ـ[مجموع الفتاوى]ـ
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية
عام النشر: 1416هـ/1995م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
الكتاب مشكول ومقابل مع إضافة:
1 - العناوين التي وضعها محققا طبعة دار الوفاء (أنور الباز وعامر الجزار) ط 3، 1426 هـ / 2005 م
2 - في الهامش أضيف كتاب صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف، للشيخ ناصر بن حمد الفهد / نشر: دار أضواء السلف، الطبعة الأولى: 1423 هـ / 2003 م.
3 - تم تصحيح الأخطاء المطبعية والتصحيفات:
- التي استدركها محققا ط الوفاء على الطبعة القديمة. (طبعة عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله)
- التي ذكرها الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه: صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف.
- أخطاء أو تصحيفات أخرى.
أعده للمكتبة الشاملة: أسامة بن الزهراء، من فريق عمل الشاملة(/)
فهرس الكتب والرسائل والمسائل المودعة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
- الاحتجاج بالقدر 8 / 303 - 370
- الأربعون حديثا التي يرويها ابن تيمية 18 / 76 - 120
- أقسام القرآن 13 / 329 - 375
- أقدم ما قيل في القضاء والقدر 8 / 81 - 158
- الإكليل في المتشابه والتأويل 13 / 270 - 313
- أمراض القلوب وشفاؤها 10 / 91 - 137
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 28 / 121 - 178
- أهل الصفة 11 / 37 - 70
- إيضاح الدلالة على عموم الرسالة 19 / 9 - 65
- الإيمان الكبير 7 / 5 - 460
- الإيمان الأوسط 7 / 460 - 640
- البغدادية فيما يحل من الطلاق ويحرم 33 / 5 - 43
- التبيان في نزول القرآن 12 / 246 - 257
- التحفة العراقية في الأعمال القلبية 10 / 5 - 90
- تفسير سورة الأحزاب 28 / 424 - 467
- تفسير سورة الإخلاص 17 / 214 - 503
- تفسير سورة الكوثر 1 / 224 - 228
- تفسير سورة النور 15 / 280 - 427
- تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية 13 / 14 / 15 / 16 / 17
- تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال 6 / 68 - 144
- جواب أهل العلم والايمان أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن 17 / 5 - 305
- الجواب الباهر في زوار المقابر 27 / 314 - 443
- الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الاسلام من بدع الجهمية والصوفية 2 / 286 - 316
- الحسبة 28 / 60 - 120
- الحسنة والسيئة 14 / 229 - 425
- حقيقة مذهب الاتحاديين 2 / 134 - 285
- الحقيقة والمجاز 20 / 400 - 497
- الحموية الكبرى 5 / 5 - 120
- رأس الحسين 27 / 450 - 489
- الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم 2 / 362 - 451
- الرد على الأخنائي 27 / 214 - 288
- رسالة الى أصحابه وهو في السجن 28 / 30 - 59
- الرسالة الأكملية 6 / 68 - 144
- رسالة الى أهل البحرين 6 / 485 - 506
- رسالة الى نصر المنبجي 2 / 452 - 479
- الرسالة التدمرية 3 / 1 - 128
- الرسالة العرشية 6 / 545 - 583
- رسالة في علم الظاهر والباطن 13 / 230 - 269
- رسالة في معنى القياس 20 / 504 - 585
- رسالة في الهلال 25 / 126 - 201
- الرسالة القبرصية 28 / 601 - 630
- الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز في الصفات 6 / 351 - 373
- رفع الملام عن الأئمة الأعلام 20 / 231 - 290
- السماع 11 / 587 - 602
- السماع والرقص 11 / 557 - 586
- سؤال حول حديث (لا اله إلا أنت سبحانك.. 10 / 237 - 336
- سؤال عن الحديث المروي في الأبدال 11 / 433 - 444
- السياسة الشرعية 28 / 244 - 397
- شرح حديث إنما الأعمال بانيات 18 / 244 - 284
- شرحت حديث اني حرمت الظلم 18 / 136 - 209
- شرح حديث كان الله ولم يكن شيء قبله 18 / 210 - 243
- شرح حديث النزول 5 / 321 - 582
- صحة مذهب أهل المدينة 20 / 294 - 396
- الصوفية والفقراء 11 / 5 - 24
- العبودية 10 / 149 - 236
- العقيدة الواسطية 3 / 129 - 159
- فتوى في حكم القيام والانحناء والألقاب 1 / 372، 374، 377، 26 / 311
- فتوى في النصيرية 35 / 145 - 160
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11 / 156 - 310
- الفرقان بين الحق والباطل 13 / 5 - 229
- قاعدة في الأسماء والصفات.. 6 / 144 - 184
- قاعدة في توحيد الملة وتعدد الشرائع 19 / 106 - 128
- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 1 / 142 - 368
- قاعدة في الاسم والمسمى 6 / 185 - 212
- قاعدة في أهل السنة والجماعة 3 / 278 - 292
- قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم 19 / 203 - 227
- قاعدة في توحيد الألوهية 1 / 20 - 36
- قاعدة في القرآن وكلام الله 12 / 5 - 36
- قاعدة في المعجزات والكرامات 11 / 311 - 362
- قاعدة في مواضع الأئمة في مجامع الأمة 35 / 36 - 46
- القاعدة المراكشية 5 / 153 - 193
- القرآن العظيم كلام الله 12 / 117 - 161
- القضاء والقدر 8 / 262 - 271
- الكيلانية 12 / 323 - 501
- مراتب الإرادة 8 / 181 - 196
- المرشدة أصلها وتأليفها 11 / 476 - 491
- مسألة الأحرف 12 / 37 - 116
- مسألة في اتباع الرسول بصريح المعقول 10 / 430 - 453
- مسألة في الفقر والتصوف 11 / 25 - 36
- مسألة القدر 8 / 245 - 255
- المسألة المصرية في القرآن 12 / 162 - 234
- مسألة وضع الجوائح 30 / 263 - 302
- المظالم المشتركة 30 / 337 - 355
- معارج الوصول 19 / 155 - 202
- مقدمة في أصول التفسير 13 /329 - 375
- مناظرة حول الواسطية 3 / 160 -193
- مناظرة في الحمد والشكر بين ابن تيمية وابن المرحل 11 / 135 - 155
منسك ابن تيمية 26 / 98 - 159
- نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان 9 / 82 - 254
- نقض المنطق 4 / 1 - 190
- الهجر الجميل والصفح الجميل 10 / 666 - 677
- الواسطة بين الحق والخلق 1 / 121 - 128
- الوصية الصغرى 10 / 653 - 665
- الوصية الكبرى 3 / 363 - 430
المراجع:
1 - رسالة لفضيلة الشيخ د. عبد الرحمن بن صالح المحمود في مؤلفات شيخ الإسلام
2 - الإشارات إلى أسماء الرسائل المودعة في بطون المجلدات والمجلات للشيخ مشهور بن حسن
____________
نقلاً عن:
http://arabic.islamicweb.com(/)
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ
كِتَابُ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الْعَالِمِ بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ الَّذِي: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الَّذِي {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الَّذِي دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ فِي إلَهِيَّتِهِ أَجْنَاسُ الْآيَاتِ وَأَبَانَ عِلْمُهُ لِخَلِيقَتِهِ مَا فِيهَا مِنْ إحْكَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَظْهَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى بَرِيَّتِهِ مَا أَبْدَعَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُحْدَثَاتِ، وَأَرْشَدَ إلَى فِعْلِهِ بِسُنَّتِهِ تَنَوُّعُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَاتِ وَأَهْدَى بِرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ نِعَمَهُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَأَعْلَمَ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ دَلَائِلُ حَمْدِهِ وَثَنَائِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ الَّتِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُتَنَزِّهُ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ فِي نُعُوتِ الْكَمَالِ أَوْ يَلْحَقَهُ شَيْءٌ مِنْ الْآفَاتِ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ(1/1)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، مُبَشِّرِينَ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ بِغَايَةِ الْمُرَادِ مِنْ كُلِّ مَا تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وَتَرَاهُ نَعِيمًا؛ وَمُنْذِرِينَ لِمَنْ عَصَاهُمْ بِاللَّعْنِ وَالْإِبْعَادِ وَأَنْ يُعَذَّبُوا عَذَابًا أَلِيمًا، وَأَمَرَهُمْ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا لِيَسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَلَا يَبْغُوا عَنْهُ اعْوِجَاجًا. وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَصَفْوَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الشَّاهِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ الْهَادِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ الَّذِي أَخْرَجَ بِهِ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ والشِّرَعِ، وَأَحْبَطَ بِهِ أَصْنَافَ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبَاءِ، وَجَعَلَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ. وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، يُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا أَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَعَصَمَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلَ مِنْ الرِّسَالَةِ وَأَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا وَأَظْهَرَهُ عَلَى(1/2)
الدِّينِ كُلِّهِ إظْهَارًا بِالنُّصْرَةِ وَالتَّمْكِينِ وَإِظْهَارًا بِالْحُجَّةِ وَالتَّبْيِينِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ عُلَمَاءَهُمْ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ يَقُومُونَ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْكِتَابِ، وَطَائِفَةً مَنْصُورَةً لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ إلَى حِينِ الْحِسَابِ، وَحَفِظَ لَهُمْ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فَلَا يَقَعُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَا وَقَعَ مِنْ أَصْحَابِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَخَصَّهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَجَعَلَ هَذَا الْمِيرَاثَ يَحْمِلُهُ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ لِتَدُومَ بِهِمْ النِّعْمَةُ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَظْهَرَ بِهِمْ النُّورُ مِنْ الظُّلْمَةِ، وَيَحْيَا بِهِمْ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ بِهِمْ لِلنَّاسِ سَبِيلَهُ، فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَتْبَعُهُمْ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمَنْعُوتِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَمَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ أَرْسَلَهُ وَالنَّاسُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فِي أَقْبَحِ خَيْبَةٍ وَأَسْوَأِ حَالٍ. فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ وَهَدْيِ الْعَالَمِينَ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ حَتَّى طَلَعَتْ شَمْسُ الْإِيمَانِ، وَأَدْبَرَ لَيْلُ الْبُهْتَانِ، وَعَزَّ جُنْدُ الرَّحْمَنِ، وَذَلَّ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَظَهَرَ نُورُ الْفُرْقَانِ وَاشْتَهَرَتْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَأُعِلْنَ بِدَعْوَةِ الْأَذَانِ،(1/3)
وَاسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْبُلْدَانِ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، لَمَّا قَامَ الْمُسْتَجِيبُ مِنْ معد بْنِ عَدْنَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ صَلَاةً يَرْضَى بِهَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَقْرُونًا بِالرِّضْوَانِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْعِبَادِ، وَلَا نَجَاةَ فِي الْمَعَادِ إلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قُطْبُ السَّعَادَةِ الَّتِي عَلَيْهِ تَدُورُ، وَمُسْتَقَرُّ النَّجَاةِ الَّذِي عَنْهُ لَا تَحُورُ. فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وَإِنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَلَا عِبَادَةَ إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي دِينِ اللَّهِ؛ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ عَنْ سَبِيلِهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ {أَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} ". وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى:(1/4)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقَوْله تَعَالَى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُوجِبَةً لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَبْدَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . فَمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي} . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ الْكَفْرُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالرِّبْحُ مِنْ الْخُسْرَانِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ، وَالنَّجَاةُ مِنْ الْوَبَالِ، وَالْغَيُّ مِنْ الرَّشَادِ، وَالزَّيْغُ مِنْ السَّدَادِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُتَّقُونَ مِنْ الْفُجَّارِ وَإِيثَارُ سَبِيلِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. فَالنُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا. وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ. فَحَقَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ إذْ(1/5)
هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ. إذْ لَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ. بَلْ كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ لَا يُرَى إلَّا مَعَ ظُهُورِ نُورٍ قُدَّامَهُ فَكَذَلِكَ نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ. فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِهِمَا أَتَمَّ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِنَّةَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ (الْحِكْمَةُ) : هِيَ السُّنَّةُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ أَنْ يَذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الرَّسُولُ يَتْلُوهُ هُوَ السُّنَّةُ.(1/6)
وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. وفي رِوَايَةٍ أَلَا وَإِنَّهُ مِثْلُ الْكِتَابِ} . وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُتَمَيِّزًا بِنَفْسِهِ - لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِعْجَازِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ كَلَامَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وَكَانَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ - لَمْ يَطْمَعْ أَحَدٌ فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَحُرُوفِهِ؛ وَلَكِنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُدْخِلَ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ فِي مَعَانِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، وَطَمِعَ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ النَّقْصِ وَالِازْدِيَادِ مَا يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ الْعِبَادِ. فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَهَابِذَةَ النُّقَّادَ أَهْلَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ، فَدَحَرُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبُهْتَانِ وَانْتُدِبُوا لِحِفْظِ السُّنَّةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّقْصَانِ. وَقَامَ كُلٌّ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ - مَقَامَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِينَ فَقِهُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ - بِدَفْعِ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَأِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ: الَّذِي لَا يَسُوغُ عَنْهُ الْعُدُولُ؛ وَمِنْهُ الْخَفِيُّ: الَّذِي يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِلْعُلَمَاءِ الْعُدُولِ. وَقَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلَادِ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَفَارَقُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَأَنْفَقُوا فِيهِ الطَّارِفَ وَالتِّلَادَ، وَصَبَرُوا فِيهِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَقَنَعُوا مِنْ الدُّنْيَا بِزَادِ الرَّاكِبِ،(1/7)
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَأْثُورَةِ، مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَعْلُومٌ، وَلِمَنْ طَلَبَ مَعْرِفَتَهُ مَعْرُوفٌ مَرْسُومٌ، بِتَوَسُّدِ أَحَدِهِمْ التُّرَابَ وَتَرْكِهِمْ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْكِ مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَرَارَةِ الِاغْتِرَابِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ الصِّعَابِ، أَمْرٌ حَبَّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَحَلَّاهُ لِيَحْفَظَ بِذَلِكَ دِينَ اللَّهِ. كَمَا جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيَتَحَمَّلُونَ فِيهِ أُمُورًا مُؤْلِمَةً تَحْصُلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَمَا حُبِّبَ إلَى أَهْلِ الْقِتَالِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ يَحْفَظُ بِهَا الدِّينَ لِيَهْدِيَ الْمُهْتَدِينَ، وَيُظْهِرَ بِهِ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ، الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِ الدِّينِ يَعْمَلُهَا لِلَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ثَنَاءُ الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ؛ أَوْ تُرَى لَهُ. {فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِنَفْسِهِ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؛ قَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ} . وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَقَالَ: {هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ؛ أَوْ تُرَى لَهُ} . وَالْقَائِمُونَ بِحِفْظِ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّبَّانُ الْحَافِظُونَ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، هُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ(1/8)
الْمُفْلِحِينَ، بَلْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْفَعْ اللَّهُ [الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (1) .
وَعِلْمُ الْإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ سُلَّمًا إلَى الدِّرَايَةِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا إسْنَادَ لَهُمْ يَأْثُرُونَ بِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَهَكَذَا الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَهْلُ الضَّلَالَاتِ، وَإِنَّمَا الْإِسْنَادُ لِمَنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَالْمُعْوَجِّ وَالْقَوِيمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكُفَّارِ إنَّمَا عِنْدَهُمْ مَنْقُولَاتٌ يَأْثُرُونَهَا بِغَيْرِ إسْنَادٍ، وَعَلَيْهَا مِنْ دِينِهِمْ الِاعْتِمَادُ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ فِيهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِي مِنْ الْعَاطِلِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ: فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالدِّينِ هُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى يَقِينٍ، فَظَهَرَ لَهُمْ الصِّدْقُ مِنْ الْمَيْنِ، كَمَا يَظْهَرُ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ. عَصَمَهُمْ اللَّهُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ فِي دِينِ اللَّهِ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَأَمَرَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُكْمِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حَقًّا، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
بياض بالأصل، والزيادة من الحاكم في التفسير 2 / 481 وقال: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإسناد ولم يُخَرِّجَاهُ " ووافقه الذهبي(1/9)
الْحَدِيثِ عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا صِدْقًا، وَلِكُلِّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَنْ هُوَ بِهَذَا الْأَمْرِ حَفِيٌّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُمْ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ، وَكَمَا عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ الْوُجُودِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ، لَمَّا صَدَقُوا فِي مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَدَلَ عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} .
وَأَهْلُ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ النَّاسِ قِيَامًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ، لَا تَأْخُذُ أَحَدَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْعَظَائِمُ؛ بَلْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وَلَهُمْ مِنْ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّصْحِيحِ مِنْ السَّعْيِ الْمَشْكُورِ وَالْعَمَلِ الْمَبْرُورِ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الدِّينِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ إحْدَاثِ الْمُفْتَرِينَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ، مِنْهُمْ الْمُقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِيهِ.(1/10)
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَّةَ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ شَهِدَ لِمَنْ غَابَ، وَدَعَا لِلْمُبَلِّغِينَ بِالدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً؛ وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ؛ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} . وَقَالَ أَيْضًا فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: {أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} . وَقَالَ أَيْضًا: {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ؛ ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ} . وَفِي هَذَا دُعَاءٌ مِنْهُ لِمَنْ بَلَّغَ حَدِيثَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَدُعَاءٌ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ أَفْقَهَ مِنْ الْمُبَلِّغِ؛ لِمَا أُعْطِيَ الْمُبَلِّغُونَ مِنْ النَّضْرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا وَفِي وَجْهِهِ نَضْرَةٌ؛ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ: نَضَرَ وَنَضُرَ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يُعَظِّمُونَ نَقَلَةَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّحَابَةِ مِنْ تَبْلِيغِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَهْلُ الْحَدِيثِ حَفِظُوا فَلَهُمْ عَلَيْنَا الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا لَنَا اهـ.(1/11)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
قَاعِدَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ وَنَتِيجَتُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَصَّى بِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . وَقَوْلِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ} فَجَاءَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ بَاسِمِ الَّذِي وَبِلَفْظِ الْإِيحَاءِ، وَفِي سَائِرِ الرُّسُلِ بِلَفْظِ " الْوَصِيَّةِ ".
ثُمَّ قَالَ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} وَهَذَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ، و (أَنْ) : الْمُفَسِّرَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ لَا مِنْ لَفْظِهِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ} . {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} وَالْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} فِي مَعْنَى قَالَ: لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ رُسُلًا قُلْنَا أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فَالْمَشْرُوعُ لَنَا هُوَ الْمُوصَى بِهِ، وَالْمُوحَى، وَهُوَ: {أَقِيمُوا الدِّينَ} فَأَقِيمُوا الدِّينَ مُفَسِّرٌ(1/12)
لِلْمَشْرُوعِ لَنَا الْمُوصَى بِهِ الرُّسُلُ، وَالْمُوحَى إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ فِي أَقِيمُوا عَائِدٌ إلَيْنَا. وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُرْسَلِ. وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ. وَهَذَا أَحْسَنُ وَنَظِيرُهُ. أَمَرْتُكَ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ زَيْدًا. أَنْ أَطِعْ اللَّهَ، وَوَصَّيْتُكُمْ بِمَا وَصَّيْتُ بَنِي فُلَانٍ: أَنْ افْعَلُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ بَدَلًا مِنْ (مَا) أَيْ شَرَعَ لَكُمْ أَنْ أَقِيمُوا وَعَلَى الثَّانِي: شَرَعَ (مَا خَاطَبَهُمْ. أَقِيمُوا فَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ مَا قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ. وَعَلَى الثَّالِثِ: شَرَعَ الْمُوصَى بِهِ (أَقِيمُوا) فَلَمَّا خَاطَبَ بِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا مَقُولَةٌ لَنَا، وَمَقُولَةٌ لَهُمْ: عَلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا. وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَرْجِعُ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الَّذِي شُرِعَ لَنَا: هُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالنَّهْيُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ؛ وَلَكِنَّ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الضَّمِيرَ تَنَاوَلَهُمْ لَفْظُهُ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قِيلَ لَنَا مِثْلُهُ؛ أَوْ بِالْعَكْسِ؛ أَوْ تَنَاوَلَنَا جَمِيعًا
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ والآخرين بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ فِيهِ شَرِيعَتُهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِنَا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَوْحَاهُ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِخِلَافِ نُوحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّمَا شَرَعَ لَنَا مِنْ الدِّينِ مَا وُصُّوا بِهِ؛ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ التَّفَرُّقِ فِيهِ. وَالدِّينُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ: هُوَ الْأُصُولُ. فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ أَشْيَاءَ:(1/13)
أَحَدُهَا: أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا الدِّينَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالدِّينُ الْمُخْتَصُّ بِنَا؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْخَاصُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُخْتَصِّ وَنَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرَكِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} بَيْنَ قَوْلِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} وَقَوْلِهِ: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أَفَادَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ. [وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا بَغْيًا، وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ. . . (1) : الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ] ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّفَرُّقِ عَنْ اجْتِهَادٍ لَيْسَ فِي عِلْمٍ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الْبَغْيَ كَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ السَّائِغِ، وَالْبَغْيُ إمَّا تَضْيِيعٌ لِلْحَقِّ، وَإِمَّا تَعَدٍّ لِلْحَدِّ؛ فَهُوَ إمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ، وَإِمَّا فِعْلُ مُحَرَّمٍ؛ فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَ التَّفَرُّقِ هُوَ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَأَخْبَرَ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ - كَانَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَهْلِ مِلَّتِنَا مِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَنَازِعَةِ فِي أُصُولِ دِينِهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِهِ مِنْ أَهْلِ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض بالأصل
قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 14) :
" والظاهر أن موضع البياض هو تفسير ابن عمر رضي الله عنهما للبغي، وقد روى ابن جرير رحمه الله في تفسيره (3 / 231) عن ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} من سورة آل عمران: " بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس " ".(1/14)
الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَمِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَبَيْنَ الْعِبَادِ؛ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الموسوية أَوْ العيسوية حَتَّى يَبْقَى فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ: لَيْسَتْ الْأُخْرَى عَلَى شَيْءٍ. كَمَا نَجِدُ الْمُتَفَقِّهَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْهُ بِأَعْمَالِ بَاطِنَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِي طَرِيقَةَ الْآخَرِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ إعْرَاضَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَكِلَا الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ. قَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَقَالَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . فَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ، إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ، وَيَزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا. وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ. وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ، إنَّمَا هَمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ؛ حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا؛ وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا. فَالْأَوَّلُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ(1/15)
الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْيَهُودِ. وَالْآخَرُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الشَّرِّ - الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ - مِنْ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ مِنْ إرَادَةِ الشَّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ الْمَعْرِفَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ قَدْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيُقِيمُونَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى. وَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِسَبَبِ تَرْكِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إمَّا تَفْرِيطًا وَتَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، وَإِمَّا عُدْوَانًا وَفِعْلًا لِلظُّلْمِ. وَالْبَغْيُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَارَةً يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَلِهَذَا قَالَ: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمْ تَعْرِفْ حَقَّهَا الَّذِي بِأَيْدِيهَا وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ(1/16)
الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْبُدُ إلَهًا يَهْوَاهُ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا. وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ: تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ. وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ: رَحْمَةُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُهُ، وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ. وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ: عَذَابُ اللَّهِ، وَلَعْنَتُهُ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ بِذَلِكَ مَرْحُومِينَ، فَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ: بِفِعْلِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ مِنْ اعْتِقَادٍ، أَوْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ، أَوْ الْعَمَلُ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَلَا سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ " التَّنْبِيهِ " نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ.(1/17)
وَقَالَ:
فَصْلٌ:
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ {ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ} وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ: {إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ} . فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ؛ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ؛ أَمَّا الْخَاصُّ فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ. وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ: رُعَاةٌ وَرَعِيَّةٌ؛ فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ؛ وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ(1/18)
عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا؛ فَهَذِهِ الْخِصَالُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ تَمِيمٍ الداري قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ} . فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ تَدْخُلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ هِيَ مُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ لُزُومَ جَمَاعَتِهِمْ هِيَ نَصِيحَتُهُمْ الْعَامَّةُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الْخَاصَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، فَهَذِهِ يُمْكِنُ بَعْضُهَا وَيَتَعَذَّرُ اسْتِيعَابُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ.(1/19)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَبَعْدُ: فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْوَجْهِ وَالْعَمَلِ لَهُ، عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الْآيَةَ.(1/20)
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} الْآيَةَ. وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِي إجْمَاعِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ قُطْبُ رَحَى الدِّينِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. وَنُبَيِّنُ هَذَا بِوُجُوهِ نُقَدِّمُ قَبْلَهَا مُقَدِّمَةً. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ بَلْ كُلُّ حَيٍّ بَلْ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ سِوَى اللَّهِ هُوَ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَالْمَنْفَعَةُ لِلْحَيِّ هِيَ مِنْ جِنْسِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ؛ وَالْمَضَرَّةُ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَقْصُودُ الْمَحْبُوبُ الَّذِي يُنْتَفَعُ وَيُلْتَذُّ بِهِ.
وَالثَّانِي: هُوَ الْمُعِينُ الْمُوَصِّلُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَالْمَانِعُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ. وَهَذَانِ هُمَا الشَّيْئَانِ الْمُنْفَصِلَانِ الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ فَهُنَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَمْرٌ هُوَ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبُ الْوُجُودِ.(1/21)
وَالثَّانِي: أَمْرٌ مَكْرُوهٌ مُبْغَضٌ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ. وَالثَّالِثُ: الْوَسِيلَةُ إلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ. وَالرَّابِعُ: الْوَسِيلَةُ إلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأُمُورِ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بَلْ وَلِكُلِّ حَيٍّ لَا يَقُومُ وُجُودُهُ وَصَلَاحُهُ إلَّا بِهَا؛ وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْمَدْعُوَّ الْمَطْلُوبَ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَكْرُوهُ، وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْجَامِعُ لِلْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَتَضَمَّنُ الْمَقْصُودَ الْمَطْلُوبَ؛ لَكِنْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَالْأَوَّلُ مِنْ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ. وَالثَّانِي مِنْ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ؛ إذْ الْإِلَهُ: هُوَ الَّذِي يُؤَلَّهُ فَيُعْبَدُ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَالرَّبُّ: هُوَ الَّذِي يُرَبِّي عَبْدَهُ فَيُعْطِيهِ خَلْقَهُ ثُمَّ يَهْدِيهِ إلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَوْلُهُ: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . وقَوْله تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} وَقَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا} {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ تَنْتَظِمُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ.(1/22)
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ الْجَامِعَةِ لِمَعْرِفَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ؛ وَبِرُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ تَقَرُّ عُيُونُهُمْ وَلَا شَيْءَ يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَلَا شَيْءَ يُعْطِيهِمْ فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ. وَحَاجَتُهُمْ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ وَتَأَلُّهِهِمْ كَحَاجَتِهِمْ وَأَعْظَمَ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ وَرُبُوبِيَّتِهِ إيَّاهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ لَهُمْ؛ وَبِذَلِكَ يَصِيرُونَ عَامِلِينَ مُتَحَرِّكِينَ، وَلَا صَلَاحَ لَهُمْ وَلَا فَلَاحَ؛ وَلَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ؛ بِدُونِ ذَلِكَ بِحَالِ. بَلْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا كَانَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَحْسَنَ الْحَسَنَاتِ، وَكَانَ التَّوْحِيدُ بِقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ رَأْسَ الْأَمْرِ. فَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْخَلْقُ، وَقَرَّرَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ؛ فَلَا يَكْفِي وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى: {يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ، وَخَلَقْتُكَ لِي، فَبِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْتُهُ لَكَ، عَمَّا خَلَقْتُكَ لَهُ} . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قَالَ: حَقُّهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} .(1/23)
وَهُوَ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَيَرْضَى بِهِ؛ وَيَرْضَى عَنْ أَهْلِهِ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ مَنْ عَادَ إلَيْهِ؛ كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذَّةَ الْعَبْدِ وَسَعَادَتَهُ وَنَعِيمَهُ؛ وَقَدْ بَيَّنْتُ بَعْضَ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَيْسَ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يَسْكُنُ الْعَبْدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ، وَيَتَنَعَّمُ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ؛ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَإِنْ أَحَبَّهُ وَحَصَلَ لَهُ بِهِ مَوَدَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِنْ اللَّذَّةِ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ لِصَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْتِذَاذِ أَكْلِ طَعَامِ الْمَسْمُومِ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فَإِنَّ قِوَامَهُمَا بِأَنْ تَأَلَّهَ الْإِلَهُ الْحَقُّ فَلَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إلَهًا حَقًّا؛ إذْ اللَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ؛ فَكَانَتْ تَفْسُدُ لِانْتِفَاءِ مَا بِهِ صَلَاحُهَا، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ فَشَيْءٌ آخَرُ؛ كَمَا نُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَقْرَ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فَيُقَاسُ بِهِ؛ لَكِنْ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ حَاجَةَ الْجَسَدِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ كَثِيرَةٌ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْعَبْدِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ، وَهِيَ لَا صَلَاحَ لَهَا إلَّا بِإِلَهِهَا اللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ: فَلَا تَطْمَئِنُّ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِذِكْرِهِ: وَهِيَ كَادِحَةٌ إلَيْهِ كَدْحًا فَمُلَاقِيَتُهُ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ لِقَائِهِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا إلَّا بِلِقَائِهِ. وَلَوْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ لَذَّاتٌ أَوْ سُرُورٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَدُومُ ذَلِكَ، بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ، وَمِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ، وَيَتَنَعَّمُ بِهَذَا فِي وَقْتٍ وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَتَارَةً أُخْرَى يَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي يَتَنَعَّمُ بِهِ وَالْتَذَّ غَيْرَ مُنْعِمٍ لَهُ وَلَا مُلْتَذٍّ لَهُ، بَلْ قَدْ(1/24)
يُؤْذِيهِ اتِّصَالُهُ بِهِ وَوُجُودُهُ عِنْدَهُ، وَيَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إلَهُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ وَقْتٍ، وَأَيْنَمَا كَانَ فَهُوَ مَعَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ إمَامُنَا (إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} .وَكَانَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى الْقَيُّومِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَعْدَمُ، وَلَا يَفْنَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَعِبَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ هُوَ غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَقُوتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقِوَامُهُ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ لَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَعْتَقِدُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ: أَنَّ عِبَادَتَهُ تَكْلِيفٌ وَمَشَقَّةٌ. وَخِلَافُ مَقْصُودِ الْقَلْبِ لِمُجَرَّدِ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ؛ أَوْ لِأَجْلِ التَّعْوِيضِ بِالْأُجْرَةِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْجُرُ الْعَبْدَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ الْمَشَقَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} الْآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: {أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ} - فَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِأَسْبَابِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا، وَهَذَا يُفَسَّرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ إطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ تَكْلِيفٌ كَمَا يُطْلِقُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّكْلِيفِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ كَقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} .(1/25)
{لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} أَيْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ تَكْلِيفٌ؛ فَلَا يُكَلَّفُ إلَّا قَدْرَ الْوُسْعِ، لَا أَنَّهُ يُسَمِّي جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفًا، مَعَ أَنَّ غَالِبَهَا قُرَّةُ الْعُيُونِ وَسُرُورُ الْقُلُوبِ؛ وَلَذَّاتُ الْأَرْوَاحِ وَكَمَالُ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ لِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَذِكْرِهِ وَتَوَجُّهِ الْوَجْهِ إلَيْهِ، فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ أَبَدًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} فَهَذَا أَصْلٌ. (الْأَصْلُ الثَّانِي: النَّعِيمُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا مِثْلُ النَّظَرِ إلَيْهِ لَا كَمَا يَزْعُمُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لَا نَعِيمَ وَلَا لَذَّةَ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ: مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ اللَّذَّةُ وَالنَّعِيمُ التَّامُّ فِي حَظِّهِمْ مِنْ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ} . رَوَاهُ النَّسَائِي وَغَيْرُهُ وَفِي صَحِيحِ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ عَنْ " صهيب " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {: إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؛ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ؛ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ - سُبْحَانَهُ. فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ} . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ تَنَعُّمِهِمْ بِمَا أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ لِأَنَّ تَنَعُّمَهُمْ وَتَلَذُّذَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ بِغَيْرِهِ. فَإِنَّ اللَّذَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالْمَحْبُوبِ، فَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إلَى الْإِنْسَانِ كَانَ حُصُولُهُ أَلَذَّ لَهُ، وَتَنَعُّمُهُ بِهِ أَعْظَمَ.(1/26)
وَرُوِيَ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ الْمَزِيدِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يُصَدِّقُ هَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {ثُمَّ إنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} . فَعَذَابُ الْحِجَابِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَلَذَّةُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَعْلَى اللَّذَّاتِ؛ وَلَا تَقُومُ حُظُوظُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مَقَامَ حَظِّهِمْ مِنْهُ تَعَالَى. وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ ثَابِتَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَعَلَيْهِمَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ؛ وَعَلَيْهِمَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَعَوَامُّ الْأُمَّةِ؛ وَذَلِكَ مِنْ فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ عَلَى مَنْ يُنْكِرُهَا بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ تَارَةً؛ وَبِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ أُخْرَى - إذَا أَنْكَرَ اللَّذَّةَ - فَإِنَّ ذَوْقَهَا وَوَجْدَهَا يَنْفِي إنْكَارَهَا. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَمْثَالِ تَارَةً؛ وَهِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْعَبْدِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ؛ وَلَا عَطَاءٌ وَلَا مَنْعٌ؛ وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالٌ؛ وَلَا نَصْرٌ وَلَا خِذْلَانٌ؛ وَلَا خَفْضٌ وَلَا رَفْعٌ؛ وَلَا عِزٌّ وَلَا ذُلٌّ؛ بَلْ رَبُّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ؛ وَبَصَّرَهُ وَهَدَاهُ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ؛ فَإِذَا مَسَّهُ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا يَكْشِفُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ؛ وَإِذَا أَصَابَهُ بِنِعْمَةٍ لَمْ يَرْفَعْهَا عَنْهُ سِوَاهُ؛ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِلْعَامَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا خُوطِبُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لَكِنْ إذَا تَدَبَّرَ اللَّبِيبُ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ؛ وَجَدَ أَنَّ اللَّهَ يَدْعُو عِبَادَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى الْأَوَّلِ. فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي؛ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ. وَدُعَاءَهُ. وَمَسْأَلَتَهُ، دُونَ مَا سِوَاهُ. وَيَقْتَضِي أَيْضًا مَحَبَّةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ لِإِحْسَانِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَإِسْبَاغِ(1/27)
نِعَمِهِ عَلَيْهِ؛ وَحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ فِي هَذِهِ النِّعَمِ، وَلَكِنْ إذَا عَبَدُوهُ وَأَحَبُّوهُ؛ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ دَخَلُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَنَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ نَزَلَ بِهِ بَلَاءٌ عَظِيمٌ أَوْ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ أَوْ خَوْفٌ مُقْلِقٌ؛ فَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ لَهُ مِنْ لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ مَا كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْحَاجَةِ الَّتِي قَصَدَهَا أَوَّلًا؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَوَّلًا حَتَّى يَطْلُبَهُ وَيَشْتَاقَ إلَيْهِ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَمِنْ ذِكْرِ نَعْمَائِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَمِنْ ذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ صُنُوفِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ فَهَذَا الْوَجْهُ يُحَقِّقُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالشُّكْرَ لَهُ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى إحْسَانِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إنَّ تَعَلُّقَ الْعَبْدِ بِمَا سِوَى اللَّهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ؛ إذَا أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى حَاجَتِهِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ إنْ نَالَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَوْقَ حَاجَتِهِ؛ ضَرَّهُ وَأَهْلَكَهُ؛ وَكَذَلِكَ مِنْ النِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ؛ وَإِنْ أَحَبَّ شَيْئًا حُبًّا تَامًّا بِحَيْثُ يخالله فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَمَهُ؛ أَوْ يُفَارِقَهُ. وَفِي الْأَثَرِ الْمَأْثُورِ: {أَحْبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ. وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ. وَكُنْ كَمَا شِئْتَ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ} . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَضُرَّهُ مَحْبُوبُهُ؛ وَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَذَابِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ يُمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتِهِ. يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ. أَنَا مَالُك. وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ: يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَلَيْسَ عَدْلًا مِنِّي أَنْ أُوَلِّيَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ فِي الدُّنْيَا؟} وَأَصْلُ التَّوَلِّي(1/28)
الْحُبُّ؛ فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ وَلَّاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تَوَلَّاهُ؛ وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا؛ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَالضَّرَرُ حَاصِلٌ لَهُ إنْ وُجِدَ؛ أَوْ فُقِدَ؛ فَإِنْ فُقِدَ عُذِّبَ بِالْفِرَاقِ وَتَأَلَّمَ؛ وَإِنْ وُجِدَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَلَمِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ اللَّذَّةِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِقْرَاءِ؛ وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَضَرَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ؛ فَصَارَتْ الْمَخْلُوقَاتُ وَبَالًا عَلَيْهِ إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَالٌ وَجَمَالٌ لِلْعَبْدِ؛ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ؛ وَغَيْرُهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ يُوجِبُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَخْذُلُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ وَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِقْرَاءِ؛ مَا عَلَّقَ الْعَبْدُ رَجَاءَهُ وَتَوَكُّلَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ إلَّا خَابَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؛ وَلَا اسْتَنْصَرَ بِغَيْرِ اللَّهِ إلَّا خُذِلَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمَخْلُوقِ؛ فَلَمَّا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَانَ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ. وَكَانَ فِي عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ؛ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ؛ مَضَرَّتُهُ وَهَلَاكُهُ وَفَسَادُهُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ. حَمِيدٌ. كَرِيم. وَاجِدٌ. رَحِيمٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحْسِنٌ إلَى عَبْدِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ؛ يُرِيدُ بِهِ الْخَيْرَ وَيَكْشِفُ عَنْهُ الضُّرَّ؛ لَا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ؛ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ؛ بَلْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا؛ وَالْعِبَادُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْمَلُوا إلَّا لِحُظُوظِهِمْ؛ فَأَكْثَرُ مَا عِنْدَهُمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحِبُّوهُ وَيُعَظِّمُوهُ؛ وَيَجْلِبُوا(1/29)
لَهُ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً مَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا لِحُظُوظِهِمْ مِنْ الْعَبْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ لِلَّهِ. فَإِنَّهُمْ إذَا أَحَبُّوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنَالُوا غَرَضَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ سَوَاءٌ أَحَبُّوهُ لِجَمَالِهِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ فَإِذَا أَحَبُّوا الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ طَلَبُوا لِقَاءَهُمْ فَهُمْ يُحِبُّونَ التَّمَتُّعَ بِرُؤْيَتِهِمْ؛ وَسَمَاعِ كَلَامِهِمْ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِشَجَاعَتِهِ أَوْ رِيَاسَتِهِ؛ أَوْ جَمَالِهِ أَوْ كَرَمِهِ؛ فَهُوَ يَجِبُ أَنْ يَنَالَ حَظَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ؛ وَلَوْلَا الْتِذَاذُهُ بِهَا لَمَا أَحَبَّهُ؛ وَإِنْ جَلَبُوا لَهُ مَنْفَعَةً كَخِدْمَةِ أَوْ مَالٍ؛ أَوْ دَفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً كَمَرَضٍ وَعَدُوٍّ - وَلَوْ بِالدُّعَاءِ أَوْ الثَّنَاءِ - فَهُمْ يَطْلُبُونَ الْعِوَضَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ لِلَّهِ؛ فَأَجْنَادُ الْمُلُوكِ؛ وَعَبِيدُ الْمَالِكِ؛ وَأُجَرَاءُ الصَّانِعِ؛ وَأَعْوَانُ الرَّئِيسِ؛ كُلُّهُمْ إنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي نَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ بِهِ؛ لَا يُعَرِّجُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى قَصْدِ مَنْفَعَةِ الْمَخْدُومِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِّمَ وَأُدِّبَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ؛ أَوْ يَكُونُ فِيهَا طَبْعُ عَدْلٍ؛ وَإِحْسَانٌ مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ مَنْفَعَةُ نَفْسِهِ؛ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا مَصَالِحَ خَلْقِهِ؛ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ؛: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْصِدُ مَنْفَعَتَكَ. بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ بَلْ إنَّمَا يَقْصِد مَنْفَعَتَهُ بِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَيْكَ فِيهِ ضَرَرٌ إذَا لَمْ يُرَاعِ الْعَدْلَ؛ فَإِذَا دَعَوْتَهُ؛ فَقَدْ دَعَوْتَ مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ لَكَ؛ وَلِمَنْفَعَتِكَ بِكَ؛ لَا لِيَنْتَفِعَ بِك. وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ عَلَيْكَ بِلَا مَضَرَّةٍ. فَتَدَبَّرْ هَذَا؛ فَمُلَاحَظَةُ هَذَا الْوَجْهِ يَمْنَعُكَ أَنْ تَرْجُوَ الْمَخْلُوقَ أَوْ(1/30)
تَطْلُبَ مِنْهُ مَنْفَعَةً لَكَ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَلَا يَحْمِلَنَّكَ هَذَا عَلَى جَفْوَةِ النَّاسِ؛ وَتَرْكِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ؛ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْهُمْ؛ بَلْ أَحْسِنْ إلَيْهِمْ لِلَّهِ لَا لِرَجَائِهِمْ؛ وَكَمَا لَا تَخَفْهُمْ فَلَا تَرْجُهُمْ؛ وَخَفْ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَفْ النَّاسَ فِي اللَّهِ؛ وَارْجُ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللَّهِ؛ وَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} . وَقَالَ فِيهِ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} . الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ غَالِبَ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ إدْرَاكَ حَاجَاتِهِمْ بِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْك؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ أَعْمَى لَا يَعْرِفُ إلَّا قَضَاءَهَا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إنَّهُ إذَا أَصَابَكَ مَضَرَّةٌ كَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهَا إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَلَا يَقْصِدُونَ دَفْعَهَا إلَّا لِغَرَضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْخَلْقَ لَوْ اجْتَهَدُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بِأَمْرِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ؛ وَلَوْ اجْتَهَدُوا أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِأَمْرِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ فَهُمْ لَا يَنْفَعُونَكَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ وَلَا يَضُرُّونَكَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ فَلَا تُعَلِّقْ بِهِمْ رَجَاءَكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} . وَالنَّصْرُ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ الضَّرَرِ؛ وَالرِّزْقُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمَنْفَعَةِ(1/31)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ} بِدُعَائِهِمْ وَصِلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟.(1/32)
فَصْلٌ:
جِمَاعُ هَذَا أَنَّكَ أَنْتَ إذَا كُنْتَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَصْلَحَتِكَ؛ وَلَا قَادِرٍ عَلَيْهَا؛ وَلَا مُرِيدٍ لَهَا كَمَا يَنْبَغِي؛ فَغَيْرُكَ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِمَصْلَحَتِكَ؛ وَلَا قَادِرًا عَلَيْهَا؛ وَلَا مُرِيدًا لَهَا؛ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُ؛ وَيَقْدِرُ وَلَا تَقْدِرُ؛ وَيُعْطِيكَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ؛ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ؛ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ؛ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ؛ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .(1/33)
فَصْلٌ:
وَهُوَ مِثْلُ الْمُقَدِّمَةِ لِهَذَا الَّذِي أَمَامَهُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فَهُوَ هَمَّامٌ حَارِثٌ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، بَلْ كُلُّ حَيٍّ فَهُوَ كَذَلِكَ لَهُ عِلْمٌ وَعَمَلٌ بِإِرَادَتِهِ. وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمَشِيئَةُ وَالِاخْتِيَارُ، وَلَا بُدَّ فِي الْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْ مُرَادٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَحْصُلُ الْمُرَادُ إلَّا بِأَسْبَابِ وَوَسَائِلَ تُحَصِّلُهُ، فَإِنْ حَصَلَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قُدْرَةٍ وَقُوَّةٍ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَارِجٍ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ غَيْرِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ وَمِنْ الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَسْبَابِ كَالْآلَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ إرَادَةٍ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُرِيدٍ مِنْ عَوْنٍ يَحْصُلُ بِهِ مُرَادُهُ. فَصَارَ الْعَبْدُ مَجْبُولًا عَلَى أَنْ يَقْصِدَ شَيْئًا وَيُرِيدَهُ؛ وَيَسْتَعِينَ بِشَيْءِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ لَازِمٌ ضَرُورِيٌّ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ. لَكِنَّ الْمُرَادَ وَالْمُسْتَعَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ. وَالْمُسْتَعَانُ: مِنْهُ مَا هُوَ الْمُسْتَعَانُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمُسْتَعَانِ وَآلَةٌ لَهُ، فَمِنْ الْمُرَادِ مَا يَكُونُ هُوَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَ، فَهُوَ الَّذِي يَذِلُّ لَهُ الطَّالِبُ وَيُحِبُّهُ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَقْصُودُ، وَمِنْهُ مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرَ، فَهَذَا مُرَادٌ بِالْعَرْضِ. وَمِنْ الْمُسْتَعَانِ مَا يَكُونُ هُوَ الْغَايَةَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ؛ وَيَعْتَضِدُ بِهِ؛ لَيْسَ عِنْدَهُ فَوْقَهُ غَايَةٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الْقَلْبِ؛ وَالْمَالِ مَعَ الْمَالِكِ؛ وَالْآلَاتِ مَعَ الصَّانِعِ.(1/34)
فَإِذَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ حَالَ نَفْسِهِ وَحَالَ جَمِيعِ النَّاسِ؛ وَجَدَهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: لَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْ شَيْءٍ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ مَحَبَّتُهَا؛ وَهُوَ إلَهُهَا. وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَثِقُ بِهِ وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي نَيْلِ مَطْلُوبِهَا هُوَ مُسْتَعَانُهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ وَإِذًا فَقَدْ يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ الْكُفْرُ، كَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مُطْلَقًا، وَسَأَلَ غَيْرَ اللَّهِ مُطْلَقًا، مِثْلَ عُبَّادِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ الْحَاجَاتِ، وَيَفْزَعُونَ إلَيْهِمْ فِي النَّوَائِبِ. وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ، أَوْ حُبُّ شَخْصٍ، أَوْ حَبُّ الرِّيَاسَةِ، حَتَّى صَارَ عَبْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ: إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ} وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الثِّقَةُ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَهُ مَخْدُومُهُ مِنْ الرُّؤَسَاءِ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ خَادِمُهُ مِنْ الْأَعْوَانِ وَالْأَجْنَادِ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ أَصْدِقَائِهِ أَوْ أَمْوَالِهِ هِيَ الَّتِي تَجْلِبُ الْمَنْفَعَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَتَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَعِينٌ بِهَا وَالْمُسْتَعَانُ هُوَ مَدْعُوٌّ وَمَسْئُولٌ. وَمَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَلْزِمُ الْعِبَادَةُ الِاسْتِعَانَةَ، فَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ فِي رِزْقِهِ وَنَصْرِهِ وَنَفْعِهِ وَضُرِّهِ؛ خَضَعَ لَهُ وَذَلَّ؛ وَانْقَادَ وَأَحَبَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ لَمْ يُحِبَّهُ لِذَاتِهِ لَكِنْ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَالُ حَتَّى يُحِبَّهُ لِذَاتِهِ، وَيَنْسَى مَقْصُودَهُ مِنْهُ؛ كَمَا يُصِيبُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُحِبُّ الْمَالَ أَوْ يُحِبُّ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِزُّ وَالسُّلْطَانُ. وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّهُ الْقَلْبُ وَأَرَادَهُ وَقَصَدَهُ؛ فَقَدْ لَا يَسْتَعِينُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا اسْتَشْعَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ؛ كَاسْتِشْعَارِ الْمُحِبِّ قُدْرَةَ الْمَحْبُوبِ عَلَى وَصْلِهِ(1/35)
فَإِذَا اسْتَشْعَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ اسْتَعَانَهُ؛ وَإِلَّا فَلَا؛ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فَقَدْ يَكُونُ مَحْبُوبًا غَيْرَ مُسْتَعَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَعَانًا غَيْرَ مَحْبُوبٍ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مِنْ مُنْتَهًى يَطْلُبُهُ هُوَ إلَهُهُ، وَمُنْتَهَى يُطْلَبُ مِنْهُ هُوَ مُسْتَعَانُهُ؛ - وَذَلِكَ هُوَ صَمَدُهُ الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ فِي اسْتِعَانَتِهِ وَعِبَادَتِهِ - تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَلَامٌ جَامِعٌ مُحِيطٌ أَوَّلًا وَآخِرًا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً. إمَّا أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينَهُ - وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا - فَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَإِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ وَيَسْتَعِينَ غَيْرَهُ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَتَخْضَعُ قُلُوبُهُمْ لِمَنْ يَسْتَشْعِرُونَ نَصْرَهُمْ؛ وَرِزْقَهُمْ، وَهِدَايَتَهُمْ، مِنْ جِهَتِهِ: مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَعِينَهُ - وَإِنْ عَبَدَ غَيْرَهُ - مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ؛ وَذَوِي الْقُدْرَةِ وَذَوِي السُّلْطَانِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ؛ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ وَيَلْجَئُونَ إلَيْهِ؛ لَكِنَّ مَقْصُودَهُمْ غَيْرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ وَغَيْرُ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا إيَّاهُ؛ وَلَا يَسْتَعِينُونَ إلَّا بِهِ؛ وَهَذَا الْقِسْمُ الرُّبَاعِيُّ قَدْ ذُكِرَ فِيمَا بَعْدُ أَيْضًا؛ لَكِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِحَسَبِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَتَارَةً يَكُونُ بِحَسَبِ الْمُسْتَعَانِ؛ فَهُنَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَعَانِ؛ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مَعْبُودٍ مُسْتَعَانٍ، وَفِيمَا بَعْدُ بِحَسَبِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.(1/36)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَصْلٌ فِي وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْخَالِقِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: فَلَا يُعْمَلُ إلَّا لَهُ، وَلَا يُرْجَى إلَّا هُوَ، هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي ابْتَدَأَكَ بِخَلْقِكَ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْكَ بِنَفْسِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْك أَصْلًا؛ وَمَا فَعَلَ بِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ إذَا احْتَجْتَ إلَيْهِ فِي جَلْبِ رِزْقٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ: فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالرِّزْقِ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ (*) . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ} {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُنْعِمُ عَلَيْكَ، وَيُحْسِنُ إلَيْكَ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ مَا تَسَمَّى بِهِ، وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ إذْ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ؛ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ؛ وَهُوَ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ، وَقُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ رَحْمَتُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ: لَا يَحْتَاجُ إلَى خَلْقِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 14 - 15) :
قلت: وهنا أمران:
الأول: أن هذه الفصول مختصرة من كلام لشيخ الإسلام رحمه الله وليست هي الأصل، ولم أجد الأصل، والدليل على كونها مختصرة: أن بعضا من الأصل موجود في موضع آخر من الفتاوى (14 / 203 - 206) وهي تقابل (الصفحات 1 / 56 - 58) ، وبالنظر في الموضعين يظهر جليا أن ما في هذا المجلد مختصر لذاك.
والثاني: في 1 / 43: (وفي صحيح أبي داود وابن حبان: " اهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها علينا ") .
