَاحِدًا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى بَيْع الْغَرَر إِنْ سَلِمَ فِي الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3) - صحيح البخارى برقم (2144) ومسلم برقم (3874) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ - رضى الله عنه - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهْىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ.
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 473)
وَلِلنَّسَائِيِّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " الْمُلَامَسَة أَنْ يَقُولَ الرَّجُل لِلرَّجُلِ أَبِيعُك ثَوْبِي بِثَوْبِك وَلَا يَنْظُرُ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى ثَوْب الْآخَر وَلَكِنْ يَلْمِسُهُ لَمْسًا، وَالْمُنَابَذَةَ أَنْ يَقُولَ أَنْبِذُ مَا مَعِي وَتَنْبِذُ مَا مَعَك، يَشْتَرِي كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمْ مَعَ الْآخَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُذْكَرْ التَّفْسِيرُ فِي طَرِيق أَبِي سَعِيد الثَّانِيَةِ هُنَا وَلَا فِي طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَة، وَقَدْ وَقَعَ التَّفْسِيرُ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَر هَذِهِ أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْد الرَّزَّاق عَنْهُ وَفِي آخِرِهِ " وَالْمُنَابَذَة أَنْ يَقُولَ: إِذَا نَبَذْتُ هَذَا الثَّوْب فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يَلْمِسَ بِيَدِهِ وَلَا يَنْشُرَهُ وَلَا يُقَلِّبَهُ إِذَا مَسَّهُ وَجَبَ الْبَيْع " وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاء بْن مِينَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبه إِلَى الْآخَرِ لَمْ يَنْظُرْ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّفْسِير، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَقْعَدُ بِلَفْظ الْمُلَامَسَة وَالْمُنَابَذَة لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ فَتَسْتَدْعِي وُجُود الْفِعْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَفْسِير الْمُلَامَسَة عَلَى ثَلَاثِ صُوَرٍ وَهِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَصَحُّهَا أَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَلْمِسَهُ الْمُسْتَام فَيَقُولَ لَهُ صَاحِب الثَّوْبِ بِعْتُكَهُ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ لَمْسك مَقَام نَظَرك وَلَا خِيَارَ لَك إِذَا رَأَيْته، وَهَذَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلتَّفْسِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ اللَّمْسِ بَيْعًا بِغَيْرِ صِيغَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّالِثُ أَنْ يَجْعَلَا اللَّمْسَ شَرْطًا فِي قَطْعِ خِيَارِ الْمَجْلِس وَغَيْره. وَالْبَيْعُ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا بَاطِل، وَمَأْخَذ الْأَوَّل عَدَم شَرْط رُؤْيَةِ الْمَبِيع وَاشْتِرَاطِ نَفْيِ الْخِيَارِ، وَمَأْخَذ الثَّانِي اِشْتِرَاط نَفْيِ الصِّيغَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بُطْلَان بَيْع الْمُعَاطَاة مُطْلَقًا، لَكِنْ مَنْ أَجَازَ الْمُعَاطَاة قَيَّدَهَا بِالْمُحَقَّرَاتِ أَوْ بِمَا جَرَتْ فِيهِ الْعَادَة =(1/200)
وَرِبَا النَّسِيئَةِ (1)
__________
= بِالْمُعَاطَاةِ، وَأَمَّا الْمُلَامَسَةُ وَالْمُنَابَذَةُ عِنْدَ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمَا فَلَا يَخُصُّهُمَا بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ بَيْع الْمُعَاطَاة مَعَ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي بَعْضِ صُوَر الْمُعَاطَاة، فَلِمَنْ يُجِيزُ بَيْع الْمُعَاطَاة أَنْ يَخُصَّ النَّهْي فِي بَعْضِ صُوَر الْمُلَامَسَة وَالْمُنَابَذَة عَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ بِالْمُعَاطَاةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْل الرَّافِعِيّ: إِنَّ الْأَئِمَّةَ أَجْرَوْا فِي بَيْع الْمُلَامَسَة وَالْمُنَابَذَة الْخِلَاف الَّذِي فِي الْمُعَاطَاةِ وَاللَّه أَعْلَمُ. وَمَأْخَذ الثَّالِث شَرْط نَفْي خِيَارِ الْمَجْلِس، وَهَذِهِ الْأَقْوَال هِيَ الَّتِي اِقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاء، وَنُخْرِجُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُنَابَذَةُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ وَهِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَصَحّهَا: أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ النَّبْذِ بَيْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُلَامَسَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ، لِلتَّفْسِيرِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي أَنْ يَجْعَلَا النَّبْذَ بَيْعًا بِغَيْرِ صِيغَة، وَالثَّالِث أَنْ يَجْعَلَا النَّبْذَ قَاطِعًا لِلْخِيَارِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِير النَّبْذ فَقِيلَ: هُوَ طَرْح الثَّوْب كَمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ هُوَ نَبْذ الْحَصَاة، وَالصَّحِيح أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِم النَّهْي عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِير بَيْع الْحَصَاةِ فَقِيلَ هُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ وَيَرْمِي حَصَاةً، أَوْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْض مَا اِنْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي الرَّمْيِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ إِلَى أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَاةَ، وَالثَّالِث: أَنْ يَجْعَلَا نَفْس الرَّمْيِ بَيْعًا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ " اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة يَصِحُّ مُطْلَقًا وَيَثْبُتُ الْخِيَار إِذَا رَآهُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ أَيْضًا، وَعَنْ مَالِكٍ يَصِحُّ إِنْ وَصَفَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَأَهْلِ الظَّاهِر، وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَة أَبِي عَوَانَة الَّتِي قَدَّمْتُهَا " لَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَلَا يُخْبِرُونَ عَنْهَا " وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ وِفَاقًا وَخِلَافًا طُول، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْأَعْمَى مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ مُعْظَمِ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ بَيْعَ الْغَائِبِ لِكَوْن الْأَعْمَى لَا يَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ مَعَ اِشْتِرَاطِ نَفْي الْخِيَار، وَقِيلَ يَصِحُّ إِذَا وَصَفَهُ لَهُ غَيْرُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة يَصِحُّ مُطْلَقًا عَلَى تَفَاصِيلَ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
(1) - صحيح مسلم برقم (4173) عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ».
وفي سنن الترمذى برقم (1286) عَنْ نَافِعٍ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ إِلَى أَبِى سَعِيدٍ فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ هَاتَانِ يَقُولُ «لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ لاَ يُشَفُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهُ غَائِبًا بِنَاجِزٍ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَهِشَامِ بْنِ عَامِرٍ وَالْبَرَاءِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَبِى بَكْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَبِلاَلٍ. قَالَ وَحَدِيثُ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الرِّبَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ إِلاَّ مَا رُوِىَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُبَاعَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلاً إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. وَقَالَ إِنَّمَا الرِّبَا فِى النَّسِيئَةِ. وَكَذَلِكَ رُوِىَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ شَىْءٌ مِنْ هَذَا وَقَدْ رُوِىَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ حِينَ حَدَّثَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِى الصَّرْفِ اخْتِلاَفٌ.
و في تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 342)
(وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ إِلَخْ) اِعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الصَّرْفِ لَهُ شَرْطَانِ، مَنْعُ النَّسِيئَةِ مَعَ اِتِّفَاقِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَمَنْعُ التَّفَاضُلِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَ فِيهِ اِبْنُ عُمَرَ ثُمَّ رَجَعَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ سَأَلْت أَبَا مِجْلَزٍ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ وَفِيهِ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا. فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ. كَذَا قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي. فَإِنْ قُلْتَ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُسَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ ". أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا: قُلْتُ: اِخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ: إِنَّ حَدِيثَ أُسَامَةَ مَنْسُوخٌ لَكِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَا رِبَا؛ الرِّبَا الْأَغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ. مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الْأَكْمَلِ لَا نَفْيُ الْأَصْلِ. وَأَيْضًا فَنَفْيُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمَنْطُوقِ، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى الرِّبَا الْأَكْبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ إِذَا اِخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الْبَيْعِ وَالْفَضْلُ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ رِبَا، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ.(1/201)
وَرِبَا (1) الْفَضْلِ
__________
(1) الرّبا في اللّغة: اسم مقصور على الأشهر، وهو من ربا يربو ربواً، ورُبُوَّاً ورِباءً.
وألف الرّبا بدل عن واوٍ، وينسب إليه فيقال: ربويّ، ويثنّى بالواو على الأصل فيقال ربوان، وقد يقال: ربيان - بالياء - للإمالة السّائغة فيه من أجل الكسرة.
والأصل في معناه الزّيادة، يقال: ربا الشّيء إذا زاد، ومن ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: «يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ».
وأربى الرّجل: عامل بالرّبا أو دخل فيه، ومنه الحديث: «من أجبى فقد أربى»
والإجباء: بيع الزّرع قبل أن يبدو صلاحه.
ويقال: الرّبا والرّما والرّماء، وروي عن عمر رضي الله عنه قوله: إنّي أخاف عليكم الرّما، يعني الرّبا.
والرّبية - بالضّمّ والتّخفيف - اسم من الرّبا، والرّبية: الرّباء، وفي الحديث عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صلح أهل نجران: «أن ليس عليهم ربّيّة ولا دم».
قال أبو عبيدٍ: هكذا روي بتشديد الباء والياء، وقال الفرّاء: أراد بها الرّبا الّذي كان عليهم في الجاهليّة، والدّماء الّتي كانوا يطلبون بها، والمعنى أنّه أسقط عنهم كلّ رباً كان عليهم إلاّ رءوس الأموال فإنّهم يردّونها.
والرّبا في اصطلاح الفقهاء: عرّفه الحنفيّة بأنّه: فضل خالٍ عن عوضٍ بمعيارٍ شرعيٍّ مشروطٍ لأحد المتعاقدين في المعاوضة.
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه: عقد على عوضٍ مخصوصٍ غير معلوم التّماثل في معيار الشّرع حالة العقد أو مع تأخيرٍ في البدلين أو أحدهما.
وعرّفه الحنابلة بأنّه: تفاضل في أشياء، ونسأ في أشياء، مختصّ بأشياء ورد الشّرع بتحريمها - أي تحريم الرّبا فيها - نصّاً في البعض، وقياساً في الباقي منها.
وعرّف المالكيّة كلّ نوعٍ من أنواع الرّبا على حدةٍ.
- الرّبا محرّم بالكتاب والسّنّة والإجماع، وهو من الكبائر، ومن السّبع الموبقات، ولم يؤذن اللّه تعالى في كتابه عاصياً بالحرب سوى آكل الرّبا، ومن استحلّه فقد كفر - لإنكاره معلوماً من الدّين بالضّرورة - فيستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل، أمّا من تعامل بالرّبا من غير أن يكون مستحلاً له فهو فاسق.
قال الماورديّ وغيره: إنّ الرّبا لم يحلّ في شريعةٍ قطّ لقوله تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ» يعني في الكتب السّابقة.
ودليل التّحريم من الكتاب قول اللّه تبارك وتعالى: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا».
وقوله عزّ وجلّ: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ».
قال السّرخسيّ: ذكر اللّه تعالى لآكل الرّبا خمساً من العقوبات:
إحداها: التّخبّط. قال اللّه تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ».
الثّانية: المحق. قال تعالى: «يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا» والمراد الهلاك والاستئصال، وقيل ذهاب البركة والاستمتاع حتّى لا ينتفع به، ولا ولده بعده.
الثّالثة: الحرب. قال اللّه تعالى: «فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِه».
الرّابعة: الكفر. قال اللّه تعالى: «وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» وقال سبحانه بعد ذكر الرّبا: «وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» أي: كفّارٍ باستحلال الرّبا، أثيمٍ فاجرٍ بأكل الرّبا.
الخامسة: الخلود في النّار. قال تعالى: «وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
وكذلك - قول اللّه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»،قوله سبحانه: «أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة» ليس لتقييد النّهي به، بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخاً لهم بذلك، إذ كان الرّجل يربي إلى أجلٍ، فإذا حلّ الأجل قال للمدين: زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل، فيفعل، وهكذا عند محلّ كلّ أجلٍ، فيستغرق بالشّيء الطّفيف ماله بالكلّيّة، فنهوا عن ذلك ونزلت الآية. =(1/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ودليل التّحريم من السّنّة أحاديث كثيرة منها
ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات قالوا: يا رسول اللّه وما هنّ؟ قال: الشّرك باللّه، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وما رواه مسلم عن جابر بن عبد اللّه رضي الله تعالى عنهما قال: «لعن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء».
وأجمعت الأمّة على أصل تحريم الرّبا.
وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتفسير شرائطه.
- هذا، ويجب على من يقرض أو يقترض أو يبيع أو يشتري أن يبدأ بتعلّم أحكام هذه المعاملات قبل أن يباشرها، حتّى تكون صحيحةً وبعيدةً عن الحرام والشّبهات، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، وتركه إثم وخطيئة، وهو إن لم يتعلّم هذه الأحكام قد يقع في الرّبا دون أن يقصد الإرباء، بل قد يخوض في الرّبا وهو يجهل أنّه تردّى في الحرام وسقط في النّار، وجهله لا يعفيه من الإثم ولا ينجّيه من النّار، لأنّ الجهل والقصد ليسا من شروط ترتّب الجزاء على الرّبا، فالرّبا بمجرّد فعله - من المكلّف - موجب للعذاب العظيم الّذي توعّد اللّه جلّ جلاله به المرابين، يقول القرطبيّ: لو لم يكن الرّبا إلاّ على من قصده ما حرّم إلاّ على الفقهاء.
وقد أثر عن السّلف أنّهم كانوا يحذّرون من الاتّجار قبل تعلّم ما يصون المعاملات التّجاريّة من التّخبّط في الرّبا، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: لا يتّجر في سوقنا إلاّ من فقه، وإلاّ أكل الرّبا، وقول عليٍّ رضي الله عنه: من اتّجر قبل أن يتفقّه ارتطم في الرّبا ثمّ ارتطم ثمّ ارتطم، أي: وقع وارتبك ونشب.
وقد حرص الشّارع على سدّ الذّرائع المفضية إلى الرّبا، لأنّ ما أفضى إلى الحرام حرام، وكلّ ذريعةٍ إلى الحرام هي حرام، روى أبو داود بسنده عن جابرٍ رضي الله عنه قال لمّا نزلت: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ» قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يذر المخابرة فليؤذن بحربٍ من اللّه ورسوله».
قال ابن كثيرٍ: وإنّما حرّمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرّطب في رءوس النّخل بالتّمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحبّ في سنبله في الحقل بالحبّ على وجه الأرض، إنّما حرّمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادّة الرّبا، لأنّه لا يعلم التّساوي بين الشّيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرّموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الرّبا والوسائل الموصّلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب اللّه لكلٍّ منهم من العلم.
- وباب الرّبا من أشكل الأبواب على كثيرٍ من أهل العلم، وقد قال عمر رضي الله عنه ثلاث وددت أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهنّ عهداً ننتهي إليه: الجدّ والكلالة وأبواب من الرّبا، يعني - كما قال ابن كثيرٍ - بذلك بعض المسائل الّتي فيها شائبة الرّبا، وعن قتادة عن سعيد بن المسيّب رحمة اللّه تعالى عليهما أنّ عمر رضي الله عنه قال: من آخر ما نزل آية الرّبا، وإنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسّرها لنا، فدعوا الرّبا والرّيبة، وعنه رضي الله عنه قال: ثلاث لأن يكون رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بيّنهنّ أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها: الكلالة، والرّبا، والخلافة.
- أورد المفسّرون لتحريم الرّبا حكماً تشريعيّةً
منها: أنّ الرّبا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوضٍ، لأنّ من يبيع الدّرهم بالدّرهمين نقداً أو نسيئةً تحصل له زيادة درهمٍ من غير عوضٍ، ومال المسلم متعلّق حاجته، وله حرمة عظيمة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وإبقاء المال في يده مدّةً مديدةً وتمكينه من أن يتّجر فيه وينتفع به أمر موهوم، فقد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدّرهم الزّائد متيقّن، وتفويت المتيقّن لأجل الموهوم لا يخلو من ضررٍ.
ومنها: أنّ الرّبا يمنع النّاس من الاشتغال بالمكاسب، لأنّ صاحب الدّرهم إذا تمكّن بواسطة عقد الرّبا من تحصيل الدّرهم الزّائد نقداً كان أو نسيئةً خفّ عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمّل مشقّة الكسب والتّجارة والصّناعات الشّاقّة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق الّتي لا تنتظم إلاّ بالتّجارات والحرف والصّناعات والعمارات. =(1/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ومنها: أنّ الرّبا يفضي إلى انقطاع المعروف بين النّاس من القرض، لأنّ الرّبا إذا حرّم طابت النّفوس بقرض الدّرهم واسترجاع مثله، ولو حلّ الرّبا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدّرهم بدرهمين، فيفضي إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان.
ومن ذلك ما قال ابن القيّم:. فربا النّسيئة، وهو الّذي كانوا يفعلونه في الجاهليّة، مثل أن يؤخّر دينه ويزيده في المال، وكلّما أخّره زاد في المال، حتّى تصير المائة عنده آلافاً مؤلّفةً، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلاّ معدم محتاج، فإذا رأى أنّ المستحقّ يؤخّر مطالبته ويصبر عليه بزيادةٍ يبذلها له تكلّف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقتٍ إلى وقتٍ، فيشتدّ ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدّين حتّى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفعٍ يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفعٍ يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضّرر، فمن رحمة أرحم الرّاحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الرّبا
- وأمّا الأصناف السّتّة الّتي حرّم فيها الرّبا بما رواه أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، يداً بيدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».
- أمّا هذه الأصناف فقد أجمل ابن القيّم حكمة تحريم الرّبا فيها حيث قال: وسرّ المسألة أنّهم منعوا من التّجارة في الأثمان - أي الذّهب والفضّة - بجنسها لأنّ ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا التّجارة في الأقوات - أي البرّ والشّعير والتّمر والملح - بجنسها لأنّ ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات.
وفصّل ابن القيّم فقال: الصّحيح بل الصّواب أنّ العلّة في تحريم الرّبا في الذّهب والفضّة هي الثّمنيّة، فإنّ الدّراهم والدّنانير أثمان المبيعات، والثّمن هو المعيار الّذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثّمن يرتفع وينخفض كالسّلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة النّاس إلى ثمنٍ يعتبرون به المبيعات حاجة ضروريّة عامّة، وذلك لا يعرف إلاّ بسعرٍ تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلاّ بثمنٍ تقوّم به الأشياء ويستمرّ على حالةٍ واحدةٍ، ولا يقوّم هو بغيره، إذ يصير سلعةً يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات النّاس ويقع الخلف ويشتدّ الضّرر
فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التّوصّل بها إلى السّلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر النّاس.
وأضاف: وأمّا الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة النّاس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها، لأنّها أقوات العالم، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعضٍ إلى أجلٍ، سواء اتّحد الجنس أو اختلف، ومنعوا من بيع بعضها ببعضٍ حالاً متفاضلاً وإن اختلفت صفاتها، وجوّز لهم التّفاضل مع اختلاف أجناسها.
فقد قال ابن القيّم: وسرّ ذلك - واللّه أعلم - أنّه لو جوّز بيع بعضها ببعضٍ نساءً لم يفعل ذلك أحد إلاّ إذا ربح، وحينئذٍ تسمح نفسه ببيعها حالّةً لطمعه في الرّبح، فيعزّ الطّعام على المحتاج ويشتدّ ضرره،. فكان من رحمة الشّارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النّساء فيها كما منعهم من ربا النّساء في الأثمان، إذ لو جوّز لهم النّساء فيها لدخلها إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي فيصير الصّاع الواحد لو أخذ قفزاناً كثيرةً، ففطموا عن النّساء، ثمّ فطموا عن بيعها متفاضلاً يدًا بيدٍ، إذ تجرّهم حلاوة الرّبح وظفر الكسب إلى التّجارة فيها نساءً وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين فإنّ حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم، ولا يفعلونه، وفي تجويز النّساء بينها ذريعة إلى إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يداً بيدٍ كيف شاءوا، فحصلت لهم المبادلة، واندفعت عنهم مفسدة إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدّراهم أو غيرها من الموزونات نساءً فإنّ الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا منه لأضرّ بهم، ولامتنع السّلم الّذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه، والشّريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعضٍ نساءً، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الرّبا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعةٍ إلى مفسدةٍ راجحةٍ، ومنعوا ممّا لا تدعو الحاجة إليه ويتذرّع به غالباً إلى مفسدةٍ راجحةٍ.
«أقسام الرّبا»
«ربا البيع ' ربا الفضل '» - وهو الّذي يكون في الأعيان الرّبويّة، والّذي عني الفقهاء بتعريفه وتفصيل أحكامه في البيوع، وقد اختلفوا في عدد أنواعه
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه نوعان
1 - ربا الفضل. وعرّفه الحنفيّة بأنّه فضل خالٍ عن عوضٍ بمعيارٍ شرعيٍّ مشروطٍ لأحد المتعاقدين في المعاوضة.
2 - ربا النّسيئة =(1/204)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وهو: فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدّين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس، أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتّحاد الجنس.
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ ربا البيع ثلاثة أنواعٍ
1 - ربا الفضل. وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر في متّحد الجنس.
2 - ربا اليد. وهو البيع مع تأخير قبض العوضين أو قبض أحدهما من غير ذكر أجلٍ.
3 - ربا النّساء. وهو البيع بشرط أجلٍ ولو قصيراً في أحد العوضين.
وزاد المتولّي من الشّافعيّة ربا القرض المشروط فيه جرّ نفعٍ، قال الزّركشيّ: ويمكن ردّه إلى ربا الفضل، وقال الرّمليّ: إنّه من ربا الفضل، وعلّل الشّبراملّسي ذلك بقوله: إنّما جعل ربا القرض من ربا الفضل مع أنّه ليس من هذا الباب - يعني البيع - لأنّه لمّا شرط نفعاً للمقرض كان بمنزلة أنّه باع ما أقرضه بما يزيد عليه من جنسه فهو منه حكماً.
«ربا النّسيئة» - وهو الزّيادة في الدّين نظير الأجل أو الزّيادة فيه وسمّي هذا النّوع من الرّبا ربا النّسيئة من أنسأته الدّين: أخّرته - لأنّ الزّيادة فيه مقابل الأجل أيّاً كان سبب الدّين بيعاً كان أو قرضاً.
وسمّي ربا القرآن، لأنّه حرّم بالقرآن الكريم في قول اللّه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً».ثمّ أكّدت السّنّة النّبويّة تحريمه في خطبة الوداع وفي أحاديث أخرى. ثمّ انعقد إجماع المسلمين على تحريمه.
وسمّي ربا الجاهليّة، لأنّ تعامل أهل الجاهليّة بالرّبا لم يكن إلاّ به كما قال الجصّاص.
والرّبا الّذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنّما كان قرض الدّراهم والدّنانير إلى أجلٍ بزيادةٍ على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به.
وسمّي أيضاً الرّبا الجليّ، قال ابن القيّم: الجليّ: ربا النّسيئة، وهو الّذي كانوا يفعلونه في الجاهليّة، مثل أن يؤخّر دينه ويزيده في المال، وكلّما أخّره زاده في المال حتّى تصير المائة عنده آلافاً مؤلّفةً.
- وربا الفضل يكون بالتّفاضل في الجنس الواحد من أموال الرّبا إذا بيع بعضه ببعضٍ، كبيع درهمٍ بدرهمين نقداً، أو بيع صاع قمحٍ بصاعين من القمح، ونحو ذلك.
ويسمّى ربا الفضل لفضل أحد العوضين على الآخر، وإطلاق التّفاضل على الفضل من باب المجاز، فإنّ الفضل في أحد الجانبين دون الآخر.
ويسمّى ربا النّقد في مقابلة ربا النّسيئة، ويسمّى الرّبا الخفيّ، قال ابن القيّم: الرّبا نوعان جليّ وخفيّ، فالجليّ حرّم، لما فيه من الضّرر العظيم، والخفيّ حرّم، لأنّه ذريعة إلى الجليّ، فتحريم الأوّل قصداً، وتحريم الثّاني لأنّه وسيلة، فأمّا الجليّ فربا النّسيئة وهو الّذي كانوا يفعلونه في الجاهليّة.
وأمّا ربا الفضل فتحريمه من باب سدّ الذّرائع كما صرّح به في حديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبيعوا الدّرهم بالدّرهمين فإنّي أخاف عليكم الرّماء» والرّماء هو الرّبا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النّسيئة، وذلك أنّهم إذا باعوا درهماً بدرهمين - ولا يفعل هذا إلاّ للتّفاوت الّذي بين النّوعين - إمّا في الجودة، وإمّا في السّكّة، وإمّا في الثّقل والخفّة، وغير ذلك - تدرّجوا بالرّبح المعجّل فيها إلى الرّبح المؤخّر وهو عين ربا النّسيئة، وهذا ذريعة قريبة جدّاً، فمن حكمة الشّارع أن سدّ عليهم هذه الذّريعة، وهي تسدّ عليهم باب المفسدة.
«الخلاف في ربا الفضل»
- أطبقت الأمّة على تحريم التّفاضل في بيع الرّبويّات إذا اجتمع التّفاضل مع النّساء، وأمّا إذا انفرد نقداً فإنّه كان فيه خلاف قديم: صحّ عن عبد اللّه بن عبّاسٍ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهم إباحته، وكذلك عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما مع رجوعه عنه، وروي عن عبد اللّه بن الزّبير وأسامة بن زيدٍ رضي الله عنهم، وفيه عن معاوية رضي الله عنه شيء محتمل، وزيد بن أرقم والبراء بن عازبٍ رضي الله عنهما من الصّحابة، وأمّا التّابعون: فصحّ ذلك أيضاً عن عطاء بن أبي رباحٍ وفقهاء المكّيّين، وروي عن سعيدٍ وعروة.
«انقراض الخلاف في ربا الفضل ودعوى الإجماع على تحريمه»
- نقل النّوويّ عن ابن المنذر أنّه قال: أجمع علماء الأمصار: مالك بن أنسٍ ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثّوريّ ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعيّ ومن قال بقوله من أهل الشّام، واللّيث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشّافعيّ وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو =(1/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ثورٍ وأبو حنيفة وأبو يوسف أنّه لا يجوز بيع ذهبٍ بذهبٍ، ولا فضّةٍ بفضّةٍ، ولا برٍّ ببرٍّ، ولا شعيرٍ بشعيرٍ، ولا تمرٍ بتمرٍ، ولا ملحٍ بملحٍ، متفاضلاً يداً بيدٍ، ولا نسيئةً، وأنّ من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال: وقد روينا هذا القول عن جماعةٍ من أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وجماعةٍ يكثر عددهم من التّابعين.
وناقش السّبكيّ دعوى الإجماع من عدّة وجوهٍ، وانتهى إلى القول: فعلى هذا امتنع دعوى الإجماع في تحريم ربا الفضل بوجهٍ من الوجوه، لكنّا بحمد اللّه تعالى مستغنون عن الإجماع في ذلك بالنّصوص الصّحيحة المتضافرة، وإنّما يحتاج إلى الإجماع في مسألةٍ خفيّةٍ سندها قياس أو استنباط دقيق.
«الأحاديث الدّالّة على تحريم ربا الفضل»
- روي عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في تحريم ربا الفضل
منها: ما روى عثمان بن عفّان أنّ رسول اللّه قال: «لا تبيعوا الدّينار بالدّينارين ولا الدّرهم بالدّرهمين».
وعن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «الدّينار بالدّينار والدّرهم بالدّرهم، لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورقٍ، فليصرفها بذهبٍ، ومن كانت له حاجة بذهبٍ فليصرفها بورقٍ، والصّرف هاء وهاء»
وما روى عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ» وهي في الصحيحين.
وأمّا الحديث الّذي رواه أسامة بن زيدٍ أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّما الرّبا في النّسيئة» فقد قال ابن القيّم: مثل هذا يراد به حصر الكمال وأنّ الرّبا الكامل إنّما هو في النّسيئة، كما قال اللّه تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وكقول ابن مسعودٍ: إنّما العالم الّذي يخشى اللّه، ومثله عند ابن حجرٍ، قال: قيل المعنى في قوله: لا ربا إلاّ في النّسيئة: الرّبا الأغلظ الشّديد التّحريم المتوعّد عليه بالعقاب الشّديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلاّ زيد مع أنّ فيها علماء غيره، وإنّما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل.
وقال الشّوكانيّ: يمكن الجمع بأنّ مفهوم حديث أسامة عامّ، لأنّه يدلّ على نفي ربا الفضل عن كلّ شيءٍ سواء أكان من الأجناس الرّبويّة أم لا، فهو أعمّ منها مطلقاً، فيخصّص هذا المفهوم بمنطوقها.
«الأجناس الّتي نصّ على تحريم الرّبا فيها»
- الأجناس الّتي نصّ على تحريم الرّبا فيها ستّة وهي: الذّهب والفضّة والبرّ والشّعير والتّمر والملح، وقد ورد النّصّ عليها في أحاديث كثيرةٍ، من أتمّها حديث عبادة بن الصّامت السّابق.
قال القرطبيّ: أجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السّنّة، وعليها جماعة فقهاء المسلمين، إلاّ في البرّ والشّعير فإنّ مالكاً جعلهما صنفاً واحداً، فلا يجوز منهما اثنان بواحدٍ، وهو قول اللّيث والأوزاعيّ ومعظم علماء المدينة والشّام، وأضاف مالك إليهما السّلت.
واتّفق أهل العلم على أنّ ربا الفضل لا يجري إلاّ في الجنس الواحد، ولا يجري في الجنسين ولو تقاربا لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيدٍ».
وخالف سعيد بن جبيرٍ فقال: كلّ شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، كالحنطة بالشّعير، والتّمر بالزّبيب، لأنّهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي الجنس الواحد.
راجع وفي الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 7627 - 7659) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 17 / ص 117) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 17 / ص 292) و (الجزء رقم:19، الصفحة رقم: 223) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 300) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 553) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 5 / ص 74 - 77) والمجموع شرح المهذب - (ج 10 / ص 50) والمغني - (ج 7 / ص 492) وشرح زاد المستقنع - (ج 161 / ص 14)
قلت: وهناك ربا جديد وهو ربا المصارف البنكية (البنوك)
وربا المصارف أو فوائد البنوك: من ربا النسيئة، سواء أكانت الفائدة بسيطة أم مركبة، لأن عمل البنوك الأصلي الإقراض والاقتراض، فتدفع للمقرض فائدة 4% أو 5% وتأخذ فائدة من المقترض 9% أو 12%، ولا يصح القول بأن البنك مجرد وسيط بين المودع والمقترض، يأخذ عمولة مقابل وساطته، لأن البنك ممنوع من القيام بنشاط استثماري، ولا يتقاسم المودع مع البنك الربح والخسارة، =(1/206)
وَكَذَلِكَ النَّجْشُ (1) وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَتَصْرِيَةُ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ (2) وَسَائِرُ أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ.
__________
= ولا يتقاسم البنك مع المقترض في مشروعه الأرباح والخسائر، والنسبة مع الطرفين محددة مشروطة سلفاً سواء بالنسبة للمودع أو المقترض، وإن مضار الربا في فوائد البنوك متحققة تماماً، وهي حرام حرام حرام كالربا وإثمها كإثمه، لقوله تعالى: {وإن تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم} [البقرة:279/ 2] وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو مشابه لربا الجاهلية المضاعف مع مرور الزمن. فربا النسيئة الواقع في عقدي الصرف والقرض هو الواقع الآن، كشراء نقد، (دولارات) بنقد (دراهم) دون تقابض، واقتراض أو استلاف دنانير على أن يرد زيادة عليها بنسبة معينة 5% مثلاً، أو مبلغاً مقطوعاً كمئة دينار أو ألف. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، لكنه حرام سداً للذرائع إلى ربا النسيئة. ويكون تحريم ربا المصارف بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما القول بأن «كل قرض جر نفعاً» ليس حديثاً فهو صحيح، ولكن ذلك ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم نهوا عن قرض جر نفعاً، ونهيهم مستمد من السنة النبوية وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن سلف وبيع» والسلف هو القرض في لغة الحجاز، مثل أن يقرض شخص غيره ألف درهم على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر، والزيادة حرام كما تقدم إذا كانت مشروطة أو متعارفاً عليها في القرض، فإن لم تكن مشروطة ولا متعارفاً عليها فلا بأس بها، ويمكن فهم قاعدة «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره.
وكذلك إيداع المال في المصارف والتعاقد على أن تدفع منها ضرائب الدولة أو تؤخذ الفوائد وتدفع للفقراء حرام أيضاً، لأن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً، جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يكتسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك فيه، ولا يتصدق به، فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ولكن لو كان المال مودعاً في بنوك دولة أجنبية، وسجلت له نظامياً فوائد، فلا مانع كما جاء في فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في الستينات ونشرتها مجلة الوعي الإسلامي من أخذ هذا المال وصرفه في مصالح عامة في ديار المسلمين كتعبيد الطرق وبناء المدارس والمشافي ولا تترك للأجانب يتقوون بها علينا، أوتبنى بها الكنائس، وهذا من قبيل (اختيار أهون الشرين) و (الأخذ بأخف الضررين). الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 400).
(1) - صحيح البخارى برقم (2142) ومسلم برقم (3893) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّجْشِ.
= النجش: أن يمدح السلع ليروجها أو يزيد فى ثمنها ولا يريد شراءها ليضر غيره
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 469)
قَالَ اِبْن بَطَّال: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ النَّاجِشَ عَاصٍ بِفِعْلِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيْعِ إِذَا وَقَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَسَادَ ذَلِكَ الْبَيْع، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَة عَنْ مَالِك، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ أَوْ صُنْعِهِ، وَالْمَشْهُور عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَرَّاةِ، وَالْأَصَحّ عِنْدَهُمْ صِحَّة الْبَيْعِ مَعَ الْإِثْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أَطْلَقَ الشَّافِعِيّ فِي " الْمُخْتَصَرِ " تَعْصِيَةَ النَّاجِش، وَشَرَطَ فِي تَعْصِيةِ مَنْ بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْي. وَأَجَابَ الشَّارِحُونَ بِأَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَة، وَتَحْرِيم الْخَدِيعَةِ وَاضِح لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا الْحَدِيثُ بِخُصُوصِهِ، بِخِلَاف الْبَيْع عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ فَقَدْ لَا يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلّ أَحَد. وَاسْتَشْكَلَ الرَّافِعِيّ الْفَرْق بِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ إِضْرَار وَالْإِضْرَار يَشْتَرِكُ فِي عِلْمِ تَحْرِيمِهِ كُلّ أَحَد، قَالَ: فَالْوَجْهُ تَخْصِيص الْمَعْصِيَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ ا ه. وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيّ فِي " الْمَعْرِفَةِ " و " السُّنَن " عَنْ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيص التَّعْصِيَةِ فِي النَّجْشِ أَيْضًا بِمَنْ عَلِمَ النَّهْي فَظَهَرَ أَنَّ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيّ بَحْثًا مَنْصُوصٌ، وَلَفْظ الشَّافِعِيِّ: النَّجْشُ أَنْ يَحْضُرَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ تُبَاعُ فَيُعْطِي بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقْتَدِيَ بِهِ السُّوَّامُ فَيُعْطُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَسْمَعُوا سَوْمه، فَمَنْ نَجَشَ فَهُوَ عَاصٍ بِالنَّجْشِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْي، وَالْبَيْعُ جَائِز لَا يُفْسِدُهُ مَعْصِيَة رَجُل نَجَشَ عَلَيْهِ.
(2) - صحيح البخارى برقم (2727) ومسلم برقم (3891) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ التَّلَقِّى، وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلأَعْرَابِىِّ، وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَنَهَى عَنِ النَّجْشِ، وَعَنِ التَّصْرِيَةِ.
=التصرية: جمع اللبن فى الضرع عند إرادة البيع فتبدو الشاة كثيرة اللبن
وفي شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 289). =(1/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال المهلب: هذا الحديث أصل فى الرد بالعيب والدلسة؛ لأن اللبن إذا حبس فى ضرعها أيامًا فلم تحلب، ظن المشترى أنها هكذا كل يوم، فاغتر به، وقد روى أبو الضحى عن مسروق قال ابن مسعود: «أشهد على الصادق المصدوق أبى القاسم صلى الله عليه أنه قال: بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم»،وقال بحديث المصراة جمهور العلماء، منهم: ابن أبى ليلى ومالك والليث وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا بان لمشتريها أنها مصراة ردها بعد الثلاث، ورد معها صاعًا من تمر، ورد أبو حنيفة ومحمد الحديث وقالا: ليس له أن يردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، قالوا: لأنه لو ابتاع شيئًا به عيب فإنما يأخذ الأرش ولا خيار له فى الرد البتة، ألا ترى لو ابتاع عبدًا فقطعت يده عند المشترى، ثم ظهر على عيب كان عند البائع لم يكن له رد العبد، وإنما يأخذ الأرش بقدر العيب. وزعموا أن حديث المصراة منسوخ بحديث الغلة بالضمان، قالوا: ومعلوم أن اللبن المحلوب فى المرة الأولى هو لبن التصرية، وقد خالطه جزء من اللبن الحادث فى ملك المبتاع، وكذلك المرة الثانية والثالثة غلة طارئة فى ملك المشترى، فكيف يرد له شيئًا؟ قالوا: فالأصول المجتمع عليها فى المستهلكات أنها لا تضمن إلا بالمثل أو بالقيمة من الذهب أو الورق، فكيف يجوز أن يضمن لبن التصرية الذى هو فى ملك البائع فى حين البيع بصاع تمر فات عند المشترى أو لم يفت، وقد وقعت عليه الصفقة كما وقعت على الشاة، فيكون صاعًا دينًا بلبن دين، وهذا يبين أن حديث المصراة منسوخ بتحريم الرباء؛ لأن النبى - عليه السلام - جعل الطعام بالطعام ربًا إلا هاء وهاء.
قال المهلب: وما ادعوه من نسخ حديث المصراة فباطل، والصاع المردود إنما هو عبادة، وتحلل من اللبن الذى صرى الذى وقعت عليه الصفقة، وما حدث بعده من اللبن فهو للمشترى بالضمان، ولبن التصرية لم يبعه صاحب الشاة على أنه مصرى، وإنما باعه على أنه غلة حادثة فى الحلاب، فليس له فى الحقيقة رجوع بقيمته، ولا أخذ عوض فيه؛ لأنه لم تكن نيته عند البيع أن يأخذ فيه عوضًا، ولا أنه مبيع، فلما ظهر العيب بالاختبار علم أنه عين قائمة باعه مع الشاة على أنه غلة وهو غيرها، فأمر بالصاع على وجه التحلل.
قال غيره: وأجمع العلماء على أنه إذا ردها بعيب التصرية لم يرد اللبن الحادث فى ملكه، ولم يجز أن يرد لبنا مثل لبن التصرية، لأنه لا يعلم مقداره، وإذا لم يعلم ذلك دخله بيع اللبن باللبن متفاضلا والى أجل، وذلك لا يجوز، ولما كان لبن التصرية مغيبًا لا يعلم مقداره، لأن لبن ناقة أو بقرة أكثر من لبن شاة، وأمكن التداعى فى قيمته، قطع النبى الخصومة فى ذلك بما حده من الصاع، كما فعل فى دية الجنين، قطع فيه بالغرة حسمًا لتداعى الموت فيه والحياة، لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا فى حين ضرب بطن أمه، فتكون فيه دية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا فلا تكون فيه دية كاملة، قطع النبى - عليه السلام - التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة وفى اتفاق العلماء على القول بدية الجنين دليل على أن لزوم القول بحديث المصراة اتباعًا للسنة وتسليمًا لها، ومما يشهد لصحة هذا التأويل أنها لو كانت عشر شياه أو أكثر لما رد معها إلا صاعًا واحداُ كما يرد عن الواحدة فثبت أنه ليس على سبيل القيمة والمماثلة، وإنما هو على سبيل التحليل.
قال ابن القصار: وأما قولهم فى العبد تقطع يده عند المشترى ثم يظهر على عيب أنه لا يرده، ويأخذ أرش العيب. فمذهب مالك أن المشترى بالخيار فى أن يتمسك ويأخذ أرش العيب الذى كان عند البائع، أو يرده ومعه أرش العيب الذى عنده، وهذا أصلنا، ولا يمنع حدوث العيب من الرد، كما لو اشترى العدل من المتاع ثم نشره له، ثم ظهر على عيب أنه يرده كله وكذلك يرد البيضة إذا كسرت وفيها العيب، ولو اشترى عبدين من رجل فمات أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا فإنه يرد العبد الباقى، ومع هذا فإنه قد دخل النقص فى المبيع بموت الآخر.
وقولهم: إن التمر ليس من جنس اللبن. فنقول: إن الأصول على ضربين: مضمون بالمثل، ومضمون بالقيمة، ثم لما جاز أن يكون المضمون بالقيمة غير مضمون بالقيمة فى موضع، كذلك يجوز أن يكون المضمون بالمثل غير مضمون بجنسه، ألا ترى أن الجنين فيه غرة عبد أو أمة، وليست مثلا له ولا قيمة، وأيضاُ فإن الشىء المكيل لا يكون مضمونا بالمثل والجنس إلا فى المواضع التى يمكن اعتبار ذلك فيها فأما الموضع الذى لا يمكن اعتبار مثله، فإنه يجوز أن يضمن بغير مثله، ألا ترى أننا قد اتفقنا على أن اللبن المضمون بمثله إذا تلف عليه فى وعاء أنه يمكن اعتبار المثل فيه، ثم لو أتلف عليه شاة لبونًا جعلنا بإزاء ذلك اللبن الذى أتلف فى ضرعها زيادة قيمة فيها، ولم يضمنه بالمثل إذ لا يمكن اعتباره.
قال غيره: فى حديث المصراة دلالة على أن من اشترى نخلا وفيها نخل قد أبر، أو أمة حاملا، فأكل التمر أو هلك الابن ثم رد النخل أو الأمة بعيب، أنه يرد قيمة المبيع معها، لأنه قد وقع له حصة من الثمن، كما فعل النبى بالمصراة، وهو قول ابن القاسم، وخالفه أشهب فى التمرة، وقال: التمرة للمشترى بالضمان، وقول ابن القاسم يشهد له الحديث.(1/208)
وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ (1) سَوَاءٌ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً أَوْ ثُلَاثِيَّةً إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا جَمِيعُهَا أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ (2). فَالثُّنَائِيَّةُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ (3): مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ إلَى الْقَرْضِ بَيْعًا أَوْ
__________
(1) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 79)
بَابُ الرِّبَا سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَا يُفْعَلُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا إلَى الرِّبَا وَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَكُونُ الْمَدْيُونُ مُعْسِرًا فَيَقْلِبُ الدَّيْنَ فِي مُعَامَلَةٍ أُخْرَى بِزِيَادَةِ مَالٍ وَمَا يَلْزَمُ وُلَاةُ الْأُمُورِ فِي هَذَا وَهَلْ يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ رَأْسُ مَالِهِ دُونَ مَا زَادَ فِي مُعَامَلَةِ الرِّبَا؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ: الْمُرَابَاةُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَالِاثْنَانِ مَلْعُونَانِ. وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالَ لَهُ: أَتَقْضِي؟ أَمْ تُرْبِي؟. فَإِنْ وَفَّاهُ وَإِلَّا زَادَ هَذَا فِي الْأَجَلِ وَزَادَ هَذَا فِي الْمَالِ فَيَتَضَاعَفُ الْمَالُ. وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ. وَهَذَا الرِّبَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ وَلَكِنْ تَوَسَّلُوا بِمُعَامَلَةٍ أُخْرَى؛ فَهَذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ أَنَّ هَذَا مَحْرَمٌ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِينَ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ. وَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَكَانَ الْغَرِيمُ مُعْسِرًا: لَمْ يَجُزْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْلِبَ بِالْقَلْبِ لَا بِمُعَامَلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ بَلْ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَلْبِ لَا مَعَ يَسَارِهِ وَلَا مَعَ إعْسَارِهِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمُتَعَامِلِينَ بِالْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ: بِأَنْ يَأْمُرُوا الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ رَأْسَ الْمَالِ. وَيُسْقِطُوا الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ مُغَلَّاتٌ يُوَفَّى مِنْهَا وَفِي دِينِهِ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وانظر فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 420) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 15 / ص 361) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 15 / ص 408) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 15 / ص 475) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 15 / ص 476) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 16 / ص 5) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 16 / ص 146) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 90) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 92) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 203) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 82) وفتاوى يسألونك - (ج 8 / ص 138_157) الرد على فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر التي أباحت فوائد البنوك ومجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 307) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 347) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 913) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3308) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 501) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 9 / ص 65) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 9 / ص 112) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 199) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 970) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1169) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1211) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2087) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 412) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 45) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 2 / ص 188) ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - (ج 1 / ص 317)
(2) - وفي شرح ابن بطال - (ج 11 / ص 268)
قال المؤلف: لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا فى ملكك وضمانك من الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلها، لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
وروى النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النبى - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث حكيم بن حزام، ولم يكن إسناده من شرط البخارى، فاستنبط معناه من حديث مالك بن أوس، وذلك أنه يدخل من باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون فى ملكك غائبًا من الذهب والفضة، لا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذلك البر والتمر والشعير لا يباع شىء منها بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، وكذلك ما كان فى معناها من سائر أنواع الطعام، لا يباع منها طعام بطعام إلا يدًا بيد، لقوله عليه السلام: «إلا هاء وهاء»،يعنى خذ وأعط حياطة من الله - تعالى - لأصول الأموال وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع ما ليس عندك ومن ربح ما لم يضمن وهو السلم، فجوزت فيه بيع ما ليس عندك مما يكون فى الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله - تعالى - لعباده ورفقًا بهم.
قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع.
وقال غيره: ومن بيع ما ليس عندك العينة، وهى ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كأن رجلا سأل رجلا أن يسلفه دراهم بدراهم أكثر منها فقال له: هذا لا يحل، ولكن أبيعك فى الدراهم التى سألتنى سلعة كذا ليست عندى، أبتاعها لك فبكم تشتريها منى؟ فيوافقه على الثمن يبتاعها ويسلمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهى بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فسخ عند مالك فى مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنك إنما أسلفته الثمن الذى ابتاعها به.
وقد روى عن مالك أنه لا يفسخ البيع، لأن المأمور كان ضامنًا للسلعة لو هلكت. قال ابن القاسم: وأحب إلى لو تورع عن أخذ ما ازداده عليه. وقال عيسى بن دينار: بل يفسخ البيع إلا أن تفوت السلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق.
(3) - وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381)
ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا، وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يكون من واحد، كما إذا باعه سلعة بنسيئة، ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقداً، حيلة على الربا.
وثانيها: ما تكون ثنائية: وهي أن تكون من اثنين، مثل أن يجمع إلى القرض بيعاً أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» قال الترمذي: حديث صحيح.
وثالثها: ما تكون ثلاثية: وهي أن يدخلا بينهما محللاً للربا، فيشتري السلعة من آكل الربا، ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل.
وانظر مجموع رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - (ج 33 / ص 7) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 327)(1/209)
إجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:" «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (1).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (3506) و سنن الترمذى برقم (1279) وهو صحيح
عون المعبود - (ج 7 / ص 499)
(لَا يَحِلّ سَلَف وَبَيْع):قَالَ الْخَطَّابِيّ: وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَقُول أَبِيعك هَذَا الْعَبْد بِخَمْسِينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ تُسَلِّفنِي أَلْف دِرْهَم فِي مَتَاع أَبِيعهُ مِنْك إِلَى أَجَل أَوْ يَقُول أَبِيعكَهُ بِكَذَا عَلَى أَنْ تُقْرِضنِي أَلْف دِرْهَم وَيَكُون مَعْنَى السَّلَف الْقَرْض، وَذَلِكَ فَاسِد لِأَنَّهُ يُقْرِضهُ عَلَى أَنْ يُحَابِيه (الْمُحَابَاة الْمُسَامَحَة وَالْمُسَاهَلَة لِيُحَابِيَهُ أَيْ لِيُسَامِحهُ فِي الثَّمَن):فِي الثَّمَن فَيَدْخُل الثَّمَن فِي حَدّ الْجَهَالَة، وَلِأَنَّ كُلّ قَرْض جَرّ مَنْفَعَة فَهُوَ رِبًا اِنْتَهَى.
(وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع):قَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ أَنْ يَقُول بِعْتُك هَذَا الْعَبْد بِأَلِفٍ نَقْدًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَة، فَهَذَا بَيْع وَاحِد تَضَمَّن شَرْطَيْنِ يَخْتَلِف الْمَقْصُود فِيهِ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَلَا فَرْق بَيْن شَرْطَيْنِ وَشُرُوط، وَهَذَا التَّفْسِير مَرْوِيّ عَنْ زَيْد بْن عَلِيّ وَأَبِي حَنِيفَة. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ يَقُول بِعْتُك ثَوْبِي بِكَذَا وَعَلَيَّ قِصَارَته وَخِيَاطَته، فَهَذَا فَاسِد عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء. وَقَالَ أَحْمَد إِنَّهُ صَحِيح. وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث بَعْض أَهْل الْعِلْم فَقَالَ إِنْ شَرَطَ فِي الْبَيْع شَرْطًا وَاحِدًا صَحَّ وَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَوْ أَكْثَر لَمْ يَصِحّ فَيَصِحّ مَثَلًا أَنْ يَقُول بِعْتُك ثَوْبِيّ عَلَى أَنْ أَخِيطهُ وَلَا =(1/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= يَصِحّ أَنْ يَقُول عَلَى أَنْ أُقَصِّرهُ وَأَخِيطهُ. وَمَذْهَب الْأَكْثَر عَدَم الْفَرْق بَيْن الشَّرْط وَالشَّرْطَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَم صِحَّة مَا فِيهِ شَرْطَانِ. كَذَا فِي النَّيْل
(وَلَا رِبْح مَا لَمْ يَضْمَن):يَعْنِي لَا يَجُوز أَنْ يَأْخُذ رِبْح سِلْعَة لَمْ يَضْمَنهَا، مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا وَيَبِيعهُ إِلَى آخَر قَبْل قَبْضه مِنْ الْبَائِع، فَهَذَا الْبَيْع بَاطِل وَرِبْحه لَا يَجُوز، لِأَنَّ الْمَبِيع فِي ضَمَان الْبَائِع الْأَوَّل وَلَيْسَ فِي ضَمَان الْمُشْتَرِي مِنْهُ لِعَدَمِ الْقَبْض. قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن صَحِيح، وَيُشْبِه أَنْ يَكُون صَحِيحًا لِتَصْرِيحِهِ بِذِكْرِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَيَكُون مَذْهَبه فِي الِامْتِنَاع بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْب إِنَّمَا هُوَ الشَّكّ فِي إِسْنَاده لِجَوَازِ أَنْ يَكُون الضَّمِير عَائِدًا عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، فَإِذَا صَحَّ بِذِكْرِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو اِنْتَفَى ذَلِكَ، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم.
تَعْلِيقُ الْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ:
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين ابْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث أَصْل مِنْ أُصُول الْمُعَامَلَات، وَهُوَ نَصّ فِي تَحْرِيم الْحِيَل الرِّبَوِيَّة، وَقَدْ اِشْتَمَلَ عَلَى أَرْبَعَة أَحْكَام.
الْحُكْم الْأَوَّل: تَحْرِيم الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْع، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى أَكْثَر الْفُقَهَاء مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّرْطَيْنِ إِنْ كَانَا فَاسِدَيْنِ فَالْوَاحِد حَرَام فَأَيّ فَائِدَة لِذِكْرِ الشَّرْطَيْنِ؟ وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ لَمْ يَحْرُمَا.
فَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر: قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق: فِيمَنْ اِشْتَرَى ثَوْبًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِع خِيَاطَته وَقَصَارَته أَوْ طَعَامًا وَاشْتَرَطَ طَحْنه وَحَمْله - إِنْ شَرَطَ أَحَد هَذِهِ الْأَشْيَاء فَالْبَيْع جَائِز، وَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ فَالْبَيْع بَاطِل.
وَهَذَا فَسَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْره عَنْ أَحْمَد فِي تَفْسِيره رِوَايَة ثَانِيَة، حَكَاهَا الْأَثْرَم، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيهَا عَلَى أَنْ لَا يَبِيعهَا مِنْ أَحَد وَلَا يَطَأهَا فَفَسَّرَهُ بِالشَّرْطَيْنِ الْفَاسِدَيْنِ.
وَعَنْهُ رِوَايَة ثَالِثَة، حَكَاهَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد الشَّالَنْجِيّ عَنْهُ: هُوَ أَنْ يَقُول: إِذَا بِعْتهَا فَأَنَا أَحَقّ بِهَا بِالثَّمَنِ، وَأَنْ تَخْدُمنِي سَنَة، وَمَضْمُون هَذِهِ الرِّوَايَة: أَنَّ الشَّرْطَيْنِ يَتَعَلَّقَانِ بِالْبَائِعِ، فَيَبْقَى لَهُ فِيهَا عَلَقَتَانِ: عَلَقَة قَبْل التَّسْلِيم، وَهِيَ الْخِدْمَة وَعَلَقَة بَعْد الْبَيْع، وَهِيَ كَوْنه أَحَقّ بِهَا.
فَأَمَّا اِشْتِرَاط الْخِدْمَة: فَيَصِحّ، وَهُوَ اِسْتِثْنَاء مَنْفَعَة الْمَبِيع مُدَّة كَاسْتِثْنَاءِ رُكُوب الدَّابَّة وَنَحْوه وَأَمَّا شَرْط كَوْنه أَحَقّ بِهَا بِالثَّمَنِ: فَقَالَ فِي رِوَايَة الْمَرْوَزِيِّ: هُوَ فِي مَعْنَى حَدِيث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لَا شَرْطَانِ فِي بَيْع " يَعْنِي لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَبِيعهُ إِيَّاهُ، وَأَنْ يَكُون الْبَيْع بِالثَّمَنِ الْأَوَّل، فَهُمَا شَرْطَانِ فِي بَيْع.
وَرَوَى عَنْهُ إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد: جَوَاز هَذَا الْبَيْع، وَتَأَوَّلَهُ بَعْض أَصْحَابنَا عَلَى جَوَازه فَسَاد الشَّرْط.
وَحَمَلَ رِوَايَة الْمَرْوَزِيِّ عَلَى فَسَاد الشَّرْط وَحْده، وَهُوَ تَأْوِيل بَعِيد، وَنَصّ أَحْمَد يَأْبَاهُ.
قَالَ إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد ذَكَرْت لِأَحْمَد حَدِيث اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ " اِبْتَعْت مِنْ اِمْرَأَتِي زَيْنَب الثَّقَفِيَّة جَارِيَة، وَشَرَطْت لَهَا أَنِّي إِنْ بِعْتهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اِبْتَعْتهَا بِهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَر، فَقَالَ: لَا تَقْرَبهَا وَلِأَحَدٍ فِيهَا شَرْط " فَقَالَ أَحْمَد: الْبَيْع جَائِز وَلَا تَقْرَبهَا، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا شَرْط وَاحِد لِلْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَر فِي ذَلِكَ الْبَيْع: إِنَّهُ فَاسِد.
فَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَصْحِيح أَحْمَد لِلشَّرْطِ مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه.
أَحَدهَا: أَنَّهُ قَالَ:" لَا تَقْرَبهَا " وَلَوْ كَانَ الشَّرْط فَاسِدًا لَمْ يُمْنَع مِنْ قُرْبَانهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَانِع مِنْ الْقُرْبَان هُوَ الشَّرْط، وَأَنَّ وَطْأَهَا يَتَضَمَّن إِبْطَال ذَلِكَ الشَّرْط، لِأَنَّهَا قَدْ تَحْمِل، فَيَمْتَنِع عَوْدهَا إِلَيْهَا.