والظاهر وقوع تصحيف، ولعل صواب العبارة (وفي سنن أبي داود (969) وصحيح ابن حبان (996)) ، وهذا الحديث من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفيه نظر.(1/37)
وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا؛ وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا؛ وَلَوْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي شَيْئًا} إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ثَابِتٌ لَهُ بِنَفْسِهِ، وَاجِبٌ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، لَا يَفْتَقِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ؛ بَلْ أَفْعَالُهُ مِنْ كَمَالِهِ: كَمُلَ فَفَعَلَ؛ وَإِحْسَانُهُ وَجُودُهُ مِنْ كَمَالِهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِحَاجَةِ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ؛ بَلْ كُلَّمَا يُرِيدُهُ فَعَلَهُ؛ فَإِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَالِغُ أَمْرِهِ؛ فَكُلُّ مَا يَطْلُبُ فَهُوَ يَبْلُغُهُ وَيَنَالُهُ وَيَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُعِينُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَعُوقُهُ أَحَدٌ، لَا يَحْتَاجُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ إلَى مُعِينٍ، وَمَا لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ظَهِيرٌ؛ وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ.(1/38)
فَصْلٌ:
وَالْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ أَذَلَّ لِلَّهِ وَأَعْظَمَ افْتِقَارًا إلَيْهِ وَخُضُوعًا لَهُ: كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ، وَأَعَزَّ لَهُ، وَأَعْظَمَ لِقَدْرِهِ، فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ: أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَكَمَا قِيلَ: احْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ:
بَيْنَ التَّذَلُّلِ وَالتَّدَلُّلِ نُقْطَةٌ ... فِي رَفْعِهَا تَتَحَيَّرُ الْأَفْهَامُ
ذَاكَ التَّذَلُّلُ شِرْكٌ ... فَافْهَمْ يَا فَتًى بِالْخُلْفِ (1)
فَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ: إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِمْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ إلَيْهِمْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ: كُنْتَ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ، وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِمْ - وَلَوْ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ - نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَتِكَ إلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ. وَلِهَذَا قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ، لَمَّا سُئِلَ فِيمَ السَّلَامَةُ مِنْ النَّاسِ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ شَيْؤُك لَهُمْ مَبْذُولًا وَتَكُونَ مِنْ شَيْئِهِمْ آيِسًا، لَكِنْ إنْ كُنْتَ مُعَوِّضًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ، فَإِنْ تَعَادَلَتْ الْحَاجَتَانِ تَسَاوَيْتُمْ كَالْمُتَبَايِعَيْن لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانُوا إلَيْكَ أَحْوَجَ خَضَعُوا لَكَ. فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ: أَكْرَمُ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ. وَأَفْقَرُ مَا تَكُونُ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) هكذا بالأصل(1/39)
إلَيْهِ. وَالْخَلْقُ: أَهْوَنُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَوَائِجَكَ، وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَتِكَ، بَلْ هُمْ جَهَلَةٌ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَةِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، وَلَا يُرِيدُونَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ. وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ مَصَالِحَكَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَيُرِيدُهَا رَحْمَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَذَلِكَ صِفَتُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، لَا شَيْءَ آخَرَ جَعَلَهُ مُرِيدًا رَاحِمًا، بَلْ رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ، لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إلَّا لِحَاجَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَالْحِكْمَةُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، لَكِنَّ السَّعِيدَ مِنْهُمْ الَّذِي يَعْمَلُ لِمَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ، لَا لِمَا يَظُنُّهُ مَصْلَحَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ظَالِمٌ. وَعَادِلٌ. وَمُحْسِنٌ. فَالظَّالِمُ: الَّذِي يَأْخُذُ مِنْك مَالًا أَوْ نَفْعًا وَلَا يُعْطِيكَ عِوَضَهُ، أَوْ يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِضَرَرِكَ. وَالْعَادِلُ: الْمُكَافِئُ. كالبايع لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ كُلٌّ بِهِ يَقُومُ الْوُجُودُ، وَكُلٌّ منهما مُحْتَاجٌ إلَى صَاحِبِهِ كَالزَّوْجَيْنِ وَالْمُتَبَايِعَيْن وَالشَّرِيكَيْنِ. وَالْمُحْسِنُ الَّذِي يُحْسِنُ لَا لِعِوَضِ يَنَالُهُ مِنْكَ. فَهَذَا إنَّمَا عَمَلٌ لِحَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُهُ بِالْإِحْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِمَّا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَجْرِ، أَوْ طَلَبِ مَدْحِ - الْخَلْقِ وَتَعْظِيمِهِمْ، أَوْ التَّقَرُّبِ إلَيْك، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَبِكُلِّ حَالٍ: مَا أَحْسَنَ إلَيْك إلَّا لِمَا يَرْجُو مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَسَائِرُ الْخَلْقِ إنَّمَا يُكْرِمُونَك وَيُعَظِّمُونَكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْكَ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِكَ، إمَّا(1/40)
بِطْرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَشَارِكَيْن وَالزَّوْجَيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى الْآخَرِ، وَالسَّيِّدُ مُحْتَاجٌ إلَى مَمَالِيكِهِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَالْمُلُوكُ مُحْتَاجُونَ إلَى الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا بُنِيَ أَمْرُ الْعَالَمِ، وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْإِحْسَانِ مِنْكَ إلَيْهِمْ. فَأَقْرِبَاؤُكَ وَأَصْدِقَاؤُكَ وَغَيْرُهُمْ إذَا أَكْرَمُوكَ لِنَفْسِكَ، فَهُمْ إنَّمَا يُحِبُّونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِنَفْسِكَ مِنْ الْكَرَامَةِ، فَلَوْ قَدْ وَلَّيْتَ وَلُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَغْرَاضَهُمْ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ إلَى مَنْ دُونَهُمْ تَجِدُ أَحَدَهُمْ سَيِّدًا مُطَاعًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ وَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ بِسَبَبِ سَيِّدِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَمَتَى كَنْتَ مُحْتَاجًا إلَيْهِمْ نَقَصَ الْحُبُّ وَالْإِكْرَامُ وَالتَّعْظِيمُ بِحَسْبِ ذَلِكَ وَإِنْ قَضَوْا حَاجَتَكَ. وَالرَّبُّ تَعَالَى: يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الآخرين لَهُ أَوْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا رُفِعَتْ مَائِدَتُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة بَلْ وَلَا يَزَالُ اللَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى الْعَبْدِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ بَلْ مَا بِالْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ؛ وَسَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى اللَّهِ، وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِهِ، أَيْ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْتَقِرُ وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ مَالُهُ وَلَا يَعْلَمُ، بَلْ يَظُنُّهُ بَاقِيًا فَإِذَا عَلِمَ بِذَهَابِهِ صَارَ لَهُ حَالٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ، لَكِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي جَهْلٍ بِهَذَا وَغَفْلَةٍ عَنْهُ وَإِعْرَاضٍ عَنْ تَذَكُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُقِرُّ بِذَلِكَ وَيَعْمَلُ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ.(1/41)
فَالْإِنْسَانُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ بِالذَّاتِ، وَفَقْرُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلَّا فَقِيرًا إلَى خَالِقِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ، فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِنْ جِهَةِ إلَهِيَّتِهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْإِنْسَانُ يُذْنِبُ دَائِمًا فَهُوَ فَقِيرٌ مُذْنِبٌ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يَرْحَمُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَلَوْلَا رَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ: لَمَا وُجِدَ خَيْرٌ أَصْلًا، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ لَمَا وَقَى الْعَبْدُ شَرَّ ذُنُوبِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ دَائِمًا إلَى حُصُولِ النِّعْمَة، وَدَفْعِ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَلَا تَحْصُلُ النِّعْمَةُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يَنْدَفِعُ الشَّرُّ إلَّا بِمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِلشَّرِّ إلَّا ذُنُوبُ الْعِبَادِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَبِالْحَسَنَاتِ: مَا يَسُرُّهُ مِنْ النِّعَمِ. كَمَا قَالَ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} فَالنِّعَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا وَجُودًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِعِبَادِهِ، فَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ أَحَقُّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَصَائِبُ: بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعِبَادِ وَكَسْبِهِمْ. كَمَا قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . وَالنِّعَمُ وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ طَاعَاتٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا: فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُنْعِمُ. بِالْعَبْدِ وَبِطَاعَتِهِ وَثَوَابِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَبْدُ وَجَعَلَهُ مُسْلِمًا طَائِعًا، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} وَقَالَ: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ(1/42)
لَكَ} وَقَالَ: {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الْآيَةَ: قَالَ فِي آخِرِهَا: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} . وَفِي صَحِيحِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ: {اهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِيهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا} وَفِي الْفَاتِحَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِمَّا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: {اللَّهُمَّ إنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ بِذَنْبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَك رَقَبَتُهُ، وَذَلَّ لَك جَسَدُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ} . وَلَفْظُ الْعَبْدِ فِي الْقُرْآنِ: يَتَنَاوَلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهِ، فَأَمَّا عَبْدٌ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَبْدِهِ. كَمَا قَالَ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَأَمَّا قَوْلُهُ {إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاءِ، وَقَوْلُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} و {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} {سُبْحَانَ(1/43)
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} . وَنَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ إذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَقَدْ قَالَ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الدَّجَّالِ: {فَيُوحِي اللَّهُ إلَى الْمَسِيحِ أَنَّ لِي عِبَادًا لَا يُدَانُ لِأَحَدِ بِقِتَالِهِمْ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ، لَكِنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مُذَلَّلُونَ مَقْهُورُونَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ قَدَرُهُ. وَقَدْ يَكُونُ كَوْنُهُمْ عَبِيدًا: هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالصَّانِعِ وَخُضُوعُهُمْ لَهُ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ: {إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أَيْ ذَلِيلًا خَاضِعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاسْتِكْبَارُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} فَذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ يَأْتِي مُنْفَرِدًا كَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَقَالَ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} الْآيَةَ. وَقَالَ: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ مُدَبِّرِينَ مَقْهُورِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ هَذَا(1/44)
لَا يُقَالُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِنَّ الطَّوْعَ وَالْكَرْهَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَأَمَّا مَا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ: فَلَا يُقَالُ لَهُ سَاجِدٌ أَوْ قَانِتٌ، بَلْ وَلَا مُسْلِمٌ، بَلْ الْجَمِيعُ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ بِفِطْرَتِهِمْ، وَهُمْ خَاضِعُونَ مُسْتَسْلِمُونَ قَانِتُونَ مُضْطَرُّونَ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: عِلْمُهُمْ بِحَاجَتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ. وَمِنْهَا: دُعَاؤُهُمْ إيَّاهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. وَمِنْهَا: خُضُوعُهُمْ وَاسْتِسْلَامُهُمْ لِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْدَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَمِنْهَا: انْقِيَادُهُمْ لِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ سَائِرَ الْبَشَرِ لَا يُمَكِّنُونَ الْعَبْدَ مِنْ مُرَادِهِ بَلْ يَقْهَرُونَهُ وَيُلْزِمُونَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَعِصْيَانُهُمْ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّوْحِيدَ - لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُمْ قَانِتِينَ خَاضِعِينَ مُسْتَسْلِمِينَ كَرْهًا كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِلدِّينِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَإِنْ كَانُوا يَعْصُونَهُ فِي أُمُورٍ. وَالْمُؤْمِنُ يَخْضَعُ لِأَمْرِ رَبِّهِ طَوْعًا، وَكَذَلِكَ لِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ طَوْعًا، فَهُوَ مُسْلِمٌ لِلَّهِ طَوْعًا خَاضِعٌ لَهُ طَوْعًا، وَالسُّجُودُ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ سُجُودًا يُنَاسِبُهَا وَيَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلرَّبِّ. وَأَمَّا فَقْرُ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى اللَّهِ: بِمَعْنَى حَاجَتِهَا كُلِّهَا إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا شَيْءَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا إلَّا بِهِ. فَهَذَا: أَوَّلُ دَرَجَاتِ الِافْتِقَارِ، وَهُوَ افْتِقَارُهَا إلَى رُبُوبِيَّتِهِ لَهَا، وَخَلْقِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ، فَالْحُدُوثُ(1/45)
دَلِيلُ افْتِقَارِ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحْدِثِهَا، وَكَذَلِكَ حَاجَتُهَا إلَى مُحْدِثِهَا بَعْدَ إحْدَاثِهِ لَهَا دَلِيلُ افْتِقَارِهَا فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرِّزْقِ دَلِيلُ افْتِقَارِ الْمَرْزُوقِ إلَى الْخَالِقِ الرَّازِقِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ لِذَوَاتِهَا لَا لِأَمْرِ آخَرَ جَعَلَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ، بَلْ فَقْرُهَا لَازِمٌ لَهَا؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَنِيٍّ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِوَصْفِ جَعَلَهُ غَنِيًّا، وَفَقْرُ الْأَشْيَاءِ إلَى الْخَالِقِ وَصْفٌ لَهَا، وَهِيَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فَقِيلَ عَنْ مَطَرٍ يُنْتَظَرُ نُزُولُهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْخَالِقِ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْخَالِقِ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا الِافْتِقَارُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَمَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ مِنْ اسْتِسْلَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسُجُودِهَا وَتَسْبِيحِهَا وَقُنُوتِهَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ. وَلَكِنَّ طَائِفَةً تَدَّعِي أَنَّ افْتِقَارَهَا وَخُضُوعَهَا وَخَلْقَهَا وَجَرَيَانَ الْمَشِيئَةِ عَلَيْهَا هُوَ تَسْبِيحُهَا وَقُنُوتُهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِكَوْنِهَا دَلَالَةً شَاهِدَةً لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ. وَقُلْ لِلْأَرْضِ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا، وَأَخْرَجَ نَبَاتَهَا وَثِمَارَهَا، فَإِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا وَإِلَّا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا، وَهَذَا يَقُولُهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قَالَ: كُلُّ مَخْلُوقٍ قَانِتٌ لَهُ بَاشَرَ صَنْعَتَهُ فِيهِ وَأَجْرَى أَحْكَامَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ذُلِّهِ لِرَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: إسْلَامُ الْكُلِّ خُضُوعُهُمْ لِنَفَاذِ أَمْرِهِ فِي جِبِلِّهِمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَمْتَنِعُ مِنْ جِبِلَّةٍ جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنَّ الصَّوَابَ(1/46)
الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّ الْقُنُوتَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّسْبِيحَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ سُجُودَ الْكَارِهِ وَذُلَّهُ وَانْقِيَادَهُ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنْ عَافِيَةٍ وَمَرَضٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} . قَالَ: تَسْبِيحُهُ دَلَالَتُهُ عَلَى صَانِعِهِ فَتُوجِبُ بِذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْ غَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا وَسُجُودًا بِحَسَبِهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فَقْرَ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى الْخَالِقِ وَدَلَالَتَهَا عَلَيْهِ وَشَهَادَتَهَا لَهُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، كَمَا أَنَّهُ فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ، وَبُيِّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ وَالتَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ الْعَقْلِيَّ سَوَاءٌ صِيغَ بِلَفْظِ الشُّمُولِ كَالْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، أَوْ صِيغَ بِلَفْظِ التَّمْثِيلِ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْجَامِعَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى صُورَةِ الْقِيَاسَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ هُوَ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْجُزْئِيَّةِ، وَأَبْلَغُ مِمَّا هُوَ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَصِيرُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْعَقْلِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ جُزْئِيَّاتِهَا فِي الْوُجُودِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة أُصُولَ عِلْمِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ، الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ أَوْ النَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَيُّ كُلِّيٍّ تَصَوَّرَهُ الْإِنْسَانُ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِيِّهِ، وَإِنْ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضِهَا(1/47)
وَأَنَّ الْجَبَلَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ وَكَذَلِكَ النَّقِيضَانِ وَهُمَا: الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا تَصَوَّرَ وُجُودَ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَعَدَمَهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَهُوَ يَقْضِي بِالْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَهَكَذَا أَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّنٌ: كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ هُوَ الْوَاجِبَ. كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَةً، لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ، وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ تَنْزِيهُ مَخْلُوقٍ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي لَا كَمَالَ فِيهَا. فَالْبَارِي تَعَالَى أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلْخَالِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ دَلِيلٌ وَآيَةٌ عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الْخَالِقَ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ، فَإِنَّ كَوْنَهَا آيَةً لَهُ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ: مِثْلَ كَوْنِ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اسْمٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى هَذَا يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ مُتَصَوَّرًا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ،(1/48)
فَمَعْرِفَةُ الْإِضَافَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِالْإِضَافَةِ وَلَا كَوْنِهِ دَلِيلًا، فَإِذَا تَصَوَّرَهُ عَرَفَ الْمَدْلُولَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِلْخَالِقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ دَلَائِلُ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَاتَّفَقَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَتَلَازَمَ الرَّأْيُ وَالسَّمْعُ. والمتفلسفة كَابْنِ سِينَا الرَّازِي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا، قَالُوا: إنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَإِنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ، قَالُوا: وَالْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ أَحْدَثَهَا ابْنُ سِينَا، وَرَكَّبَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَلَامِ سَلَفِهِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَسَّمُوا الْوُجُودَ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَقَسَّمَهُ هُوَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُ لَيْسَ مُحْدَثًا؛ بَلْ زَعَمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، بَلْ حُذَّاقُهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ خَطَأٌ، وَأَنَّهُ خَالَفَ سَلَفَهُ وَجُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْقِدَمَ وَوُجُوبَ الْوُجُودِ، مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ، الْأَوَّلِينَ والآخرين، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ، إلَّا مَا أَحْدَثَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّا نَشْهَدُ حُدُوثَ مَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَنَشْهَدُ عَدَمَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ، وَمَا كَانَ مَعْدُومًا أَوْ سَيَكُونُ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا. ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ فِي دَلِيلِهِمْ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَفْلَاكِ، وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ تَهَافُتَهُمْ فِيهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنَّ(1/49)
عُمْدَتَهُمْ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، هَذَا عُمْدَتُهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَمَا زَالَ النُّظَّارُ يُبَيِّنُونَ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، كَمَا بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فَسَادَهُ بِحَسَبِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاجِبِ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ عِدَّةِ مَعَانٍ: فَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً وَالصِّفَاتُ وَاجِبَةً، وَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً دُونَ الصِّفَاتِ، وَيُقَالُ لِمُبْدِعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ، وَالْمُبْدِعُ لَهَا هُوَ الْخَالِقُ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَالذَّاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ لَمْ تُخْلَقْ، وَالصِّفَاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الذَّاتِ لَمْ تُخْلَقْ، وَلِهَذَا صَارَ مَنْ سَارَ خَلْفَهُمْ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالْعِرْفَانَ، إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ أَوَّلًا: فِي أَنَّ سَعَادَةَ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى رَبِّهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، أَيْ فِي أَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ، وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَإِلَّا فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ، لَكِنْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ نَوْعَ اسْتِغْنَاءٍ فَيَطْغَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وَقَالَ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كَانَ يَئُوسًا}(1/50)
فَصْلٌ:
وَالسَّعَادَةُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: أَنْ تُعَامِلَهُمْ لِلَّهِ فَتَرْجُوَ اللَّهَ فِيهِمْ وَلَا تَرْجُوَهُمْ فِي اللَّهِ وَتَخَافَهُ فِيهِمْ وَلَا تَخَافَهُمْ فِي اللَّهِ، وَتُحْسِنَ إلَيْهِمْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ لَا لِمُكَافَأَتِهِمْ وَتَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْهُمْ. كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " اُرْجُ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَرْجُ النَّاسَ فِي اللَّهِ وَخَفْ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا تَخَفْ النَّاسَ فِي اللَّهِ " أَيْ: لَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ لِأَجْلِهِمْ لَا رَجَاءَ مَدْحِهِمْ وَلَا خَوْفًا مِنْ ذَمِّهِمْ بَلْ اُرْجُ اللَّهَ وَلَا تَخَفْهُمْ فِي اللَّهِ فِيمَا تَأْتِي وَمَا تَذْرُ بَلْ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَإِنْ كَرِهُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: {إنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ أَوْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ} فَإِنَّ الْيَقِينَ يَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَيَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَإِذَا أَرْضَيْتَهُمْ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ مُوقِنًا لَا بِوَعْدِهِ وَلَا بِرِزْقِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مَيْلٌ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا، فَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ؛ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ. وَإِمَّا ضَعْفُ تَصْدِيقٍ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ مِنْ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّك إذَا أَرْضَيْتَ اللَّهَ نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ وَكَفَاكَ مُؤْنَتَهُمْ فَإِرْضَاؤُهُمْ بِسَخَطِهِ إنَّمَا يَكُونُ خَوْفًا مِنْهُمْ وَرَجَاءً لَهُمْ؛ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ لَك مَا تَظُنُّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مَعَك: فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ لَا لَهُمْ(1/51)
فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا ذَمَمْتَهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُقَدَّرْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِكِ فَلَا تَخَفْهُمْ وَلَا تَرْجُهُمْ وَلَا تَذُمَّهُمْ مِنْ جِهَةِ نَفْسِكَ وَهَوَاكَ؛ لَكِنْ مَنْ حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَمَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمَذْمُومُ. وَلَمَّا {قَالَ بَعْضُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي فَإِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَيْنٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ} . وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ وَرُوِيَ أَنَّهَا رَفَعَتْهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا} هَذَا لَفْظُ الْمَرْفُوعِ وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ: " مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا " هَذَا لَفْظُ الْمَأْثُورِ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ. وَالْمَرْفُوعُ أَحَقّ وَأَصْدَقُ فَإِنَّ مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِهِمْ كَانَ قَدْ اتَّقَاهُ، وَكَانَ عَبْدَهُ الصَّالِحَ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . فَاَللَّهُ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ النَّاسِ بِلَا رَيْبٍ وَأَمَّا كَوْنُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْضَوْنَ عَنْهُ: فَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لَكِنْ يَرْضَوْنَ عَنْهُ إذَا سَلِمُوا مِنْ الْأَغْرَاضِ وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا كَالظَّالِمِ الَّذِي يَعَضُّ عَلَى يَدِهِ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} وَأَمَّا كَوْنُ حَامِدِهِ يَنْقَلِبُ ذَامًّا: فَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا وَيَحْصُلُ فِي الْعَاقِبَةِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى لَا يَحْصُلُ ابْتِدَاءً عِنْدَ أَهْوَائِهِمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فَالتَّوْحِيدُ ضِدُّ الشِّرْكِ فَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ فَعَبَدَهُ(1/52)
لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا كَانَ مُوَحِّدًا. وَمِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ: التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالْخَوْفُ مِنْهُ فَهَذَا يَخْلُصُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الشِّرْكِ. وَإِعْطَاءُ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَتَرْكُ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ يَخْلُصُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَمِنْ الشِّرْكِ بِهِمْ. وَبِطَاعَةِ رَبِّهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ يَخْلُصُ الْعَبْدُ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: {قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ} . فَالنِّصْفَانِ يَعُودُ نَفْعُهُمَا إلَى الْعَبْدِ وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الدُّعَاءِ: {يَا عِبَادِي: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك: وَوَاحِدَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِي فَاَلَّتِي لِي: تَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا. وَاَلَّتِي لَك عَمَلُك أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ. وَاَلَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك: فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ. وَاَلَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَيْهِمْ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتُوهُ إلَيْك} وَاَللَّهُ يُحِبُّ النِّصْفَيْنِ. وَيُحِبُّ أَنْ يَعْبُدُوهُ. وَمَا يُعْطِيهِ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ وَهُوَ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى عِبَادَتِهِ وَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ أَوَّلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَإِلَى الْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبِذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْعِبَادَةِ. فَهُوَ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوَّلًا لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَحْبُوبِ الرَّبِّ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَمَلُكَ أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ} فَإِنَّهُ يُحِبُّ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الْعَمَلِ فَالْعَبْدُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ثُمَّ إذَا طَلَبَ الْعِبَادَةَ: فَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نَافِعَةٌ لَهُ مُحَصِّلَةٌ لِسَعَادَتِهِ مُحَصِّنَةٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ فَلَا يَطْلُبُ الْعَبْدُ قَطُّ إلَّا مَا فِيهِ حَظٌّ لَهُ وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ يُحِبُّ ذَلِكَ فَهُوَ يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ لَهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا: أَحَبَّهُ وَأَثَابَهُ فَيَحْصُلُ(1/53)
لِلْعَبْدِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ النِّعَمِ تَبَعًا لِمَحْبُوبِ الرَّبِّ وَهَذَا كَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي الْبَائِعُ يُرِيدُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا الثَّمَنَ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: إرَادَةُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ السِّلْعَةَ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: إرَادَةُ إعْطَاءِ الثَّمَنِ. فَالرَّبُّ يُحِبُّ أَنْ يُحَبَّ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ يُحِبَّ مَنْ لَا تَحْصُلُ الْعِبَادَةُ إلَّا بِهِ وَالْعَبْدُ يُحِبُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ؛ مَحَبَّتُهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَهَذَا قَائِمٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِ اللَّهِ فِي إخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ. وَمَنْ طَلَبَ مِنْ الْعِبَادِ الْعِوَضَ ثَنَاءً أَوْ دُعَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا إلَيْهِمْ لِلَّهِ. وَمَنْ خَافَ اللَّهَ فِيهِمْ وَلَمْ يَخَفْهُمْ فِي اللَّهِ كَانَ مُحْسِنًا إلَى الْخَلْقِ وَإِلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ خَوْفَ اللَّهِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَمَنْ خَافَهُمْ وَلَمْ يَخَفْ اللَّهَ فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَلَهُمْ حَيْثُ خَافَ غَيْرَ اللَّهِ وَرَجَاهُ لِأَنَّهُ إذَا خَافَهُمْ دُونَ اللَّهِ احْتَاجَ أَنْ يَدْفَعَ شَرَّهُمْ عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهٍ إمَّا بِمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُرَاءَاتِهِمْ وَإِمَّا بِمُقَابَلَتِهِمْ بِشَيْءِ أَعْظَمَ مِنْ شَرِّهِمْ أَوْ مِثْلِهِ وَإِذَا رَجَاهُمْ لَمْ يَقُمْ فِيهِمْ بِحَقِّ اللَّهِ وَهُوَ إذَا لَمْ يَخَفْ اللَّهَ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ طَبْعَ النَّفْسِ الظُّلْمُ لِمَنْ لَا يَظْلِمُهَا فَكَيْفَ بِمَنْ يَظْلِمُهَا؟ فَتَجِدُ هَذَا الضَّرْبَ كَثِيرَ الْخَوْفِ مِنْ الْخَلْقِ كَثِيرَ الظُّلْمِ إذَا قَدَرَ، مَهِينًا ذَلِيلًا إذَا قُهِرَ فَهُوَ يَخَافُ النَّاسَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُوقِعُ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ إذَا رَجَاهُمْ فَهُمْ لَا يُعْطُونَهُ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَهُمْ فَيَظْلِمَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ تَجِدُهُمْ يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْآخَرِ وَيَطْلُبُ ظُلْمَهُ فَهُمْ ظَالِمُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ظَالِمُونَ فِي حَقِّ اللَّهِ حَيْثُ خَافُوا غَيْرَهُ وَرَجَوْا غَيْرَهُ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تُعَذَّبُ النَّفْسُ بِهَا وَعَلَيْهَا وَهُوَ يَجُرُّ إلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي الْمُخْتَصَّةِ كَالشِّرْكِ وَالزِّنَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا لَمْ يَخَفْ(1/54)
مِنْ اللَّهِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تَبْقَى طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ عَنْهَا وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ إلَيْهِ وَبِهِ؛ فَيَسْتَرِيحُ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَذِكْرِ ماجريات النَّفْسِ وَالْهَزْلِ وَاللَّعِبِ وَمُخَالَطَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَغْنِي الْقَلْبُ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَنَفْسُهُ مُرِيدَةٌ دَائِمًا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ يَكُونُ غَايَةَ مَطْلُوبِهَا لِتَسْكُنَ إلَيْهِ وَتَطْمَئِنَّ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلَّا بِهِ وَلَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فَكُلُّ مَأْلُوهٍ سِوَاهُ يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ وَلَا يَحْصُلُ صَلَاحُ الْقُلُوبِ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْقُلُوبُ مُخْلِصَةً لِلَّهِ الدِّينَ: عَبَدَتْ غَيْرَهُ؛ مِنْ الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ مِمَّا رَضُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَأَشْرَكَتْ بِاَللَّهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ؛ فَتَعْبُدُ غَيْرَهُ وَتَسْتَعِينُ بِهِ لِجَهْلِهَا بِسَعَادَتِهَا الَّتِي تَنَالُهَا بِعِبَادَةِ خَالِقِهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ؛ فَبِالْعِبَادَةِ لَهُ تَسْتَغْنِي عَنْ مَعْبُودٍ آخَرَ وبالاستعانة بِهِ تَسْتَغْنِي عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالْخَلْقِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ كَذَلِكَ: كَانَ مُذْنِبًا مُحْتَاجًا وَإِنَّمَا غِنَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَهَذَا حَالُ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُذْنِبٌ خَطَّاءٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يُسْدِي مَغَافِرَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذُنُوبِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَبِالتَّوْحِيدِ يَقْوَى الْعَبْدُ وَيَسْتَغْنِي وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وبالاستغفار يَغْفِرُ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَهُ {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَلَا يَزُولُ فَقْرُ الْعَبْدِ وَفَاقَتُهُ(1/55)
إلَّا بِالتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ لَمْ يَزَلْ فَقِيرًا مُحْتَاجًا مُعَذَّبًا فِي طَلَبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . إذَا حَصَلَ مَعَ التَّوْحِيدِ الِاسْتِغْفَارُ حَصَلَ لَهُ غِنَاهُ وَسَعَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ مَا يُعَذِّبُهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَالْعَبْدُ مُفْتَقِرٌ دَائِمًا إلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ كَمَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى عِبَادَتِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ دَائِمًا فَقْرَهُ إلَى اللَّهِ وَحَاجَتَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لَهُ وَأَنْ يَكُونَ مُعِينًا لَهُ؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي الْآيَةِ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ. تَقُولُ الْعَرَبُ أَعْطَيْتُ الْأَمْوَالَ: أَيْ أَعْطَيْتُ الْقَوْمَ الْأَمْوَالَ؛ فَيَحْذِفُونَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ. قُلْتُ: وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ النَّاسَ أَوْلِيَاءَهُ تَخْوِيفًا مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ فِي تَخْوِيفِ نَاسٍ بِنَاسِ ضَرُورَةٌ؛ فَحَذَفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَر؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ فِي إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَوَّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {فَاخْشَوْهُمْ} قَبْلَهَا وَاَلَّذِي قَالَ الثَّانِي: فَسَّرَهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ إنَّمَا يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ؛ لِأَنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ الْمَخَاوِفَ دَائِمًا وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ لَا يُخَوِّفُهُمْ الْكُفَّارُ أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ؛ أَيْ: يُخَوِّفُ(1/56)
الْمُنَافِقِينَ أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ كَمَا يُخَوِّفُ الْمُنَافِقِينَ؛ وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ خَائِفِينَ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ؛ هُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ؛ وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ: يُلْقِي اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالشَّيْطَانُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} وَقَالَ: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وَلَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ أَرَادُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ يُوَالُونَ الْعَدُوَّ فَصَارُوا بِذَلِكَ مُنَافِقِينَ؛ وَإِنَّمَا يَخَافُ مِنْ الْكَفَّارِ الْمُنَافِقُونَ بِتَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وَقَالَ: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} الْآيَةَ فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لَكِنَّ لَفْظَ أَوْلِيَائِهِ هُمْ الَّذِينَ يَجْعَلُهُمْ الشَّيْطَانُ مَخُوفِينَ لَا خَائِفِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَإِذَا جَعَلَهُمْ مَخُوفِينَ فَإِنَّمَا يَخَافُهُمْ مَنْ خَوَّفَهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ. فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْعَلُ أَوْلِيَاءَهُ مَخُوفِينَ وَيَجْعَلُ نَاسًا خَائِفِينَ مِنْهُمْ. وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخَافَ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ وَلَا يَخَافَ النَّاسَ كَمَا قَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} فَخَوْفُ اللَّهِ أَمَرَ بِهِ وَخَوْفُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ نَهَى عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} فَنَهَى عَنْ خَشْيَةِ الظَّالِمِ وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ وَقَالَ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إنِّي أَخَافُك وَأَخَافُ مَنْ لَا يَخَافُك فَهَذَا(1/57)
كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَجُوزُ؛ بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَخَافَ أَحَدًا فَإِنَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ أَذَلُّ مِنْ أَنْ يُخَافَ فَإِنَّهُ ظَالِمٌ وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَالْخَوْفُ مِنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قِيلَ قَدْ يُؤْذِينِي قِيلَ: إنَّمَا يُؤْذِيك بِتَسْلِيطِ اللَّهِ لَهُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ دَفْعَ شَرِّهِ عَنْك دَفَعَهُ فَالْأَمْرُ لِلَّهِ؛ وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْعَبْدِ بِذُنُوبِهِ وَأَنْتَ إذَا خِفْتَ اللَّهَ فَاتَّقَيْتَهُ وَتَوَكَّلْتَ عَلَيْهِ كَفَاكَ شَرَّ كُلِّ شَرٍّ وَلَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْكَ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَتَسْلِيطُهُ يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبِك وَخَوْفِك مِنْهُ. فَإِذَا خِفْتَ اللَّهَ وَتُبْتَ مِنْ ذُنُوبِك وَاسْتَغْفَرْتَهُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْكَ كَمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وَفِي الْآثَارِ: {يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَلِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهَا بِيَدِي فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُ قُلُوبَ الْمُلُوكِ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتهمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ؛ وَلَكِنْ تُوبُوا إلَيَّ وَأَطِيعُونِ أُعَطِّفْهُمْ عَلَيْكُمْ} . وَلَمَّا سَلَّطَ اللَّهُ الْعَدُوَّ عَلَى الصَّحَابَةِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} الْآيَةَ وَقَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الْآيَاتِ - وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ قَاتَلَ - وَالرِّبِّيُّونَ الْكَثِيرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: هُمْ الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْفَرَّاءُ: أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أُخْرَى وَمُجَاهِدٌ وقتادة: جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي الرَّاءِ فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ: الَّذِينَ مَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا: يُوَافِقُ الْأَوَّلَ أَيْ الرِّبِّيُّونَ يُقْتَلُونَ فَمَا وَهَنُوا أَيْ مَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ(1/58)
لِقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْ مَا ضَعُفُوا لِذَلِكَ وَلَا دَخَلَهُمْ خَوَرٌ وَلَا ذَلُّوا لِعَدُوِّهِمْ بَلْ قَامُوا بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى أَدَالَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَارَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُنَاسِبُ صرخ الشَّيْطَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاسِبُ لَفْظَ الْآيَةِ فَالْمُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَةِ الْمُصِيبَةِ مَا وَهَنُوا وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ قُتِلَ وَمَعَهُ نَاسٌ لَمْ يَخَافُوا؛ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَكْثِيرِهِمْ بَلْ تَقْلِيلُهُمْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لَهَا؛ فَإِذَا كَثُرُوا لَمْ يَكُنْ فِي مَدْحِهِمْ بِذَلِكَ عِبْرَةٌ. وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَلِيلُونَ وَالْعَدُوُّ أَضْعَافُهُمْ فَيَقُولُونَ وَلَمْ يَهِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ أُلُوفٌ وَنَحْنُ قَلِيلُونَ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} يَقْتَضِي كَثْرَةَ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَعْرِفُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلُوا فِي الْجِهَادِ. وَأَيْضًا فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَقْتُولِينَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ؛ فَإِنَّ مَنْ قَبْلَ مُوسَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ وَمُوسَى وَأَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يُقْتَلُوا فِي الْغَزْوِ؛ بَلْ وَلَا يُعْرَفُ نَبِيٌّ قُتِلَ فِي جِهَادٍ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَثِيرًا وَيَكُونُ جَيْشُهُ كَثِيرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَنْقَلِبُ سَوَاءٌ كَانَ النَّبِيُّ مَقْتُولًا أَوْ مَيِّتًا فَلَمْ يَذُمَّهُمْ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الْخَوْفِ بَلْ عَلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ وَلِهَذَا تَلَاهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فَيُقْتَلُ مِنْهُمْ(1/59)
خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَهُمْ لَا يَهِنُونَ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْكَثْرَةِ مُنَاسِبًا لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ وَقَتْلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الْوَهَنَ فَمَا وَهَنُوا وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَلَوْ وَهَنُوا دَلَّ عَلَى ضَعْفِ إيمَانِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ هُنَا: وَلَمْ يَنْقَلِبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ نَبِيَّهُمْ قُتِلَ لَقَالَ فَانْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ إذَا مَاتَ النَّبِيُّ أَوْ قُتِلَ فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ شَيْئَيْنِ: الِارْتِدَادَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَالْوَهْنَ وَالضَّعْفَ وَالِاسْتِكَانَةَ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} إلَخْ. وَلَمْ يَقُلْ: فَمَا وَهَنُوا لِقَتْلِ النَّبِيِّ وَلَوْ قُتِلَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَذَكَرَ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُصِيبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي عَامَّةِ الْغَزَوَاتِ لَا يَكُونُ قَتْلَ نَبِيٍّ. وَأَيْضًا فَكَوْنُ النَّبِيِّ قَاتَلَ مَعَهُ أَوْ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ: لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ مَعَهُمْ فِي الْغَزَاةِ بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَ النَّبِيَّ وَقَاتَلَ عَلَى دِينِهِ فَقَدْ قَاتَلَ مَعَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قُتِلَ عَلَى دِينِهِ فَقَدْ قُتِلَ مَعَهُ وَهَذَا الَّذِي فَهِمَ الصَّحَابَةُ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ قِتَالِهِمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ شَامًا وَمِصْرًا وَعِرَاقًا ويمنا وَعَرَبًا وَعَجَمًا وَرُومًا وَمَغْرِبًا وَمَشْرِقًا وَحِينَئِذٍ فَظَهَرَ كَثْرَةُ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا وَأُصِيبُوا وَهُمْ عَلَى دِينِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرُونَ وَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ يَغْزُونَ فِي السَّرَايَا وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُمْ: كَانُوا مَعَهُ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الْآيَةَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا(1/60)
وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} الْآيَةَ. لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ يَكُونُ مَعَ الْمُطَاعِ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا لِلْمُطَاعِ نَاظِرًا إلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي: {رِبِّيُّونَ} هُنَا: إنَّهُمْ الْعُلَمَاءُ فَلَمَّا جَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَفْظِ الرَّبَّانِيِّ وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ هُمْ الْأَتْبَاعُ كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ المربوبين. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ مِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ عَيْنُ الْأَحْبَارِ وَهُمْ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ وَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَا يَكُونُ هَؤُلَاءِ إلَّا قَلِيلًا. الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ. وَأَصْحَابُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ رَبَّانِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أُعْطُوا عِلْمًا وَمَعَهُمْ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الرَّبَّانِيِّ فِي هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الرِّبِّيِّ فِي هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ بَلْ الْمَعْرُوفُ فِيهَا هُوَ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِينَ قَالُوهُ قَالُوا: هُوَ نِسْبَةٌ لِلرَّبِّ بِلَا نُونٍ وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ (رِبِّيٌّ بِالْكَسْرِ وَمَا قَالُوهُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ قَرَأَهُ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَقَدْ قُرِئَ بِالضَّمِّ فَعُلِمَ أَنَّهَا لُغَاتٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ كُلَّ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الرَّبَّانِيِّينَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ وَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ ذِكْرُهُمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فَهُنَاكَ ذِكْرُهُمْ بِهِ مُنَاسِبٌ. السَّابِعُ: قِيلَ: إنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ فَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ كَاللِّحْيَانِيِّ وَقِيلَ إلَى تَرْبِيَتِهِ النَّاسَ وَقِيلَ إلَى رُبَّانِ السَّفِينَةِ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّ(1/61)
الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فِي النِّسْبَةِ لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إلَى التَّرْبِيَةِ وَهَذِهِ تَخْتَصُّ بِهِمْ وَأَمَّا نِسْبَتُهُمْ إلَى الرَّبِّ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِذَلِكَ بَلْ كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إمَّا نِسْبَةَ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ رَبَّانِيِّينَ وَلَا سَمَّى بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَإِنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْ يَرُبُّ النَّاسَ كَمَا يَرُبُّ الرَّبَّانِيُّ السَّفِينَةَ وَلِهَذَا كَانَ الرَّبَّانِيُّونَ يُذَمُّونَ تَارَةً وَيُمْدَحُونَ أُخْرَى وَلَوْ كَانُوا مَنْسُوبِينَ إلَى الرَّبِّ لَمْ يُذَمُّوا قَطُّ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهَا إنْ جُعِلَتْ مَدْحًا فَقَدْ ذُمُّوا فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْحًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَاصَّةً يَمْتَازُونَ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْمَدْحِ وَإِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى رَبَّانِيِّ السَّفِينَةِ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبًا إلَى الرَّبِّ فَنِسْبَةُ الرِّبِّيِّينَ إلَى الرَّبِّ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إلَى الرَّبِّ: فَلَا تَدُلُّ النِّسْبَةُ عَلَى أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ نَعَمْ تَدُلُّ عَلَى إيمَانٍ وَعِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ مُتَأَلِّهٌ عَارِفٌ بِاَللَّهِ وَالصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يُسَمَّوْا رَبَّانِيِّينَ وَلَا رِبِّيِّينَ وَإِنَّمَا جَاءَ أَنَّ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّبُهُمْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْخُلَفَاءُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ وَلَمْ يُسَمَّوْا رَبَّانِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الرَّبَّانِيِّينَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانَ عَلْقَمَةُ مِنْ الرَّبَّانِيِّينَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ فَهُمْ أَهْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْبَارُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَخْبَرَ بِالْعِلْمِ وَرَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَحَدَّثَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْ أَوْ يَنْهَ وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ فِي الرَّبَّانِيِّ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " هُمْ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاس بِالْحِكْمَةِ(1/62)
وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " هُمْ الْفُقَهَاءُ الْمُعَلِّمُونَ ". قُلْتُ: أَهْلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ الْفُقَهَاءُ الْمُعَلِّمُونَ. وَقَالَ قتادة وَعَطَاءٌ: هُمْ الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَحَدُهُمْ رَبَّانِيٌّ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ الْمُعَلِّمُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَحْسَبُ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةً أَوْ سُرْيَانِيَّةً وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ زَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الرَّبَّانِيِّينَ. قُلْتُ: اللَّفْظَةُ عَرَبِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى رَبَّانِ السَّفِينَةِ الَّذِي يَنْزِلُهَا وَيَقُومُ لِمَصْلَحَتِهَا وَلَكِنَّ الْعَرَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَبَّانِيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مُنَزَّلَةٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.(1/63)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} . وَكِتَابُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وَقَوْلِهِ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} . وَقَالَ فِي النَّصَارَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وَقَالَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ(1/64)
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . وَلَمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْمُغَايِرِينَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلِلضَّالِّينَ كَانَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إلَى هَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: {لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ} ؟ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَانَ السَّلَفُ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ انْحَرَفَ مِنْ الْعُبَّادِ: فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يُرَى فِي أَحْوَالِ مُنْحَرِفَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَالْكِبْرِ وَأَمْرِ النَّاسِ بِالْبَرِّ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَمَا يُرَى فِي مُنْحَرِفَةِ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ الصَّالِحِينَ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَاتِ والرهبانية وَالصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى(1/65)
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَلِهَذَا حَقَّقَ اللَّهُ لَهُ نَعْتَ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَرْفَعِ مَقَامَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} . وَلِهَذَا يُشْرَعُ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي سَائِرِ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ كَخُطَبِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَخُطَبِ الْحَاجَاتِ عِنْدَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ أَنْ نَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّتَهُ لِئَلَّا تَقَعَ الْأُمَّةُ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ دَعْوَى الْأُلُوهِيَّةِ حَتَّى قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ: " أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ ". وَقَالَ أَيْضًا لِأَصْحَابِهِ: {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ بَلْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} . وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} وَقَالَ: {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} .
وَالْغُلُوُّ فِي الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ مِنْ ضُلَّالِ الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْأُلُوهِيَّةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ يَعْتَقِدُونَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَمَنْ تَوَهَّمَ فِي نَبِيِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى وَإِنَّمَا حُقُوقُ الْأَنْبِيَاءِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ(1/66)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَالتَّعْزِيرُ: النَّصْرُ وَالتَّوْقِيرُ وَالتَّأْيِيدُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فَهَذَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} . وَذَكَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ(1/67)
هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . وَقَالَ: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} . وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ: فَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ} . فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حُقُوقَ الرَّسُولِ مِنْ الطَّاعَةِ لَهُ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَنَصْرِهِ وَتَحْكِيمِهِ وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ وَاتِّبَاعِهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَرَدِّ مَا يُتَنَازَعُ فِيهِ إلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ فَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَمُبَايَعَتَهُ مُبَايَعَتُهُ فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَقَرَنَ بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِهِ فِي الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وَفِي الْأَذَى فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَفِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَفِي الرِّضَا فَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي.(1/68)
فَأَمَّا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَوْلِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} . وَقَوْلِهِ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ كَمَا قَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وَقَالَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ أَوْ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} {قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وَقَالَ: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . وَذَمَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ(1/69)
وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا فَقَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَرْجُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ كَمَا تَخَافُونَهُ أَنْتُمْ وَتَرْجُونَهُ وَتَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ وَقَالَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . وَتَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: كَثِيرٌ جِدًّا بَلْ هُوَ قَلْبُ الْإِيمَانِ وَأَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ: {إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَحَدٌ إلَّا وَجَدَ رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ} وَهُوَ قَلْبُ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ. وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ كَالْجَوَارِحِ لَهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا: فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهِيَ أَصْلُ الْعَمَلِ. وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَلِهَذَا أَنْكَرْنَا عَلَى الشَّيْخِ يَحْيَى الصرصري: مَا يَقُولُهُ فِي قَصَائِدِهِ فِي مَدْحِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: بِك أَسْتَغِيثُ وَأَسْتَعِينُ وَأَسْتَنْجِدُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/70)
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ اسْتِنْجَادِ الصَّالِحِينَ والمتشبهين بِهِمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا فَإِنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ وَبَيَّنْتُ لِلنَّاسِ التَّوْحِيدَ وَنَفَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَامُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} . {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَيَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ الْخَشْيَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالتَّوْبَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا(1/71)
تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَقَالَ: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} وَقَالَ نُوحٌ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} . فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يُطَاعَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَكَذَلِكَ قَالَتْ الرُّسُلُ مِثْلُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَجَعَلُوا التَّقْوَى لِلَّهِ وَجَعَلُوا لَهُمْ أَنْ يُطَاعُوا. وَكَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ الْقُرْآنِ: {اتَّقُوا اللَّهَ} {اتَّقُوا اللَّهَ} . {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} . وَكَذَلِكَ. . . (1) وَقَالَ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَقَالَتْ بلقيس: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وَقَالَ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا} {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا} وَقَالَ: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ} {تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وَالِاسْتِغْفَارُ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض في الأصل(1/72)
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} . وَالِاسْتِرْزَاقُ وَالِاسْتِنْصَارُ كَمَا فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْقُنُوتِ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} وَقَالَ: {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَالِاسْتِغَاثَةُ كَمَا قَالَ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَالِاسْتِجَارَةُ كَمَا قَالَ: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَالِاسْتِعَاذَةُ كَمَا قَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} . وَقَالَ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ. وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ الْمَنَامِ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْك وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك ". وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَالْوَلِيُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَك كُلَّهُ وَالشَّفِيعُ الَّذِي يَكُونُ شَافِعًا فِيهِ أَيْ عَوْنًا فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يَسْتَقِلُّ وَلَا ظَهِيرٍ مُعِينٍ وَقَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ(1/73)
دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} . {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . فَالْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كُلُّ هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاَللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ لَا مَلِكَ وَلَا نَبِيَّ وَلَا غَيْرَهُ بَلْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَأَنْ تَجْعَلَ لَهُ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ وَالشِّرْكُ أَنْ تَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شِرْكًا أَيْ نَصِيبًا فِي عِبَادَتِك وَتَوَكُّلِك وَاسْتِعَانَتِك كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} وَكَمَا قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} وَكَمَا قَالَ: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . وَأَصْنَافُ الْعِبَادَاتِ: الصَّلَاةُ بِأَجْزَائِهَا مُجْتَمِعَةً وَكَذَلِكَ أَجْزَاؤُهَا الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهَا مِنْ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَنَفَّلَ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِشَمْسِ وَلَا لِقَمَرِ(1/74)
وَلَا لِمَلَكِ وَلَا لِنَبِيِّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا لِقَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ هَذَا فِي جَمِيعِ مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا حَتَّى نُهِيَ أَنْ يُتَنَفَّلَ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا أَنْ يَسْجُدَ لَهُ. وَقَالَ: {لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا} . وَنَهَى عَنْ الِانْحِنَاءِ فِي التَّحِيَّةِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقُومُوا خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ. وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ الْعَامَّةُ مِنْ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا وَالْخَاصَّةُ لَا يُتَصَدَّقُ إلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وَقَالَ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} فَلَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الدِّينِ لَا لِمَلَكِ وَلَا لِشَمْسِ وَلَا لِقَمَرِ وَلَا لِنَبِيِّ وَلَا لِصَالِحِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ السؤال وَالْمُعَظِّمِينَ كَرَامَةً لِفُلَانِ وَفُلَانٍ يُقْسِمُونَ بِأَشْيَاءَ: إمَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَّا مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِمَّا مِنْ الصَّالِحِينَ كَمَا يُقَالُ: بَكْرٌ وَعَلِيٌّ وَنُورُ الدِّينِ أَرْسِلَانِ وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ وَالشَّيْخُ جاليد. وَكَذَلِكَ الْحَجُّ لَا يَحُجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَا يُطَافُ إلَّا بِهِ وَلَا يُحْلَقُ الرَّأْسُ إلَّا بِهِ وَلَا يُوقَفُ إلَّا بِفِنَائِهِ لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِنَبِيِّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا بِقَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا بِوَثَنِ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا يُصَامُ عِبَادَةً إلَّا لِلَّهِ فَلَا يُصَامُ لِأَجْلِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَلَا لِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/75)
وَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيلُ الشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدِّينِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَالْإِلَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ إنْ يُؤَلِّهَهُ الْعِبَادُ وَيَدْخُلُ فِيهِ حُبُّهُ وَخَوْفُهُ فَمَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ حَقٌّ مَحْضٌ لِلَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الرِّسَالَةِ فَهُوَ حَقُّ الرَّسُولِ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الدِّينِ الشَّهَادَتَيْنِ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءَ وَلَهَا وَصْفُ الشَّهَادَةِ. وَالْقِسِّيسُونَ لَهُمْ الْعِبَادَةُ بِلَا شَهَادَةٍ وَلِهَذَا قَالُوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وَلِهَذَا كَانَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الدِّينِ كَمَا عَلَيْهِ خُلَّصُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ مَنْصُورٌ السَّمْعَانِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمَا وَجَعَلَهُ أَصْلَ الشِّرْكِ وَغَيَّرُوا بِذَلِكَ مِلَّةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ كَمَا فَعَلَهُ قُدَمَاءُ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ: الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي فِيهِ مُشَابَهَةُ الصَّابِئِينَ أَوْ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الْمُشَابِهُ لِقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا السَّمَاعَ جِنْسًا وَاحِدًا وَالْمِلَّةَ جِنْسًا وَاحِدًا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَشْرُوعِهِ وَمُبْتَدِعِهِ وَلَا بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ. فَالسَّمَاعُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ سَمَاعُ كِتَابِ اللَّهِ وَتَزْيِينُ الصَّوْتِ بِهِ وَتَحْبِيرُهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ} وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّك تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَالصُّوَرُ وَالْأَزْوَاجُ وَالسَّرَارِيُّ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى.(1/76)
وَالْعِبَادَةُ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} {رِجَالٌ} . وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَرِّرُ قَاعِدَةَ اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ. وَيَنْهَى أَنْ يُشَبَّهَ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ بِالطَّبِيعِيِّ الْبِدْعِيِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَالصَّوْتِ الْحَسَنِ لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ مَشْرُوعًا حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُمَيَّزُ كَحُرُوفِ الْقُرْآنِ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ هُوَ الدِّينُ النَّافِعُ.(1/77)
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ: فِي أَلَا يَسْأَلَ الْعَبْدُ إلَّا اللَّهَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ. وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَفِي التِّرْمِذِيِّ: {لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعُ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ مَالِكٍ وَالرَّهْطِ الَّذِينَ بَايَعَهُمْ مَعَهُ: {لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا} فَإِنَّ سَوْطَ أَحَدِهِمْ يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ: فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: {هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ} وَالِاسْتِرْقَاءُ طَلَبُ الرُّقْيَةِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ السُّؤَالِ. وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: {لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ} وَقَوْلِهِ: {لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ} الْحَدِيثَ وَقَوْلِهِ {لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِهِمْ.} وَقَوْلِهِ: {مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ.} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ: لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ} الْحَدِيثَ. فَأَمَّا سُؤَالُ مَا يَسُوغُ مِثْلُهُ مِنْ الْعِلْمِ: فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ(1/78)
لَا يُنْقِصُ الْجَوَابُ مِنْ عِلْمِهِ بَلْ يَزْدَادُ بِالْجَوَابِ وَالسَّائِلُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّ شِفَاءَ الْعَيِّ السُّؤَالُ} وَلَكِنْ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ. وَكَنَهْيِهِ عَنْ أُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ: {لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِك} وَقَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ: فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا: هُوَ طَلَبَ مِنْ الْأُمَّةِ الدُّعَاءَ لَهُ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا لَهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِمَّا لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ: أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: {إذًا يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِكَ} فَطَلَبُهُ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ لَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ كَسَائِرِ أَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ: إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك مِثْلُهُ} .(1/79)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَعْبُدَهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} {إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يَعْبُدُهُ بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " قَالَ " التِّرْمِذِيُّ ": حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْلِمٍ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: {خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} .
وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَا يُصَلِّي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَصُومُ إلَّا لِلَّهِ(1/80)
وَلَا يَحُجُّ إلَّا بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} . وَفِي السُّنَنِ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ " لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا " لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَوْحِيدٌ. وَتَوْحِيدٌ مَعَهُ كَذِبٌ خَيْرٌ مِنْ شِرْكٍ مَعَهُ صِدْقٌ وَلِهَذَا كَانَ غَايَةَ الْكَذِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِالشِّرْكِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا} وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} وَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ أَشْرَكَ فَكَيْفَ النَّاذِرُ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ . وَالنَّذْرُ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. مِثْلُ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ صَدَقَةً. وَلَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ قِيلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الْيَمِينِ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: {إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ فَكَيْفَ بِالنَّذْرِ لِلْمَخْلُوقِ وَلَكِنَّ النَّذْرَ لِلَّهِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ وَإِذَا كَانَ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا(1/81)
هَلْ فِيهِ بَدَلٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَمْ لَا؟ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّذْرَ لِلْمَخْلُوقِينَ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً فَهُوَ مِنْ الضَّالِّينَ كَاَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَةَ الْمَخْلُوقِينَ تَجْلِبُ لَهُمْ مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ مَضَرَّةً. وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَقَدْ تُخَاطِبُهُمْ بِكَلَامِ وَقَدْ تَحْمِلُ أَحَدَهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ تُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَقَدْ تَأْتِيهِ بِنَفَقَةِ أَوْ طَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَغَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ لِلضَّالِّينَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إمَّا بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِمَّا بِعِبَادَةِ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ.
وَهَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا شَيْطَانِيًّا أَوْ حَالًا بهتانيا فَخَوَاصُّهُمْ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ لَكِنْ لَا تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ إلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الْبِدْعَةِ إمَّا كَفْرٍ وَإِمَّا فِسْقٍ وَإِمَّا جَهْلٍ بِالشَّرْعِ. فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَصْدُهُ إغْوَاءٌ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ كُفَّارًا جَعَلَهُمْ كُفَّارًا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى جَعْلِهِمْ فُسَّاقًا أَوْ عُصَاةً وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى نَقْصِ عَمَلِهِمْ وَدِينِهِمْ بِبِدْعَةِ يَرْتَكِبُونَهَا يُخَالِفُونَ بِهَا الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ.(1/82)
وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَحْمِلُهُ الشَّيْطَانُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفُ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ يَحْمِلُهُ فَيَرُدُّهُ إلَى مَدِينَتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَظُنُّ هَذَا الْجَاهِلُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذَا وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ لِأَنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَطُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بمزدلفة وَيَرْمِيَ الْجِمَارَ وَيَطُوفَ لِلْوَدَاعِ وَعَلَيْهِ اجْتِنَابُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. وَهَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الَّذِينَ يُضِلُّهُمْ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُمْ فِي الْهَوَاءِ يَحْمِلُ أَحَدَهُمْ بِثِيَابِهِ فَيَقِفُ بِعَرَفَةَ وَيَرْجِعُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. حَتَّى يُرَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ بِبَلَدِهِ وَيُرَى بِعَرَفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ فَيَرَاهُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَاقِفًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ. فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَا لَمْ أَذْهَبْ الْعَامَ إلَى عَرَفَةَ ظَنَّ أَنَّهُ مَلَكٌ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ كَثِيرًا وَهِيَ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا(1/83)
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} - إلَى قَوْلِهِ - {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَنِسْيَانُهَا هُوَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَإِنْ حَفِظَ حُرُوفَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. فَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَسْعَدَهُ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ضَلَّ وَشَقِيَ وَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ وَأَشْقَاهُ. فَالْأَحْوَالُ الرَّحْمَانِيَّةُ وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ يَكُونُ سَبَبُهُ الْإِيمَانَ فَإِنَّ هَذِهِ حَالُ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَتَكُونُ نِعْمَةً لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَكُونُ الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِثْلَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ الْحُجَّةَ فِي الدِّينِ وَالْحَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْبَرَكَةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَمِثْلُ نُزُولِ الْمَطَرِ بِالِاسْتِسْقَاءِ وَمِثْلُ قَهْرِ الْكُفَّارِ وَشِفَاءِ الْمَرِيضِ بِالدُّعَاءِ وَمِثْلُ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ وَالنَّافِعَةِ بِمَا غَابَ عَنْ الْحَاضِرِينَ وَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَكْذِبُ قَطُّ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ يَكْذِبُونَ تَارَةً وَيَصْدُقُونَ أُخْرَى وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلْأَمْرِ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الْآيَتَيْنِ. وَلِهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ مُلَابِسًا الْخَبَائِثَ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ(1/84)
الَّتِي تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَمُرْتَكِبًا لِلْفَوَاحِشِ أَوْ ظَالِمًا لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ: {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَهَا بَسْطٌ طَوِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/85)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
فَصْلٌ جَامِعٌ:
قَدْ كَتَبْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ قَبْلَ بَعْضِ الْقَوَاعِدِ: وَآخِرَ مُسَوَّدَةِ الْفِقْهِ: أَنَّ جِمَاعَ الْحَسَنَاتِ الْعَدْلُ وَجِمَاعَ السَّيِّئَاتِ الظُّلْمُ وَهَذَا أَصْلٌ جَامِعٌ عَظِيمٌ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ لِجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَمَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ هَذَا الْمَقْصُودُ: فَلَيْسَ حَسَنَةً مُطْلَقَةً مُسْتَوْجِبَةً لِثَوَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ حَسَنَةً مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَهُ ثَوَابٌ فِي الدُّنْيَا. وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ زَيْغٌ وَانْحِرَافٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ. وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَذَمِّ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ أَوْ خَالَفُوا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ كإبليس وَمُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ إلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَاَلَّذِينَ بَدَّلُوا الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَاشْتَمَلَتْ السُّورَةُ عَلَى ذَمِّ مَنْ أَتَى بِدِينِ بَاطِلٍ كَكُفَّارِ الْعَرَبِ وَمَنْ خَالَفَ الدِّينَ الْحَقَّ كُلَّهُ كَالْكُفَّارِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بَعْضَهُ كَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي الْأَنْعَامِ وَفِي غَيْرِهِمَا ذُنُوبَ الْمُشْرِكِينَ فِي نَوْعَيْنِ.(1/86)
أَحَدُهُمَا: أَمْرٌ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ كَالشِّرْكِ وَنَهْيٌ عَمَّا لَمْ يَنْهَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ. فَالْأَوَّلُ: شِرْعٌ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى: {إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} . وَلِهَذَا كَانَ ابْتِدَاعُ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الشِّرْكِ وَنَحْوِهِ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَابْتِدَاعُ التَّحْرِيمَاتِ الْبَاطِلَةِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْيَهُودِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَفَقِّهَةِ بَلْ أُصُولُ دِينِ الْيَهُودِ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ مِنْ التَّحْرِيمَاتِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ الْمَسِيحُ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وَأَصْلُ دِينِ النَّصَارَى فِيهِ تَأَلُّهٌ بِأَلْفَاظِ مُتَشَابِهَةٍ وَأَفْعَالٍ مُجْمَلَةٍ فَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ. قَرَّرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالْعَدْلَ الَّذِي نَفْعَلُهُ نَحْنُ هُوَ جِمَاعُ الدِّينِ يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إخْلَاصَ الدِّينِ لِلَّهِ أَصْلُ الْعَدْلِ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ.(1/87)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ . قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ} . وَالنِّدُّ الْمِثْلُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا مِنْ خَلْقِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَقَدْ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ: لِأَنَّهُ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ وَتَرْغَبُ إلَيْهِ وَتَفْزَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ مَقْهُورٌ بِالْعُبُودِيَّةِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إلَهًا؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا(1/88)
لَهُ الدِّينَ} فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَذَكَرَ (الْحَمْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ ثُمَّ حَصَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ سِوَاهُ فَقَوْلُهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ} إشَارَةٌ إلَى عِبَادَتِهِ بِمَا اقْتَضَتْهُ إلَهِيَّتُهُ: مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشَارَةٌ إلَى مَا اقْتَضَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ الْمَالِكُ وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْمَالِكُ: الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ. فَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ مِنْ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْمُلْكَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَلَا يَرَى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قَبْضًا وَلَا بَسْطًا وَلَا خَفْضًا وَلَا رَفْعًا إلَّا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَقَابِضُهُ وَبَاسِطُهُ وَرَافِعُهُ وَخَافِضُهُ فَهَذَا الشُّهُودُ هُوَ سِرُّ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّاتِ. وَهُوَ عِلْمُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ عِلْمُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ كَشْفُ سِرِّ الْكَلِمَاتِ التَّكْلِيفِيَّاتِ فَالتَّحْقِيقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَكُونُ عَنْ كَشْفِ عِلْمِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ: يَكُونُ بَعْدَ كَشْفِ عِلْمِ الرُّبُوبِيَّةِ(1/89)
وَهُوَ عِلْمُ التَّدْبِيرِ السَّارِي فِي الْأَكْوَانِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ لِهَذَا الْمَشْهَدِ وَوَفَّقَهُ لِذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ هَذَا الْمَشْهَدُ عَنْ الْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْفَقِيهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ فَإِنَّ هَذَيْنِ الْمَشْهَدَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ الدِّينِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَشَاهِدِ الرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ وَالْكَرَمِ وَالْجَمَالِ دَاخِلَةٌ فِي مَشْهَدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتْ جَمِيعَ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِأَنَّ أَوَّلَهَا اقْتَضَى عِبَادَتَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا وَآخِرَهَا اقْتَضَى عُبُودِيَّتَهُ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ. وَجَمِيعُ الْعُبُودِيَّاتِ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ غَابَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ وَعَنْ الْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ وَرَأَى قِيَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَامُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَتَصَرُّفَهُ فِيهَا وَحُكْمَهُ عَلَيْهَا فَرَأَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مِنْهُ صَادِرَةً عَنْ نَفَاذِ حُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَادِرَةِ فَغَابَ بِمَا لَاحَظَ عَنْ التَّمْيِيزِ وَالْفَرْقِ وَعَطَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالنُّبُوَّاتِ وَمَرَقَ مِنْ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ قَدْ أَدْهَشَهُ وَغَيَّبَ عَقْلَهُ لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَشْهَدَيْنِ فَهَذَا مَعْذُورٌ مَنْقُوصٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَشْهَدَيْنِ: الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَمَشْهَدِ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْإِرَادِيِّ وَقَدْ زَلَّتْ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ أَقْدَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ السَّالِكِينَ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْمُرْسَلِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْهُ فَفَنُوا بِمُرَادِهِمْ عَنْ مُرَادِ الْحَقِّ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُمْ لِأَنَّ الْحَقَّ يُغْنِي بِمُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ عَلَى مُرَادِهِ(1/90)
مُرَادِهِ مِنْهُمْ لَمْ يَنَلْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَيْقِظًا لِأَمْرِ سَيِّدِهِ لَا يَغِيبُ بِعِبَادَتِهِ عَنْ مَعْبُودِهِ وَلَا بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ بَلْ يَكُونُ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِأَحَدِهِمَا إلَى الْمَعْبُودِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ كَمَا {قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْإِحْسَانِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك} وَالْأُخْرَى يَنْظُرُ بِهَا إلَى أَمْرِ سَيِّدِهِ لِيُوقِعَهُ عَلَى الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ مَوْلَاهُ وَيَرْضَاهُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالشِّرْكُ إنْ كَانَ شِرْكًا يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ: - شِرْكٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَشِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ. فَأَمَّا الشِّرْكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ: أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا - أَيْ: مِثْلًا فِي عِبَادَتِهِ أَوْ مَحَبَّتِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ أَوْ إنَابَتِهِ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَاتَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الْآيَةَ {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} الْآيَةَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} - إلَى قَوْلِهِ - {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} . {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنِ: كَمْ تَعْبُدُ. قَالَ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَمَنْ الَّذِي تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَلَا تُسْلِمُ فَأُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي} وَأَمَّا الرُّبُوبِيَّةُ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ(1/91)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَمَا اعْتَقَدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الَّتِي تُنْزِلُ الْغَيْثَ وَتَرْزُقُ الْعَالَمَ وَتُدَبِّرُهُ وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا أَنْ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} {تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَكَذَا مَنْ خَافَ أَحَدًا كَمَا يَخَافُ اللَّهَ أَوْ رَجَاهُ كَمَا يَرْجُو اللَّهَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَالشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ فَمَنْ شَهِدَ أَنَّ الْمُعْطِيَ أَوْ الْمَانِعَ أَوْ الضَّارَّ أَوْ النَّافِعَ أَوْ الْمُعِزَّ أَوْ الْمُذِلَّ غَيْرُهُ فَقَدْ أَشْرَكَ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَلَكِنْ إذَا أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ فَلْيَنْظُرْ إلَى الْمُعْطِي الْأَوَّلِ مَثَلًا فَيَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ النِّعَمِ وَيَنْظُرْ إلَى مَنْ أَسْدَى إلَيْهِ الْمَعْرُوفَ فَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} لِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْزَاقَ وَقَدَّرَهَا وَسَاقَهَا إلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَالْمُعْطِي هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ وَحَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرِهِ. فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ.(1/92)
وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَضُرُّ غَيْرُهُ وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ. فَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْعَظِيمَ اسْتَرَاحَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِمْ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ لَوْمِهِ وَذَمِّهِ إيَّاهُمْ وَتَجَرَّدَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ فَقَوِيَ إيمَانُهُ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ وَتَنَوَّرَ قَلْبُهُ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَلِهَذَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ عَرَفَ النَّاسَ اسْتَرَاحَ. يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ. وَأَمَّا الشِّرْكُ الْخَفِيُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. فَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ مِثْلَ حُبِّ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْمَحْبُوبَ وَمَا أَحَبَّهُ وَيَكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ وَمَنْ صَحَّتْ مَحَبَّتُهُ امْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَقَعُ لِنَقْصِ الْمُتَابَعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الْمَحَبَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الْآيَةَ. فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا.(1/93)
إنَّمَا الْكَلَامُ فِي مَحَبَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي تَوْحِيدِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَوْ كَمُلَتْ مَحَبَّتُهُ لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ. وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا الْبَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَحَبَّتِهِ. وَهَذَا مِيزَانٌ لَمْ يَجْرِ عَلَيْكَ: كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ صَغُرَتْ عِنْدَهُ الْمَحْبُوبَاتُ وَقَلَّتْ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ كَثُرَتْ مَحْبُوبَاتُهُ وَانْتَشَرَتْ. وَكَذَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ كَمُلَ خَوْفُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا سِوَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وَإِذَا نَقَصَ خَوْفُهُ خَافَ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَعَلَى قَدْرِ نَقْصِ الْخَوْفِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ الْخَوْفُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَغَيْرُهُ. فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَلَا يَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ إلَّا بَعْدَ الزُّهْدِ وَلَا زُهْدَ إلَّا بِتَقْوَى وَالتَّقْوَى مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.(1/94)
فَصْلٌ:
وَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ تَحَرُّكِ الْقُلُوبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَعْتَصِمُ بِهِ فَتَقِلُّ آفَاتُهَا أَوْ تَذْهَبُ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ. فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ مُحَرِّكَاتِ الْقُلُوبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَةٌ: الْمَحَبَّةُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ. وَأَقْوَاهَا الْمَحَبَّةُ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ تُرَادُ لِذَاتِهَا لِأَنَّهَا تُرَادُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِخِلَافِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَزُولُ فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَالْخَوْفُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الطَّرِيقِ فَالْمَحَبَّةُ تَلْقَى الْعَبْدَ فِي السَّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَعَلَى قَدْرِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا يَكُونُ سَيْرُهُ إلَيْهِ وَالْخَوْفُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَحْبُوبِ وَالرَّجَاءُ يَقُودُهُ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْعُبُودِيَّةُ بِدُونِهِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْعَبْدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى طَلَبِ مَحْبُوبِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يُحَرِّكُ الْقُلُوبَ؟ قُلْنَا يُحَرِّكُهَا شَيْئَانِ - أَحَدُهُمَا كَثْرَةُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ لِأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِهِ تُعَلِّقُ الْقُلُوبَ بِهِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالذِّكْرِ الْكَثِيرِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} الْآيَةَ. وَالثَّانِي: مُطَالَعَةُ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ(1/95)
تُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ تَسْخِيرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانِ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بَاعِثًا وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ تُحَرِّكُهُ مُطَالَعَةُ آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ يُحَرِّكُهُ مُطَالَعَةُ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَمَا وَرَدَ فِي الرَّجَاءِ وَالْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَاسِعٌ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَبْلَغُ التَّنْبِيهِ عَلَى تَضَمُّنِهِ الِاسْتِغْنَاءَ بِأَدْنَى إشَارَةٍ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَم وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.(1/96)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ: ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ إمَامِنَا إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ لِمُنَاظِرِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ {النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } فَأَنْكَرَ أَنْ نَخَافَ مَا أَشْرَكُوهُمْ بِاَللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَعَدَمَ خَوْفِهِمْ مِنْ إشْرَاكِهِمْ بِاَللَّهِ شَرِيكًا لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا وَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ هُوَ الْآمِنُ الْمُهْتَدِي. وَهَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ الْحَنِيفَ فِي مَوَاضِعَ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ دَعْ جَلِيلَهُ وَهُوَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ وَشِرْكٌ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَشِرْكٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَبُولِ. فَالْغَالِيَةُ مِنْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَضُلَّالِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ يُشْرِكُونَ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ تَارَةً وَبِنَوْعِ مِنْ عِبَادَتِهِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا تَارَةً وَمَنْ أَشْرَكَ هَذَا الشِّرْكَ أَشْرَكَ فِي الطَّاعَةِ.(1/97)
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَأَجْنَادِ الْمُلُوكِ وَأَتْبَاعِ الْقُضَاةِ وَالْعَامَّةِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَؤُلَاءِ يُشْرِكُونَ شِرْكَ الطَّاعَةِ وَقَدْ {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَمَّا قَرَأَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ فَقَالَ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ} . فَتَجِدُ أَحَدَ الْمُنْحَرِفِينَ يَجْعَلُ الْوَاجِبَ مَا أَوْجَبَهُ مَتْبُوعُهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالْحَلَالَ مَا حَلَّلَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ إمَّا دِينًا وَإِمَّا دُنْيَا وَإِمَّا دُنْيَا وَدِينًا. ثُمَّ يُخَوِّفُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ وَهُوَ لَا يَخَافُ أَنَّهُ أَشْرَكَ بِهِ شَيْئًا فِي طَاعَتِهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنْ رَسُولٍ وَأَمِيرٍ وَعَالِمٍ وَوَالِدٍ وَشَيْخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشِّرْكُ الثَّالِثُ فَكَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة بَلْ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ بَلْ وَبَعْضِ أَتْبَاعِ الْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ يَقْبَلُ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَمِنْ تَصْحِيحِ بَعْضِ الْمَقَالَاتِ وَإِفْسَادِ بَعْضِهَا وَمَدْحِ بَعْضِهَا وَبَعْضِ الْقَائِلِينَ وَذَمِّ بَعْضٍ بِلَا سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ. وَيَخَافُ مَا أَشْرَكَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْقَبُولِ وَلَا يَخَافُ إشْرَاكَهُ بِاَللَّهِ شَخْصًا فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ مَنْ شَرَعَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُبَلِّغِينَ وَالشُّهَدَاءِ الصَّادِقِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَبَابُ الطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْبَشَرِ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَأَمَّا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَالتَّأَلُّهُ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِلْبَشَرِ بِحَالِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ مَا وَضَعْتُ يَدِي فِي قَصْعَةِ أَحَدٍ إلَّا ذَلَلْتُ لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ نَصَرَكَ وَرَزَقَكَ(1/98)
كَانَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْكَ فَالْمُؤْمِنُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَقَبُولُ مَالِ النَّاسِ فِيهِ سُلْطَانٌ لَهُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا السُّلْطَانِ وَهَذَا الْقَهْرِ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ حَسَنًا مَحْمُودًا يَصِحُّ لَهُ دِينُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ قَصَدَ التَّرَفُّعَ عَلَيْهِمْ وَالتَّرَؤُّسَ وَالْمُرَاءَاةَ بِالْحَالِ الْأَوْلَى كَانَ مَذْمُومًا وَقَدْ يُقْصَدُ بِتَرْكِ الْأَخْذِ غِنَى نَفْسِهِ عَنْهُمْ فِي تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ صَالِحَةٌ: غِنَى نَفْسِهِ، وَعِزَّتُهَا حَتَّى لَا تَفْتَقِرَ إلَى الْخَلْقِ وَلَا تَذِلَّ لَهُمْ، وَسَلَامَةُ مَالِهِمْ وَدِينِهِمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا تَنْقُصَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَا يُذْهِبُهَا عَنْهُمْ وَلَا يُوقِعُهُمْ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ فِيمَا يَكْرَهُ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَفِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَهُ أَلَّا يَذِلَّ وَلَا يَفْتَقِرَ إلَيْهِمْ وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ أَنْ يَبْقَى لَهُمْ مَالُهُمْ وَدِينُهُمْ وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ بِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ بِإِبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ حَتَّى يَقْبَلُوا مِنْهُ وَيَتَأَلَّفُونَ بِالْعَطَاءِ لَهُمْ فَكَذَلِكَ فِي إبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ لَهُمْ وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا حِفْظُ دِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ إذَا قُبِلَ مِنْهُمْ الْمَالُ قَدْ يَطْمَعُونَ هُمْ أَيْضًا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي وَيَتْرُكُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّاعَاتِ فَلَا يَقْبَلُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ وَمَقَاصِدُ أُخَرُ صَالِحَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَخْذُ يُفْضِي إلَى طَمَعٍ فِيهِ حَتَّى يُسْتَعَانَ بِهِ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ يُمْنَعَ مِنْ طَاعَةٍ فَتِلْكَ مَفَاسِدُ أُخَرُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَرْجِعُ إلَى ذُلِّهِ وَفَقْرِهِ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ طَاعَةٍ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِيلًا أَوْ فَقِيرًا إلَيْهِمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ هُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ إلَّا مَعَ ذُلِّهِ أَوْ فَقْرِهِ فَإِنَّ الْعَطَاءَ يَحْتَاجُ إلَى جَزَاءٍ وَمُقَابَلَةٍ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ مُكَافَأَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَا يَنْتَظِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ إلَيْهِمْ.(1/99)
وَلِلرَّدِّ وُجُوهٌ مَكْرُوهَةٌ مَذْمُومَةٌ مِنْهَا: الرَّدُّ مُرَاءَاةً بِالتَّشَبُّهِ بِمَنْ يُرِيدُ غِنًى وَعِزَّةً وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَمِنْهَا التَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِعْلَاءُ حَتَّى يَسْتَعْبِدَهُمْ وَيَسْتَعْلِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَهَذَا مَذْمُومٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا الْبُخْلُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُمْ احْتَاجَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ وَيَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ فَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِالْمَنَافِعِ. وَمِنْهَا الْكَسَلُ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَقَاصِدَ فَاسِدَةٌ فِي الرَّدِّ لِلْعَطَاءِ: الْكِبْرُ وَالرِّيَاءُ وَالْبُخْلُ وَالْكَسَلُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ قَبُولَ الْمَالِ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهَا أَوْ لِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ فَإِنَّ فِي تَرْكِ أَخْذِهِ غِنَى نَفْسِهِ وَعِزَّهَا وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَهَا وَسَلَامَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَفِيهِ نَفْعُ النَّاسِ بِإِبْقَاءِ أَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ لَهُمْ وَدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَلِّدِ عَلَيْهِمْ إذَا بَذَلُوا بَذْلًا قَدْ يَضُرُّهُمْ وَقَدْ يَتْرُكُهُ لِمَضَرَّةِ النَّاسِ أَوْ لِتَرْكِ مَنْفَعَتِهِمْ فَهَذَا مَذْمُومٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ يَكُونُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ أَوْ تَرْكُ مَنْفَعَتِهَا إمَّا بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيَضُرُّهُ تَرْكُهُ أَوْ يَكُونَ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَتْرُكُهَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ. فَلِهَذَا فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِإِزَائِهَا مَسْأَلَةُ الْقَبُولِ أَيْضًا وَفِيهَا التَّفْصِيلُ لَكِنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ تَرْكَ الْأَخْذِ كَانَ أَجْوَدَ مِنْ الْقَبُولِ وَلِهَذَا يُعَظِّمُ النَّاسُ هَذَا الْجِنْسَ أَكْثَرَ وَإِذَا صَحَّ الْأَخْذُ كَانَ أَفْضَلَ أَعْنِي الْأَخْذَ وَالصَّرْفَ إلَى النَّاسِ.(1/100)
سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَمَّنْ قَالَ: يَجُوزُ الِاسْتِغَاثَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى - فِي طَلَبِ الْغَوْثِ وَكَذَلِكَ يُسْتَغَاثُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ فِي تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ فَقَدْ اسْتَغَاثَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ التَّوَسُّلِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك يَا إلَهِي بِرَسُولِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِرَسُولِك عِنْدَك أَنْ تَغْفِرَ لِي اسْتِغَاثَةٌ بِالرَّسُولِ حَقِيقَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ. قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ بِالشَّخْصِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَأَنَّهُ يَصِحُّ إسْنَادُهَا لِلْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّلِ وَأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَ تَفْرِيجَ الْكُرْبَةِ بِوَاسِطَةِ التَّوَسُّلِ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ: وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِي: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: اسْتَغِيثُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ}(1/101)
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُشِيرُ بِهِ إلَى التَّوْحِيدِ وَإِفْرَادِ الْبَارِي بِالْقُدْرَةِ: لَمْ يَكُنْ لَنَا نَحْنُ أَنْ نَنْفِيَ ذَلِكَ وَنُجَوِّزَ أَنْ نُطْلِقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحَ يُسْتَغَاثُ بِهِ يَعْنِي فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَوَاسِطَةٌ وَأَنَّ الْقَائِلَ لَا يُسْتَغَاثُ بِهِ مُنْتَقِصًا لَهُ وَأَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ يُعْذَرُ إذَا كَانَ جَاهِلًا. فَإِذَا عَرَفَ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ صَارَ كَافِرًا. وَالتَّوَسُّلُ بِهِ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَلْ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَهَلْ يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ؟ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ وَهَلْ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الصَّالِحِ أَوْ غَيْرِهِمَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ اسْتِغَاثَةٌ بِذَلِكَ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ؟ كَمَا نَقَلَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الصَّالِحِ اسْتِغَاثَةً بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَلْ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصَالِحٍ؟ فَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ الْمَشْهُورَةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ خِلَافَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَمَنْ قَالَ: لَا يُتَوَسَّلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. كَمَا أَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ؟ هَلْ يَكْفُرُ كَمَا كَفَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ؟ وَيَكُونُ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ كُفْرًا بَلْ نَفْسُ التَّوَسُّلِ بِهِ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يُتَوَسَّلُ بِهِ؛(1/102)
وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِ؛ إلَّا فِي حَيَاتِهِ وَحُضُورِهِ لَا فِي مَوْتِهِ وَمَغِيبِهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا؟ أَوْ يَكُونُ تَنَقُّصًا؟ وَلَوْ قَالَ: مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إلَّا بِاَللَّهِ أَيْ: لَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى هَلْ يَكُونُ كُفْرًا. أَوْ يَكُونُ حَقًّا؟ وَإِذَا نَفَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ أَمْ يَجِبُ أَمْ يَجُوزُ نَفْيُهُ؟ أَفْتُونَا رَحِمَكُمْ اللَّهُ - بِجَوَابِ شَافٍ كَافٍ مُوَفَّقِينَ مُثَابِينَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْجَوَابُ
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا بِنَبِيِّ وَلَا بِمَلَكِ وَلَا بِصَالِحِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ التَّوَسُّلَ بِنَبِيِّ؛ هُوَ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ بَلْ الْعَامَّةُ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ فِي أَدْعِيَتِهِمْ بِأُمُورِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِحَقِّ الشَّيْخِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَتِهِ أَوْ أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي أَدْعِيَتِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَغِيثُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِبٌ مِنْهُ وَسَائِلٌ لَهُ وَالْمُتَوَسَّلُ بِهِ لَا يُدْعَى وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَلَا يُسْأَلُ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ وَكُلُّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالْمَدْعُوِّ بِهِ. وَالِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَهُوَ إزَالَةُ الشِّدَّةِ كَالِاسْتِنْصَارِ طَلَبُ النَّصْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْعَوْنِ وَالْمَخْلُوقُ يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ(1/103)
مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وَكَمَا قَالَ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ؛ فَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَسْتَغِيثُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ؛ فَقَالَ: شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ} فَأَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا شَفِيعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْخَلْقَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ لَكِنْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَمَّا عِنْدَ الوعيدية فَإِنَّمَا يُشَفَّعُ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ مَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِنَبِيِّ. فَقَالَ: أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِرَسُولِك فَقَدْ اسْتَغَاثَ بِرَسُولِهِ حَقِيقَةً، فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَجَمِيعِ الْأُمَمِ قَدْ كُذِّبَ عَلَيْهِمْ فَمَا يُعْرَفُ هَذَا فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بَلْ الْجَمِيعُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُسْتَغَاثَ مَسْئُولٌ بِهِ مَدْعُوٌّ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَسْئُولِ وَالْمَسْئُولِ بِهِ سَوَاءٌ اسْتَغَاثَ بِالْخَالِقِ(1/104)
أَوْ بِالْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ فِيهِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مَخْلُوقٍ يُسْتَغَاثُ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ: أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ اسْتَغَاثَ بِمَا تَوَسَّلَ بِهِ بَلْ إنَّمَا اسْتَغَاثَ بِمَنْ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُونَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: إنَّ الْمُغِيثَ بِمَعْنَى الْمُجِيبِ لَكِنَّ الْإِغَاثَةَ أَخَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَالْإِجَابَةَ أَخَصُّ بِالْأَقْوَالِ. وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ فَعَلَهُ. وَلَا رَوَى فِيهِ أَثَرًا وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ مِنْ الْمَنْعِ وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ رَوَاهُ النَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا {: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي فَادْعُ اللَّهَ لِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَشَفَّعُ بِك فِي رَدِّ بَصَرِي. اللَّهُمَّ شَفِّعْ نَبِيَّك فِيَّ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرَهُ.} فَلِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتَثْنَى الشَّيْخُ التَّوَسُّلَ بِهِ. وَلِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا التَّوَسُّلَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ: كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ بِنَبِيِّنَا إلَيْك فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ثُمَّ تَوَسَّلُوا بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَوَسُّلُهُمْ(1/105)
بِهِ هُوَ اسْتِسْقَاؤُهُمْ بِهِ بِحَيْثُ يَدْعُو وَيَدْعُونَ مَعَهُ فَيَكُونُ هُوَ وَسِيلَتَهُمْ إلَى اللَّهِ وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا فِي مَغِيبِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا شَافِعًا لَهُمْ دَاعِيًا لَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ. فَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَعَ لَهُ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُشَفِّعَهُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَسُّلَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا وَجْهَ لِتَكْفِيرِهِ فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَفِيَّةٌ لَيْسَتْ أَدِلَّتُهَا جَلِيَّةً ظَاهِرَةً وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَوْ بِإِنْكَارِ الْأَحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيمَا يُشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَمَا لَا يُشْرَعُ كَاخْتِلَافِهِمْ هَلْ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ نَفَى التَّوَسُّلَ الَّذِي سَمَّاهُ اسْتِغَاثَةً بِغَيْرِهِ كَفَرَ وَتَكْفِيرُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ وَأَمْثَالِهِ فَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى جَوَابٍ؛ بَلْ الْمُكَفِّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَسْتَحِقُّ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى الدِّينِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا} . وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إلَّا بِهِ فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ بَلْ لَوْ قَالَ كَمَا قَالَ أَبُو يَزِيدَ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ وَكَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ لَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ. فَإِنَّ مُطْلَقَ هَذَا الْكَلَامِ يُفْهِمُ الِاسْتِغَاثَةَ(1/106)
الْمُطْلَقَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} . وَإِذَا نَفَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ أَمْرًا كَانَ هُوَ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَمَنْ رَدَّ خَبَرَهُ تَعْظِيمًا لَهُ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الْمَسِيحَ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ تَعْظِيمًا لَهُ وَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْفِيَ مَا نَفَاهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَابِلَ نَفْيَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/107)
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (*)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ فِيمَنْ يَقُولُ: لَا يُسْتَغَاثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ وَهَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَنْفَعُهُ دَلِيلُهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّاسَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ (*) وَأَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُمْ. ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُنْكِرُوا شَفَاعَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ.