الثَّالِث: أَنَّهُ قَالَ " كَانَ فِيهَا شَرْط وَاحِد لِلْمَرْأَةِ " فَذِكْره وَحْدَة الشَّرْط يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صَحِيح عِنْده، لِأَنَّ النَّهْي إِنَّمَا هُوَ عَنْ الشَّرْطَيْنِ.
وَقَدْ حَكَى عَنْهُ بَعْض أَصْحَابنَا رِوَايَة صَرِيحَة: أَنَّ الْبَيْع جَائِز، وَالشَّرْط صَحِيح، وَلِهَذَا حَمَلَ الْقَاضِي مَنْعه مِنْ الْوَطْء عَلَى الْكَرَاهَة، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَحْرِيمِهِ عِنْده، مَعَ فَسَاد الشَّرْط.
وَحَمَلَهُ اِبْن عُقَيْل عَلَى الشُّبْهَة، لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّة هَذَا الْعَقْد.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّد: ظَاهِر كَلَام أَحْمَد: أَنَّهُ مَتَى شَرَطَ فِي الْعَقْد شَرْطَيْنِ بَطَلَ سَوَاء كَانَ صَحِيحَيْنِ أَوْ فَاسِدَيْنِ لِمَصْلَحَةِ الْعَقْد أَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَته، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيث، وَعَمَلًا بِعُمُومِهِ وَأَمَّا أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة: فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن الشَّرْط وَالشَّرْطَيْنِ، وَقَالُوا: يَبْطُل الْبَيْع بِالشَّرْطِ الْوَاحِد، لِنَهْيِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع وَشَرْط، وَأَمَّا الشُّرُوط الصَّحِيحَة: فَلَا تُؤَثِّر فِي الْعَقْد وَإِنْ كَثُرَتْ، وَهَؤُلَاءِ أَلْغَوْا التَّقْيِيد بِالشَّرْطَيْنِ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا أَثَر لَهُ أَصْلًا. =(1/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَكُلّ هَذِهِ الْأَقْوَال بَعِيدَة عَنْ مَقْصُود الْحَدِيث غَيْر مُرَادَة مِنْهُ.
فَأَمَّا الْقَوْل الْأَوَّل، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِط حَمْل الْحَطَب وَتَكْسِيره، وَخِيَاطَة الثَّوْب وَقَصَارَته وَنَحْو ذَلِكَ: فَبَعِيد، فَإِنَّ اِشْتِرَاط مَنْفَعَة الْبَائِع فِي الْبَيْع إِنْ كَانَ فَاسِدًا فَسَدَ الشَّرْط وَالشَّرْطَانِ.
وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَأَيّ فَرْق بَيْن مَنْفَعَة أَوْ مَنْفَعَتَيْنِ أَوْ مَنَافِع؟ لَا سِيَّمَا وَالْمُصَحِّحُونَ لِهَذَا الشَّرْط قَالُوا: هُوَ عَقْد قَدْ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَة، وَهُمَا مَعْلُومَانِ لَمْ يَتَضَمَّنَا غَرَرًا. فَكَانَا صَحِيحَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْمُوَاجِب لِفَسَادِ الْإِجَارَة عَلَى مَنْفَعَتَيْنِ وَصِحَّتهَا عَلَى مَنْفَعَة؟ وَأَيّ فَرْق بَيْن أَنْ يَشْتَرِط عَلَى بَائِع الْحَطَب حَمْله، أَوْ حَمْله وَنَقْله، أَوْ حَمْله وَتَكْسِيره؟.
وَأَمَّا التَّفْسِير الثَّانِي، وَهُوَ الشَّرْطَانِ الْفَاسِدَانِ: فَأَضْعَف وَأَضْعَف، لِأَنَّ الشَّرْط الْوَاحِد الْفَاسِد مَنْهِيّ عَنْهُ. فَلَا فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بِشَرْطَيْنِ فِي بَيْع، وَهُوَ يَتَضَمَّن زِيَادَة فِي اللَّفْظ، وَإِيهَامًا لِجَوَازِ الْوَاحِد. وَهَذَا مُمْتَنِع عَلَى الشَّارِع مِثْله. لِأَنَّهُ زِيَادَة مُخِلَّة بِالْمَعْنَى.
وَأَمَّا التَّفْسِير الثَّالِث، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِط أَنَّهُ إِنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهَا بِالثَّمَنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّن شَرْطَيْنِ: أَنْ لَا يَبِيعهَا لِغَيْرِهَا وَأَنْ تَبِيعهُ إِيَّاهَا بِالثَّمَنِ فَكَذَلِكَ، أَيْضًا فَإِنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِنْ كَانَ فَاسِدًا فَلَا أَثَر لِلشَّرْطَيْنِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ تَفْسُد بِانْضِمَامِهِ إِلَى صَحِيح مِثْلُه، كَاشْتِرَاط الْرَّهْن وَالضَّمِين وَاشْتِرَاط التَّأْجِيل وَالرَّهْن وَنَحْو ذَلِكَ وَعَنْ أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاث رِوَايَات.
إِحْدَاهُنَّ: صِحَّة الْبَيْع وَالشَّرْط. وَالثَّانِيَة: فَسَادهمَا. وَالثَّالِثَة: صِحَّة الْبَيْع وَفَسَاد الشَّرْط.
وَهُوَ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - إِنَّمَا اِعْتَمَدَ فِي الصِّحَّة عَلَى اِتِّفَاق عُمَر وَابْن مَسْعُود عَلَى ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الشَّرْطَانِ فِي الْبَيْع لَمْ يُخَالِفْهُ الْقَوْل أَحَد، عَلَى قَاعِدَة مَذْهَبه. فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْده فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث صَحِيح لَمْ يَتْرُكهُ لِقَوْلِ أَحَد. وَيُعْجَب مِمَّنْ يُخَالِفهُ مِنْ صَاحِب أَوْ غَيْره.
وَقَوْله فِي رِوَايَة الْمَرْوَزِيّ: هُوَ فِي مَعْنَى حَدِيث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لَا شَرْطَانِ فِي بَيْع " لَيْسَ تَفْسِيرًا مِنْهُ صَرِيحًا، بَلْ تَشْبِيه وَقِيَاس عَلَى مَعْنَى الْحَدِيث، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَفْسِير فَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَقْصُودِ الْحَدِيث، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا تَفْسِير الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّد: فَمِنْ أَبْعَد مَا قِيلَ فِي الْحَدِيث وَأَفْسَده. فَإِنَّ شَرْط مَا يَقْتَضِيه الْعَقْد، أَوْ مَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَته، كَالرَّهْنِ وَالتَّأْجِيل وَالضَّمِين وَنَقْد كَذَا: جَائِز، بِلَا خِلَاف، تَعَدَّدَتْ الشُّرُوط أَوْ اِتَّحَدَتْ.
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذِهِ الْأَقْوَال فَالْأَوْلَى تَفْسِير كَلَام النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْضه بِبَعْضٍ. فَنُفَسِّر كَلَامه بِكَلَامِهِ.
فَنَقُول: نَظِير هَذَا نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة. فَرَوَى سِمَاك عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَنْ أَبِيهِ قَالَ " نَهَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة ".
وَفِي السُّنَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعه فَلَهُ أَوَكْسهمَا، أَوْ الرِّبَا ".
وَقَدْ فُسِّرَتْ الْبَيْعَتَانِ فِي الْبَيْعَة بِأَنْ يَقُول " أَبِيعك بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ بِعِشْرِينَ وَنَسِيئَة " هَذَا بَعِيد مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدهمَا: أَنَّهُ لَا يُدْخِل الرِّبَا فِي هَذَا الْعَقْد.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَفْقَتَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ صَفْقَة وَاحِدَة بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ. وَقَدْ رَدَّدَهُ بَيْن الْأَوَّلِيَّيْنِ أَوْ الرِّبَا. وَمَعْلُوم أَنَّهُ إِذَا أُخِذَ بِالثَّمَنِ الْأَزْيَد فِي هَذَا الْعَقْد لَمْ يَكُنْ رِبًا. فَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيث.
وَفُسِّرَ بِأَنْ يَقُول " خُذْ هَذِهِ السِّلْعَة بِعَشَرَةٍ نَقْدًا وَآخُذهَا مِنْك بِعِشْرِينَ نَسِيئَة وَهِيَ مَسْأَلَة الْعِينَة بِعَيْنِهَا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُطَابِق لِلْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْصُوده الدَّرَاهِم الْعَاجِلَة بِالْآجِلَةِ فَهُوَ لَا يَسْتَحِقّ إِلَّا رَأْس مَاله، وَهُوَ أَوَكْس الثَّمَنَيْنِ فَإِنْ أَخَذَهُ أَخَذَ أَوَكْسهمَا، وَإِنْ أَخَذَ الثَّمَن الْأَكْثَر فَقَدْ أَخَذَ الرِّبَا. فَلَا مَحِيد لَهُ عَنْ أَوَكْس الثَّمَنَيْنِ أَوْ الرِّبَا. وَلَا يَحْتَمِل الْحَدِيث غَيْر هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الشَّرْطَانِ فِي بَيْعٍ. فَإِنَّ الشَّرْط يُطْلَق عَلَى الْعَقْد نَفْسه. لِأَنَّهُمَا تَشَارَطَا عَلَى الْوَفَاء بِهِ فَهُوَ مَشْرُوط، وَالشَّرْط يُطْلَق عَلَى الْمَشْرُوط كَثِيرًا، كَالضَّرْبِ يُطْلَق عَلَى الْمَضْرُوب، وَالْحَلْق عَلَى الْمَحْلُوق وَالنَّسْخ عَلَى الْمَنْسُوخ. فَالشَّرْطَانِ كَالصَّفْقَتَيْنِ سَوَاء. فَشَرْطَانِ فِي بَيْع كَصَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ يَتَّضِح لَك هَذَا الْمَعْنَى فَتَأَمَّلْ نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة، وَعَنْ سَلَف وَبَيْع. رَوَاهُ أَحْمَد. وَنَهْيه فِي هَذَا الْحَدِيث عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْع وَعَنْ سَلَف فِي بَيْع فَجَمَعَ السَّلَف وَالْبَيْع مَعَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْع، وَمَعَ الْبَيْعَتَيْنِ فِي الْبَيْعَة.
وَسِرّ ذَلِكَ: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يَئُول إِلَى الرِّبَا، وَهُوَ ذَرِيعَة إِلَيْهِ. =(1/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَة: فَظَاهِر، فَإِنَّهُ إِذَا بَاعَهُ السِّلْعَة إِلَى شَهْر ثُمَّ اِشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمَا شَرَطَهُ لَهُ، كَانَ قَدْ بَاعَ بِمَا شَرَطَهُ لَهُ بِعَشَرَةٍ نَسِيئَة. وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله الْعِينَة. وَأَمَّا السَّلَف وَالْبَيْع: فَلِأَنَّهُ إِذَا أَقْرَضَهُ مِائَة إِلَى سَنَة، ثُمَّ بَاعَهُ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةٍ: فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْبَيْع ذَرِيعَة إِلَى الزِّيَادَة فِي الْقَرْض الَّذِي مُوجِبه رَدّ الْمِثْل، وَلَوْلَا هَذَا الْبَيْع لَمَا أَقْرَضَهُ وَلَوْلَا عَقْد الْقَرْض لَمَا اِشْتَرَى ذَلِكَ.
فَظَهَرَ سِرّ قَوْله - صلى الله عليه وسلم - " لَا يَحِلّ سَلَف وَبَيْع، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْع " وَقَوْل اِبْن عُمَر " نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة وَعَنْ سَلَف وَبَيْع " وَاقْتِرَان إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لَمَّا كَانَا سَلِمَا إِلَى الرِّبَا.
وَمَنْ نَظَرَ فِي الْوَاقِع وَأَحَاطَ بِهِ عِلْمًا فَهِمَ مُرَاد الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَلَامه، وَنَزَّلَهُ عَلَيْهِ.
وَعَلِمَ أَنَّهُ كَلَام مَنْ جُمِعَتْ لَهُ الْحِكْمَة، وَأُوتِيَ جَوَامِع الْكَلِم، فَصَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ، وَجَزَاهُ أَفْضَل مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّته.
وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف: اُطْلُبُوا الْكُنُوز تَحْت كَلِمَات رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَلَمَّا كَانَ مُوجِب عَقْد الْقَرْض رَدّ الْمِثْل مِنْ غَيْر زِيَادَة كَانَتْ الزِّيَادَة رِبًا.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّف إِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِف زِيَادَة أَوْ هَدِيَّة.
فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَخْذ الزِّيَادَة عَلَى ذَلِكَ رِبًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأُبَيّ بْن كَعْب وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمْ " نَهَوْا عَنْ قَرْض جَرّ مَنْفَعَة " وَكَذَلِكَ إِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرهُ دَاره، أَوْ يَبِيعهُ شَيْئًا: لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إِلَى الرِّبَا. وَلِهَذَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -،وَلِهَذَا مَنَعَ السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ قَبُول هَدِيَّة الْمُقْتَرِض إِلَّا أَنْ يَحْتَسِبهَا الْمُقْرِض مِنْ الدَّيْن.
فَرَوَى الْأَثْرَم " أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى سَمَّاك عِشْرُونَ دِرْهَمًا، فَجَعَلَ يُهْدِي إِلَيْهِ السَّمَك وَيُقَوِّمهُ، حَتَّى بَلَغَ ثَلَاثَة عَشَر دِرْهَمًا، فَسَأَلَ اِبْن عَبَّاس فَقَالَ: أَعْطِهِ سَبْعَة دَرَاهِم.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن سِيرِينَ " أَنَّ عُمَر أَسْلَفَ أُبَيّ بْن كَعْب عَشَرَة آلَاف دِرْهَم، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أُبَيّ مِنْ ثَمَرَة أَرْضه، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيّ فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْل الْمَدِينَة أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَة، وَأَنَّهُ لَا حَاجَة لَنَا. فَبِمَ مَنَعْت هَدِيَّتنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ فَقَبِلَ " فَكَانَ رَدّ عُمَر لَمَّا تَوَهَّمَ أَنْ تَكُون هَدِيَّته بِسَبَبِ الْقَرْض. فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْقَرْض قَبِلَهَا. وَهَذَا فَصْل النِّزَاع فِي مَسْأَلَة هَدِيَّة الْمُقْتَرِض.
وَقَالَ زِرّ بْن حُبَيْش: قُلْت لِأُبَيّ بْن كَعْب " إِنِّي أُرِيد أَنْ أَسِير إِلَى أَرْض الْجِهَاد إِلَى الْعِرَاق، فَقَالَ: إِنَّك تَأْتِي أَرْضًا فَاشٍ بِهَا الرِّبَا، فَإِنْ أَقْرَضْت رَجُلًا قَرْضًا، فَأَتَاك بِقَرْضِك لِيُؤَدِّيَ إِلَيْك قَرْضك وَمَعَهُ هَدِيَّة، فَاقْبِضْ قَرْضك، وَارْدُدْ عَلَيْهِ هَدِيَّته " ذَكَرهنَّ الْأَثْرَم.
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي بُرْدَة بْن أَبِي مُوسَى قَالَ " قَدِمْت الْمَدِينَة، فَلَقِيت عَبْد اللَّه بْن سَلَام - فَذَكَرَ الْحَدِيث - وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ لِي: إِنَّك بِأَرْضٍ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُل دَيْن، فَأَهْدَى إِلَيْك حِمْل تِبْن، أَوْ حِمْل قَتّ، أَوْ حِمْل شَعِير، فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا " قَالَ اِبْن أَبُو مُوسَى: وَلَوْ أَقْرَضَهُ قَرْضًا ثُمَّ اِسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا، لَمْ يَكُنْ يَسْتَعْمِلهُ مِثْله قَبْل الْقَرْض، كَانَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَة، قَالَ: وَلَوْ اِسْتَضَافَ غَرِيمه، وَلَمْ تَكُنْ الْعَادَة جَرَتْ بَيْنهمَا بِذَلِكَ حَسَبَ لَهُ مَا أَكَلَهُ.
وَاحْتَجَّ لَهُ صَاحِب الْمُغْنِي بِمَا رَوَى اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ أَنَس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا اِقْتَرَضَ أَحَدكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّته، فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُون جَرَى بَيْنه وَبَيْنه قَبْل ذَلِكَ ".
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ أَحْمَد فِيمَا لَوْ أَقْرَضَهُ دَرَاهِم، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيه إِيَّاهَا بِبَلَدٍ آخَر، وَلَا مُؤْنَة لِحَمْلِهَا، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوز، وَكَرِهَهُ الْحَسَن وَجَمَاعَة وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَوَاز. نَقَلَهُ اِبْن الْمُنْذِر، لِأَنَّهُ مَصْلَحَة لَهُمَا، فَلَمْ يَنْفَرِد الْمُقْتَرِض بِالْمَنْفَعَةِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس، وَالْحَسَن بْن عَلِيّ، وَابْن الزُّبَيْر، وَابْن سِيرِينَ، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَسْوَد، وَأَيُّوب، وَالثَّوْرِيّ وَإِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي.
وَنَظِير هَذَا: مَا لَوْ أَفْلَسَ غَرِيمه فَأَقْرَضَهُ دَرَاهِم يُوَفِّيه كُلّ شَهْر شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ رِبْحهَا جَازَ. لِأَنَّ الْمُقْتَرِض لَمْ يَنْفَرِد بِالْمَنْفَعَةِ.
وَنَظِيره: مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِنْطَة فَأَقْرَضَهُ دَرَاهِم يَشْتَرِي لَهُ بِهَا حِنْطَة وَيُوَفِّيه إِيَّاهَا.
وَنَظِير ذَلِكَ أَيْضًا: إِذَا أَقْرَضَ فَلَّاحًا مَا يَشْتَرِي بِهِ بَقَرًا يَعْمَل بِهَا فِي أَرْضه، أَوْ بَذْرًا يَبْذُرهُ فِيهَا.
وَمَنَعَهُ اِبْن أَبِي مُوسَى.
وَالصَّحِيح جَوَازه وَهُوَ اِخْتِيَار صَاحِب الْمُغْنِي. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِض إِنَّمَا يَقْصِد نَفْع نَفْسه، وَيَحْصُل اِنْتِفَاع الْمُقْرِض ضِمْنًا، فَأَشْبَهَ أَخْذ السَّفْتَجَة بِهِ وَإِيفَاءَهُ إِيَّاهُ فِي بَلَد آخَر، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَصْلَحَة لَهُمَا جَمِيعًا. =(1/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَالْمَنْفَعَة الَّتِي تَجُرّ إِلَى الرِّبَا فِي الْقَرْض، هِيَ الَّتِي تَخُصّ الْمُقْرِض كَسُكْنَى دَار الْمُقْتَرِض وَرُكُوب دَوَابّه، وَاسْتِعْمَاله، وَقَبُول هَدِيَّته. فَإِنَّهُ لَا مَصْلَحَة لَهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسَائِل فَإِنَّ الْمَنْفَعَة مُشْتَرِكَة بَيْنهمَا، وَهُمَا مُتَعَاوِنَانِ عَلَيْهَا، فَهِيَ مِنْ جِنْس التَّعَاوُن وَالْمُشَارَكَة. وَأَمَّا نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رِبْح مَا لَمْ يُضْمَنْ. فَهُوَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر حَيْثُ قَالَ لَهُ " إِنِّي أَبِيع الْإِبِل بِالْبَقِيعِ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذ الدَّنَانِير، وَأَبِيع بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذ الدَّرَاهِم. فَقَالَ: لَا بَأْس إِذَا أَخَذْتهَا بِسِعْرِ يَوْمهَا وَتَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنكُمَا شَيْء ".
فَجَوَّزَ ذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ.
أَحَدهمَا: أَنْ يَأْخُذ بِسِعْرِ يَوْم الصَّرْف، لِئَلَّا يَرْبَح فِيهَا وَلِيَسْتَقِرَّ ضَمَانه.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَفَرَّقَا إِلَّا عَنْ تَقَابُض، لِأَنَّهُ شَرْط فِي صِحَّة الصَّرْف لِئَلَّا يَدْخُلهُ رِبَا النَّسِيئَة.
وَالنَّهْي عَنْ رِبْح مَا لَمْ يُضْمَن قَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْض الْفُقَهَاء عِلَّته وَهُوَ مِنْ مَحَاسِن الشَّرِيعَة. فَإِنَّهُ لَمْ يَتِمّ عَلَيْهِ اِسْتِيلَاء، وَلَمْ تَنْقَطِع عُلَق الْبَائِع عَنْهُ فَهُوَ يَطْمَع فِي الْفَسْخ وَالِامْتِنَاع مِنْ الْإِقْبَاض إِذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فِيهِ، وَإِنْ أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ فَإِنَّمَا يُقْبِضهُ عَلَى إِغْمَاض وَتَأَسُّف عَلَى فَوْت الرِّبْح فَنَفْسه مُتَعَلِّقَة بِهِ لَمْ يَنْقَطِع طَمَعهَا مِنْهُ.
وَهَذَا مَعْلُوم بِالْمُشَاهَدَةِ. فَمِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَة وَمَحَاسِنهَا النَّهْي عَنْ الرِّبْح فِيهِ حَتَّى يَسْتَقِرّ عَلَيْهِ وَيَكُون مِنْ ضَمَانه، فَيَيْأَس الْبَائِع مِنْ الْفَسْخ، وَتَنْقَطِع عُلَقه عَنْهُ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي الِاعْتِيَاض عَنْ دَيْن الْقَرْض وَغَيْره: أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَاض عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمه لِئَلَّا يَرْبَح فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِض عَلَيْكُمْ بِمَسْأَلَتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: بَيْع الثِّمَار بَعْد بُدُوّ صَلَاحهَا، فَإِنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ لِمُشْتَرِيهَا أَنْ يَبِيعهَا عَلَى رُءُوس الْأَشْجَار وَأَنْ يَرْبَح فِيهَا وَلَوْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ لَكَانَتْ مِنْ ضَمَانَة الْبَائِع، فَيَلْزَمكُمْ أَحَد أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَمْنَعُوا بَيْعهَا. وَإِمَّا أَنْ لَا تَقُولُوا بِوَضْعِ الْجَوَائِح. كَمَا يَقُول الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة. بَلْ تَكُون مِنْ ضَمَانه فَكَيْفَ تَجْمَعُونَ بَيْن هَذَا وَهَذَا؟
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّر الْعَيْن الْمُسْتَأْجَرَة بِمِثْلِ الْأُجْرَة وَزِيَادَة، مَعَ أَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ لَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْمُؤَجِّر، فَهَذَا رِبْح مَا لَمْ يُضْمَنْ.
قِيلَ: النَّقْض الْوَارِد إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَسْأَلَةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، أَوْ مُجْمَع عَلَى حُكْمهَا. وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ غَيْر مَنْصُوص عَلَيْهِمَا وَلَا مُجْمَع عَلَى حُكْمهمَا فَلَا يَرُدَّانِ نَقْضًا. فَإِنَّ فِي جَوَاز بَيْع الْمُشْتَرِي مَا اِشْتَرَاهُ مِنْ الثِّمَار عَلَى الْأَشْجَار كَذَلِكَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَد. فَإِنْ مَنَعْنَا الْبَيْع بَطَلَ النَّقْض وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبَيْع - وَهُوَ الصَّحِيح - فَلِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ الثِّمَار قَدْ لَا يُمْكِن بَيْعهَا إِلَّا كَذَلِكَ، فَلَوْ مَنَعْنَاهُ مِنْ بَيْعهَا أَضْرَرْنَا بِهِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهَا مِنْ ضَمَانه إِذَا تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ أَضْرَرْنَا بِهَا أَيْضًا، فَجَوَّزْنَا لَهُ بَيْعهَا، لِأَنَّهَا فِي حُكْم الْمَقْبُوض بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنه وَبَيْنهَا، وَجَعَلْنَاهَا مِنْ ضَمَان الْبَائِع بِالْجَائِحَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حُكْم الْمَقْبُوض مِنْ جَمِيع الْوُجُوه، وَلِهَذَا يَجِب عَلَيْهِ تَمَام التَّسْلِيم بِالْوَجْهِ الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَتْ مَقْبُوضَة مِنْ وَجْه غَيْر مَقْبُوضَة مِنْ وَجْه رَتَّبْنَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَهَذَا مِنْ أَلْطَف الْفِقْه.
وَأَمَّا مَسْأَلَة الْإِجَارَة: فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ أَحْمَد فِي جَوَاز إِجَارَة الرَّجُل مَا اِسْتَأْجَرَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَلَاث رِوَايَات:
إِحْدَاهُنَّ: الْمَنْع مُطْلَقًا، لِئَلَّا يَرْبَح فِيمَا لَمْ يَضْمَن وَعَلَى هَذَا فَالنَّقْض مُنْدَفِع.
وَالثَّانِيَة: أَنَّهُ إِنْ جَدَّدَ فِيهَا عِمَارَة جَازَتْ الزِّيَادَة، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الزِّيَادَة لَا تَكُون رِبْحًا بَلْ هِيَ فِي مُقَابَلَة مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْعِمَارَة. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة أَيْضًا فَالنَّقْض مُنْدَفِع.
وَالثَّالِثَة: أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُؤَجِّرهَا بِأَكْثَر مِمَّا اِسْتَأْجَرَهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَهَذِهِ الرِّوَايَة أَصَحّ. فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِر لَوْ عَطَّلَ الْمَكَان وَأَتْلَفَ مَنَافِعه بَعْد قَبْضه لَتَلِفَ مِنْ ضَمَانه، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ الْقَبْض التَّامّ. وَلَكِنْ لَوْ اِنْهَدَمَتْ الدَّار لَتَلِفَتْ مِنْ مَال الْمُؤَجِّر لِزَوَالِ مَحَلّ الْمَنْفَعَة فَالْمَنَافِع مَقْبُوضَة. وَلِهَذَا لَهُ اِسْتِثْنَاؤُهَا بِنَفْسِهِ وَبِنَظِيرِهِ، وَإِيجَارهَا وَالتَّبَرُّع بِهَا، وَلَكِنَّ كَوْنهَا مَقْبُوضَة مَشْرُوط بِبَقَاءِ الْعَيْن. فَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْن زَالَ مَحَلّ الِاسْتِيفَاء، فَكَانَتْ مِنْ ضَمَان الْمُؤَجِّر.
وَسِرّ الْمَسْأَلَة: أَنَّهُ لَمْ يَرْبَح فِيمَا لَمْ يَضْمَن وَإِنَّمَا هُوَ مَضْمُون عَلَيْهِ بِالْأُجْرَةِ.
وَأَمَّا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - " وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدك " فَمُطَابِق لِنَهْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع الْغَرَر لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ مَا لَيْسَ عِنْده فَلَيْسَ هُوَ عَلَى ثِقَة مِنْ حُصُوله بَلْ قَدْ يَحْصُل لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُل، فَيَكُون غَرَرًا، كَبَيْعِ الْآبِق وَالشَّارِد وَالطَّيْر فِي الْهَوَاء، وَمَا تَحْمِل نَاقَته وَنَحْوه. قَالَ حَكِيم بْن حِزَام " يَا رَسُول اللَّه، الرَّجُل يَأْتِينِي يَسْأَلنِي الْبَيْع لَيْسَ عِنْدِي فَأَبِيعهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى السُّوق، فَأَشْتَرِيه وَأُسْلِمهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ:" لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدك ".
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَة أَنَّ السَّلَم مَخْصُوص مِنْ عُمُوم هَذَا الْحَدِيث فَإِنَّهُ بَيْع مَا لَيْسَ عِنْده. وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوهُ. فَإِنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا تَنَاوَلَ بَيْع الْأَعْيَان، وَأَمَّا السَّلَم فَعَقْد عَلَى مَا فِي الذِّمَّة، بَلْ شَرْطه أَنْ يَكُون فِي الذِّمَّة فَلَوْ أَسْلَمَ فِي مُعَيَّن عِنْده كَانَ فَاسِدًا وَمَا فِي الذِّمَّة مَضْمُون مُسْتَقِرّ فِيهَا. وَبَيْع مَا لَيْسَ عِنْده إِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْر مَضْمُون عَلَيْهِ، وَلَا ثَابِت فِي ذِمَّته، وَلَا فِي يَده. فَالْمَبِيع لَا بُدّ أَنْ يَكُون ثَابِتًا فِي ذِمَّة الْمُشْتَرِي أَوْ فِي يَده. وَبَيْع مَا لَيْسَ عِنْده لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَالْحَدِيث بَاقٍ عَلَى عُمُومه.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُجَوِّزُونَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَبِيع الْمَغْصُوب لِمَنْ يَقْدِر عَلَى اِنْتِزَاعه مِنْ غَاصِبِيهِ وَهُوَ بَيْع مَا لَيْسَ عِنْده؟ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْبَائِع قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمه بِالْبَيْعِ، وَالْمُشْتَرِي قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمه مِنْ الْغَاصِب، فَكَأَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ مَا هُوَ عِنْده، وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مَالًا وَهُوَ عِنْد الْمُشْتَرِي وَتَحْت يَده، وَلَيْسَ عِنْد الْبَائِع. وَالْعِنْدِيَّة هُنَا لَيْسَتْ عِنْدِيَّة الْحِسّ وَالْمُشَاهَدَة، فَإِنَّهُ يَجُوز أَنْ يَبِيعهُ مَا لَيْسَ تَحْت يَده وَمُشَاهَدَته، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدِيَّة الْحُكْم وَالتَّمْكِين. وَهَذَا وَاضِح وَلِلَّهِ الْحَمْد.(1/214)
وَمِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا» (1).
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (3463) وهو صحيح
و قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ - (ج 7 / ص 452) 3002 -
(مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاء قَالَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث أَوْ صَحَّحَ الْبَيْع بِأَوْكَس الثَّمَنَيْنِ إِلَّا شَيْء يُحْكَى عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ مَذْهَب فَاسِد، وَذَلِكَ لِمَا يَتَضَمَّنهُ هَذَا الْعَقْد مِنْ الْغَرَر وَالْجَهْل.
قُلْت: قَالَ فِي النَّيْل: وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ ظَاهِر الْحَدِيث لِأَنَّ الْحُكْم لَهُ بِالْأَوْكَسِ يَسْتَلْزِم صِحَّة الْبَيْع بِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا الْمَشْهُور مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة رَوَاهُ الشَّافِعِيّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو، وَأَمَّا رِوَايَة يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو عَلَى الْوَجْه الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فَيُشْبِه أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي حُكُومَة فِي شَيْء بِعَيْنِهِ كَأَنَّهُ أَسْلَفَهُ دِينَارًا فِي قَفِيز بُرّ إِلَى شَهْر فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَل وَطَالَبَهُ بِالْبُرِّ قَالَ لَهُ بِعْنِي الْقَفِيز الَّذِي لَك عَلَيَّ بِقَفِيزَيْنِ إِلَى شَهْرَيْنِ، فَهَذَا بَيْع ثَانٍ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْبَيْع الْأَوَّل فَصَارَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة فَيَرُدَّانِ إِلَى أَوْكَسهمَا أَيْ أَنْقَصهمَا وَهُوَ الْأَصْل، فَإِنْ تَبَايَعَا الْبَيْع الثَّانِي قَبْل أَنْ يَتَقَابَضَا الْأَوَّل كَانَا مُرْبِيَيْنِ اِنْتَهَى.
قُلْت: وَقَدْ نَقَلَ هَذَا التَّفْسِير الْإِمَام اِبْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة وَابْن رَسْلَان فِي شَرْح السُّنَن ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيّ. وَتَفْسِير مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا أَنْ يَقُول بِعْتُك هَذَا الثَّوْب نَقْدًا بِعَشَرَةٍ أَوْ نَسِيئَة بِخَمْسَةَ عَشَر فَهَذَا لَا يَجُوز لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيّهمَا الثَّمَن الَّذِي يَخْتَارهُ مِنْهُمَا فَيَقَع بِهِ الْعَقْد، وَإِذَا جَهِلَ الثَّمَن بَطَل الْبَيْع اِنْتَهَى.
قُلْت: وَبِمِثْلِ هَذَا فَسَّرَ سِمَاك رَوَاهُ أَحْمَد وَلَفْظه قَالَ سِمَاك هُوَ الرَّجُل يَبِيع الْبَيْع فَيَقُول هُوَ بِنَسَاءٍ بِكَذَا وَهُوَ بِنَقْدٍ بِكَذَا وَكَذَا، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ بِأَنْ يَقُول بِعْتُك بِأَلِفٍ نَقْدًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ إِلَى سَنَة، فَخُذْ أَيّهمَا شِئْت أَنْتَ وَشِئْت أَنَا.
وَنَقَلَ اِبْن الرِّفْعَة عَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة عَلَى أَنَّهُ قَبِلَ عَلَى الْإِبْهَام، أَمَّا لَوْ قَالَ قَبِلْت بِأَلْفٍ نَقْدًا أَوْ بِأَلْفَيْنِ بِالنَّسِيئَةِ صَحَّ ذَلِكَ، كَذَا فِي النَّيْل.
ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْوَجْه الْآخَر أَنْ يَقُول بِعْتُك هَذَا الْعَبْد بِعِشْرِينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ تَبِيعنِي جَارِيَتك بِعَشْرَةِ دَنَانِير، فَهَذَا أَيْضًا فَاسِد، لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَن الْعَبْد عِشْرِينَ دِينَارًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعهُ جَارِيَته بِعَشْرَةِ دَنَانِير، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمهُ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمهُ ذَلِكَ مُسْقِط بَعْض الثَّمَن، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضه صَارَ الْبَاقِي مَجْهُولًا. قَالَ وَعَقْدُ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة وَاحِدَة عَلَى الْوَجْهَيْنِ الَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عِنْد أَكْثَر الْفُقَهَاء فَاسِد. وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْس أَنْ يَقُول لَهُ بِعْتُك هَذَا الثَّوْب نَقْدًا بِعَشَرَةٍ وَإِلَى شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةَ عَشَر فَيَذْهَب بِهِ إِلَى إِحْدَاهُمَا اِنْتَهَى كَلَام الْخَطَّابِيّ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَة: نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة هُوَ أَنْ يَقُول بِعْتُك هَذَا الثَّوْب نَقْدًا بِعَشَرَةٍ وَنَسِيئَة بِخَمْسَةَ عَشَر فَلَا يَجُوز لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيّهمَا الثَّمَن الَّذِي يَخْتَارهُ لِيَقَع عَلَيْهِ الْعَقْد.
وَمِنْ صُوَره أَنْ يَقُول بِعْتُك هَذَا بِعِشْرِينَ عَلَى أَنْ تَبِيعنِي ثَوْبك بِعَشَرَةٍ، فَلَا يَصِحّ لِلشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ وَلِأَنَّهُ يَسْقُط بِسُقُوطِهِ بَعْض الثَّمَن فَيَصِير الْبَاقِي مَجْهُولًا وَقَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْع وَشَرْط وَعَنْ بَيْع وَسَلَف وَهُمَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ اِنْتَهَى.
(فَلَهُ أَوْكَسهمَا) أَيْ أَنْقَصهمَا
(أَوْ الرِّبَا) قَالَ فِي النَّيْل: يَعْنِي أَوْ يَكُون قَدْ دَخَلَ هُوَ وَصَاحِبه فِي الرِّبَا الْمُحَرَّم إِذَا لَمْ يَأْخُذ الْأَوْكَس بَلْ أَخَذَ الْأَكْثَر وَذَلِكَ ظَاهِر فِي التَّفْسِير الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن رَسْلَان وَغَيْره. وَأَمَّا فِي التَّفْسِير الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ سِمَاك وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيّ فَفِيهِ مُتَمَسَّك لِمَنْ قَالَ يَحْرُم بَيْع الشَّيْء بِأَكْثَر مِنْ سِعْر يَوْمه لِأَجْلِ النَّسَاء.
وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يَجُوز لِعُمُومِ الْأَدِلَّة الْقَاضِيَة بِجَوَازِهِ وَهُوَ الظَّاهِر، ثُمَّ بَيَّنَ صَاحِب النَّيْل وَجْه الظُّهُور إِنْ شِئْت الْوُقُوف عَلَيْهِ فَعَلَيْك بِالنَّيْلِ(1/215)
وَالثُّلَاثِيَّةُ مِثْلَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا لِلرِّبَا يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِنْهُ آكِلُ الرِّبَا ثُمَّ يَبِيعُهَا الْمُعْطِي لِلرِّبَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِنَقْصِ دَرَاهِمَ يَسْتَفِيدُهَا الْمُحَلِّلُ (1)،وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ
__________
(1) - قلت: هذا من بيوع العينة التي ورد النص بالنهي عنها ففي سنن أبى داود برقم (3464) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» وهو صحيح لغيره.
وفي عون المعبود - (ج 7 / ص 453) 3003 -
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ) قَالَ الْجَوْهَرِيّ: الْعِين بِالْكَسْرِ السَّلَف.
وَقَالَ فِي الْقَامُوس: وَعَيَّنَ أَخَذَ بِالْعِينَة بِالْكَسْرِ أَيْ السَّلَف أَوْ أَعْطَى بِهَا. قَالَ وَالتَّاجِر بَاعَ سِلْعَته بِثَمَنٍ إِلَى أَجَل ثُمَّ اِشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَن اِنْتَهَى. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَبَيْع الْعِينَة هُوَ أَنْ يَبِيع شَيْئًا مِنْ غَيْره بِثَمَنٍ مُؤَجَّل وَيُسَلِّمهُ إِلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِيه قَبْل قَبْض الثَّمَن بِثَمَنِ نَقْد أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْر اِنْتَهَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَم جَوَاز بَيْع الْعِينَة مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد، وَجَوَّزَ ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه. كَذَا فِي النَّيْل. وَقَدْ حَقَّقَ الْإِمَام اِبْن الْقَيِّم عَدَم جَوَاز الْعِينَة وَنَقَلَ مَعْنَى كَلَامه الْعَلَّامَة الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْل.
(وَأَخَذْتُمْ أَذْنَاب الْبَقَر وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ) حُمِلَ هَذَا عَلَى الِاشْتِغَال بِالزَّرْعِ فِي زَمَن يَتَعَيَّن فِيهِ الْجِهَاد
(وَتَرَكْتُمْ الْجِهَاد) أَيْ الْمُتَعَيَّن فِعْله
(سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا) بِضَمِّ الذَّال الْمُعْجَمَة وَكَسْرهَا أَيْ صَغَارًا وَمَسْكَنَة وَمَنْ أَنْوَاع الذُّلّ الْخَرَاج الَّذِي يُسَلِّمُونَهُ كُلّ سَنَة لِمُلَّاكِ الْأَرْض.
وَسَبَب هَذَا الذُّلّ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه الَّذِي فِيهِ عِزّ الْإِسْلَام وَإِظْهَاره عَلَى كُلّ دِين عَامَلَهُمْ اللَّه بِنَقِيضِهِ وَهُوَ إِنْزَال الذِّلَّة بِهِمْ فَصَارُوا يَمْشُونَ خَلْف أَذْنَاب الْبَقَر بَعْد أَنْ كَانُوا يَرْكَبُونَ عَلَى ظُهُور الْخَيْل الَّتِي هِيَ أَعَزّ مَكَان. قَالَهُ فِي النَّيْل.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَفِي إِسْنَاده إِسْحَاق بْن أَسِيدٍ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِيّ نَزِيل مِصْر لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَفِيهِ مَقَال.
تَعْلِيقُ الْحَافِظِ ابْنِ الْقَيِّمِ:
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين ابْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه: وَفِي الْبَاب حَدِيث أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ عَنْ اِمْرَأَته " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة فَدَخَلَتْ مَعَهَا أُمّ وَلَد زَيْد بْن أَرْقَمَ، فَقَالَتْ: يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي بِعْت غُلَامًا مِنْ زَيْد بْن أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم نَسِيئَة، وَإِنِّي اِبْتَعْته مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة:" بِئْسَمَا اِشْتَرَيْت، وَبِئْسَمَا شَرَيْت، أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَدْ بَطَلَ إِلَى أَنْ يَتُوب ".
هَذَا الْحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيّ، وَأَعَلَّهُ بِالْجَهَالَةِ بِحَالِ اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق، وَقَالَ: لَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إِلَى الْعَطَاء، لِأَنَّهُ أَجَل غَيْر مَعْلُوم.
ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَثْبُت مِثْل هَذَا عَنْ عَائِشَة، وَزَيْد بْن أَرْقَمَ لَا يَبِيع إِلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أُمّه الْعَالِيَة بِنْت أَنْفَع " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة مَعَ أُمّ مُحَمَّد ".
وَقَالَ غَيْره: هَذَا الْحَدِيث حَسَن، وَيُحْتَجّ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عَنْ الْعَالِيَة ثِقَتَانِ ثَبْتَانِ: أَبُو إِسْحَاق زَوْجهَا، وَيُونُس اِبْنهَا، وَلَمْ يُعْلَم فِيهَا جَرْح، وَالْجَهَالَة تَرْتَفِع عَنْ الرَّاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ: ثُمَّ إِنَّ هَذَا مِمَّا ضُبِطَتْ فِيهِ الْقِصَّة، وَمَنْ دَخَلَ مَعَهَا عَلَى عَائِشَة، وَقَدْ صَدَّقَهَا زَوْجهَا وَابْنهَا وَهُمَا مَنْ هُمَا، فَالْحَدِيث مَحْفُوظ. =(1/216)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَقَوْله فِي الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا " هُوَ مُنَزَّل عَلَى الْعِينَة بِعَيْنِهَا، قَالَهُ شَيْخنَا، لِأَنَّهُ بَيْعَانِ فِي بَيْع وَاحِد، فَأَوْكَسهمَا: الثَّمَن الْحَالّ وَإِنْ أَخَذَ بِالْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمُؤَجَّل - أَخَذَ بِالرِّبَا. فَالْمَعْنَيَانِ لَا يَنْفَكَّانِ مِنْ أَحَد الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْأَخْذ بِأَوْكَس الثَّمَنَيْنِ، أَوْ الرِّبَا، وَهَذَا لَا يَتَنَزَّل إِلَّا عَلَى الْعِينَة.
فَصْل
قَالَ الْمُحَرِّمُونَ لِلْعِينَةِ: الدَّلِيل عَلَى تَحْرِيمهَا مِنْ وُجُوه.
أَحَدهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا وَالْعِينَة وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْرَب وَسَائِله وَالْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام، فَهُنَا مَقَامَانِ.
أَحَدهمَا: بَيَان كَوْنهَا وَسِيلَة.
وَالثَّانِي: بَيَان أَنَّ الْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام.
فَأَمَّا الْأَوَّل: فَيَشْهَد لَهُ بِهِ النَّقْل وَالْعُرْف وَالنِّيَّة وَالْقَصْد، وَحَال الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
فَأَمَّا النَّقْل: فَبِمَا ثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل بَاعَ مِنْ رَجُل حَرِيرَة بِمِائَةٍ، ثُمَّ اِشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ؟ فَقَالَ: دَرَاهِم بِدَرَاهِم مُتَفَاضِلَة، دَخَلَتْ بَيْنهَا حَرِيرَة ".
وَفِي كِتَاب مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْحَافِظ الْمَعْرُوف بِمَعِينٍ، عَنْ اِبْن عَبَّاس: أَنَّهُ قَالَ " اِتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَة، لَا تَبِيعُوا دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَيْنهمَا حَرِيرَة ".
وَفِي كِتَاب أَبِي مُحَمَّد النَّجَشِيّ الْحَافِظ عَنْ اِبْن عَبَّاس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة يَعْنِي بَيْع الْحَرِيرَة؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله ".
وَفِي كِتَاب الْحَافِظ مَعِين عَنْ أَنَس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة - يَعْنِي بَيْع الْحَرِيرَة - فَقَالَ: إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله ".
وَقَوْل الصَّحَابِيّ " حَرَّمَ رَسُول اللَّه كَذَا، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا، وَقَضَى بِكَذَا، وَأَوْجَبَ كَذَا " فِي حُكْم الْمَرْفُوع اِتِّفَاقًا عِنْد أَهْل الْعِلْم، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا لَا يُعْتَدّ بِهِ، وَلَا يُؤْبَه لَهُ.
وَشُبْهَة الْمُخَالِف: أَنَّهُ لَعَلَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَظَنَّ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ، وَلَا تَحْرِيم كَذَلِكَ، وَهَذَا فَاسِد جِدًّا.
فَإِنَّ الصَّحَابَة أَعْلَم بِمَعَانِي النُّصُوص، وَقَدْ تَلَقَّوْهَا مِنْ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليع وَسَلَّمَ، فَلَا يُظَنّ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِم عَلَى قَوْله " أَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -،أَوْ حَرَّمَ أَوْ فَرَضَ " إِلَّا بَعْد سَمَاع ذَلِكَ، وَدَلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَاحْتِمَال خِلَاف هَذَا كَاحْتِمَالِ الْغَلَط وَالسَّهْو فِي الرِّوَايَة بَلْ دُونه فَإِنْ رُدَّ قَوْله " أَمَرَ " وَنَحْوه بِهَذَا الِاحْتِمَال وَجَبَ رَدّ رِوَايَته لِاحْتِمَالِ السَّهْو وَالْغَلَط وَإِنْ قُبِلَتْ رِوَايَته: وَجَبَ قَبُول الْآخَر. وَأَمَّا شَهَادَة الْعُرْف بِذَلِكَ: فَأَظْهَر مِنْ أَنْ تَحْتَاج إِلَى تَقْرِير، بَلْ قَدْ عَلِمَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَعِبَاده مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ ذَلِكَ: قَصْدهمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَا عَلَى السِّلْعَة عَقْدًا يَقْصِدَانِ بِهِ تَمَلُّكهَا وَلَا غَرَض لَهُمَا فِيهَا بِحَالٍ. وَإِنَّمَا الْغَرَض وَالْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الْأَوَّل: مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِدْخَال تَلِك السِّلْعَة فِي الْوَسَط تَلْبِيس وَعَبَث، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْف الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسه، بَلْ جِيءَ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْره، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تِلْكَ السِّلْعَة تُسَاوِي أَضْعَاف ذَلِكَ الثَّمَن أَوْ تُسَاوِي أَقَلّ جُزْء مِنْ أَجْزَائِهِ لَمْ يُبَالُوا بِجَعْلِهَا مَوْرِدًا لِلْعَقْدِ، لِأَنَّهُمْ لَا غَرَض لَهُمْ فِيهَا وَأَهْل الْعُرْف لَا يُكَابِرُونَ أَنْفُسهمْ فِي هَذَا.
وَأَمَّا النِّيَّة وَالْقَصْد: فَالْأَجْنَبِيّ الْمُشَاهِد لَهُمَا يَقْطَع بِأَنَّهُ لَا غَرَض لَهُمَا فِي السِّلْعَة وَإِنَّمَا الْقَصْد الْأَوَّل مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَضْلًا عَنْ عِلْم الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنِيَّتهمَا، وَلِهَذَا يَتَوَاطَأ كَثِير مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَبْل الْعَقْد، ثُمَّ يَحْضُرَانِ تَلِك السِّلْعَة مُحَلِّلًا لِمَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله
وَأَمَّا الْمَقَام الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام: فَبَانَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْفِطْرَة وَالْمَعْقُول.
فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه مَسَخَ الْيَهُود قِرَدَة وَخَنَازِير لَمَّا تَوَسَّلُوا إِلَى الصَّيْد الْحَرَام بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي ظَنُّوهَا مُبَاحَة، وَسَمَّى أَصْحَاب رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعُونَ مِثْل ذَلِكَ مُخَادَعَة، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ " يُخَادِعُونَ اللَّه كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَان، لَوْ أَتَوْا الْأَمْر عَلَى وَجْهه كَانَ أَسْهَل ".
وَالرُّجُوع إِلَى الصَّحَابَة فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظ مُتَعَيَّن، سَوَاء كَانَتْ لُغَوِيَّة، أَوْ شَرْعِيَّة، وَالْخِدَاع حَرَام.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا الْعَقْد يَتَضَمَّن إِظْهَار صُورَة مُبَاحَة، وَإِضْمَار مَا هُوَ مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر، فَلَا تَنْقَلِب الْكَبِيرَة مُبَاحَة بِإِخْرَاجِهَا فِي صُورَة الْبَيْع الَّذِي لَمْ يُقْصَد نَقْل الْمِلْك فِيهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا قَصْده حَقِيقَة الرِّبَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّرِيق مَتَى أَفْضَتْ إِلَى الْحَرَام، فَإِنَّ الشَّرِيعَة لَا تَأْتِي بِإِبَاحَتِهَا أَصْلًا، لِأَنَّ إِبَاحَتهَا وَتَحْرِيم الْغَايَة جَمْع بَيْن النَّقِيضَيْنِ، فَلَا يُتَصَوَّر أَنْ يُبَاح شَيْء وَيُحَرَّم مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، بَلْ لَا بُدّ مِنْ تَحْرِيمهمَا أَوْ إِبَاحَتهمَا، وَالثَّانِي بَاطِل قَطْعًا فَيَتَعَيَّن الْأَوَّل. =(1/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وَأَيْضًا: فَإِنَّ الشَّارِع إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا، وَجَعَلَهُ مِنْ الْكَبَائِر، وَتَوَعَّدَ آكِله بِمُحَارَبَةِ اللَّه وَرَسُوله، لِمَا فِيهِ مِنْ أَعْظَم الْفَسَاد وَالضَّرَر، فَكَيْف يتصور مَعَ هَذَا - أَنْ يُبِيح هَذَا الْفَسَاد الْعَظِيم بِأَيْسَر شَيْء يَكُون مِنْ الْحِيَل؟ فَيَالِلَّه الْعَجَب، أَتَرَى هَذِهِ الْحِيلَة أَزَالَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَة الْعَظِيمَة، وَقَلَبَتْهَا مَصْلَحَة، بَعْد أَنْ كَانَتْ مَفْسَدَة؟ وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه عَاقَبَ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ أَقْسَمُوا لَيَصْرُمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَكَانَ مَقْصُودهمْ مَنْع حَقّ الْفُقَرَاء مِنْ التَّمْر الْمُتَسَاقِط وَقْت الْحَصَاد، فَلَمَّا قَصَدُوا مَنْع حَقّهمْ مَنَعَهُمْ اللَّه الثَّمَرَة جُمْلَة.
وَلَا يُقَال: فَالْعُقُوبَة إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى رَدّ الِاسْتِثْنَاء وَحْده لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدهمَا: أَنَّ الْعُقُوبَة مِنْ جِنْس الْعَمَل، وَتَرْك الِاسْتِثْنَاء عُقُوبَته: أَنْ يَعُوق وَيَنْسَى لَا إِهْلَاك مَاله، بِخِلَافِ عُقُوبَة ذَنْب الْحِرْمَان فَإِنَّهَا حِرْمَان كَالذَّنْبِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْم عَلَيْكُمْ مِسْكِين}.
وَذَنْب الْعُقُوبَة عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَصْف مَدْخَل فِي الْعُقُوبَة لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْعِلَّة التَّامَّة كَانَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّة.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُل الْمَقْصُود.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" وَالْمُتَوَسِّل بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي صُورَتهَا مُبَاحَة إِلَى الْمُحَرَّم إِنَّمَا نِيَّته الْمُحَرَّم، وَنِيَّته أَوْلَى بِهِ مِنْ ظَاهِر عَمَله ".
وَأَيْضًا: فَقَدْ رَوَى اِبْن بَطَّة وَغَيْره بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لَا تَرْتَكِبُوا مَا اِرْتَكَبَ الْيَهُود فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِم اللَّه بِأَدْنَى الْحِيَل " وَإِسْنَاده مِمَّا يُصَحِّحهُ التِّرْمِذِيّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " لَعَنَ اللَّه الْيَهُود حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُوم فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانهَا " وَ " جَمَّلُوهَا " يَعْنِي أَذَابُوهَا وَخَلَطُوهَا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيَزُولَ عَنْهَا اِسْم الشَّحْم، وَيَحْدُث لَهَا اِسْم آخَر وَهُوَ الْوَدَك، وَذَلِكَ لَا يُفِيد الْحِلّ، فَإِنَّ التَّحْرِيم تَابِع لِلْحَقِيقَةِ وَهِيَ لَمْ تَتَبَدَّل بِتَبَدُّلِ الِاسْم.
وَهَذَا الرِّبَا تَحْرِيمه تَابِع لِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَته فَلَا يَزُول بِتَبَدُّلِ الِاسْم بِصُورَةِ الْبَيْع كَمَا لَمْ يَزُلْ تَحْرِيم الشَّحْم بِتَبْدِيلِ الِاسْم بِصُورَةِ الْجَمْل وَالْإِذَابَة وَهَذَا وَاضِح بِحَمْدِ اللَّه.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْيَهُود لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْم، إِنَّمَا اِنْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ، فَيَلْزَم مَنْ وَقَفَ مَعَ صُوَر الْعُقُود وَالْأَلْفَاظ، دُون مَقَاصِدهَا وَحَقَائِقهَا أَنْ يُحَرِّم ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَنُصّ عَلَى تَحْرِيم الثَّمَن وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ نَفْس الشَّحْم وَلَمَّا لَعَنَهُمْ عَلَى اِسْتِحْلَالهمْ الثَّمَن، وَإِنْ لَمْ يَنُصّ عَلَى تَحْرِيمه دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِب النَّظَر إِلَى الْمَقْصُود وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ الْوَسَائِل إِلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِب أَنْ لَا يُقْصَد الِانْتِفَاع بِالْعَيْنِ وَلَا بِبَدَلِهَا.
وَنَظِير هَذَا أَنْ يُقَال: لَا تَقْرَب مَال الْيَتِيم فَتَبِيعهُ وَتَأْكُل عِوَضه، وَأَنْ يُقَال: لَا تَشْرَب الْخَمْر فَتُغَيِّر اِسْمه وَتَشْرَبهُ، وَأَنْ يُقَال: لَا تَزْنِ بِهَذِهِ الْمَرْأَة فَتَعْقِد عَلَيْهَا عَقْد إِجَارَة وَتَقُول إِنَّمَا أَسْتَوْفِي مَنَافِعهَا وَأَمْثَال ذَلِكَ.
قَالُوا: وَلِهَذَا الْأَصْل - وَهُوَ تَحْرِيم الْحِيَل الْمُتَضَمِّنَة إِبَاحَة مَا حَرَّمَ اللَّه أَوْ إِسْقَاط مَا أَوْجَبَهُ اللَّه عَلَيْهِ - أَكْثَر مِنْ مِائَة دَلِيل، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لَعَنَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ " مَعَ أَنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ عَقْد النِّكَاح الصَّحِيح، لِمَا كَانَ مَقْصُوده التَّحْلِيل، لَا حَقِيقَة النِّكَاح.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَة أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ زَانِيًا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى صُورَة الْعَقْد.
الدَّلِيل الثَّانِي عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَده: حَدَّثَنَا أَسْوَد بْن عَامِر حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول " إِذَا ضَنَّ النَّاس بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَاب الْبَقَر، وَتَرَكُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه: أَنْزَلَ اللَّه بِهِمْ بَلَاء، فَلَا يَرْفَعهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهمْ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح إِلَى حَيْوَة بْن شُرَيْح الْمِصْرِيّ عَنْ إِسْحَاق أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِيّ أَنَّ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول - فَذَكَرَهُ، وَهَذَانِ إِسْنَادَانِ حَسَنَانِ يَشُدّ أَحَدهمَا الْآخَر.
فَأَمَّا رِجَال الْأَوَّل فَأَئِمَّة مَشَاهِير، وَإِنَّمَا يُخَاف أَنْ لَا يَكُون الْأَعْمَش سَمِعَهُ مِنْ عَطَاء أَوْ أَنَّ عَطَاء لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ اِبْن عُمَر.
وَالْإِسْنَاد الثَّانِي: يُبَيِّن أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ اِبْن عُمَر، فَإِنَّ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ ثِقَة مَشْهُور وَحَيْوَة كَذَلِكَ. وَأَمَّا إِسْحَاق أَبُو عَبْد الرَّحْمَن فَشَيْخ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّة الْمِصْرِيِّينَ، مِثْل حَيْوَة وَاللَّيْث وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَغَيْرهمْ.