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 16 - 17) :
هذه الفتوى هي الفتوى التي اعترض عليها البكري الشافعي، فكتب عليها رداً، فرد عليه الشيخ رحمه الله (الاستغاثة) المعروف بـ (الرد على البكري) ، وقد ذُكرت هذه الفتوى في (تلخيص كتاب الاستغاثة) ص 211 - 216 وهنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه قد وقع هنا في نسخة الفتاوى بعض التصحيفات والفروق اليسيرة في عشرين موضعا تقريباً، إلا أنها لا تؤثر في المعنى وأكثرها من تصرف النساخ.
والأمر الثاني: أن الشيخ رحمه الله في الاستغاثة قد ترك قرابة الصفحة من هذه الفتوى حيث قال هناك ص 215 (1 / 420) : (قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو - وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه - وفيه: والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم. . .) .
فقد أشار في قوله (وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه) إلى شيئين:
أحدهما: أنه ترك بعض الفتوى، وهو الموجود في الفتاوى: 1 / 111 (من السطر الحادي عشر) إلى 112 (السطر السابع) .
والثاني: أنه قد تقدم ذكر هذه الفتوى في كتاب الاستغاثة، والتلخيص المطبوع لا ذكر لها فيها قبل هذا الموضع، فلعلها مما اختصره ابن كثير رحمه الله، والله أعلم.
والأمر الثالث: أن آخر خمسة أسطر من هذه الفتوى الموجودة هنا (1 / 113) لم يذكرها الشيخ في الاستغاثة، فلعله مما تقدم ذكره مما اختصره ابن كثير أيضاً والله تعالى أعلم.(1/108)
وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَسَوَاءٌ سَمَّى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِغَاثَةً أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ. وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِشَفَاعَتِهِ وَأَنْكَرَ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ؛ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ جَوَازُهُ فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ؛ وَفِي تَكْفِيرِهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ. وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ لَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ لَا تُطْلَبُ إلَّا مِنْهُ مِثْلَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بَلْ هَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ} وَقَالَ: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ(1/109)
وَالْأَرْضِ} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وَقَالَ: {إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فَالْمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: يَجِبُ إثْبَاتُهَا وَالْمَعَانِي الْمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إقْرَارُهَا. وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِنْ تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ. كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ {أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا لِنَسْتَغِيثَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} فَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَإِلَّا فَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا غِيَاثَ وَلَا مُغِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ كُلَّ(1/110)
غَوْثٍ فَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنْ كَانَ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ فَالْحَقِيقَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِغَيْرِهِ مَجَازٌ. قَالُوا: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُغِيثُ وَالْغِيَاثُ وَجَاءَ ذِكْرُ الْمُغِيثِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالُوا وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحليمي: الْغِيَاثُ هُوَ الْمُغِيثُ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ وَمَعْنَاهُ الْمُدْرِكُ عِبَادَهُ فِي الشَّدَائِدِ إذَا دَعَوْهُ وَمُجِيبُهُمْ وَمُخَلِّصُهُمْ وَفِي خَبَرِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: {اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا} يُقَالُ أَغَاثَهُ إغَاثَةً وَغِيَاثًا وَغَوْثًا وَهَذَا الِاسْمُ فِي مَعْنَى الْمُجِيبِ وَالْمُسْتَجِيبِ قَالَ تَعَالَى: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إلَّا أَنَّ الْإِغَاثَةَ أَحَقُّ بِالْأَفْعَالِ وَالِاسْتِجَابَةَ أَحَقُّ بِالْأَقْوَالِ وَقَدْ يَقَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْقِعَ الْآخَرِ. قَالُوا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَغِيثِ وَالدَّاعِي أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يُنَادِي بِالْغَوْثِ. وَالدَّاعِيَ يُنَادِي بِالْمَدْعُوِّ وَالْمُغِيثِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مِنْ صِيغَةِ الِاسْتِغَاثَةِ يَا لَلَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِي أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ وَا غَوْثَاهُ وَيَقُولَ إنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ {: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِك} . وَالِاسْتِغَاثَةُ بِرَحْمَتِهِ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِصِفَاتِهِ اسْتِعَاذَةٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَكَمَا أَنَّ الْقَسَمَ بِصِفَاتِهِ قَسَمٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَفِي الْحَدِيثِ: {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَفِيهِ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} .(1/111)
وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ فِيمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِقَوْلِهِ: {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ} قَالُوا: وَالِاسْتِعَاذَةُ لَا تَصْلُحُ بِالْمَخْلُوقِ. وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَفِي لَفْظٍ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: الْحَلِفُ " بِعِزَّةِ اللَّهِ " و " لَعَمْرُ اللَّهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِمَعْنَى أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِهِ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مُسْلِمٌ وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ إنْ أَنْكَرَ مَا يَكْفُرُ بِهِ وَإِمَّا مُخْطِئٌ ضَالٌّ. وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يَجِبُ نَفْيُهَا وَمَنْ أَثْبَتَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ البسطامي اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ الْمَشْهُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ. وَفِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِك الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك " وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَكَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ: صَحَّ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَوَّزَ مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَفَى مُطْلَقَ الِاسْتِغَاثَةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ.(1/112)
وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ أَيْضًا فِيهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَإِنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللَّهُ وَقَدْ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْصَارُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ هُوَ خَلْقُ مَا بِهِ يُغْلَبُ الْعَدُوُّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ. وَمَنْ خَالَفَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنَّهُ يَكُونُ إمَّا كَافِرًا وَإِمَّا فَاسِقًا وَإِمَّا عَاصِيًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَيُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَأَمَّا إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَخَالَفَهَا: فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِدُونِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/113)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
فَصْلٌ:
سَمَّى اللَّهُ آلِهَتَهُمْ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ شُفَعَاءَ كَمَا سَمَّاهَا شُرَكَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ فِي يُونُسَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} . وَجَمَعَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهَا تَعَلُّقٌ. الْأَوَّلُ: مِلْكُ شَيْءٍ وَلَوْ قَلَّ الثَّانِي: شِرْكُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ. فَلَا مِلْكَ وَلَا شَرِكَةَ وَلَا مُعَاوَنَةَ يَصِيرُ بِهَا نِدًّا. فَإِذَا انْتَفَتْ الثَّلَاثَةُ: بَقِيَتْ الشَّفَاعَةُ فَعَلَّقَهَا بِالْمَشِيئَةِ.(1/114)
وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ فِي اتِّخَاذِهِمْ قُرْبَانًا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وَقَالَ: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .(1/115)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
فِي الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . وقَوْله تَعَالَى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِكَثِيرِ مِنْهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذْ مَنَعُوا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ أَوْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ يَدْخُلُهَا وَلَمْ يَنْفُوا الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. وَأَيْضًا: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ: فِيهَا - اسْتِشْفَاعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِيُقْضَى بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهَذَا فِيهِ(1/116)
نَوْعُ شَفَاعَةٍ لِلْكُفَّارِ. وَأَيْضًا: فَفِي الصَّحِيحِ {عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْت {الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضِحْضَاحٍ.} وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ} . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لِشَفَاعَتِهِ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ بَلْ فِي أَنْ يُجْعَلَ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ} وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ يُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا} .(1/117)
وَهَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي يُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ تَأَوَّلَ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ. . . (1)
فَيُقَالُ: الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهِيَ أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ إلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ فَشَفَعَ؛ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ أَيْ تَابِعًا لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَتَكُونُ شَفَاعَتُهُ مَقْبُولَةً وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلْآمِرِ الْمَسْئُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إذَا كَانَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ دُونِهِ كَمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِإِذْنِهِ لَيْسَتْ مِنْ دُونِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض بالأصل(1/118)
شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} . {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَذَمَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إذْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتِلْكَ فَهِيَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ نَفَى يَوْمَئِذٍ الْخُلَّةَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْخُلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَنَفْعَهَا الْمَعْرُوفَ كَمَا يَنْفَعُ الصَّدِيقُ الصَّدِيقَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ خُلَّةٌ نَافِعَةٌ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} الْآيَاتُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ} وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي} . فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ عَائِدٌ إلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ وَلَا يَضُرُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَيَتَبَرَّأُ كُلُّ مُدَّعٍ مِنْ(1/119)
دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَبْقَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ إلَهِيَّتِهِ وَلَا مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبٌّ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعُونَ. وَفِي الدُّنْيَا يَشْفَعُ الشَّافِعُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَيَكُونُ خَلِيلَهُ فَيُعِينُهُ وَيَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْ الشَّرِّ فَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا، النُّفُوسُ يُنْتَفَعُ بِهَا تَارَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً بِالْإِعَانَةِ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَالْأَمْوَالُ بِالْفِدَاءِ فَنَفَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَقَالَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} كَمَا قَالَ: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} . فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَادَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ إلَى تَحْقِيقِ أَصْلَيْ الْإِيمَانِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.(1/120)
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَاظَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصِلَ إلَيْهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ تُبْلِغُنَا أَمْرَ اللَّهِ: فَهَذَا حَقٌّ. فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى: وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إلَّا بِالرُّسُلِ؛ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ اللَّهُ إلَى عِبَادِهِ. فَالْمُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ هُمْ الْمُهْتَدُونَ الَّذِينَ يُقَرِّبُهُمْ لَدَيْهِ زُلْفَى وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُكْرِمُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ: فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ ضَالُّونَ مَحْجُوبُونَ. قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ(1/121)
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْيَهُودِ؛ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْوَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَهُمْ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنْ اللَّهِ(1/122)
أَمْرَهُ وَخَبَرَهُ. قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وَمَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْوَسَائِطَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَالسُّوَرُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِمَكَّةَ مِثْلُ: الْأَنْعَامِ؛ وَالْأَعْرَافِ؛ وَذَوَاتِ: (الر) و (حم) و (طس) وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ هِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأُصُولِ الدِّينِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ؛ وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . وَقَالَ: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . فَهَذِهِ الْوَسَائِطُ: تُطَاعُ وَتُتَّبَعُ وَيُقْتَدَى بِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . وَإِنْ أَرَادَ بِالْوَاسِطَةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً فِي رِزْقِ الْعِبَادِ وَنَصْرِهِمْ وَهُدَاهُمْ؛ يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ وَيَرْجُونَ إلَيْهِ فِيهِ: فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ؛ حَيْثُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهُ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ؛ يَجْتَلِبُونَ بِهِمْ الْمَنَافِعَ وَيَجْتَنِبُونَ الْمَضَارَّ. لَكِنَّ الشَّفَاعَةَ لِمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا حَتَّى قَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ(1/123)
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ: فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ: لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلًا وَأَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ. فَمَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ غُفْرَانَ الذَّنْبِ وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ وَسَدَّ الفاقات: فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}(1/124)
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَقَالَ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ - مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ(1/125)
الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ يُبَلِّغُونَهُمْ؛ وَيُعَلِّمُونَهُمْ؛ وَيُؤَدِّبُونَهُمْ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ؛ فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَجْمَعُوا فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ إذْ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيْسَ بِمَعْصُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ وَيُتْرَكُ: إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ} . وَإِنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ - كَالْحُجَّابِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ - بِحَيْثُ يَكُونُونَ هُمْ يَرْفَعُونَ إلَى اللَّهِ حَوَائِجَ خَلْقِهِ؛ فَاَللَّهُ إنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقُهُمْ بِتَوَسُّطِهِمْ؛ فَالْخَلْقُ يَسْأَلُونَهُمْ وَهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ؛ كَمَا أَنَّ الْوَسَائِطَ عِنْدَ الْمُلُوكِ: يَسْأَلُونَ الْمُلُوكَ الْحَوَائِجَ لِلنَّاسِ؛ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُمْ؛ أَدَبًا مِنْهُمْ أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ الْمَلِكِ؛ أَوْ لِأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ الْوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ طَلَبِهِمْ مِنْ الْمَلِكِ؛ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمَلِكِ مِنْ الطَّالِبِ لِلْحَوَائِجِ. فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَؤُلَاءِ مُشَبِّهُونَ لِلَّهِ شَبَّهُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا. وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ: مَا لَمْ تَتَّسِعْ لَهُ هَذِهِ الْفَتْوَى. فَإِنَّ الْوَسَائِطَ الَّتِي بَيْنَ الْمُلُوكِ وَبَيْنَ النَّاسِ: يَكُونُونَ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: - إمَّا لِإِخْبَارِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِمَا لَا يَعْرِفُونَهُ.(1/126)
وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَ عِبَادِهِ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِتِلْكَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءُ أَوْ غَيْرُهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ. وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ عَاجِزًا عَنْ تَدْبِيرِ رَعِيَّتِهِ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِ - إلَّا بِأَعْوَانِ يُعِينُونَهُ - فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْصَارٍ وَأَعْوَانٍ لِذُلِّهِ وَعَجْزِهِ. وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَيْسَ لَهُ ظَهِيرٌ وَلَا وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ. قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} . وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَسْبَابِ: فَهُوَ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الْمُلُوكِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى ظهرائهم وَهُمْ - فِي الْحَقِيقَةِ - شُرَكَاؤُهُمْ فِي الْمُلْكِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ بَلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ لَيْسَ مُرِيدًا لِنَفْعِ رَعِيَّتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِمْ: إلَّا بِمُحَرِّكِ يُحَرِّكُهُ مِنْ خَارِجٍ. فَإِذَا خَاطَبَ الْمَلِكُ مَنْ يَنْصَحُهُ وَيُعَظِّمُهُ أَوْ مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ: تَحَرَّكَتْ إرَادَةُ الْمَلِكِ(1/127)
وَهِمَّتُهُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ رَعِيَّتِهِ إمَّا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاصِحِ الْوَاعِظِ الْمُشِيرِ وَإِمَّا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الرَّغْبَةِ أَوْ الرَّهْبَةِ مِنْ كَلَامِ الْمُدِلِّ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ إذَا أَجْرَى نَفْعَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: فَجَعَلَ هَذَا يُحْسِنُ إلَى هَذَا وَيَدْعُو لَهُ وَيُشَفَّعُ فِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي قَلْبِ هَذَا الْمُحْسِنِ الدَّاعِي الشَّافِعِ إرَادَةَ الْإِحْسَانِ وَالدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يُكْرِهُهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ أَوْ يُعَلِّمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَوْ مَنْ يَرْجُوهُ الرَّبُّ وَيَخَافُهُ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت؛ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ} . وَالشُّفَعَاءُ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ: لَا يَشْفَعُونَ إلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ وَلَا شِرْكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا هُوَ ظَهِيرٌ. وَأَنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الشَّافِعَ عِنْدَهُمْ قَدْ يَكُونُ لَهُ مُلْكٌ وَقَدْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمُلْكِ وَقَدْ يَكُونُ مُظَاهِرًا لَهُمْ مُعَاوِنًا لَهُمْ عَلَى مُلْكِهِمْ وَهَؤُلَاءِ(1/128)
يُشَفَّعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ وَالْمَلِكُ يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُمْ: تَارَةً بِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَتَارَةً لِخَوْفِهِ مِنْهُمْ وَتَارَةً لِجَزَاءِ إحْسَانِهِمْ إلَيْهِ وَمُكَافَأَتِهِمْ وَلِإِنْعَامِهِمْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الزَّوْجَةِ وَإِلَى الْوَلَدِ؛ حَتَّى لَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَدُهُ وَزَوْجَتُهُ لَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ وَيَقْبَلُ شَفَاعَةَ مَمْلُوكِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ؛ يَخَافُ أَنْ لَا يُطِيعُهُ أَوْ أَنْ يَسْعَى فِي ضَرَرِهِ. وَشَفَاعَةُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عِنْدَ بَعْضٍ: كُلُّهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. فَلَا يَقْبَلُ أَحَدٌ شَفَاعَةَ أَحَدٍ إلَّا لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى: لَا يَرْجُو أَحَدًا وَلَا يَخَافُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وَالْمُشْرِكُونَ: يَتَّخِذُونَ شُفَعَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْهَدُونَهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا ": {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ(1/129)
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} .
فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ لَا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرٍّ وَلَا تَحْوِيلَهُ وَأَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ. فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ نَفَى مَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ؛ إلَّا مِنْ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ وَالشَّفَاعَةُ هِيَ الدُّعَاءُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ دُعَاءَ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ نَافِعٌ وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ لَكِنَّ الدَّاعِيَ الشَّافِعَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ وَيَشْفَعَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَشْفَعُ شَفَاعَةً نُهِيَ عَنْهَا؛ كَالشَّفَاعَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} - فِي الدُّعَاءِ - وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ: أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ مَا لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ لِيَفْعَلَهُ. مِثْلُ: أَنْ يَسْأَلَهُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَوْ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَوْ يَسْأَلَهُ مَا فِيهِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ كَإِعَانَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.(1/130)
فَالشَّفِيعُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عُدْوَانٌ. وَلَوْ سَأَلَ أَحَدُهُمْ دُعَاءً لَا يَصْلُحُ لَهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ نُوحٌ: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} قَالَ تَعَالَى: {يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَكُلُّ دَاعٍ شَافِعٍ دَعَا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَشُفِّعَ: فَلَا يَكُونُ دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الدُّعَاءَ وَيَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ، وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِمْ - مَا شَاءَ. وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ أَنْ يَدْعُوَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَالْأَدْنَى لِلْأَعْلَى: فَطَلَبُ الشَّفَاعَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَشْفِعُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ اسْتَسْقَى عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ وَالنَّاسُ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ(1/131)
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ وَلَهُ شَفَاعَاتٌ يَخْتَصُّ بِهَا - وَمَعَ هَذَا - فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَدْ {قَالَ لِعُمَرِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ وَوَدَّعَهُ: يَا أَخِي لَا تَنْسَنِي مِنْ دُعَائِك} . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ طَلَبَ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ سُؤَالِهِمْ، بَلْ أَمْرُهُ بِذَلِكَ لَهُمْ كَأَمْرِهِ لَهُمْ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُثَابُونَ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْمَلُونَهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا} وَهُوَ دَاعِي الْأُمَّةِ إلَى كُلِّ هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ فِي كُلِّ مَا اتَّبَعُوهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّوْا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ عَشْرًا وَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مَعَ مَا يَسْتَجِيبُهُ مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ فَذَلِكَ الدُّعَاءُ قَدْ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ أَجْرَهُمْ عَلَيْهِ وَصَارَ مَا حَصَلَ لَهُ بِهِ مِنْ النَّفْعِ نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ} وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: {أَسْرَعُ الدُّعَاءِ دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبِ} .(1/132)
فَالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دُونَ الْمَدْعُوِّ لَهُ فَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ. فَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُدْعُ لِي وَقَصَدَ انْتِفَاعَهُمَا جَمِيعًا بِذَلِكَ كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهُوَ نَبَّهَ الْمَسْئُولَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يَنْفَعُهُمَا، وَالْمَسْئُولُ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبِرِّ وَتَقْوَى؛ فَيُثَابُ الْمَأْمُورُ عَلَى فِعْلِهِ وَالْآمِرُ أَيْضًا يُثَابُ مِثْلَ ثَوَابِهِ؛ لِكَوْنِهِ دَعَا إلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَمِنْ الْأَدْعِيَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَبْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . فَذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - اسْتِغْفَارَهُمْ وَاسْتِغْفَارَ الرَّسُولِ لَهُمْ إذْ ذَاكَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ الرَّسُولُ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ بِهِ بَلْ مَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَبْدَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ فَفِعْلُهُ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ وَصَلَاحٌ لِفَاعِلِهِ وَحَسَنَةٌ فِيهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ لِإِحْسَانِ اللَّهِ إلَيْهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ.
بَلْ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ أَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَالْحَسَنَاتِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ عَمَلًا لِلْخَيْرِ. ازْدَادَ إيمَانُهُ. هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْحَقِيقِيُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . بَلْ نِعَمُ الدُّنْيَا بِدُونِ الدِّينِ هَلْ هِيَ مِنْ نِعَمِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.(1/133)
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً تَامَّةً مِنْ وَجْهٍ وَأَمَّا الْإِنْعَامُ بِالدِّينِ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ فَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ فَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يَنْبَغِي طَلَبُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ النِّعْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ. وَالْقَدَرِيَّةُ عِنْدَهُمْ إنَّمَا أَنْعَمَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ فَقَطْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ؟ بَلْ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدَ مَالَهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ أَوْ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مِنْ نَفْسِهِ أَتَى وَمِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ قَطُّ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ إذْ هَذَا سُؤَالٌ مَحْضٌ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لِنَفْعِهِ وَلَا لِمَصْلَحَتِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَرْغَبَ إلَيْهِ، وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحْسِنَ إلَى عِبَادِهِ وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلَمْ يَقْصِدْ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ. وَلَا قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَأْثَمُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ؛ لَكِنْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: أَنَّهُمْ لَا يسترقون. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِرْقَاءُ جَائِزًا. وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ كَالْوَسَائِطِ الَّتِي(1/134)
تَكُونُ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالرَّعِيَّةِ فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ بَلْ هَذَا دِينُ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهَا تَمَاثِيلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنَّهَا وَسَائِلُ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ وَهُوَ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ عَلَى النَّصَارَى حَيْثُ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَيْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذَا دَعَوْتُهُمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلْيُؤْمِنُوا بِي أَنْ أُجِيبَ دُعَاءَهُمْ لِي بِالْمَسْأَلَةِ وَالتَّضَرُّعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} . {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ هَذَا التَّوْحِيدَ فِي كِتَابِهِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْإِشْرَاكِ بِهِ حَتَّى لَا يَخَافَ أَحَدٌ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يَرْجُوَ سِوَاهُ وَلَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ(1/135)
وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمَّا الْخَشْيَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ هَذَا التَّوْحِيدَ لِأُمَّتِهِ وَيَحْسِمُ عَنْهُمْ مَوَادَّ الشِّرْكِ؛ إذْ هَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ؛ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ؛ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} {وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت. فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} وَقَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ؛ فَلَوْ جَهَدَتْ الْخَلِيقَةُ عَلَى أَنْ تَنْفَعَك لَمْ تَنْفَعْك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوْ جَهَدَتْ أَنْ تَضُرَّك لَمْ تَضُرَّك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك} وَقَالَ أَيْضًا: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} وَقَالَ فِي مَرَضِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ(1/136)
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَمَعَ عِلْمِ الْمُؤْمِنِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ: فَإِنَّهُ لَا يُنْكِرُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كَمَا جَعَلَ الْمَطَرَ سَبَبًا لِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} وَكَمَا جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سَبَبًا لِمَا يَخْلُقُهُ بِهِمَا وَكَمَا جَعَلَ الشَّفَاعَةَ وَالدُّعَاءَ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ بِذَلِكَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِنَازَةِ الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَمَعَ هَذَا فَلَهَا مَوَانِعُ. فَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَدْفَعْ الْمَوَانِعَ: لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَا شَاءَ كَانَ - وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ - وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَا يَكُونُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّيْءَ سَبَبٌ إلَّا بِعِلْمِ فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا سَبَبًا بِلَا عِلْمٍ أَوْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ: كَانَ مُبْطِلًا مِثْلَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {: أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ} . الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الدِّينِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ سَبَبًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ فَيَدْعُوَ غَيْرَهُ - وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ بَعْضِ أَغْرَاضِهِ -(1/137)
وَكَذَلِكَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرِيعَةِ - وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ - فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى بَعْضِ مَقَاصِدِهِ إذَا أَشْرَكَ وَقَدْ يَحْصُلُ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بَعْضُ أَغْرَاضِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إذْ الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِ إذْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ وَمَا نَهَى عَنْهُ: فَمَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ وَهَذِهِ الْجُمَلُ: لَهَا بَسْطٌ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/138)
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
قَالَ السَّائِلُ: إنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْوَسِيلَةُ وَالْوَاسِطَةُ.
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدِ وَطَاعَتَهُ وَالصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ وَسِيلَةٌ لِلْعَبْدِ فِي قَبُولِ دُعَائِهِ وَثَوَابِ دُعَائِهِ فَهُوَ صَادِقٌ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُجِيبُ دُعَاءَ أَحَدٍ حَتَّى يَرْفَعَهُ إلَى مَخْلُوقٍ أَوْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ أَنَّ أَنْفُسَ الْأَنْبِيَاءِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبِدُونِ شَفَاعَتِهِمْ وَسِيلَةٌ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ: فَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/139)
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
هَلْ يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ .
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ. فَهُوَ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْك بِهِ. فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ: كَمَا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِ قَوْلَانِ: وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ كَمَالِكِ؛ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ: عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسِكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ للمروذي صَاحِبِهِ: إنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ؛ وَلَكِنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قَالَ: إنَّ هَذَا إقْسَامٌ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ جَوَّزَ الْقَسَمَ بِهِ فَلِذَلِكَ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ. وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ: هِيَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهِ؛(1/140)
فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِهِ كَسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ قَالَ إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ؛ كَمَا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِمْ مُطْلَقًا؛ وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنْ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِي الْإِقْسَامِ بِهِ فَقَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ خَاصًّا بِهِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْسَامِ بِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ} وَقَالَ: {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/141)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا. أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ رَبَّهُ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ. فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَيَتَّبِعَهُ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَمُتَابَعَتُهُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ،(1/142)
وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَهُوَ طَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدِ وَاتِّبَاعِهِ. وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ لَا يُسْقِطُ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا بِعُذْرِ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَلَا طَرِيقَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ هَوَانِهِ وَعَذَابِهِ إلَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفِيعُ الْخَلَائِقِ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فَهُوَ أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ عَنْ الْمَسِيحِ {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ جَاهًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لَكِنْ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ وَدَعَا لَهُ فَمَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ لَهُ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَلَفْظُ (التَّوَسُّلِ) فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَعْلِمُونَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَنْفَعُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَأَمَّا بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِي الْآخِرَةِ.(1/143)
وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ وَأَبِيهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُفَّارِ وَنُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُنَافِقِينَ وَقِيلَ لَهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} . فَإِذَا كَانَ فِي الْكُفَّارِ مَنْ خَفَّ كُفْرُهُ بِسَبَبِ نُصْرَتِهِ وَمَعُونَتِهِ فَإِنَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ لَا فِي إسْقَاطِ الْعَذَابِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ {الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَفِي لَفْظٍ {: إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُك وَيَغْضَبُ لَك فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْته إلَى ضِحْضَاحٍ} وَفِيهِ {عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَقَالَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} . وَكَذَلِكَ يَنْفَعُ دُعَاؤُهُ لَهُمْ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ عَلَيْهِمْ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَقُولُ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". وَرُوِيَ أَنَّهُ دَعَا بِذَلِكَ أَنْ اغْفِرْ لَهُمْ فَلَا تُعَجِّلْ عَلَيْهِمْ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .(1/144)
وَأَيْضًا فَقَدْ يَدْعُو لِبَعْضِ الْكُفَّارِ بِأَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ أَوْ يَرْزُقَهُ فَيَهْدِيَهُ أَوْ يَرْزُقَهُ كَمَا دَعَا لِأُمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى هَدَاهَا اللَّهُ وَكَمَا دَعَا لِدَوْسِ فَقَالَ {اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ} فَهَدَاهُمْ اللَّهُ وَكَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ اسْتَسْقَى لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُ إلَيْهِمْ يَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ كَمَا كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ لَا جَاهَ لِمَخْلُوقِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِهِ وَلَا شَفَاعَةَ أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَتِهِ. لَكِنَّ دُعَاءَ الْأَنْبِيَاءِ وَشَفَاعَتَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ وَطَاعَتَهُمْ يُوجِبُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ مُطْلَقًا وَعَامًّا فَكُلُّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَطْعًا.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ وَالدُّعَاءُ فَانْتِفَاعُ الْعِبَادِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى شُرُوطٍ وَلَهُ مَوَانِعُ فَالشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ بِالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَعَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ لَا تَنْفَعُهُمْ - وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَعْظَمَ الشُّفَعَاءِ جَاهًا - فَلَا شَفِيعَ أَعْظَمُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ وَقَدْ دَعَا الْخَلِيلُ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِي طَالِبٍ اقْتِدَاءً بِإِبْرَاهِيمَ وَأَرَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِبَعْضِ أَقَارِبِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .(1/145)
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ عُذْرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك. فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ أَنْتَ وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنِّي حَرَّمْت الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: اُنْظُرْ مَا تَحْتَ رِجْلَيْك فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخِ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ} فَهَذَا لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا لَمْ يَنْفَعْهُ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ مَعَ عِظَمِ جَاهِهِ وَقَدْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتَأَسَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ إلَّا فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَكَذَلِكَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي} . وَفِي رِوَايَةٍ {أَنَّ النَّبِيَّ(1/146)
زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ} وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ} . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَك مِنْ النَّارِ. فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا} وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا صَفِيَّةُ - عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْت لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا.} {وَعَنْ عَائِشَةَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ} .
وَعَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا(1/147)
قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَزَادَ مُسْلِمٌ {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ أَبَلَغْتُك} . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةِ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت. وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِبَعِيرِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك شَيْئًا قَدْ بَلَّغْت} . وَقَوْلُهُ هُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} .
وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَفَاعَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ يُنْكِرُهَا. وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا(1/148)
لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا ثَمَّ إلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ يُخْرِجُهُمْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْرِجُ آخَرِينَ بِشَفَاعَةِ غَيْرِهِ وَيُخْرِجُ قَوْمًا بِلَا شَفَاعَةٍ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَبِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَبِقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وَبِقَوْلِهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِهِمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فَهَؤُلَاءِ نُفِيَ عَنْهُمْ نَفْعُ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ لِلْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقَدْرِ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا يَشْفَعُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ فَيَقْبَلُ(1/149)
الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَكَمَا يُعَامِلُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ بِالْمُعَاوَضَةِ. فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَوِّرُونَ تَمَاثِيلَهُمْ فَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ خَوَاصُّ اللَّهِ فَنَحْنُ نَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا كَمَا يُتَوَسَّلُ إلَى الْمُلُوكِ بِخَوَّاصِهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمُلُوكِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَشْفَعُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ وَقَدْ يَشْفَعُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ فِيمَا لَا يَخْتَارُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى إجَابَةِ شَفَاعَتِهِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً. فَأَنْكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وَقَالَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}(1/150)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا} {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَقَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ حَتَّى صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَقَالُوا: اسْتِشْفَاعُنَا بِتَمَاثِيلِهِمْ اسْتِشْفَاعٌ بِهِمْ وَكَذَلِكَ قَصَدُوا قُبُورَهُمْ وَقَالُوا: نَحْنُ نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ أَبْطَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا وَكَفَّرَهُمْ بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ كَانُوا فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ(1/151)
وَغَيْرِهَا كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ أَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَمَ مَادَّتَهَا وَسَدَّ ذَرِيعَتَهَا حَتَّى لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلَّى فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهَا لَا يَسْتَشْفِعُ بِهِمْ وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ وَأَرْسَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّاهُ وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسَهُ وَمَحَاهُ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ. وَعَنْ {أَبِي الهياج الأسدي: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَأَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَفِي لَفْظٍ: وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا} . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.(1/152)
فَصْلٌ وَلَفْظُ التَّوَسُّلِ قَدْ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.
يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: أَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ يَتَوَسَّلُ بِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشُفِّعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا. وَلَكِنَّ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ لَكِنَّ هَذَا أَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ عَنْ جَهْلٍ عُرِّفَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ. أَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ لَهُ شَفَاعَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَأَنَّهُ يُشَفَّعُ فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُؤْمِنُونَ؛ دُونَ أَهْلِ(1/153)
الشِّرْكِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظِّمًا لَهُ لَمْ تُنْقِذْهُ شَفَاعَتُهُ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ مِنْ النَّارِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ يُحِبُّونَهُ وَلَمْ يُقِرُّوا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ وَلَا بِغَيْرِهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ} . وَعَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت الشَّفَاعَةَ وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا} وَفِي لَفْظٍ قَالَ {وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ فِي شَفَاعَتِي} . وَهَذَا الْأَصْلُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين دِينًا غَيْرَهُ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلٍّ مِنْ الرُّسُلِ أَنَّهُ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِأَنْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ}(1/154)
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ}
وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِشِرْكِهِمْ وَاسْتَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَوْجَبَ لَهُمْ النَّارَ - كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وَقَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى مُقِرِّينَ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1/155)
وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فَقَالَ: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} يَخَافُ أَحَدُكُمْ مَمْلُوكَهُ كَمَا يَخَافُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ؟ . وَهَذَا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: لَهُ بَنَاتٌ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ(1/156)
أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالشِّرْكِ أَصْلُهُمْ صِنْفَانِ: قَوْمُ نُوحٍ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ: فَقَوْمُ نُوحٍ كَانَ أَصْلُ شِرْكِهِمْ الْعُكُوفَ عَلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ كَانَ أَصْلُ شِرْكِهِمْ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُخَاطِبُهُمْ وَتُعِينُهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ وَقَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَإِنَّ الْجِنَّ هُمْ الَّذِينَ يُعِينُونَهُمْ وَيَرْضَوْنَ بِشِرْكِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُعِينُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ لَا فِي الْمَحْيَا وَلَا فِي الْمَمَاتِ وَلَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ تُعِينُهُمْ وَتَتَصَوَّرُ لَهُمْ فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ فَيَرَوْنَهُمْ بِأَعْيُنِهِمْ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا إبْرَاهِيمُ أَنَا الْمَسِيحُ أَنَا مُحَمَّدٌ أَنَا الْخَضِرُ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَنَا عُمَرُ أَنَا عُثْمَانُ أَنَا عَلِيٌّ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ: هَذَا هُوَ النَّبِيُّ فُلَانٌ أَوْ هَذَا هُوَ الْخَضِرُ وَيَكُونُ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ جِنًّا يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ. وَالْجِنُّ كَالْإِنْسِ فَمِنْهُمْ الْكَافِرُ وَمِنْهُمْ الْفَاسِقُ وَمِنْهُمْ الْعَاصِي وَفِيهِمْ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُحِبُّ شَيْخًا فَيَتَزَيَّا فِي صُورَتِهِ وَيَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي بَرِّيَّةٍ وَمَكَانٍ قَفْرٍ فَيُطْعِمُ ذَلِكَ الشَّخْصَ طَعَامًا وَيَسْقِيهِ شَرَابًا أَوْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ يُخْبِرُهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الْغَائِبَةِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ(1/157)
الرَّجُلُ أَنَّ نَفْسَ الشَّيْخِ الْمَيِّتِ أَوْ الْحَيِّ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَقُولُ: هَذَا سِرُّ الشَّيْخِ وَهَذِهِ رَقِيقَتُهُ وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ أَوْ هَذَا مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ جِنِّيًّا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعِينُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِفْكِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ أَيْ نَطْلُبُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا فَإِذَا أَتَيْنَا قَبْرَ أَحَدِهِمْ طَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَنَا فَإِذَا صَوَّرْنَا تِمْثَالَهُ - وَالتَّمَاثِيلُ إمَّا مُجَسَّدَةٌ وَإِمَّا تَمَاثِيلُ مُصَوَّرَةٌ كَمَا يُصَوِّرُهَا النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ - قَالُوا: فَمَقْصُودُنَا بِهَذِهِ التَّمَاثِيلِ تَذَكُّرُ أَصْحَابِهَا وَسِيَرِهِمْ وَنَحْنُ نُخَاطِبُ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ وَمَقْصُودُنَا خِطَابُ أَصْحَابِهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ. فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا سَيِّدِي جرجس أَوْ بِطَرْسِ أَوْ يَا سِتِّي الْحَنُونَةُ مَرْيَمُ أَوْ يَا سَيِّدِي الْخَلِيلُ أَوْ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ اشْفَعْ لِي إلَى رَبِّك. وَقَدْ يُخَاطِبُونَ الْمَيِّتَ عِنْدَ قَبْرِهِ: سَلْ لِي رَبَّك. أَوْ يُخَاطِبُونَ الْحَيَّ وَهُوَ غَائِبٌ كَمَا يُخَاطِبُونَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا حَيًّا وَيُنْشِدُونَ قَصَائِدَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فِيهَا: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسَبِك أَنَا فِي جِوَارِك اشْفَعْ لِي إلَى اللَّهِ سَلْ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا(1/158)
عَلَى عَدُوِّنَا سَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذِهِ الشِّدَّةَ أَشْكُو إلَيْك كَذَا وَكَذَا فَسَلْ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ هَذِهِ الْكُرْبَةَ. أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: سَلْ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وَيَقُولُونَ: إذَا طَلَبْنَا مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ كُنَّا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُخَالِفُونَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَلَا سَأَلَهُ شَيْئًا وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَحَكَوْا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِمْ وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَفِي مَغِيبِهِمْ وَسُؤَالَهُمْ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِمْ وَالِاسْتِشْفَاعَ بِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَنَصْبَ تَمَاثِيلِهِمْ - بِمَعْنَى طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ - هُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولًا وَلَا أَنْزَلَ بِهِ كِتَابًا وَلَيْسَ هُوَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَمَرَ بِهِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ(1/159)
مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَيَذْكُرُونَ فِيهِ حِكَايَاتٍ وَمَنَامَاتٍ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَفِيهِمْ مَنْ يَنْظِمُ الْقَصَائِدَ فِي دُعَاءِ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ أَوْ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَدِيحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ تَعَبَّدَ بِعِبَادَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً؛ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً سَيِّئَةً لَا بِدْعَةً حَسَنَةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَذْكُرُونَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الشِّرْكِ مَنَافِعَ وَمَصَالِحَ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِحُجَجِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ أَوْ الذَّوْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ وَالْمَنَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاحْتِجَاجُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي الْقِيَاسُ وَالذَّوْقُ وَالِاعْتِبَارُ بِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا يُظَنُّ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالتَّوَاتُرِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. وَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ شَرَعُوا لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَلَا يَسْتَشْفِعُوا بِهِمْ لَا بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَلَا فِي مَغِيبِهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ اشْفَعُوا لِي عِنْدَ اللَّهِ سَلُوا اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا أَوْ يَرْزُقَنَا أَوْ يَهْدِيَنَا.(1/160)
وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ لِمَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي اسْتَغْفِرْ اللَّهَ لِي سَلْ اللَّهَ لِي أَنْ يَغْفِرَ لِي أَوْ يَهْدِيَنِي أَوْ يَنْصُرَنِي أَوْ يُعَافِيَنِي وَلَا يَقُولُ: أَشْكُو إلَيْك ذُنُوبِي أَوْ نَقْصَ رِزْقِي أَوْ تَسَلُّطَ الْعَدُوِّ عَلَيَّ أَوْ أَشْكُو إلَيْك فُلَانًا الَّذِي ظَلَمَنِي وَلَا يَقُولُ: أَنَا نَزِيلُك أَنَا ضَيْفُك أَنَا جَارُك أَوْ أَنْتَ تُجِيرُ مَنْ يَسْتَجِيرُ أَوْ أَنْتَ خَيْرُ مُعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ. وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ وَرَقَةً وَيُعَلِّقُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ وَلَا يَكْتُبُ أَحَدٌ مَحْضَرًا أَنَّهُ اسْتَجَارَ بِفُلَانِ وَيَذْهَبُ بِالْمَحْضَرِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ بِذَلِكَ الْمَحْضَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ وَكَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ فِي مَغِيبِهِمْ فَهَذَا مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا لِأُمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ لَمْ يَشْرَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ نَقْلٌ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلٌ بِذَلِكَ وَلَا فَعَلَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَا غَيْرِهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لِأُمَّتِهِ أَوْ يَشْكُوَ إلَيْهِ مَا نَزَلَ بِأُمَّتِهِ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُبْتَلَوْنَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْبَلَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَارَةً بِالْجَدْبِ وَتَارَةً بِنَقْصِ الرِّزْقِ وَتَارَةً بِالْخَوْفِ وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ وَتَارَةً بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي(1/161)
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَبْرِ الْخَلِيلِ وَلَا قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقُولُ: نَشْكُو إلَيْك جَدْبَ الزَّمَانِ أَوْ قُوَّةَ الْعَدُوِّ أَوْ كَثْرَةَ الذُّنُوبِ وَلَا يَقُولُ: سَلْ اللَّهَ لَنَا أَوْ لِأُمَّتِك أَنْ يَرْزُقَهُمْ أَوْ يَنْصُرَهُمْ أَوْ يَغْفِرَ لَهُمْ؛ بَلْ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكُلُّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهِيَ بِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ وَهِيَ ضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْبِدَعِ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ وَلَا وَاجِبٍ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ.
وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ فَهُوَ ضَالٌّ مُتَّبِعٌ لِلشَّيْطَانِ وَسَبِيلُهُ مِنْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ كَمَا {قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} } . فَهَذَا أَصْلٌ جَامِعٌ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَلَا يُخَالِفَ السُّنَّةَ الْمَعْلُومَةَ وَسَبِيلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ بِاتِّبَاعِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ لَا سِيَّمَا وَلَيْسَ مَعَهُ فِي بِدْعَتِهِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مُجْتَهِدٌ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الدِّينِ وَلَا مَنْ(1/162)
يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ فَلَا يَنْخَرِمُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَازَعَ فِي ذَلِكَ عَالِمٌ مُجْتَهِدٌ لَكَانَ مَخْصُومًا بِمَا عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَبِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُنَازِعُ لَيْسَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا اتَّبَعَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَيُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. بَلْ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا فَلَيْسَ هُوَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ وَحَرَّمَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ كَمَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَاِتِّخَاذُ الْمَكَانِ مَسْجِدًا هُوَ أَنْ يُتَّخَذَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِذَلِكَ وَالْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ مَسْجِدًا إنَّمَا يُقْصَدُ فِيهِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ لَا دُعَاءُ الْمَخْلُوقِينَ. فَحَرَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدَ بِقَصْدِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا كَمَا تُقْصَدُ الْمَسَاجِدُ وَإِنْ كَانَ الْقَاصِدُ لِذَلِكَ إنَّمَا يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ(1/163)
ذَرِيعَةٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدُوا الْمَسْجِدَ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْقَبْرِ وَدُعَائِهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَكَانِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى الشِّرْكِ بِاَللَّهِ. وَالْفِعْلُ إذَا كَانَ يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ يُنْهَى عَنْهُ؛ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ: وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ. وَلَيْسَ فِي قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لِإِمْكَانِ التَّطَوُّعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فَسَوَّغَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَيَفُوتُ إذَا لَمْ يُفْعَلْ فِيهَا فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهَا فَأُبِيحَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؛ بِخِلَافِ مَا لَا سَبَبَ لَهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا تَفُوتُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَدُعَائِهَا وَسُؤَالِهَا - كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ دَعْوَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَهَا وَيَسْأَلُونَهَا - كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ دَعْوَةَ الشَّمْسِ وَالسُّجُودَ لَهَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى دُعَاءِ الْكَوَاكِبِ. كَذَلِكَ لِمَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ - فَنَهَى عَنْ(1/164)
قَصْدِهَا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى دُعَائِهِمْ وَالسُّجُودِ لَهُمْ - كَانَ دُعَاؤُهُمْ وَالسُّجُودُ لَهُمْ أَعْظَمَ تَحْرِيمًا مِنْ اتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ.
وَلِهَذَا كَانَتْ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ. فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الزَّائِرِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ؛ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ الدُّعَاءُ لَهُ. فَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَنَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْكُفْرُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ هَذَا النَّهْيِ عِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالنَّهْيِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ لَمْ يُخَصُّوا بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُعَلَّلْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِيَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَشَرَعَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ وَكَانَ إذَا دُفِنَ الرَّجُلُ مَنْ أُمَّتِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ {سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَكَانَ يَزُورُ قُبُورَ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَالشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ} وَفِي صَحِيحِ(1/165)
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ} وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ. فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لِقُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ. وَهَذِهِ غَيْرُ الزِّيَارَةِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَجُوزُ فِي قُبُورِ الْكُفَّارِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ثُمَّ قَالَ اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ} فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الَّتِي تَنْفَعُ فِي تَذْكِيرِ الْمَوْتِ تُشْرَعُ وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُورُ كَافِرًا بِخِلَافِ الزِّيَارَةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فَتِلْكَ لَا تُشْرَعُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْمَيِّتِ الْحَوَائِجُ أَوْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ أَوْ يُقْصَدُ الدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ لِظَنِّ الْقَاصِدِ أَنَّ ذَلِكَ أجوب لِلدُّعَاءِ. فَالزِّيَارَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَشْرَعْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ لَا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ.