وَلَهُ طَرِيق ثَالِث: رَوَاهُ السَّرِيّ بْن سَهْل حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن رَشِيد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد عَنْ لَيْث عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ " لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَان وَمَا مِنَّا رَجُل يَرَى أَنَّهُ أَحَقّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمه مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِم، وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: إِذَا ضَنَّ النَّاس =(1/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَرَكُوا الْجِهَاد، وَاتَّبَعُوا أَذْنَاب الْبَقَر أَدْخَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى دِينهمْ " وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا وَأَنَّهُ مَحْفُوظ.
الدَّلِيل الثَّالِث: مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيث أَنَس " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَة؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه لَا يُخْدَع، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله "؟ وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظ فِي حُكْم الْمَرْفُوع.
الدَّلِيل الرَّابِع: مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَقَوْله " هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله ".
الدَّلِيل الْخَامِس: مَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ جَدَّته الْعَالِيَة، وَرَوَاهُ حَرْب مِنْ حَدِيث إِسْرَائِيل حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاق عَنْ جَدَّته الْعَالِيَة - يَعْنِي جَدَّة إِسْرَائِيل - فَإِنَّهَا اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق قَالَتْ " دَخَلْت عَلَى عَائِشَة فِي نِسْوَة فَقَالَتْ مَا حَاجَتكُنَّ؟ فَكَانَ أَوَّل مَنْ سَأَلَهَا أُمّ مَحَبَّة، فَقَالَتْ يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْد بْن أَرْقَمَ؟ قَالَتْ نَعَمْ.
قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْته جَارِيَة لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم إِلَى الْعَطَاء، وَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَم نَقْدًا. فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى، فَقَالَتْ: بِئْسَمَا شَرَيْت وَبِئْسَمَا اِشْتَرَيْت، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَاده مَعَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا أَنْ يَتُوب، وَأَفْحَمَتْ صَاحِبَتنَا فَلَمْ تَتَكَلَّم طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُهِّلَ عَنْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إِنْ لَمْ آخُذ إِلَّا رَأْس مَالِي؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَف} ".
فَلَوْلَا أَنَّ عِنْد أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا لَا تَسْتَرِيب فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّم لَمْ تَسْتَجِزْ أَنْ تَقُول مِثْل هَذَا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَل يَحْبَط بِالرِّدَّةِ، وَأَنَّ اِسْتِحْلَال الرِّبَا أَكْفَر، وَهَذَا مِنْهُ، وَلَكِنَّ زَيْدًا مَعْذُور لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَم أَنَّ هَذَا مُحَرَّم، وَلِهَذَا قَالَتْ " أَبْلِغِيهِ ".
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون قَدْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِر الَّتِي يُقَاوِم إِثْمهَا ثَوَاب الْجِهَاد فَيَصِير بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَة وَسَيِّئَة بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: لِجَزْمِ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مِنْ مَسَائِل الِاجْتِهَاد وَالنِّزَاع بَيْن الصَّحَابَة لَمْ تُطْلِق عَائِشَة ذَلِكَ عَلَى زَيْد فَإِنَّ الْحَسَنَات لَا تَبْطُل بِمَسَائِل الِاجْتِهَاد.
وَلَا يُقَال: فَزَيْد مِنْ الصَّحَابَة وَقَدْ خَالَفَهَا، لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُلْ: هَذَا حَلَال بَلْ فَعَلَهُ وَفِعْل الْمُجْتَهِد لَا يَدُلّ عَلَى قَوْله عَلَى الصَّحِيح لِاحْتِمَالِ سَهْو أَوْ غَفْلَة أَوْ تَأْوِيل أَوْ رُجُوع وَنَحْوه وَكَثِيرًا مَا يَفْعَل الرَّجُل الشَّيْء، وَلَا يَعْلَم مَفْسَدَته، فَإِذَا بِهِ لَهُ اِنْتَبَهَ وَلَا سِيَّمَا أُمّ وَلَده، فَإِنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة تَسْتَفْتِيهَا، وَطَلَبَتْ الرُّجُوع إِلَى رَأْس مَالهَا، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى الرُّجُوع عَنْ ذَلِكَ الْعَقْد، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ زَيْد أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّم ثُبُوت الْحَدِيث، فَإِنَّ أُمّ وَلَد زَيْد مَجْهُولَة.
قُلْنَا: أُمّ وَلَده لَمْ تَرْوِ الْحَدِيث، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ صَاحِبَة الْقِصَّة، وَأَمَّا الْعَالِيَة فَهِيَ اِمْرَأَة أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ، وَهِيَ مِنْ التَّابِعِيَّات، وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة وَرَوَى عَنْهَا أَبُو إِسْحَاق، وَهُوَ أَعْلَم بِهَا. وَفِي الْحَدِيث قِصَّة وَسِيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظ وَأَنَّ الْعَالِيَة لَمْ تَخْتَلِق هَذِهِ الْقِصَّة وَلَمْ تَضَعهَا، بَلْ يَغْلِب عَلَى الظَّنّ غَلَبَة قَوِيَّة صِدْقهَا فِيهَا وَحِفْظهَا لَهَا، وَلِهَذَا رَوَاهَا عَنْهَا زَوْجهَا مَيْمُون وَلَمْ يَنْهَهَا وَلَا سِيَّمَا عِنْد مَنْ يَقُول رِوَايَة الْعَدْل عَنْ غَيْره تَعْدِيل لَهُ، وَالْكَذِب لَمْ يَكُنْ فَاشِيًا فِي التَّابِعِينَ فُشُوّهُ فِيمَنْ بَعْدهمْ، وَكَثِير مِنْهُمْ كَانَ يَرْوِي عَنْ أُمّه وَامْرَأَته مَا يُخْبِرهُنَّ بِهِ أَزْوَاج رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -،وَيَحْتَجّ بِهِ.
فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث تُبَيِّن أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ الْعِينَة:
حَدِيث اِبْن عُمَر الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظ الْعِينَة.
وَحَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس: أَنَّهَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله.
وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا، وَالْمُرْسَل مِنْهَا لَهُ مَا يُوَافِقهُ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْض الصَّحَابَة وَالسَّلَف وَهَذَا حُجَّة بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاء
الدَّلِيل السَّادِس: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا ".
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيره قَوْلَانِ: أَحَدهمَا: أَنْ يَقُول: بِعْتُك بِعُمْرَةٍ نَقْدًا أَوْ عِشْرِينَ نَسِيئَة، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد عَنْ سِمَاك فَفَسَّرَهُ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود قَالَ " نَهَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَة، قَالَ سِمَاك: الرَّجُل يَبِيع الرَّجُل، فَيَقُول: هُوَ عَلَيَّ نَسَاء بِكَذَا، وَبِنَقْدٍ بِكَذَا ".
وَهَذَا التَّفْسِير ضَعِيف، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِل الرِّبَا فِي هَذِهِ الصُّورَة وَلَا صَفْقَتَيْنِ هُنَا وَإِنَّمَا هِيَ صَفْقَة وَاحِدَة بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ.
وَالتَّفْسِير الثَّانِي: أَنْ يَقُول أَبِيعكهَا بِمِائَةٍ إِلَى سَنَة عَلَى أَنْ أَشْتَرِيهَا مِنْهَا بِثَمَانِينَ حَالَّة وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيث الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ غَيْره، وَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ " فَلَهُ أَوْكَسهمَا أَوْ الرِّبَا " فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذ الثَّمَن الزَّائِد فَيُرْبِي أَوْ الثَّمَن الْأَوَّل فَيَكُون هُوَ أَوْكَسهمَا، وَهُوَ مُطَابِق لِصَفْقَتَيْنِ =(1/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= فِي صَفْقَة. فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ صَفْقَتَيْ النَّقْد وَالنَّسِيئَة فِي صَفْقَة وَاحِدَة وَمَبِيع وَاحِد، وَهُوَ قَصْد بَيْع دَرَاهِم عَاجِلَة بِدَرَاهِم مُؤَجَّلَة أَكْثَر مِنْهَا، وَلَا يَسْتَحِقّ إِلَّا رَأْس مَاله، وَهُوَ أَوْكَس الصَّفْقَتَيْنِ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا الْأَكْثَر كَانَ قَدْ أَخَذَ الرِّبَا.
فَتَدَبَّرْ مُطَابَقَة هَذَا التَّفْسِير لِأَلْفَاظِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَانْطِبَاقه عَلَيْهَا.
وَمِمَّا يَشْهَد لِهَذَا التَّفْسِير: مَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة " و " عَنْ سَلَف وَبَيْع " فَجَمْعه بَيْن هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فِي النَّهْي لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَئُول إِلَى الرِّبَا، لِأَنَّهُمَا فِي الظَّاهِر بَيْع وَفِي الْحَقِيقَة رِبًا.
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة: حَدِيث اِبْن مَسْعُود يَرْفَعهُ " لَعَنَ اللَّه آكِل الرِّبَا وَمُوَكِّله وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبه وَالْمُحِلّ وَالْمُحَلَّل لَهُ ".
وَمَعْلُوم أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِب إِنَّمَا يَكْتُب وَيَشْهَد عَلَى عَقْد صُورَته جَائِزَة الْكِتَابَة وَالشَّهَادَة لَا يَشْهَد بِمُجَرَّدِ الرِّبَا، وَلَا يَكْتُبهُ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّل لَهُ، حَيْثُ أَظْهَرَا صُورَة النِّكَاح وَلَا نِكَاح، كَمَا أَظْهَرَ الْكَاتِب وَالشَّاهِدَانِ صُورَة الْبَيْع وَلَا بَيْع.
وَتَأَمَّلْ كَيْف لَعَنَ فِي الْحَدِيث الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِب وَالْآكِل وَالْمُوَكِّل؟ فَلَعَنَ الْمَعْقُود لَهُ.
وَالْمُعِين لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْد وَلَعَنَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ، فَالْمُحَلَّل لَهُ: هُوَ الَّذِي يُعْقَد التَّحْلِيل لِأَجْلِهِ وَالْمُحَلِّل: هُوَ الْمُعِين لَهُ بِإِظْهَارِ صُورَة الْعَقْد كَمَا أَنَّ الْمُرَابِي: هُوَ الْمُعَان عَلَى أَكْل الرِّبَا بِإِظْهَارِ صُورَة الْعَقْد الْمَكْتُوب الْمَشْهُود بِهِ.
فَصَلَوَات اللَّه عَلَى مَنْ أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلِم.
الدَّلِيل السَّابِع: مَا صَحَّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ " إِذَا اِسْتَقَمْت بِنَقْدٍ، فَبِعْت بِنَقْدٍ، فَلَا بَأْس، وَإِذَا اِسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْت بِنَسِيئَةٍ فَلَا خَيْر فِيهِ، تِلْكَ وَوَرِق بِوَرِقٍ " رَوَاهُ سَعِيد وَغَيْره.
وَمَعْنَى كَلَامه: أَنَّك إِذَا قَوَّمْت السِّلْعَة بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا بِنَسِيئَةٍ كَانَ مَقْصُود الْمُشْتَرِي شِرَاء دَرَاهِم مُعَجَّلَة بِدَرَاهِم مُؤَجَّلَة وَإِذَا قَوَّمْتهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا بِهِ فَلَا بَأْس. فَإِنَّ ذَلِكَ بَيْع الْمَقْصُود مِنْهُ السِّلْعَة لَا الرِّبَا.
الدَّلِيل الثَّامِن: مَا رَوَاهُ اِبْن بَطَّة عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " يَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ " يَعْنِي الْعِينَة.
وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - فَهُوَ صَالِح لِلِاعْتِضَادِ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَرْفُوع مَا يُؤَكِّدهُ.
وَيَشْهَد لَهُ أَيْضًا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - " لَيَشْرَبَنَّ نَاس مِنْ أُمَّتِي الْخَمْر يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اِسْمهَا ".
وَقَوْله أَيْضًا، فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " أَوَّل دِينكُمْ نُبُوَّة وَرَحْمَة، ثُمَّ خِلَافَة وَرَحْمَة، ثُمَّ مُلْك وَرَحْمَة، ثُمَّ مُلْك وَجَبْرِيَّة، ثُمَّ مُلْك عَضُوض يُسْتَحَلّ فِيهِ الْحِر وَالْحَرِير " وَالْحِر - بِكَسْرِ الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء - هُوَ الْفَرْج.
فَهَذَا إِخْبَار عَنْ اِسْتِحْلَال الْمَحَارِم، وَلَكِنَّهُ بِتَغْيِيرِ أَسْمَائِهَا، وَإِظْهَارهَا فِي صُوَر تُجْعَل وَسِيلَة إِلَى اِسْتِبَاحَتهَا، وَهِيَ الرِّبَا وَالْخَمْر وَالزِّنَا، فَيُسَمَّى كُلّ مِنْهَا بِغَيْرِ اِسْمهَا، وَيُسْتَبَاح الِاسْم الَّذِي سُمِّيَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَتْ الثَّلَاثَة.
وَفِي قَوْل عَائِشَة " بِئْسَمَا شَرَيْت، وَبِئْسَمَا اِشْتَرَيْت " دَلِيل عَلَى بُطْلَان الْعَقْدَيْنِ مَعًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْمَذْهَب، لِأَنَّ الثَّانِي عَقْد رِبًا وَالْأَوَّل وَسِيلَة إِلَيْهِ.
وَفِيهِ قَوْل آخَر فِي الْمَذْهَب. أَنَّ الْعَقْد الْأَوَّل صَحِيح، لِأَنَّهُ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطه، فَطَرَيَان الثَّانِي عَلَيْهِ لَا يُبْطِلهُ وَهَذَا ضَعِيف، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا، فَهُوَ طَرِيق إِلَى الْمُحَرَّم، فَكَيْف يُحْكَم بِصِحَّتِهِ؟ وَهَذَا الْقَوْل لَا يَلِيق بِقَوَاعِد الْمَذْهَب.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَة بِنَقْدٍ ثُمَّ اِشْتَرَاهَا بِأَكْثَر مِنْهُ نَسِيئَة؟ قُلْنَا: قَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَة حَرْب عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا أَنْ تَتَغَيَّر السِّلْعَة لِأَنَّ هَذَا يُتَّخَذ وَسِيلَة إِلَى الرِّبَا، فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ الْعِينَة سَوَاء وَهِيَ عَكْسهَا صُورَة وَفِي الصُّورَتَيْنِ قَدْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّته دَرَاهِم مُؤَجَّلَة بِأَقَلّ مِنْهَا نَقْدًا، لَكِنْ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ: الْبَائِع هُوَ الَّذِي اُسْتُغِلَّتْ ذِمَّته، وَفِي الصُّورَة الْأُخْرَى: الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي اُسْتُغِلَّتْ ذِمَّته، فَلَا فَرْق بَيْنهمَا.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَحْتَمِل أَنْ تَجُوز الصُّورَة الثَّانِيَة. إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَة وَلَا مُوَاطَأَة بَلْ وَاقِع اِتِّفَاقًا.
وَفَرَّقَ بَيْنهمَا وَبَيْن الصُّورَة الْأُولَى بِفَرْقَيْنِ.
أَحَدهمَا: أَنَّ النَّصّ وَرَدَ فِيهَا فَيَبْقَى مَا عَدَاهَا عَلَى أَصْل الْجَوَاز.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَسُّل إِلَى الرِّبَا بِتِلْكَ الصُّورَة أَكْثَر مِنْ التَّوَسُّل بِهَذِهِ.
وَالْفَرْقَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّل: فَلَيْسَ فِي النَّصّ مَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِصَاص الْعِينَة بِالصُّورَةِ الْأُولَى حَتَّى تَتَقَيَّد بِهِ نُصُوص مُطْلَقَة عَلَى تَحْرِيم الْعِينَة. وَالْعِينَة فِعْلَة مِنْ الْعَيْن، قَالَ الشَّاعِر: أَنِدَّانِ أَمْ نَعْتَانِ، أَمْ يَنْبَرِي لَنَا مِثْل نَصْل السَّيْف مِيزَتْ مَضَارِبه؟ قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: أَنَا أَظُنّ أَنَّ الْعِينَة إِنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَة الرَّجُل إِلَى الْعَيْن مِنْ الذَّهَب وَالْوَرِق، فَيَشْتَرِي السِّلْعَة وَيَبِيعهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي اِحْتَاجَ إِلَيْهَا، وَلَيْسَتْ بِهِ إِلَى السِّلْعَة حَاجَة.
وَأَمَّا الْفَرْق الثَّانِي. فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَر فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الذَّرِيعَة، وَلَوْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْفَرْق مِنْ الِاتِّفَاق وَالْقَصْد لَزِمَ طَرْد ذَلِكَ فِي الصُّورَة الْأُولَى، وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ إِذَا لَمْ تُعَدْ السِّلْعَة إِلَيْهِ بَلْ رَجَعَتْ إِلَى ثَالِث هَلْ تُسَمُّونَ ذَلِكَ عِينَة؟ قِيلَ: هَذِهِ مَسْأَلَة التَّوَرُّق، لِأَنَّ الْمَقْصُود مِنْهَا الْوَرِق، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْعِينَة، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا اِسْمهَا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي كَرَاهِيَتهَا، فَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يَكْرَههَا، وَكَانَ يَقُول " التَّوَرُّق أُخَيَّة الرِّبَا ".
وَرَخَّصَ فِيهَا إِيَاس بْن مُعَاوِيَة.
وَعَنْ أَحْمَد فِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ، وَعَلَّلَ الْكَرَاهَة فِي إِحْدَاهُمَا بِأَنَّهُ بَيْع مُضْطَرّ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيّ " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْمُضْطَرّ " وَفِي الْمُسْنَد عَنْ عَلِيّ قَالَ " سَيَأْتِي عَلَى النَّاس زَمَان يَعَضّ الْمُؤْمِن عَلَى مَا فِي يَده وَلَمْ يُؤْمَر بِذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ} وَيُبَايِع الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع الْمُضْطَرّ " وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَأَحْمَد رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعِينَة إِنَّمَا تَقَع مِنْ رَجُل مُضْطَرّ إِلَى نَقْد، لِأَنَّ الْمُوسِر يَضَنّ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ، فَيَضْطَرّ إِلَى أَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ سِلْعَة ثُمَّ يَبِيعهَا، فَإِنْ اِشْتَرَاهَا مِنْهُ بَائِعهَا كَانَتْ عِينَة، وَإِنْ بَاعَهَا مِنْ غَيْره فَهِيَ التَّوَرُّق. وَمَقْصُوده فِي الْمَوْضِعَيْنِ: الثَّمَن فَقَدْ حَصَلَ فِي ذِمَّته ثَمَن مُؤَجَّل مُقَابِل الثَّمَن حَالّ أَنْقَص مِنْهُ، وَلَا مَعْنَى لِلرِّبَا إِلَّا هَذَا لَكِنَّهُ رِبًا بِسَلَمٍ، لَمْ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدهُ كَانَ رِبًا بِسُهُولَةٍ.
وَلِلْعِينَةِ صُورَة رَابِعَة - وَهِيَ أُخْت صُوَرهَا - وَهِيَ أَنْ يَكُون عِنْد الرَّجُل الْمَتَاع فَلَا يَبِيعهُ إِلَّا نَسِيئَة، وَنَصَّ أَحْمَد عَلَى كَرَاهَة ذَلِكَ فَقَالَ: الْعِينَة أَنْ يَكُون عِنْده الْمَتَاع فَلَا يَبِيعهُ إِلَّا بِنَسِيئَةٍ، فَإِنْ بَاعَ بِنَسِيئَةٍ وَنَقْد فَلَا بَأْس.
وَقَالَ أَيْضًا: أَكْرَه لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَكُون لَهُ تِجَارَة غَيْر الْعِينَة فَلَا يَبِيع بِنَقْدٍ.
قَالَ اِبْن عُقَيْل: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِمُضَارَعَتِهِ الرِّبَا، فَإِنَّ الْبَائِع بِنَسِيئَةٍ يَقْصِد الزِّيَادَة غَالِبًا.
وَعَلَّلَهُ شَيْخنَا اِبْن تَيْمِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِأَنَّهُ يَدْخُل فِي بَيْع الْمُضْطَرّ، فَإِنَّ غَالِب مَنْ يَشْتَرِي بِنَسِيئَةٍ إِنَّمَا يَكُون لِتَعَذُّرِ النَّقْد عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُل لَا يَبِيع إِلَّا بِنَسِيئَةٍ كَانَ رِبْحه عَلَى أَهْل الضَّرُورَة وَالْحَاجَة، وَإِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ وَنَسِيئَة كَانَ تَاجِرًا مِنْ التُّجَّار.
وَلِلْعِينَةِ صُورَة خَامِسَة - وَهِيَ أَقْبَح صُوَرهَا، وَأَشَدّهَا تَحْرِيمًا - وَهِيَ أَنَّ الْمُتَرَابِيَيْنِ يَتَوَاطَآنِ عَلَى الرِّبَا، ثُمَّ يَعْمِدَانِ إِلَى رَجُل عِنْده مَتَاع، فَيَشْتَرِيه مِنْهُ الْمُحْتَاج، ثُمَّ يَبِيعهُ لِلْمُرْبِي بِثَمَنٍ حَالّ وَيَقْبِضهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَبِيعهُ إِيَّاهُ لِلْمُرْبِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّل، وَهُوَ مَا اِتَّفَقَا عَلَيْهِ، ثَمَن يُعِيد الْمَتَاع إِلَى رَبّه، وَيُعْطِيه شَيْئًا، وَهَذِهِ تُسَمَّى الثُّلَاثِيَّة لِأَنَّهَا بَيْن ثَلَاثَة، وَإِذَا كَانَتْ السِّلْعَة بَيْنهمَا خَاصَّة فَهِيَ الثُّنَائِيَّة.
وَفِي الثُّلَاثِيَّة: قَدْ أَدْخَلَا بَيْنهمَا مُحَلِّلًا يَزْعُمَانِ أَنَّهُ يُحَلِّل لَهُمَا مَا حَرَّمَ اللَّه مِنْ الرِّبَا. وَهُوَ كَمُحَلِّلِ النِّكَاح. فَهَذَا مُحَلِّل الرِّبَا، وَذَلِكَ مُحَلِّل الْفُرُوج، وَاَللَّه تَعَالَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَة. بَلْ يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُور.
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 6514) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 9 / ص 178) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 375 - 382) و الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 5 / ص 138) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 4 / ص 43 - 44) وموسوعة الأسرة المسلمة معدلة - (ج 8 / ص 268).(1/220)
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، مَثَلَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا شَرْطٌ لِذَلِكَ؛ أَوْ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ (1)،
__________
(1) - وفي الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3240)
بيع ما لم يقبض
1 - ثبت في الحديث الصّحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه».
وفي لفظ «حتّى يكتاله» وفي لفظ آخر «حتّى يستوفيه» قال ابن عبّاس «راوي الحديث»:ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله.
وفي رواية: «إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه». =(1/221)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وقد ذهب الفقهاء مذاهب في بيع المبيع قبل قبضه.
2 - فمذهب الشّافعيّة، وهو قول أبي يوسف الأوّل، وقول محمّد، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد: أنّه لا يصحّ بيع المبيع قبل قبضه، سواء أكان منقولاً أم عقاراً، وإن أذن البائع، وقبض الثّمن.
وذلك لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه «قال: قلت: يا رسول اللّه: إنّي أشتري بيوعاً، فما يحلّ لي منها، وما يحرم عليّ؟ قال: إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه» وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك».
ومعنى «ربح ما لم يضمن» ربح ما بيع قبل القبض.
مثل: أن يشتري متاعاً، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل، وربحه لا يجوز، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض.
ولحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، «أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم».
والمراد بحوز التّجّار: وجود القبض، كما في الحديث قبله.
ولضعف الملك قبل القبض، لانفساخ العقد بتلفه.
وهذا هو المعنى الّذي علّل به الشّافعيّة النّهي عن البيع قبل القبض.
وعلّل الحنابلة، عدم الجواز على هذه الرّواية الّتي اختارها ابن عقيل من أئمّتهم، بأنّه لم يتمّ الملك عليه، فلم يجز بيعه، كما لو كان غير متعيّن، وكما لو كان مكيلاً أو موزوناً.
3 - ومذهب الحنفيّة أنّه لا يصحّ بيع المنقول قبل قبضه، ولو كان من بائعه، وذلك للحديث المذكور برواياته، فإنّه منهيّ عن بيع المبيع قبل قبضه.
ولأنّ في البيع قبل القبض غرر انفساخ العقد الأوّل، على تقدير هلاك المبيع في يد البائع، وإذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ العقد، فيتبيّن أنّه باع ما لا يملك، والغرر حرام غير جائز، لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر».
ولا يفرّق الحنفيّة في ذلك بين الطّعام وبين غيره من المنقولات، وذلك: لقول ابن عبّاس كما تقدّم آنفاً: ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله، أي مثل الطّعام.
وعضّد قول ابن عبّاس ما روي عن ابن عمر، قال: «ابتعت زيتاً في السّوق، فلمّا استوجبته، لقيني رجل، فأعطاني فيه ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يده ' أي أن أقبل إيجابه، وأتّفق على العقد ' فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتّ، فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: لا تبعه حيث ابتعته، حتّى تحوزه إلى رحلك، فإنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم».
وعدم الصّحّة هنا، يعني: الفساد لا البطلان، وإن كان نفي الصّحّة يحتملهما، لكنّ الظّاهر عند الحنفيّة هو الفساد، لأنّ علّة الفساد هي الغرر، مع وجود ركني البيع، وكثيراً ما يطلق الباطل على الفاسد.
وأجاز الشّيخان من الحنفيّة - أبو حنيفة وأبو يوسف - بيع العقار قبل قبضه استحساناً، وذلك استدلالاً بعمومات حلّ البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد.
ولأنّه لا يتوهّم انفساخ العقد في العقار بالهلاك، بخلاف المنقول.
ولأنّ العقار مقدور التّسليم، ولا يرد عليه الهلاك إلاّ نادراً بغلبة الماء والرّمل، والنّادر لا يعتدّ به.
وقياساً على التّصرّف في الثّمن قبل قبضه، فإنّه جائز، لأنّه لا غرر فيه، كالتّصرّف في المهر وبدل الخلع والعتق وبدل الصّلح عن دم العمد، لأنّ المطلق للتّصرّف، وهو الملك، قد وجد، لكنّ الاحتراز عن الغرر واجب ما أمكن، وذلك فيما يتصوّر فيه الغرر، وهو المبيع المنقول، لا العقار.
وخالف الإمام محمّد، فلم يجز بيع العقار أيضاً قبل قبضه، وهو قول أبي يوسف الأوّل، وقول الشّافعيّ كما قدّمنا، وذلك لإطلاق الحديث، وقياساً على المنقول.
وقياساً أيضاً على الإجارة، فإنّها في العقار لا تجوز قبل القبض، والجامع اشتمالهما على ربح ما لم يضمن، فإنّ المقصود في البيع الرّبح، وربح ما لم يضمن منهيّ عنه شرعاً.
والنّهي يقتضي الفساد، فيكون البيع فاسداً قبل القبض، لأنّه لم يدخل في ضمانه، كما في الإجارة. =(1/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= 4 - ومذهب المالكيّة أنّ المحرّم المفسد للبيع، هو بيع الطّعام دون غيره من جميع الأشياء قبل قبضه، سواء أكان الطّعام ربويّاً كالقمح، أم غير ربويّ كالتّفّاح عندهم.
أمّا غير الطّعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم من «ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه».
ولغلبة تغيّر الطّعام دونما سواه.
لكنّهم شرطوا لفساد هذا النّوع من البيع، شرطين
أ - أن يكون الطّعام مأخوذاً بطريق المعاوضة، أي في مقابلة شيء، بإجارة أو شراء أو صلح أو أرش جناية، أو آل لامرأة في صداقها، أو غير ذلك من المعاوضات، فهذا الّذي لا يجوز بيعه قبل قبضه.
أمّا لو صار إليه الطّعام بهبة أو ميراث، ممّا ليس أخذه بعوض، فيجوز بيعه قبل قبضه.
ب - وأن تكون المعاوضة بالكيل أو الوزن أو العدد، فيشتريه بكيل، ويبيعه قبل قبضه، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل.
أمّا لو اشتراه جزافاً، ثمّ باعه قبل قبضه، فيكون بيعه جائزاً، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل.
وعلى هذا: فلو اشترى طعاماً كيلاً، لم يجز له بيعه قبل قبضه، لا جزافاً ولا كيلاً.
ولو اشتراه جزافاً، جاز له بيعه قبل قبضه، مطلقاً، جزافاً أو كيلاً.
5 - وفي مذهب الحنابلة روايات متعدّدة في الممنوع بيعه قبل قبضه من الأموال، سبق بعضها: فروي أنّه لا يجوز بيع الطّعام وما أشبهه قبل قبضه مطلقاً، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً، أم لم يكن كذلك، خلافاً لمالك الّذي اشترط فيه الكيل أو الوزن كما قدّمنا، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه».
ولقول الأثرم: سألت أبا عبد اللّه، عن قوله: «نهى عن ربح ما لم يضمن» قال: هذا في الطّعام وما أشبهه، من مأكول أو مشروب، فلا يبعه حتّى يقبضه.
ولقول ابن عبد البرّ: الأصحّ أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه: هو الطّعام، وذلك لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه» فمفهومه إباحة ما سواه قبل قبضه.
ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «رأيت الّذين يشترون الطّعام مجازفةً، يضربون على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتّى يؤووه إلى رحالهم».
وللحديث المتقدّم: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه».
ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «كنّا نشتري الطّعام من الرّكبان جزافاً، فنهانا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه».
ولقول ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ من اشترى طعاماً، فليس له أن يبيعه حتّى يستوفيه.
قالوا: ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه، والتّصرّف فيه، كما جاز ذلك بعد قبضه.
وعلّق الشّرح الكبير على ذلك بقوله: وهذا أي حديث «من ابتاع طعاماً» يدلّ على تعميم المنع في كلّ طعام، مع تنصيصه على البيع مجازفةً بالمنع.
ويدلّ بمفهومه على أنّ ما عدا الطّعام يخالفه في ذلك.
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد: أنّ ما كان متعيّناً، كالصّبرة تباع من غير كيل، يجوز بيعها قبل قبضها، وما ليس بمتعيّن، كقفيز من صبرة، ورطل من زبرة حديد، فإنّه لا يجوز بيعها قبل قبضها، بل حتّى تكال أو توزن.
وهذا قريب من قول مالك المتقدّم، في جواز بيع ما شري جزافاً، لولا تخصيص مالك المبيع بالطّعام.
ووجه هذه الرّواية ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: «مضت السّنّة أنّ ما أدركته الصّفقة حيّاً مجموعاً، فهو من مال المبتاع»،فلمّا جعله من ضمان المشتري مع أنّه لم يقبضه دلّ على البيع قبل القبض في المتعيّن.
ولأنّ المبيع المعيّن لا يتعلّق به حقّ توفية، فكان من مال المشتري، كغير المكيل والموزون.
وفي رواية ثالثة عن الإمام أحمد: أنّه لا يجوز بيع شيء قبل قبضه.
وهي الّتي وافق فيها الإمام الشّافعيّ وغيره، كما تقدّم.
ورواية المذهب: أنّ المكيل والموزون والمعدود والمذروع، لا يصحّ تصرّف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه.
وهذا مرويّ أيضاً: عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، والحسن، والحكم، وحمّاد ابن أبي سليمان، والأوزاعيّ، وإسحاق. =(1/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ومستند هذه الرّواية في التّفرقة بين المكيل والموزون ونحوهما وبين غيرهما: أنّ الحديث المذكور نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه، وكان الطّعام يومئذ مستعملاً غالباً فيما يكال ويوزن، وقيس عليهما المعدود والمذروع، لاحتياجهما إلى حقّ التّوفية.
وسواء أكان المعدود متعيّناً كالصّبرة، أم غير متعيّن كقفيز منها.
أمّا ما عدا المكيل والموزون ونحوهما، فيجوز التّصرّف فيه قبل قبضه، وذلك: لما روي {عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنّي أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير.
فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء».
قالوا: فهذا تصرّف في الثّمن قبل قبضه، وهو أحد العوضين.
«ضابط ما يمنع من التّصرّف فيه قبل قبضه»
6 - اختلفت ضوابط الفقهاء، في التّصرّفات الممنوعة شرعاً قبل قبض المبيع
«أ - فاتّفق الحنفيّة والحنابلة، على هذا الضّابط وهو»
أنّ كلّ عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه، جاز التّصرّف فيه قبل قبضه.
فمثال الأوّل: المبيع والأجرة وبدل الصّلح عن الدّين، إذا كان الثّمن والأجر والبدل عيناً - عند الحنفيّة - أو كان من المكيل أو الموزون أو المعدود عند الحنبليّة.
ومثال الآخر: المهر إذا كان عيناً - عند الحنفيّة - وكذا بدل الخلع، والعتق على مال، وبدل الصّلح عن دم العمد - وكذا أرش الجناية، وقيمة المتلف، عند الحنبليّة في هذين - كلّ ذلك إذا كان عيناً، يجوز بيعه وإجارته قبل قبضه، وسائر التّصرّفات.
وعلّل الحنابلة هذا الضّابط بقولهم: إنّ المقتضي للتّصرّف هو الملك، وقد وجد.
لكنّ ما يتوهّم فيه غرر الانفساخ، باحتمال هلاك المعقود عليه لا يجوز بناء عقد آخر عليه تحرّزاً من الغرر، وما لا يتوهّم فيه ذلك الغرر، انتفى عنه المانع، فجاز بناء العقد الآخر عليه.
«ب - ووضع محمّد بن الحسن من الحنفيّة هذا الضّابط، وهو»
- 1 - أنّ كلّ تصرّف لا يتمّ إلاّ بالقبض، كالهبة والصّدقة والرّهن والقرض والإعارة ونحوها، يجوز قبل قبض المبيع.
- 2 - وكلّ تصرّف يتمّ قبل القبض، كالمبيع والإجارة وبدل الصّلح عن الدّين إذا كان عيناً، ونحوها لا يجوز قبل قبض المبيع.
وتعليله عنده: أنّ الهبة - مثلاً - لمّا كانت لا تتمّ إلاّ بالقبض، صار الموهوب له نائباً عن الواهب، وهو المشتري الّذي وهبه المبيع قبل قبضه، ثمّ يصير قابضاً لنفسه، فتتمّ الهبة بعد القبض.
بخلاف البيع - مثلاً - ونحوه ممّا يتمّ قبل القبض، فإنّه لا يجوز، لأنّه إذا قبضه المشتري الثّاني لا يكون قابضاً عن الأوّل، لعدم توقّف البيع على القبض، فيلزم منه تمليك المبيع قبل قبضه، وهو لا يصحّ.
وأشار التّمرتاشيّ إلى أنّ الأصحّ ما ذهب إليه الإمام محمّد.
ج - وضبط الدّردير من المالكيّة ما يمنع بيع الطّعام قبل قبضه، بأن تتوالى عقدتا بيع لم يتخلّلهما قبض.
وهذا مختصّ بالطّعام على رأيهم المتقدّم في حصر المنهيّ عن بيعه قبل قبضه في مطلق الأطعمة الرّبويّة.
ويؤخذ من كلام ابن جزيّ هذا الضّابط، وهو: أنّ كلّ طعام أخذ معاوضةً - بغير جزاف - فليس له أن يبيعه حتّى يقبضه.
وتشمل المعاوضة: الشّراء، والإجارة، والصّلح، وأرش الجناية، والمهر، وغيرها - على ما ذكر - فليس له بيعه حتّى يقبضه، لكن يجوز له أن يهبه أو يسلّفه قبل قبضه.
والتّقييد عند المالكيّة بغير الجزاف، لإخراج ما بيع جزافاً بغير كيل ولا عدّ ولا وزن من الطّعام، فإنّه يجوز بيعه قبل قبضه، لدخوله في ضمان المشتري بمجرّد العقد، فهو مقبوض حكماً، فليس فيه توالي عقدتي بيع لم يتخلّلهما قبض.
كما شرط المالكيّة في جواز بيع مطلق طعام المعاوضة - بالإضافة إلى شرط قبضه - أن لا يكون القبض من نفسه لنفسه، فإن قبض من نفسه لنفسه، منع بيعه، لأنّ هذا القبض الواقع بين العقدين كلا قبض.
ومعنى هذا أنّ القبض المعتدّ به في الجواز، هو القبض القويّ، فيجوز بيع الطّعام عقبه.
أمّا القبض الضّعيف، فهو كلا قبض، فلا يعقب الجواز. =(1/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= «مثال ذلك»
- إذا وكّله ببيع طعام، فباعه من أجنبيّ، وقبل قبض الأجنبيّ الطّعام، اشتراه الوكيل منه لنفسه، فإنّه يمتنع بيعه من نفسه، لأنّه يقبض هذه الحال من نفسه لنفسه.
- وكذلك لو وكّله بشراء طعام، فاشتراه وقبضه ثمّ باعه لأجنبيّ، واشتراه منه قبل أن يقبضه الأجنبيّ منه، فإنّه يمتنع شراؤه من نفسه، لأنّه في هذه الحال يقبض من نفسه لنفسه.
ويستثنى من عدم جواز بيع الطّعام إذا قبض من نفسه لنفسه، ما إذا كان القابض من نفسه ممّن يتولّى طرفي العقد، كوصيّ ليتيميه، ووالد لولديه الصّغيرين، فإنّه يجوز بيع طعام أحدهما للآخر، ثمّ بيعه لأجنبيّ، قبل قبضه لمن اشتراه له.
د - لم يضع الشّافعيّة ضابطاً في هذا الصّدد، لكنّهم ألحقوا - في الأصحّ من مذهبهم - بالبيع عقوداً أخرى، من حيث البطلان قبل القبض.
فنصّوا على أنّ الإجارة والرّهن والهبة - ولو من البائع - باطلة، فلا تصحّ لوجود المعنى المعلّل به النّهي فيها، وهو ضعف الملك، وكذلك الصّدقة والهديّة وعوض الخلع والصّلح عن نحو دم، والقرض والقراض والشّركة وغيرها.
وجاءت عبارة المنهج عامّةً، فنصّت على أنّه: لا يصحّ تصرّف، ولو مع بائع، بنحو بيع ورهن فيما لم يقبض، وضمن بعقد.
لكنّهم صحّحوا تصرّف المشتري بالمبيع قبل قبضه بالإعتاق والوصيّة والتّدبير والتّزويج والوقف وقسمة الإفراز والتّعديل لا الرّدّ، وكذا إباحة طعام اشتراه جزافاً، بخلاف ما لو اشتراه مكيلاً، فلا بدّ لصحّة إباحته من كيله وقبضه.
وعلّلوا ذلك بتشوّف الشّارع إلى العتق - على حدّ تعبيرهم - وفي معناه بقيّة التّصرّفات.
7 - وألحقوا أيضاً الثّمن المعيّن، سواء أكان دراهم أم دنانير أم غيرهما بالمبيع في فساد التّصرّف قبل القبض، فلا يبيعه البائع، ولا يتصرّف فيه قبل قبضه، وذلك لعموم النّهي، وللتّعليل المتقدّم.
بل قال ابن حجر: وكلّ عين مضمونة في عقد معاوضة.
كذلك، أي لا يتصرّف فيها قبل قبضها.
فأمّا الأموال الّتي تكون للشّخص في يد غيره أمانةً كالوديعة، والمال المشترك في الشّركة والقراض، والمرهون بعد انفكاكه، والموروث، وما يملكه الغانم من الغنيمة، والمال الباقي في يد الوليّ بعد بلوغ المولى عليه رشده ونحوها، فيملك بيعها، لتمام الملك في المذكورات.
8 - ولعلّه لا بأس من الإشارة هاهنا إلى أنّ الإمام الشّوكانيّ - رحمه الله - طرح ضابطاً آخر، شطره ممّا قرّره الشّافعيّة، وقال ما نظيره
إنّ التّصرّفات الّتي تكون بعوض، تلتحق بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز.
والتّصرّفات الّتي لا عوض فيها، تلتحق بالهبة، فيكون فعلها قبل القبض جائزاً.
ورجّح هذا الرّأي، واستشهد له بإجماعهم على صحّة الوقف والعتق قبل القبض.
وبما علّل به النّهي عن بيع ما لم يقبض، وهو شبهة الرّبا
فقد روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ طاوساً سأله عن سبب النّهي، فأجابه بأنّه إذا باع المشتري المبيع قبل قبضه، وتأخّر المبيع في يد البائع، صار كأنّه باعه دراهم بدراهم، فإذا اشترى طعاماً بمائة دينار مثلاً، ودفعها إلى البائع، ولم يقبض منه الطّعام، ثمّ باع الطّعام من شخص آخر بمائة وعشرين - مثلاً - صار كأنّه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه أي اشترى بمائة مائةً وعشرين.
قال الشّوكانيّ: ولا يخفى أنّ مثل هذه العلّة لا ينطبق على ما كان من التّصرّف بغير عوض.
وهذا التّعليل أجود ما علّل به النّهي، لأنّ الصّحابة أعرف بمقاصد الرّسول - صلى الله عليه وسلم -.
9 - وقال بعض المالكيّة: إنّ هذا النّهي تعبّد.
وأشار الدّسوقيّ منهم إلى أنّ هذا هو الصّحيح عند أهل المذهب، ونقله عن التّوضيح.
وقيل: بل هو معقول المعنى، ومعلّل بأنّ الشّارع له غرض في ظهوره، وهو سهولة الوصول إلى الطّعام، ليتوصّل إليه القويّ والضّعيف.
ولو جاز بيعه قبل قبضه، لباع أهل الأموال بعضهم من بعض، من غير ظهور، ولخفي بإمكان شرائه من مالكه وبيعه خفيةً، فلم يتوصّل إليه الفقير، بخلاف ما إذا منع من ذلك، فإنّه ينتفع به الكيّال، والحمّال، ويظهر للفقراء، فتقوى به قلوب النّاس، لا سيّما في زمن المسغبة والشّدّة.
«تحديد القبض وتحقّقه»
10 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ قبض كلّ شيء بحسبه =(1/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= - أ - فإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو مذروعاً، فقبضه بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذّرع.
وذلك: لحديث عثمان رضي الله عنه قال: «كنت أبتاع التّمر من بطن من اليهود، يقال لهم: بنو قينقاع، وأبيعه بربح، فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عثمان إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل».
وحديث جابر رضي الله عنه، قال: «نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع، وصاع المشتري».
والمالكيّة شرطوا في قبض المثليّ تسليمه للمشتري، وتفريغه في أوعيته.
- ب - وإن كان جزافاً فقبضه نقله، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا يتبايعون الطّعام جزافاً بأعلى السّوق، فنهاهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتّى ينقلوه» وفي رواية: «حتّى يحوّلوه».
- ج - وإن كان منقولاً من عروض وأنعام، فقبضه بالعرف الجاري بين النّاس كما يقول المالكيّة: كاحتياز الثّوب، وتسليم مقود الدّابّة.
أو ينقله إلى حيّز لا يختصّ به البائع، عند الشّافعيّة.
ويروى هذا عن أبي يوسف، كالشّارع ودار المشتري.
وفصّل الحنابلة في المنقول من العروض والأنعام فقالوا: إن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد.
وإن كان ثياباً فقبضها نقلها.
وإن كان حيواناً، فقبضه تمشيته من مكانه.
- د - وإن كان عقاراً فقبضه بالتّخلية بينه وبين المشتري، بلا حائل دونه، وتمكينه من التّصرّف فيه، بتسليمه المفتاح إن وجد، بشرط أن يفرّغه من متاع غير المشتري عند الشّافعيّة.
ولم يشترط ذلك المالكيّة إلاّ في دار السّكنى، فإنّ قبضها بالإخلاء عندهم، ولا يكتفى بالتّخلية.
أمّا غيرها من العقارات، فيتحقّق القبض بالتّخلية، وإن لم يخل البائع متاعه منها.
ويشير الشّافعيّة إلى أنّ هذا التّفصيل إنّما هو في القبض المصحّح للتّصرّف، أمّا القبض النّاقل للضّمان من البائع، فمداره على استيلاء المشتري على المبيع، سواء أنقله أم لا، وسواء أخلّى البائع بينه وبينه أم لا، وسواء أأذن له في القبض أم لا، وسواء أكان له الحقّ في الحبس أم لا، فمتى استولى المشتري على المبيع انتفى الضّمان عن البائع، بمعنى أنّه لو تلف حينئذ لا ينفسخ العقد، أو تعيّب لا يثبت الخيار للمشتري، ولو رجع إلى البائع لا يرجع الضّمان إليه.
11 - ولم يفصّل الحنفيّة - وهي رواية ابن الخطّاب عن أحمد - هذا التّفصيل في القبض، بل اعتبروا التّخلية - وهي: رفع الموانع والتّمكين من القبض - قبضاً حكماً على ظاهر الرّواية، وروى أبو الخطّاب مثل ذلك عن أحمد وشرط مع التّخلية التّمييز.
نصّ الحنفيّة على مذهبهم هذا في الرّهن، في التّخلية بينه وبين المرتهن، وقالوا: إنّ التّخلية فيه قبض، كما هي في البيع، فإنّها فيه أيضاً قبض.
قالوا: لأنّها تسليم، فمن ضرورته الحكم بالقبض، فيترتّب عليه ما يترتّب على القبض الحقيقيّ، وهذا هو الأصحّ.
ومقابل الأصحّ: المرويّ عن أبي يوسف، وهو: أنّه لا يثبت في المنقول إلاّ بالنّقل.
12 - وعلى هذا لو باع ما اشتراه قبل أن يقبضه فربح، فهذا هو ربح ما لم يضمن، الّذي ورد فيه حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك».
وفسّره محمّد بن الحسن في كتاب الآثار لمّا روى هذا الحديث من طريق آخر برواية أخرى، فقال: وأمّا ربح ما لم يضمن: فالرّجل يشتري الشّيء، فيبيعه قبل أن يقبضه.
وكذلك فسّره الشّوكانيّ، حيث قال: يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل: أن يشتري متاعاً، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل، وربحه لا يجوز، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض.
وكذلك فعل البهوتيّ، حيث قال: والمراد به ربح ما بيع قبل القبض.
وهذا الحديث وإن كان عاماً، غير أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - خصّه بالطّعام، في رواية الأثرم عنه، قال: سألت أبا عبد اللّه، عن قوله: «نهى عن ربح ما لم يضمن»،قال هذا في الطّعام، وما أشبهه من مأكول أو مشروب، فلا يبيعه حتّى يقبضه.
وقال ابن عبد البرّ: الأصحّ عن أحمد بن حنبل، أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه: هو الطّعام.
بيع الصّدقة والهبة قبل القبض
13 - الصّدقة هي: تمليك المال في الحياة من يحتاجه بغير عوض، تقرّباً إلى اللّه تعالى، وجوباً أو ندباً. =(1/226)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وهذا التّعريف - كما يرى - يشمل الصّدقة المفروضة، الّتي تؤخذ من مال الغنيّ في آخر الحول وهي زكاة المال، أو في آخر شهر الصّوم وهي زكاة الفطر تطهيراً للغنيّ والصّائم، ويشمل الصّدقة المتطوّع بها، وهي المستحبّة في جميع الأوقات.
وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدّم آنفاً، «نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن شراء الصّدقات حتّى تقبض».وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: «لا تبع ما ليس عندك».
14 - ويعتبر جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنبليّة وبعض المالكيّة الصّدقة ونحوها، كالهبة والرّهن والقرض والإعارة والإيداع، من عقود التّبرّعات، الّتي لا تتمّ ولا تملّك إلاّ بالقبض، والعقد فيها قبل القبض يعتبر عديم الأثر.
وعبارة المرغينانيّ في فصل الصّدقة: والصّدقة كالهبة لا تصحّ إلاّ بالقبض، لأنّه «أي التّصدّق» تبرّع كالهبة.
بل قال الكاسانيّ: القبض شرط جواز الصّدقة، لا تملّك قبل القبض، عند عامّة العلماء.
واستدلّ لذلك: بما روي «عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال خبراً عن اللّه سبحانه وتعالى: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» اعتبر اللّه سبحانه وتعالى الإمضاء في الصّدقة، والإمضاء هو التّسليم.
فدلّ على أنّه شرط.
وبما روي عن أبي بكر وعمر وابن عبّاس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أنّهم قالوا: لا تتمّ الصّدقة إلاّ بالقبض.
وبأنّ الصّدقة عقد تبرئة، فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة.
وفي الهبة يقول: لو صحّت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتّسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع.
وهذا الّذي قاله الحنفيّة، هو الّذي يقابل المشهور من مذهب المالكيّة، وهو ضعيف، عبّروا عنه بقولهم: وقيل: إنّما تملك بالقبض وهذا النّصّ وإن ورد في الهبة، لكنّ تعريفهم الصّدقة، كما أشرنا إليه قبلاً وما يأتي من الأحكام، يفيد التّعميم في الهبة والصّدقة. وهو أيضاً مذهب الشّافعيّة، إذ قالوا: لا يملك موهوب - بالمعنى الأعمّ الشّامل للصّدقة والهديّة - إلاّ بقبض بإذن الواهب.
وجاء في نصوص الشّافعيّة: إذا حلف لا يهب له، فوهب له ولم يقبل، أو قبل ولم يقبض لا يحنث في الأصحّ.
وذلك لأنّه لا بدّ من القبول والقبض حتّى تصحّ الهبة وتتمّ.
وكذلك المذهب عند الحنابلة مطلقاً كما يقول المرداويّ.
فقد صرّحوا بأنّ أنواع الهبة: صدقة وهديّة ونحلة، ومعانيها متقاربة، وكلّها تمليك في الحياة بلا عوض، تجري فيها أحكامها أي تجري أحكام كلّ واحدة من المذكورات في البقيّة.
وقالوا: وتلزم الهبة بقبضها بإذن واهب، ولا تلزم قبله، أي قبل القبض بإذن الواهب، ولو كانت الهبة في غير مكيل ونحوه، ففي جميعها لا تلزم إلاّ بالقبض.
وقد استدلّ الحنابلة لما ذهبوا إليه - من إطلاق شرط القبض في الهبة ونحوها، كالصّدقة الّتي نواجهها - بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية، فلمّا مرض قال: يا بنيّة: كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك، فإنّما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى.
وذكر البهوتيّ أنّه روي عن عمر وعثمان، وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم، نحو هذا، ولم يعرف لهم مخالف من الصّحابة.
ورتّبوا على اشتراط القبض، جواز رجوع الواهب في هبته «وكذا الصّدقة» قبل القبض، لعدم تمام العقد.
وخالف في اشتراط القبض المالكيّة في مشهور مذهبهم.
فقرّروا أنّ الهبة «وكذلك الصّدقة كما يؤخذ من تفريعاتهم» تملك بالقول على المشهور، وللموهوب له طلبها من الواهب، إذا امتنع من تسليمها، ليجبره على تمكين الموهوب له منها.
وأشار الحنابلة في كتبهم إلى دليل المالكيّة وهو حديث ابن عبّاس رضي الله عنه «أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: العائد في هبته كالعائد في قيئه» ويروى «في صدقته».
ويروى «كالكلب يقيء ثمّ يعود في قيئه».
«وجاء في نصوص المالكيّة»
أ - لو قال: داري صدقة أو هبة أو حبس على الفقراء، لا يقضى عليه «لعدم التّعيين». =(1/227)
أَوْ بِغَيْرِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ (1)؛ أَوْ يَقْلِبُ فِيهَا الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ (2)، فَإِنَّ الْمُعْسِرَ يَجِبُ إنْظَارُهُ (3) وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِمُعَامَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
= ب - ولو قال: داري صدقة أو هبة أو حبس على زيد، فإنّه يقضى عليه بذلك، لأنّه قصد البرّ والقربة حينئذ.
ج - ولو قال: للّه عليّ دفع درهم لزيد أو للفقراء، لا يقضى به مطلقاً، وقيل يقضى.
وعلّلوا هذا بأنّ القضاء لا بدّ فيه من تعيين المتصدّق عليه أو الموهوب له، ولا بدّ فيه من قصد القربة.
وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه في المكيل والموزون لا تصحّ الهبة والصّدقة، ولا تلزم فيه الصّدقة والهبة إلاّ بالقبض.
وفي غيرهما يصحّ بغير قبض، ويلزم بمجرّد العقد.
ويثبت فيه الملك بغير قبض.
وحاصل الدّليل في هذه التّفرقة القياس على البيع، من حيث إنّها تمليك، ففي البيع ما لا يلزم قبل القبض، كالصّرف والرّبويّات، وفيه ما يلزم قبل القبض، وهو ما عدا ذلك.
والخلاصة أنّ جمهور الفقهاء يشترطون القبض في التّبرّعات.
(1) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 327)
(2) - المعسر من عجز عن سداد ديونه لأمر طارئ
(3) - قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (280) سورة البقرة
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 883)
فيه تسع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} لما حكم جلّ وعزّ لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذي العسرة بالنّظِرَة إلى حال المْيَسرة؛ وذلك أن ثقيفاً لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغِيرة شكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم؛ فنزلت هذه الآية: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}.
الثانية قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} مع قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الديْن على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الديْن مع الإمكان كان ظالماً؛ فإن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.
الثالثة قال المهدوِيّ وقال بعض العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع مَنْ أعْسَر. وحكى مكيّ أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر به في صدر الإسلام. قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نَسْخٌ وإلاَّ فليس بنسخ. قال الطحاويّ: كان الحر يُباع في الديْن أوّل الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال جلّ وعزّ: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}. واحتجوا بحديث رواه الدّارقطنيّ من حديث مسلم بن خالد الزنجيّ أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البَيْلَمَانِيّ عن سُرَّق قال: كان لرجل عليّ مالٌ أو قال ديْنٌ فذهب بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يِصب لي مالاً فباعني منه، أو باعني له. أخرجه البَزّار بهذا الإسناد أطول منه. ومسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما. وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} عامّةٌ في جميع الناس، فكل من أعسر أنْظِر؛ وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. قال النحاس: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم. قال: هي لِكل مُعْسِرٍ يُنْظَر في الرّبا والديْن كله. فهذا قول يجمع الأقوال؛ لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه، ولأنّ القراءة بالرفع بمعنًى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصةً؛ فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نَظِرَةٌ بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يُوفِّيَه؛ وهو قول إبراهيم.
واحتجوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء:58] الآية. قال ابن عطية: فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقرٌ مُدْقِع، وأما مع العُدْم والفقر الصرِيح فالحكم هو النظِرة ضرورة.
الرابعة من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته. روى ابن نافع عن مالك أنه لايترك له إلاَّ ما يُوارِيه. والمشهور أنه يترك له كسوته المعتاد ما لم يكن فيها فضل، ولا يُنْزَع منه رداؤه إن كان ذلك مُزْرياً به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالماً خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقلّ قيمتها؛ وعند هذا يحرمُ حَبْسُه. والأصل في هذا قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}. روى الأئمّة واللفظ لمسلم " عن أبي سعيد الخدرِيّ قال: أُصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينْه؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تصدقوا عليه» فتصدّق الناس عليه فلم يبلغ =(1/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاَّ ذلك» " وفي مصنف أبي داود: فلم يزد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرماءَه على أن خلع لهم مالَه. وهذا نَصٌّ؛ فلم يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحبس الرجل، وهو معاذ بن جبل كما قال شُرَيْح، ولا بملازمته، خلافاً لأبي حنيفة فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا. وبالله توفيقنا.
الخامسة ويحبس المفلس في قول مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبيّن عُدْمُه. ولا يحبس عند مالك إن لم يُتّهم أنه غيّب مالَه ولم يتبيّن لَدَدُه. وكذلك لا يحبس إن صحّ عُسْره على ما ذكرنا.
السادسة فإن جُمِع مال المفلس ثم تلِف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع، فعلى المفلس ضمانُه، وديْن الغرماء ثابت في ذمته. فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلِف الثمن قبل قبض الغرماء له، كان عليهم ضمانه وقد برىء المفلس منه. وقال محمد بن عبد الحكم: ضمانه من المفلس أبداً حتى يصل إلى الغرماء.
السابعة العُسْرَة ضيق الحال من جهة عدم المال؛ ومنه جيش العسرة. والنّظِرَة التأخير. والمَيْسَرَة مصدر بمعنى اليسر. وارتفع «ذو» بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث؛ هذا قول سيبويه وأبي عليّ وغيرهما. وأنشد سيبويه:
فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبان ناقتي ... إذا كان يومٌ ذو كواكب أشْهَبُ
ويجوز النصب. وفي مصحف أبيّ بن كعب «وَإنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة.
وقرأ الأعمش «وإن كان مُعْسِراً فنظرة». قال أبو عمرو الدّانِيّ عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب. قال النحاس ومكيّ والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الرِّبا، وعلى من قرأ «ذو» فهي عامة في جميع من عليه دين، وقد تقدّم. وحكى المهدَوِيّ أن في مصحف عثمان «فإن كان بالفاء ذو عسرة». وروى المعتمِر عن حجاج الورّاق قال: في مصحف عثمان «وإن كان ذا عسرةٍ» ذكره النحاس. وقراءة الجماعة «نَظِرَةٌ» بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رَجاء والحسن «فَنَظْرَةٌ» بسكون الظاء، وهي لغة تميميّة وهم الذين يقولون: (في) كَرْم زيدٍ بمعنى كَرَم زيدٍ، ويقولون كبْد في كبِد. وقرأ نافع وحده «مَيْسُرَةٍ» بضم السين، والجمهور بفتحها. وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء «فناظِرْهُ على الأمر إلى مَيْسُرِ» هِي بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج. وقرىء «فَنَاظِرَةٌ» قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة، إنما ذلك في «النمل» لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها، من نظرت تنظر فهي ناظرة؛ وما في «البقرة» فمن التأخير، من قولك: أنظرتك بالديْن، أي أخّرتك به. ومنه قوله: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]. وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال: هي من أسماء المصادر؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2]. وكقوله تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:25] وك {خَآئِنَةَ الأعين} [غافر:19] وغيره.
الثامنة قوله تعالى: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} ابتداء، وخبره {خَيْرٌ}. ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعُسِر وجعل ذلك خيراً من إنْظاره؛ قاله السدي وابن زيد والضحاك. وقال الطبريّ: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدّقوا على الغنِيّ والفقير خير لكم. والصحيح الأوّل، وليس في الآية مَدْخل للغنِيّ.
التاسعة روى أبو جعفر الطحاوي عن بُريْدة بن الحُصَيْب قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" «من أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة» ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة؛ قال فقال «بكل يوم صدقة مالم يحِل الدّيْن فإذا أنْظَره بعد الحِل فله بكل يوم مثله صدقة» " وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" حوسِب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلاَّ أنه كان يخالط الناس وكان موسِراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسِر قال قال الله عزّ وجلّ نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه " وروي عن أبي قتادة أنه طلب غِريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسِر. فقال: آلله؟ قال: أللَّهِ. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" من سره أن ينجِيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسِرٍ أو يضع عنه "،وفي حديث أبي اليَسَر الطويلِ واسمه كعب بن عمرو أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" من أنظر معسِراً أو وضع عنه أظلَّه الله في ظِلِّه " ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها. وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علِم عسرة (غريمه) أو ظنها حرمتّ عليه مطالبتُه، وإن لم تثبت عُسْرته عند الحاكم. وإنْظار المعسِر تأخيره إلى أن يُوسِر. والوضع عند إسقاط الدين عن ذمته. وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقضِ وإلاَّ فأنت في حِل.(1/229)
وَمِنْهَا مَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ كُلِّهِ (1).
وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ تَلَقِّي السِّلَعِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ إلَى السُّوقِ (2)؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ السِّعْرُ فَيَشْتَرِي مِنْهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ الْقِيمَةِ؛ وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ الْخِيَارَ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ.
__________
(1) - قلت: فمن وصله التحريم يجب عليه المبادرة للعمل به وترك المحرم، ولا حجة له في تقليد من سبقه إذا ثبت أنها حرام
(2) - صحيح مسلم برقم (3894) ومسند أحمد برقم (4627) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ الأَسْوَاقَ. وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ نُمَيْرٍ. وَقَالَ الآخَرَانِ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ التَّلَقِّى.
قال النووي رحمه الله: وفي هذه الأحاديث تحريم تلقى الجلب وهو مذهب الشافعي ومالك والجمهور، وقال أبو حنيفة والأوزاعي يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس فإن أضر كره، والصحيح الأول للنهي الصريح، قال أصحابنا وشرط التحريم أن يعلم النهي عن التلقي ولو لم يقصد التلقي بل خرج لشغل فاشترى منه ففي تحريمه وجهان لأصحابنا وقولان لأصحاب مالك أصحهما عند أصحابنا التحريم لوجود المعنى ولو تلقاهم وباعهم ففي تحريمه وجهان وإذا حكمنا بالتحريم فاشترى صح العقد، قال العلماء وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته ممن يخدعه، قال الإمام أبو عبد الله المازري: فإن قيل المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد واحتمل فيه غبن البادي والمنع من التلقي أن لا يغبن البادي، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار. فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الواحد فلما كان البادئ إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان البلد نظر الشرع لأهل البلد على البادى ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد في قبالة واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص وقطع المواد عنهم وهم أكثر من المتلقي فنظر الشرع لهم عليه فلا تناقض بين المسألتين بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة. والله أعلم، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار سواء أخبر المتلقي بالسعر كاذباً أم لم يخبر وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر فوجهان الأصح لا خيار له لعدم الغبن، والثاني: ثبوته لإطلاق الحديث. انتهى.
وفي المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 3872)
1469 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَلَقِّي الْجَلَبِ -:سَوَاءٌ خَرَجَ لِذَلِكَ أَوْ كَانَ سَاكِنًا عَلَى طَرِيقِ الْجَلَّابِ , وَسَوَاءٌ بَعُدَ مَوْضِعُ تَلَقِّيهِ أَمْ قَرُبَ - وَلَوْ أَنَّهُ عَلَى السُّوقِ عَلَى ذِرَاعٍ فَصَاعِدًا , لَا لِأُضْحِيَّةٍ , وَلَا لِقُوتٍ , وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ , أَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ. فَمَنْ تَلَقَّى جَلَبًا - أَيَّ شَيْءٍ كَانَ - فَاشْتَرَاهُ فَإِنَّ الْجَالِبَ بِالْخِيَارِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ مَتَى مَا دَخَلَهُ وَلَوْ بَعْدَ أَعْوَامٍ فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ , أَوْ رَدِّهِ , فَإِنْ رَدَّهُ حُكِمَ فِيهِ بِالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِرَدِّ الْعَيْبِ لَا فِي الْمَأْخُوذِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَلَا يَكُونُ رِضَا الْجَالِبِ إلَّا بِأَنْ يَلْفِظَ بِالرِّضَا , لَا بِأَنْ يَسْكُتَ - عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ - فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ بَاقٍ , فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يُمْضِيَ فَالْبَيْعُ تَامٌّ. بُرْهَانُ ذَلِكَ -:مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ - أَنَا أُبَيٌّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ الْأَسْوَاقَ}. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ التَّيْمِيِّ - هُوَ سُلَيْمَانُ - عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - {أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ}. وَرُوِّينَا نَحْوَهُ مُسْنَدًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: أَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ - هُوَ ابْنُ حَسَّانٍ - عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ " إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {لَا تَلَقُّوا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ}. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبِي تَوْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ فَإِنْ تَلَقَّاهُ مُتَلَقٍّ فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ إذَا وَرَدَتْ السُّوقَ}. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ , رَوَاهُ خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَرَوَاهُ عَنْهُمْ النَّاسُ - وَبِهَذَا قَالَ السَّلَفُ -:رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ فَمَنْ تَلَقَّى جَلَبًا فَاشْتَرَى مِنْهُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إذَا وَقَعَ السُّوقَ - وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا , وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ , لَا =(1/230)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= سِيَّمَا هَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي كَأَنَّهَا الشَّمْسُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو هِلَالٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ خَارِجَ الْبَلَدِ فَإِذَا تُلُقِّيَ الْجَلَبُ خَارِجًا مِنْ الْبَلَدِ فَرَبُّ الْجَلَبِ بِالْخِيَارِ إذَا قَدِمَ إنْ شَاءَ بَاعَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ , وَهَذَا أَيْضًا نَصُّ قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَلَقُّوا الْبُيُوعَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ عَنْ إيَاسِ بْنِ دَغْفَلٍ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -:لَا تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ. وَمِمَّنْ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ الْجَالِبِينَ جُمْلَةً: اللَّيْثُ , وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَإِسْحَاقُ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ: بِإِيجَابِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا قَدِمَ السُّوقَ - وَنَهَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَأَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ جُمْلَةً , إلَّا أَنَّهُ كَرِهَهُ إنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ دُونَ أَنْ يَحْظُرَهُ , وَأَجَازَهُ بِكُلِّ حَالٍ - وَهَذَا خِلَافٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَخِلَافُ صَاحِبَيْنِ لَا يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ , وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَمَا نَعْلَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً , وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَوَاحِي الْمِصْرِ فَقَطْ - وَلَا بَأْسَ بِالتَّلَقِّي لِابْتِيَاعِ الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْأُضْحِيَّةِ. وَهَذِهِ تَقَاسِيمُ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ , وَلَا نَعْلَمُهَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ أَصْلًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ بَيَانٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ لِلْبَائِعِ خِيَارًا فِي رَدِّهِ أَوْ إمْضَائِهِ , وَالْخِيَارُ لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ , وَمَنْ جَعَلَهُ يُورَثُ فَقَدْ تَعَدَّى مَا حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ الْخِيَارُ مَالًا يُورَثُ , وَلَوْ وُرِثَ لَكَانَ لِأَهْلِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ نُصِيبُهُمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تَلَقِّي السِّلَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَنْ تَلَقَّاهَا بِحَيْثُ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إلَيْهِ , فَإِنْ تَلَقَّاهَا بِحَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فَصَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُنْزَعُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ , فَإِنْ مَاتَ نُزِعَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَبِيعَتْ فِي السُّوقِ وَدُفِعَ ثَمَنُهَا إلَى الْبَائِعِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: {كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ}. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَنَا أَبُو ضَمْرَةَ - هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ - أَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ}. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ أَنَا هِشَامٌ أَنَا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: {أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الرُّكْبَانِ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي ابْتَاعُوهُ فِيهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ إلَى سُوقِ الطَّعَامِ}. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِسِتَّةِ وُجُوهٍ -:أَحَدُهَا - أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا هُمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ خَالَفَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى تَفْسِيرٍ مَا فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فَسَّرَ , وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي رَدِّ الْخَبَرِ , وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ , وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ الْفُتْيَا بِتَرْكِ التَّلَقِّي كَمَا وَرَدَ آنِفًا , وَالْأَخْذُ بِمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّلَقِّي. وَثَانِيهَا - أَنَّ هَذَيْنِ خَبَرَانِ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَنَا فِيهِمَا , فَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ حَيْثُ ابْتَاعَهُ , وَلَا أَسْوَأَ طَرِيقَةً مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِحُجَّةٍ هُوَ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لَهَا , وَمُخَالِفٍ لِمُوجِبِهَا. وَالثَّالِثُ - أَنَّهُمَا مُوَافِقَانِ لِقَوْلِنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ هُوَ نَهْيٌ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبْتَاعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ السُّوقَ , وَمَشْهُورٌ غَيْرُ مَنْكُورٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ " بِعْت بِمَعْنَى ابْتَعْت " وَيُخَرَّجُ خَبَرُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَلَى هَذَا أَيْضًا , وَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى الْبَائِعِينَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي ابْتَاعَهُ الْمُشْتَرُونَ مِنْهُمْ - وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ. وَالرَّابِعُ - أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِمَا لَكَانَ النَّهْيُ نَاسِخًا وَلَا بُدَّ بِيَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ ; لِأَنَّ التَّلَقِّي كَانَ مُبَاحًا بِلَا شَكٍّ قَبْلَ النَّهْيِ , فَكَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ مُوَافِقَيْنِ لِلْحَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَا شَكٍّ , وَبِالْيَقِينِ يَدْرِي كُلُّ ذِي فَهْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ نَهَى عَنْ التَّلَقِّي فَقَدْ بَطَلَتْ الْإِبَاحَةُ بِلَا شَكٍّ , فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَنُسِخَ لَوْ صَحَّ فِيهِمَا إبَاحَةُ التَّلَقِّي , فَكَيْفَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِمَا؟ وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ لَا مَحِيدَ عَنْهُ , وَمَنْ ادَّعَى عَوْدَ حُكْمٍ قَدْ نُسِخَ فَقَدْ كَذَبَ , وَقَفَا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ , وَادَّعَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ كَمَا أُمِرَ , وَأَنَّ الدِّينَ مُخْتَلِطٌ لَا يَدْرِي أَحَدٌ حَرَامَهُ مِنْ حَلَالِهِ مِنْ وَاجِبِهِ , وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا. وَخَامِسُهَا - أَنْ يُضَمَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ إلَى أَخْبَارِ النَّهْيِ , فَيَكُونُ الْبَائِعُونَ تَخَيَّرُوا إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَأَمَرَ الْمُبْتَاعُونَ بِنَقْلِهِ حِينَئِذٍ إلَى السُّوقِ , فَتَتَّفِقُ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا وَلَا تُحْمَلُ عَلَى التَّضَادِّ. وَسَادِسُهَا - أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ بِبَيَانٍ صَحِيحٍ رَافِعٍ لِلْإِشْكَالِ مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ مِنْ جُوَيْرِيَةَ - كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا يَحْيَى - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ عُمَرَ - حَدَّثَهُ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: {كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ وَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ}. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا أُبَيٌّ , ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ , كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ}. فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فِي السُّوقِ إلَّا أَنَّهُ فِي أَعْلَاهُ , وَفِي الْجُزَافِ خَاصَّةً فَنُهِيَ الْمُشْتَرُونَ عَنْ ذَلِكَ - وَاحْتَجَّ أَيْضًا بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ طَرِيفٍ جِدًّا , وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً عَنْ هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَفِيهِ: فَمَنْ اشْتَرَاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ , وَقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا بِهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْخَبِيثَةِ فِي الْإِيهَامِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ - وَهُمْ لَا يَأْتُونَ بِشَيْءٍ - لِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ بَاطِلٌ , وَلَوْ جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَكَانَ مُجْمَلًا تُفَسِّرُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ , وَأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا هُوَ لِلْبَائِعِ , وَهَكَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ , وَابْنُ سِيرِينَ فِي فُتْيَاهُمَا. ثُمَّ هَبْكَ لَوْ صَحَّ خِيَارٌ آخَرُ لِلْمُشْتَرِي فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي هَذَا؟ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا , فَلَوْ كَانَ هَهُنَا حَيَاءٌ , أَوْ وَرَعٌ لَرَدَعَ عَنْ التَّمْوِيهِ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا هُوَ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّمَا أَمَرَ عليه السلام بِهَذَا حِيَاطَةً لِلْجُلَّابِ دُونَ أَهْلِ الْحَضَرِ - قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ حِيَاطَةً عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ دُونَ الْجُلَّابِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ , وَمَا حِيَاطَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْحَضَرِ إلَّا كَحِيَاطَتِهِ لِلْجُلَّابِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. فَهُوَ عليه السلام ذُو رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْجَالِبِينَ , وَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَكُلُّهُمْ فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سَوَاءٌ , وَلَكِنَّهَا الشَّرَائِعُ يُوحِيهَا إلَيْهِ بَاعِثُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤَدِّيهَا كَمَا أُمِرَ , لَا يُبَدِّلُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ , وَلَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى , وَلَا عِلَّةَ لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إلَّا مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} , {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} , وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ وَإِفْكٌ مُفْتَرًى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا يَقُولُونَ: فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ صَحِيحٌ - وَأَنْتُمْ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقَوْلِ بِالسُّنَنِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا , وَسَنَذْكُرُ الْحُكْمَ الَّذِي فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ نَقْلِ الطَّعَامِ عَنْ مَوْضِعِ ابْتِيَاعِهِ وَأَنَّهُ فِي الْجُزَافِ خَاصَّةً بَعْدَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ خَبَرٍ آخَرَ. وَأَمَّا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَهُنَا فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ -:إمَّا أَمْرٌ لِلْبَائِعِينَ وَهُمْ الرُّكْبَانُ الْجَالِبُونَ لَهُ , بِأَنْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ هُنَالِكَ , وَنُهِيَ الْمُشْتَرُونَ عَنْ التَّلَقِّي - وَإِمَّا أَنَّهُ مَفْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّلَقِّي أَوْ فِي الْجُزَافِ خَاصَّةً , كَمَا فِي خَبَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ , لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِمَا ذَكَرْنَا , وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَصْلًا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.(1/231)
وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ مَعَ الْغَبْنِ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِلَا غَبْنٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يُثْبِتُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ لَا يُثْبِتُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ. وَثُبُوتُ الْخِيَارِ بِالْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِلِ (1) - وَهُوَ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ -
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 136) برقم (7455) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ:"غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ حَرَامٌ". وفيه ضعف
وفي السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 349) برقم (11242) عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا». وهو ضعيف
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 52)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ يَسُومُ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ كَثِيرٍ وَيَبِيعُهَا بِأَزْيَدَ مِنْ الْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: أَمَّا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَرْسِلًا - وَهُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ - لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَغْبِنَهُ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ بِالْقِيمَةِ الْمُعْتَادَةِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا. فَإِنْ غَبَنَهُ غَبْنًا فَاحِشًا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِمْضَائِهِ. فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا}. وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ حَتَّى يَهْبِطَ بِهِ السُّوقَ. وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَبِلَ أَنْ يَهْبِطَ السُّوقَ يَكُونُ جَاهِلًا بِقِيمَةِ السِّلَعِ فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَنْ يَخْرُجَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَغْرِيرِهِ وَالتَّدْلِيسِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ تَغْرِيرُهُ وَالتَّدْلِيسُ عَلَيْهِ: مِثْلَ أَنْ يُسَامَ سَوْمًا كَثِيرًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ لِيَبْذُلَ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ؛ بَلْ يُبَاعُ الْبَيْعُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 53)
وَسُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ؟ =(1/232)
هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا (1)، فَلَيْسَ لِأَهْلِ السُّوقِ
__________
= فَأَجَابَ: أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمُسْتَرْسِلُ إلَّا بِالسِّعْرِ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اسْتَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ يَغْبِنَ فِي الرِّبْحِ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالثُّلُثِ. وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ النَّاسِ فَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى المماكسين: يَرْبَحُونَهُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ. وَالْمُسْتَرْسِلُ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ بَلْ يَقُولُ: خُذْ أَعْطِنِي وَبِأَنَّهُ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَلَا يَغْبِنُ غَبْنًا فَاحِشًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا}. وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَغْبِنُهُمْ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ؛ بَلْ يُمْنَعُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْمَغْبُونِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ فَيَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ وَإِذَا تَابَ هَذَا الْغَابِنُ الظَّالِمُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِينَ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا ظَلَمَهُمْ بِهِ وَغَبَنَهُمْ؛ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ. وَ " بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ " إذَا كَانَ مَعَ أَهْلِ الْخِبْرَة بِالْأَسْعَارِ الَّتِي يَشْتَرُونَ بِهَا السِّلَعَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ غَيْرُهُمْ كَمَا يُبَاعُونَ فَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الشَّخْصِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِ الْمُضْطَرِّ؛ فَإِنَّ فِي السَّاقِ: {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ} وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ مِثْلَ لَوْ يَضْطَرُّ النَّاسُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُمْ إلَّا الْقِيمَةَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وانظر فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 144) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 991) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 381) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 13 / ص 362) وروضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 1 / ص 429) والمجموع شرح المهذب - (ج 12 / ص 327) وإحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 428) وبدائع السلك في طبائع الملك - (ج 1 / ص 275) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 328).
(1) - «خيار غبن المسترسل»
«تعريف المسترسل»
10 - عرّف المالكيّة المسترسل بأنّه: المستسلم لبائعه.
أمّا الحنابلة فهو عندهم: الجاهل بقيمة السّلعة، ولا يحسن المبايعة.
ويلحظ هنا أنّ المعوّل على الوصف الأخير وهو عدم الخبرة بالمبايعة، أمّا جهل قيمة السّلعة فيقع فيه كلّ مغبون، إذ لو عرف القيمة لما رضي بالغبن إلاّ مضطرّاً، أو باذلاً لقاء رغبة شديدة في السّلعة، وسبق العلم بالغبن مسقط للخيار.
وللحنابلة تعريف آخر للمسترسل من كلام الإمام أحمد بأنّه: الّذي لا يحسن أن يماكس، وبلفظ آخر: الّذي لا يماكس، والفارق أنّ الأوّل قليل الخبرة بالمجادلة في المبايعة للوصول إلى ثمن المثل دون غبن، أمّا الأخير فهو الّذي لا يسلك طريق المماكسة بقطع النّظر عن إتقانه لها أو جهله بها.
قال ابن قدامة: فأمّا العالم بذلك والّذي لو توقّف لعرف، إذا استعجل في الحلّ فغبن، فلا خيار له.
«خيار غبن المسترسل ' عند المالكيّة '»
11 - صرّح خليل من المالكيّة بأنّه لا يردّ بالغبن ولو خالف العادة.
وأفاد شرّاحه أنّ ذلك هو المشهور من المذهب، وأنّ هناك قولاً بأنّه يردّ، أمّا إن كان الغبن يسيراً فالاتّفاق على لزوم العقد معه وعدم الرّدّ.
وقد ذكر ابن رشد في المقدّمات أنّ حكم الغبن يختلف بحسب البيع، ففي بيع المكايسة «المساومة» لا قيام بالغبن «قال»: «ولا أعرف في المذهب في ذلك نصّ خلاف» وبعد أن ردّ على من وهم في حمل مسألة سماع أشهب على الخلاف، عاد فأشار إلى حكاية بعض البغداديّين وجوب الرّدّ بالغبن إذا كان أكثر من الثّلث.
وجعله موضع تأمّل، وأمّا بيع الاستنامة والاسترسال. فالبيع والشّراء على هذا الوجه جائز. والقيام بالغبن في البيع والشّراء إذا كان على الاسترسال والاستنامة واجب بإجماع، لقول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: «غبن المسترسل ظلم».
هذا ما استدلّ به ابن رشد.
خيار المسترسل «عند الحنابلة»
12 - الحنابلة يثبتون خيار الغبن للمسترسل فقط، على الرّاجح في المذهب، وهي من المسائل الّتي اختارها ابن تيميّة من مسائل الخلاف في مذهب أحمد، لأنّ الغبن لحقه لجهله.
بالمبيع، خلافاً لغير المسترسل فقد دخل على بصيرة فهو كالعالم بالعيب، وهو مقيس على النّجش وتلقّي الرّكبان، وهناك رواية ذكرها ابن أبي موسى «بصيغة: قيل» مقتضاها أنّ الغبن لازم للمسترسل أيضاً، لأنّ نقصان قيمة السّلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد، كبيع غير المسترسل، وكالغبن اليسير.
خيار غبن القاصر «وشبهه»
13 - أثبت هذا الخيار المالكيّة في حال غبن الوصيّ عن القاصر أو الوكيل عمّن وكّله درءاً للضّرر عن القاصر والموكّل، وبعض المذاهب لجأت إلى إبطال العقد المشتمل على غبنهما.
فإذا كان البائع - أو المشتري - بالغبن وكيلاً أو وصيّاً.
فيردّ ما صدر منهما من بيع أو شراء «أي يثبت حقّ الرّدّ».
وخيار غبن القاصر يثبت في عقد الشّراء اتّفاقاً بين فقهاء المالكيّة، واقتصر عليه بعضهم، فأجازوا البيع بالغبن للصّبيّ أو للمتصرّف عن الغير، لأنّ البيع إزالة ملك، فلا يتحقّق الغبن فيه، ومن ثمّة قيل: البيع مرتخص وغال.
فإذا باع القاصر بغبن لا خيار له عند هؤلاء. الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 7036).(1/233)
أَنْ يَبِيعُوا الْمُمَاكِسَ بِسِعْرِ؛ وَيَبِيعُوا الْمُسْتَرْسِلَ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ (1) أَوْ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السِّعْرِ هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الْبَاعَةِ (2). وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ:" {غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا} (3) " وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَلَقِّي السِّلَعِ؛ فَإِنَّ الْقَادِمَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ (4)، وعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» (5).
__________
(1) - المماكسة في اللغة مصدر ماكس , وهي في البيع: انتقاص الثّمن واستحطاطه والمنابذة بين المتبايعين.
وفي الاصطلاح: بمعنى المشاحّة ويختلف المراد بها من معاملة لأخرى.
فهي في البيع: استنقاص الثّمن عمّا طلبه البائع , والزّيادة عمّا طلبه المشتري. الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 14459)
(2) - المجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 25) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 328)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 349) برقم (11242 - 11245) وفيه ضعف
(4) - صحيح البخارى برقم (2140 و 2148،2150،2151،2160،2162،2723،2727،5144،5152،6601)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 486)
قَالَ اِبْن بَطَّال: أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي لَا يَجُوزُ بِأَجْرٍ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ أَجْر، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس، وَكَأَنَّهُ قَيَّدَ بِهِ مُطْلَق حَدِيث اِبْن عُمَر قَالَ: وَقَدْ أَجَازَ الْأَوْزَاعِيّ أَنْ يُشِيرَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي وَقَالَ: لَيْسَتْ الْإِشَارَة بَيْعًا. وَعَنْ اللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَة لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَشَارَ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاعَهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ وَالرَّاجِح مِنْهُمَا الْجَوَاز لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ لَهُ وَلَيْسَتْ الْإِشَارَة بَيْعًا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِنُصْحِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَاز الْإِشَارَة.
(5) - صحيح مسلم برقم (3902) وسنن الترمذى برقم (1267) عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ». قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِى هَذَا هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِمْ كَرِهُوا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِى أَنْ يَشْتَرِىَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَقَالَ الشَّافِعِىُّ يُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَإِنْ بَاعَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ.
وفي تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 319)
قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شِرَاءِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي فَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ كَمَا كَرِهُوا الْبَيْعَ لَهُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الشِّرَاءِ كَمَا يَقَعُ الشِّرَاءُ عَلَى الْبَيْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَيْ بَاعُوهُ وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ الشِّرَاءَ لَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً وَلَمْ يَعُدُّوا ظَاهِرَ اللَّفْظِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَمَرَّةً قَالَ: لَا يَشْتَرِي لَهُ وَلَا يَشْتَرِي عَلَيْهِ. وَمَرَّةً أَجَازَ الشِّرَاءَ لَهُ؛ وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْبَيْعَ عَلَى الشِّرَاءِ. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَ اِسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ ضِدَّانِ فَلَا يَصِحُّ إِرَادَتُهُمَا مَعًا فَإِنْ قُلْت فَمَا تَوْجِيهُهُ؟ قُلْت: وَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْمَجَازِ اِنْتَهَى. قَالَ الْعَيْنِيُّ. قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ. وَاسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْهِ بَلْ هُمَا مِنْ الْأَضْدَادِ اِنْتَهَى كَلَامُ الْعَيْنِيِّ.(1/234)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ».قَالَ فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا (1).
وَهَذَا نَهْيٌ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِينَ، فَإِنَّ الْمُقِيمَ إذَا تَوَكَّلَ لِلْقَادِمِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا وَالْقَادِمُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ ضَرَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِيَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» (2).
وَمِثْلُ ذَلِكَ " الِاحْتِكَارِ " لِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ (3)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2158)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 484)
قَوْله: (لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) بِمُهْمَلَتَيْنِ هُوَ فِي الْأَصْلِ الْقَيِّمُ بِالْأَمْرِ وَالْحَافِظُ لَهُ، ثُمَّ اِسْتُعْمِلَ فِي مُتَوَلِّي الْبَيْع وَالشِّرَاء لِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ تُعُقِّبَ عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْحَاضِرَ بِالْبَادِي بِأَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ الْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي فِي زَمَنِ الْغَلَاءِ شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ فَهَذَا مَذْكُور فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ غَيْرهمْ: صُورَتُهُ أَنْ يَجِيءَ الْبَلَدَ غَرِيبٌ بِسِلْعَتِهِ يُرِيدُ بَيْعَهَا بِسِعْر الْوَقْت فِي الْحَالِ، فَيَأْتِيه بَلَدِيٌّ فَيَقُولُ لَهُ: ضَعْهُ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ لَك عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ هَذَا السِّعْرِ، فَجَعَلُوا الْحُكْمَ مَنُوطًا بِالْبَادِي وَمَنْ شَارَكَهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْبَادِي فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي عَدَمِ مَعْرِفَةِ السِّعْرِ الْحَاضِرِ وَإِضْرَارِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِالْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يُبَادِر بِالْبَيْعِ، وَهَذَا تَفْسِير الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَة، وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَدَاوَةَ قَيْدًا، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَلْتَحِقُ بِالْبَدَوِيِّ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ، قَالَ فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَثْمَانَ السِّلَعِ وَالْأَسْوَاقِ فَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ. قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: اِخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ فَالْجُمْهُور أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِالنَّهْي وَأَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَجْلُوبُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَأَنْ يَعْرِضَ الْحَضَرِيّ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَوِيِّ، فَلَوْ عَرَضَهُ الْبَدَوِيُّ عَلَى الْحَضَرِيِّ لَمْ يُمْنَعْ. وَزَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عُمُوم الْحَاجَةِ وَأَنْ يَظْهَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ السَّعَة فِي تِلْكَ الْبَلَدِ، قَالَ اِبْن دَقِيقِ الْعِيدِ: أَكْثَرُ هَذِهِ الشُّرُوط تَدُورُ بَيْنَ اِتِّبَاعِ الْمَعْنَى أَوْ اللَّفْظِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمَعْنَى إِلَى الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ فَحَيْثُ يَظْهَرُ يُخَصَّصُ النَّصّ أَوْ يُعَمَّمُ، وَحَيْثُ يَخْفَى فَاتِّبَاع اللَّفْظِ أَوْلَى، فَأَمَّا اِشْتِرَاطُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَلَدِيّ ذَلِكَ فَلَا يَقْوَى لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِيهِ، فَإِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ النَّهْي لَا يَفْتَرِقُ الْحَال فِيهِ بَيْنَ سُؤَال الْبَلَدِيّ وَعَدَمه، وَأَمَّا اِشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَمُتَوَسِّط بَيْنَ الظُّهُورِ وَعَدَمه، وَأَمَّا اِشْتِرَاطُ ظُهُورِ السَّعَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَفْوِيتِ الرِّبْحِ وَالرِّزْقِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا اِشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِالنَّهْي فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَالَ السُّبْكِيّ: شَرْطُ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ مُعْتَبَر، وَلَمْ يَذْكُرْ جَمَاعَةٌ عُمُومَهَا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيّ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيل. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْع مَعَ وُجُودِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ هَلْ يَصِحُّ مَعَ التَّحْرِيمِ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ.
(2) - صحيح مسلم برقم (3902)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 309)
هَذِهِ الْأَحَادِيث تَتَضَمَّن تَحْرِيم بَيْع الْحَاضِر لِلْبَادِي، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ. قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَقْدَم غَرِيب مِنْ الْبَادِيَة أَوْ مِنْ بَلَد آخَر بِمَتَاعٍ تَعُمّ الْحَاجَة إِلَيْهِ لِيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمه، فَيَقُول لَهُ الْبَلَدِيّ: اُتْرُكْهُ عِنْدِي لِأَبِيعَهُ عَلَى التَّدْرِيج بِأَعْلَى. قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا يَحْرُم بِهَذِهِ الشُّرُوط وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُون عَالِمًا بِالنَّهْيِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَم النَّهْي أَوْ كَانَ الْمَتَاع مِمَّا لَا يَحْتَاج فِي الْبَلَد وَلَا يُؤْثِر فِيهِ لِقِلَّةِ ذَلِكَ الْمَجْلُوب لَمْ يَحْرُم وَلَوْ خَالَفَ وَبَاعَ الْحَاضِر لِلْبَادِي صَحَّ الْبَيْع مَعَ التَّحْرِيم. هَذَا مَذْهَبنَا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْمَالِكِيَّة وَغَيْرهمْ. وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة: يَفْسَخ الْبَيْع مَا لَمْ يَفُتْ. وَقَالَ عَطَاء وَمُجَاهِد وَأَبُو حَنِيفَة: يَجُوز بَيْع الْحَاضِر الْبَادِي مُطْلَقًا لِحَدِيثِ " الدِّين النَّصِيحَة " قَالُوا: وَحَدِيث النَّهْي عَنْ بَيْع الْحَاضِر لِلْبَادِي مَنْسُوخ. وَقَالَ بَعْضهمْ: إِنَّهُ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
(3) - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 6 / ص 366) وفتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 455) وشرح ابن بطال - (ج 11 / ص 265) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 14 / ص 275) وشرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم - (ج 3 / ص 239) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 58) وفتاوى إسلامية - (ج 2 / ص 759) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 3575) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4460) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 239) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 392) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 382) وسبل السلام - (ج 4 / ص 129) ونيل الأوطار - (ج 8 / ص 372) والمحلى [مشكول و بالحواشي]- (ج 7 / ص 509) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4134) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 14 / ص 321) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 11 / ص 17) وموسوعة الأسرة المسلمة الشاملة - (ج 1 / ص 478) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 12 / ص 151) وشرح مختصر خليل للخرشي - (ج 15 / ص 85) والمهذب للشيرازي - (ج 2 / ص 157) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 44) وأسنى المطالب - (ج 8 / ص 50) وشرح البهجة الوردية - (ج 9 / ص 22) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 11 / ص 495) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 365) والبحر المحيط - (ج 4 / ص 269) والزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 2 / ص 113) وتنبيه الغافلين، الإصدار 2 - (ج 1 / ص 29) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1197) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 329)(1/235)
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ» (1).
فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ هُوَ الَّذِي يَعْمَدُ إلَى شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الطَّعَامِ فَيَحْبِسُهُ عَنْهُمْ وَيُرِيدُ إغْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ ظَالِمٌ لِلْخَلْقِ الْمُشْتَرِينَ (2).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4207)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 482)
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَاطِئ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِم.
وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار. قَالَ أَصْحَابنَا: الِاحْتِكَار الْمُحَرَّم هُوَ الِاحْتِكَار فِي الْأَقْوَات خَاصَّة، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِي الطَّعَام فِي وَقْت الْغَلَاء لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَبِيعهُ فِي الْحَال، بَلْ يَدَّخِرهُ لِيَغْلُوَ ثَمَنه، فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَته، أَوْ اِشْتَرَاهُ فِي وَقْت الرُّخْص وَادَّخَرَهُ، أَوْ اِبْتَاعَهُ فِي وَقْت الْغَلَاء لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْله، أَوْ اِبْتَاعَهُ لِيَبِيعَهُ فِي وَقْته، فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيم فِيهِ، وَأَمَّا غَيْر الْأَقْوَات فَلَا يَحْرُم الِاحْتِكَار فِيهِ بِكُلِّ حَال، هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار دَفْع الضَّرَر عَنْ عَامَّة النَّاس، كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْد إِنْسَان طَعَام، وَاضْطُرَّ النَّاس إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْره، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعه دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاس. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَعْمَر رَاوِي الْحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ فَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَآخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ يَحْتَكِرَانِ الزَّيْت، وَحَمَلَا الْحَدِيث عَلَى اِحْتِكَار الْقُوت عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهِ وَالْغَلَاء، وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ وَهُوَ صَحِيح.
(2) - 1 - الاحتكار لغةً: حبس الطّعام إرادة الغلاء، والاسم منه: الحكرة.
أمّا في الشّرع فقد عرّفه الحنفيّة بأنّه: اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء.
وعرّفه المالكيّة بأنّه رصد الأسواق انتظاراً لارتفاع الأثمان، وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اشتراء القوت وقت الغلاء، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتّضييق.
وعرّفه الحنابلة.
بأنّه اشتراء القوت وحبسه انتظاراً للغلاء.
الألفاظ ذات الصّلة
2 - الادّخار: ادّخار الشّيء تخبئته لوقت الحاجة. =(1/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وعلى هذا فيفترق الادّخار عن الاحتكار في أنّ الاحتكار لا يكون إلاّ فيما يضرّ بالنّاس حبسه، على التّفصيل السّابق، أمّا الادّخار فإنّه يتحقّق فيما يضرّ وما لا يضرّ، وفي الأموال النّقديّة وغيرها.
كما أنّ الادّخار قد يكون مطلوباً في بعض صوره، كادّخار الدّولة حاجيّات الشّعب.
صفة الاحتكار
«حكمه التّكليفيّ»
3 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاحتكار بالقيود الّتي اعتبرها كلّ منهم محظور، لما فيه من الإضرار بالنّاس، والتّضييق عليهم.
وقد اختلفت عبارات الفقهاء في التّعبير عن هذا الحظر.
فجمهور الفقهاء صرّحوا بالحرمة، مستدلّين بقوله تعالى «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم» فقد فهم منها صاحب الاختيار أنّها أصل في إفادة التّحريم وقد ذكر القرطبيّ عند تفسير هذه الآية أنّ أبا داود روى عن يعلى بن أميّة أنّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه.
» وهو قول عمر بن الخطّاب.
واستدلّ الكاسانيّ على ذلك بحديث: «المحتكر ملعون» وحديث: «من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه، وبرئ اللّه منه.
» ثمّ قال الكاسانيّ: ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلاّ بارتكاب الحرام، ولأنّه ظلم؛ لأنّ ما يباع في المصر فقد تعلّق به حقّ العامّة، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدّة حاجتهم إليه فقد منعهم حقّهم، ومنع الحقّ عن المستحقّ ظلم وحرام، يستوي في ذلك قليل المدّة وكثيرها، لتحقّق الظّلم.
4 - كما اعتبره ابن حجر الهيتميّ من الكبائر.
ويقول: إنّ كونه كبيرةً هو ظاهر الأحاديث، من الوعيد الشّديد، كاللّعنة وبراءة ذمّة اللّه ورسوله منه والضّرب بالجذام والإفلاس.
وبعض هذه دليل على الكبيرة وممّا استدلّ به الحنابلة على التّحريم ما روى الأثرم عن أبي أمامة، قال: «نهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يحتكر الطّعام»،وما روي بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من احتكر فهو خاطئ»،وما روي: أنّ عمر بن الخطّاب خرج مع أصحابه، فرأى طعاماً كثيراً قد ألقي على باب مكّة، فقال: ما هذا الطّعام؟ فقالوا: جلب إلينا.
فقال: بارك اللّه فيه وفيمن جلبه.
فقيل له: فإنّه قد احتكر.
قال: من احتكره؟ قالوا: فلان مولى عثمان، وفلان مولاك، فاستدعاهما، وقال: سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتّى يضربه اللّه بالجذام أو الإفلاس».
5 - لكن أكثر الفقهاء الحنفيّة وبعض الشّافعيّة عبّروا عنه بالكراهة إذا كان يضرّ بالنّاس.
وتصريح الحنفيّة بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التّحريميّة.
وفاعل المكروه تحريماً عندهم يستحقّ العقاب، كفاعل الحرام، كما أنّ كتب الشّافعيّة الّتي روت عن بعض الأصحاب القول بالكراهة قد قالوا عنه: ليس بشيء.
«الحكمة في تحريم الاحتكار»
6 - يتّفق الفقهاء على أنّ الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضّرر عن عامّة النّاس.
ولذا فقد أجمع العلماء على أنّه لو احتكر إنسان شيئاً، واضطرّ النّاس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه - على ما سيأتي بيانه - دفعاً للضّرر عن النّاس، وتعاوناً على حصول العيش.
وهذا ما يستفاد ممّا نقل عن مالك من أنّ رفع الضّرر عن النّاس هو القصد من التّحريم، إذ قال: إن كان ذلك لا يضرّ بالسّوق فلا بأس وهو ما يفيده كلام الجميع.
«ما يجري فيه الاحتكار»
7 - هناك ثلاث اتّجاهات:
الأوّل: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا احتكار إلاّ في القوت خاصّةً.
الثّاني: أنّ الاحتكار يجري في كلّ ما يحتاجه النّاس، ويتضرّرون من حبسه، من قوت وإدام ولباس وغير ذلك. =(1/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وهذا ما ذهب إليه المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة.
الثّالث: أنّه لا احتكار إلاّ في القوت والثّياب خاصّةً.
وهذا قول لمحمّد بن الحسن.
واستدلّ الجمهور - أصحاب الاتّجاه الأوّل - بأنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب بعضها عامّ، كالحديث الّذي رواه مسلم وأبو داود عن سعيد بن المسيّب عن معمر بن عبد اللّه، أنّه قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: «من احتكر فهو خاطئ»،وفي رواية أخرى رواها مسلم وأحمد: «لا يحتكر إلاّ خاطئ»،وحديث أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: «من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ»
وزاد الحاكم: «وقد برئت منه ذمّة اللّه».
فهذه نصوص عامّة في كلّ محتكر.
وقد وردت نصوص أخرى خاصّة، منها حديث ابن ماجه بسنده: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس».
وما رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى بلفظ: «من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه»
وزاد الحاكم.
«وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه».
وإذا اجتمعت نصوص عامّة وأخرى خاصّة في مسألة واحدة حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، واستدلّ المالكيّة وأبو يوسف بالأحاديث العامّة، وقالوا: إنّ ما ورد من النّصوص الخاصّة فهي من قبيل اللّقب، واللّقب لا مفهوم له.
وأمّا ما ذهب إليه محمّد بن الحسن في قوله الثّاني فإنّه حمل الثّياب على القوت باعتبار أنّ كلّاً منهما من الحاجات الضّروريّة.
«ما يتحقّق به الاحتكار»
8 - يتحقّق الاحتكار في صور بعضها متّفق على تحريمه وهي ما إذا اجتمع فيه كون الشّيء المحتكر طعاماً وأن يحوزه بطريق الشّراء وأن يقصد الإغلاء على النّاس وأن يترتّب على ذلك الإضرار والتّضييق عليهم، وهناك صور مختلف في تحريمها بحسب الشّروط.
«شروط الاحتكار»
9 - يشترط في الاحتكار ما يأتي:
1 - أن يكون تملّكه للسّلعة بطريق الشّراء.
وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وذهب بعض المالكيّة، وهو منقول عن أبي يوسف من الحنفيّة، إلى أنّ العبرة إنّما هي باحتباس السّلع بحيث يضرّ بالعامّة، سواء أكان تملّكها بطريق الشّراء، أو الجلب، أو كان ادّخاراً لأكثر من حاجته ومن يعول.
وعلى ما ذهب إليه الجمهور لا احتكار فيما جلب مطلقاً، وهو ما كان من سوق غير سوق المدينة، أو من السّوق الّذي اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه.
ويرى كلّ من صاحب الاختيار وصاحب البدائع أنّه إذا كان من سوق اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه، فاشتراه قاصداً حبسه، يكون محتكراً ويتفرّع على اشتراط الشّراء لتحقّق الاحتكار أنّ حبس غلّة الأرض المزروعة لا يكون احتكاراً.
وهذا هو رأي الجمهور.
وهناك من علماء المالكيّة من اعتبر حبس هذه الغلّة من قبيل الاحتكار.
ومن علماء الحنفيّة من يرى - أيضاً - أنّ هذا رأي لأبي يوسف.
وقد نقل الرّهونيّ عن الباجيّ أنّ ابن رشد قال: «إذا وقعت الشّدّة أمر أهل الطّعام بإخراجه مطلقاً، ولو كان جالباً له، أو كان من زراعته».
والمعتمد ما أفاده ابن رشد.
2 - أن يكون الشّراء وقت الغلاء للتّجارة انتظاراً لزيادة الغلاء.
وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة.
فلو اشترى في وقت الرّخص، وحبسه لوقت الغلاء، فلا يكون احتكاراً عندهم. =(1/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= 3 - واشترط الحنفيّة أن يكون الحبس لمدّة، ولم نقف لفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على كلام في هذا، وإنّما الّذي تعرّض لذكر المدّة فقهاء الحنفيّة، فيقول الحصكفيّ نقلاً عن الشرنبلالي عن الكافي: إنّ الاحتكار شرعاً اشتراء الطّعام ونحوه وحبسه إلى مدّة اختلفوا في تقديرها، فمن قائل إنّها أربعون يوماً، لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والحاكم بسنده: «من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه».
لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنّه منكر.
ومن قائل إنّها شهر؛ لأنّ ما دونه قليل عاجل والشّهر وما فوقه كثير آجل.
ويقع التّفاوت في المأثم بين أن يتربّص قلّة الصّنف، وبين أن يتربّص القحط.
وقيل إنّ هذه المدد للمعاقبة في الدّنيا.
أمّا الإثم الأخرويّ فيتحقّق وإن قلّت المدّة.
وقد أورد الحصكفيّ هذا الخلاف، وأضاف إليه أنّ من الفقهاء من قال بأكثر من المدّتين.
وقد نقل ذلك ابن عابدين في حاشيته.
4 - أن يكون المحتكر قاصداً الإغلاء على النّاس وإخراجه لهم وقت الغلاء.
«احتكار العمل»
10 - تعرّض بعض الفقهاء لمثل هذا لا على أنّه من قبيل الاحتكار الاصطلاحيّ، ولكن فيه معنى الاحتكار، لما فيه من ضرر العامّة، فقد نقل ابن القيّم أنّ غير واحد من العلماء، كأبي حنيفة وأصحابه، منعوا القسّامين - الّذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة - أن يشتركوا، فإنّهم إذا اشتركوا والنّاس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة.
وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسّلي الموتى والحمّالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كلّ طائفة يحتاج النّاس إلى منافعهم.
«احتكار الصّنف»
11 - وقد صوّره ابن القيّم بقوله: أن يلزم النّاس ألاّ يبيع الطّعام أو غيره من الأصناف إلاّ ناس معروفون، فلا تباع تلك السّلع إلاّ لهم، ثمّ يبيعونها هم بما يريدون.
فهذا من البغي في الأرض والفساد بلا تردّد في ذلك عند أحد من العلماء.
ويجب التّسعير عليهم، وأن يبيعوا ويشتروا بقيمة المثل منعاً للظّلم.
وكذلك إيجار الحانوت على الطّريق أو في القرية بأجرة معيّنة، على ألاّ يبيع أحد غيره، نوع من أخذ أموال النّاس قهراً وأكلها بالباطل، وهو حرام على المؤجّر والمستأجر.
«العقوبة الدّنيويّة للمحتكر»
12 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السّوق وبيعه للنّاس.
فإن لم يمتثل فهل يجبر على البيع؟ في هذه المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء: أوّلاً: إذا خيف الضّرر على العامّة أجبر، بل أخذ منه ما احتكره، وباعه، وأعطاه المثل عند وجوده، أو قيمته.
وهذا قدر متّفق عليه بين الأئمّة، ولا يعلم خلاف في ذلك.
ثانياً: إذا لم يكن هناك خوف على العامّة فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة يرون أنّ للحاكم جبره إذا لم يمتثل الأمر بالبيع.
وأمّا أبو حنيفة وأبو يوسف فيريان أنّه لا يجبر على البيع، وإنّما إذا امتنع عن البيع عزّره الحاكم.
وعند من يرى الجبر فمنهم من يرى الجبر بادئ ذي بدء.
ومنهم من يرى الإنذار مرّةً، قب وقيل اثنتين، وقيل ثلاثاً.
وتدلّ النّقول عن الفقهاء أنّ هذه المسألة مرجعها مراعاة المصلحة.
وهو من قبيل السّياسة الشّرعيّة."الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 425 - 430) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 513) رقم الفتوى 30462 الاحتكار .. تعريفه .. حكمه .. وشروط تحققه تاريخ الفتوى:02 صفر 1424.(1/239)
وَلِهَذَا كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، مِثْلَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالنَّاسُ فِي مَخْمَصَةٍ. فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِلنَّاسِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ (1)، وَلِهَذَا قَالَ
__________
(1) - 1 - التّسعير في اللّغة: هو تقدير السّعر.
يقال: سعّرت الشّيء تسعيراً: أي جعلت له سعراً معلوماً ينتهي إليه.
وسعّروا تسعيراً: أي: اتّفقوا على سعر.
والسّعر مأخوذ من سَعَرَ النّار إذا رفعها، لأنّ السّعر يوصف بالارتفاع.
ذكره الزّمخشريّ.
والتّسعير في الاصطلاح: تقدير السّلطان أو نائبه للنّاس سعراً، وإجبارهم على التّبايع بما قدّره.
وقال ابن عرفة: حدّ التّسعير: تحديد حاكم السّوق لبائع المأكول فيه قدراً للمبيع بدرهم معلوم.
وقال الشّوكانيّ: التّسعير أن يأمر السّلطان أو نوّابه أو كلّ من ولي من أمور المسلمين أمراً أهل السّوق ألاّ يبيعوا أمتعتهم إلاّ بسعر كذا، فيمنع من الزّيادة عليه أو النّقصان إلاّ لمصلحة.
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الاحتكار»
2 - الاحتكار لغةً: من الحكر، وهو الظّلم والالتواء والعسر وسوء المعاشرة، واحتكار الطّعام: حبسه تربّصاً لغلائه، والحكرة: اسم من الاحتكار.
وفي الاصطلاح: اختلفت تعريفات الفقهاء فيه، بناءً على القيود الّتي وضعها كلّ مذهب وترجع كلّها إلى حبس السّلع انتظاراً لارتفاع أثمانها.
ويرجع فيه إلى مصطلح «احتكار» فالاحتكار مباين للتّسعير.
إلاّ أنّ وجود الاحتكار ممّا يستدعي التّسعير لمقاومة الغلاء.
«ب - التّثمين»
3 - التّثمين: مصدر ثمّنت الشّيء أي: جعلت له ثمناً بالحدس والتّخمين.
«ج - التّقويم»
4 - تقويم الشّيء: أن يجعل له قيمةً معلومةً.
«الحكم التّكليفيّ للتّسعير»
5 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الأصل في التّسعير هو الحرمة.
أمّا جواز التّسعير فمقيّد عندهم بشروط معيّنة يأتي بيانها.
6 - واستدلّ صاحب البدائع لإثبات الحرمة بالمنقول من الكتاب والسّنّة:
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عنْ تَرَاضٍ مِنْكُم».
فاشترطت الآية التّراضي، والتّسعير لا يتحقّق به التّراضي.
وأمّا السّنّة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَحِلُّ مالُ امْرئٍ مسلم إلاّ بطيب نفس منه».
واستدلّ صاحب المغني بما روى أنس رضي الله عنه قال: «غلا السّعر في المدينة على عهد رسول اللّه صلّى - صلى الله عليه وسلم - فقال النّاس: يا رسول اللّه: غلا السّعر فسعّر لنا، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:إنّ اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرّازق، إنّي لأرجو أن ألقى اللّه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال».
قال ابن قدامة والدّلالة من وجهين:
1 - أنّه - صلى الله عليه وسلم - لم يسعّر، وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه.
2 - أنّه علّل بكونه مظلمةً والظّلم حرام. =(1/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه «أنّه مرّ بحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيباً له في السّوق، فقال له: إمّا أن تزيد في السّعر، وإمّا أن ترفع من سوقنا، فلمّا رجع عمر حاسب نفسه، ثمّ أتى حاطباً في داره، فقال له: إنّ الّذي قلت لك ليس بعزيمة منّي ولا قضاء، إنّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع».
7 - واستدلّوا بالمعقول: وهو أنّ للنّاس حرّيّة التّصرّف في أموالهم، والتّسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره لمصلحة المشتري برخص الثّمن أولى من نظره لمصلحة البائع بتوفير الثّمن.
والثّمن حقّ العاقد فإليه تقديره.
ثمّ إنّ التّسعير سبب الغلاء والتّضييق على النّاس في أموالهم، لأنّ الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها، فلا يجدونها إلاّ قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، وجانب الملّاك في منعهم من بيع أملاكهم، فيكون حراماً.
«شروط جواز التّسعير»
8 - تقدّم أنّ الأصل منع التّسعير، ومنع تدخّل وليّ الأمر في أسعار السّلع، إلاّ أنّ هناك حالات يكون للحاكم بمقتضاها حقّ التّدخّل بالتّسعير، أو يجب عليه التّدخّل على اختلاف الأقوال.
وهذه الحالات هي:
«أ - تعدّي أرباب الطّعام عن القيمة تعدّياً فاحشاً»
9 - وفي هذه الحالة صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّه يجوز للحاكم أن يسعّر على النّاس إن تعدّى أرباب الطّعام عن القيمة تعدّياً فاحشاً، وعجز عن صيانة حقوق المسلمين إلاّ بالتّسعير، وذلك بعد مشورة أهل الرّأي والبصيرة، وهو المختار، وبه يفتى، لأنّ فيه صيانة حقوق المسلمين عن الضّياع، ودفع الضّرر عن العامّة.
والتّعدّي الفاحش كما عرّفه الزّيلعيّ وغيره هو البيع بضعف القيمة.
«ب - حاجة النّاس إلى السّلعة»
10 - وفي هذا المعنى قال الحنفيّة: لا ينبغي للسّلطان أن يسعّر على النّاس، إلاّ إذا تعلّق به دفع ضرر العامّة، كما اشترط المالكيّة وجود مصلحة فيه، ونسب إلى الشّافعيّ مثل هذا المعنى.
وكذا إذا احتاج النّاس إلى سلاح للجهاد، فعلى أهل السّلاح بيعه بعوض المثل، ولا يمكّنون من أن يحبسوا السّلاح حتّى يتسلّط العدوّ، أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون.
ويقول ابن تيميّة: إنّ لوليّ الأمر أن يكره النّاس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة النّاس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والنّاس في مَخْمَصة، فإنّه يجبر على بيعه للنّاس بقيمة المثل.
ولهذا قال الفقهاء: من اضطرّ إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلاّ بأكثر من سعره لم يستحقّ إلاّ سعره.
والأصل في ذلك حديث العتق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «من أعتق شركاً له في عبد، فكان له من المال يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد وإلاّ فقد عتق منه ما عتق» ويقول ابن القيّم: إنّ هذا الّذي أمر به النّبيّ «- صلى الله عليه وسلم - من تقويم الجميع» أي جميع العبد «قيمة المثل هو حقيقة التّسعير، فإذا كان الشّارع يوجب إخراج الشّيء عن ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، ولم يمكّن المالك من المطالبة بالزّيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالنّاس إلى التّملّك أعظم، مثل حاجة المضطرّ إلى الطّعام والشّراب واللّباس وغيره.
ج - احتكار المنتجين أو التّجّار
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الاحتكار حرام في الأقوات، كما أنّه لا خلاف بينهم في أنّ جزاء الاحتكار هو بيع السّلع المحتكرة جبراً على صاحبها بالثّمن المعقول مع تعزيره ومعاقبته، على التّفصيل المتقدّم بيانه في مصطلح» احتكار «.
وما تحديد الثّمن المعقول من جانب وليّ الأمر إلاّ حقيقة التّسعير، وهذا توجيه صرّح به ابن تيميّة.
في حين اعتبر بعض الفقهاء المحتكر ممّن لا يسعّر عليه كما سيأتي. =(1/241)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= د - حصر البيع لأناس معيّنين
12 - صرّح ابن تيميّة بأنّه لا تردّد عند أحد من العلماء في وجوب ردّ التّسعير في حالة إلزام النّاس أن لا يبيع الطّعام أو غيره إلاّ أناس معروفون، فهنا يجب التّسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلاّ بقيمة المثل، ولا يشترون إلاّ بقيمة المثل.