وَلَوْ قَصَدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ دُعَاءَهُمْ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ أَنْ يَتَّخِذَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ لَكَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَكَانَ صَاحِبُهُ مُتَعَرِّضًا لِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} وَقَالَ {قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. وَقَالَ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا(1/166)
يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . فَإِذَا كَانَ هَذَا مُحَرَّمًا وَهُوَ سَبَبٌ لِسَخَطِ الرَّبِّ وَلَعْنَتِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْصِدُ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءَ عِنْدَهُ وَبِهِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَنَيْلِ الطَّلَبَاتِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ؟ وَهَذَا كَانَ أَوَّلَ أَسْبَابِ الشِّرْكِ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي النَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الشِّرْكُ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ قُبُورِ صَالِحِيهِمْ. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْأَوْثَانُ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَقَدْ أَحْدَثَ قَوْمٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ لِلشِّرْكِ شَيْئًا آخَرَ ذَكَرُوهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ كَصَاحِبِ الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عَلَى أَصْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَا أَنَّهُ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ. فَشَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَى أَصْلِهِمْ لَيْسَتْ كَمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَنَّهَا دُعَاءٌ يَدْعُو بِهِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَهُ؛ كَمَا أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ بِاسْتِسْقَائِهِمْ لَيْسَ سَبَبُهُ عِنْدَهُمْ إجَابَةَ دُعَائِهِمْ. بَلْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حَوَادِثِ الْعَالَمِ هُوَ قُوَى النَّفْسِ أَوْ الْحَرَكَاتُ(1/167)
الْفَلَكِيَّةُ أَوْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحَبَّ رَجُلًا صَالِحًا قَدْ مَاتَ لَا سِيَّمَا إنْ زَارَ قَبْرَهُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ اتِّصَالٌ بِرُوحِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ فِيمَا يَفِيضُ عَلَى تِلْكَ الرُّوحِ الْمُفَارِقَةِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَهُمْ أَوْ النَّفْسِ الْفَلَكِيَّةِ يَفِيضُ عَلَى هَذِهِ الرُّوحِ الزَّائِرَةِ الْمُسْتَشْفِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ - بَلْ وَقَدْ لَا تَعْلَمُ الرُّوحُ الْمُسْتَشْفَعُ بِهَا بِذَلِكَ - وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِالشَّمْسِ إذَا قَابَلَهَا مِرْآةٌ فَإِنَّهُ يَفِيضُ عَلَى الْمِرْآةِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ ثُمَّ إذَا قَابَلَ الْمِرْآةَ مِرْآةٌ أُخْرَى فَاضَ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْمِرْآةِ وَإِنْ قَابَلَ تِلْكَ الْمِرْآةَ حَائِطٌ أَوْ مَاءٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ شُعَاعِ تِلْكَ الْمِرْآةِ فَهَكَذَا الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُمْ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْتَفِعُ الزَّائِرُ عِنْدَهُمْ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَوْثَانَ يَحْصُلُ عِنْدَهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَخِطَابِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ وَجَعْلِ الْقُبُورِ أَوْثَانًا هُوَ أَوَّلُ الشِّرْكِ وَلِهَذَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْقُبُورِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ خِطَابٍ يَسْمَعُهُ وَشَخْصٍ يَرَاهُ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَيِّتِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ مِثْلَ أَنْ يَرَى الْقَبْرَ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ الْمَيِّتُ وَكَلَّمَهُ وَعَانَقَهُ وَهَذَا يُرَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَصَوَّرُ بِصُوَرِ الْإِنْسِ وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ فُلَانٌ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ وَيَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْوَقَائِعِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ ذِكْرِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَالْجَاهِلُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْقَبْرِ وَعَانَقَهُ أَوْ كَلَّمَهُ هُوَ الْمَقْبُورُ أَوْ النَّبِيُّ أَوْ الصَّالِحُ وَغَيْرُهُمَا وَالْمُؤْمِنُ الْعَظِيمُ يَعْلَمُ أَنَّهُ شَيْطَانٌ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِأُمُورِ:(1/168)
أَحَدُهَا: أَنْ يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ بِصِدْقِ فَإِذَا قَرَأَهَا تَغَيَّبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوْ سَاخَ فِي الْأَرْضِ أَوْ احْتَجَبَ وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ مَلِكًا أَوْ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا لَمْ تَضُرَّهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنَّمَا تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ {حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْجِنِّيُّ: اقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ} . و (مِنْهَا أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ. و (مِنْهَا أَنْ يَسْتَعِيذَ بِالْعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَعْرِضُ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي حَيَاتِهِمْ وَتُرِيدُ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُمْ كَمَا جَاءَتْ الْجِنُّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُعْلَةِ مِنْ النَّارِ تُرِيدُ أَنْ تُحْرِقَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِالْعُوذَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ قَالَ {سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حبيش وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: تَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَرَعَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ قَالَ مَا أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ يَطْرُقُ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ قَالَ فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ} .(1/169)
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ جَاءَ يَفْتِكُ بِي الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ فذعته فَأَرَدْت أَنْ آخُذَهُ فَأَرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرْت قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاسِئًا} . وَعَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ فَخَنَقَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدِي وَلَوْلَا دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوَثَّقًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ} أَخْرَجَهُ النَّسَائِي وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي مُخْتَارِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ صَحِيحِ الْحَاكِمِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْت بِيَدِي فَمَا زِلْت أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةِ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ} رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: {قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثُمَّ قَالَ أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَاك تَقُولُ شَيْئًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ نَسْمَعْك تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاك بَسَطْت يَدَك. قَالَ إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ(1/170)
إبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابِ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْت: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْت: أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَاسْتَأْخَرَ. ثُمَّ أَرَدْت أَنْ آخُذَهُ وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوَثَّقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ الْمَدِينَةِ} . فَإِذَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتُؤْذِيَهُمْ وَتُفْسِدَ عِبَادَتَهُمْ فَيَدْفَعُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَمِنْ الْجِهَادِ بِالْيَدِ؛ فَكَيْفَ مَنْ هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ؟ . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمَعَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ. وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلْأَنْبِيَاءِ نَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَا نَصَرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ. وَأَمَّا مَنْ ابْتَدَعَ دِينًا لَمْ يَشْرَعُوهُ فَتَرَكَ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ فِيمَا شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ وَابْتَدَعَ الْغُلُوَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشِّرْكَ بِهِمْ فَإِنَّ هَذَا تَتَلَعَّبُ بِهِ الشَّيَاطِينُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} . و (مِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الرَّائِي بِذَلِكَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِيُبَيِّنَ لَهُ الْحَالَ. و (مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الشَّخْصِ: أَأَنْت فُلَانٌ؟ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ بِالْأَقْسَامِ الْمُعَظَّمَةِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ. وَهَذَا كَمَا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَرَى الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِهِ وَيَرَى عَرْشًا عَظِيمًا(1/171)
وَعَلَيْهِ صُورَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَرَى أَشْخَاصًا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ فَيَظُنُّهَا الْمَلَائِكَةَ وَيَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ هِيَ اللَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا. وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي حِكَايَتِهِ الْمَشْهُورَةِ حَيْثُ قَالَ: كُنْت مَرَّةً فِي الْعِبَادَةِ فَرَأَيْت عَرْشًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ نُورٌ فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ أَنَا رَبُّك وَقَدْ حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت عَلَى غَيْرِك. قَالَ: فَقَلَتْ لَهُ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ اخْسَأْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ: فَتَمَزَّقَ ذَلِكَ النُّورُ وَصَارَ ظُلْمَةً وَقَالَ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ نَجَوْت مِنِّي بِفِقْهِك فِي دِينِك وَعِلْمِك وَبِمُنَازَلَاتِك فِي أَحْوَالِك. لَقَدْ فَتَنْت بِهَذِهِ الْقِصَّةِ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ عَلِمْت أَنَّهُ الشَّيْطَانُ؟ قَالَ بِقَوْلِهِ لِي " حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت عَلَى غَيْرِك " وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْسَخُ وَلَا تُبَدَّلُ وَلِأَنَّهُ قَالَ أَنَا رَبُّك وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُولَ أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ هُوَ اللَّهُ وَصَارَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْيَقَظَةِ وَمُسْتَنَدُهُمْ مَا شَاهَدُوهُ. وَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَهَذَا قَدْ وَقَعَ كَثِيرًا لِطَوَائِفَ مِنْ جُهَّالِ الْعِبَادِ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رَأَى مَا ظَنَّ أَنَّهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ رَأَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ الْخَضِرُ وَكَانَ شَيْطَانًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ رَآنِي فِي(1/172)
الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي} فَهَذَا فِي رُؤْيَةِ الْمَنَامِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الْمَنَامِ تَكُونُ حَقًّا وَتَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَمَنَعَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِهِ فِي الْمَنَامِ وَأَمَّا فِي الْيَقَظَةِ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَرْئِيَّ هُوَ الْمَيِّتُ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ جَهْلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا لِأَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَبَعْضُ مَنْ رَأَى هَذَا - أَوْ صَدَّقَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَآهُ - اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بِمَكَانَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَخَالَفَ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ رَقِيقَةُ ذَلِكَ الْمَرْئِيِّ أَوْ هَذِهِ رُوحَانِيَّتُهُ أَوْ هَذَا مَعْنَاهُ تَشَكَّلَ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ جِنِّيٌّ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَلَكٌ وَالْمَلَكُ يَتَمَيَّزُ عَنْ الْجِنِّيِّ بِأُمُورِ كَثِيرَةٍ وَالْجِنُّ فِيهِمْ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالْجُهَّالُ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا فَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَؤُلَاءِ جِنٌّ وَشَيَاطِينُ أَرْسِلَانِ مَلَائِكَةً. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْكَوَاكِبَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْثَانِ تَتَنَزَّلُ عَلَى أَحَدِهِمْ رُوحٌ يَقُولُ هِيَ رُوحَانِيَّةُ الْكَوَاكِبِ وَيَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ يُغْوُونَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالشَّيَاطِينُ يُوَالُونَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. فَتَارَةً يُخْبِرُونَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ لِيُكَاشِفَ بِهَا. وَتَارَةً يُؤْذُونَ مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ بِقَتْلِ وَتَمْرِيضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/173)
وَالشَّيَاطِينُ يُوَالُونَ مَنْ يَفْعَلُ مَا يُحِبُّونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. فَتَارَةً يُخْبِرُونَهُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ لِيُكَاشِفَ بِهَا. وَتَارَةً يُؤْذُونَ مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ بِقَتْلِ وَتَمْرِيضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَارَةً يَجْلِبُونَ لَهُ مَنْ يُرِيدُهُ مِنْ الْإِنْسِ. وَتَارَةً يَسْرِقُونَ لَهُ مَا يَسْرِقُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ نَقْدٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَسْرُوقًا. وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْهَبُونَ بِهِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُونَ بِهِ إلَى مَكَّةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَيَعُودُونَ بِهِ فَيَعْتَقِدُ هَذَا كَرَامَةً مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ حَجَّ الْمُسْلِمِينَ: لَا أَحْرَمَ وَلَا لَبَّى وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ عُمْرَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَحْرُمُ إذْ حَاذَى الْمِيقَاتَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ نُسُكًا بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَلَوْ قَصَدَهَا لِتِجَارَةِ أَوْ لِزِيَارَةِ قَرِيبٍ لَهُ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ كَانَ مَأْمُورًا أَيْضًا بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَمِنْهُ السِّحْرُ وَالْكَهَانَةُ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ النَّصَارَى وَمُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْتَادُ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِهِ؛ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ فِي مَغِيبِهِمْ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ فَيَرَوْنَ مَنْ يَكُونُ فِي صُورَتِهِمْ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ فِي صُورَتِهِمْ وَيَقُولُ أَنَا فُلَانٌ وَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُمْ وَقَضَى مَطْلُوبَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ.(1/174)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُعِينُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا هُمْ شَيَاطِينُ أَضَلُّوهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي مَوَاضِعِ الشِّرْكِ مِنْ الْوَقَائِعِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ هُنَالِكَ وَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَأَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُكَذِّبُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَنَوْعٌ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ كَرَامَاتٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ يَقُولُ إنَّمَا هَذَا خَيَالٌ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَةٍ فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ وَعَايَنَهُ مَوْجُودًا أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ ذَلِكَ عَمَّنْ رَآهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ لَا يُرْتَابُ فِي صِدْقِهِ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ثَبَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ وَالْعَارِفِينَ بِهِ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ لِذَلِكَ مَتَى عَايَنُوا بَعْضَ ذَلِكَ خَضَعُوا لِمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ وَانْقَادُوا لَهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فَرَائِضَ اللَّهِ حَتَّى وَلَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَجْتَنِبُ مَحَارِمَ اللَّهِ؛ لَا الْفَوَاحِشَ وَلَا الظُّلْمَ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فَيَرَوْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ(1/175)
وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَاتِ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَيَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَعْتَقِدُ فِيمَنْ لَا يُصَلِّي بَلْ وَلَا يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ؛ بَلْ يَسُبُّ الرُّسُلَ وَيَتَنَقَّصُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى حَائِرًا مُتَرَدِّدًا شَاكًّا مُرْتَابًا يُقَدِّمُ إلَى الْكُفْرِ رِجْلًا وَإِلَى الْإِسْلَامِ أُخْرَى وَرُبَّمَا كَانَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى الْوِلَايَةِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالسَّحَرَةَ وَالْكُهَّانَ مَعَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَفْعَلُ بِهِمْ أَضْعَافَ أَضْعَافِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَذِبٌ وَفِيهِمْ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ فَفِيهِمْ مِنْ الْإِثْمِ وَالْإِفْكِ بِحَسَبِ مَا فَارَقُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ نَتِيجَةُ ضَلَالِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَبِدْعَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَهِيَ دَلَالَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَاهِلُ الضَّالُّ يَظُنُّ أَنَّهَا نَتِيجَةُ إيمَانِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى إيمَانِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فُرْقَانٌ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ (الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الَّتِي جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى الْوِلَايَةِ تَكُونُ لِلْكُفَّارِ - مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ - أَعْظَمَ مِمَّا تَكُونُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُوجَدُ بِدُونِ مَدْلُولِهِ فَإِذَا(1/176)
وُجِدَتْ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْإِيمَانِ فَضْلًا عَنْ الْوِلَايَةِ وَلَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَكَرَامَاتُهُمْ ثَمَرَةُ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لَا ثَمَرَةُ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ وَالْفِسْقِ. وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِحُجَّةِ لِلدِّينِ أَوْ لِحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْمُقْتَصِدُونَ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْمُبَاحَاتِ. وَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِهَا فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُتَعَدٍّ حَدَّ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى. فَمَنْ جَاهَدَ الْعَدُوَّ فَغَنِمَ غَنِيمَةً فَأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَهَذَا الْمَالُ وَإِنْ نَالَهُ بِسَبَبِ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِذَا أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ سَبَبُ الْخَوَارِقِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَهِيَ تَدْعُو إلَى كُفْرٍ آخَرَ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ مَا يَرَوْنَهُ أَوْ يَسْمَعُونَهُ عِنْدَ الْأَوْثَانِ كَإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ أَوْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ قَضَاءَ حَاجَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا شَاهَدَ أَحَدُهُمْ الْقَبْرَ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْخٌ بَهِيٌّ عَانَقَهُ أَوْ كَلَّمَهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ الْمَقْبُورُ أَوْ الشَّيْخُ الْمَقْبُورُ وَالْقَبْرُ لَمْ يَنْشَقَّ؛ وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ مَثَّلَ لَهُ ذَلِكَ(1/177)
كَمَا يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ أَنَّ الْحَائِطَ انْشَقَّ وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ صُورَةُ إنْسَانٍ وَيَكُونُ هُوَ الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لَهُ فِي صُورَةِ إنْسَانٍ وَأَرَاهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحَائِطِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي رَآهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْقَبْرِ: نَحْنُ لَا نَبْقَى فِي قُبُورِنَا بَلْ مِنْ حِينِ يُقْبَرُ أَحَدُنَا يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ وَيَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى ذَلِكَ الْمَيِّتَ فِي الْجِنَازَةِ يَمْشِي وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخْرَى مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا. وَأَهْلُ الضَّلَالِ إمَّا أَنْ يُكَذِّبُوا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَظُنُّوهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَوْ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ وَرُبَّمَا قَالُوا هَذِهِ رُوحَانِيَّتُهُ أَوْ رَقِيقَتُهُ أَوْ سِرُّهُ أَوْ مِثَالُهُ أَوْ رُوحُهُ تَجَسَّدَتْ حَتَّى قَدْ يَكُونُ مَنْ يَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ فِي مَكَانَيْنِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَكَانَيْنِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حِينَ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ: لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسِيَّ. وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ: هُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ كَاَلَّذِينَ يَدْعُونَ الْكَوَاكِبَ وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ(1/178)
كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ: يَنْهَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُ اللَّهِ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا شِرْكٌ أَوْ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ؛ بِخِلَافِ مَا يُطْلَبُ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَمْ يُعْبَدْ فِي حَيَاتِهِ بِحَضْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَنْهَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ دُعَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ فِي مَغِيبِهِمْ هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ. فَمَنْ رَأَى نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ لَهُ " اُدْعُ لِي " لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ دَعَاهُ فِي مَغِيبِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ بِهِ كَمَا قَدْ وَقَعَ فَإِنَّ الْغَائِبَ وَالْمَيِّتَ لَا يَنْهَى مَنْ يُشْرِكُ بَلْ إذَا تَعَلَّقَتْ الْقُلُوبُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ بِهِ فَدَعَا وَقَصَدَ مَكَانَ قَبْرِهِ أَوْ تِمْثَالِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ(1/179)
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . فَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ أَحَدٌ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ يَدْعُو وَيَشْفَعُ لِلْأَخْيَارِ مِنْ أُمَّتِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هُمْ يَفْعَلُونَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ بِدُونِ سُؤَالِ أَحَدٍ. وَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يُشْرَعْ دُعَاءُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَإِنْ كَانُوا يُدْعَوْنَ وَيَشْفَعُونَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ هُمْ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُمْ وَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ لَا يَفْعَلُونَهُ وَلَوْ طُلِبَ مِنْهُمْ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ مِنْهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ دُعَاءَهُمْ وَطَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ فَفِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً فَكَيْفَ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَبِ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَحُضُورِهِمْ فَإِنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ(1/180)
فِيهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ الشِّرْكِ بِهِمْ. بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ وَيُؤْجَرُونَ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَئِذٍ مِنْ نَفْعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُمْ فِي دَارِ الْعَمَلِ وَالتَّكْلِيفِ وَشَفَاعَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِيهَا إظْهَارُ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَصْلُ سُؤَالِ الْخَلْقِ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى السَّائِلِ وَلَا مُسْتَحَبًّا بَلْ الْمَأْمُورُ بِهِ سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وَسُؤَالُ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مُحَرَّمٌ لَكِنَّهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ وَتَرْكُهُ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ أَفْضَلُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ ارْغَبْ إلَى اللَّهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَأَمَرَهُمْ بِإِرْضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا فِي الحسب فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا (حَسْبُنَا اللَّهُ لَا يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَيَقُولُوا: {إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ رَاغِبُونَ فَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ {يَا غُلَامُ إنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي الشِّدَّةِ إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا(1/181)
أَنْتَ لَاقٍ فَلَوْ جَهِدَتْ الْخَلِيقَةُ عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءِ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا} وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُرْوَى مُخْتَصَرًا. وَقَوْلُهُ {إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ} هُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ عَنْهُ. وَفِي الْمُسْنَدِ لِأَحْمَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَيَقُولُ: إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قَالَ عَوْفٌ: فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ.} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فَمَدَحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون أَيْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُمْ. وَالرُّقْيَةُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ فَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ أَحَدٍ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ " وَلَا يَرْقُونَ " وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ رقياهم لِغَيْرِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَسَنَةٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَرْقِي فَإِنَّ رُقْيَتَهُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ وَدَعَوْهُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ.(1/182)
وَمَا يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ قَالَ " حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي " لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ " أَمَّا إلَيْك فَلَا " وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْخَلِيلِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكَيْفَ يَقُولُ حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَسْأَلُوهُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ أَسْبَابًا لِمَا يُرَتِّبُهُ عَلَيْهَا مِنْ إثَابَةِ الْعَابِدِينَ وَإِجَابَةِ السَّائِلِينَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَعِلْمُهُ بِأَنَّ هَذَا مُحْتَاجٌ أَوْ هَذَا مُذْنِبٌ لَا يُنَافِي أَنْ يَأْمُرَ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيَأْمُرَ هَذَا بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقْضَى بِهَا حَاجَتُهُ كَمَا يَأْمُرُ هَذَا بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ كَرَامَتَهُ. وَلَكِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وَفِيهَا الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَكُلُّ(1/183)
وَاحِدٍ فِي مَوْطِنِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَفِي الْقِيَامِ بَعْدَ الِاسْتِفْتَاحِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَفِي آخِرِهَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي الْقِيَامِ أَيْضًا وَفِي الرُّكُوعِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ أَفْضَلَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ سُؤَالَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ السُّؤَالَ الْمَشْرُوعَ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ حَسَنٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو(1/184)
لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْت لِأَخِيك بِهِ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ الْمَخْلُوقَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ نَفْسِهِ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ؛ بِخِلَافِ سُؤَالِ الْعِلْمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِسُؤَالِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ بَذْلُهُ فَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّه بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ يَزْكُو عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يَنْقُصُ بِالتَّعْلِيمِ كَمَا تَنْقُصُ الْأَمْوَالُ بِالْبَذْلِ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ بِالْمِصْبَاحِ. وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ كَالْأَمَانَاتِ مِثْلِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَسْأَلَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ مَالُ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ مِنْهُ كَمَا يَطْلُبُ حَقَّهُ مِنْ الْوَقْفِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ سُؤَالُ النَّفَقَةِ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَسُؤَالُ الْمُسَافِرِ الضِّيَافَةَ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَطْعَمَ مُوسَى وَالْخَضِرُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ دَيْنَهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْآخَرَ أَدَاءَ حَقِّهِ إلَيْهِ:(1/185)
فَالْبَائِعُ يَسْأَلُ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرِي يَسْأَلُ الْمَبِيعَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . وَمِنْ السُّؤَالِ مَا لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَالْمَسْئُولَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ السَّائِلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} وَمِنْهُ الْحَدِيثُ {إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا} وَقَوْله {اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَ هَذَا} وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ وَإِنْ كَانَ الْمَسْئُولُ مَأْمُورًا بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ كَمَالِهِ أَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ وَهَذَا فِي حَقِّهِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ سُؤَالِ السَّائِلِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ سَأَلُوهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا {أَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ بَعْضِ ظَهْرِهِمْ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِنَا إذَا لَقِينَا الْعَدُوَّ غَدًا رِجَالًا جِيَاعًا وَلَكِنْ إنْ رَأَيْت أَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ بِبَقَايَا أَزْوَادِهِمْ فَتَجْمَعُهَا ثُمَّ تَدْعُوَ اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبَارِكُ لَنَا فِي دَعْوَتِك. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغِيثُنَا بِدُعَائِك.} وَإِنَّمَا كَانَ سَأَلَهُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا سَأَلَهُ الْأَعْمَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَكَمَا سَأَلَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِخَادِمِهِ أَنَسٍ وَكَمَا سَأَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَهُ وَأُمَّهُ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ(1/186)
يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا} فَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ الصِّدِّيقِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْمَلُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى لَا يَطْلُبُ جَزَاءً مِنْ مَخْلُوقٍ فَقَالَ تَعَالَى {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِنْدَ الصِّدِّيقِ نِعْمَةٌ تُجْزَى؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِكَسْبِهِ وَمَالِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عَلَى الصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَتِلْكَ النِّعْمَةُ لَا تُجْزَى فَإِنَّ أَجْرَ الرَّسُولِ فِيهَا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَأَمَّا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ نِعْمَةٌ تُجْزَى فَإِنَّ زَيْدًا كَانَ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وَعَلِيٌّ كَانَ فِي عِيَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَدْبِ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ التَّخْفِيفَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ مِنْ عِيَالِهِ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إلَى عِيَالِهِ وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا إلَى عِيَالِهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ أَمَنَّ النَّاسِ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ لِأَفْضَلِ(1/187)
الْخَلْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَانَ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَاشْتِرَائِهِ الْمُعَذَّبِينَ. وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ لَمَّا قَالَ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ: إنَّ عِنْدِي رَاحِلَتَيْنِ فَخُذْ إحْدَاهُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِالثَّمَنِ " فَهُوَ أَفْضَلُ صَدِيقٍ لِأَفْضَلِ نَبِيٍّ وَكَانَ مِنْ كَمَالِهِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى لَا يَطْلُبُ جَزَاءً مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَمِنْ الْجَزَاءِ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ قَالَ تَعَالَى عَمَّنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَالدُّعَاءُ جَزَاءٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ} . وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِصَدَقَةِ تَقُولُ لِلرَّسُولِ: اسْمَعْ مَا يَدْعُونَ بِهِ لَنَا حَتَّى نَدْعُوَ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْا لَنَا وَيَبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا قَالَ لَك السَّائِلُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيك فَقُلْ: وَفِيك بَارَكَ اللَّهُ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا مَعَ الْمَخْلُوقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْلُوقُ نَبِيًّا أَوْ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ غَنِيًّا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَهَذَا الْعَامِلُ لِلْخَيْرِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِلَّهِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا يَطْلُبُ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِ جَزَاءً وَلَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ لَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ وَلَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ(1/188)
فَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَكَانَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَالْمَسِيحُ وَسَائِرُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ نُوحٌ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَتْ السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وَقَالَ عَنْ الْحَوَارِيِّينَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} .
وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أُمِرَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ فَيُعْبَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. فَلَمَّا كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ مُحْكَمَةً كَانَ الْعَامِلُونَ بِهَا مُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ. وَكَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كانت صَلَاتُهُ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْعُدُولُ عَنْهَا إلَى الصَّخْرَةِ خُرُوجًا عَنْ دِينِ(1/189)
الْإِسْلَامِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ. وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَطْلُبُ مِنْ مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ جَزَاءً: لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَ دُعَاءٍ فَهَذَا مِمَّا لَا يَسُوغُ أَنْ يَطْلُبَ عَلَيْهِ جَزَاءً لَا دُعَاءً وَلَا غَيْرَهُ.
وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ غَيْرَ هَذَا فَلَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ إلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ مَأْمُورًا بِالْإِعْطَاءِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَجَلّ قَدْرًا وَأَغْنَى بِاَللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّ سُؤَالَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاسِدَ: مَفْسَدَةُ الِافْتِقَارِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ. وَمَفْسَدَةُ إيذَاءِ الْمَسْئُولِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ ظُلْمِ الْخَلْقِ.(1/190)
وَفِيهِ ذُلٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ. فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَحَيْثُ أَمَرَ الْأُمَّةَ بِالدُّعَاءِ لَهُ فَذَاكَ مِنْ بَابِ أَمْرِهِمْ بِهَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات وَإِنْ كَانَ هُوَ يَنْتَفِعُ بِدُعَائِهِمْ لَهُ فَهُوَ أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ} وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الدَّاعِي إلَى مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ فَمَا يَفْعَلُونَهُ لَهُ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَلِهَذَا لَمْ تَجْرِ عِبَادَةُ السَّلَفِ بِأَنْ يُهْدُوا إلَيْهِ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ بِدُونِ الْإِهْدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِهِمْ شَيْءٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَبَوَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْوَلَدُ يَكُونُ لِلْوَالِدِ مِثْلُ أَجْرِهِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ الْوَالِدُ بِدُعَاءِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى الْأَبِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ} . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ الدُّعَاءِ - طَلَبُهُ طَلَبُ أَمْرٍ وَتَرْغِيبٍ لَيْسَ بِطَلَبِ سُؤَالٍ. فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ لَنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وَالْأَحَادِيثُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعْرُوفَةٌ.(1/191)
وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ قَالَ حِينَ سَمِعَ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَقَدْ رَغَّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ سَأَلَهَا لَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَه {أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ ثُمَّ قَالَ لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك} فَطَلَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَطَلَبِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَهُوَ كَطَلَبِهِ أَنْ يَعْمَلَ سَائِرَ الصَّالِحَاتِ فَمَقْصُودُهُ نَفْعُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا يَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِهِمْ الْخَيْرَ وَأَمْرِهِمْ بِهِ وَيَنْتَفِعُ أَيْضًا بِالْخَيْرِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ.(1/192)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ {قَوْلُ الْقَائِلِ: إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ مَا شِئْت قَالَ: الرُّبُعَ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: النِّصْفَ. قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: الثُّلُثَيْنِ. قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا. قَالَ: إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ لَك ذَنْبُك} رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي (جَوَابِ الْمَسَائِلِ الْبَغْدَادِيَّةِ. فَإِنَّ هَذَا كَانَ لَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فَإِذَا جَعَلَ مَكَانَ دُعَائِهِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَهُوَ لَوْ دَعَا لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ لَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ " آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ " فَدُعَاؤُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ: اُدْعُ لِي - أَوْ لَنَا - وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَفِعَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالدُّعَاءِ وَيَنْتَفِعَ هُوَ أَيْضًا بِأَمْرِهِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا يَأْمُرُهُ بِسَائِرِ فِعْلِ الْخَيْرِ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْتَمٌّ بِهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ إلَّا طَلَبَ حَاجَتِهِ لَمْ يَقْصِدْ نَفْعَ ذَلِكَ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِالرَّسُولِ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ السُّؤَالِ الْمَرْجُوحِ الَّذِي تَرْكُهُ إلَى الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ مِنْ الرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَسُؤَالِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ سُؤَالِ الْأَحْيَاءِ السُّؤَالَ الْجَائِزَ الْمَشْرُوعَ.(1/193)
وَأَمَّا سُؤَالُ الْمَيِّتِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعِ لَا وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ؛ بَلْ وَلَا مُبَاحٍ؛ وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً أَوْ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْ غَيْرِهِ: هُوَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمِنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَوْتَى الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ فَالرَّسُولُ أَمَرَ النَّاسَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَمِنْ عِبَادَتِهِ الْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَكَزِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَتْبَاعِهِ فَجَعَلَ قَصْدَهُمْ بِذَلِكَ الشِّرْكَ بِالْخَالِقِ وَإِيذَاءَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ سُؤَالَهُمْ أَوْ السُّؤَالَ عِنْدَهُمْ أَوْ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ وَلَا الدُّعَاءَ لَهُمْ كَمَا يَقْصِدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ كَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ مُؤْذِينَ ظَالِمِينَ لِمَنْ يَسْأَلُونَهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ(1/194)
فَاَلَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَوْحِيدٌ وَعَدْلٌ وَإِحْسَانٌ وَإِخْلَاصٌ وَصَلَاحٌ لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ فِيهِ شِرْكٌ وَظُلْمٌ وَإِسَاءَةٌ وَفَسَادُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} وَهَذَا أَمْرٌ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّمَا بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ} رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى} وَقَالَ: {الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ} وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ. فَأَيْنَ الْإِحْسَانُ إلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْ إيذَائِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ لَهُمْ؟ وَأَيْنَ التَّوْحِيدُ لِلْخَالِقِ بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ لَهُ مِنْ الْإِشْرَاكِ بِهِ بِالرَّغْبَةِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَأَنْ يُحِبَّ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَأَيْنَ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ مِنْ فَسَادِهِ فِي عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؟ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتِلْكَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تُصْلِحُ أُمُورَ أَصْحَابِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَنَهَى عَنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُفْسِدُ أُمُورَ أَصْحَابِهَا.(1/195)
وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} {إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ: هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {المص} {كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ(1/196)
مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} .
فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ وَهَذَا سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِ اللَّهِ الْغَالِبِينَ. وَكُلُّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ طُرُقِ أَهْلِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَقَالَ تَعَالَى {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى. وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَشْبَهَ الْيَهُودَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .(1/197)
وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَلْ بِالْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ أَشْبَهَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فَالْأَوَّلُ مِنْ الْغَاوِينَ وَالثَّانِي مِنْ الضَّالِّينَ. فَإِنَّ الْغَيَّ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالضَّلَالَ عَدَمُ الْهُدَى قَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} . وَمَنْ جَمَعَ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.(1/198)
فَصْلٌ:
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدَ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ " الْوَسِيلَةِ " وَ " التَّوَسُّلِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ يَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ مَعَانِيهِ وَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَيُعْرَفُ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ. وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ الصَّحَابَةُ وَيَفْعَلُونَهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ. وَيُعْرَفُ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا حَتَّى تَجِدَ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ فَصْلَ الْخِطَابِ. فَلَفْظُ الْوَسِيلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَفِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . فَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَهَا إلَيْهِ هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي(1/199)
أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِابْتِغَائِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا. فَالْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ فَأَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. فَجِمَاعُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِابْتِغَائِهَا هُوَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا وَسِيلَةَ لِأَحَدِ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ. وَالثَّانِي لَفْظُ " الْوَسِيلَةِ " فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَقَوْلُهُ {مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ} . فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا دَعَوْا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ إنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا.(1/200)
وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ. وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ. فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ - الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: - فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ: فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيْ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ بِطَاعَتِهِ؛ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . فَهَذَا التَّوَسُّلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا قَالَ عُمَرُ - فَإِنَّهُ تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ فَلَمَّا عَدَلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ إلَى التَّوَسُّلِ(1/201)
بِالْعَبَّاسِ: عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ؛ بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا.
فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: - (أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ. وَ (الثَّانِي التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ. وَ (الثَّالِثُ التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَنَهَوْا عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ. وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ(1/202)
خَلْقِك ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. قَالَ القدوري: الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقِ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ إذَا مَنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا بِخِلَافِ إقْسَامِهِ سُبْحَانَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ كَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} فَإِنَّ إقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إقْسَامُهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِي لَفْظٍ {فَقَدْ كَفَرَ} وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ {لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} .(1/203)
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ أَوْ بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمُلُوكِ وَسُيُوفِ الْمُجَاهِدِينَ وَتُرَبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَيْمَانِ الْبُنْدُقِ وَسَرَاوِيلِ الْفُتُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ. وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَدْ حُكِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ.
وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ. وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ(1/204)
فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ - وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ - هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالْمَخْلُوقِ إذَا كَانَتْ فِيهِ بَاءُ السَّبَبِ لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ - وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الربيع؟ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ سِنَّهَا. فَقَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَقَالَ: {رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَالَ: {أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ} وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَالْآخَرُ مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ} وَكَانَ الْبَرَاءُ إذَا اشْتَدَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ يَقُولُونَ: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك. فَيُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ فَتَنْهَزِمُ الْكُفَّارُ. فَلَمَّا كَانُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بِالسُّوسِ قَالُوا: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّك. فَقَالَ: يَا رَبِّ أَقْسَمْت عَلَيْك لَمَا مَنَحْتنَا أَكْتَافَهُمْ وَجَعَلْتنِي أَوَّلَ شَهِيدٍ. فَأَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ وَاسْتُشْهِدَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا هُوَ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ مُبَارَزَةً غَيْرَ مَنْ شَرِكَ فِي دَمِهِ وَحُمِلَ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى تُرْسٍ وَرُمِيَ بِهِ إلَى الْحَدِيقَةِ حَتَّى فَتَحَ الْبَابَ.(1/205)
وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقْسِمُ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَإِنْ حَنَّثَهُ وَلَمْ يُبِرَّ قَسَمَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ لَا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ صَدِيقِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ الْحَانِثِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " سَأَلْتُك بِاَللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا " فَهَذَا سُؤَالٌ وَلَيْسَ بِقَسَمِ وَفِي الْحَدِيثِ {مَنْ سَأَلَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ} وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى هَذَا إذَا لَمْ يُجَبْ سُؤَالُهُ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ وَقَدْ يُجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ الرِّزْقَ فَيَرْزُقُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ وَإِذَا مَسَّهُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضُوا وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا. وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْسِمُونَ عَلَى اللَّهِ فَيُبِرُّ قَسَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ. فَالسُّؤَالُ كَقَوْلِ السَّائِلِ لِلَّهِ: أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَأَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَأَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك. فَهَذَا سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إقْسَامًا عَلَيْهِ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَمَغْفِرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ وَعَفْوُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَفُوِّ؛ وَلِهَذَا لَمَّا {قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ(1/206)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ وَافَقْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَاذَا أَقُولُ؟ قَالَ قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي} . وَهِدَايَتُهُ وَدَلَالَتُهُ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْهَادِي وَفِي الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. وَجَمِيعُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَبْدِهِ مِنْ الْخَيْرِ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الرَّبِّ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ كَمَا قَالَ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ نُوحٌ: {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي وَقَالُوا: قُلْ كَمَا قَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ: رَبِّ رَبِّ وَاسْمُهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يَجْمَعُ أَصْلَ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ. فَإِذَا سُئِلَ الْمَسْئُولُ بِشَيْءِ - وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ - سُئِلَ بِسَبَبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَسْئُولِ. فَإِذَا قَالَ: أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ كَوْنُهُ مَحْمُودًا مَنَّانًا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى عَبْدِهِ السَّائِلِ(1/207)
وَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ يُوجِبُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَحَمْدُ الْعَبْدِ لَهُ سَبَبُ إجَابَةِ دُعَائِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ: {سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ} أَيْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ فَالسَّمَاعُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ} أَيْ لَا يُسْتَجَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ فِي آخِرِ دُعَائِهِ {إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ يَقْبَلُونَ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُونَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَلِهَذَا أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْمُتَضَمِّنِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. {وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ رَآهُ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ. {وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنْت أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْت بَدَأْت بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ دَعَوْت لِنَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ تعطه} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. فَلَفْظُ السَّمْعِ يُرَادُ بِهِ إدْرَاكُ الصَّوْتِ وَيُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى مَعَ ذَلِكَ(1/208)
وَيُرَادُ بِهِ الْقَبُولُ وَالِاسْتِجَابَةُ مَعَ الْفَهْمِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} ثُمَّ قَالَ {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا لَمْ يَقْبَلُوا الْحَقَّ ثُمَّ {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ فَهِمُوهُ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.
وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُ بِاَللَّهِ فَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِإِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَهُ بِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ إلَى الْخَلْقِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَفَّ الظُّلْمِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي حَضِّ الْفَاعِلِ فَلَا سَبَبَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِمُسَبِّبِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه عَنْ عَطِيَّةَ العوفي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ الْخَارِجَ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: وَأَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك} . فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَحَقُّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقُّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهُمْ كَمَا يُسْأَلُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . وَكَمَا يُسْأَلُ بِوَعْدِهِ لِأَنَّ وَعْدَهُ يَقْتَضِي إنْجَازَ مَا وَعَدَهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ:(1/209)
{رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَوْلُهُ: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} . وَيُشْبِهُ هَذَا مُنَاشَدَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي} وَكَذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَضِبَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَجَعَلَ مُوسَى يَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَذْكُرُ مَا وَعَدَ بِهِ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ بِسَابِقِ وَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ.
وَمِنْ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلِ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إجَابَةَ صَاحِبِهِ: هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ " اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك وَدَعَوْتنِي فَأَجَبْتُك وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي " وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا: " اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وَإِنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ " ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أَسْأَلُك بِكَذَا " نَوْعَانِ: فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ(1/210)
لِلْقَسَمِ وَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِ فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ تَعَالَى: " أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ " يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جَاهٌ وَهَذَا صَحِيحٌ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ وَجَاهٌ وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعْظِمَ أَقْدَارَهُمْ وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إذَا شُفِّعُوا مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمْ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ كَانَ سَعِيدًا وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِهِ إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ بِذَلِكَ بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا اتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا دَعَوْا لَهُ وَشُفِّعُوا فِيهِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُتَشَفِّعًا بِجَاهِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ(1/211)
بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعِ كَبِيرٍ: " أَسْأَلُك بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَك وَبِحُبِّك لَهُ عَلَى طَاعَتِك وَبِجَاهِهِ عِنْدَك الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَك لَكَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إحْسَانُ اللَّهِ إلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ وَطَاعَتِهِمْ إيَّاهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبِ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ.
نَعَمْ لَوْ سَأَلَ اللَّهَ بِإِيمَانِهِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَطَاعَتِهِ لَهُ وَاتِّبَاعِهِ لَكَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِسَبَبِ عَظِيمٍ يَقْتَضِي إجَابَةَ الدُّعَاءِ بَلْ هَذَا أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ شَفَاعَتَهُ فِي الْآخِرَةِ تَنْفَعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ لَا أَهْلَ الشِّرْكِ وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ دَعَا لَهُ بِالْوَسِيلَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَسْعَدُ بِشَفَاعَتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ} . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ تَوْحِيدًا وَإِخْلَاصًا لِأَنَّ التَّوْحِيدَ جِمَاعُ الدِّينِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِذَا شُفِّعَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لَهُ رَبُّهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ وَذَلِكَ بِحَسَبِ(1/212)
مَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. وَذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ شَفَاعَتَهُ تُنَالُ بِاتِّبَاعِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَبِالدُّعَاءِ الَّذِي سَنَّ لَنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بِهِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ بِحَقِّ فُلَانٍ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَالثَّانِي هَلْ نَسْأَلُ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا نَسْأَلُ بِالْجَاهِ وَالْحُرْمَةِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ حَقٌّ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَاسَ الْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ بِحَالِ لَكِنْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَتْبَاعِ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ عَلَيْهِ وَلَا يُقَاسُ بِمَخْلُوقَاتِهِ بَلْ هُوَ بِحُكْمِ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا} . وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى(1/213)
عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ إخْبَارِهِ وَعَلَى الثَّانِي يَسْتَحِقُّونَ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ. فَمَنْ قَالَ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ حَقٌّ يُسْأَلُ بِهِ - كَمَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لدَاوُد: وَأَيُّ حَقٍّ لِآبَائِك عَلَيَّ؟ - فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ عَلَيْهِ حَقٌّ بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا يَجِبُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا كَمَا يَظُنُّهُ جُهَّالُ الْعُبَّادِ مِنْ أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِعِبَادَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلِيَّةَ تَتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ يَصِيرُ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ مِنْ جِنْسِ مَا يَصِيرُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَاَلَّذِينَ يَخْدِمُونَ مُلُوكَهُمْ وَمُلَّاكَهُمْ فَيَجْلِبُونَ لَهُمْ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ مَضَرَّةً وَيَبْقَى أَحَدُهُمْ يَتَقَاضَى الْعِوَضَ وَالْمُجَازَاةَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ عِنْدَ جَفَاءٍ أَوْ إعْرَاضٍ يَرَاهُ مِنْهُ: أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا؟ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. وَتَخَيُّلُ مِثْلِ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَظُلْمِهِ وَلِهَذَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقَوْله تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقَوْله تَعَالَى {إنْ تَكْفُرُوا(1/214)
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ الْمَانُّ بِالْعَمَلِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ(1/215)
مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ} .
وَبَيْنَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَالْمَخْلُوقِ مِنْ الْفُرُوقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ.
مِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. وَالْمُلُوكُ وَسَادَةُ الْعَبِيدِ مُحْتَاجُونَ إلَى غَيْرِهِمْ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً.
ومِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيَرْضَى وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ ذَلِكَ وَيُيَسِّرُهُ فَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْقَدَرِيَّةِ. وَالْمَخْلُوقُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُحِبُّهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ كَمَا قَالَ قتادة: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بَلْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ. بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَنْهَاهُ بُخْلًا عَلَيْهِ. وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِخَيْرِ يَنْفَعُهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ إلَّا عَنْ شَرٍّ يَضُرُّهُمْ؛ بِخِلَافِ الْمُجَبِّرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ قَدْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. وَ (مِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالْقُدْرَةِ وَالْحَوَاسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْهَادِي لِعِبَادِهِ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا(1/216)
لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَلَيْسَ يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَ (مِنْهَا أَنَّ نِعَمَهُ عَلَى عِبَادِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ جَزَاءُ النِّعْمَةِ لَمْ تَقُمْ الْعِبَادَةُ بِشُكْرِ قَلِيلٍ مِنْهَا فَكَيْفَ وَالْعِبَادَةُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَيْضًا. وَ (مِنْهَا أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَزَالُونَ مُقَصِّرِينَ مُحْتَاجِينَ إلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَلَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهَا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ} لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَمَا يُقَالُ بِعْت هَذَا بِهَذَا وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَغْفِرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَفْوِهِ فَهُوَ ضَالٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَرُوِيَ بِمَغْفِرَتِهِ} وَمِنْ هَذَا أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ. وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ} الْحَدِيثَ.
وَمَنْ قَالَ: بَلْ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْبَرَ(1/217)
اللَّهُ بِوُقُوعِهِ فَإِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهَذَا الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى إنْجَازَ وَعْدِهِ أَوْ يَسْأَلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا الْمُسَبَّبَاتِ كَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا مُنَاسِبٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَأَلَهُ بِجَاهِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَذَلِكَ سُؤَالٌ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْ هَذَا السَّائِلِ لَمْ يَسْأَلْهُ بِسَبَبِ يُنَاسِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ.
وَأَمَّا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي تَقْتَضِي مَا يَفْعَلُهُ بِالْعِبَادِ مِنْ الْهُدَى وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ. فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. فَقَوْلُ الْمُنَازِعِ: لَا يُسْأَلُ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ: مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي تَقَدَّمَ إيرَادُهُ وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . فَيُقَالُ لِلْمُنَازِعِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَقَامَيْنِ: - أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي فِي سُؤَالِهِ بِذَلِكَ الْحَقِّ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُطِيعِينَ بِأَنْ يُثِيبَهُمْ وَوَعَدَ السَّائِلِينَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ وَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ وُقُوعُهُ(1/218)
بِحُكْمِ الْوَعْدِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَنَازَعُوا: هَلْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِدُونِ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ - كَمَا تَقَدَّمَ. قِيلَ: لَا يَجِبُ لِأَحَدِ عَلَيْهِ حَقٌّ بِدُونِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالظُّلْمُ مُمْتَنِعٌ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَقَعُ فَقِيلَ: هُوَ الْمُمْتَنِعُ وَكُلُّ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكُونُ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ إمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَإِمَّا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَلْ مَا كَانَ ظُلْمًا مِنْ الْعِبَادِ فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ: وَقِيلَ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَيُعَاقَبَ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ وَالْهَضْمُ أَنْ يُهْضَمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} . وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا بَيَّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ(1/219)
حَقٌّ؛ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّؤَالِ بِذَلِكَ فَيُقَالُ: إنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي سَأَلَ بِهِ سَبَبًا لِإِجَابَةِ السُّؤَالِ حَسُنَ السُّؤَالُ بِهِ كَالْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ لِعَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ السَّائِلُ: بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأُولَئِكَ إذَا كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْ يُكْرِمَهُمْ بِثَوَابِهِ وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ - كَمَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَيْسَ فِي اسْتِحْقَاقِ أُولَئِكَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَطْلُوبِ هَذَا السَّائِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ مَا اسْتَحَقَّهُ بِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ مَا اسْتَحَقَّهُ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي إكْرَامِ اللَّهِ لِذَلِكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي إجَابَةَ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: السَّبَبُ هُوَ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ فَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قَدْ شَفَعَ لَهُ وَدَعَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْفَعْ لَهُ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ. وَإِنْ قَالَ: السَّبَبُ هُوَ مَحَبَّتِي لَهُ وَإِيمَانِي بِهِ وَمُوَالَاتِي لَهُ فَهَذَا سَبَبٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ وَتَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِإِيمَانِ هَذَا السَّائِلِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ: فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ تَضُرُّهُ وَلَا تَنْفَعُهُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ وَأَحَبَّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَهُ فَحُبُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْفَع الْأَشْيَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ - تَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ إلَى ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ (وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ وَتَارَةً يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ(1/220)
فِي الدُّعَاءِ كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَائِرَهُ - فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَنِّي أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ. قِيلَ: مَنْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَلَامُ مَنْ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنْ السَّلَفِ - كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَانَ هَذَا حَسَنًا. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ. وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامِّ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَلَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَنْكَرَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّوَسُّلِ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا لَا يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ الرَّحِمِ قِيلَ: الرَّحِمُ تُوجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا حَقًّا لِذِي الرَّحِمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الرَّحِمُ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ} وَقَالَ {لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الرَّحِمَ تَعَلَّقَتْ بِحَقْوَيْ الرَّحْمَنِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك؟ قَالَتْ: بَلَى قَدْ رَضِيت} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ} .(1/221)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَبِيهِ أَعْطَاهُ لِحَقِّ جَعْفَرٍ عَلَى عَلِيٍّ. وَحَقُّ ذِي الرَّحِمِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ نَعَمْ الدُّعَاءُ لَهُمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ وَعْدِهِمَا مَنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ رَحِمِك الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا} وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ {مِنْ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ} . فَصِلَةُ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ بِرِّهِ.
وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقِ: لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. (أَحَدُهُمَا) الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. و (الثَّانِي) السُّؤَالُ بِهِ فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ. وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: {أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ} وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ(1/222)
طَلَبٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ. وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا ": يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنْ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ. وَشَاعَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا: فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبِ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُبِرُّ قَسَمَهُ فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا إجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا(1/223)
وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ} .
وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ - وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ - لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَضْلًا أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ؛ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ: فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ: إنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنَقُّصٌ لَهُ. بَلْ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي سَيِّدِي وَقَالَ: قُلْ كَمَا قَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا كَرِيمُ. وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ إذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِمَخْلُوقِ نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللَّهَ بِمَخْلُوقِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. فَيُسْقَوْنَ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَجْدَبُوا إنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقِ(1/224)
لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ لَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا غَيْرِهِ وَحَدِيثُ الْأَعْمَى سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَقَالُوا لِعُمَرِ: إنَّ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنْ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ فَلَمْ نَعْدِلْ عَنْ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ إلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ وَعُدُولٌ عَنْ الْأَفْضَلِ وَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا - وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ. وَاَلَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَتَوَسَّلُوا بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ قَالُوا: وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعُمَرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُ يُسْأَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَا بِنَبِيِّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - غَيْرِ مَالِكٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ بَعْضُ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَيَسْتَنِدُ إلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنْ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا؛ بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى(1/225)
وَالْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ زِيَارَةِ؛ قَبْرِهِ بَلْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ لَازِمٌ؛ كَمَا كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ. وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَيُّوبَ السختياني فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ. قَالَ: وَحَجَّ حَجَّتَيْنِ فَكُنْت أَرْمُقُهُ فَلَا أَسْمَعُ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى أَرْحَمَهُ فَلَمَّا رَأَيْت مِنْهُ مَا رَأَيْت وَإِجْلَالَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبْت عَنْهُ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ مَالِكٌ إذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ. فَقِيلَ لَهُ يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لَمَا أَنْكَرْتُمْ عَلَيَّ مَا تَرَوْنَ لَقَدْ كُنْت أَرَى مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ - وَكَانَ سَيِّدَ الْقُرَّاءِ - لَا نَكَادُ نَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ أَبَدًا إلَّا يَبْكِي حَتَّى نَرْحَمَهُ. وَلَقَدْ كُنْت أَرَى جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ - وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَالتَّبَسُّمِ - فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَمَا رَأَيْته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ. وَلَقَدْ اخْتَلَفْت إلَيْهِ زَمَانًا فَمَا كُنْت أَرَاهُ إلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إمَّا مُصَلِّيًا وَإِمَّا صَامِتًا وَإِمَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ.(1/226)
وَلَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنْظَرُ إلَى لَوْنِهِ كَأَنَّهُ نُزِفَ مِنْهُ الدَّمُ وَقَدْ جَفَّ لِسَانُهُ فِي فَمِهِ هَيْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ كُنْت آتِي عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى حَتَّى لَا يَبْقَى فِي عَيْنَيْهِ دُمُوعٌ. وَلَقَدْ رَأَيْت الزُّهْرِيَّ - وَكَانَ لَمِنْ أَهْنَأِ النَّاسِ وَأَقْرَبِهِمْ - فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ مَا عَرَفَك وَلَا عَرَفْته وَلَقَدْ كُنْت آتِي صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ وَكَانَ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَقُومَ النَّاسُ عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ. فَهَذَا كُلُّهُ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً بِإِسْنَادِ غَرِيبٍ مُنْقَطِعٍ رَوَاهَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إجَازَةً قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ دِلْهَات قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فِهْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَحِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُنْتَابِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ أَبِي إسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنَّ اللَّهَ أَدَّبَ قَوْمًا فَقَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ وَمَدَحَ قَوْمًا فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَذَمَّ قَوْمًا فَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ(1/227)
مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الْآيَةَ وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا. فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو؟ أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بَلْ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَك اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} . قُلْت وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حميد الرَّازِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مَالِكًا لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ مَالِكٌ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَتُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ حميد الرَّازِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَلَدِهِ حِينَ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَهُوَ كَبِيرٌ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَذَّبَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ وارة وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأسدي: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْرَأَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ وَأَحْذَقَ بِالْكَذِبِ مِنْهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبِيبَةَ: كَثِيرُ الْمَنَاكِيرِ. وَقَالَ النَّسَائِي: لَيْسَ بِثِقَةِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ بِالْمَقْلُوبَاتِ. وَآخِرُ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ هُوَ أَبُو مُصْعَبٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَفِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا مَنْ لَا تُعْرَفُ حَالُهُ. وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِينَ بِالْأَخْذِ عَنْهُ(1/228)
وَمُحَمَّدُ بْنُ حميد ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذَا أَسْنَدَ فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ حِكَايَةً لَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ هَذَا إنْ ثَبَتَ عَنْهُ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْلِ لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ بَلْ إذَا رَوَى عَنْهُ الشَّامِيُّونَ كَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطاطري ضَعَّفُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ فَكَيْفَ بِحِكَايَةِ تُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ رَوَاهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُراسانِيِّينَ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؟ . مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ " وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَسُّلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا حَقٌّ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حِينَ تَأْتِي النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ فَيَرُدَّهُمْ آدَمَ إلَى نُوحٍ ثُمَّ يَرُدَّهُمْ نُوحٌ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ إلَى مُوسَى وَمُوسَى إلَى عِيسَى وَيَرُدَّهُمْ عِيسَى إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ {أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ} وَلَكِنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَعْرُوفِ مِنْ وُجُوهٍ: - (أَحَدُهَا قَوْلُهُ " أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَدْعُو؟ " فَقَالَ " وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَسَائِر السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الدَّاعِيَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ(1/229)
الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لَهُ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَقْتَ السَّلَامِ عَلَيْهِ أَيْضًا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجْعَلُ الْحُجْرَةَ عَلَى يَسَارِهِ - وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ - وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَمَعَ هَذَا فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ عِنْدَ الْقَبْرِ لِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي " قَالَ: وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ رَأَيْته مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَى أَبِي. ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَرُئِيَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ: وَعَنْ ابْنِ أَبِي قسيط والقعنبي كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَلَا الْمَسْجِدُ جَسُّوا بِرُمَّانَةِ الْمِنْبَرِ الَّتِي تِلْقَاءَ الْقَبْرِ بِمَيَامِنِهِمْ ثُمَّ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ. قَالَ: وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ الليثي أَنَّهُ كَانَ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ للمروذي: وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.(1/230)
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي: وَعِنْدِي أَنْ يَدْعُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بِلَفْظِ السَّلَامِ لِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الْخِلَافِ. وَهَذَا الدُّعَاءُ يُفَسِّرُ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ. فَهَذَا هُوَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
وَكَذَلِكَ كَلُّ دُعَاءٍ ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ وَغَيْرِهِ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: وَلَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَة أَوْ الْأَيَّامِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً. فَقَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ وَلَا يُصْلِحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ إلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَرَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوا أَتَوْا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا قَالَ وَلِذَلِكَ رَأَى. . . (1)
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض بالأصل(1/231)
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي: فَفَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْغُرَبَاءِ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَصَدُوا لِذَلِكَ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ وَالتَّسْلِيمِ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} {اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا} . قَالَ وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ شُعْبَةَ فِيمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ وَلَا يَمَسُّهُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهُ طَوِيلًا وَفِي (العتبية يَعْنِي عَنْ مَالِكٍ: يَبْدَأُ: بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّ مَوَاضِعِ التَّنَفُّلِ فِيهِ مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ الْعَمُودُ الْمُخَلَّقُ وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَالتَّقَدُّمُ إلَى الصُّفُوفِ. قَالَ: وَالتَّنَفُّلُ فِيهِ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْبُيُوتِ. فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْقَبْرَ إلَّا لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لَهُ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ لِذَلِكَ وَكَرِهَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلَّمَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا مِنْهُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْغُرَبَاءُ وَمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ لَهُ فَإِنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا إذَا قَصَدَ الرَّجُلُ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَدْعُو فِي مَسْجِدِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَلْ وَلَا أَطَالَ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْقَبْرِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِدُعَائِهِ لِنَفْسِهِ.(1/232)
وَأَمَّا دُعَاءُ الرَّسُولِ وَطَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنْهُ وَطَلَبُ شَفَاعَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ بِهِ فَكَيْفَ بِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْحِكَايَةِ الْمُنْقَطِعَةِ مِنْ قَوْلِهِ " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ " كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَفْعَلُهَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَنَقَلَهَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ إذْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْقَبْرَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ يَقُولُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْفَعْ لِي أَوْ اُدْعُ لِي أَوْ يَشْتَكِي إلَيْهِ مَصَائِبَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَوْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَرَاهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ أَوْ يَشْتَكِيَ إلَيْهِمْ الْمَصَائِبَ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ يَسْمَعُ السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَرِيبِ وَيُبَلَّغُ سَلَامَ الْبَعِيدِ. وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ حيوة بْنِ شريح الْمِصْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ قسيط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} . وَعَلَى هَذَا الْحَدِيثِ اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ(1/233)
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي الدِّينِ. وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنَّمَا يَرْوِيهَا مَنْ يَرْوِي الضِّعَافَ كالدارقطني وَالْبَزَّارِ وَغَيْرِهِمَا. [وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِيهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْكَذِبُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ - مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي} فَإِنَّ هَذَا كَذِبُهُ ظَاهِرٌ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ] (*) فَإِنَّ مَنْ زَارَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَانَ مُؤْمِنًا بِهِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ الْمُجَاهِدِينَ مَعَهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الصَّحَابَةِ بِأَعْمَالِ مَأْمُورٍ بِهَا وَاجِبَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِعَمَلِ لَيْسَ بِوَاجِبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؟ بَلْ وَلَا شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَالسَّفَرِ إلَى الْكَعْبَةِ لِلْحَجِّ فَوَاجِبٌ. فَلَوْ سَافَرَ أَحَدٌ السَّفَرَ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَافَرُوا إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ قَبْرِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 17) :
وضع الجامع رحمه الله لعبارة (- وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه -) بين شرطتين يوهم أن قول الشيخ (والكذب ظاهر عليه) راجع إلى العمري أيضا، وهذا غير صحيح، فالعمري ضعيف وليس كذاباً، والشيخ يقصد بالضعف العمري، وقصد بالكذب متن الحديث.(1/234)
أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بَلْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَظْهَرُهُمَا عَنْهُ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَالثَّانِي لَا يَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ النَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَإِتْيَانُ هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ} . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ فَعَلَ هَذَا كَوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ وَهَذَا مَالِكٌ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْظَمَهُ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَكَرَاهِيَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِيلَ لِأَنَّ الزَّائِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَزُورِ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهَا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ فَإِنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ:(1/235)
زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ.
فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ يُقْصَدُ بِهَا السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ كَمَا يُقْصَدُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدِهِمْ إذَا مَاتَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَزُورَهَا كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْبِدَعِ لِدُعَاءِ الْمَوْتَى وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ؛ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدِهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ؛ أَوْ أَنَّ الْإِقْسَامَ بِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَسُؤَالَهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ يَقْتَضِي إجَابَةَ الدُّعَاءِ فَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَارَةِ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. فَإِذَا كَانَ لَفْظُ " الزِّيَارَةِ " مُجْمَلًا يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا عُدِلَ عَنْهُ إلَى لَفْظٍ. لَا لَبْسَ فِيهِ كَلَفْظِ " السَّلَامِ " عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَوْ زِيَارَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءِ مِنْهَا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَالثَّابِتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ} هَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فَقَالَ قَبْرِي. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُبِرَ بَعْدُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ لَكَانَ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَلَكِنْ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. ثُمَّ لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ(1/236)
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ الْحُجَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَالْقِبْلَةِ فَزِيدَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَدَخَلَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينَئِذٍ وَبَنَوْا الْحَائِطَ البراني مُسَنَّمًا مُحَرَّفًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَكَمَا نُهِيَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَنُهِيَ عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَالدُّعَاءَ لَهُ. فَمَنْ قَصَدَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا فَقَدْ قَصَدَ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي سَدَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَرِيعَتَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّلَامِ الْمَشْرُوعِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ زاذان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ} رَوَاهُ النَّسَائِي وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَهَذَا فِيهِ أَنَّ سَلَامَ الْبَعِيدِ تُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِي عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ يَوْمَئِذٍ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً} . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا شريح حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ(1/237)
أَبِي ذِئْبٍ عَنْ المقبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا أُبْلِغْته} . وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا هُوَ السدي الصَّغِيرُ وَلَيْسَ بِثِقَةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الموصلي فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا وَلَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا. صَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ وَسَلَامَكُمْ يَبْلُغُنِي} . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي الْحَافِظُ فِي مُخْتَارِهِ الَّذِي(1/238)
هُوَ أَصَحُّ مِنْ صَحِيحِ الْحَاكِمِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا دَخَلْت فَسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ} .