لأنّه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النّوع أو يشتريه، فلو سوّغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا، أو يشتروا بما اختاروا لكان ذلك ظلماً للبائعين الّذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلماً للمشترين منهم.
فالتّسعير في مثل هذه الحالة واجب بلا نزاع، وحقيقة إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلاّ بثمن المثل.
هـ - تواطؤ البائعين ضدّ المشترين أو العكس
13 - إذا تواطأ التّجّار أو أرباب السّلع على سعر يحقّق لهم ربحاً فاحشاً، أو تواطأ مشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتّى يهضموا سلع النّاس يجب التّسعير، وهذا ما اختاره ابن تيميّة، وأضاف قائلاً: ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحاب- القسّام الّذين يقسمون بالأجر أن يشتركوا، فإنّهم إذا اشتركوا، والنّاس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين - الّذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلاّ بثمن قدّروه - أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم، حتّى يهضموا سلع النّاس أولى.
لأنّ إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظّلم والعدوان.
وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ والعُدْوَانِ}.
و - احتياج النّاس إلى صناعة طائفة
14 - وهذا ما يقال له التّسعير في الأعمال: وهو أن يحتاج النّاس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنّساجة والبناء وغير ذلك، فلوليّ الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة المثل إذا امتنعوا عنه، ولا يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكّن النّاس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقّهم.
15 - وخلاصة رأي ابن تيميّة وابن القيّم أنّه إذا لم تتمّ مصلحة إلاّ بالتّسعير سعّر عليهم السّلطان تسعير عدل بلا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
وهذا يدلّ على أنّ الحالات المذكورة ليست حصراً للحالات الّتي يجب فيها التّسعير، بل كلّما كانت حاجة النّاس لا تندفع إلاّ بالتّسعير، ولا تتحقّق مصلحتهم إلاّ به كان واجباً على الحاكم حقّاً للعامّة، مثل وجوب التّسعير على الوالي عام الغلاء كما قال به مالك، وهو وجه للشّافعيّة أيضاً.
الصّفة الواجب توافرها في التّسعير
16 - إنّ المتتبّع للنّصوص الفقهيّة وآراء الفقهاء يجد أنّه لا بدّ لفرض التّسعير من تحقّق صفة العدل، إذ لا يكون التّسعير محقّقاً للمصلحة إلاّ إذا كانت فيه المصلحة للبائع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحاً، ولا يسوّغ له منه ما يضرّ بالنّاس.
ولهذا اشترط مالك عندما رأى التّسعير على الجزّارين أن يكون التّسعير منسوباً إلى قدر شرائهم، أي أن تراعى فيه ظروف شراء الذّبائح، ونفقة الجزارة، وإلاّ فإنّه يخشى أن يقلعوا عن تجارتهم، ويقوموا من السّوق.
وهذا ما أعرب عنه القاضي أبو الوليد الباجيّ من أنّ التّسعير بما لا ربح فيه للتّجّار يؤدّي إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال النّاس.
كيفيّة التّسعير
17 - تعرّض جمهور الفقهاء القائلون بجواز التّسعير لبيان كيفيّة تعيين الأسعار، وقالوا: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشّيء، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم، وأن يسعّر بمشورة أهل الرّأي والبصيرة، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامّة سداد حتّى يرضوا به.
قال أبو الوليد الباجيّ: ووجه ذلك أنّه بهذا يتوصّل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الرّبح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالنّاس.
ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلاّ بكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به.
وكذلك لا يقول لهم: لا تبيعوا إلاّ بمثل الثّمن الّذي اشتريتم به. =(1/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ما يدخله التّسعير
18 - اختلف الفقهاء في تحديد الأشياء الّتي يجري فيها التّسعير على الأصل المشار إليه في حكمه التّكليفيّ.
فذهب الشّافعيّة في الأظهر عندهم - وهو قول القهستانيّ الحنفيّ - إلى أنّ التّسعير يجري في القوتين» قوت البشر، وقوت البهائم ' وغيرهما، ولا يختصّ بالأطعمة وعلف الدّوابّ.
واستظهر ابن عابدين - بناءً على قول أبي حنيفة في الحجر للضّرر، وقول أبي يوسف في الاحتكار - جواز تسعير ما عدا القوتين أيضاً كاللّحم والسّمن رعايةً لمصلحة النّاس.
وهناك قول آخر للحنفيّة صرّح به العتّابيّ والحسّاس وغيرهما، وهو أنّ التّسعير يكون في القوتين فقط.
وعليه اختيار ابن تيميّة، فلم يقصر التّسعير على الطّعام، بل ذكره كمثال كما سبق.
وانتهج ابن القيّم منهج ابن تيميّة في هذا الباب، وأطلق جواز التّسعير للسّلع أيّاً كانت، ما دامت لا تباع على الوجه المعروف وبقيمة المثل.
وأوجب الشّيخ تقيّ الدّين إلزام أهل السّوق المعاوضة بثمن المثل، وقال: إنّه لا نزاع فيه، لأنّه مصلحة عامّة لحقّ اللّه تعالى، ولا تتمّ مصلحة النّاس إلاّ بها كالجهاد.
ثمّ يقول صاحب مطالب أولي النّهى: وهو إلزام حسن في مبيع ثمنه معلوم بين النّاس لا يتفاوت كموزون ونحوه.
وعند المالكيّة قولان كذلك:
القول الأوّل: يكون التّسعير في المكيل والموزون فقط طعاماً كان أو غيره، وأمّا غير المكيل والموزون فلا يمكن تسعيره لعدم التّماثل فيه، وهو قول ابن حبيب.
قال أبو الوليد الباجيّ: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين، أمّا إذا اختلفا لم يؤمر صاحب الجيّد أن يبيعه بمثل سعر ما هو أدون، لأنّ الجودة لها حصّة من الثّمن كالمقدار.
القول الثّاني: يكون التّسعير في المأكول فقط وهو قول ابن عرفة.
«من يسعّر عليه ومن لا يسعّر عليه»
19 - من يسعّر عليهم هم أهل الأسواق.
وأمّا من لا يسعّر عليهم فهم:
«أوّلاً: الجالب»
20 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وأكثر المالكيّة، وهو قول لدى الشّافعيّة أيضاً إلى: أنّ الجالب لا يسعّر عليه إلاّ إذا خيف الهلاك على النّاس، فيؤمر الجالب أن يبيع طعامه من غير رضاه، وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمّد، وسالم بن عبد اللّه عدم جواز التّسعير على الجالب.
وقال ابن حبيب من المالكيّة يسعّر عليه فيما عدا القمح والشّعير، وأمّا جالبهما فيبيع كيف شاء.
وكذلك جالب الزّيت والسّمن واللّحم والبقل والفواكه وما أشبه ذلك ممّا يشتريه أهل السّوق من الجالبين، فهذا أيضاً لا يسعّر على الجالب ولا يقصد بالتّسعير، ولكنّه إذا استقرّ أمر أهل السّوق على سعر قيل له: إمّا أن تلحق به، وإلاّ فاخرج.
«ثانياً: المحتكر»
21 - مذهب الحنفيّة أنّه لا يسعّر على المحتكر بل يؤمر بإخراج طعامه إلى السّوق، ويبيع ما فضل عن قوت سنة لعياله كيف شاء، لا يسعّر عليه، سواء أكانوا تجّاراً، أم زرّاعاً لأنفسهم.
وقال محمّد بن الحسن: يجبر المحتكر على بيع ما احتكر ولا يسعّر عليه، ويقال له: بع كما يبيع النّاس، وبزيادة يتغابن في مثلها، ولا أتركه يبيع بأكثر.
«ثالثاً: من يبيع في غير دكّان»
22 - قال صاحب التّيسير: لا يسعّر على من يبيع في غير دكّان ولا حانوت يعرض للخاصّ والعامّ، ولا على بائع الفواكه والذّبائح وجميع أهل الحرف والصّنائع، والمتسبّبين من حمّال ودلال وسمسار وغيرهم، ولكنّه ينبغي للوالي أن يقبض من أهل كلّ صنعة ضامناً أميناً، وثقةً، وعارفاً بصنعته خبيراً بالجيّد والرّديء من حرفته يحفظ لجماعته ما يجب أن يحفظ من أمورهم، ويجري أمورهم على ما يجب أن تجري، ولا يخرجون عن العادة فيما جرت فيه العادة في صنعتهم.
«أمر الحاكم بخفض السّعر ورفعه مجاراةً لأغلب التّجّار»
23 - قال الباجيّ: السّعر الّذي يؤمر من حطّ عنه أن يلحق به هو السّعر الّذي عليه جمهور النّاس، فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحطّ السّعر، أمر من حطّه باللّحاق بسعر النّاس أو ترك البيع، وإن زاد في السّعر واحد أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللّحاق بسعره، أو الامتناع من البيع، لأنّ من باع به من الزّيادة ليس بالسّعر المتّفق عليه، ولا بما تقام به المبيعات، وإنّما يراعي في ذلك حال الجمهور ومعظم النّاس.
«مخالفة التّسعير»
«أ - حكم البيع مع مخالفة التّسعير»
24 - ذهب الحنفيّة والحنابلة، والشّافعيّة - في الأصحّ - إلى أنّ من خالف التّسعير صحّ بيعه، إذ لم يعهد الحجر على الشّخص في ملكه أن يبيع بثمن معيّن.
ولكن إذا سعّر الإمام وخاف البائع أن يعزّره الإمام لو نقص عمّا سعّره، فصرّح الحنفيّة أنّه لا يحلّ للمشتري الشّراء بما سعّره الإمام، لأنّه في معنى المكره، وينبغي أن يقول: بعني بما تحبّ، ليصحّ البيع.
وصحّة البيع مع مخالفة التّسعير متبادر من كلام المالكيّة أيضاً، لأنّهم يقولون: ومن زاد في سعر أو نقص منه أمر بإلحاقه بسعر النّاس، فإن أبي أخرج من السّوق.
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة بطلان البيع.
لكن عند الحنابلة إن هدّد المشتري البائع المخالف للتّسعير بطل البيع، لأنّه صار محجوراً عليه لنوع مصلحة، ولأنّ الوعيد إكراه.
«ب - عقوبة المخالف»
25 - صرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة بأنّ الإمام له أن يعزّر من خالف التّسعير الّذي رسمه، لما فيه مجاهرة الإمام بالمخالفة.
وسئل أبو حنيفة عن متولّي الحسبة إذا سعّر البضائع بالقيمة، وتعدّى بعض السّوقيّة، فباع بأكثر من القيمة، هل له أن يعزّره على ذلك؟ فأجاب: إذا تعدّى السّوقيّ وباع بأكثر من القيمة يعزّره على ذلك.
وأمّا قدر التّعزير، وكيفيّته، فمفوّض إلى الإمام أو نائبه، وقد يكون الحبس أو الضّرب، أو العقوبة الماليّة، أو الطّرد من السّوق وغير ذلك.
هذا كلّه في الحالات الّتي يجوز فيها التّسعير.
أمّا حيث لا يجوز التّسعير عند من لا يراه فلا عقوبة على مخالف التّسعير. الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4087 - 4096)
وانظر فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 380) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 382) وموسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 60) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 9 / ص 3) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1197) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 329).(1/243)
الْفُقَهَاءُ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا سِعْرَهُ (1). وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ السِّعْرَ مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا يَجُوزُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَدْلٌ جَائِزٌ، فَإِذَا تَضَمَّنَ ظُلْمَ النَّاسِ وَإِكْرَاهَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنِ لَا يَرْضَوْنَهُ؛ أَوْ مَنَعَهُمْ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُمْ: فَهُوَ حَرَامٌ. وَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ مِثْلَ إكْرَاهِهِمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 380) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4090)(1/244)
بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ وَمَنَعَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ: فَهُوَ جَائِزٌ (1)؛ بَلْ وَاجِبٌ (2).
__________
(1) - إن التسعير الجبري لا يخلو التسعير من حالتين: أن يكون في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، أو أن يكون في حالة الغلاء. وفي كلا الحالتين اختلف أهل العلم رحمهم الله في جوازه وبيان اختلافهم كالتالي:
الحالة الأولى: التسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: عدم جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء في الأسعار، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو قول ابن عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، واستدلوا بقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
ووجه الدلاله في الآية الكريمة أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة رخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
واستدلوا أيضاً بما رواه الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني في دم ولا مال. رواه الخمسه إلا النسائي وصححه ابن حبان وقال أبو عيسى الترمذي: حديث حسن صحيح.
وبما رواه أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل أدعو ثم جاء، رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. إسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.
ووجه الدلاله من هذين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه، وإذا كان عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد طلب منه التسعير رغم غلاء السعر كما ورد في الحديث، فمن باب أولى أن لا يكون تسعير في الأحوال التي تكون فيها الأسعار عادية.
قال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا: التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يكرهوا على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعه يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها فتغلوا الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري من الوصول إلى غرضه فيكون حراماً.
القول الثاني: جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء الأسعار. وهذا القول نقل عن سعيد بن المسيب وربيعه بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري، فالتسعير عندهم جائز مطلقاً، وعللوا بأن فيه مصلحة للناس، وفيه منع من إغلاء السعر.
والذي ذهب إليه الجمهور هو الأولى بالأخذ والاعتبار، ونظراً لقوة الأدلة التي استدلوا بها، ولأن الأصل في الشريعة هو حرية التعامل بين الناس ماداموا واقفين عند حدود الله فلا ظلم ولا غش ولا احتكار ولا تلاعب في الأسعار، ولا شك أن هذه الحرية تعد عاملاً قوياً في زيادة الفعالية الاقتصادية وتوفير أنواع المتاع، والتسعير دون الحاجة إليه عمل يخالف الأصل الذي بني عليه التعامل، ويقيد الحرية ويؤدي إلى اختفاء السلع .. الأمر الذي لا يعود على الأمة إلا بالغلاء، ويؤدي إلى انتشار السوق السوداء على نطاق واسع.
الحالة الثانية: التسعير في حالة الغلاء: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الرأي الأول: رأي المانعين للتسعير، وقد ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية والحنابلة والمالكية، واستدل هؤلاء بما أخرجه مالك في الموطأ عن أبي هريرة قال: جاء رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن التسعير يعد إجباراً للناس على بيع ما عندهم بغير طيب من أنفسهم، وهذا ظلم لهم. =(1/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= واستدلوا بما أخرجه البيهقي في سننه من طريق الشافعي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حُدِّثْت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً وهم يعتبرون بسعرك. ز فإما أن ترفع في السعر وأما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطباً في داره فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.
قال الشافعي رحمه الله في سياق هذا الحديث: وبه أقول لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلتزمهم، وهذا ليس منها. انتهى
الرأي الثاني: رأي المجيزين للتسعير، وهو ما ذهب إليه الحنفية وبعض المالكية وابن تيمية وابن القيم، يقول صاحب الفتاوى الهندية: ولا يسعر بالإجماع إلا إذا كان أرباب الطعام يتعدون عن القيمة، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والبصر وهو المختار وبه يفتى.
ويقول ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بعد ذكره حديث أنس: والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين ..... وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وما فعله حكم؛ لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى.
ويقول ابن تيمية في كتابه الحسبة: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
وما ذهب إليه الفريق الثاني من جواز التسعير في حالة الغلاء هو الأولى بالأخذ لأنه يوافق روح الشريعة التي تقوم أصلاً على مراعاة الصالح العام، وإذا كانت المصلحة الفردية قد روعيت في كثير من الأحاديث والوقائع فإن مراعاة المصلحة العامة تكون من باب أولى،
ويمكن حمل الأحاديث المانعة من التسعير رغم غلاء السعر على أن يكون في الأحوال العادية التي يخضع فيها السعر لما يعرف بقانون العرض والطلب والتي لا دخل فيها لإرادة الإنسان، ولا تكون بسبب الرغبة في زيادة الثمن من قبل أرباب السلع. وأما حينما تستبين الرغبة في الظلم الناتج عن تعمد زيادة الثمن ووضع المشتري تحت الأمر الواقع فهذا مغاير لمفهوم الشريعة وليس هو مفهوم النصوص، ولأن الغلاء بلاء: وهو يؤدي بالإنسان إلى أحد أمرين كلاهما مر:
-أن لا يشتري السلعة رغم حاجته إليها فيقع في الحرج.
-أو أن يضطر إلى شرائها رغم عدم قدرته المادية فيضطر إلى إرهاق نفسه بالدين الذي هو سبب من أسباب الفقر.
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6701)
رقم الفتوى 26530 التسعير .. أحكامه وأحواله
تاريخ الفتوى:03 ذو القعدة 1423 والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 1 / ص 22) و كتاب (قضايا فقهية معاصرة) للكتور ماجد أبو رضيه. وسلسلة كتب الأمة» في الإجتهاد التنزيلي» الفصل الرابع - نماذج تطبيقية - المبحث الأول: حق الملكية بين المشروعية والتقييد»
(2) - وفي فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 381)
السعر والتسعير
المفتي
عطية صقر.
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز للحاكم أن يفرض سعرا معينا للسلع؟
الجواب
التعريف: السعر هو القدر الذى تقوَّم به السلعة، والتسعير هو وضع قيمة للسلعة، والسعر يتحكم فيه غالبا عاملا العرض والطلب، أما التسعير فيكون بتدخل ولى الأمر.
2 - الحكم: جاء فى فتاوى ابن تيمية " مجلد 28 ص 76 "عن تدخل ولى الأمر فى الأسعار: أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه اللّه لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. .
وضرب مثلا للتسعير الذى لا يجوز بما حدَّث به أنس رضى اللّه عنه أنه قال: غلا السعر على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - " فقالوا:
يا رسول اللّه لو سعرت؟ فقال " إن اللَّه هو القابض الباسط الرزاق المسعر، وإنى لأرجو أن ألقى اللّه ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتها إياه فى دم ولا مال " رواه أبو داود والترمذى وصححه. فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشىء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى اللّه، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
ثم ضرب مثلا للتسعير الذى يجوز فقال: إذا امتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم به.
وجاء مثل ذلك فى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم سنة 1943 م [الفتاوى الإسلامية المجلد 3 ص 815] وفيها: أن الحكومة إذا سعَّرت وجب العمل بما سعرت به وحرم التعدى، لأن طاعة ولى الأمر واجبة بالكتاب والسنة والإجماع إذا أمر بما ليس بمعصية.
3 - التبليغ عن المخالف: جاء فى الفتوى المذكورة أنه يجب على من يعلم أن من التجار من يبيع بأسعار مرتفعة تزيد عن الأسعار المقررة أن يبلغ الحكومة بذلك، فإذا كان من يعلم ذلك شخصا واحدا وجب عليه التبليغ، فإن لم يبلغ كان آثما، وإذا كان من يعلم أكثر من واحد وجب عليهم أن يبلغوا، فإذا قام به بعضهم لم يأثم أحد منهم، لحصول المقصود بتبليغ بعضهم، وإذا تركوا كلهم التبليغ كانوا جميعا آثمين كما هو حكم الواجب الكفائى. انتهى.
وأنبه إلى ما جاء فى جواز التسعير أو وجوبه من أن المقصود منه هو العدل ومنع الظلم، فيكون التسعير مراعى فيه العدل الذى لا ظلم فيه للتجار ولا للشعب، بمعنى أن يكون بعد دراسة وافية يدخل فيها تغير الظروف، ويعدل السعر تبعا للمتغيرات من أجل تحقيق العدالة للتجار والشعب، ومنع الخروج على القوانين والقرارات بحيلة أو بأخرى.
وإذا كانت طاعة ولى الأمر واجبة فمحلها فيما لا معصية ولا ظلم فيه، وفيما يساعد على النشاط الاقتصادى العادل الذى يشجع عليه التنافس الشريف الذى يوازن بين الحقوق والواجبات فى إطار التعاون على الخير الذى يفيد منه كل الأطراف. والكل يعانى من القوانين والقرارات الجامدة التى يراعى فيها جانب واحد، مما يتيح الفرصة للتملص منها بأى أسلوب من الأساليب.(1/246)
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ مَا رَوُيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا.
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِى بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلاَ مَالٍ» رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَصَحَّحَهُ (1).
__________
(1) - أخرجه أبو داود برقم (3453) وسنن الترمذى برقم (1362) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
وفي تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 433)
1235 - قَوْلُهُ: (غَلَا السِّعْرُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ نرخ أَيْ اِرْتَفَعَ السِّعْرُ
(سَعِّرْ لَنَا) أَمْرٌ مِنْ التَّسْعِيرِ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ كُلُّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ أَهْلِ السُّوقِ أَنْ لَا يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ إِلَّا بِسِعْرِ كَذَا فَيَمْنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ النُّقْصَانِ لِمَصْلَحَةٍ
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ) بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرَخِّصُ الْأَشْيَاءَ وَيُغَلِّيهَا فَلَا اِعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّسْعِيرُ اِنْتَهَى
(الْقَابِضُ الْبَاسِطُ)
أَيْ مُضَيِّقُ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ وَمُوَسِّعُهُ
(وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ مَصْدَرُ ظَلَمَ وَاسْمُ مَا أُخِذَ مِنْك بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ بِكَسْرِ لَامٍ وَفَتْحِهَا وَقَدْ يُنْكَرُ الْفَتْحُ اِنْتَهَى. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ مَظْلِمَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ. وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ وَجَبَ تَمْكِينُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلْزَامِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَبِيعَ بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّسْعِيرُ. وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْغَلَاءِ وَلَا حَالَةِ الرُّخْصِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَجْلُوبِ وَغَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ الْغَلَاءِ. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا كَانَ قُوتًا لِلْآدَمِيِّ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْإِدَامَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ.(1/247)
فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَبِيعُونَ سِلَعَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ وَقَدْ ارْتَفَعَ السِّعْرُ إمَّا لِقِلَّةِ الشَّيْءِ وَإِمَّا لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ: فَهَذَا إلَى اللَّهِ. فَإِلْزَامُ الْخَلْقِ أَنْ يَبِيعُوا بِقِيمَةِ بِعَيْنِهَا إكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَمِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ أَرْبَابُ السِّلَعِ مِنْ بَيْعِهَا مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهَا إلَّا بِزِيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلَا مَعْنَى لِلتَّسْعِيرِ إلَّا إلْزَامَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ (1).
وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدْ الْتَزَمُوا أَلَّا يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ لَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إلَّا لَهُمْ؛ ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ؛ فَلَوْ بَاعَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مُنِعَ إمَّا ظُلْمًا لِوَظِيفَةِ تُؤْخَذُ مِنْ الْبَائِعِ؛ أَوْ غَيْرَ ظُلْمٍ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، فَهَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبِيعُونَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلَا يَشْتَرُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ: فَلَوْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا أَوْ اشْتَرَوْا بِمَا اخْتَارُوا كَانَ
__________
(1) - إذا كانت الزيادة في أسعار السلع والخدمات عن ثمن المثل، نتيجة قلة العرض وزيادة الطلب، فهذه الزيادة جائزة، لا حرج فيها، لحديث أنس المار.
أما إذا كانت نتيجة تواطؤ أو استغلال من أصحاب السلع والخدمات لحاجة الناس، فيجب على ولي الأمر أن يسعر هذه السلع والخدمات بالقدر الذي يحقق المصلحة ويدفع الظلم، كما هو مذهب جماعة من أهل العلم، وحملوا الحديث السابق المانع من التسعير على الأحوال العادية التي يبيع فيها الناس سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر ـ إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق ـ أما الأحوال التي يمتنع فيها أرباب السلع من بيعها ـ مع ضرورة الناس إليهاـ إلا بزيادة على القيمة المعروفة فذهبوا إلى أن الحديث لم يتناولها. قال ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بعد ذكره حديث أنس: والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين ... وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضيق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى. وقال ابن القيم: ... وأما التسعير، فمنه ما هو محرم ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب.
وانظر فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 98) وفتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 381) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 29) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4138) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 331).(1/248)
ذَلِكَ ظُلْمًا لِلْخَلْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ؛ وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ (1).
وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ جَمِيعِ الظُّلْمِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُمْكِنَ مِنْهُ، فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَحَقِيقَتُهُ: إلْزَامُهُمْ أَلَّا يَبِيعُوا أَوْ لَا يَشْتَرُوا إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ. وَهَذَا وَاجِبٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحَقِّ: يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِحَقِّ فِي مَوَاضِعَ؛ مِثْلَ بَيْعِ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ وَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ (2)، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى أَلَّا يَبِيعَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحَقِّ وَيَجُوزُ فِي مَوَاضِعَ؛ مِثْلَ الْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ وَمِثْلَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ لَا بِأَكْثَرَ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ (3). وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ فِي الْعِتْقِ (4) كَمَا
__________
(1) - وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ أَلَّا يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَصْنَافِ إلَّا نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إلَّا لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ، فَلَوْ بَاعَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مُنِعَ وَعُوقِبَ، فَهَذَا مِنْ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، وَالظُّلْمِ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ قَطْرُ السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَلَّا يَبِيعُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَا يَشْتَرُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ، فَلَوْ سَوَّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا شَاءُوا أَوْ يَشْتَرُوا بِمَا شَاءُوا: كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلنَّاسِ: ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ السِّلَعِ، وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ.
فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَحَقِيقَتُهُ: إلْزَامُهُمْ بِالْعَدْلِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَجُوزُ أَوْ يَجِبُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، مِثْلُ بَيْعِ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ، وَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَمِثْلُ الْبَيْعِ لِلْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ، وَمِثْلُ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَإِنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَمِثْلُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ قَهْرًا، وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ فِي الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُخْرِجُ الشِّقْصَ مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ قَهْرًا، وَتُوجِبُ عَلَى الْمُعْتِقِ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا قَهْرًا، وَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَرْكُوبِ - بِحَجٍّ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ - فَمَتَى وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يُبْذَلَ لَهُ مَجَّانًا، أَوْ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ.
وكذلك إيجار الحانوت على الطّريق أو في القرية بأجرة معيّنة، على ألاّ يبيع أحد غيره، نوع من أخذ أموال النّاس قهراً وأكلها بالباطل، وهو حرام على المؤجّر والمستأجر.
انظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 430) وموسوعة الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 60) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 30) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 333)
(2) - المبسوط - (ج 28 / ص 4) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 30) وكشف الأسرار - (ج 9 / ص 168) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 333)
(3) - المجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 30) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 333)
(4) - 1 - السّراية في اللّغة: اسم للسّير في اللّيل، يقال: سريت باللّيل، وسريت اللّيل سريّاً إذا قطعته بالسّير، والاسم سراية.
وقد تستعمل في المعاني تشبيهاً لها بالأجسام، فيقال: سرى فيه السّمّ والخمر، ويقال في الإنسان: سرى فيه عرق السّوء.
ومن هذا القبيل قول الفقهاء: سرى الجرح من العضو إلى النّفس، أي دام ألمه حتّى حدث منه الموت، وقولهم: قطع كفّه فسرى إلى ساعده، أي تعدّى أثر الجرح إليه، كما يقال سرى التّحريم من الأصل إلى فروعه، وسرى العتق.
وفي الاصطلاح الفقهيّ السّراية هي: النّفوذ في المضاف إليه ثمّ التّعدّي إلى باقيه.
الحكم الإجماليّ
2 - يستعمل الفقهاء كلمة «سراية» في الموضوعات الآتية
أ - العتق.
ب - الجراحات.
ج - الطّلاق.
«سراية الجناية»
4 - سراية الجناية مضمونة بلا خلاف بين الفقهاء لأنّها أثر الجناية، والجناية مضمونة، وكذلك أثرها، ثمّ إن سرت إلى النّفس كأن يجرح شخصاً عمداً فصار ذا فراش «أي ملازماً لفراش المرض» حتّى يحدث الموت، أو سرت إلى ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف، كأن يجني على عضو عمداً فيذهب أحد المعاني: كالبصر، والسّمع ونحوهما، وجب القصاص بلا خلاف.
وإن سرت إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف بأن يقطع أصبعاً فسرت إلى الكفّ حتّى يسقط فقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص فيه.
فقال الشّافعيّة والصّاحبان وزفر والحسن بن زياد: يجب القصاص في الأصبع، ودية مغلّظة في الكفّ، وقالوا: إنّ ما يمكن مباشرته بالجناية لا يجب فيه القود بالسّراية.
وقال الحنابلة: يجب فيه القصاص، وقالوا: إنّ ما وجب فيه القود بالجناية وجب فيه أيضاً بالسّراية كالنّفس وضوء العين.
وقال أبو حنيفة فيمن قطع أصبعاً فشلّت إلى جنبها أخرى: لا قصاص في شيء من ذلك، عليه ديتهما.
وإن كانت الجراحة خطأً فسرت إلى شيء ممّا ذكر فلا يجب غير الدّية، والتّفصيل في «قصاص».
«سراية القود»
5 - سراية القود غير مضمونة عند جمهور الفقهاء، فإذا قطع طرفاً يجب القود فيه فاستوفى منه المجنيّ عليه ثمّ مات الجاني بسراية الاستيفاء لم يلزم المستوفي شيء، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة وأحمد وأبو يوسف ومحمّد، وروي عن أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، وقالوا: لأنّه قطع مستحقّ مقدّر فلا تضمن سرايته كقطع السّارق، ولا يمكن التّقييد بسلامة العاقبة لما فيه سدّ باب استيفاء الحقّ بالقصاص، والاحتراز عن السّراية ليس في وسعه.
وقال أبو حنيفة: يضمن دية النّفس، لأنّه قتل بغير حقّ لأنّ حقّه في القطع وهو وقع قتلاً، ولو وقع هذا القطع ظلماً في غير قصاص وسرى إلى النّفس، كان قتلاً موجباً للقصاص، أو الدّية، ولأنّه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة، وهو مسمّى القتل إلاّ أنّ القصاص سقط للشّبهة فوجب المال.
والتّفصيل في «قصاص».
والعبرة في الضّمان، ونوعه وقدره بوقت الجناية لا بوقت السّراية، فإن جرح مسلم حربيّاً أو مرتدّاً فأسلما ثمّ ماتا بالسّراية فلا ضمان، كعكسه، بأن جرح حربيّ مسلماً فأسلم الحربيّ ثمّ مات المسلم، لأنّه جرح غير مضمون فسرايته غير مضمونة.
وإن جرح مسلم مسلماً ثمّ ارتدّ المجروح فمات بالسّراية فلوليّه القصاص بالجرح، لا بالنّفس.
وإن تخلّل المهدر بين الجرح والموت بالسّراية كأن يجرح مسلم مسلماً، ثمّ ارتدّ المجروح، ثمّ أسلم ومات بالسّراية فلا يجب القصاص لتخلّل حالة الإهدار بين الجناية، والموت بالسّراية وتجب الدّية لوقوع الجناية، والموت بالسّراية في حالة العصمة.
وإن جرح مسلم ذمّيّاً فأسلم ومات بالسّراية فلا قصاص عند من يرى عدم قتل المسلم بالذّمّيّ، لأنّه لم يقصد بجنايته من يكافئه، وتجب دية مسلم، لأنّه في الابتداء مضمون وفي الانتهاء حرّ مسلم.
والقاعدة في هذا الباب هي
أ - أنّ كلّ جرح غير مضمون لا ينقلب مضموناً بتغيّر الحال في الانتهاء.
ب - وكلّ جرح مضمون في الحالين فالعبرة في قدر الضّمان بالانتهاء.
ج - وكلّ جرح مضمون لا ينقلب غير مضمون بتغيّر الحال.
وانظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8597) وطرح التثريب - (ج 1 / ص 41) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 30) والمنثور في القواعد - (ج 2 / ص 149) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 333).(1/249)
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِى عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» (1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2522 و 2491،2503،2521،2523،2524،2525) ومسلم برقم (3843)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 271) =(1/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْعِتْق الْحُرِّيَّة. يُقَال مِنْهُ: عَتَقَ يَعْتِق عِتْقًا بِكَسْرِ الْعَيْن وَعِتْقًا بِفَتْحِهَا أَيْضًا، حَكَاهُ صَاحِب الْمُحْكَم وَغَيْره. وَعَتَاقًا وَعَتَاقَة فَهُوَ عَتِيق وَعَاتِق أَيْضًا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ وَهُمْ عُتَقَاء وَأَعْتَقَهُ فَهُوَ مُعْتَق، وَهُمْ عُتَقَاء، وَأَمَة عَتِيق وَعَتِيقَة وَإِمَاء عَتَائِق، وَحَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَيْ الْإِعْتَاق. قَالَ الْأَزْهَرِيّ: هُوَ مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ: عَتَقَ الْفَرَس إِذَا سَبَقَ وَنَجَا، وَعَتَقَ الْفَرْخ طَارَ وَاسْتَقَلَّ، لِأَنَّ الْعَبْد يَتَخَلَّص بِالْعِتْقِ وَيَذْهَب حَيْثُ شَاءَ. قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره: وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ أَعْتَقَ نَسَمَة أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَة وَفَكَّ رَقَبَة فَخُصَّتْ الرَّقَبَة دُون سَائِر الْأَعْضَاء مَعَ أَنَّ الْعِتْق يَتَنَاوَل الْجَمِيع، لِأَنَّ حُكْم السَّيِّد عَلَيْهِ وَمِلْكه لَهُ كَحَبْلٍ فِي رَقَبَة الْعَبْد وَكَالْغَلِّ الْمَانِع لَهُ مِنْ الْخُرُوج، فَإِذَا أَعْتَقَ فَكَأَنَّهُ أُطْلِقَتْ رَقَبَته مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء وَمَعْنَى الِاسْتِسْعَاء فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعَبْد يُكَلَّف الِاكْتِسَاب وَالطَّلَب حَتَّى تَحْصُل قِيمَة نَصِيب الشَّرِيك الْآخَر، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ عَتَقَ. هَكَذَا فَسَّرَهُ جُمْهُور الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِسْعَاءِ وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ أَنْ يَخْدُم سَيِّده الَّذِي لَمْ يَعْتِق بِقَدْرِ مَا لَهُ فِيهِ مِنْ الرِّقّ فَعَلَى هَذَا تَتَّفِق الْأَحَادِيث.
وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (غَيْر مَشْقُوق عَلَيْهِ)
أَيْ لَا يُكَلَّف مَا يَشُقّ عَلَيْهِ. وَالشِّقْص بِكَسْرِ الشِّين النَّصِيب قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَيُقَال لَهُ: الشَّقِيص أَيْضًا. بِزِيَادَةِ الْيَاء وَيُقَال لَهُ أَيْضًا الشِّرْك بِكَسْرِ الشِّين.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبه مِنْ عَبْد مُشْتَرَك قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيه إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ عَدْل سَوَاء كَانَ الْعَبْد مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَسَوَاء كَانَ الشَّرِيك مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَسَوَاء كَانَ الْعَتِيق عَبْدًا أَوْ أَمَة. وَلَا خِيَار لِلشَّرِيكِ فِي هَذَا وَلَا لِلْعَبْدِ وَلَا لِلْمُعْتَقِ، بَلْ يَنْفُذ هَذَا الْحُكْم وَإِنْ كَرِهَهُ كُلّهمْ مُرَاعَاة لِحَقِّ اللَّه تَعَالَى فِي الْحُرِّيَّة. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ نَصِيب الْمُعْتَق يُعْتَق بِنَفْسِ الْإِعْتَاق، إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رَبِيعَة أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْتَق نَصِيب الْمُعْتَق مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل مُخَالِف لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة كُلّهَا وَالْإِجْمَاع.
وَأَمَّا نَصِيب الشَّرِيك فَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمه إِذَا كَانَ الْمُعْتَق مُوسِرًا عَلَى سِتَّة مَذَاهِب:
أَحَدهَا وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَبِهِ قَالَ اِبْن شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَبَعْض الْمَالِكِيَّة، أَنَّهُ عَتَقَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاق، وَيَقُوم عَلَيْهِ نَصِيب شَرِيكه بِقِيمَتِهِ يَوْم الْإِعْتَاق، وَيَكُون وَلَاء جَمِيعه لِلْمُعْتَقِ، وَحُكْمه مِنْ حِين الْإِعْتَاق حُكْم الْأَحْرَار فِي الْمِيرَاث وَغَيْره وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِلَّا الْمُطَالَبَة بِقِيمَةِ نَصِيبه كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ أُعْسِرَ الْمُعْتَق بَعْد ذَلِكَ اِسْتَمَرَّ نُفُوذ الْعِتْق وَكَانَتْ الْقِيمَة دَيْنًا فِي ذِمَّته، وَلَوْ مَاتَ أَخَذَتْ مِنْ تَرِكَته فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَرِكَة ضَاعَتْ الْقِيمَة وَاسْتَمَرَّ عِتْق جَمِيعه قَالُوا: وَلَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيك نَصِيبه بَعْد إِعْتَاق الْأَوَّل نَصِيبه كَانَ إِعْتَاقه لَغْوًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كُلّه حُرًّا.
وَالْمَذْهَب الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتِق إِلَّا بِدَفْعِ الْقِيمَة وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَبِهِ قَالَ أَهْل الظَّاهِر وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ.
الثَّالِث مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة لِلشَّرِيكِ الْخِيَار إِنْ شَاءَ اِسْتَسْعَى الْعَبْد فِي نِصْف قِيمَته، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبه وَالْوَلَاء بَيْنهمَا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ نَصِيبه عَلَى شَرِيكه الْمُعْتَق ثُمَّ رَجَعَ الْمُعْتَق بِمَا دَفَعَ إِلَى شَرِيكه عَلَى الْعَبْد يَسْتَسْعِيه فِي ذَلِكَ، وَالْوَلَاء كُلّه لِلْمُعْتَقِ قَالَ: وَالْعَبْد فِي مُدَّة الْكِتَابَة بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَب فِي كُلّ أَحْكَامه.
الرَّابِع مَذْهَب عُثْمَان الْبَتِّيّ لَا شَيْء عَلَى الْمُعْتَق إِلَّا أَنْ تَكُون جَارِيَة رَائِعَة تُرَاد لِلْوَطْءِ فَيَضْمَن مَا أَدْخَلَ عَلَى شَرِيكه فِيهَا مِنْ الضَّرَر
الْخَامِس حَكَاهُ اِبْن سِيرِينَ أَنَّ الْقِيمَة فِي بَيْت الْمَال.
السَّادِس مَحْكِيّ عَنْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْم لِلْعَبِيدِ دُون الْإِمَاء، وَهَذَا الْقَوْل شَاذّ مُخَالِف لِلْعُلَمَاءِ كَافَّة وَالْأَقْوَال الثَّلَاثَة قَبْله فَاسِدَة مُخَالِفَة لِصَرِيحِ الْأَحَادِيث فَهِيَ مَرْدُودَة عَلَى قَائِلِيهَا.
هَذَا كُلّه فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُعْتَق لِنَصِيبِهِ مُوسِرًا.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا حَال الْإِعْتَاق فَفِيهِ أَرْبَعَة مَذَاهِب:
أَحَدهَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْد وَمُوَافِقِيهِمْ، يَنْفُذ الْعِتْق فِي نَصِيب الْمُعْتَق فَقَطْ وَلَا يُطَالِب الْمُعْتَق بِشَيْءٍ وَلَا يُسْتَسْعَى الْعَبْد بَلْ يَبْقَى نَصِيب الشَّرِيك رَقِيقًا كَمَا كَانَ؛ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور عُلَمَاء الْحِجَاز لِحَدِيثِ اِبْن عُمَر.
الْمَذْهَب الثَّانِي مَذْهَب اِبْن شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَابْن أَبِي لَيْلَى وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَإِسْحَاق، يُسْتَسْعَى الْعَبْد فِي حِصَّة الشَّرِيك وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي رُجُوع الْعَبْد بِمَا أَدَّى فِي سِعَايَته عَلَى مُعْتَقه فَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى: يَرْجِع بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ: لَا يَرْجِع. ثُمَّ هُوَ عِنْد أَبِي حَنِيفَة فِي مُدَّة السِّعَايَة بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَب وَعِنْد الْآخَرِينَ هُوَ حُرّ بِالسِّرَايَةِ.
الْمَذْهَب الثَّالِث مَذْهَب زُفَر وَبَعْض الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهُ يُقَوَّم عَلَى الْمُعْتَق وَيُؤَدِّي الْقِيمَة إِذَا أَيْسَر.
الرَّابِع حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُعْتَق مُعْسِرًا بَطَلَ عِتْقه فِي نَصِيبه أَيْضًا فَيَبْقَى الْعَبْد كُلّه رَقِيقًا كَمَا كَانَ، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل.
أَمَّا إِذَا مَلَكَ الْإِنْسَان عَبْدًا بِكَمَالِهِ فَأَعْتَقَ بَعْضه فَيُعْتِق كُلّه فِي الْحَال بِغَيْرِ اِسْتِسْعَاء، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة، وَانْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ: يُسْتَسْعَى فِي بَقِيَّته لِمَوْلَاهُ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابه فِي ذَلِكَ فَقَالُوا بِقَوْلِ الْجُمْهُور. وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ وَرَبِيعَة وَحَمَّاد وَرِوَايَة عَنْ الْحَسَن كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة، وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر وَعَنْ الشَّعْبِيّ وَعُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن الْعَنْبَرِيّ، أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْتِق مِنْ عَبْده مَا شَاءَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3545) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 86و 317) و (ج 5 / ص 499) و فتح الباري لابن حجر - (ج 7 / ص 481) والمنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 93) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 14 / ص 265) والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 7 / ص 288) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 14 / ص 293) وشرح الأربعين النووية - (ج 2 / ص 228) وتيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (ج 2 / ص 248) وموطأ محمد بشرح اللكنوي - (ج 3 / ص 118) وبيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 13 / ص 219) وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام - (ج 3 / ص 250) وفتاوى ابن الصلاح - (ج 1 / ص 13) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4090) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4904) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 7995) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8675) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 12415) وطرح التثريب - (ج 6 / ص 481) وسبل السلام - (ج 6 / ص 474) ونيل الأوطار - (ج 9 / ص 399) والبحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 11 / ص 17) والروضة الندية - (ج 2 / ص 176) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 673) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4405) مسألة رقم 1667 وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 24 / ص 239) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - (ج 8 / ص 414) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 7 / ص 432) وفتح القدير - (ج 10 / ص 105) والتاج والإكليل لمختصر خليل - (ج 12 / ص 335) ومواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 18 / ص 175) والمدونة - (ج 7 / ص 246 - 255) وبداية المجتهد ونهاية المقتصد - (ج 1 / ص 694) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 2 / ص 487) والمهذب للشيرازي - (ج 2 / ص 355) والمجموع - (ج 13 / ص 38) والمجموع شرح المهذب - (ج 16 / ص 5) وأسنى المطالب - (ج 23 / ص 379) وحاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 9 / ص 34) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 45 / ص 202) والأم - (ج 7 / ص 325) والمستصفى - (ج 1 / ص 251) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 3 / ص 433) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 285) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 1 / ص 442) والبحر المحيط - (ج 6 / ص 67) والتقرير والتحبير - (ج 5 / ص 444) وشرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 423) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 192) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 221) والموافقات في أصول الشريعة - (ج 1 / ص 386) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 3 / ص 156) وغاية الوصول في شرح لب الأصول - (ج 1 / ص 131) والقواعد النورانية الفقهية - الرقمية - (ج 1 / ص 148) والقواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - الرقمية - (ج 2 / ص 772) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 350) وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 1 / ص 262).(1/251)
وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شِرَاءُ شَيْءٍ لِلْعِبَادَاتِ، كَآلَةِ الْحَجِّ وَرَقَبَةِ الْعِتْقِ وَمَاءِ الطَّهَارَةِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الشِّرَاءِ إلَّا بِمَا يَخْتَارُ.
وَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ كُسْوَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إذَا وُجِدَ الطَّعَامُ أَوْ اللِّبَاسُ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ فِي الْعُرْفِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ؛ حَتَّى يَبْذُلَ لَهُ ذَلِكَ بِثَمَنِ يَخْتَارُهُ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَلِهَذَا مَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ القسام الَّذِينَ يَقْسِمُونَ(1/252)
الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالْأَجْرِ أَنْ يَشْتَرِكُوا وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ وَيَغْلُوَ عَلَيْهِمْ الْأَجْرَ (1)؛ فَمَنَعَ الْبَائِعِينَ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَلَّا يَبِيعُوا إلَّا بِثَمَنِ قَدَّرُوهُ أَوْلَى (2).
__________
(1) - اختلف أهل العلم في جواز شركة الدلالين بين مجيز لها ومانع، ومحل الخلاف في الشركة التي فيها عقد، أما مجرد النداء والعرض وإحضار الزبون فلا خلاف في جواز الاشتراك فيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد نص أحمد على جوازها، ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط وتجارة التجار وسائر الأجراء المشتركين ... ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة، وسائر الصناعات من باب الإجارة؛ وليس الأمر كذلك.
ومحل الخلاف في شركة الدلالين التي فيها عقد، فأما مجرد النداء والعرض وإحضار الزبون فلا خلاف في جوازه ... وموجب العقد المطلق التساوي في العمل، وأمّا باعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمل. وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زياده جاز.
ويقول ابن القيم: ..... ومن ها هنا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه -القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة: أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلو عليهم الأجرة ... وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالشهود والدلالين وغيرهم ... وأما شركة الدلالين ففيها أمر آخر، وهو أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلاً له فيما وكل فيه، فإن قلنا: ليس للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة، وإن قلنا: له أن يوكل صحت.
وأما مسألة الأجرة في شركة الدلالين فإذا صححناها فالأجرة على ما اشترطا أو اشترطوا، وإن لم تصحح كانت أجره المثل، فإن لم يكن شرط فهم فيها سواء.
جاء في الإنصاف في شركة الدلالين: وإن اشتركا ابتداء في النداء على شيء معين أو على ما يأخذان أو على ما يأخذه أحدهما من متاع الناس أو في بيعه صح، والأجرة لهما على ما شرطاه وإلا استويا فيها. انتهى.
وجاء في كشاف القناع: وموجب العقد المطلق في شركة وجعالة وإجارة التساوي في العمل والأجر لأنه لا مرجح لواحد فيستحق الفضل، ولو عمل واحد منهم أكثر ولم يتبرع بالزيادة طالب بالزيادة ليحصل التساوي. انتهى.
ومن خلال ما تقدم تعلمون أنه لا يجوز للشخص المذكور أن يأخذ حصة أكبر من حصة أصحابه لمجرد كونه الحائز للمال، فإن ذلك ظلم بين، لكن إن كان يبذل جهداً زائداً عما يبذلون فإن له أن يأخذ بقدر ما يبذل من جهد.
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 614) رقم الفتوى 60711 تقسيم الحصص بين الدلالين و الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 429) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 30)
(2) - قال ابن القيم:
قُلْت: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَالِي الْحِسْبَةِ: أَنْ يَمْنَعَ مُغَسِّلِي الْمَوْتَى وَالْحَمَّالِينَ لَهُمْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إغْلَاءِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمْ؛ وَكَذَلِكَ اشْتِرَاكُ كُلِّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَنَافِعِهِمْ؛ كَالشُّهُودِ وَالدَّلَّالِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ عَلَى أَنَّ فِي شَرِكَةِ الشُّهُودِ مُبْطَلًا آخَرَ؛ فَإِنَّ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَمَيِّزٌ عَنْ عَمَلِ الْآخَرِ، لَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مُتَمَيِّزَةٌ؛ وَالتَّحَمُّلَ مُتَمَيِّزٌ؛ وَالْأَدَاءَ مُتَمَيِّزٌ؛ لَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكٌ وَلَا تَعَاوُنٌ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا أُجْرَةَ عَمَلِ صَاحِبِهِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ فِي سَائِرِ الصَّنَائِعِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ بَعْضَ الْعَمَلِ وَالْآخَرُ بَعْضَهُ، وَلِهَذَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّنَائِعُ: لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِتَعَذُّرِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَمَلِ، وَمَنْ صَحَّحَهَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ صِنَاعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ، فَيَقَعُ الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي عَيْنِ الْعَمَلِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الدَّلَّالِينَ: فَفِيهَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الدَّلَّالَ وَكِيلُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ فِي بَيْعِهَا، فَإِذَا شَارَكَ غَيْرَهُ فِي بَيْعِهَا كَانَ تَوْكِيلًا لَهُ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ: لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ: صَحَّتْ.
فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ: أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَيُرَاعِيَهَا، وَيُرَاعِيَ مَصَالِحَ النَّاسِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ذَهَبَ مَا هُنَالِكَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ إذَا مُنِعَ الْقَسَّامُونَ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الشَّرِكَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ التَّوَاطُؤِ عَلَى إغْلَاءِ الْأُجْرَةِ، فَمَنْعُ الْبَائِعِينَ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَلَّا يَبِيعُوا إلَّا بِثَمَنٍ مُقَدَّرٍ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ وَالِي الْحِسْبَةِ الْمُشْتَرِينَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِ الْبَائِعِ.
وَأَيْضًا: فَإِذَا كَانَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَشْتَرِي نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ أَوْ تَبِيعُهَا: قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَهْضِمُوا مَا يَشْتَرُونَهُ، فَيَشْتَرُوهُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَيَبِيعُوا مَا يَبِيعُونَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَيَقْتَسِمُوا مَا يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ: كَانَ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ إثْمًا وَعُدْوَانًا مِنْ تَلَقِّي السِّلَعِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَمِنْ النَّجْشِ. الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 335)(1/253)
وَكَذَلِكَ مَنَعَ الْمُشْتَرِينَ إذَا تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا، فَإِنَّهُمْ إذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ أَوْلَى أَيْضًا، فَإِذَا كَانَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَشْتَرِي نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ أَوْ تَبِيعُهَا قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنْ يَهْضِمُوا مَا يَشْتَرُونَهُ فَيَشْتَرُونَهُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ الْمَعْرُوفِ؛ وَيَزِيدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْمَعْرُوفِ؛ وَيُنَمُّوا مَا يَشْتَرُونَهُ: كَانَ هَذَا أَعْظَمَ عُدْوَانًا مِنْ تَلَقِّي السِّلَعِ وَمِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَمِنْ النَّجْشِ، وَيَكُونُونَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ حَتَّى يَضْطَرُّوا إلَى بَيْعِ سِلَعِهِمْ وَشِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ وَشِرَائِهِ وَمَا احْتَاجَ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يُبَاعَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ: إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عَامَّةً (1).
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إلَى صِنَاعَةِ نَاسٍ؛ مِثْلَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَايَةِ: فَإِنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَعَامٍ يَأْكُلُونَهُ وَثِيَابٍ يَلْبَسُونَهَا وَمَسَاكِنَ يَسْكُنُونَهَا فَإِذَا لَمْ يُجْلَبْ لَهُمْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَكْفِيهِمْ كَمَا كَانَ يُجْلَبُ إلَى الْحِجَازِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ الثِّيَابُ تُجْلَبُ إلَيْهِمْ مِنْ الْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ وَلَا يَغْسِلُونَهُ فَإِذَا لَمْ يُجْلَبْ إلَى نَاسِ الْبَلَدِ مَا يَكْفِيهِمْ احْتَاجُوا إلَى مَنْ يَنْسِجُ لَهُمْ الثِّيَابَ. وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَعَامٍ إمَّا مَجْلُوبٌ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِمْ وَإِمَّا مِنْ زَرْعِ بَلَدِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ (2).
__________
(1) - إذا تواطأ التّجّار أو أرباب السّلع على سعر يحقّق لهم ربحاً فاحشاً، أو تواطأ مشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتّى يهضموا سلع النّاس يجب التّسعير، وهذا ما اختاره ابن تيميّة، وأضاف قائلاً: ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحاب- القسّام الّذين يقسمون بالأجر أن يشتركوا، فإنّهم إذا اشتركوا، والنّاس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين - الّذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلاّ بثمن قدّروه - أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم، حتّى يهضموا سلع النّاس أولى.
لأنّ إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظّلم والعدوان.
وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ والعُدْوَانِ}.الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4091) قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ - كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ: أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِذَلِكَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: إنَّ تَعَلُّمَ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ تَجْهِيزُ الْمَوْتَى وَدَفْنُهُمْ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهَا
وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَلَّى أَمْرَ مَا يَلِيهِ بِنَفْسِهِ، وَيُوَلِّي فِيمَا بَعُدَ عَنْهُ، كَمَا وَلَّى عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ: عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قُرَى عُرَيْنَةَ: خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى الْيَمَنِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ السُّعَاةَ عَلَى الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، فَيَأْخُذُونَهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَيَدْفَعُونَهَا إلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَيَرْجِعُ السَّاعِي إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا سَوْطُهُ، وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْوَالِ إذَا وَجَدَ لَهَا مَوْضِعًا يَضَعُهَا فِيهِ. الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 337)
(2) - قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ - كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ: أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِذَلِكَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: إنَّ تَعَلُّمَ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ تَجْهِيزُ الْمَوْتَى وَدَفْنُهُمْ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهَا
وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَلَّى أَمْرَ مَا يَلِيهِ بِنَفْسِهِ، وَيُوَلِّي فِيمَا بَعُدَ عَنْهُ، كَمَا وَلَّى عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ: عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قُرَى عُرَيْنَةَ: خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى الْيَمَنِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ السُّعَاةَ عَلَى الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، فَيَأْخُذُونَهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَيَدْفَعُونَهَا إلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَيَرْجِعُ السَّاعِي إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا سَوْطُهُ، وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْوَالِ إذَا وَجَدَ لَهَا مَوْضِعًا يَضَعُهَا فِيهِ. الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 337)(1/254)
وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَسَاكِنَ يَسْكُنُونَهَا؛ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْبِنَاءِ؛ فَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ؛ وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا (1).؛ كَمَا أَنَّ
__________
(1) - إن الإنسان في هذه الحياة مجبول على التحرك والعمل بدوافع وغايات متعددة، فإن قصد إرضاء الله وابتغاء وجهه فيما يقوم به من الأعمال المباحة فإنه يؤجر على ذلك إن شاء الله، وسواء كانت هذه الأعمال من العبادات أو الأمور الأخرى فإن النية الصالحة تحول المباحات إلى عبادات، فمثلا تناول الطعام بنية التقوي على أداء العبادات البدنية يكون عبادة، وأيضا فإن تعلم الهندسة والطب والبرمجة من فروض الكفايات، وقد نص الإمام النووي في المجموع على أن تعلم العلوم الدنيوية من فروض الكفايات. قال ابن القيم في الطرق الحكمية: ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي أن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية لحاجة الناس إليها.
و قد ذهب كثير من العلماء إلى أنه يجب -على الكفاية- أن يتوفر في بلاد المسلمين أصول الحرف جميعها، احتيج إليها أو لا، قال ابن تيمية: قال غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كالغزالي، وابن الجوزي، وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا يتم مصلحة الناس إلا بها. انتهى.
وقد اختار ابن تيمية وغيره -وهو الراجح- أن احتراف بعض الحرف يصبح فرض كفاية إذا احتاج المسلمون إليها، فإن استغنوا عنها بما يجلبونه أو يجلب إليهم فقد سقط وجوب احترافها، فإذا امتنع المحترفون عن القيام بهذا الفرض أجبرهم الإمام عليه بعوض المثل. قال ابن تيمية: إن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها إلا الإنسان بعينه صارت فرض عين عليه، إن كان غيره عاجزاً عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. انتهى.
ولما كان إقامة الصناعات فرض كفاية كان توفير المحترفين الذين يعملون في هذه الصناعات فرضاً، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو ما ذهب إليه الشافعية، قال القليوبي في حاشيته ما مفاده: يجب أن يُسلم الوليُّ الصغيرَ لذي حرفة يتعلم منه الحرفة. انتهى.
ورغم أن الحنفية والمالكية والحنابلة لم ينصوا على وجوب دفع الولي الصغير إلى من يعلمه الحرفة إلا أن كلامهم يقتضي ذلك، وهذا يعني أن الذي يطلب منك أن تعلمه حرفتك يختلف حكمه باختلاف حاله، فإذا كان سيتعلمها دون حاجة المسلمين إليها بحيث وجد غيره ممن يؤدى به فرض الكفاية، فلا يجب عليك في هذه الحالة تعليمه، أما إذا كان المسلمون في حاجة إلى تعلمه هذه الصنعة ولم يوجد غيرك يعلمها له أو وجد لكنه امتنع عن تعليمه، وجب عليك أن تستجيب لطلبه، فإن وجد أحد غيرك يعلمه سقط عنك الوجوب، ولا عبرة في كل الأحوال برغبتك في الانفراد بالصنعة، لأن الضرر العام يفتدى بالضرر الخاص
انظر الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 403) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 2008) رقم الفتوى 52486 نعلم الهندسة والطب والبرمجة من فروض الكفايات و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1707) رقم الفتوى 71936 عدم البوح بأسرار المهنة للآخرين تاريخ الفتوى:08 رجب 1425والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 382)(1/255)
الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فَيَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْعَدُوُّ بَلَدًا؛ أَوْ مِثْلَ أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا (1).
وَطَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إلَّا فِيمَا يَتَعَيَّنُ (2)؛ مِثْلَ طَلَبِ كُلِّ وَاحِدٍ عِلْمَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ
__________
(1) - والجهاد يتعين في ثلاث حالات:
1 - إذا هجم العدو على بلاد الإسلام ولم يمكن دفعه إلا بجهاد المسلمين جميعاً، وأما إذا استطاع أهل البلد دفعه صار فرض عين عليهم فقط، كما سبق تفصيله.
2 - إذا استنفر الإمام طائفة أو أهل بلد، تعين عليهم، لما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".
3 - إذا التقى الصفان وكان عدد الكفار لا يزيد عن ضعفي المسلمين، ولم يبلغ المسلمون اثني عشر ألفاً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يغلب قوم عن قلة يبلغون أن يكونوا اثني عشر ألفاً" رواه الإمام أحمد واللفظ له، والترمذي والدرامي من حديث ابن عباس. المغني - (ج 20 / ص 411) وفتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 59 / ص 308)
(2) - سنن ابن ماجه برقم (229) وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 42) برقم (10286) عن ابن مسعود و الشعب (1663 و 1664 و 1667 و1672) و هـ (224) و مجمع 1/ 119 و 120 و صحيح الجامع (3913) من طرق عن عدد من الصحابة أشهرهم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». وهو صحيح لغيره
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 1 / ص 208) برقم (220) قَوْله (طَلَبُ الْعِلْم فَرِيضَةٌ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَل أَرَادَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم الْعِلْم الَّذِي لَا يَسَع الْبَالِغ الْعَاقِل جَهْله أَوْ عِلْم مَا يَطْرَأُ لَهُ أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ فَرِيضَة عَلَى كُلّ مُسْلِم حَتَّى يَقُوم بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَة وَقَالَ سُئِلَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقَع الرَّجُل فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُور دِينه فَيَسْأَل عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمهُ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ الْمُرَاد مِنْ الْعِلْم مَا لَا مَنْدُوحَة لِلْعَبْدِ مِنْهُ كَمَعْرِفَةِ الصَّانِع وَالْعِلْم بِوَحْدَانِيِّتِهِ وَنُبُوَّة رَسُوله - صلى الله عليه وسلم - وَكَيْفِيَّة الصَّلَاة فَإِنَّ تَعَلُّمه فَرْض عَيْن وَقَالَ الثَّوْرِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْذَر الْعَبْد فِي الْجَهْل بِهِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَفْص هُوَ الْمَشْهُور فَإِنَّ غَيْره اُخْتُلِفَ فِي الْعِلْم الَّذِي هُوَ فَرِيضَة فَقِيلَ هُوَ عِلْم الْإِخْلَاص مَأْمُور بِهِ كَمَا أَنَّ الْعِلْم مَأْمُور بِهِ وَشَهَوَات النَّفْس تُخَرِّب مَبَانِي الْإِخْلَاص مِنْ الْمَأْمُور بِهِ فَصَارَ عِلْم ذَلِكَ فَرْضًا وَقِيلَ مَعْرِفَة الْخَوَاطِر وَتَفْصِيلهَا فَرِيضَة لِأَنَّ الْخَوَاطِر فِي نَشْأَة الْعَقْل وَبِذَلِكَ يُعْلَم الْفَرْق بَيْن لَمَّة الْمَلَك وَلَمَّة الشَّيْطَان وَقِيلَ هُوَ طَلَب عِلْم الْحَلَال حَيْثُ كَانَ أَكْل الْحَلَال فَرِيضَة وَقِيلَ هُوَ عِلْم الْبَيْع وَالشِّرَاء وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق إِذَا أَرَادَ الدُّخُول فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ يَجِب عَلَيْهِ طَلَب عِلْمه وَقِيلَ هُوَ عِلْم الْفَرَائِض الْخَمْس الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَام وَقِيلَ هُوَ طَلَب عِلْم التَّوْحِيد بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَال وَالنَّقْل وَقِيلَ هُوَ طَلَب عِلْم الْبَاطِن وَهُوَ مَا يَزْدَاد بِهِ الْعَبْد يَقِينًا وَهُوَ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّاد وَالْمُقَرَّبِينَ فَهُمْ وَرَثَة عِلْم النَّبِيِّينَ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ اِنْتَهَى
قَوْله (عَلَى كُلّ مُسْلِم) أَيْ مُكَلَّف لِيَخْرُج غَيْر الْمُكَلَّف مِنْ الصَّبِيّ وَالْمَجْنُون وَمَوْضُوعه الشَّخْص فَيَشْمَل الذَّكَر وَالْأُنْثَى وَقَالَ السَّخَاوِيّ فِي الْمَقَاصِد أَلْحَقَ بَعْض الْمُصَنَّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيث وَمُسْلِمَة وَلَيْسَ لَهَا ذِكْر فِي شَيْء مِنْ طُرُقه وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَة الْمَعْنَى وَوَاضِعٌ عِنْد غَيْرِ أَهْلِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ هَذَا يُشْعِر بِأَنَّ كُلّ مُسْلِم يَخْتَصّ بِاسْتِعْدَادٍ وَلَهُ أَهْل فَإِذَا وَضَعَهُ فِي غَيْر مَوْضِعه فُقِدَ فَمِثْلُهُ تَقْلِيدُ أَخَسّ الْحَيَوَانَات بِأَنْفَس الْجَوَاهِر تَهْجِينًا لِذَلِكَ الْوَضْع وَتَنْفِيرًا عَنْهُ وَفِي تَعَقُّب هَذَا التَّمْثِيل قَوْله طَلَبُ الْعِلْم إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَد طَلَبُ مَا يَلِيق بِاسْتِعْدَادِهِ وَيُوَافِق مَنْزِلَته بَعْد حُصُول مَا هُوَ وَاجِب مِنْ الْفَرَائِض الْعَامَّة وَعَلَى الْعَالِم أَنْ يَخُصّ كُلّ طَالِب بِمَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ اِنْتَهَى وَفِي الزَّوَائِد إِسْنَاده ضَعِيف لِضَعْفِ حَفْص بْن سُلَيْمَان وَقَالَ السُّيُوطِيُّ سُئِلَ الشَّيْخ مُحْيِي الدِّين النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ إِنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْ سَنَدًا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَيْ مَعْنًى وَقَالَ تِلْمِيذه جَمَال الدِّين الْمِزِّيُّ هَذَا الْحَدِيث رُوِيَ مِنْ طُرُق تَبْلُغ رُتْبَة الْحَسَن وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنِّي رَأَيْت لَهُ نَحْو خَمْسِينَ طَرِيقًا وَقَدْ جَمَعْتهَا فِي جُزْء اِنْتَهَى.(1/256)
خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ» (1).
وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا وَالدِّينُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ تَصْدِيقًا عَامًّا وَطَاعَةً عَامَّةً، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ عَنْهُ خَبَرٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ مُفَصَّلًا، وَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةٍ بِأَمْرِ مُعَيَّنٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ طَاعَةً مُفَصَّلَةً.
وَكَذَلِكَ غَسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ: فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (2).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (71 و 3116،3641،7312،7460) وصحيح مسلم برقم (2436)
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 115)
قَوْله: (يُفَقِّههُ) أَيْ: يُفَهِّمهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ سَاكِنَة الْهَاء لِأَنَّهَا جَوَاب الشَّرْط، يُقَال فَقُهَ بِالضَّمِّ إِذَا صَارَ الْفِقْه لَهُ سَجِيَّة، وَفَقَهَ بِالْفَتْحِ إِذَا سَبَقَ غَيْره إِلَى الْفَهْم، وَفَقِهَ بِالْكَسْرِ إِذَا فَهِمَ. وَنَكَّرَ " خَيْرًا " لِيَشْمَل الْقَلِيل وَالْكَثِير، وَالتَّنْكِير لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْمَقَام يَقْتَضِيه.
وَمَفْهُوم الْحَدِيث أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه فِي الدِّين - أَيْ: يَتَعَلَّم قَوَاعِد الْإِسْلَام وَمَا يَتَّصِل بِهَا مِنْ الْفُرُوع - فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْر. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى حَدِيث مُعَاوِيَة مِنْ وَجْه آخَر ضَعِيف وَزَادَ فِي آخِره:" وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّه فِي الدِّين لَمْ يُبَالِ اللَّه بِهِ " وَالْمَعْنَى صَحِيح؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِف أُمُور دِينه لَا يَكُون فَقِيهًا وَلَا طَالِب فِقْه، فَيَصِحّ أَنْ يُوصَف بِأَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْخَيْر، وَفِي ذَلِكَ بَيَان ظَاهِر لِفَضْلِ الْعُلَمَاء عَلَى سَائِر النَّاس، وَلِفَضْلِ التَّفَقُّه فِي الدِّين عَلَى سَائِر الْعُلُوم.
(2) - فرض الكفاية هو: أمر مهمّ كلّيّ تتعلّق به مصالح دينيّة ودنيويّة لا ينتظم الأمر إلا بحصولها , قصد الشّارع حصولها من مجموع المكلّفين لا من جميعهم , وليس من شخصٍ معيّنٍ , فإذا قام به من فيه كفاية سقط الحرج عن الباقين.
وهو بهذا المعنى يختلف عن فرض العين , وهو: ما طلب الشّارع حصوله من كلّ فردٍ من الأفراد المكلّفين به , مثل الصّلاة والصّيام وغير ذلك , وإذا قام به البعض لا يسقط الإثم عن الباقين.
وأهم وجوه الاختلاف بينهما:
أ - أنّ فرض العين تتكرّر مصلحته بتكرره , كصلاة الظهر مثلاً , فإنّ مصلحتها الخضوع للّه تعالى وتعظيمه ومناجاته والتّذلل إليه والمثول بين يديه والتّفهم لخطابه والتّأدب بأدبه , وهذه مصالح تتكرّر كلّما تكرّرت الصّلاة فتجب على كلّ مكلّفٍ.
أمّا فرض الكفاية فلا تتكرّر مصلحته بتكرره كنزول البحر لإنقاذ الغريق , فإنّ مصلحته لا تتكرّر بنزول كلّ مكلّفٍ , فإذا أنقذ الغريق إنسان تحقّقت المصلحة بنزوله , والنّازل بعد ذلك إلى البحر لا تحصل منه مصلحة إنقاذ ذلك الغريق , فجعله صاحب الشّرع على الكفاية نفياً للعبث في الأفعال.
ب - فرض العين يقصد منه امتحان المكلّفين به في حين أنّ المقصود من فرض الكفاية حصول الفعل دون النّظر إلى الفاعل.
ج - فرض العين يؤدّي إلى تحقيق مصلحة الفرد ورفع شأنه في مجال الأمر المطلوب منه , في حين أنّ فرض الكفاية يؤدّي إلى تحقيق مصلحة المجتمع ورفع شأنه
د - فرض العين يطالب به جميع المكلّفين , ولا يسقط الإثم عن التّاركين له بأداء البعض , لبقاء التّكليف به على التّاركين له , في حين أنّ فرض الكفاية يسقط عن التّاركين له إذا قام به البعض وكان كافياً.
«ب - سنّة الكفاية»
6 - سنّة الكفاية مثل ابتداء السّلام من جماعةٍ , وتشميت العاطس من جماعةٍ وهي تختلف عن سنّة العين كركعتي الفجر وصيام الأيّام الفاضلة والطّواف في غير النسك.
«المصالح الّتي تتحقّق بطريق الكفاية» =(1/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= من مصالح الأمّة ما يتحقّق بطريق الكفاية وهو أقسام:
«أوّلاً: المصالح الدّينيّة»
7 - منها الاشتغال بالعلم الشّرعيّ كطلب العلم وتصنيف كتبه , وحفظ القرآن الكريم وحفظ السنّة النّبويّة وإقامة الحجج والبراهين على العقيدة الإسلاميّة , ودفع الشبهات وحلّ المشكلات والاجتهاد في القضايا المستجدّة.
ومنها إقامة الشّعائر الدّينيّة كصلاة الجماعة , وصلاة التّراويح في جماعةٍ , والأذان وصلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف والخسوف , وصلاة الاستسقاء والاعتكاف وإحياء الكعبة بالحجّ والعمرة والصّلاة والطّواف والأضحيّة.
ومنها الجهاد في سبيل اللّه والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واستنقاذ أسرى المسلمين وإفشاء السّلام ورده , وتشميت العاطس.
«ثانياً: المصالح الدنيويّة»
8 - منها الاشتغال بالعلوم الحياتيّة وتعلم أصول الصّناعات والحرف كالصّناعة والزّراعة.
«ثالثاً: المصالح المشتركة»
9 - بالإضافة إلى المصالح الدّينيّة والدنيويّة توجد مصالح مشتركة تجمع بين الدّينيّة والدنيويّة طلب الشّرع من الأمّة فعلها. منها تحمل الشّهادة وأداؤُها , والتقاط اللّقيط , وعيادة المريض , وغسل الميّت وتكفينه , والقيام بالولايات والوظائف , وبيانها كالتّالي:
«أ - تحمل الشّهادة وأداؤُها»
10 - تحمل الشّهادة: هو العلم بما يشهد به من الحقوق كالنّكاح والبيع وغير ذلك , وقد اتّفق الفقهاء على أنّ تحمل الشّهادة فرض كفايةٍ , إذا كان الشهود جماعةً , فلو امتنع الجميع عن التّحمل أثموا جميعاً , لأنّ ذلك يؤدّي إلى ضياع الحقوق , أمّا إذا كان الشّاهد واحداً فيتعيّن التّحمل فيه ويكون فرض عينٍ , لأنّ التّحمل يفتقر إليه ويخشى ضياع الحقوق , قال تعالى: «وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ» , فقد جمعت هذه الآية الأمرين: التّحمل والأداء.
وأمّا أداء الشّهادة من المتحمّل إذا طلبها المدّعي ففرض كفايةٍ إذا كان المتحمّلون جماعةً , فإذا امتنعوا أثموا جميعاً باتّفاق الفقهاء , وإذا كان المتحمّل واحداً تعيّن الأداء فيه ويكون فرض عينٍ , ودليل الفرضيّة قوله تعالى: «وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِم قَلْبُهُ».
«ب - التقاط اللّقيط»
11 - اللّقيط: هو الطّفل المنبوذ الّذي لا قدرة له على القيام بمصالح نفسه , وهو نفس محترمة في الشّرع الإسلاميّ تستحق الحفظ والرّعاية , ولهذا اتّفق الفقهاء على أنّ التقاطه فرض كفايةٍ إذا كان الواجدون له جماعةً , أمّا إذا كان الواجد فرداً واحداً وخاف عليه الهلاك إن تركه صار التقاطه فرض عينٍ ولا يحل له تركه.
«ج - عيادة المريض»
12 - المريض: هو الّذي أصيب بمرض يضعف جسمه ويؤثّر في نفسه , فيحتاج إلى من يواسيه ويطيّب نفسه ويقوم على خدمته وتمريضه , وقد اتّفق الفقهاء على مشروعيّة عيادة المريض لحديث: «حق المسلم على المسلم ستّ، قيل وما هي يا رسول اللّه؟ قال إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه».
وقد اختلف الفقهاء في حكم عيادة المريض:
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى أنّ عيادة المريض سنّة مستحبّة للحديث السّابق.
وذهب الإمام البخاري والحنابلة في قولٍ إلى أنّ العيادة واجبّة على الأعيان , لأنّها من حقوق المريض على المسلمين كما في الحديث السّابق.
وذهب الحنابلة في قولٍ إلى أنّها فرض كفايةٍ , قاله ابن مفلحٍ في الرّعاية الكبرى , وقال به ابن تيميّة وصوّبه.
«د - غسل الميّت وتكفينه والصّلاة عليه وتشييعه ودفنه»
13 - غسل الميّت غير الشّهيد واجب على الكفاية عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الّذي سقط عن بعيره فمات: «اغسلوه بماء وسدرٍ».
وأمّا تكفين الميّت غير الشّهيد ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الّذي سقط عن بعيره: «اغسلوه بماء وسدرٍ وكفّنوه في ثوبين ولا تمسوه طيباً ولا تخمّروا رأسه فإنّ اللّه يبعثه يوم القيامة ملبّياً».
وأمّا الصّلاة على الميّت ففرض كفايةٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والمشهور عند المالكيّة , لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا على من قال لا إله إلا اللّه».
وأمّا تشييع الجنازة ففرض كفايةٍ باتّفاق الفقهاء , لحديث: «حق المسلم على المسلم ستّ. . وإذا مات فاتبعه».الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 12642 - 12649)
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 624) رقم الفتوى 11280 معنى " طلب العلم فريضة على كل مسلم" وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1520) رقم الفتوى 71727 العلم المفروض تعلمه على كل مسلم.(1/258)
[لماذا شرعتِ الولاياتُ؟]
وَالْوِلَايَاتُ كُلُّهَا: الدِّينِيَّةُ - مِثْلَ إمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا دُونَهَا: مِنْ مُلْكٍ وَوِزَارَةٍ وَدِيوَانِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابَةَ خِطَابٍ أَوْ كِتَابَةَ حِسَابٍ لِمُسْتَخْرَجِ أَوْ مَصْرُوفٍ فِي أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَمِثْلَ إمَارَةِ حَرْبٍ وَقَضَاءٍ وَحِسْبَةٍ وَفُرُوعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ - إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ يَتَوَلَّى جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ، وَيُوَلِّي فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُ كَمَا وَلَّى عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص وَعَلَى قُرَى عرينة خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ العاص (1) وَبَعَثَ عَلِيًّا (2) وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى الْيَمَنِ (3).
وَكَذَلِكَ كَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا (4) وَيَبْعَثُ عَلَى الْأَمْوَالِ الزكوية السُّعَاةَ فَيَأْخُذُونَهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُونَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا (5) الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ (6) فَيَرْجِعُ السَّاعِي إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا السَّوْطُ لَا يَأْتِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَيْءِ إذَا وَجَدَ لَهَا مَوْضِعًا يَضَعُهَا فِيهِ.
__________
(1) - أَمَّا " أُمَرَاء الْبِلَاد " الَّتِي فُتِحَتْ فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمَّرَ عَلَى مَكَّة عَتَّاب بْن أَسِيدٍ، وَعَلَى الطَّائِف عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاء بْن الْحَضْرَمِيّ، وَعَلَى عُمَان عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَعَلَى نَجْرَان أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَأَمَّرَ عَلَى صَنْعَاءَ وَسَائِر جِبَال الْيَمَن بَاذِن ثُمَّ اِبْنه شَهْر وَفَيْرُوز وَالْمُهَاجِر بْن أَبِي أُمَيَّة وَأَبَان بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ وَأَمَّرَ عَلَى السَّوَاحِل أَبَا مُوسَى، وَعَلَى الْجُنْد وَمَا مَعَهَا مُعَاذ بْن جَبَل وَكَانَ كُلّ مِنْهُمَا يَقْضِي فِي عَمَله وَيَسِير فِيهِ، وَكَانَا رُبَّمَا اِلْتَقَيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّرَ أَيْضًا عَمْرو بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ عَلَى وَادِي الْقُرَى، وَيَزِيد بْن أَبِي سُفْيَان عَلَى تَيْمَاء، وَثُمَامَة بْن أَثَال عَلَى الْيَمَامَة = فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 311) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 25 / ص 562) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 337) والإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - (ج 1 / ص 100)
(2) - صحيح البخارى برقم (4349) عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ - رضى الله عنه -. بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ فَقَالَ مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ، مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ. فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَهُ، قَالَ فَغَنِمْتُ أَوَاقٍ ذَوَاتِ عَدَدٍ.
(3) - ففي صحيح البخارى برقم (4341 و 4342) عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلاَفٍ قَالَ وَالْيَمَنُ مِخْلاَفَانِ ثُمَّ قَالَ «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا». فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِى أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ مُعَاذٌ فِى أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِى مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَيَّمَ هَذَا قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ. قَالَ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. قَالَ إِنَّمَا جِىءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ. قَالَ مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قَالَ فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَ أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِى مِنَ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِى كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِى. =المخلاف: الإقليم =أتفوق: ألازم قراءته ليلا ونهارا
(4) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8972) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 337)
(5) - لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (103) سورة التوبة
(6) - قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة(1/259)
وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَوْفِي الْحِسَابَ عَلَى الْعُمَّالِ؛ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ وَالْمَصْرُوفِ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى. فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ - قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِى يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِى. فَهَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى بِشَىْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ».ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَىْ إِبْطَيْهِ «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلاَثًا (1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (7174)
(خُوَارٌ) صَوْتٌ، وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ.=الخوار: صوت البقرة = الرغاء: صوت الإبل = العفرة: بياض مشوب بالسمرة = تيعر: تصيح وتصوت صوتا شديدا
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 206)
وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ الْإِمَام يَخْطُب فِي الْأُمُور الْمُهِمَّة، وَاسْتِعْمَال " أَمَّا بَعْدُ " فِي الْخُطْبَة كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَة، وَمَشْرُوعِيَّة مُحَاسَبَة الْمُؤْتَمَن، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْث فِيهِ فِي الزَّكَاة، وَمَنْع الْعُمَّال مِنْ قَبُول الْهَدِيَّة مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ حُكْم وَتَقَدَّمَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي تَرْك الْحِيَل، وَمَحَلّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَأْذَن لَهُ الْإِمَام فِي ذَلِكَ، لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ رِوَايَة قَيْس بْن أَبِي حَازِم عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ " بَعَثَنِي رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَن فَقَالَ: لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي فَإِنَّهُ غُلُول " وَقَالَ الْمُهَلَّب: فِيهِ أَنَّهَا إِذَا أَخَذْت تَجْعَل فِي بَيْت الْمَال وَلَا يَخْتَصّ الْعَامّ مِنْهَا إِلَّا بِمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْإِمَام، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اِبْن اللُّتْبِيَّة أَخَذَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ وَهُوَ ظَاهِر السِّيَاق، وَلَا سِيَّمَا فِي رِوَايَة مَعْمَر قَبْلُ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ صَرِيحًا. وَنَحْوه قَوْل اِبْن قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " لَمَّا ذَكَرَ الرِّشْوَة: وَعَلَيْهِ رَدّهَا لِصَاحِبِهَا وَيَحْتَمِل أَنْ تُجْعَل فِي بَيْت الْمَال، لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمُر اِبْن اللُّتْبِيَّة بِرَدِّ الْهَدِيَّة الَّتِي أُهْدِيَتْ لَهُ لِمَنْ أَهْدَاهَا. وَقَالَ اِبْن بَطَّال: يَلْحَق بِهَدِيَّةِ الْعَامِل الْهَدِيَّة لِمَنْ لَهُ دَيْن مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْن، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُحَاسَب بِذَلِكَ مِنْ دَيْنه. وَفِيهِ إِبْطَال كُلّ طَرِيق يَتَوَصَّل بِهَا مَنْ يَأْخُذ الْمَال إِلَى مُحَابَاة الْمَأْخُوذ مِنْهُ وَالِانْفِرَاد بِالْمَأْخُوذِ. وَقَالَ اِبْن الْمُنِير: يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْت أَبِيهِ وَأُمّه " جَوَاز قَبُول الْهَدِيَّة مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيه قَبْلَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَادَة. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى مُتَأَوِّلًا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيل يَضُرّ مَنْ أَخَذَ بِهِ أَنْ يُشْهِر الْقَوْل لِلنَّاسِ وَيُبَيِّن خَطَأَهُ لِيَحْذَرَ مِنْ الِاغْتِرَار بِهِ. وَفِيهِ جَوَاز تَوْبِيخ الْمُخْطِئ، وَاسْتِعْمَال الْمَفْضُول فِي الْإِمَارَة وَالْإِمَامَة وَالْأَمَانَة مَعَ وُجُود مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ وَفِيهِ اِسْتِشْهَاد الرَّاوِي وَالنَّاقِل بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقهُ لِيَكُونَ أَوْقَع فِي نَفْس السَّامِع وَأَبْلَغ فِي طُمَأْنِينَته وَاَللَّه أَعْلَم
انظر فتاوى يسألونك - (ج 2 / ص 97) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5772) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2287) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 2288) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 101) ومجلة المنار - (ج 5 / ص 125) والذخيرة في الفقه المالكي للقرافي - (ج 9 / ص 189) والمهذب للشيرازي - (ج 5 / ص 370) والمجموع شرح المهذب - (ج 20 / ص 130) والأم للشافعي مشكل - (ج 5 / ص 13) وكفاية الأخيار - (ج 4 / ص 41) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 11 / ص 403) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 22 / ص 137) والمغني - (ج 23 / ص 26) والكافي في فقه ابن حنبل - (ج 7 / ص 169) والشرح الكبير - (ج 11 / ص 403) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 65).(1/260)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَتَى لَمْ يَقُمْ بِهَا غَيْرُ الْإِنْسَانِ صَارَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ غَيْرُهُ عَاجِزًا عَنْهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَى فِلَاحَةِ قَوْمٍ أَوْ نِسَاجَتِهِمْ أَوْ بِنَائِهِمْ صَارَ هَذَا الْعَمَلُ وَاجِبًا يُجْبِرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةِ عَنْ عِوَضِ الْمِثْلِ (1)، وَلَا يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ كَمَا إذَا احْتَاجَ الْجُنْدُ الْمُرْصِدُونَ لِلْجِهَادِ إلَى فِلَاحَةِ أَرْضِهِمْ أَلْزَمَ مَنْ صِنَاعَتُهُ الْفِلَاحَةُ بِأَنْ يَصْنَعَهَا لَهُمْ: فَإِنَّ الْجُنْدَ يُلْزَمُونَ بِأَنْ لَا يَظْلِمُوا الْفَلَّاحَ كَمَا أَلْزَمَ الْفَلَّاحَ أَنْ يُفْلِحَ لِلْجُنْدِ (2).
جوازُ المزارعَةِ (3)
وَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ (4)، وَهِيَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَيْهَا عَمَلُ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عُثْمَانَ وَآلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ، وَهِيَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه؛ وداود بْنِ عَلِيٍّ؛ وَالْبُخَارِيِّ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خزيمة؛ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؛ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ وَأَبِي يُوسُفَ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ (5).
__________
(1) - وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 836) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1009) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1707) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 404) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 32) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 338)
(2) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8583) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 32) والحسبة لابن تيمية - (ج 1 / ص 36)
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2015) رقم الفتوى 62403 حكم من دفع أرضأ لمن يزرعها والزرع على ما يتفقان عليه
تاريخ الفتوى: 15 ربيع الثاني 1426 وشرح معاني الآثار - (ج 5 / ص 106) والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 7 / ص 38) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 13 / ص 554) وشرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 392) وعون المعبود - (ج 7 / ص 389) وتحفة الأحوذي - (ج 4 / ص 14) وشرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 490) وتيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (ج 2 / ص 6) ومجموع الفتاوى - (ج 29 / ص 119) ومجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 103) ومجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 138)
(4) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2015)
(5) - اختلاف العلماء في المساقاة والمزارعة:
تقدم أن طائفة من العلماء يرون أن المساقاة والمزارعة جاءتا على خلاف الأصل والقياس، لهذا اختلف العلماء في حكمهما، مع ورود النص فيهما. فأما " المساقاة " فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق، أو بثمرة مجهولة، فهي راجعة إلى التصرف بالثمرة قبل بدو صلاحها أو راجعة إلى جهالة العوض، وكلاهما ممنوع.
فعمدته في رد النص فيها، مخالفتها للأصول.
وذهب الظاهرية، إلى أنها لا تجوز إلا في النخل خاصة، لورود الخبر فيها.
وذهب الشافعي إلى جوازها في النخل والكرم خاصة، لاشتراكهما في كثير من الأحكام، ومنها وجوب الزكاة فيهما خاصة من سائر الثمار وذلك عنده. =(1/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وهؤلاء تحرزوا من امتداد الحكم إلى سائر الشجر المقصود. المنتفع به، بناء منهم على أن هذا الحكم الثابت في هذا الخبر، إنما جاء على خلاف الأصل فلا يتعدى به محل النص.
وذهب الإمام " أحمد " إلى جوازها في كل ماله ثمر مأكول، بل ألحق كثير من أصحابه، ما له ورق أو زهر منتفع به مقصود.
وذهب " مالك " إلى جوازها في كل ما له أصل ثابت، فهي رخصة عنده عامة في كل ذلك.
والحق الذي لأشك فيه أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار، لأن الحديث ورد بالثمر، وهو عام في كل ثمر، ومن خصصه فعليه الدليل، ولأن هذين العقدين من عقود المشاركة التي جاءت على الأصل المقيس، فهي معلومة العمل والجزاء عليه.
وتقدم أن رد النصوص الصحيحة بدعوى مخالفتها للأصول، دعوى باطلة لأن الحديث هو الأصل في الأحكام، فكيف يمكن لأحد يعظم نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبيح لنفسه رد كلامه لأصل يدعيه، وهذا عمله وعمل خلفائه من بعده، لم ينسخ ولم يغير حكم الله فيه؟!.
واختلفوا في " المزارعة " فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى عدم جوازها.
ودليلهم على ذلك. أحاديث رويت عن رافع بن خديج.
منها كنا نخابر علي عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنفع.
قال: قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى].
وعن ابن عمر قال: [ما كنا نرى بالمزارعة بأسا، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها] متفق عليما.
ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات والجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا، ولذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.
وكذلك صح عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزُرِعْها أخاه].
وما روى أحمد ومسلم عن جابر أيضاً قال: [كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من القِصرى ومن كذا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها].
فهذه الأحاديث هي حجة الذين يذهبون إلى عدم جواز المزارعة، ويرون أنها محرمة باطلة.
وهذه الأحاديث تؤيد أصلهم الذي استندوا عليه في الحرمة، وهو أن المزارعة من نوع الإجارة، والإجارة لابد أن يكون الأجر فيها معلوما، لأنها كالثمن، والمزارعة عوضها مجهول، فتحرم ولا تصح.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى جوازها وأنها من العقود الصحيحة الثابتة.
وسبق الإمام أحمد إلى القول بجوازها، طائفةْ من الصحابة، عملوا بها.
منهم على بن أبي طالب، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم.
كما سبقه طائفة كبيرة من أئمة التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز، والقاسم ابن محمد، وعروة بن الزبير، وابن سرين، وسعيد بن المسيب، وطاوس، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. كما وافق الإمام فقهاء المحدثين، ومنهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، وأبو داود.
ومن المحدثين المتأخرين، ابن المنذر، وابن خزيمة، وابن سريج، والخطابي، كما ذهب إلى هذا القول من ذوى المذاهب المستقلة، الظاهرية، وأصحاب أبى حنيفة. قال النووي: وهو الراجح المختار. والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار جارون على العمل بالمزارعة. وقد صنف ابن خزيمة كتابا في جواز المزارعة وأجاد.
وتابع الإمام أحمد على جوازها، فقهاءُ الحنابلة، المحققون منهم والمقلدون.
وتمسك هؤلاء بمعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليهود خيبر، فإنها قضية مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل.
ولذا فقد استمرت هذه المعاملة منذ عقدت، حتى أجلاهم عمر عن خيبر في خلافته، وبهذا يتحقق أنها لم تنسخ ولم تبدل.
أما أحاديث رافع بن خَديج، التي استدل بها المانعون، فقد تكلم فيها العلماء، وذلك لاضطرابها وتلونها فإنه تارة يروى المنع عن عمومته، وتارة أخرى عن رافع بن ظهير، وثالثة عن سماعه هو ثم يروى النهى عن [كراء الأرض].
وحينا [ينهى عن الجعل]. ورابعة [عن الثلث والربع والطعام المسمى]
وبهذا حصل الاضطراب، وشك فيها، حتى قال الإمام أحمد. [حديث رافع، ألوان وضروب]، وقد أنكره الصحابة، ولم يعلم به عبد الله بن عمر، إلا في خلافة معاوية.
فكيف مثل هذا الحكم يخفى عليهم وهم يتعاطونه؟!.
وعلى فرض انسجامها وصحة الأخذ بها، فقد أجاب العلماء عنها، وعن حديث جابر بأجوبة مقنعة.
وأحسنها الجمع بينها وبين أحاديث خيبر، وذلك بأن تحمل أحاديث النهي عن المزارعة، على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة، وصار فيها شبه من الميسر والمغالبات.
وهو حمل وجيه، بل قد صرح بذلك في بعض طرق أحاديثه.
ولهذا قال شمس الدين " ابن القيم ": [إن من تأمل حديث رافع بن خديج وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسرها، ومطلقها على مقيدها، علم أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال [كنا نكرى الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه].
وفي لفظ له [كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع].
وقوله: [ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه. أما بشيء معلوم مضمون، فلا باًس] وهذا من أبين ما في حديث رافع وأصحه وما فيه من مجمل أو مطلق أو مختصر، فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظاْ وحكماً، ا. هـ كلام " ابن القيم " رحمه الله تعالى. وقال الليث بن سعد: " الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، لما فيه من المخاطرة ".وقال ابن المنذر: قد جاءت أخبار رافع بعلل تدل على أن النهى كان لتلك العلل.
قال الخطابي: إنما صار هؤلاء (أبو حنيفة ومالك والشافعي) إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليها أحمد.
ثم قال الخطابي أيضاً: فالمزارعة على النصف والثلث والربع، وعلى ما تراضى عليه الشريكان جائزة، إذا كانت الحصص معلومة، والشروط الفاسدة معدومة. وهى عمل المسلمين في بلدان الإسلام وأقطار الأرض، شرقها وغربها، لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها.
ثم قال الخطابي رحمه الله عن حديث رافع في الإجارة بالماذيانات وأقبال الجداول قال: فقد أعلمك رافع في هذا الحديث: أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقى والجداول، فيكون خاصاً لرب المال.
والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة وقد يسلم ما على السواقى ويهلك سائر الزرع، فيبقى المزارع لا شيء له، وهذا غرر وخطر.
وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة، فسدت المضاربة، وهذا وذاك مواء.
وأصل المضاربة في السنة المزارعة والمساقاة، فكيف يجوز أن يصح الفرع، ويبطل الأصل؟! ا. هـ. كلام الخطابي قدس الله روحه. وهو توجيه جليل، بلفظ قليل. وقال شيخ الإسلام والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض منها زرع مكان بعينه. والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد؛ فقد بين أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء إذا نظر فيه ذو بصيرة بالحلال والحرام علم أنه حرام.
وبهذا تبين أن المزارعة والمساقاة، عقدان صحيحان جائزان، وأن القول بجوازهما هو مذهب جمهور الأمة، سلفا وخلفا، وأنه عمل المسلمين، قديماً وحديثاً. شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 491) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 339).(1/262)
وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَالَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ حَتَّى مَاتَ (1)،وَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْ خَيْبَرَ (2) وَكَانَ قَدْ شارطهم أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ الْبَذْرُ
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4044) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 392)
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز الْمُسَاقَاة، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، وَجَمِيع فُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ، وَأَهْل الظَّاهِر، وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز، وَتَأَوَّلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّ خَيْبَر فُتِحَتْ عَنْوَة، وَكَانَ أَهْلهَا عَبِيدًا لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -،فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ، وَمَا تَرَكَهُ فَهُوَ لَهُ
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - " أُقِرّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّه " وَهَذَا حَدِيث صَرِيح فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَبِيدًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي خَيْبَر هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَة، أَوْ صُلْحًا، أَوْ بِجَلَاءِ أَهْلهَا عَنْهَا بِغَيْرِ قِتَال، أَوْ بَعْضهَا صُلْحًا، وَبَعْضهَا عَنْوَة، وَبَعْضهَا جَلَا عَنْهُ أَهْله، أَوْ بَعْضهَا صُلْحًا، وَبَعْضهَا عَنْوَة؟ قَالَ: وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَال، وَهِيَ رِوَايَة مَالِك وَمَنْ تَابَعَهُ، وَبِهِ قَالَ اِبْن عُيَيْنَةَ. قَالَ: وَفِي كُلّ قَوْل أَثَر مَرْوِيّ. وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَر أَرَادَ إِخْرَاج الْيَهُود مِنْهَا، وَكَانَتْ الْأَرْض حِين ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَدُلّ لِمَنْ قَالَ عَنْوَة إِذْ حَقّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَنْوَة، وَظَاهِر قَوْل مَنْ قَالَ صُلْحًا أَنَّهُمْ صُولِحُوا عَلَى كَوْن الْأَرْض لِلْمُسْلِمِينَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوز عَلَيْهِ الْمُسَاقَاة مِنْ الْأَشْجَار، فَقَالَ دَاوُدَ: يَجُوز عَلَى النَّخْل خَاصَّة، وَقَالَ الشَّافِعِيّ: عَلَى النَّخْل وَالْعِنَب خَاصَّة، وَقَالَ مَالِك: تَجُوز عَلَى جَمِيع الْأَشْجَار، وَهُوَ قَوْل لِلشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا دَاوُدَ فَرَآهَا رُخْصَة فَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيّ فَوَافَقَ دَاوُدَ فِي كَوْنهَا رُخْصَة، لَكِنْ قَالَ: حُكْم الْعِنَب حُكْم النَّخْل فِي مُعْظَم الْأَبْوَاب. وَأَمَّا مَالِك فَقَالَ: سَبَب الْجَوَاز الْحَاجَة وَالْمَصْلَحَة. وَهَذَا يَشْمَل الْجَمِيع فَيُقَاسَ عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (بِشَطْرِ مَا يَخْرُج مِنْهَا) فِي بَيَان الْجُزْء الْمُسَاقِي عَلَيْهِ مِنْ نِصْف أَوْ رُبُع أَوْ غَيْرهمَا مِنْ الْأَجْزَاء الْمَعْلُومَة، فَلَا يَجُوز عَلَى مَجْهُول كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْض الثَّمَر. وَاتَّفَقَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْمُسَاقَاةِ عَلَى جَوَازهَا بِمَا اِتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيل أَوْ كَثِير.
قَوْله: (مِنْ ثَمَر أَوْ زَرْع) يَحْتَجّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي جَوَاز الْمُزَارَعَة تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَة عِنْدهمْ لَا تَجُوز مُنْفَرِدَة، فَتَجُوز تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَيُسَاقِيه عَلَى النَّخْل، وَيُزَارِعهُ عَلَى الْأَرْض كَمَا جَرَى فِي خَيْبَر. وَقَالَ مَالِك: لَا تَجُوز الْمُزَارَعَة لَا مُنْفَرِدَة وَلَا تَبَعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَرْض بَيْن الشَّجَر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَزُفَر: الْمُزَارَعَة وَالْمُسَاقَاة فَاسِدَتَانِ سَوَاء جَمَعَهُمَا أَوْ فَرَّقَهُمَا. وَلَوْ عُقِدَتَا فَسَخَتَا. وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُف، وَمُحَمَّد، وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ، وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ، وَأَحْمَد، وَابْن خُزَيْمَةَ، وَابْن شُرَيْح وَآخَرُونَ: تَجُوز الْمُسَاقَاة وَالْمُزَارَعَة مُجْتَمِعَتَيْنِ، وَتَجُوز كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْمُخْتَار لِحَدِيثِ خَيْبَر. وَلَا يُقْبَل دَعْوَى كَوْن الْمُزَارَعَة فِي خَيْبَر إِنَّمَا جَازَتْ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، بَلْ جَازَتْ مُسْتَقِلَّة، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّز لِلْمُسَاقَاةِ مَوْجُود فِي الْمُزَارَعَة قِيَاسًا عَلَى الْقِرَاض؛ فَإِنَّهُ جَائِز بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي كُلّ شَيْء، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَالْأَعْصَار مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْعَمَل بِالْمُزَارَعَةِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي النَّهْي عَنْ الْمُخَابَرَة فَسَبَقَ الْجَوَاب عَنْهَا، وَأَنَّهَا مَحْمُولَة عَلَى مَا إِذَا شَرَطَا لِكُلِّ وَاحِد قِطْعَة مُعَيَّنَة مِنْ الْأَرْض. وَقَدْ صَنَّفَ اِبْن خُزَيْمَةَ كِتَابًا فِي جَوَاز الْمُزَارَعَة، وَاسْتَقْصَى فِيهِ وَأَجَادَ، وَأَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيث بِالنَّهْيِ. وَاَللَّه أَعْلَم
(2) - ففي صحيح مسلم برقم (4049) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظُهِرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا». فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ.(1/263)
مِنْهُمْ لَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْبَذْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ (1)؛ بَلْ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: لَا يَكُونُ الْبَذْرُ إلَّا مِنْ الْعَامِلِ (2).
وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُخَابَرَةِ (3) وَكِرَاءِ الْأَرْضِ (4) قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2015) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 5 / ص 588) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 339)
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2015) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 339)
(3) - صحيح البخارى برقم (2381) و صحيح مسلم برقم (3991) عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَعَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَأَنْ لاَ تُبَاعَ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِلاَّ الْعَرَايَا.
قَالَ عَطَاءٌ فَسَّرَ لَنَا جَابِرٌ قَالَ أَمَّا الْمُخَابَرَةُ فَالأَرْضُ الْبَيْضَاءُ يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيُنْفِقُ فِيهَا ثُمَّ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَرِ. وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ فِى النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً. وَالْمُحَاقَلَةُ فِى الزَّرْعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ يَبِيعُ الزَّرْعَ الْقَائِمَ بِالْحَبِّ كَيْلاً.
(4) - صحيح البخارى برقم (2345) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنْتُ أَعْلَمُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الأَرْضَ تُكْرَى. ثُمَّ خَشِىَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَحْدَثَ فِى ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ
وفي صحيح مسلم برقم (3996) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ وَعَنْ بَيْعِهَا السِّنِينَ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ.
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 368)
وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَرْض إِلَى مَنْ يَزْرَعهَا بِبَذْرٍ مِنْ عِنْده عَلَى أَنْ يَكُون لِمَالِك الْأَرْض مَا يَنْبُت عَلَى الْمَاذِيَانَات وَأَقْبَال الْجَدَاوِل، أَوْ هَذِهِ الْقِطْعَة وَالْبَاقِي لِلْعَامِلِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَر فَرُبَّمَا هَلَكَ هَذَا دُون ذَاكَ وَعَكْسه.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كِرَاء الْأَرْض فَقَالَ طَاوُس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ: لَا يَجُوز بِكُلِّ حَال سَوَاء أَكْرَاهَا بِطَعَامٍ أَوْ ذَهَب أَوْ فِضَّة أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ زَرْعهَا لِإِطْلَاقِ حَدِيث النَّهْي عَنْ كِرَاء الْأَرْض. وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَكَثِيرُونَ: تَجُوز إِجَارَتهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة وَبِالطَّعَامِ وَالثِّيَاب وَسَائِر الْأَشْيَاء سَوَاء كَانَ مِنْ جِنْس مَا يَزْرَع فِيهَا أَمْ مِنْ غَيْره وَلَكِنْ لَا تَجُوز إِجَارَتهَا بِجُزْءِ مَا يَخْرُج مِنْهَا كَالثُّلُثِ وَالرُّبُع وَهِيَ الْمُخَابَرَة. وَلَا يَجُوز أَيْضًا أَنْ يُشْتَرَط لَهُ زَرْع قِطْعَة مُعَيَّنَة وَقَالَ رَبِيعَة: يَجُوز بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة فَقَطْ، وَقَالَ مَالِك: يَجُوز بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة وَغَيْرهمَا إِلَّا الطَّعَام، وَقَالَ أَحْمَد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَجَمَاعَة مِنْ الْمَالِكِيَّة وَآخَرُونَ: تَجُوز إِجَارَتهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة وَتَجُوز الْمُزَارَعَة بِالثُّلُثِ وَالرُّبُع وَغَيْرهمَا، وَبِهَذَا قَالَ اِبْن شُرَيْح وَابْن خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيّ وَغَيْرهمْ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابنَا وَهُوَ الرَّاجِح الْمُخْتَار وَسَنُوَضِّحُهُ فِي بَاب الْمُسَاقَاة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
فَأَمَّا طَاوُس وَالْحَسَن فَقَدْ ذَكَرْنَا حُجَّتهمَا، وَأَمَّا الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ فَاعْتَمَدُوا بِصَرِيحِ رِوَايَة رَافِع بْن خَدِيج وَثَابِت بْن الضَّحَّاك السَّابِقَيْنِ فِي جَوَاز الْإِجَارَة بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة وَنَحْوهمَا، وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيث النَّهْي تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا حَمْلهَا عَلَى إِجَارَتهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَات أَوْ بِزَرْعِ قِطْعَة مُعَيَّنَة أَوْ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُع وَنَحْو ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ الرُّوَاة فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ وَالثَّانِي حَمْلهَا عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه وَالْإِرْشَاد إِلَى إِعَارَتهَا كَمَا نَهَى عَنْ بَيْع الْغَرَر نَهْي تَنْزِيه بَلْ يَتَوَاهَبُونَهُ وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ لَا بُدّ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَحَدهمَا لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَحَادِيث. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيل الثَّانِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره وَمَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَاَللَّه أَعْلَم.(1/264)
الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ (1)؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ؛ وَالْمُشَارَكَةُ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءٌ شَائِعٌ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فَإِذَا جُعِلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا؛ بَلْ كَانَ ظُلْمًا (2).
__________
(1) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 119)
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:عَنْ رَجُلٍ سَلَّمَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهَا وَيَكُونَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَذْرُ مِنْ الزَّارِعِ؛ لَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً؟ أَوْ لَا يَجُوزُ؟.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا جَائِزٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا: مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ. عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَهَذِهِ مُشَاطَرَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ: مِثْلَ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا ذَلِكَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ ضَعِيفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِثْلُ الْمُؤَاجَرَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمُؤَاجَرَةِ؛ فَإِنَّ الْمُؤَاجَرَةَ يُقْصَدُ مِنْهَا عَمَلُ الْعَامِلِ وَيَكُونُ الْعَمَلُ مَعْلُومًا؛ بَلْ يَشْتَرِكَانِ هَذَا بِمَنْفَعَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا بِمَنْفَعَةِ بَدَنِهِ وَبَقَرِهِ كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ. وَأَمَّا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُخَابَرَةِ فَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَلِهَذَا نَهَى عَنْهَا. وَمَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُضَارَبَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ مِنْ الْآخَرِ وَظَنَّ أَنَّ الْبَذْرَ يَكُونُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَكِلَاهُمَا مَالٌ. وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَعُودُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْأَرْضُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْأَرْضُ وَالشَّجَرُ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَالْعَامِلُ إذَا بَذَرَ الْبَذْرَ وَأَمَاتَهُ فَلَمْ يَأْخُذْ مِثْلَهُ صَارَ الْبَذْرُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُرْجَعُ بِمِثْلِهَا وَمَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ وَلَا يَعُودُ فِيهِ فَقَوْلُهُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَرَأْسِ الْمَالِ لَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَظِيرِهِ كَمَا يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ
وانظر إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 26) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 340)
(2) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 340)(1/265)
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ مِنْ بَابِ الْإِجَارَاتِ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ؛ فَقَالُوا: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ الْمُسَاقَاةَ وَالزِّرَاعَةَ وَأَبَاحَ الْمُضَارَبَةَ اسْتِحْبَابًا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسَاقَاةَ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ. أَوْ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ كَالْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَأَبَاحُوا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ؛ فَأَبَاحُوا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَغْلَبَ. أَوْ قَدَّرُوا ذَلِكَ بِالثُّلُثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَقَالُوا: هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا الْعَمَلُ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَحْصُلُ مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ؛ وَهُمَا مُتَشَارِكَانِ: هَذَا بِبَدَنِهِ وَهَذَا بِمَالِهِ كَالْمُضَارَبَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ إذَا فَسَدَتْ وَجَبَ نَصِيبُ الْمِثْلِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَيَجِبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ النَّمَاءِ إمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا نِصْفُهُ؛ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ وَلَا يَجِبُ أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَسْتَغْرِقُ الْمَالَ وَأَضْعَافَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ مِنْ الْعُقُودِ نَظِيرَ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ، وَالْوَاجِبُ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ هُوَ أُجْرَةً مُسَمَّاةً؛ بَلْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ الرِّبْحِ مُسَمًّى فَيَجِبُ فِي الْفَاسِدَةِ نَظِيرُ ذَلِكَ وَالْمُزَارَعَةُ أَصْلٌ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْأُصُولِ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ؛ بِخِلَافِ الْمُؤَاجَرَةِ (1) فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ تُسَلَّمُ لَهُ الْأُجْرَةُ
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4038) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الْمُزَارَعَةِ فَقَالَ زَعَمَ ثَابِتٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ «لاَ بَأْسَ بِهَا».
وفي شرح بلوغ المرام - (ج 220 / ص 16)
أما قوله: (نهى عن المزارعة)، فهذا مما تقدم الكلام عليه، وحمل هذا على أنهم كانوا في أول الأمر يزارعون ما لا يستطيعون القيام بزرعه، فيقولون؛ جمعاً بين المزارعة في خيبر والمساقاة: كان المراد بذاك النهي الإرفاق: (من كانت عنده أرض فليَزرعها أو يُزرعها غيره)، لديك أرض زائدة عنك، وعاجز عن زراعتها، أعطها لغيرك يزرعها، وكان ذلك في بادئ الأمر عند مجيء المهاجرين إلى المدينة، فكان فيه حث على مشاركة المهاجرين لمن عنده أرض عاجز عن زراعتها يقول له: أعطها له يزرعها، من باب المواساة، ثم بعد ذلك لما وسع الله على المسلمين أصبحت المزارعة والمؤاجرة والمساقاة سواء.
وفي سبل السلام - (ج 4 / ص 316)
وَفِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِهَا بِوُجُوهٍ أَحْسَنُهَا أَنَّ النَّهْيَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَكَوْنِ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَرْضٌ فَأَمَرَ الْأَنْصَارَ بِالتَّكَرُّمِ بِالْمُوَاسَاةِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: {كَانَ لِرِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فُضُولُ أَرْضٍ وَكَانُوا يُكْرُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْهَا} وَهَذَا كَمَا نُهُوا عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأُضْحِيَّةِ لِيَتَصَدَّقُوا بِذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ تَوَسُّعِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ زَالَ الِاحْتِيَاجُ فَأُبِيحَ لَهُمْ الْمُزَارَعَةُ وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ إجَارَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فِي عَهْدِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَهْدِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَمِنْ الْبَعِيدِ غَفْلَتُهُمْ عَنْ النَّهْيِ وَتَرْكِ إشَاعَةِ رَافِعٍ لَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَذِكْرِهِ فِي آخَرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ عَقَلَ الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الْمُزَارَعَةِ بِشَطْرِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يَتَمَانَحُوا وَأَنْ يَرْفُقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ انْتَهَى.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعٍ أَنَا وَاَللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ اخْتَلَفَا فَقَالَ إنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ " كَأَنَّ زَيْدًا يَقُولُ إنَّ رَافِعًا اقْتَطَعَ الْحَدِيثَ فَرَوَى النَّهْيَ غَيْرَ رَاوٍ أَوَّلَهُ فَأَخَلَّ بِالْمَقْصُودِ، وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ عَنْ جَهَالَةِ الْأُجْرَةِ فَقَدْ صَحَّ فِي الْمُرْضِعَةِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مَعَ الْجَهَالَةِ قَدْرًا وَلِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ جُمْلَةً لِأَنَّ الْغَالِبَ تَقَارُبُ حَالِ الْحَاصِلِ وَقَدْ حُدَّ بِجِهَةِ الْكَمِّيَّةِ أَعْنِي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ، وَجَاءَ النَّصُّ فَقَطَعَ التَّكَلُّفَاتِ
المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 3446) وشرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 18 / ص 204) وأسنى المطالب - (ج 12 / ص 73) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 24 / ص 257) والقواعد النورانية الفقهية - الرقمية - (ج 1 / ص 163)(1/266)
وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ زَرْعٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ هَذَا؛ وَجَوَازِ هَذَا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُمَا.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ مُقْطَعَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ مُقْطَعَةً
وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - لَا أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ وَلَا غَيْرَهُمْ - قَالَ: إنَّ إجَارَةَ الْإِقْطَاعِ لَا تَجُوزُ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُؤَجِّرُونَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلَى زَمَنِنَا هَذَا؛ لَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ زَمَانِنَا ابْتَدَعُوا هَذَا الْقَوْلَ؛ قَالُوا: لِأَنَّ الْمُقْطَعَ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ؛ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَعِيرِ إذَا أَكْرَى الْأَرْضَ الْمُعَارَةَ وَهَذَا الْقِيَاسُ خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ حَقًّا لَهُ؛ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ لَهُ الْمُعِيرُ بِهَا وَأَمَّا أَرَاضِي الْمُسْلِمِينَ فَمَنْفَعَتُهَا حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ قَاسِمٌ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ حُقُوقَهُمْ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا لَهُمْ كَالْمُعِيرِ وَالْمَقْطَعُ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ وَأَوْلَى، وَإِذَا جَازَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَمُوتَ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: فَلَأَنْ يَجُوزُ لِلْمُقْطِعِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْإِقْطَاعَ وَإِنْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُعِيرَ لَوْ أَذِنَ فِي الْإِجَارَةِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ: مِثْلَ الْإِجَارَةِ فِي الْإِقْطَاعِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَأْذَنُ لِلْمُقْطَعِينَ فِي الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا أَقْطَعَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا: إمَّا بِالْمُزَارَعَةِ وَإِمَّا بِالْإِجَارَةِ وَمَنْ حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَإِنَّ الْمَسَاكِنَ كَالْحَوَانِيتِ وَالدُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُقْطَعُ إلَّا بِالْإِجَارَةِ (1).
__________
(1) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 342)(1/267)
وَأَمَّا الْمَزَارِعُ وَالْبَسَاتِينُ فَيَنْتَفِعُ بِهَا بِالْإِجَارَةِ وَبِالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ وَالْمُرَابَعَةُ نَوْعٌ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا إذَا اسْتَكْرَى بِإِجَارَةِ مُقَدَّرَةٍ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ فِيهَا وَهَذَا لَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ.
لِأَنَّهُ قَدْ يَخْسَرُ مَالَهُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ؛ بِخِلَافِ الْمُشَارَكَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ؛ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ (1). فَلِهَذَا تَخْتَارُهُ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ (2). وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.
__________
(1) - وفي إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 24)
[شُبْهَةُ مَنْ ظَنَّ خِلَافَ الْقِيَاسِ وَرَدُّهَا] فَاَلَّذِينَ قَالُوا:" الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضٍ، وَالْإِجَارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضُ، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَمَلَ وَالرِّبْحَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ قَالُوا: هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ، لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَالْمُشَارَكَاتُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُقَاسَمَةُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا بَيْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الْبَيْعِ الْخَاصِّ.
وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْعَمَلُ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]:أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ اللَّازِمَةُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ أَوْ غَرَرٌ، فَهَذِهِ الْجَعَالَةُ، وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَإِذَا قَالَ " مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ مِائَةٌ " فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ مَكَان قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً، لَكِنْ هِيَ جَائِزَةٌ، فَإِنْ عَمِلَ الْعَمَلَ اسْتَحَقَّ الْجَعْلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَعْلُ فِيهَا إذَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ جُزْءًا شَائِعًا وَمَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، كَقَوْلِ أَمِيرِ الْغَزْوِ " مَنْ دَلَّ عَلَى حِصْنٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِيهِ " أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ الَّتِي يَسِيرُ بِهَا: " لَكُمْ خُمُسُ مَا تَغْنَمُونَ أَوْ رُبْعُهُ "
وَتَنَازَعُوا فِي السَّلَبِ: هَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى الشِّفَاءِ جَازَ، كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَطِيعَ مِنْ الشَّاءِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَرَقَاهُ أَحَدُهُمْ حَتَّى بَرِئَ، وَالْجُعْلُ كَانَ عَلَى الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبِيبًا إجَارَةً لَازِمَةً عَلَى الشِّفَاءِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، فَقَدْ يَشْفِيهِ اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الْجَعَالَةُ، دُونَ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ.
فَصْلٌ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَهُوَ: مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعَمَلُ، بَلْ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْمَالُ، وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي نَفْسِ عَمَلِ الْعَامِلِ كَالْمُجَاعِلِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ قَصْدٌ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلِهَذَا لَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ وَلَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ سَمَّى هَذَا جَعَالَةً بِجُزْءٍ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ كَانَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، بَلْ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ: هَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ، وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ، وَمَا قَسَمَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحٍ مُقَدَّرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ مَا نَبَتَ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرٌ لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصِيرَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّ مَبْنَى الْمُشَارَكَاتِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحٍ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَإِنْ حَصَلَ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْمَغْرَمِ، وَذَهَبَ نَفْعُ بَدَنِ هَذَا كَمَا ذَهَبَ نَفْعُ مَالِ هَذَا، وَلِهَذَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ الْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ بِرِبْحِ الْمِثْلِ، فَيُعْطَى الْعَامِلُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يُعْطَاهُ مِثْلُهُ إمَّا نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ.
فَأَمَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا مُقَدَّرًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَمَا يُعْطَى فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ فَهَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ فَأَعْطَاهُ فِي فَاسِدِهَا عِوَضَ الْمِثْلِ كَمَا يُعْطِيهِ فِي الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى، وَمِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَامِلَ قَدْ يَعْمَلُ عَشْرَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أُعْطِيَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أُعْطِيَ أَضْعَافَ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ، فَكَيْفَ =(1/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدَةِ أَضْعَافَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الصَّحِيحَةِ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ظَنُّوا أَنَّهُمَا إجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ فَأَبْطَلُوهُمَا، وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَ مِنْهُمَا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ إجَارَتِهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إجَارَتُهَا، وَجَوَّزُوا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بُطْلَانُ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ.
وَمَنْ أَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْغَرَرِ مِنْ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَمَقْصُودُهُ مِنْ الزَّرْعِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَانَ فِي هَذَا حُصُولُ أَحَدِ الْمُعَاوِضَيْنِ عَلَى مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَأَحَدُهُمَا غَانِمٌ وَلَا بُدَّ، وَالْآخَرُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَإِنْ حَصَلَ الزَّرْعُ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْغَرَرِ مِنْ الْإِجَارَةِ.
[الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ الْعَدْلُ] وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، قَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وَالشَّارِعُ نَهَى عَنْ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَعَنْ الْمَيْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِتَحْرِيمِ هَذَا وَهَذَا، وَكِلَاهُمَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُعَامَلَاتِ - كَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَبَيْعِ السِّنِينَ، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةِ، وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعِ الْحَصَاةِ، وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - هِيَ دَاخِلَةٌ إمَّا فِي الرِّبَا وَإِمَّا فِي الْمَيْسِرِ، فَالْإِجَارَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلُ أَنْ يُكْرِيَهُ الدَّارَ بِمَا يَكْسِبُهُ الْمُكْتَرِي فِي حَانُوتِهِ مِنْ الْمَالِ هُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ.
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَيْسِرِ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَمِ الْعَدْلِ، وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُزَارِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ عَامَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَالُوا: الْمُضَارَبَةُ فِيهَا الْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ فِيهَا مِنْ مَالِكِ الْأَرْضِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ، فَهَذَا نَظِيرُ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ.
وَأَمَّا الْبَذْرُ الَّذِي لَا يَعُودُ نَظِيرُهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ كَمَا يَذْهَبُ نَفْعُ الْأَرْضِ فَإِلْحَاقُهُ بِالنَّفْعِ الذَّاهِبِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ الْبَاقِي، فَالْعَامِلُ إذَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ ذَهَبَ عَمَلُهُ وَبَذْرُهُ، وَرَبُّ الْأَرْضِ يَذْهَبُ نَفْعُ أَرْضِهِ، وَبَدَنُ هَذَا كَأَرْضِ هَذَا، فَمَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ كَالْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ مِثْلَ هَذَا الْبَذْرِ إلَى صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَكَيْفَ وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الْبَذْرِ عَوْدَ نَظِيرِهِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ؟.
(2) - وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 327)
وَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَيْهَا عَمَلُ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عُثْمَانَ وَآلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ وَهِيَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه؛ وداود بْنِ عَلِيٍّ؛ وَالْبُخَارِيِّ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خزيمة؛ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؛ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ وَأَبِي يُوسُفَ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَالَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْ خَيْبَرَ وَكَانَ قَدْ شارطهم أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَكَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمْ لَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْبَذْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ؛ بَلْ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: لَا يَكُونُ الْبَذْرُ إلَّا مِنْ الْعَامِلِ. وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُخَابَرَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ؛ وَالْمُشَارَكَةُ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءٌ شَائِعٌ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فَإِذَا جُعِلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا؛ بَلْ كَانَ ظُلْمًا. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ مِنْ بَابِ الْإِجَارَاتِ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ؛ فَقَالُوا: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ الْمُسَاقَاةَ وَالزِّرَاعَةَ وَأَبَاحَ الْمُضَارَبَةَ اسْتِحْبَابًا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسَاقَاةَ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ. أَوْ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ كَالْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَأَبَاحُوا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ؛ فَأَبَاحُوا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَغْلَبَ. أَوْ قَدَّرُوا ذَلِكَ بِالثُّلُثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَقَالُوا: هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا الْعَمَلُ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَحْصُلُ مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ؛ وَهُمَا مُتَشَارِكَانِ: هَذَا بِبَدَنِهِ وَهَذَا بِمَالِهِ كَالْمُضَارَبَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ إذَا فَسَدَتْ وَجَبَ نَصِيبُ الْمِثْلِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَيَجِبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ النَّمَاءِ إمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا نِصْفُهُ؛ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ وَلَا يَجِبُ أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَسْتَغْرِقُ الْمَالَ وَأَضْعَافَهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ مِنْ الْعُقُودِ نَظِيرَ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ وَالْوَاجِبُ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ هُوَ أُجْرَةً مُسَمَّاةً؛ بَلْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ الرِّبْحِ مُسَمًّى فَيَجِبُ فِي الْفَاسِدَةِ نَظِيرُ ذَلِكَ وَالْمُزَارَعَةُ أَصْلٌ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْأُصُولِ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ؛ بِخِلَافِ الْمُؤَاجَرَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ تُسَلَّمُ لَهُ الْأُجْرَةُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ زَرْعٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ هَذَا؛ وَجَوَازِ هَذَا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُمَا.
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 287)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ إقْطَاعٌ مِنْ السُّلْطَانِ فَزَرَعَهَا لِفَلَّاحِ مُشَاطِرَةً: هَلْ يَجُوزُ الْإِشْهَادُ بَيْنَهُمَا؟ أَوْ أَنَّ بَعْضَ الْعُدُولِ امْتَنَعَ مِنْ الْإِشْهَادِ بَيْنَهُمَا. وَهَلْ إذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْفَلَّاحِ. مِثْلَ دَجَاجٍ أَوْ خِرَاقٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ سَائِر الْأَصْنَافِ مَعَ رِضَا الْفَلَّاحِ بِذَلِكَ. هَلْ يَجُوزُ؟ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. دَفْعُ الْأَرْضِ الْمِلْكِ وَالْإِقْطَاعِ أَوْ غَيْرِهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا بِشَطْرِ الزَّرْعِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ الْمَقْطُوعَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ. وَالرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا نَهَى عَمَّا إذَا اشْتَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا؛ بَلْ قَدْ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ؛ بَلْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ أَحَلُّ مِنْ دَفْعِ الْأَرْضِ بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْإِجَارَةُ أَقْرَبُ إلَى الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجِّرَ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ وَالْمُسْتَأْجِرَ لَا يَدْرِي: هَلْ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْمُشَاطَرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ إنْ أَنْبَتَ اللَّهُ زَرْعًا كَانَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ كَانَ عَلَيْهِمَا وَمَنْفَعَةُ أَرْضٍ هَذَا كَمَنْفَعَةِ بَذْرٍ هَذَا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُشَاطَرَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ لَا دَجَاجَ وَلَا غَيْرَهُ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ لَا يُجِيزُهَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا جَرَى؛ لَا سِيَّمَا وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى تَجْوِيزِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.(1/269)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ إنْ أَجْبَرَ أَهْلَ الصِّنَاعَاتِ عَلَى مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتِهِمْ كَالْفِلَاحَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ؛ فَلَا يُمَكِّنُ الْمُسْتَعْمِلَ مِنْ نَقْصِ أُجْرَةِ الصَّانِعِ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكِّنُ الصَّانِعَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ؛ وَهَذَا مِنْ التَّسْعِيرِ الْوَاجِبِ.
وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى مَنْ يَصْنَعُ لَهُمْ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْ سِلَاحٍ وَجِسْرٍ لِلْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُسْتَعْمَلُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا يُمَكَّنُ الْمُسْتَعْمِلُونَ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَلَا الْعُمَّالُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ بِزِيَادَةِ عَلَى حَقِّهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ فَهَذَا تَسْعِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ (1).
__________
(1) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 342)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: وَالْمُزَارَعَةُ أَحَلُّ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ، وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْرَمِ وَالْمَغْنَمِ، بِخِلَافِ الْمُؤَاجَرَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ تَسْلَمُ لَهُ الْأُجْرَةُ، وَالْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ زَرْعٌ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ.
وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ هَذَا وَهَذَا، وَالصَّحِيحُ: جَوَازُهُمَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ إقْطَاعًا أَمْ غَيْرَهُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ - الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ - قَالَ: إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ لَا تَجُوزُ، وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُؤَجِّرُونَ إقْطَاعَاتِهِمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلَى زَمَنِنَا هَذَا، حَتَّى أَحْدَثَ بَعْضُ أَهْلِ زَمَانِنَا فَابْتُدِعَ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ إجَارَةِ الْإِقْطَاعِ.
وَشُبْهَتُهُ: أَنَّ الْمُقْطِعَ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَعِيرِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ الْأَرْضَ الْمُعَارَةَ، وَهَذَا الْقِيَاسُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ حَقًّا لَهُ، وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ الْمُعِيرُ بِهَا، وَأَمَّا أَرَاضِي الْمُسْلِمِينَ: فَمَنْفَعَتُهَا حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ قَاسِمٌ بَيْنَهُمْ حُقُوقَهُمْ، لَيْسَ مُتَبَرِّعًا لَهُمْ كَالْمُعِيرِ.
وَالْمُقْطِعُ مُسْتَوْفٍ الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ وَأَوْلَى.
وَإِذَا جَازَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ - وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَمُوتَ فَتَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ - فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمُقْطِعِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْإِقْطَاعَ وَإِنْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُعِيرَ لَوْ أَذِنَ فِي الْإِجَارَةِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَأْذَنُ لِلْمُقْطِعِ فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَقْطَعَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا: إمَّا بِالْمُزَارَعَةِ وَإِمَّا بِالْإِجَارَةِ وَمَنْ مَنَعَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَلْزَمَ الْجُنْدَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْفَلَّاحِينَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِقْطَاعَ قَدْ يَكُونُ دُورًا وَحَوَانِيتَ، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُقْطِعُ إلَّا بِالْإِجَارَةِ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَوْنُ الْإِقْطَاعِ مُعَرَّضًا لِرُجُوعِ الْإِمَامِ فِيهِ مِثْلُ كَوْنِ الْمَوْهُوبِ لِلْوَلَدِ مُعَرَّضًا لِرُجُوعِ الْوَالِدِ فِيهِ، وَكَوْنُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُعَرَّضًا لِرُجُوعِ نِصْفِهِ أَوْ كُلِّهِ إلَى الزَّوْجِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَيْسَ مَعَ الْمُبْطِلِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ، وَلَا مَصْلَحَةٌ وَلَا نَظِيرٌ.
وَإِذَا أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْإِجَارَةَ لَمْ يَبْقَ بِيَدِ الْجُنْدِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَنْ يَزْرَعُ الْأَرْضَ وَيَقُومُ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْسَرُ مَالَهُ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْمُشَارَكَةِ، فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَهِيَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ اسْتِطْرَادًا، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النَّاسَ إذَا احْتَاجُوا إلَى أَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ كَالْفَلَّاحِينَ وَغَيْرِهِمْ - أُجْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.
وَهَذَا مِنْ التَّسْعِيرِ الْوَاجِبِ، فَهَذَا تَسْعِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ.
وَأَمَّا التَّسْعِيرُ فِي الْأَمْوَالِ: فَإِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى سِلَاحٍ لِلْجِهَادِ وَآلَاتٍ، فَعَلَى أَرْبَابِهِ أَنْ يَبِيعُوهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ، وَلَا يُمَكَّنُوا مِنْ حَبْسِهِ إلَّا بِمَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ السِّلَاحِ بَذْلُهُ بِقِيمَتِهِ؟ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ بِبَدَنِهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحُجُّ بِهِ الْغَيْرُ عَنْهُ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِمَالِهِ أَنْ يُخْرِجَ مَا يُجَاهِدُ بِهِ الْغَيْرُ: فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ، وَهَذَا أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ.(1/270)
وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ فَإِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى سِلَاحٍ لِلْجِهَادِ فَعَلَى أَهْلِ السِّلَاحِ أَنْ يَبِيعُوهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَحْبِسُوا السِّلَاحَ حَتَّى يَتَسَلَّطَ الْعَدُوُّ أَوْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَخْتَارُونَ، وَالْإِمَامُ لَوْ عَيَّنَ أَهْلَ الْجِهَادِ لِلْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1).
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (2783) ومسلم برقم (4936)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 6 / ص 335)
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: الْهِجْرَة مِنْ دَار الْحَرْب إِلَى دَار السَّلَام بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا: لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح مِنْ مَكَّة لِأَنَّهَا صَارَتْ دَار إِسْلَام، فَلَا تُتَصَوَّر مِنْهَا الْهِجْرَة. وَالثَّانِي: هُوَ الْأَصَحّ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْهِجْرَة الْفَاضِلَة الْمُهِمَّة الْمَطْلُوبَة الَّتِي يَمْتَاز بِهَا أَهْلهَا اِمْتِيَازًا ظَاهِرًا اِنْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّة، وَمَضَتْ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْل فَتْح مَكَّة، لِأَنَّ الْإِسْلَام قَوِيَ وَعَزَّ بَعْدَ فَتْح مَكَّة عِزًّا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا قَبْله.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة) مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْصِيل الْخَيْر بِسَبَبِ الْهِجْرَة قَدْ اِنْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّة وَلَكِنْ حَصَّلُوهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّة الصَّالِحَة. وَفِي هَذَا: الْحَثّ عَلَى نِيَّة الْخَيْر مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ يُثَاب عَلَى النِّيَّة.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) مَعْنَاهُ: إِذَا طَلَبَكُمْ الْإِمَام لِلْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد فَاخْرُجُوا، وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجِهَاد لَيْسَ فَرْض عَيْن، بَلْ فَرْض كِفَايَة إِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُل بِهِمْ الْكِفَايَة سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلّهمْ أَثِمُوا كُلّهمْ، قَالَ أَصْحَابنَا: الْجِهَاد الْيَوْم فَرْض كِفَايَة، إِلَّا أَنْ يَنْزِل الْكُفَّار بِبَلَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّن عَلَيْهِمْ الْجِهَاد، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْل ذَلِكَ الْبَلَد كِفَايَة وَجَبَ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ تَتْمِيم الْكِفَايَة، وَأَمَّا فِي زَمَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ كَانَ أَيْضًا فَرْض كِفَايَة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فَرْض عَيْن، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرْض كِفَايَة بِأَنَّهُ كَانَ تَغْزُو السَّرَايَا، وَفِيهَا بَعْضهمْ دُون بَعْض.(1/271)
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» (1).
فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ: فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْجِهَادِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ؟!
وَالْعَاجِزُ عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16) سورة التغابن، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (2).
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (4869)
(2) - صحيح البخارى برقم (7288) ومسلم برقم (3321)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «دَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 339)
قَوْله (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَاجْتَنِبُوهُ) فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن زِيَاد " فَانْتَهُوا عَنْهُ " هَكَذَا رَأَيْت هَذَا الْأَمْر عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَة وَالْمُنَاسَبَة فِيهِ ظَاهِرَة، وَوَقَعَ فِي أَوَّل رِوَايَة الزُّهْرِيِّ الْمُشَار إِلَيْهَا " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا النَّوَوِيّ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَعَزَا الْحَدِيث لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِم، فَتَشَاغَلَ بَعْض شُرَّاح الْأَرْبَعِينَ بِمُنَاسَبَةِ تَقْدِيم النَّهْي عَلَى مَا عَدَاهُ وَلَمْ يَعْلَم أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّف الرُّوَاة، وَأَنَّ اللَّفْظ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيّ هُنَا أَرْجَح مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَة الْحَدِيثِيَّةِ لِأَنَّهُمَا اِتَّفَقَا عَلَى إِخْرَاج طَرِيق أَبِي الزِّنَاد دُون طَرِيق الزُّهْرِيِّ وَإِنْ كَانَ سَنَد الزُّهْرِيِّ مِمَّا عُدَّ فِي أَصَحّ الْأَسَانِيد، فَإِنَّ سَنَد أَبِي الزِّنَاد أَيْضًا مِمَّا عُدَّ فِيهَا فَاسْتَوَيَا، وَزَادَتْ رِوَايَة أَبِي الزِّنَاد اِتِّفَاق الشَّيْخَيْنِ، وَظَنَّ الْقَاضِي تَاج الدِّين فِي شَرْح الْمُخْتَصَر أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اِتَّفَقَا عَلَى هَذَا اللَّفْظ، فَقَالَ: بَعْد قَوْل اِبْن الْحَاجِب النَّدْب أَيْ اِحْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْر لِلنَّدْبِ بِقَوْلِهِ " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ " فَقَالَ الشَّارِح: رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَلَفْظهمَا " وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ " وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ لَفْظ مُسْلِم وَحْده وَلَكِنَّهُ اِغْتَرَّ بِمَا سَاقَهُ النَّوَوِيّ فِي الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّهْي عَامّ فِي جَمِيع الْمَنَاهِي، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُكْرَه الْمُكَلَّف عَلَى فِعْله كَشُرْبِ الْخَمْر وَهَذَا عَلَى رَأْي الْجُمْهُور، وَخَالَفَ قَوْم فَتَمَسَّكُوا بِالْعُمُومِ فَقَالُوا: الْإِكْرَاهُ عَلَى اِرْتِكَاب الْمَعْصِيَة لَا يُبِيحهَا، وَالصَّحِيح عَدَم الْمُؤَاخَذَة إِذَا وُجِدَتْ صُورَة الْإِكْرَاه الْمُعْتَبَرَة، وَاسْتَثْنَى بَعْض الشَّافِعِيَّة مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا، فَقَالَ: لَا يُتَصَوَّر الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ التَّمَادِي فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا مَانِع أَنْ يُنْعِظ الرَّجُل بِغَيْرِ سَبَب فَيُكْرَه عَلَى الْإِيلَاج حِينَئِذٍ فَيُولِج فِي الْأَجْنَبِيَّة، فَإِنَّ مِثْل ذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا لَكَانَ زَانِيًا فَتَصَوَّر الْإِكْرَاه عَلَى الزِّنَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوز التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مُحَرَّم كَالْخَمْرِ، وَلَا دَفْع الْعَطَش بِهِ، وَلَا إِسَاغَة لُقْمَة مَنْ غَصَّ بِهِ؛ وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة جَوَاز الثَّالِث حِفْظًا لِلنَّفْسِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَة لِمَنْ اُضْطُرَّ، بِخِلَافِ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ ثَبَتَ النَّهْي عَنْهُ نَصًّا، فَفِي مُسْلِم عَنْ وَائِل رَفَعَهُ إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاء، وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رَفَعَهُ " وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " وَلَهُ عَنْ أُمّ سَلَمَة مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل شِفَاء أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْعَطَش فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِع بِشُرْبِهَا وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّدَاوِي وَاللَّهُ أَعْلَم، وَالتَّحْقِيق أَنَّ الْأَمْر بِاجْتِنَابِ الْمَنْهِيّ عَلَى عُمُومه مَا لَمْ يُعَارِضهُ إِذْن فِي اِرْتِكَاب مَنْهِيّ كَأَكْلِ الْمَيْتَة لِلْمُضْطَرِّ، وَقَالَ =(1/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= الْفَاكِهَانِيّ لَا يُتَصَوَّر اِمْتِثَال اِجْتِنَاب الْمَنْهِيّ حَتَّى يَتْرُك جَمِيعه، فَلَوْ اِجْتَنَبَ بَعْضه لَمْ يُعَدّ مُمْتَثِلًا بِخِلَافِ الْأَمْر - يَعْنِي الْمُطْلَق - فَإِنَّ مَنْ أَتَى بِأَقَلّ مَا يَصْدُق عَلَيْهِ الِاسْم كَانَ مُمْتَثِلًا اِنْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ أَجَابَ هُنَا اِبْن فَرَج بِأَنَّ النَّهْي يَقْتَضِي الْأَمْر فَلَا يَكُون مُمْتَثِلًا لِمُقْتَضَى النَّهْي حَتَّى لَا يَفْعَل وَاحِدًا مِنْ آحَاد مَا يَتَنَاوَلهُ النَّهْي بِخِلَافِ الْأَمْر فَإِنَّهُ عَلَى عَكْسه وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الْخِلَافُ، هَلْ الْأَمْر بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَبِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ.
قَوْله (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ) فِي رِوَايَة مُسْلِم " بِأَمْرٍ "، (فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ) أَيْ اِفْعَلُوا قَدْر اِسْتِطَاعَتكُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الزُّهْرِيِّ " وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ " وَفِي رِوَايَة هَمَّام الْمُشَار إِلَيْهَا " وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالْأَمْرِ فَائْتَمِرُوا مَا اِسْتَطَعْتُمْ " وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن زِيَاد " فَافْعَلُوا " قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا مِنْ جَوَامِع الْكَلِم وَقَوَاعِد الْإِسْلَام، وَيَدْخُل فِيهِ كَثِير مِنْ الْأَحْكَام كَالصَّلَاةِ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ رُكْن مِنْهَا أَوْ شَرْط فَيَأْتِي بِالْمَقْدُورِ، وَكَذَا الْوُضُوء، وَسَتْر الْعَوْرَة، وَحِفْظ بَعْض الْفَاتِحَة، وَإِخْرَاج بَعْض زَكَاة الْفِطْر لِمَنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى الْكُلّ، وَالْإِمْسَاك فِي رَمَضَان لِمَنْ أَفْطَرَ بِالْعُذْرِ ثُمَّ قَدَرَ فِي أَثْنَاء النَّهَار إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِل الَّتِي يَطُول شَرْحهَا، وَقَالَ غَيْره فِيهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ بَعْض الْأُمُور لَا يَسْقُط عَنْهُ الْمَقْدُور، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْض الْفُقَهَاء بِأَنَّ الْمَيْسُور لَا يَسْقُط بِالْمَعْسُورِ، كَمَا لَا يَسْقُط مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْكَان الصَّلَاة بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْره، وَتَصِحّ تَوْبَة الْأَعْمَى عَنْ النَّظَر الْمُحَرَّم، وَالْمَجْبُوب عَنْ الزِّنَا، لِأَنَّ الْأَعْمَى وَالْمَجْبُوب قَادِرَانِ عَلَى النَّدَم فَلَا يَسْقُط عَنْهُمَا بِعَجْزِهِمَا عَنْ الْعَزْم عَلَى عَدَم الْعَوْد، إِذْ لَا يُتَصَوَّر مِنْهُمَا الْعَوْد عَادَة فَلَا مَعْنَى لِلْعَزْمِ عَلَى عَدَمه، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَعَجَزَ عَنْ بَعْضه فَفَعَلَ الْمَقْدُور أَنَّهُ يَسْقُط عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ اِسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ عَلَى أَنَّ " مَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ لَا يَجِب قَضَاؤُهُ " وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الصَّحِيح أَنَّ الْقَضَاء بِأَمْرٍ جَدِيد، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ اِعْتِنَاء الشَّرْع بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْق اِعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الِاجْتِنَاب فِي الْمَنْهِيَّات وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّة فِي التَّرْك، وَقَيَّدَ فِي الْمَأْمُورَات بِقَدْرِ الطَّاقَة، وَهَذَا مَنْقُول عَنْ الْإِمَام أَحْمَد فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الِاسْتِطَاعَة مُعْتَبَرَة فِي النَّهْي أَيْضًا إِذْ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا) فَجَوَابه أَنَّ الِاسْتِطَاعَة تُطْلَق بِاعْتِبَارَيْنِ، كَذَا قِيلَ وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ التَّقْيِيد فِي الْأَمْر بِالِاسْتِطَاعَةِ لَا يَدُلّ عَلَى الْمُدَّعَى مِنْ الِاعْتِنَاء بِهِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ جِهَة الْكَفّ إِذْ كُلّ أَحَد قَادِر عَلَى الْكَفّ لَوْلَا دَاعِيَة الشَّهْوَة مَثَلًا، فَلَا يُتَصَوَّر عَدَم الِاسْتِطَاعَة عَنْ الْكَفّ بَلْ كُلّ مُكَلَّف قَادِر عَلَى التَّرْك، بِخِلَافِ الْفِعْل فَإِنَّ الْعَجْز عَنْ تَعَاطِيه مَحْسُوس، فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ فِي الْأَمْر بِحَسْب الِاسْتِطَاعَة دُون النَّهْي، وَعَبَّرَ الطُّوفِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِع بِأَنَّ تَرْك الْمَنْهِيّ عَنْهُ عِبَارَة عَنْ اِسْتِصْحَاب حَال عَدَمه أَوْ الِاسْتِمْرَار عَلَى عَدَمه، وَفِعْل الْمَأْمُور بِهِ عِبَارَة عَنْ إِخْرَاجه مِنْ الْعَدَم إِلَى الْوُجُود، وَقَدْ نُوزِعَ بِأَنَّ الْقُدْرَة عَلَى اِسْتِصْحَاب عَدَم الْمَنْهِيّ عَنْهُ قَدْ تَتَخَلَّف، وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِجَوَازِ أَكْل الْمُضْطَرّ الْمَيْتَة، وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْي فِي هَذَا عَارَضَهُ الْإِذْن بِالتَّنَاوُلِ فِي تِلْكَ الْحَالَة. وَقَالَ اِبْن فَرَج فِي " شَرْح الْأَرْبَعِينَ " قَوْله " فَاجْتَنِبُوهُ " هُوَ عَلَى إِطْلَاقه حَتَّى يُوجَد مَا يُبِيحهُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَة عِنْد الضَّرُورَة وَشُرْب الْخَمْر عِنْد الْإِكْرَاه، وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ جَوَاز التَّلَفُّظ بِكَلِمَةِ الْكُفْر إِذَا كَانَ الْقَلْب مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآن اِنْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُكَلَّف فِي ذَلِكَ كُلّه لَيْسَ مَنْهِيًّا فِي تِلْكَ الْحَال، وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيّ بِأَنَّ الْكَفّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ سَهْل، وَعَمَل الطَّاعَة فِعْل وَهُوَ يَشُقّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُبَحْ اِرْتِكَاب الْمَعْصِيَة وَلَوْ مَعَ الْعُذْر لِأَنَّهُ تَرْك، وَالتَّرْك لَا يَعْجِز الْمَعْذُور عَنْهُ؛ وَأَبَاحَ تَرْك الْعَمَل بِالْعُذْرِ لِأَنَّ الْعَمَل قَدْ يَعْجِز الْمَعْذُور عَنْهُ، وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى (فَاتَّقُوا اللَّه مَا اِسْتَطَعْتُمْ) يَتَنَاوَل اِمْتِثَال الْمَأْمُور وَاجْتِنَاب الْمَنْهِيّ وَقَدْ قَيَّدَ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَاسْتَوَيَا، فَحِينَئِذٍ يَكُون الْحِكْمَة فِي تَقْيِيد الْحَدِيث بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِب الْأَمْر دُون النَّهْي أَنَّ الْعَجْز يَكْثُر تَصَوُّره فِي الْأَمْر بِخِلَافِ النَّهْي فَإِنَّ تَصَوُّر الْعَجْز فِيهِ مَحْصُور فِي الِاضْطِرَار، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى (فَاتَّقُوا اللَّه مَا اِسْتَطَعْتُمْ) نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وَالصَّحِيح أَنْ لَا نَسْخ بَلْ الْمُرَاد بِحَقِّ تُقَاته اِمْتِثَال أَمْره وَاجْتِنَاب نَهْيه مَعَ الْقُدْرَة لَا مَعَ الْعَجْز، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوه يَجِب اِجْتِنَابه لِعُمُومِ الْأَمْر بِاجْتِنَابِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَشَمَلَ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْله " فَاجْتَنِبُوهُ " يُعْمَل بِهِ فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَيَجِيء مِثْل هَذَا السُّؤَال وَجَوَابه فِي الْجَانِب الْآخِر وَهُوَ الْأَمْر، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ النَّهْيُ يَكُون تَارَة مَعَ الْمَانِع مِنْ النَّقِيض وَهُوَ الْمُحَرَّم، وَتَارَة لَا مَعَهُ وَهُوَ الْمَكْرُوه، وَظَاهِر الْحَدِيث يَتَنَاوَلهُمَا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاح لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّ التَّأْكِيد فِي الْفِعْل إِنَّمَا يُنَاسِب الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْمُبَاح مَأْمُور بِهِ لَمْ يُرِدْ الْأَمْر بِمَعْنَى الطَّلَب وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَهُوَ الْإِذْن، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْر لَا يَقْتَضِي التَّكْرَار وَلَا عَدَمه، وَقِيلَ يَقْتَضِيه وَقِيلَ يَتَوَقَّف فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّة؛ وَحَدِيث الْبَاب قَدْ يُتَمَسَّك بِهِ لِذَلِكَ لِمَا فِي سَبَبه أَنَّ السَّائِل قَالَ فِي الْحَجّ أَكُلّ عَام؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقه يَقْتَضِي التَّكْرَار أَوْ عَدَمه لَمْ يَحْسُن السُّؤَال وَلَا الْعِنَايَة بِالْجَوَابِ، وَقَدْ يُقَال إِنَّمَا سَأَلَ اِسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، وَقَالَ الْمَازِرِيّ يُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ التَّكْرَار إِنَّمَا اِحْتُمِلَ مِنْ جِهَة أَنَّ الْحَجّ فِي اللُّغَة قَصْد فِيهِ تَكْرَار فَاحْتَمَلَ عِنْد السَّائِل التَّكْرَار مِنْ جِهَة اللُّغَة لَا مِنْ صِيغَة الْأَمْر، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْعُمْرَة لِأَنَّ الْأَمْر بِالْحَجِّ إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ تَكْرَار قَصْد الْبَيْت بِحُكْمِ اللُّغَة وَالِاشْتِقَاق، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْإِجْمَاع أَنَّ الْحَجّ لَا يَجِب إِلَّا مَرَّة فَيَكُون الْعَوْد إِلَيْهِ مَرَّة أُخْرَى دَالًّا عَلَى وُجُوب الْعُمْرَة، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْتَهِد فِي الْأَحْكَام لِقَوْلِهِ " وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ " وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَال، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيع الْأَشْيَاء عَلَى الْإِبَاحَة حَتَّى يَثْبُت الْمَنْع مِنْ قِبَل الشَّارِع، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْمَسَائِل وَالتَّعَمُّق فِي ذَلِكَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي " شَرْح السُّنَّة " الْمَسَائِل عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدهمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّعْلِيم لِمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ أَمْر الدِّين فَهُوَ جَائِز بَلْ مَأْمُور بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) الْآيَة، وَعَلَى ذَلِكَ تَتَنَزَّل أَسْئِلَةُ الصَّحَابَة عَنْ الْأَنْفَال وَالْكَلَالَة وَغَيْرِهِمَا،
ثَانِيهمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّعَنُّت وَالتَّكَلُّف وَهُوَ الْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم، وَيُؤَيِّدهُ وُرُود الزَّجْر فِي الْحَدِيث عَنْ ذَلِكَ وَذَمّ السَّلَف، فَعِنْد أَحْمَد مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الْأُغْلُوطَات " قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هِيَ شِدَاد الْمَسَائِل، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا " إِنَّ اللَّه إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِم عَبْده بَرَكَة الْعِلْم أَلْقَى عَلَى لِسَانه الْمَغَالِيط، فَلَقَدْ رَأَيْتهمْ أَقَلّ النَّاس عِلْمًا " وَقَالَ اِبْن وَهْب سَمِعْت مَالِكًا يَقُول " الْمِرَاء فِي الْعِلْم يُذْهِب بِنُورِ الْعِلْم مِنْ قَلْب الرَّجُل " وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ " كَانَ النَّهْي عَنْ السُّؤَال فِي الْعَهْد النَّبَوِيّ خَشْيَة أَنْ يَنْزِل مَا يَشُقّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا بَعْد فَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ لَكِنَّ أَكْثَر النَّقْل عَنْ السَّلَف بِكَرَاهَةِ الْكَلَام فِي الْمَسَائِل الَّتِي لَمْ تَقَع " قَالَ " وَإِنَّهُ لَمَكْرُوه إِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ فَرَّعُوا وَمَهَّدُوا فَنَفَعَ اللَّه مَنْ بَعْدهمْ بِذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ذَهَاب الْعُلَمَاء وَدُرُوس الْعِلْم " اِنْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون مَحَلّ الْكَرَاهَة لِلْعَالِمِ إِذَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا هُوَ أَعَمّ مِنْهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَلْخِيص مَا يَكْثُر وُقُوعه مُجَرَّدًا عَمَّا يَنْدُر، وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُخْتَصَرَات لِيَسْهُل تَنَاوُله وَاللَّهُ الْمُسْتَعَان. وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى الِاشْتِغَال بِالْأَهَمِّ الْمُحْتَاج إِلَيْهِ عَاجِلًا عَمَّا لَا يُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَال فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِفِعْلِ الْأَوَامِر وَاجْتِنَاب النَّوَاهِي فَاجْعَلُوا اِشْتِغَالكُمْ بِهَا عِوَضًا عَنْ الِاشْتِغَال بِالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَع. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا جَاءَ عَنْ اللَّه وَرَسُوله ثُمَّ يَجْتَهِد فِي تَفَهُّم ذَلِكَ وَالْوُقُوف عَلَى الْمُرَاد بِهِ. ثُمَّ يَتَشَاغَل بِالْعَمَلِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِلْمِيَّات يَتَشَاغَل بِتَصْدِيقِهِ وَاعْتِقَاد حَقِّيَّته، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَمَلِيَّات بَذَلَ وُسْعه فِي الْقِيَام بِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَإِنْ وَجَدَ وَقْتًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْس بِأَنْ يَصْرِفهُ فِي الِاشْتِغَال بِتَعَرُّفِ حُكْم مَا سَيَقَعُ عَلَى قَصْد الْعَمَل بِهِ أَنْ لَوْ وَقَعَ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ الْهِمَّة مَصْرُوفَة عِنْد سَمَاع الْأَمْر وَالنَّهْي إِلَى فَرْض أُمُور قَدْ تَقَع وَقَدْ لَا تَقَع مَعَ الْإِعْرَاض عَنْ الْقِيَام بِمُقْتَضَى مَا سَمِعَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُل فِي النَّهْي، فَالتَّفَقُّه فِي الدِّين إِنَّمَا يُحْمَد إِذَا كَانَ لِلْعَمَلِ لَا لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَال. وَسَيَأْتِي بَسْط ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.(1/273)
فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِهَادِ بِالْبَدَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْمَالِ كَمَا أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِهَادِ بِالْمَالِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ.
وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمَعْضُوبِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحُجُّ بِهِ الْغَيْرُ عَنْهُ وَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِمَالِهِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ (1).
__________
(1) - وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 2 / ص 342)
وَاَلَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ) لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ أَوْ لِأَمْرٍ ثَابِتٍ فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ يَرْجُو بُرْأَهُ وَزَوَالَهُ كَالْأَمْرَاضِ الْمُعْتَادَةِ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَظِرُ الْبُرْءَ وَيُؤَدِّي الْحَجَّ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِأَمْرٍ ثَابِتٍ عَنْهُ كَالْهَرَمِ وَالزَّمَانَةِ فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ الْمَعْضُوبَ وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَنَا الْحَجُّ وَإِنْ وَجَدَ الْمَالَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، هُوَ مُسْتَطِيعٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ غَيْرَهُ يُؤَدِّي عَنْهُ الْحَجَّ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ وَجَدَ مَنْ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ مِنْ وَلَدٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَالْآيَةُ وَرَدَتْ مُقَيِّدَةً لِمَنْ يَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ إِلَى الْبَيْتِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ السَّبِيلَ إِلَيْهِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ بِالْمُسْتَطِيعِ كَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِهِ اسْتِطَاعَةٌ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَجٌّ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا مُكَلَّفٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ أَصْلُ ذَلِكَ الصَّحِيحُ أَمَّا هُمْ فَاحْتَجَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِ الْخَثْعَمِيَّةِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا أَخْبَرَتْ أَنَّ الْحَجَّ اُفْتُرِضَ عَلَى أَبِيهَا فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَعَلَّقَ بِأَبِيهَا وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِينَ نَزَلَ وَأَبُوهَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ تَوَجُّهُ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ وَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الِاسْتِطَاعَةَ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُهُ إِلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا قَالَتْ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - نَعَمْ قَالُوا فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ لَهَا نَعَمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ حَجُّهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ لَمَا قَضَتْ عَنْهُ شَيْئًا كَمَا لَا تَقْضِي عَنْهُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَاجِبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ مَا وَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُلْحِقُهُ ذَلِكَ بِحَالَةِ مَنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فَأَدَّاهُ؛ لِأَنَّ حَالَتَهُ أَكْمَلُ مِنْ حَالَةِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، ولذلك رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ الِابْنَ إِذَا أَرَادَ إلْحَاقَ أَبِيهِ بِحَالِ مَنْ أَدَّى دَيْنَهُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ.
وانظر الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 3 / ص 428) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 5859) و نيل الأوطار - (ج 7 / ص 226) والفقه الإسلامي وأصوله - (ج 2 / ص 459) ويسألونك فتاوى - (ج 4 / ص 254) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 1 / ص 32) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 60) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 1442)(1/274)
وَمِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْ يَطْحَنُ لَهُمْ وَمَنْ يَخْبِزُ لَهُمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ فِي الْبُيُوتِ؛ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَنْ يَطْحَنُ وَيَخْبِزُ بِكِرَاءِ وَلَا مَنْ يَبِيعُ طَحِينًا وَلَا خُبْزًا؛ بَلْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الْحَبَّ وَيَطْحَنُونَهُ وَيَخْبِزُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ؛ فَلَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّسْعِيرِ وَكَانَ مَنْ قَدِمَ بِالْحَبِّ بَاعَهُ فَيَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْ الْجَالِبِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» (1).
وَقَالَ: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (2).
__________
(1) - سنن ابن ماجه برقم (2236) وهو ضعيف
قَوْله (الْجَالِب إِلَخْ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْأَوَّلِ وَعَلَى الثَّانِي أَوْ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْأَوَّل يُبَارِك اللَّه لَهُ وَيُبْعِدُ الثَّانِي عَنْ رَحْمَتِهِ
وقد اشترط الفقهاء للاحتكار المحرم شروطاً:
الأول: أن يكون الشيء المحتكر فاضلاً عن حاجته وحاجة من يعولهم سنة كاملة، فإن كان سيحتاج إليه خلال سنة وخزنه لحاجته إليه فلا يعد ذلك احتكاراً.
الثاني: أن ينتظر بالسلعة وقت ارتفاع ثمنها.
الثالث: أن يكون الناس محتاجين إلى المادة المحتكرة ونحوها.
فإن انتفت هذه الشروط فإنه يجوز تخزين المادة، ولا يعد ذلك احتكاراً. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 1511)
(2) - صحيح مسلم برقم (4207)
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 482)
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَاطِئ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِم.
وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار. قَالَ أَصْحَابنَا: الِاحْتِكَار الْمُحَرَّم هُوَ الِاحْتِكَار فِي الْأَقْوَات خَاصَّة، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِي الطَّعَام فِي وَقْت الْغَلَاء لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَبِيعهُ فِي الْحَال، بَلْ يَدَّخِرهُ لِيَغْلُوَ ثَمَنه، فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَته، أَوْ اِشْتَرَاهُ فِي وَقْت الرُّخْص وَادَّخَرَهُ، أَوْ اِبْتَاعَهُ فِي وَقْت الْغَلَاء لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْله، أَوْ اِبْتَاعَهُ لِيَبِيعَهُ فِي وَقْته، فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيم فِيهِ، وَأَمَّا غَيْر الْأَقْوَات فَلَا يَحْرُم الِاحْتِكَار فِيهِ بِكُلِّ حَال، هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار دَفْع الضَّرَر عَنْ عَامَّة النَّاس، كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْد إِنْسَان طَعَام، وَاضْطُرَّ النَّاس إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْره، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعه دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاس. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَعْمَر رَاوِي الْحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ فَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَآخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ يَحْتَكِرَانِ الزَّيْت، وَحَمَلَا الْحَدِيث عَلَى اِحْتِكَار الْقُوت عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهِ وَالْغَلَاء، وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ وَهُوَ صَحِيح.(1/275)
وَمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " {أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ} " فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ (1)، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا طَحَّانٌ وَلَا خَبَّازٌ؛ لِعَدَمِ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ كَانَ الْفَلَّاحُونَ كُلُّهُمْ كُفَّارًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْجِهَادِ.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 5 / ص 339) برقم (11171) ... ومشكل الآثار للطحاوي - (ج 2 / ص 212) برقم (606) والمطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني برقم (1451) و صحيح الجامع (6967) ومختصر إرواء الغليل - (ج 1 / ص 290) برقم (1476) وقال: (صحيح)
وفي الدراية في تخريج أحأديث الهداية - (ج 2 / ص 189)
868 حديث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني قفيز الطحان الدارقطني وأبو يعلى والبيهقي من حديث أبي سعيد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل وعن قفير الطحان وفي إسناده ضعف
وفي التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - (ج 4 / ص 1)
1316 - 1316 - (3) حَدِيثُ: {نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ} الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: {نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ}.وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْإِحْكَامِ بِلَفْظِ: {نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -} وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ إلَّا بِلَفْظِ الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي الْإِسْنَادِ هِشَامُ أَبُو كُلَيْبٍ رَاوِيه عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لَا يَعْرِفُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَالذَّهَبِيُّ، وَزَادَ: وَحَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، وَقَالَ مُغَلْطَايْ: هُوَ ثِقَةٌ، فَيُنْظَرُ فِيمَنْ وَثَّقَهُ، ثُمَّ وَجَدْته فِي ثِقَاتِ ابْنِ حِبَّانَ.
قلت: رواه هشام بن عائذ بن نصيب الأسدى، أبو كليب الكوفى وهو ثقة
رواة التهذيبين - راو رقم 7298
الاسم: هشام بن عائذ بن نصيب الأسدى، أبو كليب الكوفى
الطبقة: 6:من الذين عاصروا صغارالتابعين
روى له: س (النسائي)
رتبته عند ابن حجر: صدوق
رتبته عند الذهبي: ثقة
عن عبد الرحمن بن أبى نعم البجلى، أبو الحكم الكوفى، العابد وهو ثقة
الطبقة: 3:من الوسطى من التابعين
الوفاة: قبل 100 هـ
روى له: خ م د ت س ق (البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه)
رتبته عند ابن حجر: صدوق
رتبته عند الذهبي: الزاهد
شيوخه
رافع بن خديج (د)
سفينة مولى أم سلمة
عبد الله بن عمر بن الخطاب (خ ت س)
المغيرة بن شعبة (د)
أبى سعيد الخدرى (خ م د ت س ق)
أبى هريرة (خ م د ت س ق).
طلابه =(1/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إبراهيم بن أبى عطاء
بكير بن عامر (د)
الحكم بن عبد الرحمن بن أبى نعم (ابنه) (س)
زرارة بن أوفى
زياد بن فياض
وفي الجرح والتعديل ... [جزء 9 - صفحة 64]
252 - هشام بن عائذ بن نصيب الأسدي أبو كليب روى عن الشعبي وإبراهيم النخعي وأبى صالح ذكوان وأبيه وابن أبى نعيم روى عنه الثوري ووكيع وأبو نعيم ومحمد بن عبيد سمعت أبى يقول ذلك قال أبو محمد وروى عنه عبيد الله بن موسى نا عبد الرحمن انا عبد الله بن احمد بن محمد بن حنبل فيما كتب الى قال سألت أبى عن هشام بن عائذ بن نصيب فقال ثقة روى عنه يحيى القطان نا عبد الرحمن قال ذكره أبى عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين انه قال هشام بن عائذ بن نصيب الأسدي ثقة نا عبد الرحمن قال سألت أبى عن هشام بن عائذ بن نصيب فقال شيخ
وفي لسان الميزان ... [جزء 6 - صفحة 198]
708 - هشام أبو كليب عن بن أبي نعيم والشعبي وعنه الثوري كعبيد الله بن موسى عن سفيان عنه عن أبي نعيم عن أبي سعيد قال نهى عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان هذا منكر وراويه لا يعرف انتهى وذكره بن حبان في الثقات
وتناقض فقال في تقريب التهذيب ... [جزء 1 - صفحة 573]
7298 - هشام بن عائذ بن نصيب الأسدي صدوق من السادسة وقد أرسل عن بن عمر س
وفي الكاشف ... [جزء 2 - صفحة 336]
5968 - هشام بن عائذ الأزدي أبو كليب عن أبيه والشعبي وعنه وكيع والقطان ثقة س
وفي تهذيب الكمال ... [جزء 30 - صفحة 214]
6581 - س هشام بن عائذ بن نصيب الأسدي أبو كليب الكوفي روى عن إبراهيم النخعي س وذكوان أبي صالح السمان وعامر الشعبي وأبيه عائذ بن نصيب الأسدي وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي نعم البجلي س روى عنه سفيان الثوري س وعبد الله بن المبارك س وعبيد الله بن موسى وأبو نعيم الفضل بن دكين ومحمد بن عبيد الطنافسي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه وإسحاق بن منصور عن يحيى بن معين وأبو داود والعجلي ثقة وقال أبو حاتم شيخ وذكره بن حبان في كتاب الثقات روى له النسائي
قلت: الصواب انه ثقة والحديث صحيح ولا حجة لمن طعن به
القفيز: مكيال قديم، ويعادل حاليا ستة عشر كيلو جراما
وفي مشكل الآثار للطحاوي - (ج 2 / ص 213)
فتأملنا ذلك فوجدنا أهل العلم لا يختلفون أن معناه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية وما يفعله أهل الجهل إلى يومنا هذا من دفع القمح إلى الطحان على أن يطحنه لهم بقفيز من دقيقه الذي يطحنه منه، فكان ذلك استئجارا من المستأجر بما ليس عنده إذا كان دقيق قمحه ليس عنده في الوقت الذي استأجر، وكان في ذلك ما قد دل أن الاستئجار لا يكون بما ليس عند المستأجر يوم يستأجر كما لا يكون الابتياع بما ليس عند المبتاع يوم يبيع، وبما ليس عند المبتاع يوم يبتاع من الأشياء التي ليست عنده مما ليس معناها معنى الأثمان كالدراهم وكالدنانير، وكما سواها من ذوات الأمثال التي قد تكون دينا في الذمم، وبالله التوفيق
الفتاوى الهندية - (ج 36 / ص 106) وفتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 151) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1003) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 243) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 9141) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 13371) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 13582) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 13654) و شرح زاد المستقنع - (ج 92 / ص 9) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 11 / ص 383) والمبسوط - (ج 18 / ص 20).(1/277)
وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ أَعْطَاهَا لِلْيَهُودِ يَعْمَلُونَهَا فِلَاحَةً؛ لِعَجْزِ الصَّحَابَةِ عَنْ فِلَاحَتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى سُكْنَاهَا وَكَانَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (1) وَانْضَمَّ إلَيْهِمْ أَهْلُ سَفِينَةِ جَعْفَرٍ (2) فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَسَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمْ أَرْضَ خَيْبَرَ، فَلَوْ أَقَامَ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيهَا لِفِلَاحَتِهَا تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الدِّينِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفُتِحَتْ الْبِلَادُ وَكَثُرَ الْمُسْلِمُونَ اسْتَغْنَوْا عَنْ الْيَهُودِ فَأَجْلَوْهُمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ: «نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا شِئْنَا» (3)،وَفِي رِوَايَةٍ: «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» (4).
وَأَمَرَ بِإِجْلَائِهِمْ مِنْهَا عِنْدَ مَوْتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:" {أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ} (5) ".
__________
(1) - صحيح البخارى برقم (4150) عَنِ الْبَرَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.
كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا.
(2) - صحيح البخارى برقم (3136) وصحيح مسلم برقم (6566) عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانِ لِى، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ فِى بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ فِى ثَلاَثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِى فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِىِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنَا هَا هُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا. فَأَقَمْنَا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا. أَوْ قَالَ فَأَعْطَانَا مِنْهَا. وَمَا قَسَمَ لأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلاَّ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلاَّ أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ
(3) - المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود برقم (1102) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنَ التَّمْرِ وَالزَّرْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا وَكَانُوا فِيهَا كَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ التَّمْرُ يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخُمُسَ. وهو صحيح
(4) - صحيح البخارى برقم (2730) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ». وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِىَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهَمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِى أَبِى الْحُقَيْقِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ، وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا فَقَالَ عُمَرُ أَظَنَنْتَ أَنِّى نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ، لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ». فَقَالَ كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِى الْقَاسِمِ. قَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا، مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
-فدع: الفدع عوج فى المفاصل
(5) - مسند البزار 1 - 10 برقم (23) وأخبار مكة للفاكهي برقم (1687) والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم برقم (225) وهو صحيح
والمشهور بلفظ أخرجوا المشركين صحيح البخارى برقم (3053) ومسلم برقم (4319)
وفي شرح ابن بطال - (ج 9 / ص 422). =(1/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أقركم ما أقركم الله» فمعناه: أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنه امتحن فى استقبال القبلة حتى نزل: {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها} فامتحن مع بنى النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله - تعالى - باجتلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود. وكان لا يتقدم فى شيء إلا بوحى الله وكان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاده اليهود عن جواره فقال ليهود خيبر: «أقركم ما أقركم الله» منتظر للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك بشيء إلى أن حضرته الوفاة، فأوحى إليه فيه فقال: «لا يبقين دينان بأرض العرب» فأوصى بذلك عند موته، فلما كان فى خلافة عمر وعدوا على ابنه وفدعوه، فحص عن قول النبى فيهم، فأخبر أن نبى الله أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب. فقال: من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به، وإلا فإنى مجليكم. فأجلاهم.
قال المهلب: وإنما أمر بإخراجهم - والله أعلم - خوف التدليس منهم، وأنهم متى ناوؤا عدوًا قويا صاروا معه كما فعلوا بالنبى يوم الأحزاب.
قال الطبرى: فيه من الفقه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - بين لأئمة المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التى أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة إذا لم لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم ولم يكن الإسلام يومئذ ظهر فى غير جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها أن على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار مسافرًا ومقام ظعن وأكثر ذلك ثلاثة أيام ولياليها، كالذى فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظن ظان أن فعل عمر فى ذلك إنما هو خاص بمدينة الرسول، وسائر جزيرة العرب؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام وقال: «لو كان» حكم غير جزيرة العرب كحكمها فى التسوية بين جميعها فى إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى فى سواد العراق وقد قهرهم الإسلام وعلاهم ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنه، وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس فى أرضهم، وقد غلبهم الإسلام وأهله، فإن الأمر فى ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدًا من أهل الشرك فى أرض قد قهر فيها الإسلام، وغلب ولم يتقدم قبل ذلك قهره إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العرق فى السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها؛ فإنه أقرهم للضرورة إليهم فى عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون فى الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض، وبقيت بغير عامر.
فكان فعلهم فى ذلك نظير فعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصديق فى يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم، عمالا عمارا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم، لاشتغالهم بالحرب فى مناوأة الأعداء. ثم أمر رسول الله بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك.
وأقرهم الصديق على نحو ذلك. فأما إقرارهم مع المسلمين فى مصر لم يكن تقدم فى ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين بما لا نعلمه صح به عنه، ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة فى ذلك عن الأئمة ما قلناه.
حدثنى محمد بن يزيد الرفاعى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبى الربيع، عن أبان بن تغلب، عن رجل قال: «كان منادى على ينادى كل يوم: لا يبيتن بالكوفة يهودى ولا نصرانى ولا مجوسى، الحقوا بالحيرة».
وحدثنا الرفاعى، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: «لا يساكنكم أهل الكتاب فى أمصاركم» قال أبو هشام الرفاعى: سمعت يحى بن آدم يقول: هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون.
قال الطبرى: وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكانه المسلمون دون غيرهم، بل عم بذلك جميع أمصارهم، وإن دلالة أمره - صلى الله عليه وسلم - بإخراج اليهود من جزيرة العرب يوضح صحة ما قال ابن عباس وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الأسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التى صولحوا على الإقرار فيها إلحاقا لحكمة بحكم جزيرة العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التى اختطها المسلمون وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب وهم كانوا عمارهم وسكانها فأمر رسول الله بإخراجهم منها حين غلب عليهم الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة.
وقد حدثنا أبو كريب حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: «لا تصح قبلتان فى أرض» فإذا صح ما قلناه فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر بعض أهل الكتاب فى بعض بلاد المسلمين لحاجتهم إليهم لعمارتها أو غير ذلك ألا يدعهم فى مصرهم معهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذى فعل عمر وعلى، وأن يمنعهم اتخاذ الدور والمساكن فى أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر فى مصر من أمصار المسلمين دارًا، أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس للمسلمين إقرار مسلم فى ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين فى غير ملكهم.
قال غيره: وكذلك الحكم فى الرجل المسلم الفاسق، إذا شهد عليه أنه مؤذ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشكى به جيرانه، وصح ذلك عند الحاكم، أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كان له دار أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكر باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، ورأيت لابن القاسم أنه قال فى المؤذى: تكرى عليه الدار ولا تباع، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الأحكام - إن شاء الله.
وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق فى الطول. وأما فى العرض من جدة، وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام.
وقال إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هو الفرق بين جزيرة العرب وأرض الشام. وقال أبو عبيد: جزيرة العرب ما بين حفر أبى موسى إلى أقصى اليمن فى الطول. وأما فى العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة.