وَمِمَّا يُوهِنُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا " وَلَمْ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَتَوَسَّلُ النَّاسُ بِشَفَاعَتِهِ وَهَذَا حَقٌّ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ لَكِنْ إذَا كَانَ النَّاسُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ طَلَبٌ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَنَظِيرُ هَذَا - لَوْ كَانَتْ الْحِكَايَةُ صَحِيحَةً - أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ قَبْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَالِكٍ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَعْلُومَةَ أَدِلَّتُهَا الشَّرْعِيَّةُ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِ مَالِكٍ وَعِظَمِ فَضِيلَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَتَمَامِ رَغْبَتِهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا؟ وَهَلْ يَأْمُرُ بِهَذَا أَوْ يَشْرَعُهُ إلَّا مُبْتَدِعٌ؟ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ يُنَاقِضُ هَذَا لَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ فِي الْحِكَايَةِ: " اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك اللَّهُ " وَالِاسْتِشْفَاعُ بِهِ(1/239)
مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ كَمَا يَسْتَشْفِعُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ {أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَهَلَكَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَنَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. فَأَنْكَرَ قَوْلَهُ " نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَخْلُوقُ بِاَللَّهِ أَوْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ شَافِعًا إلَى الْمَخْلُوقِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ " نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ " فَإِنَّهُ هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ. وَهُمْ - لَوْ كَانَتْ الْحِكَايَةُ صَحِيحَةً - إنَّمَا يَجِيئُونَ إلَيْهِ لِأَجْلِ طَلَبِ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْحِكَايَةِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الْآيَةَ وَهَؤُلَاءِ إذَا شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِذَا أَجَابَهُمْ فَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ دُعَاءٌ مِنْهُ وَشَفَاعَةٌ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِشْفَاعُ مِنْهُ طَلَبُ شَفَاعَتِهِ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ " اسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْهُ اللَّهُ فِيك " لَا يُقَالُ: فَيُشَفِّعْك اللَّهُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْرُوفُ الْكَلَامِ وَلُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ يُقَالُ: شَفَعَ فُلَانٌ فِي فُلَانٍ فَشُفِّعَ فِيهِ. فَالْمُشَفَّعُ الَّذِي يُشَفِّعُهُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ هُوَ الشَّفِيعُ الْمُسْتَشْفَعُ بِهِ.(1/240)
لَا السَّائِلُ الطَّالِبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي شَفَعَ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ لَيْسَ الْمُشَفَّعُ الَّذِي يُسْتَشْفَعُ بِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فَيُشَفِّعْهُ اللَّهُ فَيَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُشَفِّعَهُ لَا أَنْ يُشَفِّعْ طَالِبِي شَفَاعَتِهِ فَكَيْفَ يَقُولُ: وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك اللَّهُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ طَلَبَ شَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَ قَبْرِهِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِ الْقُدَمَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ذَكَرُوا حِكَايَةً عَنْ العتبي أَنَّهُ رَأَى أَعْرَابِيًّا أَتَى قَبْرَهُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ. وَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ. الَّذِينَ يُفْتَى النَّاسُ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَنْ ذَكَرَهَا لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ دُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَسْبَقَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَكَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ مَالِكٌ " لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا " قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا الْإِمَامِ كَيْفَ يَشْرَعُ دِينًا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدِ السَّلَفِ وَيَأْمُرُ الْأُمَّةَ أَنْ يَطْلُبُوا الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ - بَعْدَ مَوْتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - مِنْهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؟(1/241)
وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي فِي الْحِكَايَةِ يُشْبِهُ لَفْظَ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الشَّفَاعَةِ فِي مَعْنَى التَّوَسُّلِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِفُلَانِ وَفُلَانٍ أَيْ نَتَوَسَّلُ بِهِ. وَيَقُولُونَ لِمَنْ تَوَسَّلَ فِي دُعَائِهِ بِنَبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ " قَدْ تَشَفَّعَ بِهِ " مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَشْفَعُ بِهِ شَفَعَ لَهُ وَلَا دَعَا لَهُ بَلْ وَقَدْ يَكُونُ غَائِبًا لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ وَلَا شَفَعَ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ هُوَ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ وَلَا هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ فَإِنَّ الِاسْتِشْفَاعَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ. وَالشَّافِعُ هُوَ الَّذِي يُشَفِّعُ السَّائِلَ فَيَطْلُبُ لَهُ مَا يَطْلُبُ مِنْ الْمَسْئُولِ الْمَدْعُوِّ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ بِمَنْ لَمْ يَشْفَعْ لِلسَّائِلِ وَلَا طَلَبَ لَهُ حَاجَةً بَلْ وَقَدْ لَا يَعْلَمُ بِسُؤَالِهِ فَلَيْسَ هَذَا اسْتِشْفَاعًا لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي كَلَامِ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ: نَعَمْ هَذَا سُؤَالٌ بِهِ وَدُعَاؤُهُ لَيْسَ هُوَ اسْتِشْفَاعًا بِهِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا غَيَّرُوا اللُّغَةَ - كَمَا غَيَّرُوا الشَّرِيعَةَ - وَسَمَّوْا هَذَا اسْتِشْفَاعًا أَيْ سُؤَالًا بِالشَّافِعِ صَارُوا يَقُولُونَ " اسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعْك " أَيْ يُجِيبُ سُؤَالَك بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَضَعَهَا جَاهِلٌ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَلَيْسَ لَفْظُهَا مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ أَصْلُهَا صَحِيحًا وَيَكُونُ مَالِكٌ قَدْ نَهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ كَمَا كَانَ عُمَرُ يَنْهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِهِ وَيَكُونُ مَالِكٌ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِمَالِكِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ.(1/242)
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْشَأُ عَلَى اصْطِلَاحِ قَوْمِهِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ فَيَظُنُّ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ الصَّحَابَةِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ أَهْلُ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ. وَهَذَا وَاقِعٌ لِطَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَآخَرُونَ يَتَعَمَّدُونَ وَضْعَ أَلْفَاظِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى مَعَانِي أُخَرَ مُخَالِفَةٍ لِمَعَانِيهِمْ ثُمَّ يَنْطِقُونَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مُرِيدِينَ بِهَا مَا يَعْنُونَهُ هُمْ وَيَقُولُونَ: إنَّا مُوَافِقُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ والْإسمَاعِيليَّة وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ مِثْلِ مَنْ وَضَعَ " الْمُحْدَثَ " وَ " الْمَخْلُوقَ " وَ " الْمَصْنُوعَ " عَلَى مَا هُوَ مَعْلُولٌ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَيُسَمِّي ذَلِكَ " الْحُدُوثَ الذَّاتِيَّ " ثُمَّ يَقُولُ: نَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَهُوَ مُرَادُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْمُحْدَثِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ لُغَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ وَإِنَّمَا الْمُحْدَثُ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ يَضَعُونَ لَفْظَ " الْمَلَائِكَةِ " عَلَى مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَقُوَى النَّفْسِ. وَلَفْظَ " الْجِنِّ " وَ " الشَّيَاطِينِ " عَلَى بَعْضِ قُوَى النَّفْسِ ثُمَّ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُثْبِتُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَقَرَّ بِهِ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ.(1/243)
وَمَنْ عَرَفَ مُرَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَمُرَادَهُمْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ ذَاكَ مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ مُرَادَهُمْ بِالْعَقْلِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مُقَارِنٌ عِنْدَهُمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَزَلًا وَأَبَدًا وَأَنَّهُ مُبْدِعٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ أَوْ بِتَوَسُّطِهِ حَصَلَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَالْعَقْلُ الْفَعَّالُ عِنْدَهُمْ عَنْهُ يُصْدِرُ كُلَّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ وَيُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ رَبُّ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَلَا رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ وَلَا مَنْ هُوَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ} حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فَإِنَّ لَفْظَهُ {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ} بِنَصْبِ الْأَوَّلِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ {فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ. فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ} وَرُوِيَ {لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ} فَالْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَاطَبَ الْعَقْلَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ وَأَنَّهُ خُلِقَ قَبْلَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ لَا كُلُّ الْمَصْنُوعَاتِ. وَ " الْعَقْلُ " فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا يُرَادُ بِهِ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا يَعْقِلُ وَعُلُومٌ وَأَعْمَالٌ تَحْصُلُ بِذَلِكَ لَا يُرَادُ بِهَا قَطُّ فِي لُغَةٍ: جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ الْعَقْلِ. مَعَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ فَسَادَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ فِيهِ إلَى إثْبَاتِ النَّفْسِ الَّتِي تُفَارِقُ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ وَإِلَى إثْبَاتِ مَا تُجَرِّدُهُ النَّفْسُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ.(1/244)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ مَنْ يَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ وَيُرِيدُ مُرَادَهُمْ لَا مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ (الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا وَغَيْرِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي " اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ " حَيْثُ جَعَلَهُ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ وَلَفْظِ " الْقَلَمِ " حَيْثُ جَعَلَهُ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ وَلَفْظِ " الْمَلَكُوتِ " وَ " الْجَبَرُوتِ " وَ " الْمُلْكِ " حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَلَفْظَ " الشَّفَاعَةِ " حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ فَيْضًا يَفِيضُ مِنْ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُسْتَشْفِعِ وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ لَا يَدْرِي وَسَلَكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا مَسَالِكَ ابْنِ سِينَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ مِنْهُ لِلُغَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَفْظِ الْقَدِيمِ فَإِنَّهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وقَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} . وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَزَلْ أَوْ عَمَّا لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودُ غَيْرِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِعَدَمِ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَهُ - إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا - مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَلَفْظُ " الْمُحْدَثِ " فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ يُقَابِلُ لِلَفْظِ " الْقَدِيمِ " فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْكَلِمَةِ " فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ لُغَةِ الْعَرَبِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ(1/245)
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ} وَقَوْلِهِ {إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا} وقَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ وَلَا يُوجَدُ لَفْظُ الْكَلَامِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى. وَالنُّحَاةُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا (الِاسْمَ وَحْدَهُ (وَالْفِعْلَ (وَالْحَرْفَ كَلِمَةً ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْكَلِمَةِ الْكَلَامُ؛ فَيَظُنُّ مَنْ اعْتَادَ هَذَا أَنَّ هَذَا هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " ذَوِي الْأَرْحَامِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهِ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعَصَبَةُ وَذَوُو الْفُرُوضِ وَإِنْ شَمِلَ ذَلِكَ مَنْ لَا يَرِثُ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ اسْمًا لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا ذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَلَفْظُ " التَّوَسُّلِ " وَ " الِاسْتِشْفَاعِ " وَنَحْوِهِمَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ لُغَةِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ مَا أَوْجَبَ غَلَطَ مَنْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَلُغَتِهِمْ. وَالْعِلْمُ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مُصَدِّقٍ وَنَظَرٍ مَحْقُوقٍ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِثُبُوتِ لَفْظِهِ وَمَعْرِفَةِ دَلَالَتِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْحِكَايَةِ.(1/246)
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ رَغَّبَنَا وَحَضَّنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَأَنْ يَبْعَثَهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدَهُ. فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي شُرِعَ لَنَا أَنْ نَسْأَلَهَا اللَّهَ تَعَالَى - كَمَا شُرِعَ لَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ - هِيَ حَقٌّ لَهُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالسَّلَامَ حَقٌّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَبْتَغِيَهَا إلَيْهِ هِيَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَيْهَا إلَّا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ وَكَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ مِثْلُ تَوَسُّلِ الْأَعْمَى بِدُعَائِهِ حَتَّى رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - فَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ هُوَ وَمِنْ بَابِ قَبُولِ اللَّهِ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ فَهُوَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَشْفَعْ لَهُ. وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ تَوَسُّلَ الصَّحَابَةِ بِهِ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ بِهِ وَيَسْأَلُونَ بِهِ فَظَنَّ هَذَا مَشْرُوعًا مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ وَظَنُّوا(1/247)
أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ بَلْ وَفِي الصَّالِحِينَ وَفِيمَنْ يُظَنُّ فِيهِمْ الصَّلَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الْأَحَادِيثِ - لَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا كُتُبِ السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ الْمُعْتَمَدَةِ كَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي عُرِفَ أَنَّ فِيهَا كَثِيرًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَكْذُوبَةِ الَّتِي يَخْتَلِقُهَا الْكَذَّابُونَ بِخِلَافِ مَنْ قَدْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَلَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تُوجَدُ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ فِي السُّنَنِ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَرْوِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الهمداني وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَلْ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ؟ فَأَنْكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ وَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الْمَوْضُوعَ فِي اصْطِلَاحِ أَبِي الْفَرَجِ هُوَ الَّذِي قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ الْمُحَدِّثُ بِهِ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ بَلْ غَلِطَ فِيهِ وَلِهَذَا رَوَى فِي كِتَابِهِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَقَدْ نَازَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ بَلْ بَيَّنُوا ثُبُوتَ بَعْضِ ذَلِكَ لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.(1/248)
وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقَ الْمَصْنُوعَ الَّذِي تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ وَالْكَذِبُ كَانَ قَلِيلًا فِي السَّلَفِ.
أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَعْرُوفَةِ كَبِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ. وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَتَاهُ الْخَضِرُ فَإِنَّ خَضِرَ مُوسَى مَاتَ كَمَا بَيَّنَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْخَضِرُ الَّذِي يَأْتِي كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ جِنِّيٌّ تَصَوَّرَ بِصُورَةِ إنْسِيٍّ أَوْ إنْسِيٌّ كَذَّابٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مَعَ قَوْلِهِ أَنَا الْخَضِرُ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَكْذِبُ وَإِنَّمَا يَكْذِبُ الْجِنِّيُّ وَالْإِنْسِيُّ. وَأَنَا أَعْرَفُ مِمَّنْ أَتَاهُ الْخَضِرُ وَكَانَ جِنِّيًّا مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ أَعْلَمَ مِنْ أَنْ يَرُوجَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلْبِيسُ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَتْهُ الْجِنُّ إلَى مَكَّةَ وَذَهَبَتْ بِهِ إلَى عَرَفَاتٍ لِيَقِفَ بِهَا كَمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِكَثِيرِ مِنْ الْجُهَّالِ وَالْعُبَّادِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ تَسْرِقُ الْجِنُّ أَمْوَالَ النَّاسِ وَطَعَامَهُمْ وَتَأْتِيهِ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَلَمْ يُعْرَفْ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ بِخِلَافِ الشِّيعَةِ فَإِنَّ الْكَذِبَ مَعْرُوفٌ فِيهِمْ وَقَدْ عُرِفَ الْكَذِبُ بَعْدَ هَؤُلَاءِ فِي طَوَائِفَ.(1/249)
وَأَمَّا الْغَلَطُ فَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ قَدْ يَغْلَطُ أَحْيَانًا وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا صُنِّفَ فِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ يُعْلَمُ أَنَّهَا غَلَطٌ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ. فَالْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهَا غَلَطٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ نَفْسُهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ رَوَاهَا لِتُعْرَفَ بِخِلَافِ مَا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ؛ وَلِهَذَا نَزَّهَ أَحْمَدُ مُسْنَدَهُ عَنْ أَحَادِيثِ جَمَاعَةٍ يَرْوِي عَنْهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مِثْلِ مَشْيَخَةِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَإِنْ كَانَ أَبُو دَاوُد يَرْوِي فِي سُنَنِهِ مِنْهَا فَشَرْطُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ أَجْوَدُ مِنْ شَرْطِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ الْمُنْكَرَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي يَرْوِيهَا مَنْ يَجْمَعُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا يُصَنِّفُ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَفَضَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَفَضَائِلِ الْبِقَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَبْوَابَ فِيهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأَحَادِيثُ حَسَنَةٌ وَأَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ وَأَحَادِيثُ كَذِبٍ مَوْضُوعَةٌ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا حَسَنَةً لَكِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يُرْوَى فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَال مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ.(1/250)
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَرُوِيَ فِي فَضْلِهِ حَدِيثٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ حَقًّا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ لَكِنْ إذَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ وَرُوِيَ حَدِيثٌ فِي وَعِيدِ الْفَاعِلِ لَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ لَكِنْ فِيمَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَغَّبَ فِيهِ أَوْ رَهَّبَ مِنْهُ بِدَلِيلِ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَجْهُولِ حَالُهُ. وَهَذَا كالإسرائيليات: يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى مِنْهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيهَا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي شَرْعِنَا وَنَهَى عَنْهُ فِي شَرْعِنَا. فَأَمَّا أَنْ يُثْبِتَ شَرْعًا لَنَا بِمُجَرَّدِ الإسرائيليات الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ وَلَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَمْثَالُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيحِ وَلَا حَسَنٍ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ كَانَ فِي عُرْفِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ. وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُمْ يَنْقَسِمُ إلَى ضَعِيفٍ مَتْرُوكٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِلَى ضَعِيفٍ حَسَنٍ كَمَا أَنَّ ضَعْفَ الْإِنْسَانِ بِالْمَرَضِ يَنْقَسِمُ إلَى مَرَضٍ مَخُوفٍ يَمْنَعُ التَّبَرُّعَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِلَى ضَعِيفٍ خَفِيفٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.(1/251)
وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَسَّمَ الْحَدِيثَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ - صَحِيحٌ وَحَسَنٌ وَضَعِيفٌ - هُوَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي رُوَاتِهِ مُتَّهَمٌ وَلَيْسَ بِشَاذِّ. فَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُسَمِّيهِ أَحْمَدُ ضَعِيفًا وَيَحْتَجُّ بِهِ وَلِهَذَا مَثَّلَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ الهجري وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ - وَهُوَ السُّؤَالُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقِينَ - هِيَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الْوَاهِيَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةِ وَلَا يُوجَدُ فِي أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ مَنْ احْتَجَّ بِهَا وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي أَتَعْلَمُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَلَّتُ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمُحَمَّدِ نَبِيِّك وَبِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَبِمُوسَى نَجِيِّك وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك وَبِتَوْرَاةِ مُوسَى وَإِنْجِيلِ عِيسَى وَزَبُورِ دَاوُد وَفُرْقَانِ مُحَمَّدٍ وَبِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَيْته وَقَضَاءٍ قَضَيْته} وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ رزين بْنُ مُعَاوِيَةَ العبدري فِي جَامِعِهِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَلَمْ يَعْزُهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا إلَى كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ مَنْ صَنَّفَ فِي عَمَلِ (الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَابْنِ السُّنِّيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَاهُ الشَّيْخُ الأصبهاني فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَفِي هَذَا(1/252)
الْكِتَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كَذِبٌ مَوْضُوعَةٌ. وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الحباب عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْمُتَّصِلِ قَالَ أَبُو مُوسَى: وَرَوَاهُ مُحْرِزُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ وَكَانَ بِالرِّيِّ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ ثِقَتَانِ. قُلْت: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ كَذَّابٌ. وَقَال السَّعْدِيُّ: دَجَّالٌ كَذَّابٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ الْحَدِيثَ. وَقَالَ النَّسَائِي: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَقَالَ الدارقطني: هُوَ وَأَبُوهُ ضَعِيفَانِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي (كِتَابِ الْمَدْخَلِ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ الشيباني رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً: وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَوْضُوعَاتِ وَقَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى " هُوَ مُنْقَطِعٌ " يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ فَإِنَّ إسْنَادَهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْأُخَرَ الْمُنَاسِبَةَ لِهَذَا فِي اسْتِفْتَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَخَالَفَ فِيهِ عَامَّةَ مَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: مِنْ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ إمَّا لِتَعَمُّدِهِ الْكَذِبَ وَإِمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي ذَاكَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ(1/253)
عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَيْهِ {إنَّهُ لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمَ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْت لِي قَالَ: وَكَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لِأَنَّك لَمَّا خَلَقْتنِي بِيَدِك وَنَفَخْت فِيَّ مِنْ رُوحِك رَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى اسْمِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك. قَالَ: صَدَقْت يَا آدَمَ وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك} وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ العوفي عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْهُ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ ذَكَرْته لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ الآجري أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَقَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ التَّاجِرُ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْعُثْمَانِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ خَالِدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ؛ {مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَابَ اللَّهُ بِهَا عَلَى آدَمَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْك. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيك مَا مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ رَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى عَرْشِك: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك} . قُلْت: وَرِوَايَةُ الْحَاكِمِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَفْسَهُ قَدْ قَالَ فِي (كِتَابِ الْمَدْخَلِ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ(1/254)
رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَهَا مَنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ أَنَّ الْحَمْلَ فِيهَا عَلَيْهِ.
قُلْت: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ يَغْلَطُ كَثِيرًا ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِي وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَقْلِبُ الْأَخْبَارَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ مِنْ رَفْعِ الْمَرَاسِيلِ وَإِسْنَادِ الْمَوْقُوفِ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَأَمَّا تَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ فَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَقَالُوا: إنَّ الْحَاكِمَ يُصَحِّحُ أَحَادِيثَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ كَمَا صَحَّحَ حَدِيثَ زريب بْنِ برثملي: الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ وَصِيِّ الْمَسِيحِ وَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ البيهقي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَكَذَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مُسْتَدْرَكِهِ يُصَحِّحُهَا وَهِيَ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَوْضُوعَةٌ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْقُوفًا يَرْفَعُهُ. وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُجَرَّدِ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُ مَا يُصَحِّحُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ هُوَ فِي الْمُصَحِّحِينَ بِمَنْزِلَةِ الثِّقَةِ الَّذِي يَكْثُرُ غَلَطُهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ فِيمَنْ يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ أَضْعَفُ مِنْ تَصْحِيحِهِ بِخِلَافِ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ البستي فَإِنَّ تَصْحِيحَهُ فَوْقَ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ وَأَجَلُّ قَدْرًا وَكَذَلِكَ تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِي وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ منده وَأَمْثَالِهِمْ فِيمَنْ يُصَحِّحُ الْحَدِيثَ.(1/255)
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُونَهُ نِزَاعٌ فَهُمْ أتقن فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحَاكِمِ وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَا يَبْلُغُ تَصْحِيحُ مُسْلِمٍ مَبْلَغَ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ بَلْ كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَجَلُّ مَا صُنِّفَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ أَعْرَفِ خَلْقِ اللَّهِ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ مَعَ فِقْهِهِ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا أَعْلَم بِالْعِلَلِ مِنْهُ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْبُخَارِيِّ إذَا رَوَى حَدِيثًا اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنْ يَذْكُرَ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِذِكْرِهِ لَهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ مَا أُنْكِرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِمَّا صَحَّحَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهِ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ مَنْ نَازَعَهُ. بِخِلَافِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَإِنَّهُ نُوزِعَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِمَّا خَرَّجَهَا وَكَانَ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ مَنْ نَازَعَهُ كَمَا رَوَى فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِثَلَاثِ ركوعات وَبِأَرْبَعِ ركوعات كَمَا رَوَى أَنَّهُ صَلَّى بِرُكُوعَيْنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا بِرُكُوعَيْنِ وَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ فِيهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمَيْ كُسُوفٍ وَلَا كَانَ لَهُ إبْرَاهِيمَانِ. وَمَنْ نَقَلَ أَنَّهُ مَاتَ عَاشِرَ الشَّهْرِ فَقَدْ كَذَبَ وَكَذَلِكَ رَوَى مُسْلِمٌ {خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ} وَنَازَعَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا فَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/256)
وَالْحُجَّةُ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَأَنَّ آخِرَ مَا خَلَقَهُ هُوَ آدَمَ وَكَانَ خَلْقُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ إسْنَادٌ أَصَحُّ مِنْ هَذَا أَنَّ أَوَّلَ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَكَذَلِكَ رَوَى أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ وَأَنْ يَتَّخِذَ مُعَاوِيَةَ كَاتِبًا. وَغَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَلَكِنَّ جُمْهُورَ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا. وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي آدَمَ يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ بِغَيْرِ إسْنَادٍ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ زِيَادَاتٍ أُخَرَ كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ: وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا {أَنَّ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي - قَالَ وَيُرْوَى تَقَبَّلْ تَوْبَتِي - فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْت مُحَمَّدًا؟ قَالَ رَأَيْت فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَيُرْوَى: مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك عَلَيْك؛ فَتَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ} . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنَّ تُبْنَى عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الإسرائيليات وَنَحْوِهَا الَّتِي لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا إلَّا بِنَقْلِ(1/257)
ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ لَوْ نَقَلَهَا مِثْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ (الْمُبْتَدَأِ وَقَصَصَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ إذَا نَقَلَهَا مَنْ لَا يَنْقُلُهَا لَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا عَنْ ثِقَاتِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ بَلْ إنَّمَا يَنْقُلُهَا عَمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَجْرُوحٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِ فِيهَا اضْطِرَابًا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ. وَلَا يَنْقُلُ ذَلِكَ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ ثِقَاتِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْقُلُهُ إسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَأَمْثَالُهُ فِي (كُتُبِ الْمُبْتَدَأِ وَهَذِهِ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً عَنْ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانَتْ شَرْعًا لَهُمْ وَحِينَئِذٍ فَكَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟ وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. لَكِنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنْ نَقْلٍ ثَابِتٍ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُمْ لَا بِمَا يُرْوَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّنْعَانِي صَاحِبُ التَّفْسِيرِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُوَعِّيَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَحِفْظَ أَصْنَافِ الْعِلْمِ فَلْيَكْتُبْ هَذَا الدُّعَاءَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ أَوْ فِي صُحُفٍ قَوَارِيرَ بِعَسَلِ وَزَعْفَرَانٍ وَمَاءِ مَطَرٍ وَلْيَشْرَبْهُ عَلَى الرِّيقِ وَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَكُنْ إفْطَارُهُ عَلَيْهِ وَيَدْعُو بِهِ فِي إدْبَارِ صَلَوَاتِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّك مَسْئُولٌ لَمْ يُسْأَلْ(1/258)
مِثْلُك وَلَا يُسْأَلُ وَأَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّك وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك وَمُوسَى نَجِيِّك وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك وَوَجِيهِك} وَذَكَرَ تَمَامَ الدُّعَاءِ. وَمُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: دَجَّالٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَضَعَ عَلَى ابْنِ جريج عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا - دُونَ الصَّوْمِ - عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِي حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُوسَى بْنُ إبْرَاهِيمَ هَذَا قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ وَقَالَ الدارقطني: مَتْرُوكٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مُغَفَّلًا يُلَقَّنُ فَيَتَلَقَّنُ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِطَرِيقِ أَضْعَفَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ إسْحَاقَ الْجَوْهَرِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ الْعَلَاءِ العتبي حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَرَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْفَظَ فَلْيَصُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَلْيَكُنْ إفْطَارُهُ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ} . قُلْت: وَهَذِهِ أَسَانِيدُ مُظْلِمَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي أَمَالِيهِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي عَلَى عَادَةِ أَمْثَالِهِمْ فِي رِوَايَةِ مَا يُرْوَى فِي الْبَابِ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ ضَعِيفًا كَمَا اعْتَادَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا رَوَى بِهِ الْفَضَائِلَ وَيَجْعَلُونَ الْعُهْدَةَ(1/259)
فِي ذَلِكَ عَلَى النَّاقِلِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْعِبَادَاتِ. كَمَا يَرْوِيهِ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لِكَثْرَةِ رِوَايَتِهِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ضَعِيفَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَوَاهِيَةٌ. وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيهِ خيثمة بْنُ سُلَيْمَانَ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني فِي (فَضَائِلِ الْخُلَفَاءِ) فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَفِي أَوَّلِ (حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ) وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَمَا يَرْوِيهِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَرْوُونَ فِي تَصَانِيفِهِمْ مَا رُوِيَ مُطْلَقًا عَلَى عَادَتِهِمْ الْجَارِيَةِ؛ لِيُعْرَفَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَا لِيُحْتَجَّ بِكُلِّ مَا رُوِيَ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: غَرِيبٌ وَمُنْكَرٌ وَضَعِيفٌ؛ وَقَدْ لَا يَتَكَلَّمُ. وَهَذَا بِخِلَافِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ دِينَهُمْ؛ مِثْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ(1/260)
يَبْنُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَحَادِيثِ يَحْتَاجُونَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي مَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا وَتَمْيِيزِ رِجَالِهَا. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ؛ لِيُمَيِّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ؛ كَمَا يَفْعَلُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي وَأَبُو الْحَسَنِ الدارقطني وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَكَمَا قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ البيهقي وَأَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الزنجاني وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ بَسْطَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَلَمْ نَذْكُرْ مَنْ لَا يَرْوِي بِإِسْنَادِ - مِثْلَ كِتَابِ (وَسِيلَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ لِعُمَرِ الملا الموصلي وَكِتَابِ (الْفِرْدَوْسِ لِشَهْرَيَارَ الديلمي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ دُونَ هَؤُلَاءِ الطَّبَقَاتِ؛ وَفِيمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْأَكَاذِيبِ أَمْرٌ كَبِيرٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ؛ بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعْرِفُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ إمَّا تَعَمُّدًا مِنْ وَاضِعِهِ وَإِمَّا غَلَطًا مِنْهُ. وَفِي الْبَابِ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ. فَمِنْهَا حَدِيثُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَسَأَلُوا؛ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَمُصْعَبٌ ابْنَا الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (مُجَابِي الدُّعَاءِ وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانَ الغنوي(1/261)
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْت عَجَبًا كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ؛ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ حَدِيثِهِمْ: لِيَقُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَلْيَسْأَلْ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَعَةٍ. ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّك أَوَّلُ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك عَظِيمٌ تُرْجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ؛ أَسْأَلُك بِحُرْمَةِ وَجْهِك وَحُرْمَةِ عَرْشِك وَحُرْمَةِ نَبِيِّك أَنْ لَا تُمِيتَنِي مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلَافَةِ؛ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ. ثُمَّ قَامَ مُصْعَبٌ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْك يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ أَسْأَلُك بِقُدْرَتِك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلَّا تُمِيتَنِي مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْعِرَاقَ وَتُزَوِّجَنِي بِسُكَيْنَةِ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ؛ وَرَبَّ الْأَرْضِ ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ أَسْأَلُك بِمَا سَأَلَك بِهِ عِبَادُك الْمُطِيعُونَ لِأَمْرِك وَأَسْأَلُك بِحَقِّك عَلَى خَلْقِك وَبِحَقِّ الطَّائِفِينَ حَوْلَ عَرْشِك " إلَى آخِرِهِ.
قُلْت: وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ الَّذِي رَوَى هَذَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَذَّابٌ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَتَبْت عَنْهُ ثُمَّ حَدَّثَ بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ فَتَرَكْنَاهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: وَضَعَ حَدِيثًا عَلَى السَّابِعِ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ يَعْنِي الْمَأْمُونَ(1/262)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو زُرْعَةَ وَالدَّارَقُطْنِي: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ الجوزجاني: ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَذَّابٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ عَلَى الثِّقَاتِ. وَطَارِقُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ الثَّوْرِيَّ رَوَى عَنْهُ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ. قَالَ: فَإِنَّ طَارِقَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَجْلَانَ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ. وَقَدْ خُولِفَ فِيهَا فَرَوَاهَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ الطَّبَرَانِي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْجَرِيشِ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ السجستاني حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ مُصْعَبٌ وَعُرْوَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبْنَاءُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالُوا: تَمَنَّوْا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالَ كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غُفِرَ لَهُ ". قُلْت: وَهَذَا إسْنَادٌ خَيْرٌ مِنْ ذَاكَ الْإِسْنَادِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِيهِ سُؤَالٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ.
وَفِي الْبَابِ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ رَأَى مَنَامًا قِيلَ لَهُ فِيهِ: اُدْعُ بِكَذَا وَكَذَا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مَنْ جَمَعَ الْأَدْعِيَةَ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُ مَا رَوَاهُ(1/263)
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (مُجَابِي الدُّعَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ سَمِعْت كَثِيرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ رِفَاعَةَ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ فَجَسَّ بَطْنَهُ فَقَالَ: بِك دَاءٌ لَا يَبْرَأُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الدُّبَيْلَةُ. قَالَ فَتَحَوَّلَ الرَّجُلُ فَقَالَ: اللَّهَ اللَّهَ اللَّهَ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّك وَرَبِّي يَرْحَمُنِي مِمَّا بِي. قَالَ فَجَسَّ بَطْنَهُ فَقَالَ: قَدْ بَرِئْت مَا بِك عِلَّةٌ. قُلْت: فَهَذَا الدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَعَا بِهِ السَّلَفُ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَنْسَكِ المروذي التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ. فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُتَوَسِّلِينَ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِمُوَالَاتِهِ وَبِطَاعَتِهِ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ التَّوَسُّلَ بِذَاتِهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ يُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ مُجَرَّدُ كَوْنِ الدُّعَاءِ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَائِغٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ وَالْمَخْلُوقِينَ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْأَوْثَانِ وَالْكَنَائِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَدْعُو التَّمَاثِيلَ الَّتِي فِي الْكَنَائِسِ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةِ مُحَرَّمَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَرَضِهِمْ. فَحُصُولُ الْغَرَضِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ إبَاحَتَهُ وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مُبَاحًا(1/264)
فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ قَدْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِهِ مَنَافِعُ وَمَقَاصِدُ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَفَاسِدُهَا رَاجِحَةً عَلَى مَصَالِحِهَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ قَدْ تَكُونُ مُضِرَّةً لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ. فَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي إيجَابَهُ أَوْ اسْتِحْبَابَهُ. وَالْعِبَادَاتُ لَا تَكُونُ إلَّا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ فَلَيْسَ بِعِبَادَةِ. وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ أَمْرًا مُبَاحًا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ السُّؤَالُ بِهِ بِخِلَافِ دُعَاءِ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ وَالشَّكْوَى إلَيْهِمْ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا رَخَّصَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ فَإِنَّ {الْأَعْمَى قَدْ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِأَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ. بَلْ اُدْعُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك(1/265)
بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} فَهَذَا تَوَسُّلٌ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ: " وَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ رَسُولِهِ فِيهِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ الْمُسْتَجَابِ وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ مِنْ الْخَوَارِقِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الْعَاهَاتِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ لِهَذَا الْأَعْمَى أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ - حَدِيثُ الْأَعْمَى - قَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كالبيهقي وَغَيْرِهِ: رَوَاهُ البيهقي مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت قَالَ فادعه فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَيَقْضِيهَا لِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَقَامَ وَقَدْ أَبْصَرَ} وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه أَيْضًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ غَيْرُ الليثي هَكَذَا وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ قَالُوا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الخطمي وَهُوَ الصَّوَابُ(1/266)
وَأَيْضًا فَالتِّرْمِذِيُّ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يَسْتَوْعِبُوا لَفْظَهُ كَمَا اسْتَوْعَبَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ بَلْ رَوَوْهُ إلَى قَوْلِهِ {اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ إنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ فادعه قَالَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} . قَالَ البيهقي: رَوَيْنَاهُ فِي (كِتَابِ الدَّعَوَاتِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الخطمي. قُلْت. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة كَمَا ذَكَرَهُ البيهقي قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عبادة حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ: لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى اللَّهِ فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي وَتُشَفِّعُنِي فِيهِ وَتُشَفِّعُهُ فِيَّ قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرِئَ} .(1/267)
رَوَاهُ البيهقي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ - وَهُوَ الخطمي - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ {عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ ضَرِيرٌ يَشْتَكِي إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيُجْلَى عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيف: وَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ الْحَدِيثُ بِنَا حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . فَرِوَايَةُ شَبِيبٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي خَالَفَتْ رِوَايَةَ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ؛ فَإِنَّ فِي تِلْكَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة وَفِي هَذِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي أمامة سَهْلٍ وَفِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ وَفِي هَذِهِ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي. لَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَهُ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ الدستوائي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَفِيهِ قِصَّةٌ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ تَوَسَّلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ - إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً - رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي أمامة سَهْلِ بْنِ العتبية أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي حَاجَةٍ لَهُ وَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ فَلَقِيَ الرَّجُلُ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ(1/268)
فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي ثُمَّ اُذْكُرْ حَاجَتَك ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَك. قَالَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَعْدُ عُثْمَانَ بْنَ عفان فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَالَ: اُنْظُرْ مَا كَانَتْ لَك مِنْ حَاجَةٍ. فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ. ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَقَالَ لَهُ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيَّ حَتَّى كَلَّمْته فِيَّ: فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ {سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَجَاءَهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَتَصْبِرُ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ إلَى رَبِّي فَيُجْلِي لِي عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَمَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . قَالَ البيهقي: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ وَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ. قَالَ: وَرَوَاهُ أَيْضًا هِشَامٌ الدستوائي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي أمامة بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَمِّهِ - وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ - وَلَمْ يَذْكُرْ إسْنَادَ هَذِهِ الطُّرُقِ.(1/269)
قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِي فِي كِتَابِ (عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ - لَا التِّرْمِذِيُّ وَلَا النَّسَائِي وَلَا ابْنُ مَاجَه - مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِيهَا الزِّيَادَةُ: طَرِيقُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ. لَكِنْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ: إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت قَالَ: فادعه. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} قَالَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحبطي وَعَوْنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ {عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك(1/270)
مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فَيُجْلِي لِي عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي قَالَ عُثْمَانُ فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ وَكَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ} . قَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَشَبِيبٌ هَذَا صَدُوقٌ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَوَى لَهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ رَوَاهَا ابْنُ وَهْبٍ وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ غَلِطَ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا إذَا انْفَرَدَ عَنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ هُمْ أَحْفَظُ مِنْهُ مِثْلُ شُعْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَهِشَامٍ الدستوائي بِزِيَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ؛ لَا سِيَّمَا وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} وَأُولَئِكَ قَالُوا {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} وَمَعْنَى قَوْلِهِ " وَشَفِّعْنِي فِيهِ " أَيْ فِي دُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ لِي فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ " وَشَفِّعْهُ فِيَّ ". قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (بِالْكَامِلِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ - وَلَمْ يُصَنِّفْ فِي فَنِّهِ مِثْلُهُ -: شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ الحبطي أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِالْمَنَاكِيرِ وَحَدَّثَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِنُسْخَةِ الزُّهْرِيِّ أَحَادِيثَ مُسْتَقِيمَةً وَذَكَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ يُونُسَ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي تِجَارَةٍ إلَى مِصْرَ وَجَاءَ بِكِتَابِ صَحِيحٍ قَالَ: وَقَدْ كَتَبَهَا عَنْهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ. وَرَوَى عَنْ عَدِيٍّ حَدِيثَيْنِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبٍ هَذَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ عَنْ سَابِقِ بْنِ نَاجِيَةَ عَنْ ابْنِ سَلَامٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا رَجُلٌ فَقَالُوا إنَّ هَذَا قَدْ خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/271)
وَالثَّانِي عَنْهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ حَدِيثُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَذَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ. وَلِشَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ نُسْخَةُ الزُّهْرِيِّ عِنْدَهُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهِيَ أَحَادِيثُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ. وَحَدَّيثَي رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ اللَّذَيْنِ أَمْلَيْتُهُمَا يَرْوِيهِمَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبٍ وَكَانَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ إذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ نُسْخَةَ الزُّهْرِيِّ: لَيْسَ هُوَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ بِالْمَنَاكِيرِ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْهُ وَلَعَلَّ شَبِيبًا بِمِصْرِ فِي تِجَارَتِهِ إلَيْهَا كَتَبَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حِفْظِهِ فَيَغْلَطُ وَيَهِمُ وَأَرْجُو أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ شَبِيبٌ هَذَا الْكَذِبَ. قُلْت: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ أَنْكَرَهُمَا ابْنُ عَدِيٍّ عَلَيْهِ: رَوَاهُمَا عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثُ الْأَعْمَى رَوَاهُ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُتْقِنْ لَفْظَهُ كَمَا أَتْقَنَهُ ابْنَاهُ. وَهَذَا يُصَحِّحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْهُ وَابْنُ عَدِيٍّ أَحَالَ الْغَلَطَ عَلَيْهِ لَا عَلَى ابْنِ وَهْبٍ وَهَذَا صَحِيحٌ إنْ كَانَ قَدْ غَلَّطَ وَإِذَا كَانَ قَدْ غَلَّطَ عَلَى رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَيْنِك الْحَدِيثَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ غَلَّطَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ فَلِهَذَا لَمْ يُحِيلُوا الْغَلَطَ عَلَيْهِ.(1/272)
وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ حَافِظًا لِمَا يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخٍ؛ غَيْرَ حَافِظٍ لِمَا يَرْوِيهِ عَنْ آخَرَ: مِثْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ؛ فَإِنَّهُ يَغْلَطُ فِيهِ؛ بِخِلَافِ مَا يَرْوِيهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ. وَمِثْلُ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَغْلَطُ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ - إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ - وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمُعْجَمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ: وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الليثي الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي حَاجَةٍ لَهُ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّك عَزَّ وَجَلَّ فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي وَتَذْكُرُ حَاجَتَك وَرُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَك فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنِ عفان فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَالَ: حَاجَتُك فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا ذَكَرْت حَاجَتَك حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةَ وَقَالَ: مَا كَانَتْ لَك مِنْ حَاجَةٍ فَأْتِنَا. ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ فَقَالَ لَهُ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيَّ حَتَّى كَلَّمْته فِيَّ. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ:(1/273)
وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْته وَلَكِنْ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَتَصْبِرُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اُدْعُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ: فَوَاَللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ بِنَا الْحَدِيثُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ.} قَالَ الطَّبَرَانِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَاسْمُهُ عُمَيرُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ ثِقَةٌ تَفَرَّدَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. قُلْت والطَّبَرَانِي ذَكَرَ تَفَرُّدَهُ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ وَذَلِكَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ: يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَطَرِيقُ ابْنِ وَهْبٍ هَذِهِ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّرْ لَفْظَ الرِّوَايَةِ كَمَا حَرَّرَهَا ابْنَاهُ؛ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ الْأَعْمَى دَعَا بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى أَنَّهُ قَالَ {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ - أَوْ قَالَ - فِي نَفْسِي} . وَهَذِهِ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ وَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حِفْظِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فَلَمْ يُتْقِنْ الرِّوَايَةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خيثمة فِي تَارِيخِهِ حَدِيثَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الخطمي عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيف {أَنَّ(1/274)
رَجُلًا أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. يَا مُحَمَّدُ أَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى رَبِّي فِي رَدِّ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي وَشَفِّعْ نَبِيِّي فِي رَدِّ بَصَرِي وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ} . قَالَ ابْنُ أَبِي خيثمة: وَأَبُو جَعْفَرٍ هَذَا - الَّذِي حَدَّثَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ - اسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ شُعْبَةُ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ. قُلْت: وَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا {فَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} مِثْلُ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ وَفِيهَا زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَافْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ - أَوْ قَالَ - فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ} . وَهَذِهِ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا تُوَافِقُ قَوْلَ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ لَكِنَّ شُعْبَةَ وَرَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَدْ تَكُونُ بِالْمَعْنَى وَقَوْلُهُ {وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ} قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ عُثْمَانَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ " وَإِنْ كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ " بَلْ قَالَ " وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ". وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ بْنُ حَنِيفٍ ظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ يُدْعَى بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ؛ بَلْ بِبَعْضِهِ وَظَنَّ أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَى سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/275)
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَّمَ الْأَعْمَى أَنْ يَدْعُوَ وَأَمَرَهُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} وَإِنَّمَا يُدْعَى بِهَذَا الدُّعَاءِ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا شَافِعًا لَهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهَذَا يُنَاسِبُ شَفَاعَتَهُ وَدُعَاءَهُ لِلنَّاسِ فِي مَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ إذَا شَفَعَ لَهُمْ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ {وَشَفِّعْنِي فِيهِ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَأُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ قَالَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ} . وَسُؤَالُ الْأُمَّةِ لَهُ الْوَسِيلَةَ هُوَ دُعَاءٌ لَهُ وَهُوَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ(1/276)
لِشَفَاعَتِهِ شَفَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ الْأَعْمَى سَأَلَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِقَبُولِ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَهُوَ كَالشَّفَاعَةِ فِي الشَّفَاعَةِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ قَبُولَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ مِنْ كَرَامَةِ الرَّسُولِ عَلَى رَبِّهِ وَلِهَذَا عُدَّ هَذَا مِنْ آيَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ؛ فَهُوَ كَشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْخَلْقِ وَلِهَذَا أَمَرَ طَالِبَ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ {فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ} بِخِلَافِ قَوْلِهِ " وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي " فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ الْغَرِيبِ. وَقَوْلُهُ {وَشَفِّعْنِي فِيهِ} رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ رَجُلَانِ جَلِيلَانِ: عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَرَوْحُ بْنُ عبادة. وَشُعْبَةُ أَجَلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ وَمِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ: التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَيَّارٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ رَوْحِ بْنِ عبادة عَنْ شُعْبَةَ فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَحْفَظَ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ. مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ {وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي} إنْ كَانَ مَحْفُوظًا مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا لِنَفْسِهِ مَعَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَدْعُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَائِلًا مُجَرَّدًا كَسَائِرِ السَّائِلِينَ. وَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا شَفَاعَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ الشَّفَاعَةُ إذَا كَانَ هُنَاكَ اثْنَانِ(1/277)
يَطْلُبَانِ أَمْرًا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا شَفِيعًا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ الطَّالِبِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يَشْفَعْ غَيْرُهُ. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا عِدَّةُ عِلَلٍ: انْفِرَادُ هَذَا بِهَا عَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَحْفَظُ مِنْهُ وَإِعْرَاضُ أَهْلِ السُّنَنِ عَنْهَا وَاضْطِرَابُ لَفْظِهَا وَأَنَّ رَاوِيَهَا عُرِفَ لَهُ - عَنْ رَوْحٍ هَذَا - أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ فِي كَوْنِهَا ثَابِتَةً فَلَا حُجَّةَ فِيهَا إذْ الِاعْتِبَارُ بِمَا رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا فَهِمَهُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي رَوَاهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَهِمَهُ بَلْ عَلَى خِلَافِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَاحِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا قَالَ: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِيهِ - مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْعُ لَهُ - كَانَ هَذَا كَلَامًا بَاطِلًا؛ مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حَنِيفٍ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَقُولَ فَشَفِّعْهُ فِيَّ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَلَى وَجْهِهِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَعْضِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةٌ وَلَا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ شَفَاعَةٌ؛ فَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ " فَشَفِّعْهُ فِيَّ " لَكَانَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عُثْمَانُ. وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ شَرِيعَةٌ كَسَائِرِ مَا يُنْقَلُ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ الْإِبَاحَاتِ أَوْ الْإِيجَابَاتِ أَوْ التَّحْرِيمَاتِ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ مِنْ(1/278)
الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ - وَكَانَ مَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُهُ لَا يُوَافِقُهُ - لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ سُنَّةً يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهَا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَمِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِثْلَ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُدْخِلُ الْمَاءَ فِي عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَيَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْعَضُدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَيَقُولُ: مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عُنُقَهُ وَيَقُولُ هُوَ مَوْضِعُ الْغُلِّ. فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعًا لَهُمَا فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا: سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ هَكَذَا. وَالْوُضُوءُ الثَّابِتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ وَلَا غَسْلُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَلَا مَسْحُ الْعُنُقِ وَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ. بَلْ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَ مُدْرَجًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ} وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ وَالسَّاقِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَسْلَ الْعَضُدِ مِنْ إطَالَةِ الْغُرَّةِ وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ الْغُرَّةَ فِي الْوَجْهِ لَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَإِنَّمَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْحَجْلَةُ. وَالْغُرَّةُ لَا يُمْكِنُ إطَالَتُهَا فَإِنَّ الْوَجْهَ(1/279)
يُغْسَلُ كُلُّهُ لَا يُغْسَلُ الرَّأْسُ وَلَا غُرَّةَ فِي الرَّأْسِ وَالْحَجْلَةُ لَا يُسْتَحَبُّ إطَالَتُهَا وَإِطَالَتُهَا مُثْلَةٌ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ مَوَاضِعَ سَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْزِلَ مَوَاضِعَ مَنْزِلِهِ وَيَتَوَضَّأَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ وَيَصُبَّ فَضْلَ مَائِهِ عَلَى شَجَرَةٍ صَبَّ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَرَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ. وَلَوْ رَأَوْهُ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلُوهُ كَمَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ مُتَابَعَتَهُ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ شَرَعَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَإِذَا قَصَدَ تَخْصِيصَ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ بِالْعِبَادَةِ خَصَّصْنَاهُ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ يَقْصِدُ أَنْ يَطُوفَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَأَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَأَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ وَكَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ أُسْطُوَانَةِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَقَصَدَ الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ هُنَاكَ وَكَذَلِكَ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ - مِثْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِمَكَانِ وَيُصَلِّيَ فِيهِ لِكَوْنِهِ نَزَلَهُ لَا قَصْدًا لِتَخْصِيصِهِ بِهِ بِالصَّلَاةِ وَالنُّزُولِ فِيهِ - فَإِذَا قَصَدْنَا تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ النُّزُولِ لَمْ نَكُنْ مُتَّبَعِينَ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي(1/280)
كَانَ يَنْهَى عَنْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ التيمي عَنْ الْمَعْرُور (1) بْنِ سويد قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي سَفَرٍ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى مَكَانٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمْرُ: إنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ فَاِتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا فَمَنْ عَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ بَلْ صَلَّى فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِهِ رَأَى عُمَرُ أَنَّ مُشَارَكَتَهُ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لَهُ فِي قَصْدِهِ لَيْسَ مُتَابَعَةً بَلْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي هَلَكُوا بِهَا وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُتَشَبِّهٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّورَةِ وَمُتَشَبِّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي السُّنَّةِ أَبْلَغُ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فِي صُورَةِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ: هَلْ فَعَلَهَا اسْتِحْبَابًا أَوْ لِحَاجَةِ عَارِضَةٍ تَنَازَعُوا فِيهَا وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِالْمُحَصَّبِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مَنْ مِنًى لَمَّا اشْتَبَهَ: هَلْ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ سُنَّةً؟ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا وَضْعُ ابْنِ عُمَرَ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيفُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَمْرِو بْنِ زاذان بِالْكُوفَةِ فَإِنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) في المطبوعة " المعروف " بدل " المعرور " وهو خطأ(1/281)
مِمَّا يَفْعَلُهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ؛ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِمَّا سَاغَ فِيهِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ أَوْ مِمَّا لَا يُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ سَنَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ أَوْ يُقَالُ فِي التَّعْرِيفِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَحْيَانًا لِعَارِضِ إذَا لَمْ يُجْعَلْ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَهَكَذَا يَقُولُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: تَارَةً يَكْرَهُونَهُ وَتَارَةً يُسَوِّغُونَ فِيهِ الِاجْتِهَادَ وَتَارَةً يُرَخِّصُونَ فِيهِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً وَلَا يَقُولُ عَالِمٌ بِالسُّنَّةِ: إنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ فِيمَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسُنَّ وَلَا أَنْ يَشْرَعَ؛ وَمَا سَنَّهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فَإِنَّمَا سَنُّوهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مِنْ سُنَنِهِ وَلَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَاجِبًا إلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَلَا حَرَامًا إلَّا مَا حَرَّمَهُ وَلَا مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا اسْتَحَبَّهُ وَلَا مَكْرُوهًا إلَّا مَا كَرِهَهُ وَلَا مُبَاحًا إلَّا مَا أَبَاحَهُ. وَهَكَذَا فِي الْإِبَاحَاتِ كَمَا اسْتَبَاحَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْلَ الْبَرْدِ وَهُوَ صَائِمٌ وَاسْتَبَاحَ حُذَيْفَةُ السَّحُورَ بَعْدَ ظُهُورِ الضَّوْءِ الْمُنْتَشِرِ حَتَّى قِيلَ هُوَ النَّهَارُ إلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ. وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فَوَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ الْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ مِثْلُ كَرَاهَةِ عُمَرَ وَابْنِهِ لِلطِّيبِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَكَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ أَوْ التَّمَتُّعَ مُطْلَقًا؛(1/282)
أَوْ رَأَى تَقْدِيرَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِحَدِّ حَدَّهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْصُرُ بِدُونِ ذَلِكَ؛ أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ فِي السَّفَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَلْمَانَ: إنَّ الرِّيقَ نَجِسٌ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إنَّ الْكِتَابِيَّةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَتَوْرِيثُ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ لِلْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَمَنْعُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْمُفَوَّضَةِ: إنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ: إنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ بَطَلَ إحْرَامُهُ وَفُعِلَ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْحَلَالِ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: لَيْسَ عَلَيْهَا لُزُومُ الْمَنْزِلِ وَقَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فَلَا يَكُونُ شَرِيعَةً لِلْأُمَّةِ إلَّا مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ " إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ " فَإِنَّمَا قَالَهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عُرِفَ نَصٌّ يُخَالِفُهُ ثُمَّ إذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ كَانَ إقْرَارًا عَلَى الْقَوْلِ فَقَدْ يُقَالُ " هَذَا إجْمَاعٌ إقراري " إذَا عُرِفَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى بَاطِلٍ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ فَهَذَا إنْ عُرِفَ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ فَقَدْ يُقَالُ " هُوَ حُجَّةٌ ".(1/283)
وَأَمَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ هَلْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ أَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَجْزِمْ بِأَحَدِهِمَا وَمَتَى كانت السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَتْ الْحُجَّةُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِيمَا يُخَالِفُهَا بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مِنْ الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يُتَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا لَهُ وَلَا شَافِعًا فِيهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ وَأَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَرَوْا هَذَا مَشْرُوعًا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ يُشْرَعُ فِي حَيَاتِهِ بَلْ كَانُوا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي حَيَاتِهِ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ. بَلْ قَالَ عُمَرُ فِي دُعَائِهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ الثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الْمَشْهُورِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمْ الْجَدْبُ حَتَّى حَلَفَ عُمَرُ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا حَتَّى يُخْصَبَ النَّاسُ ثُمَّ لَمَّا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " فَيُسْقَوْنَ. وَهَذَا دُعَاءٌ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مَعَ شُهْرَتِهِ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرَ الإجماعات الإقرارية. وَدَعَا بِمِثْلِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا اسْتَسْقَى بِالنَّاسِ. فَلَوْ كَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَتَوَسُّلِهِمْ بِهِ فِي حَيَاتِهِ لَقَالُوا: كَيْفَ نَتَوَسَّلُ بِمِثْلِ الْعَبَّاسِ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِمَا؟ وَنَعْدِلُ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ(1/284)
وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فِي حَيَاتِهِ إنَّمَا تَوَسَّلُوا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ لَا بِذَاتِهِ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى حُجَّةٌ لِعُمَرِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ الْأَعْمَى أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ لَا بِذَاتِهِ وَقَالَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ: {قُلْ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} . وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَاتِهِ لَا بِشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بَلْ بِبَعْضِهِ وَتَرَكَ سَائِرَهُ الْمُتَضَمِّنَ لِلتَّوَسُّلِ بِشَفَاعَتِهِ كَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الْمُوَافِقَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُخَالِفُ لِعُمَرِ مَحْجُوجًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِمَّا يُسَمَّى " تَوَسُّلًا " فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ السُّؤَالُ بِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثَابِتًا لَا فِي الْإِقْسَامِ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ. وَلَا فِي الْإِقْسَامِ أَوْ السُّؤَالِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْعُلَمَاءِ مَنْ سَوَّغَهُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ نَهَى(1/285)
عَنْهُ فَتَكُونُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيُرَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبْدِي كُلُّ وَاحِدٍ حُجَّتَهُ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْعُقُوبَاتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْمُعَاقِبُ عَلَى ذَلِكَ مُعْتَدٍ جَاهِلٌ ظَالِمٌ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا قَدْ قَالَ مَا قَالَتْ الْعُلَمَاءُ وَالْمُنْكِرُ عَلَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ نَقْلٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ؛ لَا بِالْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ كَمَا سَبَقَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَنْذِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا لِنَبِيِّ وَلَا لِغَيْرِ نَبِيٍّ وَأَنَّ هَذَا النَّذْرَ شِرْكٌ لَا يُوَفِّي بِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ نَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِهَذِهِ الْيَمِينِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَا يُقْسِمَ بِهَا عَلَى مَخْلُوقٍ فَكَيْفَ يُقْسِمُ بِهَا عَلَى الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ؟ . وَأَمَّا السُّؤَالُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إقْسَامٍ بِهِ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا مَنَعَ مِنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَجَابُ بِهِ الدُّعَاءُ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا(1/286)
وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرَعْ هَذَا لِأُمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً وَطَاعَةً وَلَا سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي هَذَا أَوْ فِي هَذَا فَهُوَ ضَالٌّ وَكَانَتْ بِدْعَتُهُ مِنْ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا اُسْتُقْرِئَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سُؤَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ لَا يُنَاسِبُ إجَابَةَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ كَالسُّؤَالِ بِالْكَعْبَةِ وَالطُّورِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا كَمَا أَنَّ الْإِقْسَامَ بِهَا لَيْسَ مَشْرُوعًا بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْلِفَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَسْأَلُهُ بِنَفْسِ مَخْلُوقٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْأَلُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَاسِبُ إجَابَةَ الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. لَكِنْ قَدْ رُوِيَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ آثَارٌ وَأَقْوَالٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ ثَابِتٌ بَلْ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ. وَأَمَّا النَّقْلُ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً فَبَعْضُهُ ثَابِتٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِثَابِتِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه وَفِيهِ: {بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ(1/287)
مَمْشَايَ هَذَا} رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ فضيل بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الصالحية عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَفْظُهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقَّ الْعَابِدِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ حَقٌّ أَحَقَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ فِي الْغَارِ بِأَعْمَالِهِمْ: فَإِنَّهُ سَأَلَهُ هَذَا بِبِرِّهِ الْعَظِيمِ لِوَالِدَيْهِ؛ وَسَأَلَهُ هَذَا بِعِفَّتِهِ الْعَظِيمَةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ؛ وَسَأَلَهُ هَذَا بِأَدَائِهِ الْعَظِيمِ لِلْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَوَعَدَ الْجَزَاءَ لِأَصْحَابِهَا فَصَارَ هَذَا كَمَا حَكَاهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ. {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ(1/288)
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي السَّحَرِ: اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْت وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْت وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي. وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ السُّؤَالُ لَهُ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ أَوْ مُبَاحًا لَا مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مُبَاحٌ فَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْن مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ أَوْ يُقَالَ: بَلْ يَشْرَعُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ أَوْ بِبَعْضِهَا. فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مُبَاحٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعِهَا: لَزِمَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. فَإِنْ قَالَ: بَلْ يَسْأَلُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَقْسَمَ بِهَا فِي كِتَابِهِ لَزِمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَسْأَلَ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ وَيَسْأَلَ بِالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - وَيَسْأَلَ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(1/289)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - وَيَسْأَلَ وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِالصَّافَّاتِ صَفًّا وَسَائِرِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ. فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَذَكَرُوا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ شِرْكٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِهَا: لَزِمَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ بِكُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَبِكُلِّ نَفْسٍ أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا وَيَسْأَلَهُ بِالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَيَسْأَلَهُ بِالْبَلَدِ الْأَمِينِ مَكَّةَ وَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ مِنْ دُونِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّؤَالَ لِلَّهِ بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ الْإِقْسَامَ عَلَيْهِ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَمِمَّا يَظْهَرُ قُبْحُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِقْسَامِ وَالْعَزَائِمِ الَّتِي تُكْتَبُ فِي(1/290)
الحروز وَالْهَيَاكِلِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الطرقية وَالْمُعَزِّمُونَ؛ بَلْ وَيُقَالُ: إذَا جَازَ السُّؤَالُ وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِهَا فَعَلَى الْمَخْلُوقَاتِ أَوْلَى فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْعَزَائِمُ وَالْإِقْسَامُ الَّتِي يُقْسَمُ بِهَا عَلَى الْجِنِّ مَشْرُوعَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ وَالْخُرُوجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَمِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ. وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ أَنَا أَسْأَلُهُ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْهِ بِمُعَظِّمِ دُونِ مُعَظِّمٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إمَّا الْأَنْبِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ أَوْ نَبِيٌّ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ الْحَلِفَ بِذَلِكَ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ. قِيلَ لَهُ: بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فَكُلُّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْهَا نِدًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْبَدُ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْشَى وَلَا يُتَّقَى وَلَا يُصَامُ لَهُ وَلَا يُسْجَدُ لَهُ وَلَا يُرْغَبُ إلَيْهِ وَلَا يُقْسَمُ بِمَخْلُوقِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَقَالَ {لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ} وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} .
فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَبِيٍّ وَنَبِيٍّ. وَهَذَا كَمَا قَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَمِّ الشِّرْكِ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُعَظَّمَةً. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ(1/291)
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ عِبَادِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَلَمْ يَأْمُرْ أَنْ يُخْشَى مَخْلُوقٌ وَلَا يُتَّقَى مَخْلُوقٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَرْضَوْا بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَقُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فَذَكَرَ(1/292)
الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْأَمْوَالُ الْمُشْتَرَكَةُ لَهُ كَمَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا وَهُوَ مِقْدَارُ حَقِّهِ لَا يَطْلُبُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَلَمْ يَقُلْ " وَرَسُولُهُ " فَإِنَّ الحسب هُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ هُوَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ كَافٍ لِلرَّسُولِ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَاَللَّهُ كَافِيهِ وَهَادِيهِ وَنَاصِرُهُ وَرَازِقُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فَذَكَرَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَكِنْ وَسَّطَهُ بِذِكْرِ الْفَضْلِ فَإِنَّ الْفَضْلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سَوَّى بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدِ مِنْ(1/293)
الْمَخْلُوقِينَ - سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا - أَنْ يُقْسِمَ بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْغَبَ إلَيْهِ وَلَا يَخْشَى وَلَا يَتَّقِيَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فَقَدْ تَهَدَّدَ سُبْحَانَهُ مَنْ دَعَا شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ مَعَ اللَّهِ وَلَا شِرْكًا فِي مُلْكِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَوْنٌ وَلَا ظَهِيرٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَقَطَعَ تَعَلُّقَ الْقُلُوبِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَعِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَلَمْ يُبْقِ إلَّا الشَّفَاعَةَ وَهِيَ حَقٌّ؛ لَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَهَكَذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إذَا أَتَى النَّاسُ آدَمَ وَأُولِي الْعَزْمِ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَيَرُدَّهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الَّذِي بَعْدَهُ إلَى أَنْ يَأْتُوا الْمَسِيحَ فَيَقُولُ لَهُمْ: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْته خَرَرْت سَاجِدًا وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ لِي: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ - قَالَ - فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. فَبَيَّنَ الْمَسِيحُ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؛ وَبَيَّنَ مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَوْجَهُ الشُّفَعَاءِ(1/294)
وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْجُدُ وَيَحْمَدُ لَا يَبْدَأُ بِالشَّفَاعَةِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَيُقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَك وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَذَكَرَ أَنَّ رَبَّهُ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ هُوَ الَّذِي يُكْرِمُ الشَّفِيعَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَالشَّفِيعُ لَا يَشْفَعُ إلَّا فِيمَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ يَحُدُّ لِلشَّفِيعِ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. فَالْأَمْرُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَأَوْجَهُ الشُّفَعَاءِ وَأَفْضَلُهُمْ هُوَ عِنْدَهُ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَإِذَا كَانَ الْإِقْسَامُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَخَشْيَتُهُ وَتَقْوَاهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي اشْتَرَكَتْ الْمَخْلُوقَاتُ فِيهَا فَلَيْسَ لِمَخْلُوقِ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ. فَسُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقَاتِ: إنْ كَانَ بِمَا أَقْسَمَ بِهِ وَعَظَّمَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَسُوغُ السُّؤَالُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِغًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُعَظِّمٍ وَمُعَظِّمٍ؛ كَتَفْرِيقِ مَنْ فَرَّقَ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَكَمَا أَنَّ هَذَا فَرْقٌ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ.