قال الطبرى: وإنما قيل لها: جزيرة العرب، وهى جزيرة البحر؛ تعريفا لها، وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل: لأجأ وسلمى وهما جبلان من نجد: جبلا طيء؛ تعريفًا لهما بطيء، وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر فى كلام العرب القطع، ومنه سمى الجزار: جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة.
قال المهلب: فى حديث ابن عباس أن جوائز الوفود سنة.
وانظر فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1238) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4717) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 1255) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3595) وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 14 / ص 425) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 5318) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 5797) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 7101) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 8789) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 26) ونيل الأوطار - (ج 12 / ص 351) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 22 / ص 26) ولقاءات الباب المفتوح - (ج 79 / ص 17) وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 7 / ص 493) وموسوعة الأسرة المسلمة معدلة - (ج 5 / ص 107) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق - (ج 9 / ص 449) وفتح القدير - (ج 13 / ص 199) والمجموع شرح المهذب - (ج 19 / ص 428) والحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 14 / ص 92) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 622) والمغني - (ج 21 / ص 261).(1/279)
وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري - إلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُقَرُّونَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِزْيَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِمْ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُمْ أَجْلَوْهُمْ كَأَهْلِ خَيْبَرَ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ إذَا احْتَاجُوا إلَى الطَّحَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى صِنَاعَتِهِمْ؛ كَاَلَّذِينَ يَطْحَنُونَ وَيَخْبِزُونَ لِأَهْلِ الْبُيُوتِ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْأُجْرَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ أَنْ يُطَالِبُوا إلَّا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الصُّنَّاعِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى الصَّنْعَةِ وَالْبَيْعِ؛ فَيَحْتَاجُوا إلَى مَنْ يَشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَطْحَنُهَا؛ وَإِلَى مَنْ يَخْبِزُهَا وَيَبِيعُهَا خُبْزًا. لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى شِرَاءِ الْخُبْزِ مِنْ الْأَسْوَاقِ، فَهَؤُلَاءِ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَشْتَرُوا حِنْطَةَ النَّاسِ الْمَجْلُوبَةِ وَيَبِيعُوا الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ بِمَا شَاءُوا مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى تِلْكَ الْحِنْطَةِ لَكَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَظِيمًا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تُجَّارٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ(1/280)
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا يَقْصِدُ أَنْ يَبِيعَهُ بِرِبْحِ سَوَاءٌ عَمِلَ فِيهِ عَمَلًا أَوْ لَمْ يَعْمَلْ وَسَوَاءٌ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا أَوْ حَيَوَانًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسَافِرًا يَنْقُلُ ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ أَوْ كَانَ مُتَرَبِّصًا بِهِ يَحْبِسُهُ إلَى وَقْتِ النِّفَاقِ؛ أَوْ كَانَ مُدِيرًا يَبِيعُ دَائِمًا وَيَشْتَرِي كَأَهْلِ الْحَوَانِيتِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ زَكَاةُ التُّجَّارِ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْنَعُوا الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ أُلْزِمُوا كَمَا تَقَدَّمَ؛ أَوْ دَخَلُوا طَوْعًا فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ؛ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ الدَّقِيقُ وَالْحِنْطَةُ؛ فَلَا يَبِيعُوا الْحِنْطَةَ وَالدَّقِيقَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ بِحَيْثُ يَرْبَحُونَ الرِّبْحَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهِمْ وَلَا بِالنَّاسِ (1).
__________
(1) - قلت: هذا الكلام يدل على نظرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الواسعة، فهو يتكلم عن صميم الاقتصاد، فالأصل في السوق الاقتصادية الحرية إلا ما حرمه الإسلام، ولكن إذا حدثَ غشٌّ أو احتكارٌ أو استغلالٌ للناس تدخَّلَ وليُّ أمر المسلمين، وسعر المنتجات التي تتعلق بقوت الناس وحاجياتهم، بحث يكون هذا السعر عادلا لا وكس فيه ولا شطط، فلا يحابى التجار على حساب عامة الناس، ولا يحابى الناس على حساب التجار، وهذا هو العدل بأم عينه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) سورة النحل
وبهذا نلاحظ الفارق الكبير بين النظام الإسلامي وبين النظام الرأسمالي الذي يبيح حرية السوق، وبين النظام الاشتراكي الذي يقيدها تقييدا مطلقاً، فالنظام الإقتصادي الإسلامي قائم على العدل والمساواة والرحمة والتعاون والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع الإسلامي
وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 19)
خامساً ـ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد:
الكلام في تدخل الدولة وحدود هذا التدخل يتضح فيما يأتي:
1 - رقابة الدولة على أعمال الأفراد:
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.) في هذا الحديث دلالة واضحة على أن الدولة مسؤولة عن كل شيء يجري في داخلها. فلها الإشراف على نشاط الأفراد العام، ولها حق التدخل بالمصالح الخاصة لحماية المصالح العامة وكفالة تطبيق وتنفيذ الشريعة، ولها محاسبة الموظفين وأصحاب الولاية والسلطة في نواحي الدولة. ويمكنها أن تحاكمهم على أساس المبدأ القائل: (من أين لك هذا). ليتبين الوجه المشروع لكسب المال. ولقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يحاسب ولاته ويشاطر عماله كما فعل مع عمرو بن العاص عامله على مصر، حينما شك في ماله وكسبه وطريقة إنمائه، وشاطر خالد بن الوليد أمواله، حتى زوجي نعله، وللدولة أن تراقب أرباب الأموال في كيفية استثمار أموالهم، فإذا جنحوا إلى تعطيل استثمار المال، جاز اتخاذ التدابير التي تحمي المصلحة
العامة، فإذا وضع امرؤ يده على أرض موات بقصد إحيائها وتعميرها واستصلاحها وهو ما يعرف بالاحتجار، ثم لم يقم بواجبه جاز سلخها عنه وإعطاؤها لغيره، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1) «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» (أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب رحمه الله، ولكنه ضعيف.) لأنه لا بد من مداومة استثمار المال، حتى لا يؤدي الإهمال إلى فقر المال والإضرار بمصالح المجتمع وإفقار الأمة وخسارة الدخل القومي العام وضآلة الإنتاج.
وإذا حاول الناس تركيز استثمار أموالهم في نشاط اقتصادي معين، كان لولي الأمر حق التدخل بما يراه من إجراءات لتوزيع الناس أموالهم بين مختلف مصادر الإنتاج (وهي الأرض والعمل والمال)، وعندئذ تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه. وإذا تضخمت الثروة في أيدي فئة قليلة من المواطنين، ثم ثبت عجز أصحابها عن استثمارها، كان للحاكم أن يتدخل في استثمار الأموال أو وضعها تحت ولاية الدولة بما يدرأ الضرر العام عن المجتمع، كإلزامهم باتباع الأساليب الرشيدة في استثمار الأموال، ووضعها تحت ولاية الدولة لضمان تشغيلها بما ينفع البلاد.
2 - إقرار الملكية الجماعية: =(1/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «الناس شركاء في ثلاث» وفي رواية: «في أربع: الماء والكلأ والنار والملح» (أخرجه أحمد وأبو داود، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الطبراني عن ابن عمر) والنص على هذه الأمور فقط لأنها كانت من ضروريات
الحياة في بيئة العرب، فهي مباحة لجميع الناس، والدولة هي التي تمثل مصالح الجماعة، فلها وضع اليد عليها، وعلى كل الأشياء الضرورية التي تعتبر من قبل الثروات الطبيعية الخام، والصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد الأولية، والاستيلاء على المرافق العامة والتي تتغير وتتبدل وتتطور بحسب البيئات والعصور، مثل مختلف الأنهار العامة، والمعادن والنفط ولو وجدت في أرض مملوكة ملكية خاصة، والكهرباء، والمنشآت العامة ونحوها من المرافق الحيوية الأساسية لمصلحة الجماعة. ومما يؤيد وجود الملكية الجماعية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين قد اعتبروا بعض الأراضي كالنقيع والرَّبذَة (موضعين قرب المدينة) حمىً في سبيل الله لترعى فيها خيل المسلمين، أي من أجل الصالح العام وهو المعروف بـ (الحمى) قال عليه الصلاة والسلام: «لاحمى إلا لله ولرسوله» (أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن الصعب بن جثّامة رضي الله عنه.) أي لا حمى لأحد الأشخاص العاديين.
3 - التأميم أو نزع الملكية الخاصة:
إذا كان المبدأ العام في الإسلام هو الاعتراف بالملكية الفردية وبالحرية الاقتصادية كما أوضحت، فإنه لا مانع من تدخل الدولة لحماية مصلحة الأمة في وقت معين، بأن تتخذ من التدابير ماتجده محققاً للصالح العام، بناء على المبدأ المعروف في الإسلام بالاستحسان والمصالح المرسلة، وقواعد دفع الضرر العام، وأنه يتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر العام، وأنه يجب على الجماعة كفاية الجائع والعريان عملاً بالمبدأ الشرعي القائل: (إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد) ولكن بشرط دفع الثمن. وقال عمر قبيل وفاته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء»: وهذا ما يجعل النظام الاقتصادي الإسلامي أبعد عن النظام الرأسمالي القائم في أصله على أساس من الحرية الفردية المطلقة.
لذا فإنه يحق للدولة التدخل في الملكيات غير المشروعة، كالملكية الحادثة بالسلب والقهر أو الاغتصاب، فترد الأموال إلى أصحابها أو تصادرها، وتستولي عليها بغير تعويض، سواء أكانت منقولة أم عقارية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) والحاكم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.) وقوله: «ليس لعرْقٍ ظالمٍ حق» (أخرجه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى.)، وقوله: «من زرع أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء وله نفقته» (أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي عن رافع بن خديج رضي الله عنه.).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاطر بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولاياتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة، وهو البعد بالملكية عن الشبهات، وعن اتخاذها وسيلة للثراء غير المشروع، وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل في التوزيع، سواء في حق أصل الملكية، أو منع المباح، أو في تقييد حرية التملك الذي هو من باب تقييد المباح، والملكية من المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعمال الملك إلى ضرر عام. وعلى هذا فيحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية الزراعية، فيحددها بمقدار مساحة معينة، أو ينتزعها من أصحابها إذا عطلها أو أهملها حتى خربت، أو ينزع ملكيتها من أي شخص مع دفع تعويض عادل عنها، إذا اقتضت المصلحة العامة أو النفع العام ذلك.
كماحدث في وقتنا الحاضر من تأميم المصارف والشركات الكبرى، وكما فعل عمر بن الخطاب في سبيل توسعة المسجد الحرام حينما ضاق على الناس، فأجبر الناس المجاورين للمسجد على بيع دورهم المحيطة به، وقال لهم: «إنما أنتم الذين نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم». وكذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الفعل مرة أخرى وقال: «إنما جرأكم علي حلمي، فقد فعل عمر بكم ذلك فلم تتكلموا» ثم أمر بحبسهم لمدة، مما يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق والمقابر وإقامة المساجد وإنشاء الحصون والمرافئ والمؤسسات العامة كالمشافي والمدارس والملاجئ ونحوها؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ثم إن فقهاء المذاهب قرروا أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإذا منع من فعل مباح صار حراماً، وإذا أمر به صار واجباً. والدليل على إعطاء ولي الأمر مثل هذه الصلاحيات في غير المنصوص على حكمه صراحة هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: هم الأمراء والحكام والعلماء، كما تبين سابقاً.
ولكن ليس كل مايتوهم من ضرر، أو يتخيل من مصلحة يكون مسوغاً لتقييد الملكية أو مصادرتها بالتعويض، وإنما ينبغي أن تكون المصلحة العامة محققة الحدوث، أو الضرر العام محقق الوقوع، أو غالب الوقوع، لا نادراً ولا محتملاً، ويكفي عند فقهاء المالكية والحنابلة أن يكون احتمال وقوع الضرر مسوغاً لمنع الفعل أخذاً بقاعدة: «دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح».(1/282)
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْعِيرِ (1) فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سِعْرٌ غَالٍ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبِيعَ بِأَغْلَى مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِي السُّوقِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَهَلْ يَمْنَعُ النُّقْصَانَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ (2).
__________
(1) - وفي الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 7 / ص 52)
المبحث الثالث ـ نظرية القيمة في الإسلام:
تكلمت في المبحث الأول عن هذه النظرية، وبينت أن الإسلام حض على العمل، وطالب القرآن باستخراج خيرات الطبيعة لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29/ 2] لأن العمل في الحقيقة أساس التقدم وبناء الكون كله. وبه يتم التفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة، أما العمل في الدنيا: فهو كل جهد يؤدي إلى جلب نفع عام أو خاص، أو منع أذى خاص أو عام، أو ازدهار صناعة مفيدة، أو زيادة طيبات الحياة، أو انتشار عمران.
وأما العمل للآخرة: فهو أداء الفروض الدينية فكراً وتعلماً وعملاً وامتناعاً عن الشر ومختلف أنواع الجرائم. ويشمل أيضاً النية الطيبة في إنجاز الأعمال الدنيوية.
والمهم الآن تكرار ما قلته من أن العمل وإ ن كان هو الأساس الأول للقيمة الاقتصادية للسلع وللقيمة الاجتماعية للفرد وللتنمية الاقتصادية، ولاستغلال الثروة الطبيعية، فإن قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب الواقعين عليها، مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة. بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (صحيح) ويضم إليه إفتاء فقهاء المدينة السبعة
في عصر التابعين والمالكية والحنابلة ومتأخري الزيدية بجواز تسعير السلع، حينما استبد الجشع والطمع ببعض الناس، وتغالوا في قيم البضائع (1)، وذلك عملاً بالمصلحة المرسلة مما أوجب القول بتدخل الحاكم لرد التجار إلى مبدأ السعر العادل (أو قيمة المثل) الذي لا يشتمل على غبن فاحش (2). وعلى هذا فإن أسعار البضائع المصنوعة الآن يدخل العمل أساساً في تقدير أثمانها، ويراعى في ذلك المصلحة العامة، والعدالة في التقييم.
وقال جمهور الفقهاء بحرمة التسعير إلا إذا حصل تعدٍ فاحش في قيمة السلع استناداً إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الخمسة إلا النسائي عن أنس: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر» ولأن الثمن حق البائع، فكان إليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه. وهذا صحيح في عصر النبي حيث كان يسود الورع.
وقال ابن القيم: يجوز التسعير في الأعمال، فإذا احتاج الناس إلى أرباب الصناعات كالفلاحين وغيرهم، أجبروا على ذلك بأجرة المثل. وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال.
ويفضل الإسلام أن يكون مورد الإنسان من طريق العمل، ويمقت بصفة عامة كون الإيراد بدون عمل، ومن هنا حرم الربا والقمار والتدليس والغبن والاستغلال والاحتكار. وتأثر بعض العلماء بهذا الاتجاه التشريعي، فحرم أيضاً إجارة الأرض، وتمسك برأيه القائلون بجواز التأميم أو تحديد الملكية.
(2) - وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 345)
108 - 108 - (فَصْلٌ) فِي التَّسْعِيرِ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْعِيرِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سِعْرٌ غَالِبٌ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبِيعَ بِأَغْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ النُّقْصَانِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ " عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا ". =(1/283)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قَالَ مَالِكٌ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فَسَادً السُّوقِ فَحَطَّ عَنْ سِعْرِ النَّاسِ: لَرَأَيْت أَنْ يُقَالَ لَهُ: إمَّا لَحِقْت بِسِعْرِ النَّاسِ، وَإِمَّا رَفَعْت، وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ يَعْنِي - لَا تَبِيعُوا إلَّا بِسِعْرِ كَذَا - فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَهْلِ الْأُبُلَّةِ، حِينَ حَطَّ سِعْرَهُمْ لِمَنْعِ الْبَحْرِ، فَكَتَبَ " خَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا السِّعْرُ بِيَدِ اللَّهِ ".
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ ": أَمَّا الْجَلَّابُونَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِمَّا جَلَبُوهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ شَذَّ مِنْهُمْ، فَبَاعَ بِأَغْلَى مِمَّا يَبِيعُ بِهِ الْعَامَّةُ: إمَّا أَنْ تَبِيعَ بِمَا تَبِيعُ بِهِ الْعَامَّةُ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ السُّوقِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، إذْ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ فِي السُّوقِ فَقَالَ لَهُ: " إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا "؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ بِالدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ أَقَلَّ مِمَّا كَانَ يَبِيعُ بِهِ أَهْلُ السُّوقِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْحَوَانِيتِ وَالْأَسْوَاقِ، الَّذِينَ يَشْتَرُونَ مِنْ الْجَلَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ جُمْلَةً، وَيَبِيعُونَ ذَلِكَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مُقَطَّعًا، مِثْلُ اللَّحْمِ وَالْأُدْمِ، وَالْفَوَاكِهِ، فَقِيلَ: إنَّهُمْ كَالْجَلَّابِينَ، لَا يُسَعَّرُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ شَذَّ مِنْهُمْ وَخَرَجَ عَنْ الْجُمْهُورِ: إمَّا أَنْ تَبِيعَ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ السُّوقِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ: إنَّهُمْ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْجَالِبِينَ، لَا يُتْرَكُونَ عَلَى الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِمْ إذَا أَغْلُوا عَلَى النَّاسِ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا مِنْ الرِّبْحِ بِمَا يُشْبِهُ.
وَعَلَى صَاحِبِ السُّوقِ الْمُوَكَّلِ بِمَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَشْتَرُونَ بِهِ، فَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ الرِّبْحِ مَا يُشْبِهُ، وَيَنْهَاهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ، وَيَتَفَقَّدُ السُّوقَ أَبَدًا، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الرِّبْحِ الَّذِي جَعَلَ لَهُمْ، فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ عَاقَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ السُّوقِ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَا تَبِيعُوا إلَّا بِكَذَا وَكَذَا، رَبِحْتُمْ أَوْ خَسِرْتُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَشْتَرُونَ بِهِ، وَلَا أَنْ يَقُولَ لَهُمْ فِيمَا قَدْ اشْتَرَوْهُ: لَا تَبِيعُوهُ إلَّا بِكَذَا وَكَذَا، مِمَّا هُوَ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلُّ.
وَإِذَا ضَرَبَ لَهُمْ الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ مَا يَشْتَرُونَ: لَمْ يَتْرُكْهُمْ أَنْ يُغْلُوا فِي الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا فِي الرِّبْحِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي حُدَّ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَسَاهَلُونَ فِي الشِّرَاءِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يَفُوتُهُمْ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ عَارَضَ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ دَاوُد بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ بِسُوقِ الْمُصَلَّى، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا؟ فَقَالَ لَهُ: مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قَدْ حُدِّثْت بَعِيرٍ جَاءَتْ مِنْ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا، وَهُمْ يَغْتَرُّونَ بِسِعْرِك، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَك الْبَيْتَ، فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْت، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي قُلْتَ لَك لَيْسَ عَزْمَةً مِنِّي، وَلَا قَضَاءً، إنَّمَا هُوَ الشَّيْءُ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَحَيْثُ شِئْت فَبِعْ، وَكَيْفَ شِئْت فَبِعْ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْتَقْصًى.
وَلَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَلَكِنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَدِيثِ، أَوْ رَوَاهُ عَنْهُ مَنْ رَوَاهُ، وَهَذَا أَتَى بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ، وَبِهِ أَقُولُ، لِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلْزَمُهُمْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا.
وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ: فَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ: هُوَ السِّعْرُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ، فَإِذَا انْفَرَدَ مِنْهُمْ الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ: أُمِرُوا بِاللِّحَاقِ بِسِعْرِ النَّاسِ، أَوْ تَرْكِ الْبَيْعِ، فَإِنْ زَادَ فِي السِّعْرِ وَاحِدٌ، أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ: لَمْ يُؤْمَرْ الْجُمْهُورُ بِاللِّحَاقِ بِسِعْرِهِ، لِأَنَّ الْمُرَاعَى حَالُ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ تُقَوَّمُ الْمَبِيعَاتُ.
وَهَلْ يُقَامُ مَنْ زَادَ فِي السُّوقِ - أَيْ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ بِالدَّرَاهِمِ - كَمَا يُقَامُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ؟ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ: " وَلَكِنَّ مَنْ حَطَّ سِعْرًا "، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: أَرَادَ مَنْ بَاعَ خَمْسَةً بِدِرْهَمٍ، وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ ثَمَانِيَةً، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ: أَرَادَ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً، وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً، فَيُفْسِدُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بَيْعَهُمْ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَمْنُوعَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً - وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً - أَفْسَدَ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بَيْعَهُمْ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ، فَمَنْعُ الْجَمِيعِ مَصْلَحَةٌ.
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ السُّوقِ.
وَأَمَّا الْجَالِبُ: فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُمْنَعُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ فِي السُّوقِ دُونَ بَيْعِ النَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا عَدَا الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ بِسِعْرِ النَّاسِ وَإِلَّا رَفَعُوا، وَأَمَّا جَالِبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ: فَيَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ، إلَّا أَنَّ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حُكْمَ أَهْلِ السُّوقِ، إنْ أَرْخَصَ بَعْضُهُمْ تَرَكُوا، وَإِنْ أَرْخَصَ أَكْثَرُهُمْ، قِيلَ لِمَنْ بَقِيَ: إمَّا أَنْ تَبِيعُوا كَبَيْعِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعُوا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، دُونُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ؛ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِيهِ: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: هَذَا إذَا كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيًا، فَإِذَا اخْتَلَفَا، لَمْ يُؤْمَرْ صَاحِبُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِسِعْرِ الدُّونِ.(1/284)
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد: كَأَبِي حَفْصٍ العكبري. وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى؛ وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ؛ وَأَبِي الْخَطَّابِ؛ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ: فَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِى السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا (1).
__________
(1) - موطأ مالك برقم (1349) وهو صحيح موقوف
وفي فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 50)
(1574 ـ التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل واجب)
(وتسعير أجور العقار)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في " مسألة التسعير" وحكمه، ورغب إلي الكتابة، فاستعنت فيه الله تعالى وأمليت فيها ما يأتي:
الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء. فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقاً، مستدلين على ذلك بما روى أبو داود وغيره، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يارسول الله سعر لنا فقال: بل ادعو الله. ثم جاء رجل فقال: يارسول الله سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة " وبما روى أبو داود والترمذي وصححه، عن أنس قال: " غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يارسول الله لو سعرت فقال إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ".
وهذا مذهب الشافعي، وهو قول أصحاب الإمام أحمد: كأبي حفص العكبري، وا لقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، قال في " الشرح الكبير" وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس، وإلا فاخرج عنا. احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور، عن داود بن صالح، عن القاسم بن محمد، عن عمر، أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت. لأن في ذلك إضراراً بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه: " أنه غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يارسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله.
فوجه الدلالة من وجهين: "أحدهما" أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه. " الثاني": أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام إلى آخر ما ذكره.
وأجابوا على منع عمر رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة ـ أن يبيع زبيبة بأقل من سعر السوق ـ بأن في الأثر أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. =(1/285)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وقالوا بعد ذلك في توجه المنع: بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعاً ظلم لهم، والظلم حرام، فالتسعير بمثابة الحجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة من المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن. وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم" (سورة النساء آية 29.).
وذهب بعضهم إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلا من ذلك أو بأنقص، واحتجوا بما رواه مالك في موطئه، عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا.
قال مالك: لو أن رجلاً أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت. وأما أن يقول للناس كلهم يعني لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب.
كما ذهب بعضهم إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حداً لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، روى أشهب عن مالك: في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا ولحم الإبل بكذا وإلا أخرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به. ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق.
واحتجوا على جواز ذلك بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم، ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري.
وردوا على المانعين منه مطلقاً: أن الاستدلال بقوله صلى الله عليهوسلم: " إن الله هو المسعر القابض الباسط" إلى آخره قضية معينة، وليست لفظاً عاماً، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع مالناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير وهو ارتفاع السعر في ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال: " من أعتق شركاً له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد " قال ابن القيم رحمه الله في كتابه " الطرق الحكمية": فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند الجمهور. وصار هذا الحديث أصلاً في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك إجماعاً. وصار ذلك أصلاً في أن وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن. وصار أصلاً في جواز إخراج الشيء عن ملك صاحبه قهراً بثمنه للمصلحة الراجحة كما في الشفعة. وصار أصلاً في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه يعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره. وهذا الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في معرض كلامه على التسعير في " الجزء الثامن والعشرين " من فتاواه الكبرى: والمقصود هنا أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر إما بثمن المثل وإما بالثمن الذي اشتراه به لم يحرم مطلقاً تقدير الثمن. ثم إن ما قدر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في شراء نصيب المعتق هو لأجل تكميل الحرية وذلك حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله.
إلى أن قال: وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، وليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية إلى أن قال: وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعدياً فاحشاً وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي أهـ كلامه رحمه الله.
والذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: من التسعير ما هو ظلم، ومنه ماهو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضون، أو منعهم ما أباحه الله لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم ما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. فما قدره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية وهو حق لله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الأمور مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية.
فالتسعير جائز بشرطين:
" أحدهما ": أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس.
"والثاني": ألا يكون سبب الغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب. فمتى تحقق فيه " الشرطان " كان عدلاً وضرباً من ضروب الرعاية العامة للأمر كتسعير اللحوم والأخباز والأدوية ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعاره أو ظلم الناس في بيعها.
وإن تخلفنا أو أحدهما كان ذلك ظلماً وداخلاً فيما نص عليه حديثا أنس وأبي هريرة المتقدمان، وهو عين ما نهى عنه عمر بن عبد العزيز عامله على الابله حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب إليه: خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله.
والخلاصة أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل لا وكس ولا شطط. فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
بقيت الإشارة إلى حكم التسعير في أجور العقار. وهل هو داخل في حكم الممنوع، أم الجائز.
تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقق شرطين: (أحدهما) أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس.
(الثاني) ألا يكون سبب الغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب.
والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها، وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع أجار سكناها، ولا الامتناع من تأجيرها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء، أو الكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار، أو هما جميعاً. فتسعير أجار العقار بهذا ضرب من الظلم والعدوان، فضلاً عن أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد , وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها. وبالله التوفيق. قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصلياً علىمحمد وعلى آله وصحبه وسلم (1). (ص ـ ف 2851 في 13/ 7/87هـ)
وانظر الحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي - (ج 1 / ص 149) وأشرف المسالك - (ج 1 / ص 189) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 33) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 345) والمحلى لابن حزم - (ج 4 / ص 471) وشرح الزرقاني على موطأ مالك - (ج 7 / ص 18)(1/286)
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا رَوَاهُ فَقَالَ: عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ بِسُوقِ الْمُصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُ قَدْ حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكَ فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِى السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ. فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِى دَارِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الَّذِى قُلْتُ لَيْسَ بِعَزْمَةٍ مِنِّى وَلاَ قَضَاءٍ إِنَّمَا هُوَ شَىْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَهْلِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ (1).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 6 / ص 29) برقم (11477) وفي سنده انقطاع
= الغرارة: وعاء أو جراب لحفظ الأشياء = المد: كيل يُساوي ربع صاع وهو ما يملأ الكفين وقيل غير ذلك
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 6701)
رقم الفتوى 26530 التسعير .. أحكامه وأحواله =(1/287)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= تاريخ الفتوى: 03 ذو القعدة 1423
السؤال
ما هي أقوال العلماء في موضوع التسعير الجبري بالتفصيل وما هو القول الراجح؟ ماحكم من صلى خلف الإمام منفردا وما الإختلاف والإدلة والترجيح؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يخلو التسعير من حالتين: أن يكون في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، أو أن يكون في حالة الغلاء. وفي كلا الحالتين اختلف أهل العلم رحمهم الله في جوازه وبيان اختلافهم كالتالي:
الحالة الأولى: التسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: عدم جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء في الأسعار، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو قول ابن عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، واستدلوا بقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29].
ووجه الدلاله في الآية الكريمة أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة رخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29].
واستدلوا أيضاً بما رواه الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني في دم ولا مال. رواه الخمسه إلا النسائي وصححه ابن حبان وقال أبو عيسى الترمذي: حديث حسن صحيح.
وبما رواه أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل أدعو ثم جاء، رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. إسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.
ووجه الدلاله من هذين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه، وإذا كان عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد طلب منه التسعير رغم غلاء السعر كما ورد في الحديث، فمن باب أولى أن لا يكون تسعير في الأحوال التي تكون فيها الأسعار عادية.
قال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا: التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يكرهوا على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعه يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها فتغلوا الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري من الوصول إلى غرضه فيكون حراماً.
القول الثاني: جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء الأسعار. وهذا القول نقل عن سعيد بن المسيب وربيعه بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري، فالتسعير عندهم جائز مطلقاً، وعللوا بأن فيه مصلحة للناس، وفيه منع من إغلاء السعر.
والذي ذهب إليه الجمهور هو الأولى بالأخذ والاعتبار، ونظراً لقوة الأدلة التي استدلوا بها، ولأن الأصل في الشريعة هو حرية التعامل بين الناس ماداموا واقفين عند حدود الله فلا ظلم ولا غش ولا احتكار ولا تلاعب في الأسعار، ولا شك أن هذه الحرية تعد عاملاً قوياً في زيادة الفعالية الاقتصادية وتوفير أنواع المتاع، والتسعير دون الحاجة إليه عمل يخالف الأصل الذي بني عليه التعامل، ويقيد الحرية ويؤدي إلى اختفاء السلع .. الأمر الذي لا يعود على الأمة إلا بالغلاء، ويؤدي إلى انتشار السوق السوداء على نطاق واسع.
الحالة الثانية: التسعير في حالة الغلاء: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الرأي الأول: رأي المانعين للتسعير، وقد ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية والحنابلة والمالكية، واستدل هؤلاء بما أخرجه مالك في الموطأ عن أبي هريرة قال: جاء رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن التسعير يعد إجباراً للناس على بيع ما عندهم بغير طيب من أنفسهم، وهذا ظلم لهم.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي في سننه من طريق الشافعي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حُدِّثْت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً وهم يعتبرون بسعرك. ز فإما أن ترفع في السعر وأما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطباً في داره فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.
قال الشافعي رحمه الله في سياق هذا الحديث: وبه أقول لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلتزمهم، وهذا ليس منها. انتهى
الرأي الثاني: رأي المجيزين للتسعير، وهو ما ذهب إليه الحنفية وبعض المالكية وابن تيمية وابن القيم، يقول صاحب الفتاوى الهندية: ولا يسعر بالإجماع إلا إذا كان أرباب الطعام يتعدون عن القيمة، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والبصر وهو المختار وبه يفتى.
ويقول ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بعد ذكره حديث أنس: والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين ..... وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، وما فعله حكم؛ لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى.
ويقول ابن تيمية في كتابه الحسبة: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
وما ذهب إليه الفريق الثاني من جواز التسعير في حالة الغلاء هو الأولى بالأخذ لأنه يوافق روح الشريعة التي تقوم أصلاً على مراعاة الصالح العام، وإذا كانت المصلحة الفردية قد روعيت في كثير من الأحاديث والوقائع فإن مراعاة المصلحة العامة تكون من باب أولى،
ويمكن حمل الأحاديث المانعة من التسعير رغم غلاء السعر على أن يكون في الأحوال العادية التي يخضع فيها السعر لما يعرف بقانون العرض والطلب والتي لا دخل فيها لإرادة الإنسان، ولا تكون بسبب الرغبة في زيادة الثمن من قبل أرباب السلع. وأما حينما تستبين الرغبة في الظلم الناتج عن تعمد زيادة الثمن ووضع المشتري تحت الأمر الواقع فهذا مغاير لمفهوم الشريعة وليس هو مفهوم النصوص، ولأن الغلاء بلاء: وهو يؤدي بالإنسان إلى أحد أمرين كلاهما مر:
-أن لا يشتري السلعة رغم حاجته إليها فيقع في الحرج.
-أو أن يضطر إلى شرائها رغم عدم قدرته المادية فيضطر إلى إرهاق نفسه بالدين الذي هو سبب من أسباب الفقر. ولمعرفة المزيد حول هذا الموضوع، ينظر: كتاب (قضايا فقهية معاصرة) للكتور ماجد أبو رضيه.
والله أعلم. المفتي: مركز الفتوى بإشراف د. عبدالله الفقيه وانظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 51) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 35) ومختصر المزني - (ج 1 / ص 102) والشرح الكبير لابن قدامة - (ج 4 / ص 44) والمغني - (ج 8 / ص 401) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 347).(1/288)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُقْتَضَاهُ لَيْسَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَكِنَّهُ رَوَى بَعْضَ الْحَدِيثِ أَوْ رَوَاهُ عَنْهُ مَنْ رَوَاهُ؛ وَهَذَا أَتَى بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ؛ وَبِهِ أَقُولُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلْزَمُهُمْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا.
قُلْت: وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي: الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هُوَ السِّعْرُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ؛ فَإِذَا انْفَرَدَ مِنْهُمْ الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ أُمِرُوا بِاللِّحَاقِ بِسِعْرِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْمَرَاعِيَ حَالُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ تَقُومُ الْمَبِيعَاتُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُقَامُ النَّاسُ(1/289)
لِخَمْسَةِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى قَدْرِ الْأَسْوَاقِ؛ وَهَلْ يُقَامُ مَنْ زَادَ فِي السُّوقِ - أَيْ: فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ - بِالدِّرْهَمِ مَثَلًا كَمَا يُقَامُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ؟ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ: وَلَكِنْ مَنْ حَطَّ سِعْرًا. فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: أَرَادَ مَنْ بَاعَ خَمْسَةً بِدِرْهَمِ وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ ثَمَانِيَةً. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ: أَرَادَ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَمْنُوعَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً أَفْسَدَ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بَيْعَهُمْ؛ فَرُبَّمَا أَدَّى إلَى الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ؛ فَفِي مَنْعِ الْجَمِيعِ مَصْلَحَةٌ. قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ السُّوقِ. وَأَمَّا الْجَالِبُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يُمْنَعُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ فِي السُّوقِ دُونَ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ إلَّا بِسِعْرِ النَّاسِ وَإِلَّا رَفَعُوا قَالَ: وَأَمَّا جَالِبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَيَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ؛ إلَّا أَنَّ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حُكْمَ أَهْلِ السُّوقِ؛ إنْ أَرْخَصَ بَعْضُهُمْ تَرَكُوا وَإِنْ كَثُرَ الْمُرَخِّصُ قِيلَ لِمَنْ بَقِيَ: إمَّا أَنْ تَبِيعُوا كَبَيْعِهِمْ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعُوا. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ: مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ؛ دُونَ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ؛ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِيهِ. قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: يُرِيدُ إذَا كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيًا فَإِذَا اخْتَلَفَ لَمْ يُؤْمَرْ بَائِعُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِسِعْرِ الدُّونِ (1).
__________
(1) - وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 424) برقم (1164)
(ش): قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُإمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا رَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَ يَبِيعُ دُونَ سِعْرِ النَّاسِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَلْحَقَ بِسِعْرِ النَّاسِ أَوْ يَقُومَ مِنْ السُّوقِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضَىِ اللَّهُ عَنْهُوَالتَّسْعِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَنْ حَطَّ مِنْ سِعْرِ النَّاسِ أُمِرَ أَنْ يَلْحَقَ بِسِعْرِهِمْ أَوْ يَقُومَ مِنْ السُّوقِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ أَحَدُهَا فِي تَبْيِينِ السِّعْرِ الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ مَنْ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْبَائِعِينَ وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَبْيِينِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْمَبِيعَاتِ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَبْيِينِ السِّعْرِ الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ)
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ السِّعْرِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْهُمْ الْوَاحِدُ أَوْ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ أُمِرَ مَنْ حَطَّهُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِ النَّاسِ أَوْ تَرْكِ الْبَيْعِ.
(مَسْأَلَةٌ) فَإِنْ زَادَ فِي السِّعْرِ وَاحِدٌ أَوْ عَدَدٌ يَسِيرٌ لَمْ يُؤْمَرْ الْجُمْهُورُ بِاللَّحَاقِ بِسِعْرِهِ أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ بِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ لَيْسَ السِّعْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَلَا بِمَا تُقَامُ بِهِ الْمَبِيعَاتُ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَالُ الْجُمْهُورِ، وَمُعْظَمُ النَّاسِ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُقَامُ النَّاسُ لِخَمْسَةٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَدْرِ الْأَسْوَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(الْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ مَنْ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْبَائِعِينَ)
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ السُّوقِ وَالْبَاعَةِ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَالِبُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا يُمْنَعُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ فِي السُّوقِ دُونَ بَيْعِ النَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا يَبِيعُونَ مَا عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ إِلَّا بِمِثْلِ سِعْرِ النَّاسِ، وَإِلَّا رَفَعُوا كَأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَجْهُ مَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَالِبَ يُسَامَحُ، وَيُسْتَدَامُ أَمْرُهُ لِيَكْثُرَ مَا يَجْلِبُهُ مَعَ أَنَّ مَا يَجْلِبُهُ لَيْسَ مِنْ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ، وَهُوَ يُدْخِلُ الرِّفْقَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَجْلِبُهُ فَرُبَّمَا أَدَّى التَّحْجِيرُ عَلَيْهِ إِلَى قَطْعِ الْمِيرَةِ، وَالْبَائِعُ بِالْبَلَدِ إنَّمَا يَبِيعُ أَقْوَاتَهُمْ الْمُخْتَصَّةَ بِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْعُدُولِ بِهَا عَنْهُمْ فِي الْأَغْلَبِ، وَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْرَةِ وَقْتَ الضَّرُورَةِ، وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّ هَذَا بَائِعٌ فِي السُّوقِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحُطَّ عَنْ سِعْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِسِعْرِ النَّاسِ كَأَهْلِ الْبَلَدِ قَالَ فَأَمَّا جَالِبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ إِلَّا أَنَّ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حُكْمُ أَهْلِ السُّوقِ، وَإِنْ أَرْخَصَ بَعْضُهُمْ تُرِكُوا إِنْ قَلَّ مَنْ حَطَّ السِّعْرَ، وَإِنْ كَثُرَ الْمُرْخِصُونَ قِيلَ لِمَنْ بَقِيَ إمَّا أَنْ تَبِيعَ كَبَيْعِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ.
(مَسْأَلَةٌ) إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لِلطَّعَامِ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ هَلْ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِي دَارٍ بِسِعْرِ السُّوقِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَيَنْبَغِي فِي الطَّعَامِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى السُّوقِ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَهُ فِي الدُّورِ إعْزَازٌ لَهُ، وَسَبَبٌ إِلَى غَلَائِهِ، وَتَطَرُّقٌ لِيَبِيعَهُ الْبَائِعُ كَيْفَ شَاءَ بِدُونِ سِعْرِ أَهْلِ السُّوقِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ ذَلِكَ فِي السُّوقِ فَإِنْ كَانَ جَالِبًا فَلْيَبِعْهُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الدَّارِ إِنْ شَاءَ عَلَى يَدِهِ.
(الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْمَبِيعَاتِ)
أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْمَبِيعَاتِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إِنَّ ذَلِكَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَبِيعَاتِ الَّتِي لَا تُكَالُ، وَلَا تُوزَنُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْمِثْلِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى سِعْرٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْقِيمَةِ، وَيَكْثُرُ اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ فِي أَعْيَانِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَمَاثِلًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِيهِ عَلَى سِعْرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيًا فِي الْجَوْدَةِ فَإِذَا اخْتَلَفَ صِنْفُهُ لَمْ يُؤْمَرْ مَنْ بَاعَ الْجَيِّدَ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْلِ سِعْرِ مَا هُوَ أَدْوَنُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالْمِقْدَارِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ التَّسْعِيرِ فَهُوَ أَنْ يُحَدَّ لِأَهْلِ السُّوقِ سِعْرٌ ليبيعون عَلَيْهِ فَلَا يَتَجَاوَزُونَهُ فَهَذَا مَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَرْخَصَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي صَاحِبِ السُّوقِ يُسَعِّرُ عَلَى الْجَزَّارِينَ لَحْمَ الضَّأْنِ ثُلُثَ رِطْلٍ، وَلَحْمَ الْإِبِلِ نِصْفَ رِطْلٍ، وَإِلَّا خَرَجُوا مِنْ السُّوقِ قَالَ إِذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يَرَى مِنْ شِرَائِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَقُومُوا مِنْ السُّوقِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ بَلْ اُدْعُوا اللَّهَ ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ بَلِ اللَّهُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ إجْبَارَ النَّاسِ عَلَى بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ مَا تَطِيبُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ ظُلْمٌ لَهُمْ مُنَافٍ لِمِلْكِهَا لَهُمْ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ مَا يَجِبُ مِنْ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَالْمَنْعُ مِنْ إغْلَاءِ السِّعْرِ عَلَيْهِمْ وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ يُجْبَرُ النَّاسُ عَلَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْبَيْعِ بِغَيْرِ السِّعْرِ الَّذِي يَحُدُّهُ الْإِمَامُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ رِبْحًا، وَلَا يَسُوغُ لَهُ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أَشْهَبَ فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ أَحَدُهَا فِي صِفَةِ التَّسْعِيرِ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ مَنْ يُسَعِّرُ عَلَيْهِ وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّسْعِيرُ مِنْ الْمَبِيعَاتِ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ التَّسْعِيرِ)
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْلِ سُوقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيُحْضِرَ غَيْرَهُمْ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ فيسئلهم كَيْفَ يَشْتَرُونَ، وَكَيْفَ يَبِيعُونَ فَيُنَازِلُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ لَهُمْ، وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا بِهِ قَالَ: وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّسْعِيرِ، وَلَكِنْ عَنْ رِضًا، وَعَلَى هَذَا أَجَازَهُ مَنْ أَجَازَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بِهَذَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ، وَيَجْعَلُ لِلْبَاعَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إجْحَافٌ بِالنَّاسِ، وَإِذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضًا بِمَا لَا رِبْحَ لَهُمْ فِيهِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الْأَسْعَارِ، وَإِخْفَاءِ الْأَقْوَاتِ، وَإِتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ.
(الْبَابُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ مَنْ يُسَعِّرُ عَلَيْهِمْ)
أَمَّا مَنْ يُسَعِّرُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُمْ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، وَأَمَّا الْجَالِبُ فَلَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّ مَا يَجْلِبُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَصْلُ الْقُوتِ، وَهُوَ الْقَمْحُ أَوْ الشَّعِيرُ فَهَذَا لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِ بِرِضَاهُ، وَلَا بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ وَأَمْكَنَهُ إِذَا اتَّفَقُوا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ هَذَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا جَالِبُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَاللَّحْمِ وَالْبَقْلِ وَالْفَوَاكِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِيه أَهْلُ السُّوقِ لِلْبَيْعِ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُسَعَّرُ عَلَى الْجَالِبِ وَلَا يُقْصَدُ بِالتَّسْعِيرِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّوقِ عَلَى سِعْرٍ قِيلَ لَهُ إمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا فَأُخْرِجَ عَنْهُ.
(الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّسْعِيرُ مِنْ الْمَبِيعَاتِ)
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَهَذَا فِيمَا عَدَا الْقُطْنِ وَالْبَزِّ، وَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ التَّسْعِيرُ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا.(1/290)
قُلْت: وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْعِيرِ: أَنْ لَا يُحَدَّ لِأَهْلِ السُّوقِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُونَهُ مَعَ قِيَامِ النَّاسِ بِالْوَاجِبِ فَهَذَا مَنَعَ مِنْهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى مَالِكٌ نَفْسُهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَنُقِلَ الْمَنْعُ(1/291)
أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُمْ أَرْخَصُوا فِيهِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَلْفَاظَهُمْ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ؛ وَصَاحِبِ السُّوقِ يُسَعِّرُ عَلَى الْجَزَّارِينَ (1): لَحْمَ الضَّأْنِ ثُلُثَ رِطْلٍ؛ وَلَحْمَ الْإِبِلِ نِصْفَ رِطْلٍ؛ وَإِلَّا خَرَجُوا مِنْ السُّوقِ. قَالَ: إذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يَرَى مِنْ شِرَائِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَقُومُوا مِنْ السُّوقِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ بِالْمَنْعِ مِنْ إغْلَاءِ السِّعْرِ عَلَيْهِمْ وَلَا فَسَادَ عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَلَا يُجْبَرُ النَّاسُ عَلَى الْبَيْعِ إنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْبَيْعِ بِغَيْرِ السِّعْرِ الَّذِي يَحُدُّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ؛ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ وَلَا يَمْنَعُ الْبَائِعُ رِبْحًا وَلَا يَسُوغُ لَهُ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَبُو داود وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ «بَلْ أَدْعُو». ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ «بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِى مَظْلَمَةٌ» (2).
قَالُوا: وَلِأَنَّ إجْبَارَ النَّاسِ عَلَى بَيْعٍ لَا يَجِبُ أَوْ مَنْعِهِمْ مِمَّا يُبَاحُ شَرْعًا: ظُلْمٌ لَهُمْ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ.
وَأَمَّا صِفَةُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ: فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْلِ سُوقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ وَيَحْضُرُ غَيْرُهُمْ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ؛ فَيَسْأَلُهُمْ: كَيْفَ يَشْتَرُونَ؟ وَكَيْفَ يَبِيعُونَ؟ فَيُنَازِلُهُمْ إلَى مَا فِيهِ لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّسْعِيرِ؛ وَلَكِنْ عَنْ رِضًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا أَجَازَهُ مَنْ أَجَازَهُ (3).
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ وَيَجْعَلُ لِلْبَاعَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ؛ وَلَا يَكُونُ فِيهِ إجْحَافٌ بِالنَّاسِ وَإِذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضًا بِمَا لَا رِبْحَ لَهُمْ فِيهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ الْأَسْعَارِ وَإِخْفَاءِ الْأَقْوَاتِ وَإِتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ. قُلْت: فَهَذَا الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ.
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 3 / ص 424) برقم (1164) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 256) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4095) وفتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 7 / ص 52) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 36) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 349)
(2) - سنن أبى داود برقم (3452) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 121) برقم (278) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 6 / ص 29) برقم (11473) وهو صحيح
وانظر المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة - (ج 7 / ص 315) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 37) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 349) والخراج لأبي يوسف - (ج 1 / ص 49)
(3) - الموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 4092) والمجموع شرح المهذب - (ج 13 / ص 37) والطرق الحكمية - (ج 1 / ص 349)(1/292)
وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ فَهُنَا يُؤْمَرُونَ بِالْوَاجِبِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ: فَهُنَا يُؤْمَرُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِلَا رَيْبٍ. وَمَنْ مَنَعَ التَّسْعِيرَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِى بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلاَ مَالٍ» (1). فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ لَفْظًا عَامًّا، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنْ بَيْعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ عَمَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ؛ أَوْ طَلَبَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ عِوَضِ الْمِثْلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا رَغِبَ النَّاسُ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهِ: فَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ بَذَلَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَكِنَّ النَّاسَ تَزَايَدُوا فِيهِ فَهُنَا لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ وَالْمَدِينَةُ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهَا غَالِبًا مِنْ الْجَلَبِ؛ وَقَدْ يُبَاعُ فِيهَا شَيْءٌ يُزْرَعُ فِيهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُزْرَعُ فِيهَا الشَّعِيرُ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُونَ وَلَا الْمُشْتَرُونَ نَاسًا مُعَيَّنِينَ؛ وَلَمْ يَكُنْ
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (3453) وهو صحيح
وفي الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 350)
قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذَا الَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ، وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ: فَهُنَا يُؤْمَرُونَ بِالْوَاجِبِ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ.
وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى مَنْعِ التَّسْعِيرِ مُطْلَقًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ} قِيلَ لَهُ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَلَيْسَتْ لَفْظًا عَامًّا، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ مَا النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا قَلَّ رَغِبَ النَّاسُ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهِ، فَإِذَا بَذَلَهُ صَاحِبُهُ - كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلَكِنَّ النَّاسَ تَزَايَدُوا فِيهِ - فَهُنَا لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي عِتْقِ الْحِصَّةِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَقَالَ: {مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ - وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ - قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ}، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَلَمْ يُمْكِنْ الْمَالِكَ أَنْ يُسَاوِمَ الْمُعْتِقَ بِاَلَّذِي يُرِيدُ، فَإِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَلِّكَ شَرِيكَهُ الْمُعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعَبْدِ: قَدَّرَ عِوَضَهُ بِأَنْ يُقَوِّمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطِيهِ قِسْطَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَصَارَ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلًا فِي أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ عَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ، إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذَلِكَ، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ، وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ إجْمَاعًا.
وَصَارَ أَصْلًا فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْمُعَاوَضَةُ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يُعَاوِضَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَلَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ الثَّمَنِ.
وَصَارَ أَصْلًا فِي جَوَازِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ قَهْرًا بِثَمَنِهِ، لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، وَأَصْلًا فِي وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخْرَاجَ الشَّيْءِ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ، لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ، وَلَمْ يُمَكِّنْ الْمَالِكَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ بِالنَّاسِ إلَى التَّمَلُّكِ أَعْظَمَ، وَهُمْ إلَيْهَا أَضَرُّ؟ مِثْلُ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَقْوِيمِ الْجَمِيعِ قِيمَةَ الْمِثْلِ: هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ، وَكَذَلِكَ سَلَّطَ الشَّرِيكَ عَلَى انْتِزَاعِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ لَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ التَّكْمِيلِ لِوَاحِدٍ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِذَا جُوِّزَ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، لَا بِمَا شَاءَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ، لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ، فَكَيْفَ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ وَآلَةِ حَرْبٍ؟ وَكَذَلِكَ إذَا اُضْطُرَّ الْحَاجُّ إلَى مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ وَغَيْرِهَا، فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، لَا بِمَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَحَدِيثُ الْعِتْقِ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.(1/293)
هُنَاكَ أَحَدٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى عَيْنِهِ أَوْ إلَى مَالِهِ؛ لِيُجْبَرَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ عَلَى بَيْعٍ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ إلَّا مَنْ يَخْرُجُ فِي الْغَزْوِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ (1): أَوْ بِمَا يُعْطَاهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْفَيْءِ؛ أَوْ مَا يُجَهِّزُهُ بِهِ غَيْرُهُ (2)، وَكَانَ إكْرَاهُ الْبَائِعِينَ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعُوا سِلَعَهُمْ إلَّا بِثَمَنِ مُعَيَّنٍ إكْرَاهًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ فَإِكْرَاهُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (3).
__________
(1) - لقوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (41) سورة التوبة
(2) - ففي صحيح البخارى برقم (2843) ومسلم برقم (5011) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ- رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 460)
قَوْله: (فَقَدْ غَزَا) قَالَ اِبْنُ حِبَّانَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي اَلْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَغْزُ حَقِيقَة ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ بُسْرِ بْن سَعِيد بِلَفْظِ " كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْر أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مَنْ أَجْرِهِ شَيْء " وَلِابْن مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَحْوه بِلَفْظ " مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حَتَّى يَسْتَقِلَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ " وَأَفَادَتْ فَائِدَتَيْنِ
إِحْدَاهُمَا أَنَّ اَلْوَعْدَ اَلْمَذْكُورَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَمَامِ اَلتَّجْهِيزِ وَهُوَ اَلْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " حَتَّى يَسْتَقِلَّ ".
ثَانِيهمَا أَنَّهُ يَسْتَوِي مَعَهُ فِي اَلْأَجْرِ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ تِلْكَ اَلْغَزْوَةُ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد " أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا وَقَالَ: لِيَخْرُج مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُل وَالْأَجْر بَيْنَهُمَا " وَفِي رِوَايَة لَهُ " ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: وَأَيُّكُمْ خَلَفَ اَلْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ اَلْخَارِجِ " فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اَلْغَازِيَ إِذَا جَهَّزَ نَفْسَهُ أَوْ قَامَ بِكِفَايَة مَنْ يَخْلُفُهُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ اَلْأَجْر مَرَّتَيْنِ وَقَالَ اَلْقُرْطُبِيّ: لَفْظَة " نِصْف " يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مُقْحَمَة أَيْ مَزِيدَة مِنْ بَعْضِ اَلرُّوَاةِ وَقَدْ اِحْتَجَّ بِهَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اَلْمُرَادَ بِالْأَحَادِيثِ اَلَّتِي وَرَدَتْ بِمِثْلِ ثَوَابِ الْفِعْلِ حُصُولُ أَصْلِ اَلْأَجْرِ لَهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ وَأَنَّ اَلتَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ اَلْعَمَل قَالَ اَلْقُرْطُبِيّ: وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا اَلْحَدِيثِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلّ اَلنِّزَاعِ لِأَنَّ اَلْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ أَنَّ اَلدَّالَّ عَلَى اَلْخَيْرِ مَثَلًا هَلْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ مَعَ اَلتَّضْعِيف أَوْ بِغَيْرِ تَضْعِيف؟ وَحَدِيث اَلْبَابِ إِنَّمَا يَقْتَضِي اَلْمُشَارَكَةَ وَالْمُشَاطَرَةَ فَافْتَرَقَا.
ثَانِيهمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ اِحْتِمَالِ كَوْنٍ لَفَظَة " نِصْف " زَائِدَة.
قُلْت: وَلَا حَاجَةَ لِدَعْوَى زِيَادَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا فِي اَلصَّحِيحِ؛ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي تَوْجِيهِهَا أَنَّهَا أُطْلِقَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ اَلثَّوَابِ اَلْحَاصِلِ لِلْغَازِي وَالْخَالِفِ لَهُ بِخَيْر فَإِنَّ اَلثَّوَابَ إِذَا اِنْقَسَمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ اَلْحَدِيثَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِمِثْلِ ثَوَابِ اَلْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ دَلَالَة أَوْ مُشَارَكَة أَوْ نِيَّة صَالِحَة فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي عَدَمِ اَلتَّضْعِيفِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَصَرْف اَلْخَبَر عَنْ ظَاهِرِهِ يَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَنَد وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ اَلْقَائِلِ أَنَّ اَلْعَامِلَ يُبَاشِرُ اَلْمَشَقَّة بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ اَلدَّالِّ وَنَحْوِه لَكِنَّ مَنْ يُجَهِّزُ اَلْغَازِيَ بِمَالِهِ مَثَلًا وَكَذَا مَنْ يَخْلُفُهُ فِيمَنْ يَتْرُكُ بَعْدَهُ يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنْ اَلْمَشَقَّةِ أَيْضًا فَإِنَّ اَلْغَازِيَّ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ اَلْغَزْو إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ اَلْعَمَلُ فَصَارَ كَأَنَّهُ يُبَاشِرُ مَعَهُ اَلْغَزْوَ بِخِلَافِ مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى اَلنِّيَّةِ مَثَلًا وَاَللَّه أَعْلَمُ.
(3) - قلت: الإكراه نوعان بحق وبغير حق، وقد جاءت هذه الشريعة الغراء بهما معا
انظر جامع العلوم والحكم - (ج 39 / ص 18) وأحكام القرآن لابن العربي - (ج 5 / ص 215) وفتاوى الأزهر - (ج 2 / ص 68) وفتاوى الرملي - (ج 4 / ص 348) والفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 9 / ص 124 - 238) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 3620) والموسوعة الفقهية1 - 45 كاملة - (ج 2 / ص 2014) والفقه الإسلامي وأدلته - (ج 4 / ص 570) وحاشية رد المحتار - (ج 6 / ص 420) ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر - (ج 7 / ص 305) والمجموع شرح المهذب - (ج 9 / ص 159) وحاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 7 / ص 393) والمغني - (ج 16 / ص 239) وشرح زاد المستقنع - (ج 288 / ص 3) وأصول السرخسي - (ج 2 / ص 290) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 12) والأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 368) والقواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير - (ج 1 / ص 34) ودرر الحكام في شرح مجلة الأحكام - (ج 7 / ص 81).(1/294)