وَلَوْ فَرَّقَ مُفَرِّقٌ بَيْنَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ قِيلَ لَهُ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَيُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِثْلَ مُنَكَّر وَنَكِيرٍ وَالْحُورِ(1/295)
الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَوْنِهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا؟ أَمْ يَجُوزُ السُّؤَالُ بِهَا كَذَلِكَ؟ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ السُّؤَالَ بِالْأَسْبَابِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَسْئُولُ بِهِ سَبَبًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّؤَالِ بِمَخْلُوقِ وَمَخْلُوقٍ كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَسَمِ بِمَخْلُوقِ وَمَخْلُوقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ: سَوْفَ يُبْعَثُ هَذَا النَّبِيُّ وَنُقَاتِلُكُمْ مَعَهُ فَنَقْتُلُكُمْ؛ لَمْ يَكُونُوا يُقْسِمُونَ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَلَا يَسْأَلُونَ بِهِ؛ أَوْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ لِنَتَّبِعَهُ وَنَقْتُلَ هَؤُلَاءِ مَعَهُ. هَذَا هُوَ النَّقْلُ الثَّابِتُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ وَهُوَ طَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ؛ فَطَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ بِهِ هُوَ أَنْ يُبْعَثَ فَيُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُ فَبِهَذَا يُنْصَرُونَ لَيْسَ هُوَ بِإِقْسَامِهِمْ بِهِ وَسُؤَالِهِمْ بِهِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا إذَا سَأَلُوا أَوْ أَقْسَمُوا بِهِ نُصِرُوا؛ وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَرَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَجَاهَدَ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ بِهِ أَوْ يَسْأَلُونَ بِهِ فَهُوَ نَقْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلنُّقُولِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَفِي كِتَابِ (الِاسْتِغَاثَةِ(1/296)
الْكَبِيرِ. وَ (كُتُبُ السِّيَرِ وَ (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَ (التَّفْسِيرُ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْيَهُودُ إذَا اسْتَنْصَرُوا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نَغْلِبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قتادة الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: مِمَّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ - مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُدَاهُ - مَا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالٍ يَهُودٍ وَكُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ؛ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا: قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ - كَثِيرًا مَا كُنَّا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ - فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللَّهِ وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إلَّا هَذَا وَهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السُّؤَالُ بِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ ذَكَرُوا الْإِخْبَارَ بِهِ أَوْ سُؤَالَ اللَّهِ أَنْ يَبْعَثَهُ؛ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رزين عَنْ الضَّحَّاكِ(1/297)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: يَسْتَظْهِرُونَ؛ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ يَكْذِبُونَ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُ سَيَأْتِي نَبِيٌّ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ - أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ودَاوُد بْنُ سَلَمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَا بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مُشْكِمٍ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِاَلَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَتْ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا(1/298)
وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ يَهُودَ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ بِسُكَيْنَةِ فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ فَعَاذَتْ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا آخِرَ الزَّمَانِ إلَّا نَصَرْتنَا عَلَيْهِمْ فَكَانُوا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ هَزَمُوا غطفان. فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَّا إخْرَاجِهِ. وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ هَارُونَ مِنْ أَضْعَفِ النَّاسِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ مَتْرُوكٌ؛ بَلْ كَذَّابٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَقِّهِ. قُلْت: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَتِهَا وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} إنَّمَا نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ فِي الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْمَدِينَةِ أَوَّلًا كَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَهُمْ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ حَارَبَهُمْ(1/299)
فَحَارَبَ أَوَّلًا بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ النَّضِيرِ - وَفِيهِمْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ - ثُمَّ قُرَيْظَةَ عَامَ الْخَنْدَقِ فَكَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ كالبيهقي؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ لَمْ يُحْسِنْ كَيْفَ يَكْذِبُ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ انْتِصَارَ الْيَهُودِ عَلَى غطفان لَمَّا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ هَذَا الْكَذَّابِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا وَقَعَ لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي الصَّادِقِينَ عَلَى نَقْلِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَوْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي السُّؤَالُ بِهِ وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا لَمْ يَثْبُتْ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَرْعًا لَنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ سُجُودِ إخْوَةِ يُوسُفَ وَأَبَوَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وَنَحْنُ قَدْ نُهِينَا عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَفْظُ الْآيَةِ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وَالِاسْتِفْتَاحُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ أَيْ بِدُعَائِهِمْ كَمَا قَالَ هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِصَلَاتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟} . وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَطْلُبُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِأَنْ يُعَجِّلَ بَعْثَ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَيْهِمْ لِيَنْتَصِرُوا بِهِ عَلَيْهِمْ؛ لَا لِأَنَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ وَسَأَلُوا بِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى(1/300)
الْكَافِرِينَ} فَلَوْ لَمْ تَرِدْ الْآثَارُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ؟ . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ شَاذٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا غَلَبَتْ الْعَرَبَ بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ مَعَهُمْ وَكَانُوا يُحَالِفُونَ الْعَرَبَ فَيُحَالِفُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقًا كَمَا كَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ وَكَانَتْ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ عَلَى الْعَرَبِ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ الْمَعْرُوفُ خِلَافُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . فَالْيَهُودُ - مِنْ حِينِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ - لَمْ يَكُونُوا بِمُجَرَّدِهِمْ يَنْتَصِرُونَ لَا عَلَى الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالذِّلَّةُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ(1/301)
لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يُقْسِمُونَ بِذَاتِهِ؛ بَلْ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِطَاعَتِهِ أَوْ بِشَفَاعَتِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي دُعَاءِ الْمَخْلُوقِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَوْتَى وَسُؤَالِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ وَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .(1/302)
وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا وَأَنْ يُتَّخَذَ عِيدًا وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ {: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ: {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: {لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ. بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} . {وَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وَهَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ {أَنَّ مُنَافِقًا كَانَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُومُوا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ {إنَّ مَنْ كَانَ(1/303)
قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ غَيْرِهِمَا - أَنَّهُ قَالَ: {لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَأْتِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَسْجِدَ فَلْيَأْتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ {لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ} ذَكَرَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ فِي مَبْسُوطِهِ. وَلَوْ حَلَفَ حَالِفٌ بِحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَلِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ وَلِلْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ وَلِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حَقٌّ. فَحَقُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَمِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَرْغَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا: لَا فِي مَحَبَّتِهِ وَلَا خَشْيَتِهِ وَلَا دُعَائِهِ وَلَا الِاسْتِعَانَةِ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو نِدًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ دَخَلَ النَّارَ} {وَسُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك} . {وَقِيلَ لَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ} .(1/304)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُخَوِّفُونَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَاكَ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} } . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .(1/305)
فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَخْشَى إلَّا اللَّهَ وَلَا يَتَّقِي إلَّا اللَّهَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} مَعَ جَعْلِهِ الْفَضْلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهُوَ تَعَالَى وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَ: قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ حِينَ {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.(1/306)
فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ لِلرَّسُولِ وَتَعْزِيرُهُ نَصْرُهُ وَمَنْعُهُ وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْعِبَادَةُ هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ: فَلَا يُصَلَّى إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُصَامُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بَنَاهَا أَنْبِيَاءُ اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا يُنْذَرُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُحْلَفُ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَغَاثُ إلَّا بِاَللَّهِ. وَأَمَّا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ(1/307)
الْمَخْلُوقَاتِ فَلَمْ يَجْعَلْ غَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادِ وَاسِطَةً فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ كَمَا جَعَلَ الرُّسُلَ وَاسِطَةً فِي التَّبْلِيغِ بَلْ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ يَسْتَقِلُّ بِإِبْدَاعِ شَيْءٍ بَلْ لَا بُدَّ لِلسَّبَبِ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ تُعَاوِنُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الْمُعَارِضِ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرَّسُولَ وَحْدَهُ كَانَ وَاسِطَةً فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ إلَى عِبَادِهِ.
وَأَمَّا جَعْلُ الْهُدَى فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ وَشَفَاعَتُهُمْ هُوَ سَبَبٌ يَنْفَعُ إذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَحَلَّ قَابِلًا لَهُ وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمْ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَخَبَرِهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُمْ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ وَنُطِيعَهُمْ فِيمَا أَوْجَبُوا وَأَمَرُوا وَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَمَنْ سَبَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا مُبَاحَ الدَّمِ. وَإِذَا تَكَلَّمْنَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ التَّوْحِيدِ بَيَّنَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ خَصَائِصَ: فَلَا يُشْرَكُ بِهِمْ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِمْ كَمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ وَلَا يُقْسَمُ(1/308)
عَلَى اللَّهِ بِهِمْ وَلَا يُتَوَسَّلُ بِذَوَاتِهِمْ وَإِنَّمَا يُتَوَسَّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِمَحَبَّتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَتَعْزِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُمْ وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلُوهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ.
وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ كَحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إلَى الْغَارِ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ لِيُجِيبَ دُعَاءَهُمْ وَيُفَرِّجَ كَرْبَتَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى حُصُولِ ثَوَابِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْوَسِيلَةُ التَّامَّةُ إلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِثْلُ هَذَا كَقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ الْإِيمَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَيَدْعُو وَيَشْفَعُ كَمَا كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَا يَطْلُبُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَأْتُونَ آدَمَ وَنُوحًا ثُمَّ الْخَلِيلَ ثُمَّ(1/309)
مُوسَى الْكَلِيمَ ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ يَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّوَسُّلُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْأَعْمَى الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ وَذِكْرُهُ فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيَقُولَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى قَبُولَ شَفَاعَتِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ وَشَفَاعَةِ الرَّسُولِ - وَالرَّسُولُ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَمْ يَشْفَعْ فِيهِ - فَهَذَا تَوَسُّلٌ بِمَا لَمْ يُوجَدْ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَعَ فِيهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقْتَ الِاسْتِسْقَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى مَعَ دُعَاءِ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُمْ اسْتَشْفَعُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَكُنْ الْعَبَّاسُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي دَعَا لَهُمْ فَصَارَ التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ وَالتَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ مَعَ دُعَاءِ الْمُتَوَسِّلِ وَسُؤَالِهِ وَلَا يَكُونُ بِدُونِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كُلُّهَا مَشْرُوعَةٌ لَا يُنَازِعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ وَهُمَا: تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ: وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ لَا تَجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَلَا تُحِبُّ مَخْلُوقًا كَمَا تُحِبُّ اللَّهَ وَلَا تَرْجُوهُ كَمَا تَرْجُو اللَّهَ وَلَا تَخْشَاهُ كَمَا تَخْشَى اللَّهَ وَمَنْ سَوَّى(1/310)
بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِاَللَّهِ وَهُوَ مِنْ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَقَدْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قَالَ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فَصَارُوا مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوهُمْ كَحُبِّهِ لَا أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا كَخَلْقِهِ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ صَاحِبُ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . (الْأَصْلُ الثَّانِي أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ لَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِوَاجِبِ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَالْمُبَاحُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّاعَةُ دَخَلَ فِي ذَلِكَ.(1/311)
وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ فَمَنْ دَعَا الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ وَاسْتَغَاثَ بِهِمْ - مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا اسْتِحْبَابٍ - كَانَ مُبْتَدِعًا فِي الدِّينِ مُشْرِكًا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِينَ أَوْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِالْمَخْلُوقِينَ كَانَ مُبْتَدِعًا بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَإِنْ ذَمَّ مَنْ خَالَفَهُ وَسَعَى فِي عُقُوبَتِهِ كَانَ ظَالِمًا جَاهِلًا مُعْتَدِيًا. وَإِنْ حَكَمَ بِذَلِكَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَانَ حُكْمُهُ مَنْقُوضًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَيُعَاقَبَ عَلَيْهِ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى أَنْ يُنَفَّذَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَيُعَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ لَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مُجَلَّدَاتٍ مِنْ جُمْلَتِهَا مُصَنَّفٌ ذَكَرْنَا فِيهِ قَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحُكَّامِ وَمَا يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ. وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مُفْرَدٌ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ لَا يَحْسُنُ إيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فُصُولِهِ هَاهُنَا؛ لِإِفْرَادِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ وَسَيَأْتِي إيرَادُ مَا اُخْتُصِرَ مِنْهُ وَحُرِّرَتْ فُصُولُهُ فِي ضِمْنِ أَوْرَاقٍ مُفْرَدَةٍ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمُتَأَمِّلُ لِمَزِيدِ الْفَائِدَةِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُهِمِّ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَكُنْت وَأَنَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ إحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ قَدْ اُسْتُفْتِيت عَنْ(1/312)
التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبْت فِي ذَلِكَ جَوَابًا مَبْسُوطًا وَقَدْ أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ - الْمُتَعَلِّقَةَ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ - كُلَّمَا تَنَوَّعَ بَيَانُهَا وَوَضَحَتْ عِبَارَاتُهَا كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَصُورَةُ السُّؤَالِ:
الْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنْ يُبَيِّنُوا مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَصُورَةُ الْجَوَابِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ النَّاسُ ذَلِكَ وَبَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ. ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَاسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَنُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَشْفَعُ أَيْضًا لِعُمُومِ الْخُلُقِ. فَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَاتٌ يَخْتَصُّ بِهَا لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا أَحَدٌ وَشَفَاعَاتٌ يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَكِنْ مَا لَهُ فِيهَا أَفْضَلُ مِمَّا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ الَّتِي مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ بَسْطِهِ وَمِنْ ذَلِكَ " الْمَقَامُ(1/313)
الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِمَّا يَكْثُرُ عَدَدُهُ.
وَأَمَّا الوعيدية مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الشَّفَاعَةَ إنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي رَفْعِ بَعْضِ الدَّرَجَاتِ وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ الشَّفَاعَةَ مُطْلَقًا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِحَضْرَتِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " فَيُسْقَوْنَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرْت قَوْلَ الشَّاعِرِ - وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ - وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ وَالتَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِشْفَاعِ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ وَيَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَ دُعَاءَهُ وَشَفَاعَتَهُ وَنَحْنُ نُقَدِّمُهُ بَيْنَ أَيْدِينَا شَافِعًا وَسَائِلًا لَنَا بِأَبِي وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - لَمَّا أَجْدَبَ النَّاسُ بِالشَّامِ - اسْتَسْقَى بيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ الجرشي فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ - وَنَتَوَسَّلُ - بِخِيَارِنَا. يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْك " فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ حَتَّى سُقُوا.(1/314)
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِأَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَهَذَا الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ حَقِيقَتُهُ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ الْمُسْتَشْفِعِ بِهِ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ مَعَهُ كَمَا {أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِثْنَا. فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ؛ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ فَمُطِرُوا أُسْبُوعًا لَا يَرَوْنَ فِيهِ الشَّمْسَ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ السُّبُلُ وَتَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ فَادْعُ اللَّهَ يَكْشِفْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ كَمَا يَنْجَابُ الثَّوْبُ} . وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك. فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ وَقَالَ وَيْحَك أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ} . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِشْفَاعِ بِالشَّخْصِ - فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ - هُوَ اسْتِشْفَاعٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَيْسَ هُوَ السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا(1/315)
السُّؤَالُ بِذَاتِهِ لَكَانَ سُؤَالُ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ هُوَ الْأَوَّلُ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: " نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك " وَلَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ نَسْتَشْفِعُ بِك عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَسْأَلُ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ الطَّالِبِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ذَكَرَ اسْتِشْفَاعَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: - شَفِيعِي إلَيْك اللَّهُ لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَيْسَ إلَى رَدِّ الشَّفِيعِ سَبِيلُ فَهَذَا كَلَامٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عَالِمٌ. وَكَذَلِكَ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَشْفَعَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمَسْئُولُ الْمَدْعُوُّ الَّذِي يَسْأَلُهُ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَلَكِنْ هُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ عِبَادَهُ فَيُطِيعُونَهُ وَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَالرُّسُلُ يُبَلِّغُونَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ؛ فَمَنْ أَطَاعَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ بَايَعَهُمْ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْإِمَارَةِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ} .(1/316)
وَأَمَّا الشَّافِعُ فَسَائِلٌ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بَرِيرَةَ أَنْ تُمْسِكَ زَوْجَهَا وَلَا تُفَارِقَهُ لَمَّا أُعْتِقَتْ وَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَكَانَ زَوْجُهَا يُحِبُّهَا فَجَعَلَ يَبْكِي فَسَأَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُمْسِكَهُ فَقَالَتْ أَتَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ لَا إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ} . وَإِنَّمَا قَالَتْ " أَتَأْمُرُنِي؟ " وَقَالَ: " إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ " لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ طَاعَةَ أَمْرِهِ وَاجِبَةٌ بِخِلَافِ شَفَاعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَلُمْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ قَبُولُهَا.
وَالْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ أَمْرُهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَافِعًا إلَى مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَشْفَعُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَيْ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ الشَّفَاعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ فِي أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَفِي أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ مَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا.(1/317)
وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرُوا شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَقَالُوا: لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عِنْدَهُمْ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلُوهَا لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَحَدٌ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِسْقَاءَ وَالِاسْتِشْفَاعَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَانَ يَكُونُ فِي حَيَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ فَيَدْعُو لَهُمْ فَكَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَالِاسْتِشْفَاعُ بِهِ طَلَبَ شَفَاعَتِهِ وَالشَّفَاعَةُ دُعَاءٌ.
فَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ فِي حُضُورِهِ أَوْ مَغِيبِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ - مِثْلَ الْإِقْسَامِ بِذَاتِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ السُّؤَالِ بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ بِدُعَائِهِمْ - فَلَيْسَ هَذَا مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَوْا وَتَوَسَّلُوا وَاسْتَشْفَعُوا بِمَنْ كَانَ حَيًّا كَالْعَبَّاسِ وكيزيد بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَتَوَسَّلُوا وَلَمْ يَسْتَشْفِعُوا وَلَمْ يَسْتَسْقُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ بَلْ عَدَلُوا إلَى الْبَدَلِ كَالْعَبَّاسِ(1/318)
وكيزيد بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي دُعَائِهِمْ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. فَجَعَلُوا هَذَا بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا تَعَذَّرَ أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْتُوا إلَى قَبْرِهِ فَيَتَوَسَّلُوا بِهِ وَيَقُولُوا فِي دُعَائِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ بِالْجَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْقَسَمَ بِمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ السُّؤَالِ بِهِ؛ فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُك أَوْ نُقْسِمُ عَلَيْك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيِّك وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ. وَرَوَى بَعْضُ الْجُهَّالِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ؛} وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ جَاهَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا وَجِيهَان عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . فَإِذَا كَانَ مُوسَى وَعِيسَى وَجِيهَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون؛ وَصَاحِبِ الْكَوْثَرِ(1/319)
وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الَّذِي آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا؟ . وَهُوَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا آدَمَ وَأُولُو الْعَزْمِ - نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَيَتَقَدَّمُ هُوَ إلَيْهَا وَهُوَ صَاحِبُ اللِّوَاءِ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا ذُو الْجَاهِ الْعَظِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ.
وَلَكِنَّ جَاهَ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْخَالِقِ تَعَالَى لَيْسَ كَجَاهِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ: {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا} {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . وَالْمَخْلُوقُ يَشْفَعُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .(1/320)
وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَلَعَنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ عِيدًا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ كَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ إنَّهُمْ قَالُوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ عَبَدُوهُمْ؛ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَسَمَّى قَبَائِلَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ. فَلَمَّا عَلِمَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ بِالنَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ - وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِئَلَّا يُشَابِهَ الْمُصَلِّينَ لِلشَّمْسِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُ الدُّعَاءَ بِالْمَيِّتِ أَوْ عِنْدَ قَبْرِهِ أَقْرَبَ إلَى الشِّرْكِ مِنْ الَّذِي لَا يَقْصِدُ إلَّا الصَّلَاةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ عَلِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ إنَّمَا هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ(1/321)
وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ أَوْ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ مُجَرَّدَةً عَنْ هَذَا وَهَذَا. فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا دَعَوْا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ - وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا وَأَعْلَمُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَعْلَمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ مِنَّا بَلْ تَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عُدُولُهُمْ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالْأَفْضَلِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْمَفْضُولِ أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ بِالْأَفْضَلِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ}
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ(1/322)
قَالَ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا صَحِيحًا {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ} وَرَوَى النَّسَائِي نَحْوَ هَذَا الدُّعَاءِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ: إنْ شِئْت دَعَوْت وَإِنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك. فَقَالَ: فادعه. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ} قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ وَلَفْظُهُ {أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي. قَالَ فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي أَنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصَرِهِ} .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ يَزِيدَ(1/323)
الخطمى الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حنيف {أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ: لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَشَفِّعْهُ فِيَّ. قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ} . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِهِ مُطْلَقًا حَيًّا وَمَيِّتًا. وَهَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّ تَوَسُّلَ الْأَعْمَى وَالصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ بِذَاتِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ وَلَا إلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فَسَوَاءٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ دَعَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَدْعُ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ تَوَسَّلَ بِهِ وَسَوَاءٌ أَطَاعُوهُ أَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ كَمَا يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ وَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كِلَاهُمَا مُتَوَسِّلٌ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَوَسَّلَ بِهِ كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ ذَلِكَ الْأَعْمَى وَأَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ الْأَعْمَى مَشْرُوعٌ لَهُمْ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَقَدْرًا فَلَا هُمْ مُوَافِقُونَ لِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا مَا يَقُولُونَهُ مُطَابِقٌ لِخَلْقِ اللَّهِ.(1/324)
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهَا الَّتِي تُشْبِهُهَا فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا لَا مُمَاثِلٌ لَهَا وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ شَرْعًا وَقَدْرًا بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ. وَهَذَا الْأَعْمَى شَفَعَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا قَالَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ ". فَعُلِمَ أَنَّهُ شَفِيعٌ فِيهِ وَلَفْظُهُ: {إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ: اُدْعُ لِي} فَهُوَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَدْعُوَ هُوَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ وَيَقُولَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ". فَالْحَدِيثَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إذَا أَجْدَبُوا ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِغَيْرِهِ بَدَلًا عَنْهُ. فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا سَوَاءً وَالْمُتَوَسِّلُ بِهِ الَّذِي دَعَا لَهُ الرَّسُولُ كَمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ وَسِيلَةً - إلَى أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ.(1/325)
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْمَى تَوَسَّلَ بِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الْأَعْمَى لَكَانَ عُمْيَانُ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْأَعْمَى فَعُدُولُهُمْ عَنْ هَذَا إلَى هَذَا - مَعَ أَنَّهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِحُقُوقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَنْفَعُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْ وَلَا يَنْفَعْ وَمَا يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ فِي وَقْتِ ضَرُورَةٍ وَمَخْمَصَةٍ وَجَدْبٍ يَطْلُبُونَ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الْعَسِيرِ وَإِنْزَالَ الْغَيْثِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ مَا سَلَكُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَا فَعَلُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ حَيًّا هُوَ الطَّلَبُ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَسْأَلَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَهَذَا مَشْرُوعٌ؛ فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ قَبْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ؛ يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَيِّتَ حَاجَتَهُ أَوْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ طَلَبُ الدُّعَاءِ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعُمْرَةِ: {لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مَنْ دُعَائِك} - إنْ صَحَّ(1/326)
الْحَدِيثُ - وَحَتَّى {أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ أُوَيْسٍ القرني أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلطَّالِبِ} وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْ أُوَيْسٍ بِكَثِيرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ: ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} مَعَ أَنَّ طَلَبَهُ مِنْ أُمَّتِهِ الدُّعَاءَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ حَاجَةٍ مِنْ الْمَخْلُوقِ بَلْ هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلَّمَهُمْ يُعْظِمُ اللَّهُ أَجْرَهُ: فَإِنَّا إذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْنَا عَشْرًا وَإِذَا سَأَلْنَا اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْنَا شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ ثَوَابٍ يَحْصُلُ لَنَا عَلَى أَعْمَالِنَا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِنَا شَيْءٌ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا} وَهُوَ الَّذِي دَعَا أُمَّتَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ أُمَّتُهُ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَهْدُونَ إلَيْهِ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَحُجُّونَ عَنْهُ(1/327)
وَلَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَهْدُونَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَقِرَاءَةٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ؛ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَمِلَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْخَيْرِ يَكُونُ لِوَالِدَيْهِ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلِهَذَا يُهْدِي الثَّوَابَ لِوَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطِيعٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْغَبُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون وَالِاسْتِرْقَاءُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ وَالرُّقْيَةُ مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى فِي هَذَا: " لَا يَرْقُونَ " ضَعِيفَةٌ غَلَطٌ؛ فَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ لِأُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ الَّذِي غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ - بَلْ لَا يَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ - أَفْضَلُ مِمَّنْ يَسْأَلُ النَّاسَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ.
وَدُعَاءُ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ أَعْظَمُ إجَابَةً مِنْ دُعَاءِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ إخْلَاصًا وَأَبْعَدُ عَنْ الشِّرْكِ فَكَيْفَ يُشْبِهُ دُعَاءَ مَنْ يَدْعُو لِغَيْرِهِ بِلَا سُؤَالٍ مِنْهُ إلَى دُعَاءِ(1/328)
مَنْ يَدْعُو اللَّهَ بِسُؤَالِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: {أَعْظَمُ الدُّعَاءِ إجَابَةً دُعَاءُ غَائِبٍ لِغَائِبِ} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ} . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَطْلُبُ مِنْ الْمَخْلُوقِ مَا يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ وَالْمَخْلُوقُ قَادِرٌ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ وَمَسْأَلَتِهِ فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الدُّعَاءِ جَائِزًا كَمَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِعَانَةَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ إلَّا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلَبُ ذَلِكَ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ: اغْفِرْ لِي وَاسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ {أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الصِّدِّيقُ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ} وَهَذَا فِي الِاسْتِعَانَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ:(1/329)
{إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وَفِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَإِلَيْك الْمُسْتَعَانُ وَبِك الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان؛ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك} وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ البسطامي: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ: اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ هُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ إخْبَارِهِ لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لَنَا وَيَسْتَغْفِرُونَ مَعَ هَذَا فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي قُبُورِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْأَحْيَاءِ وَإِنْ وَرَدَتْ بِهِ آثَارٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ بِخِلَافِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ؛ وَلِأَنَّ مَا تَفْعَلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَيَفْعَلُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ(1/330)
فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ سُؤَالُ السَّائِلِينَ بِخِلَافِ سُؤَالِ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ إجَابَةُ السَّائِلِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .(1/331)
فَالشَّفَاعَةُ نَوْعَانِ: - أَحَدُهُمَا: الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَاَلَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهِمْ وَهِيَ شِرْكٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي وَيَسْجُدُ. قَالَ: {فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ} فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ. قَالَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ - بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاعِيًا لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ - أَنْ يَشْرَعَ ذَلِكَ فِي مَغِيبِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ؛ مَعَ أَنَّهُ هُوَ لَمْ يَدْعُ لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ بَلْ الْمُتَوَسِّلُ بِهِ أَقْسَمَ لَهُ أَوْ سَأَلَ بِذَاتِهِ مَعَ كَوْنِ الصَّحَابَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يَدْعُو هُوَ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ وَدُعَاؤُهُ هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ الْخَلْقِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَدُعَاؤُهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَاعَتُهُ لَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ؟ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَجَعَلَ هَذَا التَّوَسُّلَ كَهَذَا التَّوَسُّلِ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَدُعَائِهِ هُوَ وَالتَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ ضَرَرٌ(1/332)
بَلْ هُوَ خَيْرٌ بِلَا شَرٍّ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَلَا مَفْسَدَةٌ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَمْ يُعْبَدْ فِي حَيَاتِهِ بِحُضُورِهِ فَإِنَّهُ يَنْهَى مَنْ يَعْبُدُهُ وَيُشْرِكُ بِهِ وَلَوْ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرَ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَجَدَ لَهُ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَكَمَا قَالَ {لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَخَافُ الْفِتْنَةَ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ كَمَا أَشْرَكَ بِالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} وَقَالَ {لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعَنَا أَصْلَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِعِبَادَةِ مُبْتَدَعَةٍ. وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .(1/333)
وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ لَهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ} وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ} وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ؛ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ} . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَالَ " وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ. وَمُوَالَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَضَمِنَ لَنَا بِطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَكَرَامَتَهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذَا عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ(1/334)
وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَا عَلِمَهُ قَالَ بِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَا يَقْفُو مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ذِكْرُ مَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَفِي لَفْظٍ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ؛ فَلَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ؛ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَحَدِ مِنْ الشُّيُوخِ أَوْ بِالْمُلُوكِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ؛ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ؛ بَلْ يُنْهَى عَنْهُ إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ وَإِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ. فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ} وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ} وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِي أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ وَقَدْ طَرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - الْخِلَافَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَأَصْلُ الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنَّبِيِّ ضَعِيفٌ شَاذٌّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ(1/335)
فِيمَا نَعْلَمُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ بَلْ إنَّمَا يُسْتَعَاذُ بِالْخَالِقِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ} قَالُوا: فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِهَا وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا} فَنَهَى عَنْ الرُّقَى الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ كَاَلَّتِي فِيهَا اسْتِعَاذَةٌ بِالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} .
وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ التَّعَازِيمِ وَالْإِقْسَامِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي حَقِّ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ؛ بَلْ نَهَوْا عَنْ كُلِّ مَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ الرُّقَى الْمَشْرُوعَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ. فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ لَا قَسَمًا مُطْلَقًا وَلَا قَسَمًا عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالسَّائِلُ لِلَّهِ بِغَيْرِ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَالِبًا بِذَلِكَ السَّبَبَ: كَمَا تَوَسَّلَ الثَّلَاثَةُ فِي الْغَارِ بِأَعْمَالِهِمْ؛ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.(1/336)
فَإِنْ كَانَ إقْسَامًا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَالسُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فِيهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِثْلِ السُّؤَالِ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِمُجَرَّدِ ذَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ سُؤَالٌ بِسَبَبِ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَطْلُوبِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ طَالِبًا بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ كَالطَّلَبِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَطْلُوبِنَا الَّذِي دَعَوْا بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِثَوَابِ اللَّهِ لَنَا وَإِذَا تَوَسَّلْنَا بِدُعَائِهِمْ وَأَعْمَالِنَا كُنَّا مُتَوَسِّلِينَ إلَيْهِ تَعَالَى بِوَسِيلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} .
وَأَمَّا إذَا لَمْ نَتَوَسَّلْ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِدُعَائِهِمْ وَلَا بِأَعْمَالِنَا وَلَكِنْ تَوَسَّلْنَا بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ سَبَبًا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِنَا فَكُنَّا مُتَوَسِّلِينَ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا صَحِيحًا وَلَا مَشْهُورًا عَنْ السَّلَفِ. وَقَدْ نُقِلَ فِي (مَنْسَكِ المروذي) عَنْ أَحْمَدَ دُعَاءٌ فِيهِ سُؤَالٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْقَسَمِ بِهِ(1/337)
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى النَّهْيِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ - لَكِنْ مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ أَمْرٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَنَحْنُ نَنْتَفِعُ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّبَاعِنَا لَهُمْ وَمَحَبَّتِنَا لَهُمْ؛ فَإِذَا تَوَسَّلْنَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِيمَانِنَا بِنَبِيِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ فَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ. وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِنَفْسِ ذَاتِهِ مَعَ عَدَمِ التَّوَسُّلِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً فَالْمُتَوَسِّلُ بِالْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ بِالْإِيمَانِ بِالْمُتَوَسَّلِ بِهِ وَلَا بِطَاعَتِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَسَّلُ؟ .
وَالْإِنْسَانُ إذَا تَوَسَّلَ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الشَّفَاعَةَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِأَبِي الرَّجُلِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: اشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ وَهَذَا جَائِزٌ. وَإِمَّا أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ بِحَيَاةِ وَلَدِك فُلَانٍ وَبِتُرْبَةِ أَبِيك فُلَانٍ وَبِحُرْمَةِ شَيْخِك فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقِ. وَإِمَّا أَنْ يَسْأَلَ بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ(1/338)
الِاسْتِسْقَاءَ وَقَوْلُهُ " أَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي وَلِهَذَا تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ ". فَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ: إنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ لَا بِالرَّحِمِ وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ إقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاَللَّهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاَللَّهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُوَ قَوْلُهُمْ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ وَبِالرَّحِمِ وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ لَيْسَ إقْسَامًا بِالرَّحِمِ - وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ - لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ؛ فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ الرَّحِمِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي دُعَاءِ الْخَارِجِ إلَى الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً(1/339)
وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك. أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ} . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ عَطِيَّةُ العوفي وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِوَجْهَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا) لِأَنَّ فِيهِ السُّؤَالَ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَقِّ السَّائِلِينَ وَبِحَقِّ الْمَاشِينَ فِي طَاعَتِهِ وَحَقُّ السَّائِلِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقُّ الْمَاشِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهَذَا حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى شَيْئًا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقَوْله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقَوْله تَعَالَى {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} . وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ {حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا. فَلَا تظالموا} . وَإِذَا كَانَ حَقُّ السَّائِلِينَ وَالْعَابِدِينَ لَهُ هُوَ الْإِجَابَةَ وَالْإِثَابَةَ؛ بِذَلِكَ فَذَاكَ سُؤَالٌ لِلَّهِ بِأَفْعَالِهِ؛ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك(1/340)
أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك} فَالِاسْتِعَاذَةُ بِمُعَافَاتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ كَالسُّؤَالِ بِإِثَابَتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِي فِي (كِتَابِ الدُّعَاءِ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا عَبْدِي إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي؛ فَاَلَّتِي لِي أَنْ تَعْبُدَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا وَاَلَّتِي هِيَ لَك أَجْزِيك بِهَا أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَاَلَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك مِنْك الدُّعَاءُ وَمِنِّي الْإِجَابَةُ وَاَلَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك} . وَتَقْسِيمُهُ فِي الْحَدِيثِ إلَى قَوْلِهِ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك هُوَ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ فِي حَدِيثِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ؛ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ} . وَالْعَبْدُ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُ النِّصْفَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ النِّصْفَيْنِ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ؛ وَمَا يُعْطِيهِ الْعَبْدَ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى عِبَادَتِهِ وَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوَّلًا؛ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ وَبِذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْعِبَادَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَإِنْ كُنَّا خَرَجْنَا عَنْ الْمُرَادِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْعَمَلَ لَهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْعَبْدِ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْسَامًا بِهِ(1/341)
أَوْ سَبَبًا بِهِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ " بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك " إقْسَامًا فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا فَهُوَ سَبَبٌ بِمَا جَعَلَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ سَبَبًا وَهُوَ دُعَاؤُهُ وَعِبَادَتُهُ. فَهَذَا كُلُّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُعَاءٌ لَهُ بِمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ مِنْهُ وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ مِنَّا.
وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: أَسْأَلُك بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِّ الصَّالِحِينَ؛ وَلَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِحَقِّ هَؤُلَاءِ - فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَلَا يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِهِ فَكَيْفَ يُقْسِمُ عَلَى الْخَالِقِ بِهِ؟ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسِمُ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَسَبَّبُ بِهِ فَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ ذَوَاتِ هَؤُلَاءِ سَبَبٌ يُوجِبُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ مِنْهُ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَوْ مِنْهُمْ كَدُعَائِهِمْ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ تَعَوَّدُوا كَمَا تَعَوَّدُوا الْحَلِفَ بِهِمْ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: وَحَقُّك عَلَى اللَّهِ وَحُقُّ هَذِهِ الشَّيْبَةِ عَلَى اللَّهِ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِجَاهِهِ: أَيْ أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِي لَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ. قِيلَ: مَنْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِك وَبِرَسُولِك وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِإِيمَانِي بِرَسُولِك وَمَحَبَّتِي لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ(1/342)
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْت وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْت وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إلَى الْغَارِ وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ ثُمَّ دَعَوْا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ فَفَرَّجَ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِرَاشٍ العجلاني وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا صَالِحٌ المري عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ ثَقِيلٌ فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّى قُبِضَ فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وَلَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَالْتَفَتَ إلَيْهَا بَعْضُنَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ احْتَسِبِي مُصِيبَتَك عِنْدَ اللَّهِ. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ مَاتَ ابْنِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَتْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُونَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَمَدَّتْ يَدَيْهَا إلَى اللَّهِ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْت وَهَاجَرْت إلَى رَسُولِك رَجَاءَ أَنْ تَعْقُبَنِي عِنْدَ كُلِّ شَدَّةٍ فَرَجًا فَلَا تَحْمِلْ عَلَيَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَكَشَفَتْ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى طَعِمْنَا مَعَهُ.
وَرُوِيَ فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ {أَنَّ دَاوُد قَالَ: بِحَقِّ آبَائِي عَلَيْك إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: يَا دَاوُد وَأَيُّ حَقٍّ لِآبَائِك عَلَيَّ؟} وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فالإسرائيليات يُعْتَضَدُ بِهَا وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.(1/343)
وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْحَيَّ يُطْلَبُ مِنْهُ الدُّعَاءُ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ سَائِرُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ. يُحَقِّقُ هَذَا الْأَمْرَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ وَالتَّوَجُّهَ بِهِ لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ فَمَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الصَّحَابَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَيَكُونُونَ مُتَوَسِّلِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ؛ وَدُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا فِي لُغَةِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ لَا يُقْسَمُ بِهَا بِحَالِ فَلَا يُقَالُ أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ بِمَلَائِكَتِك وَلَا بِكَعْبَتِك وَلَا بِعِبَادِك الصَّالِحِينَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ إنَّمَا يُقْسِمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَيَقُولَ {أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ وَأَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَأَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك} . الْحَدِيثُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَأَمَّا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَبِكَلِمَاتِك التَّامَّاتِ ".(1/344)
مَعَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الثَّالِثَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ بِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِي: قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ خَلْقِك ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " مَعْقِدُ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ " هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: " بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " قَالَ القدوري: الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا يَجُوزُ - يَعْنِي وِفَاقًا - وَهَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ. فَهَلَّا قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى مَخْلُوقٍ إلَّا بِالْخَالِقِ تَعَالَى؟ قِيلَ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ بَابِ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ آيَاتِهِ وَإِقْسَامُنَا نَحْنُ بِذَلِكَ شِرْكٌ إذَا أَقْسَمْنَا بِهِ لِحَضِّ غَيْرِنَا أَوْ لِمَنْعِهِ أَوْ تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ. وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُك بِكَذَا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عَلَى الْمُقْسِمِ لَا عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْسِمًا فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّائِلَ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِمَخْلُوقِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ. وَإِذَا قَالَ " بِاَللَّهِ أَفْعَلُ كَذَا "(1/345)
فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا قَالَ: " أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ " وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ " فَلَمْ يَبِرَّ قَسَمَهُ لَزِمَتْ الْكَفَّارَةُ الْحَالِفَ. وَاَلَّذِي يَدْعُو بِصِيغَةِ السُّؤَالِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِهِ وَأَمَّا إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ ثَنِيَّةَ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَعَفَا الْقَوْمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ} وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فَهُوَ إقْسَامٌ عَلَيْهِ تَعَالَى بِهِ وَلَيْسَ إقْسَامًا عَلَيْهِ بِمَخْلُوقِ. وَيَنْبَغِي لِلْخَلْقِ أَنْ يَدْعُوا بِالْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا رَيْبَ فِي فَضْلِهِ وَحُسْنِهِ وَأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِجَاهِي} حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي دُعَاءٍ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الدُّعَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوا فِيمَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ التَّوَسُّلَ بِهِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ(1/346)
دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ بِغَيْرِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ؛ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ - لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُجْتَهِدِينَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: أَسْأَلُك بِجَاهِ نَبِيِّنَا أَوْ بِحَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ وَلَا فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا. وَرَأَيْت فِي فَتَاوِي الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ حَدِيثُ الْأَعْمَى: فَلَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ - ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرَأَيْت فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْحَلِفِ بِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِذَاتِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاَلَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ عَدَلُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَشُرِعَ لَهُمْ - وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُمْ - إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي بِهَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .(1/347)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ. {مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا} وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَّلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ رَبِّهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد - وَهَذَا لَفْظُهُ - وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ؛ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْهُ {أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْت سَلْ تعطه} وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ " مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ وَالصَّلَاةِ النَّافِعَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَاءً لَا سَخَطَ بَعْدَهُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ؟ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.(1/348)
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ قَلَّمَا تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوَتُهُ: عِنْدَ حُصُولِ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أبي بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ} . {قَالَ أبي: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ مَا شِئْت قُلْت؛ الرُّبُعَ؟ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: النِّصْفَ. قَالَ؟ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك وَفِي لَفْظٍ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك} . وَقَوْلُ السَّائِلِ: أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ يَعْنِي مِنْ دُعَائِي؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الدُّعَاءُ قَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى} {وَقَالَتْ: امْرَأَةٌ: صَلِّ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى زَوْجِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِك} . فَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَيْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ أَسْتَجْلِبُ بِهِ(1/349)
الْخَيْرَ وَأَسْتَدْفِعُ بِهِ الشَّرَّ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ الدُّعَاءِ قَالَ: " مَا شِئْت " فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ {إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك} . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى {إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك} . وَهَذَا غَايَةُ مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ وَانْدِفَاعُ الْمَرْهُوبِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ الْأَدْعِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَدْعِيَةِ الْبِدْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي اتِّبَاعُ ذَلِكَ. وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ: - إحْدَاهَا أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي أَوْ أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِك أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ. وَالْمُسْتَغِيثُ بِالْمَخْلُوقَاتِ قَدْ يَقْضِي الشَّيْطَانُ حَاجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَقَدْ يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ دَخَلَهُ وَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَصْنَامِ وَفِي الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِهِ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي قَوْمٍ اسْتَغَاثُوا بِي أَوْ بِغَيْرِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَتَى شَخْصٌ عَلَى صُورَتِي أَوْ صُورَةِ غَيْرِي وَقَضَى حَوَائِجَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَةِ الِاسْتِغَاثَةِ بِي أَوْ بِغَيْرِي وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُمْ وَأَغْوَاهُمْ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاِتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذَا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ(1/350)
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ كَمَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِقَبْرِهِ وَيُصَلِّيَ إلَيْهِ وَيَرَى الصَّلَاةَ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ قِبْلَةُ الْخَوَاصِّ وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْعَوَامِّ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى السَّفَرَ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ حَتَّى يَقُولَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ مَرَّاتٌ يَعْدِلُ حَجَّةً وَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ: الزِّيَارَةُ إلَيْهِ مَرَّةً أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا شِرْكٌ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِهِ.
الثَّانِيَةُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَائِزًا وَمُخَاطَبَتُهُمْ جَائِزَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ} . وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} .(1/351)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْأَمْوَاتِ لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: " السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَدْعُونَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ إمَامٌ مُتَّبَعٌ فِي قَوْلِهِ وَلَا مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ.
وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ -: يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَقْتَ السَّلَامِ كَمَا لَا يَسْتَقْبِلُهَا وَقْتَ الدُّعَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ. ثُمَّ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلَانِ:(1/352)
قِيلَ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَقِيلَ يَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ. فَهَذَا نِزَاعُهُمْ فِي وَقْتِ السَّلَامِ وَأَمَّا فِي وَقْتِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لَا الْحُجْرَةَ. وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَنْصُورِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ: " هُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ ": كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ خِلَافُ الثَّابِتِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ كَمَا ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِثْلَ مَا ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَقْوَامٍ يُطِيلُونَ الْقِيَامَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْكَرَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَالَ: لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّ الْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا لَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَالدَّاعِي يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ. وَقَدْ نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ دُعَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ(1/353)
الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا} . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاء وَلَا غَيْرِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ إلَى الْقَبْرِ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَكَذَلِكَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا سِيَّمَا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَصْدُ اسْتِقْبَالِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَدُعَاءُ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الصَّلَاةُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ شَيْئًا: لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ مُكَلَّفٌ أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ مَنْ سَأَلَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بَلْ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كَمَا أَنَّ مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ؛ وَكَمَا صَلَّى الْأَنْبِيَاءُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَسْبِيحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ - فَهُمْ يُمَتَّعُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَمْتَحِنُ بِهِ الْعِبَادَ. وَحِينَئِذٍ. فَسُؤَالُ السَّائِلِ لِلْمَيِّتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَلْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَاعِلًا لَهُ هُوَ يَفْعَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْعَبْدُ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَهُمْ إنَّمَا(1/354)
يُطِيعُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَ مَخْلُوقٍ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ فِي حَيَاتِهِ جَوَازُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّ بَيْتَهُ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَشْرُوعَةً وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَسْجِدًا. وَلَمَّا دُفِنَ فِيهِ حَرُمَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ} يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ} . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ قَبْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَأَنْ يُفْتِيَ وَأَنْ يَقْضِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرِدْ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ كَذِبٌ. وَهَذَا اللَّفْظُ صَارَ مُشْتَرَكًا فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: الَّتِي فِي مَعْنَى الشِّرْكِ؛ كَاَلَّذِي يَزُورُ الْقَبْرَ لِيَسْأَلَهُ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ عِنْدَهُ.(1/355)
وَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ أَنْ يَزُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى: لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَتِهِ. فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْرُوعُ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَقْصِدُ بِالزِّيَارَةِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْمَعْنَى الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ.
الثَّالِثَةُ أَنْ يُقَالَ: أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ عَدَلُوا عَنْهُ إلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي لَفْظِ " التَّوَسُّلِ " مِنْ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَسُّلِ وَالتَّوَجُّهِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ وَلُغَتِهِمْ هُوَ التَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَسَّلَ وَيَتَوَجَّهَ بِدُعَاءِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَتْبُوعِينَ يَحْتَجُّ بِمَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ الْقُبُورِ أَوْ فَاسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الْقُبُورِ} فَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ الْعَارِفِينَ بِحَدِيثِهِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ.(1/356)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ - عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَلَعَنَ أَهْلَهُ تَحْذِيرًا مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. فَمَنْ فَهِمَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَيْهِ {وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ - وَهُوَ خَلْقُ مَا يَغْلِبُ بِهِ الْعَدُوَّ - لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ كَذَلِكَ فِي شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: فَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ دُعَاءِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشِّرْكِ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَةِ اللَّهِ لِمَنْ فَعَلَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} .(1/357)
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.(1/358)
فَصْلٌ:
وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ - فِي حَقِّ أَشْرَفِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَرْفَعِ الشُّفَعَاءِ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمِهِمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِأَحَدِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْغَائِبِينَ وَلَا الْمَيِّتِينَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي فُلَانًا أَغِثْنِي وَانْصُرْنِي وَادْفَعْ عَنِّي أَوْ أَنَا فِي حَسْبِك وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ - لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ - صَارَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ كَمَا يَضِلُّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَيُغْوِيهِمْ فَتَتَصَوَّرُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَتُخَاطِبُهُمْ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاشَفَةِ كَمَا تُخَاطِبُ الشَّيَاطِينُ الْكُهَّانَ وَبَعْضُ ذَلِكَ صِدْقٌ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَذِبٌ بَلْ الْكَذِبُ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّدْقِ.(1/359)
وَقَدْ تَقْضِي الشَّيَاطِينُ بَعْضَ حَاجَاتِهِمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَهُ فَيَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ الْغَيْبِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّرَ مَلَكًا - عَلَى صُورَتِهِ - فَعَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَذَا سِرُّ الشَّيْخِ وَحَالُهُ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ الْمُشْرِكَ بِهِ الْمُسْتَغِيثَ بِهِ كَمَا تَدْخُلُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَتَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْنَامِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ التَّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ؛ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ وَقَائِعَ كَثِيرَةً فِي أَقْوَامٍ اسْتَغَاثُوا بِي وَبِغَيْرِي فِي حَالِ غَيْبَتِنَا عَنْهُمْ فَرَأَوْنِي أَوْ ذَاكَ الْآخَرَ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ قَدْ جِئْنَا فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعْنَا عَنْهُمْ وَلَمَّا حَدَّثُونِي بِذَلِكَ بَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي وَصُورَةِ غَيْرِي مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ لِيَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٌ لِلشَّيْخِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِالشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا أَشْرَكَ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَغِيثُونَ مِنْ النَّصَارَى بِشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ العلامس يَرَوْنَ أَيْضًا مَنْ يَأْتِي عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ فَيَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَمْوَاتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشُّيُوخِ وَأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنَّ يُجْرَى لَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ يُحْكَى لَهُمْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ بِسَبَبِ هَذَا الْعَمَلِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الشَّيْخِ(1/360)
الَّذِي يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْهَوَاءِ طَعَامٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ سِلَاحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُهُ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَرَامَةً لِشَيْخِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي عُبِدَتْ بِهَا الْأَوْثَانُ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} {رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يُضِلُّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَّا بِسَبَبِ اقْتَضَى ضَلَالَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا خَلَقَتْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ إنَّمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ لِأَسْبَابِ: مِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهَا عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلَهَا تَمَاثِيلَ وَطَلَاسِمَ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْجِنِّ. وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ. فَالْمَعْبُودُ لَهُمْ فِي قَصْدِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ أَوْ الشَّمْسُ أَوْ الْقَمَرُ. وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ: فَهِيَ الَّتِي تَقْصِدُ مِنْ الْإِنْسِ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَتُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَدْعُوهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . وَإِذَا كَانَ الْعَابِدُ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِلُّ عِبَادَةَ الشَّيَاطِينِ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدْعُو(1/361)
الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَابِدُ ظَنَّهُ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحَرِّمُ عِبَادَةَ الْجِنِّ عَرَّفُوهُ أَنَّهُمْ الْجِنُّ. وَقَدْ يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ الْمُتَمَثِّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَنْ يُقَرِّبَ لَهُمْ الْمَيْتَةَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ إمَّا مَلَائِكَةٌ وَإِمَّا رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ يُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ غَائِبُونَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَأُولَئِكَ جِنٌّ تَمَثَّلَتْ بِصُوَرِ الْإِنْسِ أَوْ رُئِيَتْ فِي غَيْرِ صُوَرِ الْإِنْسِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} كَانَ الْإِنْسُ إذَا نَزَلَ أَحَدُهُمْ بِوَادٍ يَخَافُ أَهْلَهُ قَالَ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ وَكَانَتْ الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِالْجِنِّ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِطُغْيَانِ الْجِنِّ وَقَالَتْ: الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا وَكَذَلِكَ الرُّقَى؛ وَالْعَزَائِمُ الْأَعْجَمِيَّةُ: هِيَ تَتَضَمَّنُ أَسْمَاءَ رِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ يُدْعَوْنَ؛ وَيُسْتَغَاثُ بِهِمْ وَيُقْسَمُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يُعَظِّمُونَهُ فَتُطِيعُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَهَذَا مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا(1/362)
يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَمَلَتْهُ وَتَذْهَبُ بِهِ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ زِنْدِيقًا يَجْحَدُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنَّمَا يَقْتَرِنُ بِهِ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى إذَا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَابَ وَالْتَزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَارَقَتْهُ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ مِنْ الإخبارات وَالتَّأْثِيرَاتِ؛ وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا كَثِيرًا بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَأَمَّا الْجَزِيرَةُ وَالْعِرَاقُ وَخُرَاسَانُ وَالرُّومُ فَفِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَكْثَرُ مِمَّا بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا وَبِلَادُ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَعْظَمُ. وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي أَسْبَابُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ بِحَسَبِ ظُهُورِ أَسْبَابِهَا فَحَيْثُ قَوِيَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَنُورُ الْفُرْقَانِ وَالْإِيمَانِ وَظَهَرَتْ آثَارُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ضَعُفَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَحَيْثُ ظَهَرَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْحَالِ وَهَذَا الْحَالِ. وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ البخشية والطونية وَالْبُدَّى(1/363)
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يَكُونُونَ لِلْكُفَّارِ مِنْ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ الْجَوَارِ وَغَيْرِهِمْ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِيهِمْ أَكْثَرَ وَيَصْعَدُ أَحَدُهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيُحَدِّثُهُمْ بِأُمُورِ غَائِبَةٍ وَيَبْقَى الدُّفُّ الَّذِي يُغَنَّى لَهُمْ بِهِ يَمْشِي فِي الْهَوَاءِ وَيَضْرِبُ رَأْسَ أَحَدِهِمْ إذَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا يَضْرِبُ لَهُ وَيَطُوفُ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ فَمَنْ نَزَلَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ ضَيَّفَهُ طَعَامًا يَكْفِيهِمْ وَيَأْتِيهِمْ بِأَلْوَانِ مُخْتَلِفَةٍ. وَذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ تَأْتِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا تَسْرِقُهُ وَتَأْتِي بِهِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَثِيرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ مُشْرِكًا أَوْ نَاقِصَ الْإِيمَانِ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَعِنْدَ التَّتَارِ مِنْ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ.
وَأَمَّا الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوْحِيدَ وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ بَلْ دَعَوْا الشُّيُوخَ الْغَائِبِينَ وَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ نَصِيبٌ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِيهِمْ عِبَادَةٌ وَدِينٌ مَعَ نَوْعِ جَهْلٍ يُحْمَلُ أَحَدُهُمْ فَيُوقَفُ بِعَرَفَاتِ مَعَ الْحُجَّاجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى الْمَوَاقِيتَ وَلَا يَبِيتُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ وَكَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِ. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَجِّ لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ وَكَرَامَةٌ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ يَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُمْ أَجَلُّ(1/364)
قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لِبَعْضِ مَنْ حُمِلَ هُوَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ الإسكندرية إلَى عَرَفَةَ فَرَأَى مَلَائِكَةً تَنْزِلُ وَتَكْتُبُ أَسْمَاءَ الْحُجَّاجِ فَقَالَ: هَلْ كَتَبْتُمُونِي؟ قَالُوا أَنْتَ: لَمْ تَحُجّ كَمَا حَجَّ النَّاسُ أَنْتَ لَمْ تَتْعَبْ وَلَمْ تُحْرِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَك مِنْ الْحَجِّ الَّذِي يُثَابُ النَّاسُ عَلَيْهِ مَا حَصَلَ لِلْحُجَّاجِ. وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَدْ طَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْحَجُّ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ عَنْكُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَحُجُّوا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَعَلَى أَنْ يُعْبَدَ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْلِنَا: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ". فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُخَافُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُطَاعُ إلَّا اللَّهُ. وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ؛ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ؛ وَسَائِرِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَأَمَّا فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِغْنَاءِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ وَيَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى(1/365)
إنْزَالِ النِّعَمِ وَإِزَالَةِ الضُّرِّ وَالْقَسَمِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَهُ أَحَدٌ أَحْوَالَ عِبَادِهِ أَوْ يُعِينَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ ذَلِكَ هُوَ خَلَقَهَا وَيَسَّرَهَا. فَهُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَأَهْلُ السَّمَوَاتِ يَسْأَلُونَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعُ كَلَامِ هَذَا عَنْ سَمْعِ كَلَامِ هَذَا وَلَا يُغْلِطُهُ اخْتِلَافُ أَصْوَاتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ بَلْ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ وَلَا يُبْرِمُهُ إلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ بَلْ يُحِبُّ الْإِلْحَاحَ فِي الدُّعَاءِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَحْكَامِ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجَابَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِمْ. فَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ " فَقُلْ " بَلْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} . فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَقَالَ: {أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ(1/366)
فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ} . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَلَا يَبْصُقَن قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ} وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ هُوَ الْحَامِلُ بِقُدْرَتِهِ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ. وَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى الْعَالَمَ طَبَقَاتٍ وَلَمْ يَجْعَلْ أَعْلَاهُ مُفْتَقِرًا إلَى أَسْفَلِهِ فَالسَّمَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَرْضِ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَغْنَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَفْتَقِرَ إلَى شَيْءٍ بِحَمْلِ أَوْ غَيْرِ حَمْلٍ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ الَّذِي كُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالتَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ مِثْلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالتَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/367)
يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ أَيْضًا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا} الْآيَةَ. وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ فِيهِمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَفِيهِمَا الْإِيمَانُ الْقَوْلِيُّ وَالْعَمَلِيُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلَى آخِرِهَا يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ الْقَوْلِيَّ وَالْإِسْلَامَ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} - الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا - يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلِيَّ فَأَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فَهَذَا آخِرُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّذِي أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا بِأَلْفَاظِهِ؛ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ وَالْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ الِاخْتِصَارِ. فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبُّ الْإِيمَانِ وَتَنْوِيعُ الْعِبَارَةِ بِوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعِبَادِ فِي مَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/368)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ:
أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَمَا فِي مَعْنَاهُ؟ .
الْجَوَابُ:
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه؛ لَكِنْ لَا يَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجَّةٌ؛ وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقَّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} . فَهَذَا سُؤَالُ اللَّهِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِينَ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} . وَكَدُعَاءِ الثَّلَاثَةِ: الَّذِينَ أَوَوْا إلَى الْغَارِ لَمَّا سَأَلُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ الَّتِي وَعَدَهُمْ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا. اهـ.(1/369)
وَلَمَّا كَانَ الشَّيْخُ فِي قَاعَةِ التَّرْسِيمِ دَخَلَ إلَى عِنْدِهِ ثَلَاثَةُ رُهْبَانٍ مِنْ الصَّعِيدِ فَنَاظَرَهُمْ وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَمَا هُمْ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ وَالْمَسِيحُ. فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نَعْمَلُ مِثْلَ مَا تَعْمَلُونَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْحُسَيْنِ وَمِنْ نَفِيسَةَ وَأَنْتُمْ تَسْتَغِيثُونَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ وَنَحْنُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ وَأَيُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْكُمْ وَهَذَا مَا هُوَ دِينُ إبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ مَلَكًا وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا كَوْكَبًا وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا صَالِحًا {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} . وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ لَا تُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِثْلُ إنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالَاتِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ. وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُعَظِّمُهُمْ وَنُوَقِّرُهُمْ وَنَتَّبِعُهُمْ(1/370)
وَنُصَدِّقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ وَنُطِيعُهُمْ. كَمَا قَالَ نُوحٌ؛ وَصَالِحٌ وَهُودٌ وَشُعَيْبٌ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} فَجَعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَالطَّاعَةَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. فَلَوْ كَفَرَ أَحَدٌ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَآمَنَ بِالْجَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ إيمَانُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَكَفَرَ بِكِتَابِ كَانَ كَافِرًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: الدِّينُ الَّذِي ذَكَرْته خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ.(1/371)
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَمَّنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ؟ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ: فَلَا يَجُوزُ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا {قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} {وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ. فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِمْ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينِ وَلَا قُرْبَةٍ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ(1/372)
أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فُضُولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى: كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(1/373)
وَسُئِلَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحَبْرُ النُّورَانِيُّ؛ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ " النُّهُوضِ وَالْقِيَامِ الَّذِي يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنْ الْإِكْرَامِ عِنْدَ قُدُومِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مُعْتَبَرٍ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُتَقَاعِدِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَادِمَ يَخْجَلُ أَوْ يَتَأَذَّى بَاطِنًا وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ وَمَقْتٍ وَأَيْضًا الْمُصَادَفَاتُ فِي الْمَحَافِلِ وَغَيْرِهَا وَتَحْرِيكُ الرِّقَابِ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَالِانْخِفَاضُ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ يَحْرُمُ؟ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَادَةً وَطَبْعًا لَيْسَ فِيهِ لَهُ قَصْدٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَشْرَافِ وَالْعُلَمَاءِ وَفِيمَنْ يُرَى مُطَمْئِنًا بِذَلِكَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَالَ سَجَدْت لِلَّهِ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ .
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَمْ تَكُنْ عَادَةُ السَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ: أَنْ يَعْتَادُوا الْقِيَامَ كُلَّمَا يَرَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ(1/374)
لِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا قَامُوا لِلْقَادِمِ مِنْ مَغِيبِهِ تَلَقِّيًا لَهُ كَمَا {رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لِعِكْرِمَةَ} {وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ} وَكَانَ قَدْ قَدِمَ لِيَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلنَّاسِ: أَنْ يَعْتَادُوا اتِّبَاعَ السَّلَفِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَنْ هَدْيِ خَيْرِ الْوَرَى وَهَدْيِ خَيْرِ الْقُرُونِ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ. وَيَنْبَغِي لِلْمُطَاعِ أَنْ لَا يُقِرُّ ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِحَيْثُ إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمُعْتَادِ.
وَأَمَّا الْقِيَامُ لِمَنْ يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَلَقِّيًا لَهُ فَحَسَنٌ. وَإِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ إكْرَامُ الْجَائِي بِالْقِيَامِ وَلَوْ تُرِكَ لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِتَرْكِ حَقِّهِ أَوْ قَصْدِ خَفْضِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلسُّنَّةِ فَالْأَصْلَحُ أَنْ يُقَامَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِذَاتِ الْبَيْنِ وَإِزَالَةِ التَّبَاغُضِ وَالشَّحْنَاءِ؛ وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ عَادَةَ الْقَوْمِ الْمُوَافَقَةَ لِلسُّنَّةِ: فَلَيْسَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ إيذَاءٌ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ} فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَقُومُوا لَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُومُوا لِمَجِيئِهِ إذَا جَاءَ؛ وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُقَالَ قُمْت إلَيْهِ وَقُمْت لَهُ وَالْقَائِمُ لِلْقَادِمِ سَاوَاهُ فِي الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْقَائِمِ لِلْقَاعِدِ. [وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا(1/375)
صَلَّوْا قِيَامًا أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ. وَقَالَ: لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا يُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا} ] (*) وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْأَعَاجِمِ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِعُظَمَائِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ الَّذِي يُصْلِحُ اتِّبَاعَ عَادَاتِ السَّلَفِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَمَنْ لَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ الْعَادَةُ وَكَانَ فِي تَرْكِ مُعَامَلَتِهِ بِمَا اعْتَادَ مِنْ النَّاسِ مِنْ الِاحْتِرَامِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ: فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا كَمَا يَجِبُ فِعْلُ أَعْظَمِ الصلاحين بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا.
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 18) :
وهذا الحديث بهذا اللفظ ليس في مسلم، ولفظ مسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: {إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا} وهذا اللفظ المذكور هنا رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه بسند فيه نظر، فيظهر أن الشيخ رحمه الله أراد بقوله (ثبت في صحيح مسلم) إلى قوله (أمرهم بالقعود) ، ثم ذكر حديثا آخر وهو (وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا) فالواو استئنافية لا عاطفة، ولكن يشكل عليه أنه قد تكرر هذا في 27 / 93: حيث قال: قد ثبت في الصحيح - وذكر هذا الحديث - والله أعلم.(1/376)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الِانْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ: فَيُنْهَى عَنْهُ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ {عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَى أَخَاهُ يَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: ( {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وَفِي شَرِيعَتِنَا لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ الْقِيَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ فَكَيْفَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ وَكَذَلِكَ مَا هُوَ رُكُوعٌ نَاقِصٌ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ.(1/377)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
فَصْلٌ:
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَبِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ فَيُسَمُّونَ بَعْضَهُمْ عَبْدَ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا كَانَ اسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ اللَّاتِ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ مَنَاةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُضِيفُونَ فِيهِ التَّعْبِيدَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ مِنْ شَمْسٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُشْرَكُ بِاَللَّهِ. وَنَظِيرُ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى عَبْدَ الْمَسِيحِ. فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَعَبَّدَهُمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَسَمَّى جَمَاعَاتٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ كَمَا سَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَنَحْوَ هَذَا وَكَمَا سَمَّى أَبَا مُعَاوِيَةَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ اسْمَ مَوْلَاهُ قَيُّومٌ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْقَيُّومِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمُشَابِهِيهِمْ الْغَالِينَ فِي الْمَشَايِخِ فَيُقَالُ هَذَا غُلَامُ الشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ لِلشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ غُلَامُ ابْنِ(1/378)
الرِّفَاعِيِّ أَوْ الْحَرِيرِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُومُ فِيهِ لِلْبَشَرِ نَوْعُ تَأَلُّهٍ كَمَا قَدْ يَقُومُ فِي نُفُوسِ النَّصَارَى مِنْ الْمَسِيحِ وَفِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ آلِهَتِهِمْ رَجَاءً وَخَشْيَةً وَقَدْ يَتُوبُونَ لَهُمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتُوبُونَ لِبَعْضِ الْآلِهَةِ وَالنَّصَارَى لِلْمَسِيحِ أَوْ لِبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ. وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ: تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ كَمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيُّرُ الْأَسْمَاءِ الشِّرْكِيَّةِ إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الكفرية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِيمَانِيَّةِ وَعَامَّةِ مَا سَمَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي قَدْ سَمَّى أَهْلَ بَلَدِهِ بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَيْتِنَا: غَلَبَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ التَّعْبِيدُ لِلَّهِ كَعَبْدِ اللَّهِ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ؛ وَالسَّلَامِ؛ وَالْقَاهِرِ؛ وَاللَّطِيفِ؛ وَالْحَكِيمِ؛ وَالْعَزِيزِ؛ وَالرَّحِيمِ وَالْمُحْسِنِ؛ وَالْأَحَدِ؛ وَالْوَاحِدِ؛ وَالْقَادِرِ؛ وَالْكَرِيمِ؛ وَالْمَلِكِ؛ وَالْحَقِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ} وَكَانَ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْحُرُوبِ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ يَا بَنِي(1/379)
عُبَيْدِ اللَّهِ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ وحنين؛ وَالْفَتْحِ؛ وَالطَّائِفِ؛ فَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ
__________
(*) آخِرُ مَا وُجِدَ الْآنَ مِنْ كِتَابِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَةِ، وَيَلِيهِ كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ(1/380)
الْجُزْءُ الْثَّانِي
كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
قَاعِدَةٌ أَوَّلِيَّةٌ:
أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَمَبْدَأَهُ وَدَلِيلَهُ الْأَوَّلَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا: هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَحْيُ اللَّهِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ(2/1)
خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ: {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ: عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي} وَقَالَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} .(2/2)
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْغَافِلِينَ. وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي خُطْبَةِ عُمَرَ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامٌ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللَّهَ هَدَى نَبِيَّكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ. . . (1) (*) .
وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ فِي الْقُرْآنِ بِالرُّسُلِ كَثِيرٌ. كَقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية (2) قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ؟ وَقَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض في الأصل
(2) في المطبوعة " إلى " ولعلها " الآية " كما أثبتناه.
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 19) :
وموضع البياض هو بقية كلام عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه - وقد ذكره الشيخ رحمه الله هنا بمعناه -، ولفظه كما في الصحيح من رواية أنس عن عمر: " فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ بِمَا هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وفي رواية ابن حبان: " فإن الله جعل بين أظهركم نورا تهتدون به فاعتصموا به تهتدوا لما هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم ".(2/3)
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ؟ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الْآيَةَ. وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ لِلسُّنَنِ عَلَى الْأَبْوَابِ إذَا جَمَعُوا فِيهَا أَصْنَافَ الْعِلْمِ: ابْتَدَأَهَا بِأَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. كَمَا ابْتَدَأَ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ وَنُزُولِهِ؛ فَأَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ نُزُولِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى الرَّسُولِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِكِتَابِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ ثُمَّ بِكِتَابِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ فَرَتَّبَهُ التَّرْتِيبَ الْحَقِيقِيَّ. وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدارمي صَاحِبُ (الْمُسْنَدِ) : ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا. وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ: أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ مُسْلِمٍ؛ وَالتِّرْمِذِي وَنَحْوِهِمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُعَظِّمُ هَذَيْنِ وَنَحْوَهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ فُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ أُصُولًا وَفُرُوعًا.
وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى: هُوَ الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ: كَانَ ذِكْرُهُ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِالرِّسَالَةِ - الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ - كَثِيرًا جِدًّا. كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقَوْلِهِ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . وَقَوْلِهِ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} وَقَوْلِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ(2/4)
لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} ؟ . فَيَعْلَمُ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَمْنَعُ الْكُفْرَ وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ وَالْفَلَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِلْءَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الْآيَةَ. ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاَلَّذِينَ نَافَقُوا وَقَوْلِهِ: {وَالْعَصْرِ} {إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . فَحَكَمَ عَلَى النَّوْعِ كُلِّهِ وَالْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ جَمِيعِهَا بِالْخَسَارَةِ وَالسُّفُولِ إلَى الْغَايَةِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ.
وَكَذَلِكَ جُعِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُ النَّارِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِلْمًا شَائِعًا مُتَوَاتِرًا اضْطِرَارِيًّا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ. وَرَبَطَ السَّعَادَةَ مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . وَأَحْبَطَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِزَوَالِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ(2/5)
فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَذَكَرَ حَالَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمَهْدِيَّةِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} الْآيَةَ. وَلِهَذَا أَمَرَ أَهْلَ الْعَقْلِ بِتَدَبُّرِهِ وَأَهْلَ السَّمْعِ بِسَمْعِهِ فَدَعَا فِيهِ إلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَإِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِبْصَارِ وَالْإِصْغَاءِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَجَلِ وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَلَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ فِطْرِيًّا - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ} الْحَدِيثَ - فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ وَالْإِنَابَةَ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ وَيُعْبَدُ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ: وُصُولَ الْعِبَادِ إلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْعِبَادَةُ أَصْلُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ الْمُسْتَتْبِعِ لِلْجَوَارِحِ فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ. وَهُوَ الْمُضْغَةُ الَّذِي إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَحَالِهِ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ: بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} .(2/6)
وَقَالَ فِي صَدْرِ الْبَقَرَةِ - بَعْدَ أَنْ صَنَّفَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ - فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَذَكَرَ آلَاءَهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نِعْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَقْرِيرِهِ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} . وَالْمُتَكَلِّمُ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا التَّأْلِيفِ وَيَسْتَعْظِمُهُ حَيْثُ قُرِّرَتْ الرُّبُوبِيَّةُ ثُمَّ الرِّسَالَةُ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ الْكَلَامِيَّةِ فِي نَظَرِهِ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّاتِ أَوَّلًا: مِنْ تَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ تَلَقِّي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ الْكَلَامِيَّةُ لِلْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ ثُمَّ إثْبَاتِ صِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ - عَلَى مَا بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلَافٍ: إمَّا فِي الْمَسَائِلِ وَإِمَّا فِي الدَّلَائِلِ - ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْإِيمَانِ بِطَرِيقِ مُجْمَلٍ. وَإِنَّمَا عُمْدَةُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ: هُوَ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ. وَقَدْ بَنَوْهَا عَلَى مَقَايِيسَ تَسْتَلْزِمُ رَدَّ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ فَلَحِقَهُمْ الذَّمُّ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا وَمِنْ جِهَةِ رَدِّهِمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ بَنَوْا عَلَى هَذِهِ الْعَقْلِيَّاتِ الْقِيَاسِيَّةِ: الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ دُونَ الْعَمَلِيَّةِ كَالْأَشْعَرِيَّةِ،(2/7)
وَقِسْمٌ بَنَوْا عَلَيْهَا الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ كَالْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْأَفْعَالِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَمَا حَسُنَ مِنْ اللَّهِ حَسُنَ مِنْ الْعَبْدِ وَمَا قَبُحَ مِنْ الْعَبْدِ قَبُحَ مِنْ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ النَّاسُ مُشَبِّهَةَ الْأَفْعَالِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَكَلِّمَةُ الْمَذْمُومُونَ عِنْدَ السَّلَفِ لِكَثْرَةِ بِنَائِهِمْ الدِّينَ عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْكَلَامِيِّ وَرَدِّهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالْآخَرُونَ لَمَّا شَارَكُوهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لَحِقَهُمْ مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ بِقَدْرِ مَا وَافَقُوهُمْ فِيهِ؛ وَهُوَ مُوَافَقَتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَلَائِلِهِمْ؛ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ بِهَا أُصُولَ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا السُّنَنَ وَالْآثَارَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّا قَدْ كَتَبْنَا فِيهِ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ جَاءَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ - فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ - بِأَكْمَلِ الْمَنَاهِجِ.
وَالْمُتَكَلِّمُ يَظُنُّ أَنَّهُ بِطَرِيقَتِهِ - الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا - قَدْ وَافَقَ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ: تَارَةً فِي إثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْمَعَادِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ مِثْلَ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ظَنِّهِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ طَرِيقَتَهُ مِنْ وُجُوهٍ.(2/8)
مِنْهَا: أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ فِي الْقُرْآنِ بِنَفْسِ آيَاتِهِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمُ بِهَا الْعِلْمَ بِهِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلْمِ بِالشُّعَاعِ: الْعِلْمَ بِالشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يُقَالُ فِيهِ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ؛ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ؛ أَوْ كُلُّ حَرَكَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ غائية أَوْ فَاعِلِيَّةٍ؛ وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يُقَالَ: سَبَبُ الِافْتِقَارِ إلَى الصَّانِعِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ فَقَطْ - كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؟ أَوْ الْإِمْكَانُ - كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ؟ حَتَّى يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ حَالٌ بَاقِيَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الصَّحِيحِ دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنِّي قَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَوْضِعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَبَيَّنْت مَا هُوَ الْحَقُّ؛ مِنْ أَنَّ نَفْسَ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ وَأَنَّ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا أَنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِهَذَا الِافْتِقَارِ غَيْرُ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَعَيْنِ الْآنِيَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِغِنَاهُ غَيْرَ نَفْسِ ذَاتِهِ. فَلَك أَنْ تَقُولَ: لَا عِلَّةَ لِفَقْرِهَا وَغِنَاهُ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَمْرٍ عِلَّةٌ؛ فَكَمَا لَا عِلَّةَ لِوُجُودِهِ وَغِنَاهُ: لَا عِلَّةَ لِعَدَمِهَا إذَا لَمْ يَشَأْ كَوْنَهَا وَلَا لِفَقْرِهَا إلَيْهِ إذَا شَاءَ كَوْنَهَا وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ: عِلَّةُ هَذَا الْفَقْرِ وَهَذَا الْغِنَى: نَفْسُ الذَّاتِ وَعَيْنُ الْحَقِيقَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ فَقْرَ نَفْسِهِ وَحَاجَتَهَا إلَى خَالِقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَالْمُمْكِنُ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ أَوْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ الْمَسْبُوقُ بِالْعَدَمِ؛ بَلْ قَدْ يَشُكُّ فِي قِدَمِهَا أَوْ يَعْتَقِدُهُ. وَهُوَ يَعْلَمُ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَى بَارِئِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَقْرِ إلَى الصَّانِعِ عِلَّةً إلَّا الْإِمْكَانَ أَوْ(2/9)
الْحُدُوثَ لَمَا جَازَ الْعِلْمُ بِالْفَقْرِ إلَيْهِ؛ حَتَّى تَعْلَمَ هَذِهِ الْعِلَّةَ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ إلَّا هَذَا. وَحِينَئِذٍ: فَالْعِلْمُ بِنَفْسِ الذَّوَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ وَالْآنِيَاتِ الْمُضْطَرَّةِ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَاجَتِهَا إلَى بَارِئِهَا وَفَقْرِهَا إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ آيَاتٍ. فَهَذَانِ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ أَوْ الْمُحْدِثِ: لِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مُفْتَقِرٍ إلَى الْمُؤَثِّرِ: الْمُوجِبُ أَوْ الْمُحْدِثُ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنْ لَيْسَ الطَّرِيقُ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ وَفِيهِ طُولٌ وَعَقَبَاتٌ تُبْعِدُ الْمَقْصُودَ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالْعِلْمُ بِفَقْرِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إمْكَانٍ أَوْ حُدُوثٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ كَوْنَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ كُلِّيٍّ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ لِأَنَّهَا آيَةٌ لَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ دُونَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ آيَةٍ لَهُ. وَالْقَلْبُ بِفِطْرَتِهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ؛ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِقَلْبِهِ وَصْفُ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ. وَالنُّكْتَةُ: أَنَّ وَصْفَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الْقَلْبُ لَا فِي فَقْرِ ذَوَاتِهَا وَلَا فِي أَنَّهَا آيَةٌ لِبَارِيهَا؛ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ ثَابِتَيْنِ. وَهُمَا أَيْضًا دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنَّ أَعْيَانَ الْمُمْكِنَاتِ آيَةٌ لِعَيْنِ خَالِقِهَا الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ شَرِكَةٌ فِيهِ.(2/10)
وَأَمَّا قَوْلُنَا كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُرَجِّحٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ: فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُحْدِثٍ وَمُرَجِّحٍ وَهُوَ وَصْفٌ كُلِّيٌّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ؛ وَلِهَذَا الْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ التَّعْيِينِ. فَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ عَلَى وَصْفِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ كُلِّيَّةٍ. وَأَيْضًا فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الصَّانِعِ بِوَصْفِ إمْكَانِهَا أَوْ حُدُوثِهَا أَوْ هُمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ؛ بِأَنْ يُقَالَ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَضْلًا عَنْ تَقْرِيرِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ عِلْمُ الْقَلْبِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ كَعِلْمِهِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ. فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْعِلْمِ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لَهَا؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ ضِعْفُ الْخَمْسَةِ: لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفِيَّةٌ فَهُوَ ضِعْفُ نِصْفَيْهِ. وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ قَالَ جُبَيْرُ ابْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْتهَا أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ تَصَدَّعَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ يَقُولُ أُوجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُبْدِعٍ؟ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ غَيْرِ مُكَوِّنٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا نُفُوسَهُمْ وَعِلْمَهُمْ بِحُكْمِ أَنْفُسِهِمْ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ: بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحْدَثٌ أَوْ كُلَّ مُمْكِنٍ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ النَّوْعِيَّةُ صَادِقَةً؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْمُعَيَّنَةِ الْخَاصَّةِ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ سَابِقًا لَهَا فَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا؛ وَلَا دُونَهَا فِي الْجَلَاءِ.(2/11)
وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَذَكَرْت دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ؛ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاءَ بِالطَّرِيقِ الْفِطْرِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؟ وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الذَّوَاتِ آيَةٌ لِلَّهِ؛ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَيْنِك الْمَقَامَيْنِ؛ وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ بَيَّنَ حَاجَتَهُمْ إلَى الْخَالِقِ بِنُفُوسِهِمْ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ: هُمْ فِيهَا وَسَائِرُ أَفْرَادِهَا سَوَاءٌ؛ بَلْ هُمْ أَوْضَحُ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَرَّرْته مَبْسُوطًا فِي غَيْرِ هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي مُفَارَقَةِ الطَّرِيقَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَغَايَتُهَا وَنِهَايَتُهَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا هُوَ غَايَةُ الطَّرِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ فَلَا وَافَقُوا لَا فِي الْوَسَائِلِ وَلَا فِي الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ الْقُرْآنِيَّةَ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ قَرِيبَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ قِيَاسِيَّةٌ بَعِيدَةٌ؛ وَلَا تُوَصِّلُ إلَّا إلَى نَوْعِ الْمَقْصُودِ لَا إلَى عَيْنِهِ. وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ فَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْعَمَلِ لَهُ فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّتَيْ الْإِنْسَانِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ: الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ والاعتمادية: الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ وَالطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ؛ إنَّمَا تُفِيدُ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ؛ وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهِ(2/12)
وَهَذَا إذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنَابَةٍ: كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ؛ وَشَقَاءً لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: {أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ} كإبليس اللَّعِينِ؛ فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِرَبِّهِ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ؛ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْبُدْهُ كَانَ رَأْسَ الْأَشْقِيَاءِ وَكُلُّ مَنْ شَقِيَ فَبِاتِّبَاعِهِ لَهُ. كَمَا قَالَ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} . فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْهُ وَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالرَّبِّ؛ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ وَإِنَّمَا أَبَى وَاسْتَكْبَرَ عَنْ الطَّاعَةِ؛ وَالْعِبَادَةِ؛ وَالْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ وَالْغَايَةِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ الْعِلْمُ بِلَا عَمَلٍ كَالشَّجَرِ بِلَا ثَمَرٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ لَهُ حَتَّى يَكُونَ عَابِدًا لَهُ. فَالرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: أَمَرَتْ بِهَذَا وَأَوْجَبَتْهُ بَلْ هُوَ رَأْسُ الدَّعْوَةِ وَمَقْصُودُهَا وَأَصْلُهَا وَالطَّرِيقَةُ السَّمَاعِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الصَّوْتِيَّةُ الْمُنْحَرِفَةُ؛ تُوَافِقُ عَلَى الْمَقْصُودِ الْعَمَلِيِّ؛ لَكِنْ لَا بِعِلْمِ؛ بَلْ بِصَوْتِ مُجَرَّدٍ أَوْ بِشِعْرِ مُهَيِّجٍ؛ أَوْ بِوَصْفِ حُبٍّ مُجْمَلٍ. فَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَلَامِيَّةَ فِيهَا عِلْمٌ نَاقِصٌ بِلَا عَمَلٍ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِيهَا عَمَلٌ نَاقِصٌ بِلَا عِلْمٍ. وَالطَّرِيقَةُ النَّبَوِيَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الْجَمَاعِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ كَامِلَيْنِ.
فَفَاتِحَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ(2/13)
النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ} وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ أَدَلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ لَهُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ وَبِهَا أُمِرُوا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُعَاذِ: {إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ لِلرُّسُلِ جَمِيعًا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} {إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَقَالَ: {إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} وَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَقَالَ فِي الْفَاتِحَةِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ؟ وَقَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .(2/14)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
فَصْلٌ: فِي تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ
وَذَلِكَ بِبَيَانِ وَتَحْرِيرِ أَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - كَمَا قَدْ كَتَبْته أَوَّلًا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَاَلَّذِي أَكْتُبُهُ هُنَا: - بَيَانُ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ الْإِيمَانِيِّ الْعِلْمِيِّ الصلاحي وَالْمِنْهَاجِ الصَّابِئِ الْفَلْسَفِيِّ وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ وَالْعِبَادِيِّ الْمُخَالِفِ لِسَبِيلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ. فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ: هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ؛ وَذَلِكَ فِطْرِيٌّ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَبَيَّنْت أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَأَنَّهُ أَشَدُّ رُسُوخًا فِي النُّفُوسِ مِنْ مَبْدَإِ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ كَقَوْلِنَا: إنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَمَبْدَأُ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ. كَقَوْلِنَا: إنَّ الْجِسْمَ(2/15)
لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ أَسْمَاءٌ قَدْ تُعْرِضُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْفِطَرِ وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ: فَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ فِطْرَةٌ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ وَالْآخِرَ الَّذِي إلَيْهِ تَصِيرُ الْحَادِثَاتُ؛ فَهُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَجَامِعُهُ وَذِكْرُهُ أَصْلُ كُلِّ كَلَامٍ وَجَامِعُهُ وَالْعَمَلُ لَهُ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَجَامِعُهُ. وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ صَلَاحٌ إلَّا فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ. وَإِذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ: فَمَا سِوَاهُ إمَّا فَضْلٌ نَافِعٌ وَإِمَّا فُضُولٌ غَيْرُ نَافِعَةٍ؛ وَإِمَّا أَمْرٌ مُضِرٌّ. ثُمَّ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ: تَتَشَعَّبُ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ: تَتَشَعَّبُ وُجُوهُ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ وَالْقَلْبُ بِعِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ: مُعْتَصِمٌ مُسْتَمْسِكٌ قَدْ لَجَأَ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ وَاعْتَصَمَ بِالدَّلِيلِ الْهَادِي وَالْبُرْهَانِ الْوَثِيقِ فَلَا يَزَالُ إمَّا فِي زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَإِمَّا فِي السَّلَامَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ. وَبِهَذَا جَاءَتْ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ فِي أَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ؛ وَضَرَبَ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ - وَهُوَ الْمُقِرُّ بِرَبِّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا - بِالْحَيِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ. وَضَرَبَ مَثَلَ الْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالظُّلْمَةِ وَالْحَرُورِ. وَقَالُوا فِي الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ: هُوَ الَّذِي إذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غُفِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ.(2/16)
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَصْلٌ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ كُفْرٍ وَجَهْلٍ وَفِسْقٍ وَظُلْمٍ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَقَالَ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ. وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. وَلِهَذَا: كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَمَنَعَ ابْنُ عَقِيلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يُسَمَّى دَلِيلًا؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّالُّ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِحَسَبِ مَا غَلَبَ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّالِّ وَالدَّلِيلِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ مَعْدُولٌ عَنْ الدَّالِّ وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ فِيهِ صِفَةَ الدَّلَالَةِ فَكُلُّ دَلِيلٍ دَالٌّ وَلَيْسَ كُلُّ دَالٍّ دَلِيلًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَإِنَّ فَعِيلًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْآلَاتِ كمفعل ومفعال. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَجْسَامِ أَدِلَّةً: بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَدُلُّ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَمَا يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَهْدِي وَتُرْشِدُ وَتَعْرِفُ وَتَعْلَمُ وَتَقُولُ وَتُجِيبُ وَتَحْكُمُ وَتُفْتِي وَتَقُصُّ وَتَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ قَصْدٌ وَإِرَادَةٌ وَلَا حِسٌّ وَإِدْرَاكٌ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ. فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ وَالتَّخْصِيصِ: لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.(2/17)
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّهُ فِي عَبْدِهِ الْمَحْبُوبِ: {فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَعْقِلُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَسْعَى} وَالْمُسْلِمُ يَقُولُ: اسْتَعَنْت بِاَللَّهِ وَاعْتَصَمْت بِهِ. وَإِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ: الْأَعْيَانُ وَالصِّفَاتُ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ بَلْ وَيُسْتَدَلُّ بِالْمَعْدُومِ؛ فَلَأَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ أَوْلَى وَأَحْرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: " يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ ": يَقْتَضِي أَنَّ تَسْمِيَتَهُ دَلِيلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَالٌّ لِعِبَادِهِ لَا بِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ كَمَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا لَا يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ وَالْهِدَايَةَ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْهَادِي وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا الْبُرْهَانُ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: عَرَفْت الْأَشْيَاءَ بِرَبِّي وَلَمْ أَعْرِفْ رَبِّي بِالْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الدَّلِيلُ لِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ وَإِنْ كَانَ كُلَّ شَيْءٍ - لِئَلَّا يُعَذِّبَنِي - عَلَيْهِ دَلِيلًا. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ فَقَالَ: مَنْ طَلَبَ دِينَهُ بِالْقِيَاسِ: لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي الْتِبَاسٍ خَارِجًا عَنْ الْمِنْهَاجِ ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ: عَرَفْته بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفْته بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ حَصَلَتْ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ وَصْفَ اللِّسَانِ حَصَلَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْقُرْآنِ.(2/18)
وَقَالَ آخَرُ لِلشَّيْخِ:
قَالُوا ائْتِنَا بِبَرَاهِينَ فَقُلْت لَهُمْ ... أَنَّى يَقُومُ عَلَى الْبُرْهَانِ بُرْهَانُ؟
وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ لِلْمُتَكَلِّمِ: الْيَقِينُ عِنْدَنَا وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ. وَقَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الكوراني لِلشَّيْخِ الْمُتَكَلِّمِ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ تَعَرَّفَ إلَيْنَا فَعَرَفْنَاهُ: يَعْنِي إنَّهُ تَعَرَّفَ بِنَفْسِهِ وَبِفَضْلِهِ. مَعَ أَنَّ كَلَامَ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الطَّرِيقَةِ الْعِبَادِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ. الْحَيُّ. الْقَيُّومُ الَّذِي هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُؤَصِّلُ كُلِّ أَصْلٍ وَمُسَبِّبُ كُلِّ سَبَبٍ وَعِلَّةٍ: هُوَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْأَوَّلُ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَبْدُ وَيَفْزَعُ إلَيْهِ وَيَرُدُّ جَمِيعَ الْأَوَاخِرِ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ: كَانَ ذَلِكَ سَبِيلَ الْهُدَى وَطَرِيقَهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ وَالْحَرَكَاتِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَصْدَرَهَا وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهَا: كَانَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. فَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ النَّصِيرُ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} . وَكُلُّ عِلْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَكُلُّ عَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ. فَالْوَاجِبُ(2/19)
أَنْ يَكُونَ هُوَ أَصْلُ كُلِّ هِدَايَةٍ وَعِلْمٍ وَأَصْلَ كُلِّ نُصْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَلَا يَسْتَهْدِي الْعَبْدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَنْصِرُ إلَّا إيَّاهُ. وَالْعَبْدُ لَمَّا كَانَ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا مَفْطُورًا مَصْنُوعًا: عَادَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ إلَى خَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ وَرَبِّهِ وَصَانِعِهِ فَصَارَ ذَلِكَ تَرْتِيبًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ وَتَأْلِيفًا مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ؛ إذْ بِنَاءُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَقْدِيمُ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ: هُوَ الْحَقُّ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُوَافِقَةُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ وَخِلْقَتِهِ وَلِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ (1) أَنَّ {رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؛ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْفَلْسَفِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ ابْتَدَءُوا بِنُفُوسِهِمْ فَجَعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي يُفَرِّعُونَ عَلَيْهِ وَالْأَسَاسَ الَّذِي يَبْنُونَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمُوا فِي إدْرَاكِهِمْ لِلْعِلْمِ: أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِالْحِسِّ وَتَارَةً بِالْعَقْلِ وَتَارَةً بِهِمَا. وَجَعَلُوا الْعُلُومَ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ وَنَحْوَهَا: هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِهَا. ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إنَّمَا يُدْرِكُونَ بِذَلِكَ الْأُمُورَ الْقَرِيبَةَ مِنْهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ فَجَعَلُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْأُصُولَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) في المطبوعة " عامر " والصحيح " عائشة " كما في كتب السنة(2/20)
الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا سَائِرَ الْعُلُومِ؛ وَلِهَذَا يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ - كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ - لَا يَجْتَمِعَانِ. فَهَذَانِ الْفَنَّانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْأَخْلَاقُ مِثْلُ: اسْتِحْسَانُ الْعِلْمِ وَالْعَدْلُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ. فَجُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْأُصُولِ لَكِنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهَا مِنْ الْأُصُولِ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا مِنْ الْفُرُوعِ. الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ الْمُتَكَلِّمَةِ الْمُنْتَصِرِينَ لِلسُّنَّةِ فِي تَأْوِيلِ الْقَدَرِ فَكَانَ الَّذِي أَصَّلُوهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ: أَمْرًا قَلِيلَ الْفَائِدَةِ. نَزْرَ الْجَدْوَى وَهُوَ الْأُمُورُ السُّفْلِيَّةُ. ثُمَّ إذَا صَعِدُوا مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَالدَّلَائِلِ إلَى الْأُمُورِ الْعُلْوِيَّةِ فَلَهُمْ طَرِيقَانِ: أَمَّا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِلنُّبُوَّاتِ: فَغَرَضُهُمْ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ صَانِعِ الْعَالَمِ وَالصِّفَاتُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ عَلَى طَرِيقِهِمْ ثُمَّ إذَا أَثْبَتُوا النُّبُوَّةَ: تَلَقَّوْا مِنْهَا السَّمْعِيَّاتِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَفُرُوعُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَفَلْسِفَةُ: فَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَوَازِمِهَا؛ ثُمَّ يَصْعَدُونَ إلَى الْأَفْلَاكِ وَأَحْوَالِهَا. ثُمَّ الْمُتَأَلِّهُونَ مِنْهُمْ يَصْعَدُونَ إلَى وَاجِبِ(2/21)
الْوُجُودِ وَإِلَى الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ وَاجِبَ الْوُجُودِ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَاجِبٍ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ فِيهَا فَسَادٌ كَثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ: أَمَّا الْمَقَاصِدُ فَإِنَّ حَاصِلَهَا بَعْدَ التَّعَبِ - الْكَثِيرِ وَالسَّلَامَةِ - خَيْرٌ قَلِيلٌ فَهِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ. ثُمَّ إنَّهُ يَفُوتُ بِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَحْمُودَةِ مَا لَا يَنْضَبِطُ هُنَا. وَأَمَّا الْوَسَائِلُ: فَإِنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ كَثِيرَةُ الْمُقَدِّمَاتِ يَنْقَطِعُ السَّالِكُونَ فِيهَا كَثِيرًا قَبْلَ الْوُصُولِ وَمُقَدِّمَاتُهَا فِي الْغَالِبِ إمَّا مُشْتَبِهَةٌ يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا وَإِمَّا خَفِيَّةٌ لَا يُدْرِكُهَا إلَّا الْأَذْكِيَاءُ. وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ اثْنَانِ رَئِيسَانِ عَلَى جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ إلَّا نَادِرًا. فَكُلُّ رَئِيسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين: لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ تُخَالِفُ طَرِيقَةَ الرَّئِيسِ الْآخَرِ بِحَيْثُ يَقْدَحُ كُلٌّ مِنْ أَتْبَاعِ أَحَدِهِمَا فِي طَرِيقَةِ الْآخَرِ وَيَعْتَقِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بَلْ عَامَّةُ السَّلَفِ يُخَالِفُونَهُ فِيهَا. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ غَالِبَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالِمِ ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى مُحْدِثِهِ؛ ثُمَّ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ حُدُوثِهِ طُرُقٌ: فَأَكْثَرُهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ؛ وَهِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ. ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ: لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ(2/22)
أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِأَفْعَالِهِ وَإِلَّا انْتَقَضَ الدَّلِيلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُخَالِفُهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ الْحَرَكَاتِ: يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ؛ وَيَنْزِلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ؛ لَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ؛ وَلَا عِزَّةَ؛ وَلَا رَحْمَةَ؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ أَعْرَاضٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ. وَأَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفَلْسَفَةِ - كَابْنِ سِينَا - يَبْتَدِئُ بِالْمَنْطِقِ ثُمَّ الطَّبِيعِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ أَوْ لَا يَذْكُرُهُ. ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الْإِلَهِيِّ. وَتَجِدُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْكَلَامِ يَبْتَدِئُونَ بِمُقَدِّمَاتِهِ فِي الْكَلَامِ: فِي النَّظَرِ وَالْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ - وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَنْطِقِ - ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ. وَإِثْبَاتِ مُحْدِثِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى تَقْسِيمِ الْمَعْلُومَاتِ إلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَيَنْظُرُ فِي الْوُجُودِ وَأَقْسَامُهُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْفَيْلَسُوفُ فِي أَوَّلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ. فَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَأَوَّلُ دَعْوَتِهِمْ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.(2/23)
وَقَدْ اعْتَرَفَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يُطَهِّرُونَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَيَمْلَئُونَهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا مَبْدَأُ دَعْوَةِ الرَّسُولِ؛ لَكِنَّ الصُّوفِيَّ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ الْإِثَارَةُ النَّبَوِيَّةُ مُفَصَّلَةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْإِثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُ مُفَصَّلَةٌ. فَتَدَبَّرْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِيَتَمَيَّزَ لَك طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَطَرِيقُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ مِنْ طَرِيقِ الْجَهْلِ وَالنُّكْرَانِ.(2/24)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْن تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
فَصْلٌ:
قَدْ تَكَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فِي قِيَامِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ لَكِنْ يَسْتَشْهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} وَيَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ هُوَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ هَالِكٌ أَوْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ وَإِنَّمَا لَهُ الْوُجُودُ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ فَهُوَ هَالِكٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِوَجْهِ رَبِّهِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ مَوْجُودٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ؛ فَيَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ هُوَ وُجُودُ الْكَائِنَاتِ وَوَجْهُ اللَّهِ هُوَ وُجُودُهُ فَيَكُونُ وَجُودُهُ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ وَالْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا - وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ جَعَلَ وُجُودَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَمَيَّزُ بِحَقِيقَةِ تَخُصُّهُ سَوَاءٌ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَزْعُمُ ابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - أَوْ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ.(2/25)
وَهُمْ يُسَلِّمُونَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ - مِمَّا هُوَ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ - بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - إنَّمَا وُجُودُهُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَالْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ لَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ وُجُودُ مُطْلَقٍ سِوَى أَعْيَانِهَا كَمَا لَيْسَ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْإِنْسَانِ إنْسَانٌ مُطْلَقٌ وَرَاءَ هَذَا الْإِنْسَانِ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ عَلَى الْأَوَّلِ ذِهْنِيًّا وَعَلَى الثَّانِي نَفْسَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين؛ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ؛ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعْطِيلِ؛ لَكِنْ هُمْ يُثْبِتُونَهُ أَيْضًا. فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْحَيْرَةَ مُنْتَهَى الْمَعْرِفَةِ وَيَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَكْذُوبًا عَلَيْهِ {أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ أَشَدُّكُمْ حَيْرَةً} وَأَنَّهُ قَالَ: {اللَّهُمَّ زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا} وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُلْتَزِمِينَ لِذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ هَؤُلَاءِ بِالْتِزَامِهِ؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ. فَإِنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِالْتِزَامِهِ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ الْحَلَّاجِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُقَالَ: أَمَّا كَوْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ فِي بَدِيهَةِ عَقْلِ كُلِّ إنْسَانٍ وَإِنْ كَانَ مُنْتَحِلُوهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.(2/26)
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَخْلُوقِ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ - فَهَذَا حَقٌّ ثُمَّ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ هُوَ خَالِقُهَا وَرَبُّهَا وَمَلِيكُهَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَعَانِيَ: تَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ. فَالْبَاطِلُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ. وَالْحَقُّ: إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فُسِّرَ بِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ لِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَةٍ كَالْمُنَاسِبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالتَّعْبِيرِ؛ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ إذْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى سَمْعِيَّةٌ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى بِهِ لَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَصْلُحَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى. إذْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَصْلُحُ وَضْعُهَا لِلْمَعَانِي وَلَمْ تُوضَعْ لَهَا: لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إلَّا اللَّهُ. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ: فَكُلُّ لَفْظٍ يَصْلُحُ وَضْعُهُ لِكُلِّ مَعْنًى؛ لَا سِيَّمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ؛ فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ دَأْبُ الْقَرَامِطَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ جُهَّالِ الْوُعَّاظِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِشَارَاتِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ(2/27)
عَلَيْهَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَأَمَّا أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْفُقَهَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْقِيَاسِ؛ وَالِاعْتِبَارِ وَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قِيَاسًا صَحِيحًا لَا فَاسِدًا وَاعْتِبَارًا مُسْتَقِيمًا لَا مُنْحَرِفًا. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا هُوَ مَأْثُورٌ وَمَنْقُولٌ عَنْ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ؛ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ. هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ وَهَذَا يُبَيَّنُ بِوُجُوهِ بَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الرُّجْحَانِ وَبَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الْبُطْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ إلَّا مِنْ وَجْهِهِ وَلَكِنْ قَالَ إلَّا وَجْهَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءُ تَهْلَكُ إلَّا وَجْهَهُ. فَإِنْ أُرِيدَ بِوَجْهِهِ وُجُودَهُ: اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ هَالِكَةً. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الِاتِّحَادِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ إذْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سِوَى وُجُودِهِ إذْ أَصْلُ مَذْهَبِهِمْ نَفْيُ السِّوَى وَالْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا يَتِمُّ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ الْمُرَادُ بِالْهَالِكِ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا هُوَ. قِيلَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْهَالِكِ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ الْمَخْلُوقِ لِأَجْلِ أَنَّ وُجُودَهُ مِنْ رَبِّهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ: لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.(2/28)
وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ فِي اسْمِ الْهَلَاكِ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} وَقَالَ {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} وَقَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {إنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وَقَالَ: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} . فَهَذِهِ الْآيَاتُ: تَقْتَضِي أَنَّ الْهَلَاكَ اسْتِحَالَةٌ وَفَسَادٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إذْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ تَشْتَرِكُ فِي هَذَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ لِلْعَدَمِ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ الْعَدَمَ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ الْخَبَرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ اللَّهِ.(2/29)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ - إلَى اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ - كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ إيضَاحِ الْوَاضِحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلّ ما سِوَى وَاجِبِ الْوُجُودِ: فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَنَّ كُلّ ما هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ: اسْمُ الْوَجْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي سِيَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْعَمَلِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي تَقْرِيرِ أُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ لَا فِي تَقْرِيرِ وَحْدَانِيَّةِ كَوْنِهِ خَالِقًا وَرَبًّا وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْعِلَّةُ الغائية وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ وَالْعِلَّةُ الغائية هِيَ الْمَقْصُودَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ بَلْ هِيَ عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ وَلِهَذَا: قَدَّمْت فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ اسْمِ الْوَجْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْوَجْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَاكَ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْكِتَابُ وَالْكِتَابُ قَدْ وَرَدَ بِغَيْرِهِ حَيْثُ ذُكِرَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اسْمَ الْهَلَاكِ يُرَادُ بِهِ الْفَسَادُ وَخُرُوجُهُ عَمَّا يُقْصَدُ بِهِ(2/30)
وَيُرَادُ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا لَا يَكُونُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَجِبُ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِنَهْيِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ نَأَى عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَنَهَى غَيْرَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْكَافِرُ - فَإِنَّ هَلَاكَهُ بِكُفْرِهِ هُوَ حُصُولُ الْعَذَابِ الْمَكْرُوهِ لَهُ دُونَ النَّعِيمِ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} .
وَقَالَ: (1)
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض بالأصل(2/31)
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: (*)
فَصْلٌ:
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا: لَيْسَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا قَيُّومًا؛ بَلْ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ فِي مَفْعُولَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ الِانْفِرَادِ بِهَا إذْ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ؛ (*) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنُ. وَالثَّانِي: مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِوَاحِدِ: لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِاثْنَيْنِ فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا مُمْكِنًا. لَا يَخْتَلِفُ بِتَعَدُّدِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَتَوَحُّدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِوَاحِدِ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِاثْنَيْنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُمْكِنٌ: جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا لِوَاحِدِ وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالِامْتِنَاعُ لِمَعْنَى فِي الْمُمْكِنِ - الْمَفْعُولِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ - إذْ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْحَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي الْقَادِرِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ لَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 20) :
هذا الفصل مستل من مجموعة فصول مذكورة في: 20 / 178، والإشارة في قوله (هذا أيضاً) ، وقوله (كما تقدم) ، ونحو ذلك، يعود للفصول المذكورة قبل هذا الفصل هناك. وبالمقارنة بين الفصلين يظهر بعض الفروق اليسيرة - وقد أشرت عند الكلام على المجلد العشرين إلى ما يخص ذلك الفصل -، أما هنا فأهم الفروق:
1 - (2 / 33) : (ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق) ، وفي 20 / 179 (في المخلوقات) وهو الأظهر.
2 - (2 / 33) : (وإن كانت إحداها باقية) ، وفي 20 / 179 (وإن كانت أحوالها باقية) .
3 - (2 / 35) : (وليس فيها ما هو وحده علة قائمة) ، وفي 20 / 181 (ما هو وحده علة تامة) وهو الأظهر.
4 - (2 / 35 - 36) : (بل قيل: لا تكون في المخلوق علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة) ، وفي 20 / 182: (إذ ليس في المخلوق ما يكون وحده علة) وهو الأظهر.
5 - (2 / 36) : (وفقرها وأنها من بدئه) ، وفي 20 / 183: (وفقرها وأنها مربوبة) وهو الصواب.
وآخر خمسة عشر سطراً هنا لم تذكر هناك، وهذا دليل آخر - غير الفروق - على أن مصدر هذا الفصل نسخة أخرى غير تلك النسخة، والله تعالى أعلم.(2/32)
بِوَاحِدِ بَلْ إمْكَانُ ذَلِكَ: مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ؛ بَلْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا كُلَّمَا كَانَ مَحَلُّهَا مُتَّحِدًا مُجْتَمِعًا كَانَ أَكْمَلَ لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا. وَلِهَذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُوجِبَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَانْفَرَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهَا بَاقِيَةً بَلْ الْأَشْخَاصُ وَالْأَعْضَاءُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَدْ قَامَ بِكُلِّ مِنْهَا قُدْرَةٌ؛ فَإِذَا قُدِّرَ اتِّحَادُهَا وَاجْتِمَاعُهَا: كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ: بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حِينَ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَيْنَك الِاثْنَيْنِ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا - تَكُونُ الْقُدْرَةُ أَكْمَلَ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِلْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِمَحَلَّيْنِ؟ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَحَلَّيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَامَ بِهِمَا قُدْرَتَانِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ قَامَتَا بِهِ لَمْ تَنْقُصْ الْقُدْرَةُ بِذَلِكَ بَلْ تَزِيدُ: عُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُمْكِنَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لِقَادِرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا - قَادِرٌ وَاحِدٌ قَدْ قَامَ بِهِ مَا قَامَ بِهِمَا: لَمْ يَنْقُصْ بِذَلِكَ بَلْ يَزِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا: قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي الْمُشْتَرِكَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا شَيْئًا وَاحِدًا قَادِرًا عَلَيْهِ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ أُخْرَى.(2/33)
إذَا كَانَ يُمْكِنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَتَغَيَّرَ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ وَيُغَيِّرَهَا إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْفِرَادِ بِمَفْعُولِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَتَغْيِيرِهَا أَوْلَى؟ . وَإِذَا كَانَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيُكْمِلَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ إمْكَانٌ وَافْتِقَارٌ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا مُمْكِنًا. وَهَذَا تَنَاقُضٌ إذْ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ تَكُونُ نَفْسُهُ كَافِيَةً فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ؛ إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى ذَاتِهِ بَلْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ. فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى غَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ: يُوجِبُ افْتِقَارَهُ فِي فِعْلِهِ وَصِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ؛ إذْ مَفْعُولُهُ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ كَامِلَةً غَنِيَّةً: لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ فِي فِعْلِهَا؛ فَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ: دَلِيلُ عَدَمِ غِنَاهُ وَعَلَى حَاجَتِهِ إلَى الْغَيْرِ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْوُجُودِ: مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: كَانَ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِ(2/34)
رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شَرِيكٍ فِي الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةً قَائِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بَلْ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ عَنْ بَعْضِ الْأَسْبَابِ إلَّا بِمُشَارَكَةِ سَبَبٍ آخَرَ لَهُ. فَيَكُونُ - وَإِنْ سُمِّيَ عِلَّةً - عِلَّةً مُقْتَضِيَةً سَبَبِيَّةً؛ لَا عِلَّةً تَامَّةً وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْآخَرِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَبَبٌ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْفِعْلِ فَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقِ - مِمَّا يُسَمَّى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ قَادِرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مُدَبِّرًا - فَلَهُ شَرِيكٌ هُوَ لَهُ كَالشَّرْطِ وَلَهُ مُعَارِضٌ هُوَ لَهُ مَانِعٌ وَضِدٌّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} وَالزَّوْجُ يُرَادُ بِهِ النَّظِيرُ الْمُمَاثِلُ وَالضِّدُّ الْمُخَالِفُ وَهُوَ النِّدُّ. فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا لَهُ شَرِيكٌ وَنِدٌّ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُسَمَّى خَالِقًا وَلَا رَبًّا مُطْلَقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ وَالِانْفِرَادَ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْنُوعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ؟ وَلِهَذَا - وَإِنْ نَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ تَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ وَادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَات أَوْصَافٍ بَلْ قِيلَ لَا تَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ(2/35)
عِلَّةٌ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ أَوْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ مَا يَكُونُ وَحْدَهُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ إلَّا مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ فَصَاعِدًا. فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ؛ بَلْ لَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ: إلَّا عَنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَفْعَلُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ إلَّا اللَّهُ. فَكَمَا أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ: فَالْمُشَارَكَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمَخْلُوقِ لَازِمَةٌ لَهُ والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكَمَالِ وَالْكَمَالُ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا وَالِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ الْوَحْدَانِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ: وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَوُجُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ - مِنْ الْغِنَى وَالْوُجُوبِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ - مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ؛ وَالْمُشَارَكَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفَقْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالْإِمْكَانِ بِالنَّفْسِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ. وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ دَلَائِلِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَامِهَا وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ إمْكَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَشْهُودَاتِ وَفَقْرِهَا وَأَنَّهَا مِنْ بَدْئِهِ فَهِيَ مِنْ أَدِلَّةِ إثْبَاتِ الصَّانِعِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ وَالِاشْتِرَاكِ: يُوجِبُ افْتِقَارَهَا وَإِمْكَانَهَا وَالْمُمْكِنُ الْمُفْتَقِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ. وَلَوْ فُرِضَ تَسَلْسُلُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ فَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا مُمْكِنَةٌ. وَالْمُمْكِنُ قَدْ عُلِمَ(2/36)
بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَيْضًا فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ بِحَالِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ؛ لِوُجُوهِ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلَ أَنَّ الْمُتَحَرِّكَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرَكَةٍ إرَادِيَّةٍ وَلَا بُدَّ لِلْإِرَادَةِ مِنْ مُرَادٍ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ وَالْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِنَفْسِهِ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُرَادَانِ بِأَنْفُسِهِمَا. وَأَيْضًا فَالْإِلَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ - إنْ لَمْ يَكُنْ رَبًّا - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَكُونُ رَبًّا خَالِقًا لَا يَكُونُ مَدْعُوًّا مَطْلُوبًا مِنْهُ مُرَادًا لِغَيْرِهِ؛ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْبُودًا مُرَادًا لِنَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى فَإِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ إثْبَاتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَنَفْيُ الرِّبَوِيَّةِ يُوجِبُ نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ؛ إذْ الْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْبِدَايَةِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلَّةِ الغائية لِلْفَاعِلِيَّةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ وَبِالشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ - فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْأَمْثَالِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ. لَكِنْ الْمُتَكَلِّمُونَ إنَّمَا انْتَصَبُوا لِإِقَامَةِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ،(2/37)
وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِي أَصْلِهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفَاصِيلِهِ كَنِزَاعِ الْمَجُوسِ والثنوية وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ الشِّرْكُ الْعَامُّ الْغَالِبُ الَّذِي دَخَلَ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.(2/38)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ: قَاعِدَةٌ
قَدْ كَتَبْت مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْكُرَّاسِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
أَصْلُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ: هُوَ شُعُورُ النَّفْسِ بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ. فَإِذَا شَعَرَتْ بِثُبُوتِ ذَاتِ شَيْءٍ أَوْ صِفَاتِهِ: اعْتَقَدَتْ ثُبُوتَهُ وَصَدَّقَتْ بِذَلِكَ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ صِفَاتِ كَمَالٍ اعْتَقَدَتْ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ صَدَّقَتْ وَمَدَحَتْهُ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ. وَإِذَا شَعَرَتْ بِانْتِفَائِهِ أَوْ انْتِفَاءِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ: اعْتَقَدَتْ انْتِفَاءَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ لَا بِثُبُوتِ وَلَا انْتِفَاءٍ: لَمْ تَعْتَقِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ تُصَدِّقْ وَلَمْ تُكَذِّبْ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ إذَا لَمْ تَشْعُرْ بِالثُّبُوتِ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ أَيْضًا بِالْعَدَمِ. وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْعَدَمِ وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْوُجُودِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْجَهْلِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَاَلَّذِي مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ.(2/39)
ثُمَّ إذَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ كَذَّبَتْ بِالثُّبُوتِ وَذَمَّتْهُ وَطَعَنَتْ فِيهِ؛ هَذَا إذَا كَانَ مَا اسْتَشْعَرَتْ وُجُودَهُ أَوْ عَدَمَهُ مَحْمُودًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مَذْمُومًا: كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ إذَا شَعَرَتْ بِمَا يُلَائِمُهَا أَحَبَّتْهُ وَأَرَادَتْهُ وَإِنْ شَعَرَتْ بِمَا يُنَافِيهَا أَبْغَضَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا أَوْ شَعَرَتْ بِمَا لَيْسَ بِمُلَائِمِ وَلَا مُنَافٍ: فَلَا مَحَبَّةَ وَلَا بِغْضَةَ؛ وَرُبَّمَا أَبْغَضْتَ. مَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا إذْ لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا. وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْمُنَافِي وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْمُلَائِمِ: فَرْقٌ بَيِّنٌ؛ لَكِنَّ هَذَا مَحْمُودٌ فَإِنَّ مَا لَمْ يُلَائِمْ الْإِنْسَانَ: فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فَيَكُونُ الْمَيْلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالْمَضَرَّةِ. فَيَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْمَيْلُ إلَيْهِ مَضَرَّةٌ ثُمَّ يَتْبَعُ الْحُبَّ لِلشَّخْصِ؛ أَوْ الْعَمَلَ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. كَمَا يَتْبَعُ الْبُغْضَ: اللَّعْنَةُ لَهُ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَحْبُوبًا. وَلَا مُبْغَضًا لَا يَتْبَعُهُ ثَنَاءٌ وَلَا دُعَاءٌ وَلَا طَعْنٌ وَلَا لَعْنٌ.
وَلَمَّا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وُجُودُ مَحْبُوبٍ مَأْلُوهٍ: كَانَ أَصْلُ السَّعَادَةِ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ: قَوْلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ إذْ لَا مُلَائِمَةَ لِأَرْوَاحِ الْعِبَادِ: أَتَمُّ مِنْ مُلَاءَمَةِ إلَهِهَا الَّذِي هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ تَعْبِيرُ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ(2/40)
التَّصْدِيقِ نَاقِصًا قَاصِرًا: انْقَسَمَ الْأُمَّةُ إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: - فَالْجَامِعُونَ حَقَّقُوا كِلَا مَعْنَيَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ التصديقي وَالْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ. وَفَرِيقَانِ فَقَدُوا أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ: فالكلاميون: غَالِبُ نَظَرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْقَضَايَا التصديقية؛ فَغَايَتُهُمْ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ. وَالصُّوفِيُّونَ: غَالِبُ طَلَبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَمَلِيَّةِ؛ فَغَايَتُهُمْ الْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْعَمَلُ وَالْإِرَادَةُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: فَجَامِعُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ بَيْنَ التَّصْدِيقِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِ الحبي. ثُمَّ إنَّ تَصْدِيقَهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَعَمَلَهُمْ وَحُبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ فَسَلِمُوا مَنْ آفَتَيْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَحَصَّلُوا مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّقْصِ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ لَهُ مَفْسَدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا - وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَصَوِّفًا - وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالثَّانِي: فَوَّتَ الْمُتَكَلِّمُ الْعَمَلَ وَفَوَّتَ الْمُتَصَوِّفُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ: كَانَ كَلَامُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِعِلْمِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَقْرُونًا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا(2/41)
الْبَاقُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَإِنَّ مُنْحَرِفَةَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِمْ شَبَهُ الْيَهُودِ وَمُنْحَرِفَةَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ فِيهِمْ شَبَهُ النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ جَانِبُ الْحُرُوفِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ. وَعَلَى الْآخَرِينَ جَانِبُ الْأَصْوَاتِ وَمَا يُثِيرُهُ مِنْ الْوَجْدِ وَالْحَرَكَةِ. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَيُجَادِلَهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ النَّافِعَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَتُشْبِهُ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَالْخَطَابَةِ وَالْجَدَلِ. بَقِيَ الشِّعْرُ وَالسَّفْسَطَةُ - الَّتِي هِيَ الْكَذِبُ الْمُمَوَّهُ - فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَذَكَرَ الْأَفَّاكِينَ؛ وَهُمْ الْمُسَفْسِطُونَ وَذَكَرَ الشُّعَرَاءَ. وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفْ النَّاسَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَجَبَّارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ؟ أَعَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى أَمْ عَلَى شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُفْتَرَى وَالشِّعْرَ الْمُفْتَعَلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَفَّاكِينَ وَالشُّعَرَاءَ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي الْقُوَّةِ الْخَبَرِيَّةِ. وَالشِّعْرُ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّلَبِيَّةِ فَتِلْكَ ضَلَالٌ وَهَذِهِ غَوَايَةٌ.(2/42)
وَلِهَذَا: يَقْتَرِنُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَثِيرًا فِي مِثْلِ الْمِلِّيين مِنْ الرُّهْبَانِ وَفَاسِدِي الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشِّعْرُ مُسْتَفَادًا مِنْ الشُّعُورِ - فَهُوَ يُفِيدُ إشْعَارَ النَّفْسِ بِمَا يُحَرِّكُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا بَلْ يُورِثُ مَحَبَّةً أَوْ نَفْرَةً أَوْ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْيِيلِ وَهَذَا خَاصَّةُ الشِّعْرِ - فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النَّاسَ حَرَكَةَ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ بِلَا عِلْمٍ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ؛ بِخِلَافِ الْإِفْكِ فَإِنَّ فِيهِ إضْلَالًا فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَتَحَرَّكُ تَارَةً عَنْ تَصْدِيقٍ وَإِيمَانٍ وَتَارَةً عَنْ شِعْرٍ. وَالثَّانِي مَذْمُومٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فَالذِّكْرُ خِلَافُ الشِّعْرِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ يَذْكُرُهُ الْقَلْبُ وَذَاكَ شِعْرٌ يُحَرِّكُ النَّفْسَ فَقَطْ. وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى مُنْحَرِفَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الِاعْتِيَاضُ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَشْعَارِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ حُبٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَابِعًا لِعِلْمِ وَتَصْدِيقٍ؛ وَلِهَذَا يُؤْثِرُهُ مَنْ يُؤْثِرُهُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَعْتَلُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حُقٌّ نَزَلَ مَنْ حَقٍّ وَالنُّفُوسُ تُحِبُّ الْبَاطِلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصِّدْقَ وَالْحَقَّ: يُعْطِي عِلْمًا وَاعْتِقَادًا بِجُمْلَةِ الْقَلْبِ وَالنُّفُوسُ الْمُبْطِلَةُ لَا تُحِبُّ الْحَقَّ. وَلِهَذَا أَثَرُهُ بَاطِلٌ يَتَفَشَّى مِنْ النَّفْسِ فَإِنَّهُ فَرْعٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ وَلَكِنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي النَّفْسِ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ وَالتَّأْثِيرِ. لَا مِنْ جِهَةِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ(2/43)
وَالْمَعْرِفَةِ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْقَوْلَ حَادِيًا لِأَنَّهُ يَحْدُو النُّفُوسَ أَيْ يَبْعَثُهَا وَيَسُوقُهَا كَمَا يَحْدُو حَادِي الْعِيسِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْجَدَلُ الْأَحْسَنُ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِي التَّصْدِيقَ وَالْعَمَلَ فَهُوَ نَافِعٌ مَنْفَعَةً عَظِيمَةً. وَإِنَّمَا قُلْت: إنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْأَقْيِسَةَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ: الْبُرْهَانِيَّةُ والخطابية وَالْجَدَلِيَّةُ وَلَيْسَتْ هِيَ؛ بَلْ أَكْمَلُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِوُجُوهِ: - أَحَدُهَا: أَنَّ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَجْمَعُ نَوْعَيْ: الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ؛ بِخِلَافِ الْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ: إنَّمَا فَائِدَتُهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ تَبِعَ ذَلِكَ عَمَلٌ أَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ يَقِينِيَّةً: كَانَ بُرْهَانًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً؛ أَوْ مَقْبُولَةً سُمِّيَ خَطَابَةً سَوَاءٌ كَانَتْ يَقِينِيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَذَلِكَ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ وَالتَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ لَيْسَ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ؛ إذْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا مَشْهُورَةً مَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ وَمَا يَمْنَعُ إفَادَةَ الْيَقِينِ. فَالْمَشْهُورَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْهُورَةٌ: تُفِيدُ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْنَاعَ وَالِاعْتِقَادَ. ثُمَّ إنْ عُرِفَ أَنَّهَا(2/44)
يَقِينِيَّةٌ أَفَادَتْ الْيَقِينَ أَيْضًا. وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا غَيْرُ يَقِينِيَّةٍ لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ؛ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ النَّفْسُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا: بَقِيَ اعْتِقَادًا مُجَرَّدًا لَا يُثْبَتُ لَهُ الْيَقِينُ وَلَا يُنْفَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي الْقُرْآنِ: فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا كَتَبْت تَفْسِيرَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ: تَجْمَعُ التَّصْدِيقَ بِالْخَبَرِ وَالطَّاعَةَ لِلْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ الْوَعْظُ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ. كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} وَقَوْلُهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً} أَيْ يَتَّعِظُونَ بِهَا فَيَنْتَبِهُونَ وَيَنْزَجِرُونَ. وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ الْأَحْسَنُ: يَجْمَعُ الْجَدَلَ لِلتَّصْدِيقِ وَلِلطَّاعَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: - وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْسَمَ هَذَا إلَى وَجْهٍ آخَرَ - بِأَنْ يُقَالَ: - النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ وَيَتَّبِعَهُ فَهَذَا صَاحِبُ الْحِكْمَةِ؛ وَإِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ؛ لَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِهِ فَهَذَا يُوعَظُ حَتَّى يَعْمَلَ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْتَرِفَ بِهِ فَهَذَا يُجَادَلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجِدَالَ فِي مَظِنَّةِ الْإِغْضَابِ فَإِذَا كَانَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: حَصَلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى حَقِّ يَقِينٍ؛ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَمْتَازُ بِهِ الْخَطَابَةُ وَالْجَدَلُ عَنْ الْبُرْهَانِ: بِكَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً غَيْرَ(2/45)
يَقِينِيَّةٍ بَلْ إذَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً. فَأَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ تَسْلِيمِ الْمُنَازِعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ صَادِقَةً أَوْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مَشْهُورَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَادِقَةً فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهُوَ أَصْدَقُ الْكَلَامِ وَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ. فَصَاحِبُ الْحِكْمَةِ: يَدَّعِي بِالْمُقْدِمَاتِ الصَّادِقَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْرَاكِ الدَّقِّ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَصَاحِبُ الْمَوْعِظَةِ: يَدَّعِي مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ بِالْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْخَفِيَّةَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يُنَازِعُ فِي الْمَشْهُورَةِ. وَصَاحِبُ الْجَدَلِ: يَدَّعِي بِمَا يُسَلِّمُهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ مَشْهُورَةً كَانَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ إذْ قَدْ لَا يَنْقَادُ إلَى مَا لَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَيَنْقَادُ لِمَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا فَهَذَا هَذَا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْجُهَّالُ الضُّلَّالُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمَةِ مَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ جَاءَ بِالطَّرِيقَةِ الخطابية وَعَرِيَ عَنْ الْبُرْهَانِيَّةِ أَوْ اشْتَمَلَ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا بَلْ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ وَتَكُونُ تَارَةً خطابية وَتَارَةً جَدَلِيَّةً مَعَ كَوْنِهَا بُرْهَانِيَّةً. وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ - هِيَ الْغَايَةُ فِي دَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فِي أَوَّلِ سُبْحَانَ وَآخِرِهَا وَسُورَةِ الْكَهْفِ وَالْمَثَلُ هُوَ الْقِيَاسُ؛ وَلِهَذَا اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ(2/46)
عَلَى خُلَاصَةِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ. وَنَزَّهَ اللَّهُ عَمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ؛ مِنْ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ وَيُوجَدُ فِيهِ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ بِحَالِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هُنَا نُكْتَةً يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهَا وَصْفٌ ذَاتِيٌّ وَوَصْفٌ إضَافِيٌّ: فَالْوَصْفُ الذَّاتِيُّ لَهَا: أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ صِدْقًا أَوْ لَا تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ كَذِبًا وَجَمِيعُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ هِيَ صِدْقٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا الْوَصْفُ الْإِضَافِيُّ: فَكَوْنُهَا مَعْلُومَةً عِنْدَ زَيْدٍ أَوْ مَظْنُونَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ: فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ. فَرُبَّ مُقَدِّمَةٍ هِيَ يَقِينِيَّةٌ عِنْدَ شَخْصٍ قَدْ عَلِمَهَا وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَظْنُونَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا فَكَوْنُ الْمُقَدِّمَةِ يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ لَهَا تَعْرِضُ بِحَسَبِ شُعُورِ الْإِنْسَانِ بِهَا. وَلِهَذَا تَنْقَلِبُ الْمَظْنُونَةُ؛ بَلْ الْمَجْهُولَةُ فِي حَقِّهِ يَقِينِيَّةً مَعْلُومَةً وَالْمَمْنُوعَةُ مُسَلَّمَةً؛ بَلْ وَالْمُسَلَّمَةُ مَمْنُوعَةً. وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ حَتَّى يُخَاطَبَ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ. فَمُقَدِّمَاتُ الْأَمْثَالِ فِيهِ: اُعْتُبِرَ فِيهَا الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ وَهِيَ كَوْنُهَا صِدْقًا وَحَقًّا(2/47)
يَجِبُ قَبُولُهُ وَأَمَّا جِهَةُ التَّصْدِيقِ: فَتَتَعَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ إذْ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا مِنْ طُرُقِ التَّصْدِيقِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مَا لَيْسَ لِعَمْرٍو مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَذَا يَعْلَمُهَا بِالسَّمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ كَآيَاتِ الرَّسُولِ وَقِصَّةِ أَهْلِ الْفِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ عَامًّا لِلنَّاسِ: أَمْكَنَ ذِكْرُهُ جِهَةَ التَّصْدِيقِ بِهِ كَآيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْإِحْسَاسِ دَائِمًا. وَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ مُتَنَوِّعًا: أُحِيلَ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يُصَدِّقُونَ بِهَا. وَقَدْ يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فَإِنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُعَيَّنِ: قَدْ يُعْلَمُ بِهَا مَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ مِنْ الْيَقِينِ: أَوْ مُسَلَّمٌ مِنْهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ تَقْسِيمَ الْمَنْطِقِيِّينَ لِمُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ: إلَى الْمُسْتَيْقَنِ وَالْمَشْهُورِ وَالْمُسَلَّمِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ وَصْفًا لَازِمًا لِلْقَضِيَّةِ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَ لِلْمُصَدِّقِ بِهَا وَرُبَّمَا انْقَلَبَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَيَظْهَرُ لَك مِنْ هَذَا أَنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينِيٍّ أَوْ لَيْسَ مَشْهُورًا وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَيْسَتْ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً. إذْ سَلْبُ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لَا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ. وَأَيْضًا الْقِيَاسُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَا يَتَبَدَّلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ يَتَغَيَّرُ وَيَتَبَدَّلُ(2/48)
وَلَا يَسْتَمِرُّ اللَّهُمَّ إلَّا فِي الْأُمُورِ الَّتِي قَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِيَّاتِ. وَالطَّبِيعِيَّاتِ. وَهَذَانِ الْفَنَّانِ لَيْسَا مَقْصُودَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَلَا مَعْرِفَتُهُمَا شَرْطًا فِي السَّعَادَةِ وَلَا مُحَصِّلًا لَهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْفَنُّ الْإِلَهِيُّ. وَمُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ فِيهِ: هِيَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمُقَدِّمَاتِ بِالنَّسَبِ وَالْإِضَافَةِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ خَالِصٌ نَافِعٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. يُوَضِّحُ هَذَا الْفَصْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ - وَإِنْ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ - فَإِنَّ اللَّهَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ مِنْ الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ فَأَضَافَهُ إلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} {الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فَهَذَا جبرائيل. فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُهُ لَا صِفَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أَضَافَهُ إلَيْنَا امْتِنَانًا عَلَيْنَا بِأَنَّهُ صَاحِبُنَا كَمَا قَالَ: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} . {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} فَهُوَ مُحَمَّدٌ. أَيْ بِمُتَّهَمِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: بِبَخِيلِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّهُ جبرائيل أَيْضًا وَهُوَ الْعَقْلُ الْفَاعِلُ الْفَائِضُ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ صِفَاتِ جبرائيل تَقَدَّمَتْ وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} لَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُ قَوْلُ(2/49)
الْمَلَكِ: نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الشَّيْطَانِ. كَمَا قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} إلَى قَوْلِهِ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} . وَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَنَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ أَوْ كَاهِنٍ وَهُمَا مِنْ الْبَشَرِ. كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الشُّعَرَاءِ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. كَالْكَهَنَةِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إلَيْهِمْ السَّمْعَ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ قَدْ يَشْتَبِهَانِ بِالرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ لَمَّا نَفَاهُمَا: عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ: هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ كَمَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْمَلَكِ - فَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي إضَافَتِهِ إلَى هَذَا الرَّسُولِ تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إضَافَةُ بَلَاغٍ وَأَدَاءٍ لَا إضَافَةُ إحْدَاثٍ لِشَيْءِ مِنْهُ أَوْ إنْشَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّ حُرُوفَهُ ابْتِدَاءً جبرائيل أَوْ مُحَمَّدٌ مُضَاهَاةً مِنْهُمْ فِي نِصْفِ قَوْلِهِمْ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ(2/50)
بِفَضْلِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ تَأْلِيفُهُ؛ لَكِنَّهَا فَاضَتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفِيضُ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَاهِنُ مُسْتَمِدٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَكِلَاهُمَا فِي لَفْظِهِ وَزْنٌ. هَذَا سَجْعٌ وَهَذَا نَظْمٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ مَعَانٍ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ} وَقَالَ: " هَمْزُهُ الموتة وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ " وقَوْله تَعَالَى {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} يَنْفِي الْأَمْرَيْنِ كَمَا أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} مُطْلَقًا. ثُمَّ ذَكَرَ عَلَامَةَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ: بِأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الشُّعَرَاءَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَذَّابًا أَثِيمًا فَالْكَذَّابُ: فِي قَوْلِهِ وَخَبَرِهِ. وَالْأَثِيمُ: فِي فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ. وَذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لِأَنَّ الشِّعْرَ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ تَارَةً وَيَكُونُ مِنْ النَّفْسِ أُخْرَى. كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقًّا يَكُونُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وَقَالَ: {اُهْجُهُمْ - أو هاجهم - وجِبْرَائِيلُ مَعَك} فَلَمَّا نَفَى قِسْمَ الشَّيْطَانِ نَفَى قِسْمَ النَّفْسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَأَلْغَى اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ هَوَى النُّفُوسِ.(2/51)
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَيَّانٍ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَأَحَبَّتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ نَفْسِك فَانْهَهَا عَنْهُ وَمَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَكَرِهَتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك: فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سَبَبُ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّقْسِيمُ إلَى الْكَاهِنِ وَالشَّاعِرِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ. وَالْكَاهِنُ يُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ مُخَلِّطًا فِيهِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ لَا يَأْتُونَ بِالْحَقِّ مَحْضًا وَإِذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ أَحَدِهِمْ شَيْئًا فِي الْقَلْبِ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُهَّانِ لَمَّا قَالَ: {إنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ} بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدِّثِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} . وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ لَيْسَ فِيهَا الْمُحَدِّثُ؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى بَعْضِ الْخَطَأِ وَيُدْخِلَ الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ بَعْضَ مَا يُلْقِيهِ فَلَا يُنْسَخُ بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَأَنْ يُحْكِمَ اللَّهُ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْمُحَدِّثُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْرِضَ مَا يُحَدِّثُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَلِهَذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ لِعُمَرِ وَهُوَ مُحَدِّثٌ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَّةِ اخْتِلَافِهِ وَهِشَامَ بْنِ حَكِيمِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فَأَزَالَهُ عَنْهُ نُورُ النُّبُوَّةِ.(2/52)
وَأَمَّا الشَّاعِرُ فَشَأْنُهُ التَّحْرِيكُ لِلنُّفُوسِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ الْخَاصِّ الْمُرَغِّبِ؛ فَلِهَذَا قِيلَ فِيهِمْ: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فَضَرَرُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ لَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَأُولَئِكَ ضَرَرُهُمْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَيَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَمَعْنَى الْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ: مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْغُيُوبِ عَنْ كِهَانَةٍ وَيُحَرِّكُونَ النُّفُوسَ بِالشِّعْرِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ لَهُمْ مَادَّةٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ. كَمَا قَدْ رَأَيْنَاهُ كَثِيرًا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَغَيْرِهَا لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ.(2/53)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
فَصْلٌ:
ثُمَّ إنَّ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُشَابِهِينَ لِلصَّابِئَةِ: إمَّا مُجَرِّدَةٌ؛ وَإِمَّا مُنْحَرِفَةٌ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْقِيَاسِ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَمِنْ أَهْلِ الْعَمَلِ وَالْوَجْدِ الطَّالِبِينَ لِلْمَعْرِفَةِ. وَالْحَالِ: أَهْلُ الْحُرُوفِ. وَأَهْلُ الْأَصْوَاتِ سَلَكُوا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ طَرِيقَيْنِ: كُلٌّ مِنْهُمْ سَلَكَ طَرِيقًا. وَقَدْ يَسْلُكُ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ وَرُبَّمَا جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ. وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ إلَيْهِ طَرِيقٌ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ كَمَا يَذْكُرُهُ جَمَاعَاتٌ: مِثْلَ ابْنِ الْخَطِيبِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ بَلْ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ لَمَّا حَصَرَ الطُّرُقَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ؛ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ؛ وَالْقِيَاسُ؛ أَوْ فِي التَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ؛ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ وَالْوَجْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ أَبُو حَامِدٍ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُنْقِذِ مِنْ الضَّلَالِ وَالْمُفْصِحِ بِالْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَحْوَالِ الْعَالِمِ وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَضَ لَهُ مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُمْ - وَهُوَ السَّفْسَطَةُ بِشُبَهِهَا الْمَعْرُوفَةِ - وَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْضَلَ بِهِ هَذَا الدَّاءُ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ؛ هُوَ فِيهِمَا عَلَى مَذْهَبِ السَّفْسَطَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ لَا بِحُكْمِ الْمَنْطِقِ وَالْمَقَالِ حَتَّى شَفَى(2/54)
اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضَ وَعَادَتْ النَّفْسُ إلَى الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ وَرَجَعَتْ الضَّرُورِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ مَقْبُولَةً مَوْثُوقًا بِهَا عَلَى أَمْنٍ وَتَبَيُّنٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِنَظْمِ دَلِيلٍ وَتَرْتِيبِ كَلَامٍ؛ بَلْ بِنُورِ قَذَفَهُ اللَّهُ فِي الصَّدْرِ وَذَلِكَ النُّورُ هُوَ مِفْتَاحُ أَكْبَرِ الْمَعَارِفِ قَالَ: فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَشْفَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَقَدْ ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ. ثُمَّ قَالَ: انْحَصَرَتْ طُرُقُ الطَّالِبِينَ عِنْدِي فِي أَرْبَعِ فِرَقٍ: - الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ. وَالْبَاطِنِيَّةُ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ التَّعَلُّمِ وَالْمُخَصِّصُونَ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ. وَالْفَلَاسِفَةُ: وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْطِقِ. وَالْبُرْهَانِ. وَالصُّوفِيَّةُ: وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ خَوَاصُّ الْحَضْرَةِ وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ. فَقُلْت فِي نَفْسِي: الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ فَهَؤُلَاءِ هُمْ السَّالِكُونَ سُبُلَ طَرِيقِ الْحَقِّ؛ فَإِنْ سُدَّ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي دَرْكِ الْحَقِّ مَطْمَعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ وَفَائِدَتَهُ: الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ بِالْجَدَلِ لَا تَحْقِيقُ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْفَلْسَفَةَ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا كُفْرٌ وَالْحَقُّ مِنْهَا لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقْبَلَ بِهِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعِلْمٍ(2/55)
وَعَمَلٍ فَابْتَدَأَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِهِمْ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ مِثْلَ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكُتُبِ الْحَارِثِ المحاسبي والمتفرقات الْمَأْثُورَةِ عَنْ الْجُنَيْد وَالشِّبْلِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ؛ حَتَّى طَلَعَ عَلَى كُنْهِ مَقَاصِدِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ. ثُمَّ إنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْوَالٍ لَا أَصْحَابُ أَقْوَالٍ وَأَنَّ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ. قَدْ حَصَّلَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالسَّمَاعِ؛ بَلْ بِالذَّوْقِ وَالسُّلُوكِ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَصَلَ مَعِي مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي مَارَسْتهَا وَالْمَسَالِكِ الَّتِي سَلَكْتهَا فِي التَّفْتِيشِ عَنْ صِنْفَيْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إيمَانٌ يَقِينِيٌّ بِاَللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ - مِنْ الْإِيمَانِ - كَانَتْ قَدْ رَسَخَتْ فِي نَفْسِي بِاَللَّهِ لَا بِدَلِيلِ مُعَيَّنٍ مُجَرَّدٍ بَلْ بِأَسْبَابِ وَقَرَائِنَ وَتَجَارِبَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ تَفَاصِيلُهَا وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدِي أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ إلَّا بِالتَّقْوَى وَذَكَرَ أَنَّهُ تَخَلَّى عَشْرَ سِنِينَ. إلَى أَنْ قَالَ: انْكَشَفَ لِي فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُرُهُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ. أَنِّي عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمْ السَّالِكُونَ لِطَرِيقِ اللَّهِ خَاصَّةً وَأَنَّ سِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السِّيَرِ؛ وَطَرِيقَتَهُمْ أَصْوَبُ الطُّرُقِ؛ وَأَخْلَاقُهُمْ أَزْكَى الْأَخْلَاقِ؛ بَلْ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ؛ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ: لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا.(2/56)
فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ فِي ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ: مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ وَرَاءَ نُورِ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ فِي طَرِيقِ طَهَارَتِهَا؟ وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوطِهَا تَطْهِيرُ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَمِفْتَاحُهَا اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قُلْت: يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ: هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَرَّرْته غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا أَوَّلُ الْإِسْلَامِ؛ الَّذِي جَعَلَهُ هُوَ النِّهَايَةَ وَبَيَّنْت الْفَرْقَ بَيْنَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ. وَالْمُتَكَلِّمِين لَكِنْ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الْعَارِفِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمَحْضَةُ الشَّاهِدَةُ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَالسُّهْرَوَرْدِي الْحَلَبِيُّ الْمَقْتُولُ سَلَكَ النَّظَرَ وَالتَّأَلُّهَ جَمِيعًا؛ لَكِنَّ هَذَا صابئي مَحْضٌ فَيْلَسُوفٌ لَا يَأْخُذُ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا مَا وَافَقَ فَلْسَفَتَهُ بِخِلَافِ ذَيْنِك وَأَمْثَالِهِمَا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا طَرِيقَةَ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً كَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ ابْتِدَاءً: إلَّا طَرِيقَةَ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ وَالتَّصَوُّفِ كَكَثِيرِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي الِاتِّحَادِ وَالتَّأَلُّهِ الْمُطْلَقِ. مِثْلُ: عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ وَالْعَفِيفِ التلمساني وَنَحْوِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَجْمَعُ كَالصَّدْرِ القونوي وَنَحْوِهِ.(2/57)
وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَالَمُ التَّوَهُّمِ فَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَتَوَهُّمِ إلَهِيَّةِ الْبَشَرِ وَتَوَهُّمِ النَّصَارَى وَتَوَهُّمِ الْمُنْتَظَرِ وَتَوَهُّمِ الْغَوْثِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ: أَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ يُدَبَّرُ أَمْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ التلمساني ثَبَتَ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا أُصِيبَ صَاحِبُ الْخَلْوَةِ بِثَلَاثِ تَوَهُّمَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ اسْتِعْدَادًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي شَيْخِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَصِلُ إلَى مَطْلُوبِهِ بِدُونِ سَبَبٍ وَأَكْثَرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ؛ فَقَدْ تَعْمَلُ الْأَوْهَامُ أَعْمَالًا لَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ كَالْمَشْيَخَةِ الَّذِينَ لَمْ يَسْلُكُوا الطُّرُقَ الشَّرْعِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ؛ نَظَرًا أَوْ عَمَلًا؛ بَلْ سَلَكُوا الصابئية. وَيُشْبِهُ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ: أَكْثَرُ الْأَحْمَدِيَّةِ واليونسية وَالْحَرِيرِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ العدوية وَأَصْحَابِ الْأَوْحَدِ الكرماني وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ؛ وَلِهَذَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْإِبَاحَةُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَمُحَرَّمَاتِهَا. وَهُمْ إذَا تَأَلَّهُوا فِي تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ: لَا يَعْرِفُونَ مَنْ هُوَ إلَهُهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ الْقَلْبِيَّةِ؛ وَإِنْ حَقَّقَهُ عَارِفُوهُمْ الزَّنَادِقَةُ جَعَلُوهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَلَّهُ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَقُبُورِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَتَارَةً يُضَاهِئُونَ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يُضَاهِئُونَ(2/58)
النَّصَارَى وَتَارَةً يضاهئون الصَّابِئِينَ وَتَارَةً يضاهئون الْمُعَطِّلَةَ الْفِرْعَوْنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ وَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ؛ لَكِنْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ. وَالْخَالِصُ مِنْهُمْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَعْبُدُهُ: بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَهُمْ مُنْحَرِفُونَ؛ إمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ وَإِمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَدْ كَتَبْته فِي غَيْرِ هَذَا.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْ النَّظَرِ وَالتَّجَرُّدِ: طَرِيقٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَفَائِدَةٌ جَسِيمَةٌ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ إلَّا بِهِ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يَدْعُو إلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَإِلَى التَّزْكِيَةِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ صَلَاحَ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ: فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَالْهُدَى كَمَالُ الْعِلْمِ وَدِينُ الْحَقِّ كَمَالُ الْعَمَلِ. كَقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وَقَوْلِهِ: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقَوْلِهِ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} وَفِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ} لَكِنَّ النَّظَرَ النَّافِعَ أَنْ يَكُونَ فِي دَلِيلٍ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُرْشِدُ إلَى الْمَقْصُودِ وَالدَّلِيلُ التَّامُّ هُوَ الرِّسَالَةُ وَالصَّنَائِعُ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ التَّامَّةُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ وَقَعَ(2/59)
الْخَطَأُ فِي الطَّرِيقَيْنِ مِنْ حَيْثُ: أُخِذَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا مُجَرَّدًا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِ. . . (1) . بَلْ اُقْتُصِرَ فِيهِمَا عَلَى مُجَرَّدِ مَا يُحَصِّلُهُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَذَوْقُهُ الْمُوَافِقُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ تَارَةً وَالْمُخَالِفُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ أُخْرَى فِي مُجَرَّدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُجَرَّدِ الْعِبَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصُّعُودِ عَنْ ذَلِكَ إلَى النَّظَرِ الْمِلِّي وَالْعِبَادَاتِ الْمِلِّية وَالْوَاجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّظَرِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَقْلِيُّ والْمِلِّي وَالشَّرْعِيُّ فَلَمَّا قَصَّرُوا: وَقَعَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ؛ إمَّا فِي الضَّلَالِ؛ وَإِمَّا فِي الْغَوَايَةِ وَإِمَّا فِيهِمَا. وَحَاصِلُهُمْ: إمَّا الْجَهْلُ الْبَسِيطُ؛ أَوْ الْكُفْرُ الْبَسِيطُ أَوْ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ أَوْ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ مَعَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ. وَذَلِكَ أَنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ: مَدَارُهَا عَلَى مُقَدِّمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ يَسْلُكُهُ الْآدَمِيُّونَ وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ كُلِّيَّةٌ جَامِعَةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ وَتَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الدُّخُولِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ لَا تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ لِخَاصِّيَّتِهِ بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْمَطْلُوبِ بِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ إلَّا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقَضَايَا الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ. وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا فَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بياض في الأصل بقدر سطر(2/60)
بَلْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ صَارُوا مُشْرِكِينَ بِهِ وَحَكَمُوا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِأَحْكَامِ سَلْبِيَّةٍ أَوْ إيجَابِيَّةٍ؛ فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ وَلَيْسَ مَا انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ انْتَفَى عَنْ الْعَامِّ؛ فَمَا نَفَيْته عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ عَنْ النَّبِيِّ: انْتَفَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ مَا نَفَيْته عَنْ الْإِنْسَانِ أَوْ الرَّسُولِ انْتَفَى عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ النَّبِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {لَا نَبِيَّ بَعْدِي} يَنْفِي الرَّسُولَ؛ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بِصِفَةِ الْعُمُومِ ثَبَتَ لِلْخَاصِّ وَمَا ثَبَتَ لَهُ بِصِفَةِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلْخَاصِّ فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَخَلَ فِيهِ الرَّسُولُ. وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ لِلنَّبِيِّ مُطْلَقًا: لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلرَّسُولِ وَقَدْ تَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقَضَايَا السَّلْبِيَّةِ وَالْإِيجَابِيَّةِ: أُمُورٌ لَا تَصْدُقُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا غَيْرُهُ؛ كَمَا إذَا وُصِفَ نَبِيٌّ بِمَجْمُوعِ صِفَاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُعْرَفُ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ إيَّاهُ وَأَمَّا عَيْنُهُ فَلَا يُعْرَفُ بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي الرَّبِّ إلَّا الْعِلْمُ بِالسَّلْبِ وَالْعَدَمِ؛ إذَا كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا. وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ - وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ - دَالَّةً عَلَى النَّفْيِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} ؟ الْآيَةَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ؛ وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ(2/61)
مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثَالِ - وَهِيَ الْقِيَاسَاتُ - الَّتِي مَضْمُونُهَا نَفْيُ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْقِيَاسِ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ: إنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ السَّلْبِيَّةُ. ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْقِيَاسِ بَلْ تَعَدَّوْا ذَلِكَ؛ فَنَفَوْا أَشْيَاءَ مُشْبِهَةَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ مِثْلَ نَفْيِ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ: بَلْ وَنَفْيِ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِلصِّفَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُسَمُّونَهَا الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ؛ لِإِثْبَاتِهِمْ إيَّاهَا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفِي بِالْقِيَاسِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ؛ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَ الْإِرَادَةَ أَوْ الرَّحْمَةَ أَوْ الْعِلْمَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذَا الِاسْمِ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَخْلُوقِينَ تَلْحَقُهُ صِفَاتٌ لَا تَثْبُتُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَنْفُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ الْمُطْلَقَ عَلَى صِفَاتِ الْحَقِّ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ - تَبَعًا لِانْتِفَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - فَيُعَطِّلُونَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ التَّمْثِيلِ يُثْبِتُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - تَبَعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ - وَكِلَاهُمَا قِيَاسٌ خَطَأٌ. فَفِي هَذِهِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي الذَّوَاتِ ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَخْتَصُّ بِهِ ذَاتُ الرَّبِّ وَصِفَاتُهُ.
وَالثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ وَصِفَاتُهُ.(2/62)
وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَى الْمُطْلَقُ الْجَامِعُ.
فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ الْجَامِعِ فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّانِي وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّالِثِ فَيَحْتَاجُ إلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِثُبُوتِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ وَهَذَا أَصْلُ الْقِيَاسِ وَالدَّلِيلُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ - أَوْ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ آخَرَ - ثُبُوتَ هَذَا وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ الْقِيَاسُ. وَكَذَلِكَ فِي مَعَارِفِهِمْ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَأْتُونَ إلَّا بِمَعَانٍ مُطْلَقَةٍ مُجْمَلَةٍ. مِثْلَ ثُبُوتِ الْوُجُودِ وَوُجُوبِ الْوُجُودِ أَوْ كَوْنِهِ رَبًّا أَوْ صَانِعًا أَوْ أَوَّلًا أَوْ مَبْدَأً أَوْ قَدِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِهَا خُصُوصُ الرَّبِّ تَعَالَى إذْ الْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَبِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ: كَانَ مَدْلُولُ هَذَا الْقِيَاسِ أَمْرًا عَامًّا وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ: فَإِنَّ صَفْوَتَهُمْ الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِ بَسِيطٍ مِثْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنْ لَمْ يَغْلُوا فَيَقْتَصِرُوا عَلَى مُجَرَّدِ اللَّهُ اللَّهُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هُوَ هُوَ. أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: لَا هُوَ إلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُبْتَدَعَ الَّذِي هُوَ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ذِكْرٌ لِلَّهِ إلَّا بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ. فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ صَاحِبِهِ أَنَّهُ لَا وُجُودَ إلَّا هُوَ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَقُولُ: لَا هُوَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ وَهَذَا عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ(2/63)
أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ مُصَرِّحٌ بِحَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ الْفِرْعَوْنِيِّ القرمطي حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ذِكْرُ الْعَابِدِينَ وَاَللَّهُ اللَّهُ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَهُوَ ذِكْرُ الْمُحَقِّقِينَ وَيَجْعَلُ ذِكْرَهُ يَا مَنْ لَا هُوَ إلَّا هُوَ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ اللَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ ثُبُوتِهِ فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِهِ لَا نَفْيُ إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ فَيَقَعُ صَاحِبُهُ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَرُبَّمَا انْتَفَى شُهُودُ الْقَلْبِ لِلسِّوَى إذَا كَانَ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ فَهَذَا قَرِيبٌ أَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هِيَ هُوَ فَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ. وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ نَوْعًا مِنْ التَّصْفِيَةِ مِثْلَ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْخَلْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيَصِلُونَ أَيْضًا إلَى تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ وَمَعْرِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَوُجُودِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ أَرْبَابُ الْقِيَاسِ. ثُمَّ قَدْ تَتَوَارَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْعِلْمُ بِمُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ فَإِنَّ سَبَبَهَا إنَّمَا هُوَ ذَلِكَ التَّجَرُّدُ فَإِذَا زَالَ زَالَ؛ وَلِهَذَا قِيلَ كُلُّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ الْجُوعُ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِالشِّبَعِ كَمَا قَدْ تَتَوَارَى مَعْرِفَةُ الْأُولَى الْمُطْلَقَةِ بِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ النَّظَرِيَّةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ وَأَنَّ الرِّيَاضَةَ وَالتَّأَلُّهَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ لَكِنْ مَعْرِفَةٌ مُطْلَقَةٌ بِسَبَبِ قَدْ يَثْبُتُ وَقَدْ يَزُولُ وَكَثِيرًا مَا يُفْضِي إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَ التَّأَلُّهَ عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ صَالِحِ الْبَشَرِ فَإِذَا احْتَاجُوا إلَيْهَا أَعْرَضُوا عَنْ التَّأَلُّهِ. فَهُمْ إمَّا آلِهَةٌ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ أَوْ فُسَّاقٌ وَلِهَذَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ(2/64)
الصَّالِحُ يُوسُفُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ رَآنِي فِي الْمَنَامِ وَأَنَا أُخَاطِبُهُمْ (1) .
وَالْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي تُصْلِحُ حَالَ الْعَبْدِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ مَعَ صِدْقِ الطَّلَبِ - بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ أَوْ بِوَاسِطَةِ الْوَجْدِ - وُصُولٌ إلَى الرِّسَالَةِ فَيَتَلَقَّى حِينَئِذٍ مِنْ الرِّسَالَةِ مَا يُصْلِحُ حَالَهُ وَيَعْرِفُهُ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ - وَهِيَ الطَّرِيقُ الشَّرْعِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا - وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النُّبُوَّةِ اعْتِقَادًا أَوْ حَالًا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ؛ فَيَفُوتُهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ - مَا يَضِلُّ بِفَوَاتِهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْهُدَى وَيَشْقَى بِهِ الشَّقَاءَ الْأَكْبَرَ كَحَالِ الْكَافِرِينَ بِالرَّسُولِ وَإِنْ آمَنُوا بِوُجُودِ الرَّبِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنَافِقُ فِي الرَّسُولِ كَمَا كَفَرَ هَؤُلَاءِ بِهِ ظَاهِرًا وَهَذَا النِّفَاقُ كَثِيرٌ جِدًّا قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَدْ تَنْعَقِدُ فِي قَلْبِهِ مَقَايِيسُ فَاسِدَةٌ وَمَوَاجِيدُ فَاسِدَةٌ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَحْكَامًا فَاسِدَةً مِثْلُ: أَحْكَامِ الْمُنْحَرِفَةِ إلَى صابئية أَوْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ انْحَرَفُوا إمَّا إلَى تَعْطِيلٍ لِلصِّفَاتِ وَتَكْذِيبٍ بِهَا. وَإِمَّا إلَى تَمْثِيلٍ لَهَا وَتَشْبِيهٍ. وَإِمَّا إلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَأَنَّ عَيْنَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) سقط من الأصل نحو سطرين(2/65)
الْوُجُودِ: هُوَ عَيْنُ الْخَالِقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ آخَرُ؛ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَرَاتِبُ لِلصِّفَاتِ وَأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ: مَرَاتِبُ ذِهْنِيَّةٌ شكوكية. وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ: فَلَيْسَ إلَّا عَيْنُ ذَاتِهِ فَالْمَحْجُوبُونَ يَرَوْنَ الْمَرَاتِبَ والمكاشف مَا تَرَى إلَّا عَيْنُ الْحَقِّ. وَيَحْسَبُونَ - وَيَحْسَبُ كَثِيرٌ بِسَبَبِهِمْ - أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ: هُوَ تَوْحِيدُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ وَقَالُوا: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. كَمَا يَحْسَبُ الْمُتَكَلِّمُ الزَّائِغُ أَنَّ تَوْحِيدَهُ - الَّذِي هُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ - هُوَ تَوْحِيدُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَالصِّدِّيقِينَ؛ الَّذِينَ عَرَفُوا اللَّهَ؛ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي هَؤُلَاءِ الشِّرْكُ كَثِيرًا؛ حَتَّى يَسْجُدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ؛ كَمَا يَقَعُ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبَاحَةِ. فَاقْتَسَمَ الْفَرِيقَانِ: مَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. . . (1) وَهَكَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةِ لِلنَّصَارَى. وَظَهَرَ فِي الْآخَرِينَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَجُحُودِ الْحَقِّ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ: مَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْبِهَةِ لِلْيَهُودِ. هَذَا فِي غَيْرِ الْغَالِيَةِ مِنْهُمْ وَأَمَّا الْغَالِيَةُ مِنْ الصِّنْفَيْنِ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ وَحَالَهُمْ فَوْقَ مَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالِهِمْ. كَمَا يَقُولُ التِّلْمِسَانِيُّ: الْقُرْآنُ يُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ وَكَلَامُنَا يُوَصِّلُ إلَى اللَّهِ.
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) سقط سطر من الأصل(2/66)
وَكَمَا يَزْعُمُ الْفَارَابِيُّ: أَنَّ الْفَيْلَسُوفَ أَكْمَلُ مِنْ النَّبِيِّ؛ وَإِنَّمَا خَاصَّةُ النَّبِيِّ جَوْدَةُ التَّخْيِيلِ لِلْحَقَائِقِ؛ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالْكُفْرِ يَلْتَحِقُونَ فِيهَا بالْإِسْمَاعِيلِيَّة؛ وَالْنُصَيْرِيَّة؛ وَالْقَرَامِطَةِ؛ وَالْبَاطِنِيَّةِ؛ وَيَتَّبِعُونَ فِرْعَوْنَ؛ والنمروذ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الْكَافِرِينَ بِالنُّبُوَّاتِ أَوْ النُّبُوَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَسَبَبُ ذَلِكَ عَدَمُ أَصْلٍ فِي قُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ إنْ لَمْ يَصْحَبْ النَّاظِرَ وَالْمُرِيدَ وَالطَّالِبَ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَإِلَّا خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا وَحَاجَتُهُ إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْبَدَنِ إلَى الْغِذَاءِ أَوْ الْحَيَاةِ إلَى الرُّوحِ. فَالْإِنْسَانُ بِدُونِ الْحَيَاةِ وَالْغِذَاءِ لَا يَتَقَوَّمُ أَبَدًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يُعَلِّمَ. كَذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنَالَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَلَا الْهِدَايَةَ إلَيْهِ وَبِدُونِ اهْتِدَائِهِ إلَى رَبِّهِ: لَا يَكُونُ إلَّا شَقِيًّا مُعَذَّبًا وَهُوَ حَالُ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ: كَانَ نَظَرُهُ فِي دَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ - وَهُوَ ثُبُوتُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ - وَإِذَا تَجَرَّدَ وَتَصَفَّى كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَذُوقُهُ بِذَلِكَ وَيَجِدُهُ. ثُمَّ هَذَا النَّظَرُ وَهَذَا الذَّوْقُ يَجْتَلِبُ لَهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَالِمِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْمَوَاجِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْعِلْمُ وَالْوَجْدُ مُتَلَازِمَانِ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ: عَرَفُوا اللَّهَ بِالْوَحْيِ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي هِيَ مَعْرِفَةٌ وَعَبَدُوهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لَهُ بِحَسَبِ مَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ عَرَفُوا مِنْ خُصُوصِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَقُومُ بِهِ(2/67)
مُجَرَّدُ الْقِيَاسِ النَّظَرِيِّ وَلَا يَنَالُهُ مُجَرَّدُ الذَّوْقِ الْإِرَادِيِّ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ. وَلَا بُدَّ فِي الْوَصْفِ وَالْإِخْبَارِ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسَمَّى الْمَوْصُوفَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ الْمُتَوَاطِئَةِ الَّتِي فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَتَمْيِيزٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِخْبَارِ وَالْوَصْفِ تَعْرِيفُ الْمُخَاطَبِينَ؛ وَالْمُخَاطَبُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي هِيَ خُصُوصُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَوْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ وَحْدَهُ مُجَرَّدًا لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا بَلْ رُبَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ. فَإِذَا خُوطِبُوا بِالْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ وَأُزِيلَ مَفْسَدَةُ الِاشْتِرَاكِ بِمَا يَقْطَعُ التَّمَاثُلَ كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَنَحْوُ ذَلِكَ كَانُوا أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ مُؤْمِنٌ آمَنَ بِمَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطْلَقِ الجملي وَأَثْبَتَهَا لِلَّهِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ فَهَذَا غَايَةُ الْمُمْكِنِ فِي حَالِ هَؤُلَاءِ. وَإِمَّا رَجُلٌ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ وَهِدَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَا أَشْهَدَهُ شَيْئًا مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَعْيَانُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَيَعْلَمُ ذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْوَجْدِ بَلْ بِشُهُودِ عَلَى مُطَابِقٍ لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَتَدُلُّهُ عَلَى صِحَّةِ شُهُودِهِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيَحْصُلُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِكَمَالِهَا وَإِمَّا وُجُودُ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَلَمْ يَنْقَطِعْ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَحْجُوبًا عَنْ أَنْ يَشْهَدَ مَا شَهِدَهُ النَّبِيُّ فَيُصَدِّقَهُ فِيهِ؛ لِشُهُودِهِ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ وَيَبْقَى مَا شَهِدَهُ مُحَقَّقًا عِنْدَهُ لِثُبُوتِ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ وَهَذِهِ حَالُ الصِّدِّيقِينَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ.(2/68)
وَذَلِكَ نَظِيرُ مَنْ وُصِفَ لَهُ مُلْكُ مَدِينَةٍ بِأَنْوَاعِ مِنْ الصِّفَاتِ فَقَدَّمَ حَتَّى رَأَى بَعْضَ شئونه الَّتِي دَلَّتْهُ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا لَمْ يَشْهَدْ. وَلَسْت أَجْعَلُ مُجَرَّدَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُصَدِّقَةً؛ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ قَدْ يُصَدَّقُ فِي بَعْضٍ وَيُخْطِئُ فِي بَعْضٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ إخْبَارِ الْمُخْبِرِ - أَيْ رَسُولِ اللَّهِ - وَشُهُودِهِ مِنْهُ مَا يُوجِبُ لَهُ امْتِنَاعَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ كَمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قُلْت: فَمِنْ أَيْنَ لَهُ ابْتِدَاءُ صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ أَصْلًا يُبْنَى عَلَيْهِ وَيَنْتَقِلُ مَعَهُ إلَى مَا بَعْدَهُ؟ فَأَهْلُ الْقِيَاسِ وَالْوَجْدِ: إنَّمَا تَعِبُوا التَّعَبَ الطَّوِيلَ - فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ - فِي نُفُوسِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُسَمِّي الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مَا يُقَرِّرُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ: الْعَقْلِيَّاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ وَيُسَمِّيهَا أُولَئِكَ الذَّوْقِيَّاتِ والوجديات وَرَأَوْا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِهِ فَمَعْرِفَتُهُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ. فَسَمَّوْا تِلْكَ عَقْلِيَّاتٍ وَالْعَقْلِيَّاتُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَنْطِقِيِّ. قُلْت. جَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُعَارَضَةُ بِالْمِثْلِ؛ فَإِنَّ سَالِكَ سَبِيلِ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ أَوْ الْإِرَادَةِ الذَّوْقِيَّةِ: مِنْ أَيْنَ لَهُ ابْتِدَاءً أَنَّ سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ يُحَصِّلُ لَهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً لَيْسَ مَعَهُ ابْتِدَاءً إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ مُخْبِرٍ بِأَنَّهُ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ فَوَصَلَ أَوْ خَاطِرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ: إمَّا مُجَوِّزًا لِلْوُصُولِ أَوْ مُتَحَرِّيًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ سُلُوكًا ابْتِدَاءً بِلَا انْتِهَاءٍ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ؛ بَلْ كُلُّ الْعُلُومِ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا ابْتِدَاءً مِنْ مُصَادَرَاتٍ يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةً إلَى أَنْ تتبرهن فِيمَا بَعْدُ.(2/69)
إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ طَالِبِ الْعِلْمِ حِينَ يَطْلُبُهُ قَدْ نَالَ ذَلِكَ الْعِلْمَ: لَمْ يَكُنْ طَالِبًا لَهُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي بِهِ إلَى الْعِلْمِ. لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ الْأَوَائِلِ وَدَلِيلِ الْأَدِلَّةِ وَأَصْلِ الْأُصُولِ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حِينَ يَنْظُرُ فِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ مُفْضٍ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُعْلَمَ ارْتِبَاطُهُ بِالْمَدْلُولِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ إنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْمَدْلُولَ: لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا. وَالْعِلْمُ بِالِاسْتِلْزَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ حَتَّى يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ وَيُعْلَمَ أَنَّهُ مَلْزُومٌ لَهُ وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ: اسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ التَّذْكِيرُ بِهِ لَا ابْتِدَاءُ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ثُبُوتَ شَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُ الطَّرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَمُشَاهَدَةِ ذَاتِهِ؛ إمَّا بِالْحِسِّ؛ وَإِمَّا بِالْقَلْبِ فَيَسْلُكُ طَرِيقًا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُوَصِّلَةٌ إلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. كَمَنْ طَلَبَ أَنْ يَحُجَّ إلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي قَدْ عَلِمَ وُجُودَهَا فَيَسْلُكُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِإِخْبَارِ النَّاسِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَارِفٌ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ فَسُلُوكُهُ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا طَرِيقُ - الْمَقْصُودِ - بِإِخْبَارِ الْوَاصِلِينَ أَوْ سُلُوكُهُ بِدَلِيلِ خِرِّيتٍ - يَهْدِيه فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ - لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ وَثُبُوتِ أَنَّ هَذَا طَرِيقٌ وَدَلِيلٌ. وَهَكَذَا حَالُ الطَّالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْمُرِيدِينَ لَهُ وَالسَّائِرِينَ إلَيْهِ قَدْ عَرَفُوا وُجُودَهُ أَوَّلًا(2/70)
وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةَ قُلُوبِهِمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا. فَيَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إلَى ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. فَالْإِيمَانُ: نَظِيرُ سُلُوكِ الرَّجُلِ الطَّرِيقَ الَّتِي وَصَفَهَا لَهُ السَّالِكُونَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ: تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَلَا بُدَّ فِي طَرِيقِ اللَّهِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ الْعَقْلُ ثُبُوتَهُ أَوَّلًا إذَا سَلَكَ طَرِيقًا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِهِ - فَلَا يَسْلُكُهَا ابْتِدَاءً إلَّا بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالْمُصَادَرَةِ - كَسَائِرِ مَبَادِئِ الْعُلُومِ - فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ تَقْلِيدٍ فِي الْأَوَّلِ - فِي سُلُوكِهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ طَرِيقٌ وَأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمَطْلُوبِ - أَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مَوْجُودٌ. فَالطَّرِيقَةُ الْإِيمَانِيَّةُ - إذَا فُرِضَ أَنَّهَا كَذَلِكَ - لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ تَكُونُ هِيَ أَحَقَّ؛ لِوُجُوهِ كَثِيرَةٍ. وَنَذْكُرُ بَعْضَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. بَلْ لَا طَرِيقَ إلَّا هِيَ أَوْ مَا يُفْضِي إلَيْهَا أَوْ يَقْتَرِنُ بِهَا فَهِيَ شَرْطٌ قَطْعًا فِي دَرْكِ الْمَطْلُوبِ وَمَا سِوَاهَا لَيْسَ بِشَرْطِ؛ بَلْ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ دُونَهُ وَقَدْ يَضُرُّ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَحْصُلُ أَوْ يَحْصُلُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الشَّقَاءُ الْأَعْظَمُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتِلْكَ الطَّرِيقُ مُفْضِيَةٌ قَطْعًا وَلَا فَسَادَ فِيهَا وَمَا سِوَاهَا يَعْتَرِيه الْفَسَادُ كَثِيرًا وَهُوَ لَا يُوَصِّلُ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الطَّرِيقَةِ الْإِيمَانِيَّةِ.(2/71)
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْقِيَاسِيَّةَ وَالرِّيَاضِيَّةَ إذَا سَلَكَهَا الرَّجُلُ وَأَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمَعْرِفَةِ - إنْ أَفْضَتْ - عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا صَحِيحًا وَأَنَّ مَطْلُوبَهُ قَدْ حَصَلَ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَعْرِفُ فَأَدْنَى أَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ - وَلَا دَنَاءَةَ فِيهَا - أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ مُسَلَّمًا وَنَظَرَ فِي مُوجِبِهِ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ: حَصَلَ لَهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مَطْلُوبُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا صَحِيحَةٌ فَإِنَّ نَفْسَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ يُقَرِّرُ عِنْدَهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَبْلَغُ بِكَثِيرِ مِمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ قِسْمَانِ؛ فِطْرِيٌّ وَإِيمَانِيٌّ. فَالْفِطْرِيُّ: - وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ - ثَابِتٌ فِي الْفِطْرَةِ. كَمَا قَرَّرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى دَلِيلٍ؛ بَلْ هُوَ أَرْسَخُ الْمَعَارِفِ وَأَثْبَتُ الْعُلُومِ وَأَصْلُ الْأُصُولِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالرَّسُولِ: فَبِأَدْنَى نَظَرٍ فِيمَا جَاءَ بِهِ أَوْ فِي حَالِهِ أَوْ فِي آيَاتِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ شئونه يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ: أَقْوَى بِكَثِيرِ مِمَّا يُحَصِّلُ الْمَطَالِبَ الْقِيَاسِيَّةَ والوجدية فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ؛ ثُمَّ إذَا قَوَّى النَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِ: حَصَلَ مِنْ الْيَقِينِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مَا يَكُونُ أَصْلًا رَاسِخًا. وَبَسْطُ هَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ خَطَأٍ مِنْ مَسْلَكِ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ الرِّيَاضَةِ دُونَ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا تَقْرِيرُ طَرِيقَةِ الْإِيمَانِ فَشَأْنُهُ عَظِيمٌ وَأَعْظَمُ مِمَّا كَتَبْته هُنَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا نُخَاطِبُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّسِمِينَ بِالْإِيمَانِ الَّذِينَ غَرَضُ أَحَدِهِمْ(2/72)
مَعْرِفَةُ اللَّهِ الْخَاصَّةُ؛ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْعُلَمَاءُ وَالْعَارِفُونَ: عَنْ الْعَامَّةِ؛ فَيَسْلُكُ بَعْضُهُمْ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ الْمُبْتَدَعِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَبَعْضُهُمْ: طَرِيقَةَ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ مُعْرِضًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ - الْمُبَلِّغِ عَنْ رَبِّهِ الْهَادِي إلَيْهِ الدَّاعِي إلَيْهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ - كَيْفَ يَدَعُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ: لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا ثَالِثًا - كَمَا يَذْكُرُهُ رِجَالٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْعَالَمِ الغالطين فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ - فَهُمْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَادَّةٍ فَلْسَفِيَّةٍ صابئية: إلَى مَادَّةٍ إرَادِيَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ إلَى مَادَّةٍ كَلَامِيَّةٍ يَهُودِيَّةٍ. وَأَهْلُ فَلْسَفَتِهِمْ يَوْمًا مَعَ ذَوِي إرَادَتِهِمْ وَيَوْمًا مَعَ ذَوِي كَلَامِهِمْ وَهُمْ مُتَهَوِّكُونَ فِي هَذِهِ الْمُجَارَاةِ. وَالطَّرِيقَةُ الْإِيمَانِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الدِّينِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الْأَثَرِيَّةُ: لَا يَهْتَدُونَ إلَيْهَا وَلَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّهَا طَرِيقَةٌ إلَى مَطْلُوبِهِمْ وَلَا تُفْضِي إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَسْلُكُهَا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَوْ كَبَتُوا نُفُوسَهُمْ عَنْهَا ظُلْمًا؛ فَلِضَلَالِهِمْ عَنْهَا أَوْ غَوَايَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِهَا أَوْ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَعْرَضُوا عَنْهَا. فَإِنْ قُلْت: فَالْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ.(2/73)
قُلْتُ: النَّظَرُ لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي دَلِيلٍ أَفْضَى إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ وَإِذَا كَانَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَفْضَى إلَى الْإِيمَانِ بِهِ. الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَةِ كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْإِرَادَةَ لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَتْ إلَى رِضْوَانِ اللَّهِ؛ لَكِنْ عَلَيْك أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَبَيْنَ الْقِيَاسِ كَمَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْآيَةَ: هِيَ الْعَلَامَةُ. وَهِيَ مَا تَسْتَلْزِمُ بِنَفْسِهَا لِمَا هِيَ آيَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ حَدٍّ أَوْسَطَ يَنْتَظِمُ بِهِ قِيَاسٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ؛ كَالشُّعَاعِ فَإِنَّهُ آيَةُ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ لِلْمَطَرِ فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ وَالدُّخَانِ لِلنَّارِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي النَّفْسِ قِيَاسٌ؛ بَلْ الْعَقْلُ يَعْلَمُ تَلَازُمَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيُعْلَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْآيَةِ ثُبُوتُ لَازِمِهَا وَالْعِلْمُ بِالتَّلَازُمِ قَدْ يَكُونُ فِطْرِيًّا وَقَدْ لَا يَكُونُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ تينك الطَّرِيقَيْنِ لَيْسَتَا بَاطِلًا مَحْضًا؛ بَلْ يُفْضِي كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى حَقٍّ مَا؛ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ مَعَهُ الْبَاطِلُ فَلَا يَحْصُلُ بِكُلِّ مِنْهُمَا بِمُجَرَّدِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ وَلَا تُحَصِّلَانِ الْمَقْصُودَ الَّذِي فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَجَاتِهِ وَنَعِيمِهِ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ. أَمَّا الطَّرِيقَةُ النَّظَرِيَّةُ الْقِيَاسِيَّةُ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْوَاجِبِ أَوْ الْمُحْدَثِ عَلَى الْمُحْدِثِ أَوْ بِالْحَرَكَةِ عَلَى الْمُحَرِّكِ وَذَلِكَ يُعْطِي فَاعِلًا عَظِيمًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَكَذَلِكَ الطَّرِيقَةُ الرِّيَاضِيَّةُ الذَّوْقِيَّةُ تُعْطِي انْقِيَادَ الْقَلْبِ وَخُضُوعَهُ إلَى الصَّانِعِ(2/74)
الْمُطْلَقِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ فِيهَا مَنْ عِلْمٍ اضْطِرَارِيٍّ يَضْطَرُّ الْقَلْبَ إلَيْهِ إذْ الْقَلْبُ لَا يَحْصُلُ لَهُ عِلْمٌ إلَّا مِنْ جِنْسِ الِاضْطِرَارِيِّ ابْتِدَاءً بِتَوَسُّطِ الضَّرُورِيِّ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ يُبْنَى عَلَى مُقَدِّمَاتٍ تَنْتَهِي إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الضَّرُورِيِّ. إمَّا بِتَوَسُّطِ الْحِسِّ أَوْ مُجَرَّدًا عَنْ الْحِسِّ. فَالطَّرِيقُ الْقِيَاسِيَّةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِتَوَسُّطِ مُقْدِمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُودُ الْمَعْلُومُ إمَّا مُمْكِنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَالْمُمْكِنُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوَاجِبِ. فَثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَمِثْلُ أَنْ يُقَالَ: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُ مُحْدَثٌ. وَالثَّانِي ضَرُورِيٌّ وَالْأَوَّلُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُقَالُ: وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ.
أَوْ يُقَالُ: لَا شَكَّ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. كَمَا يُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَقَدْ يُقَالُ: أَيْضًا لَا رَيْبَ أَنَّ ثَمَّ وُجُودًا وَهُوَ إمَّا مَصْنُوعٌ أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعٍ أَوْ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ مَفْطُورٌ أَوْ غَيْرُ مَفْطُورٍ وَالْمَصْنُوعُ أَوْ الْمَخْلُوقُ أَوْ الْمَفْطُورُ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ وَخَالِقٍ وَفَاطِرٍ. فَثَبَتَ وُجُودُ مَا لَيْسَ بِمَصْنُوعِ وَلَا مَفْطُورٍ وَلَا مَخْلُوقٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.(2/75)
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَمَا يُشْبِهُهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَاجِبٍ قَدِيمٍ لَيْسَ بِمَصْنُوعِ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي تَعْيِينِهِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الدَّهْرِيَّةِ يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ أَوْ شَيْءٌ قَائِمٌ بِهِ. ثُمَّ إنَّ افْتِقَارَ الْمُمْكِنِ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمُحْدَثِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمَصْنُوعِ إلَى الصَّانِعِ مُقَدِّمَةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِمُرَجِّحٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالضَّرُورَةِ فِيهِمَا. وَالطَّرِيقُ الْعِبَادِيَّةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِتَوَسُّطِ الرِّيَاضَةِ وَصَفَاءِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ؛ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الكوراني لِعِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا جَاءَ إلَيْهِ يَطْلُبُ عِلْمَ الْمَعْرِفَةِ - وَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْكَلَامِيَّةَ - فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ وَنَحْنُ نَقُولُ: عَرَّفَنَا نَفْسَهُ فَعَرَفْنَاهُ. وَكَمَا قَالَ نَجْمُ الدِّينِ الْكُبْرَى لِابْنِ الْخَطِيبِ وَرَفِيقِهِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَقَدْ سَأَلَاهُ عَنْ عِلْمِ الْيَقِينِ؟ فَقَالَ: هُوَ وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَأَجَابَهُمَا: بِأَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ عِنْدَنَا هُوَ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ لَا بِالنَّظَرِ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ. فَإِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ: هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ نَفْسَ الْعَبْدِ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ. فَالْقَائِسُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْنِيَ نَظَرَهُ وَقِيَاسَهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ. ثُمَّ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ. وَلِهَذَا: قَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: إنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ ضَرُورِيَّةٌ(2/76)
بِاعْتِبَارَاتِهَا بَعْدَ وُجُودِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ تُحَصِّلُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً؛ لَكِنْ مِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ عِنْدَ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ بَعْدَ تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ بَعْدَ النَّظَرِ فِي دَلِيلٍ ذِي مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ مُقَدِّمَاتٍ. فَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ: نَحْنُ نَجِدُ الْعِلْمَ وَجْدًا ضَرُورِيًّا بِالطَّرِيقِ الَّتِي نَسْلُكُهَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ حَامِلُ الْعِلْمِ وَدَاعِيه فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيضُ اللَّهُ الْعِلْمَ عَلَى قَلْبِهِ وَيُنْزِلُهُ عَلَى فُؤَادِهِ؛ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ الْمُقَارِنِ لِلْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْآخَرُ بِإِصْلَاحِ طَالِبِ الْعِلْمِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا - وَهُوَ الْقَلْبُ - بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْطُبُ امْرَأَةً فَتَارَةً تَجَمَّلَ لَهَا وَتَعَرَّضَ حَتَّى رَأَتْهُ فَرَغِبَتْ فِيهِ وَخَطَبَتْهُ وَتَارَةً بِأَنْ أَرْسَلَ إلَيْهَا مَنْ تَأْنَسُ إلَيْهِ وَتُطِيعُهُ فَخَطَبَهَا لَهُ فَأَجَابَتْ فَكَانَ سَعْيُ الْأَوَّلِ وَعَمَلُهُ فِي إصْلَاحِ نَفْسِهِ وَتَعَرُّضُهُ لَهَا حَتَّى تَرْغَبَ وَكَانَ سَعْيُ الثَّانِي فِي تَحْصِيلِ الرَّسُولِ الْمُطَاعِ حَتَّى تُجِيبَ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِيدُ صَيْدًا. لَكِنْ مُجَرَّدُ النَّظَرِ وَالْعَمَلِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ: لَا يُحَصِّلَانِ إلَّا أَمْرًا مُجْمَلًا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. فَإِنَّ ثُبُوتَ الْأَمْرِ الْمُجْمَلِ حَقٌّ؛ فَإِنْ ضَمَّا إلَى ذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِنُورِ الرِّسَالَةِ مِنْ الْأَمْرِ الْمُفَصَّلِ حَصَلَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ وَزَالَ مَا يَخَافُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ ذَيْنِك الطَّرِيقَيْنِ. وَهَذِهِ حَالُ مَنْ تَحَيَّزَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ الْكَلَامِيِّ وَالْعَمَلِ الْعِبَادِيِّ إلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِهِ؛ فَقَبِلَ مِنْهُ وَأَخَذَ عَنْهُ(2/77)
وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَإِمَّا أَنْ يَضُمَّ ضِدَّهُ أَوْ لَا يَضُمَّ شَيْئًا؛ فَإِنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ ضِدَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: وَقَعَ فِي التَّكْذِيبِ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ الْبَسِيطِ سَوَاءٌ كَانَ فِي رَيْبٍ أَوْ فِي إعْرَاضٍ وَغَفْلَةٍ.
فَإِنَّ حَالَ الْكَافِرِ: لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ الرِّسَالَةَ أَوْ لَا؛ فَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا فَهُوَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا وَعَدَمِ إيمَانٍ بِهَا. كَمَا قَالَ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَقَالَ: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} لَكِنَّ الْغَفْلَةَ الْمَحْضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ وَالْكُفْرُ الْمُعَذَّبُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. فَلِهَذَا قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالْغَفْلَةِ وَإِنْ تَصَوَّرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَانْصَرَفَ فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} وَكَمَا قَالَ: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وَكَمَا قَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا حَظَّ لَهُ؛ لَا مُصَدِّقَ وَلَا مُكَذِّبَ وَلَا مُحِبَّ وَلَا مُبْغِضَ فَهُوَ فِي رَيْبٍ مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ مُنَافِقٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ: {إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وَكَمَا قَالَ مُوسَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ(2/78)
وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ} {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: عَنْ مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ أَوَّلًا فَإِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَفِي النُّبُوَّةِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِمْ: {إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَهَذَا بَحْثُ كُفَّارِ الْفَلَاسِفَةِ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالتَّكْذِيبُ أَخَصُّ مِنْ الْكُفْرِ. فَكُلُّ مُكَذِّبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَيْسَ كُلُّ كَافِرٍ مُكَذِّبًا بَلْ قَدْ يَكُونُ مُرْتَابًا إنْ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ أَوْ مُعْرِضًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِحَالِ لَكِنْ عُقُوبَةُ هَذَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَبْلِيغِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي أَنْ يُضَمَّ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْمُجْمَلَةِ إمَّا تَكْذِيبٌ وَإِمَّا كُفْرٌ بِلَا تَكْذِيبٍ؛ وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي سَالِكِي الطَّرِيقَيْنِ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ وَالْعَمَلِ بِالْعِبَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النُّظَّارِ أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوْ صَانِعَ الْعَالَمِ وَذَهَبُوا فِي تَعْيِينِهِ وَصِفَاتِهِ مَذَاهِبَ يَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ تَفْصِيلِهَا - مَعْرُوفَةٌ(2/79)
فِي كُتُبِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِنَا - مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتُ غَيْرِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَثْبَتَ أَيْضًا ذَلِكَ إثْبَاتًا مُجْمَلًا وَتَوَهَّمُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنْ التَّوَهُّمَاتِ الكفرية الَّذِي يَصِفُهَا عَارِفُوهُمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَعْيَانِهِ وَأَفْرَادِهِ فَإِذَا تَعَيَّنَ الْوُجُودُ لَمْ يَكُنْ إيَّاهُ إذْ الْمُطْلَقُ لَيْسَ هُوَ الْمُعَيَّنُ كَمَا يَقُولُهُ الصَّدْرُ القونوي. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ الْفَائِضِ عَلَيْهَا كَمَا يَذْكُرُهُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ. وَمِنْهُمْ يَتَوَهَّمُهُ جُمْلَةَ الْوُجُودِ وَكُلُّ مُعَيَّنٍ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَالْبَحْرِ مَعَ أَمْوَاجِهِ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ. فَلَيْسَ هُوَ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّهُ مَجْمُوعُ الْكَائِنَاتِ؛ كَالْعَفِيفِ التِّلْمِسَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ البلياني وَيَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ مَعَهُ وَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مَعَهُ وَأَجْزَاءِ الْهَوَى مَعَ الْهَوَاءِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْحَيَوَانِ مَعَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ.
وَيَقُولُ شَاعِرُهُمْ ابْنُ إسْرَائِيلَ:
وَمَا أَنْتَ غَيْرُ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ ... وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُ
وَقَالَ:
وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي ... لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ(2/80)
وَلِهَذَا: لَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْسَانِ غَايَةٌ وَرَاءَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ نَفْسِهِ فَيَرَى أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الْحَقُّ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُوبًا عَنْهَا فَلَمَّا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ رَأَى أَنَّهُ هُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْرَائِيلَ:
مَا بَالُ عِيسِك لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ... إلَّامَ ضَلَلِك لَا تَنِي مُنْتَقِلًا
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ ... إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا
وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ [الْأَشْيَاءُ] (*)
وَاَللَّهُ يَقُولُ: {إنَّ إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وَيَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا} وَيَقُولُ: {ثُمَّ رُدُّوا إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} وَيَقُولُ: {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ التِّلْمِسَانِيُّ وَكَانَ رَاسِخَ الْقِدَمِ فِي هَذِهِ الزَّنْدَقَةِ الَّتِي أَسْمَوْا بِهَا التَّوْحِيدَ وَالْحَقِيقَةَ:
تَوَهَّمْت قِدَمًا أَنَّ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... وَأَنَّ حِجَابًا دُونَهَا يَمْنَعُ اللثما
فَلَاحَتْ فَلَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ حَجْبُهَا ... سِوَى أَنَّ طَرَفِي كَانَ عَنْ حُبِّهَا أَعْمَى
وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْفَنِّ:
هِيَ الْجَوْهَرُ الصِّرْفُ الْقَدِيمُ وَإِنْ بَدَا ... لَهَا خُبْثٌ أَتَت بِهِ فَهُوَ حَادِثُ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) الأشياء مقجمة ليست من البيت (انظر صيانة مجموع الفتاوى ص 254)(2/81)
حَلَفْت لَهُمْ مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرُ ذَاتِهَا ... فَقَالُوا اتَّئِدْ فِيهَا فَإِنَّك حَانِثُ
وَلَهُ:
وَقُلْ لِحَبِيبِك مُتْ وَجْدًا وَذُبْ طَرَبًا ... فِيهَا وَقُلْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ لَا تَزُلْ
وَاصْمُتْ إلَى أَنْ تَرَاهَا فِيك نَاطِقَةً ... فَإِنْ وَجَدْت لِسَانًا قَائِلًا فَقُلْ
وَلِهَذَا: يَصِلُونَ إلَى مَقَامٍ لَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ. وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنَّمَا يَرَوْنَ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ لِلْمَحْجُوبِينَ عِنْدَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ هُوَ حَقِيقَةُ الْكَوْنِ؛ فَمَنْ الْعَابِدُ؟ وَمَنْ الْمَعْبُودُ؟ وَمَنْ الْآمِرُ؟ وَمَنْ الْمَأْمُورُ؟ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ فِي أَوَّلِهَا:
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قَلَتْ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ؟
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّكْلِيفَ هُوَ فِي مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْمُمْتَحِنِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدُ ... مَا فِيهِ مِنْ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ ... وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ(2/82)
وَمَنْشَأُ هَذَيْنِ عَنْ الصَّابِئَةِ - كَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ - فَإِنَّ الصَّابِئَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - كَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ - مِثْلُ فِرْعَوْنِ مُوسَى ونمرود إبْرَاهِيمَ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْبَشَرِ: مُعْتَرِفُونَ بِالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ. وَلِهَذَا: كَانَ أَفْضَلُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ أَعْنِي بِهِمْ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ " أَرِسْطُو " فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ الَّذِي صَنَّفَ فِي أَنْوَاعِ التَّعَالِيمِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّمَاءِ وَالْعَالَمِ وَالْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ وَصَنَّفَ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ - وَهُوَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ حِكْمَتِهِمْ وَنِهَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ - وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُسَمِّيه مُتَأَخِّرُو الْفَلَاسِفَةِ - كَابْنِ سِينَا: (الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ) . وَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ثُمَّ فِي تَقْسِيمِ الْمَوْجُودِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ. وَقَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَعِلَّةٍ وَمَعْلُولٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَأَحْكَامِهَا. مِثْلُ: تَقْسِيمِ الْعِلَلِ إلَى الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَهَى: الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ اللَّذَانِ هُمَا سَبَبَانِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ اللَّذَانِ هَمَّا سَبَبَانِ لِحَقِيقَةِ الْمُرَكَّبِ وَتَقْسِيمِ الْأَعْرَاضِ إلَى الْأَجْنَاسِ الْمَقَالِيَّةِ التِّسْعَةِ وَهِيَ: الْكَيْفُ وَالْكَمُّ وَالْوَضْعُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْمِلْكِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ؛ أَوْ جَعَلَهَا خَمْسَةً عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ(2/83)
وَفِي آخِرِ عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ حَرْفُ اللَّامِ - كَأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ الغائية الَّذِي إلَيْهِ الْحَرَكَةُ؛ كَمَا أَثْبَتَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَةِ - الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ عَلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ؛ بِكَلَامِ مُخْتَصَرٍ ذَكَرَ فِيهِ قَدْرًا يَسِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ سِينَا (1) فَهَذَا مَا عِنْدَ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ وَالرُّسُلُ: فَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ فِيهَا كَلَامٌ مَعْرُوفٌ؛ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَهُمْ لَمَّا ظَهَرَتْ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ - الإبْراهِيمِيَّة التَّوْحِيدِيَّةُ - تَارَةً بِنُبُوَّةِ عِيسَى - لَمَّا ظَهَرَتْ النَّصَارَى عَلَى مَمْلَكَةِ الصَّابِئِينَ بِأَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالرُّومِ وَغَيْرِهَا - ثُمَّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ شَمْسًا طَمَسَتْ ضَوْءَ الْكَوَاكِبِ وَعَاشَ السَّلَفُ فِيهَا بُرْهَةً طَوِيلَةٍ ثُمَّ خَفِيَ بَعْضُ نُورِ النُّبُوَّةِ؛ فَعَرَّبَ بَعْضَ كُتُبِ الْأَعَاجِمِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ فِي أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. ثُمَّ طُلِبَتْ كُتُبُهُمْ فِي دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَعُرِّبَتْ وَدَرَسَهَا النَّاسُ وَظَهَرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ مَا ظَهَرَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَا ظَهَرَ مِنْ عُلُومِهِمْ الرِّيَاضِيَّةُ كَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ الطَّبِيعَةِ كَالطِّبِّ أَوْ الْمَنْطِقِيَّةِ فَأَمَّا الْإِلَهِيَّةُ: فَكَلَامُهُمْ فِيهَا نَزْرٌ وَهُوَ مَعَ نَزَارَتِهِ لَيْسَ غَالِبُهُ عِنْدَهُمْ يَقِينًا؛ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مَا مَلَأَ الْعَالَمَ نُورًا وَهُدًى،
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) سقط قول ابن سينا من الأصل(2/84)
بَلْ مُتَكَلِّمُوهُمْ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى الْبِدَعِ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِمَقَايِيسِهِمْ الْمُسْتَخْرَجَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ أَضْعَافِ مَا عِنْدَ حُذَّاقِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا صَارَ فِيهِمْ مَنْ يَتَحَذَّقُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ كالفارابي وَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِمْ وَصَنَّفَ ابْنُ سِينَا كُتُبًا زَادَ فِيهَا بِمُقْتَضَى الْأُصُولِ الْمُشْتَرَكَةِ: أَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ وَتَكَلَّمَ فِي النُّبُوَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ بِكَلَامِ فِيهِ شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ: فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْكُفْرِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَإِنَّمَا رَاجَ عَلَى مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْمُتَفَلْسِفَةِ؛ لِأَنَّهُ قَرَّبَ إلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْوِلَايَةِ بِحَسَبِ أُصُولِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ - لَا بِحَسَبِ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ - بِمَا أَشْرَقَ عَلَى جَهَالَاتِهِمْ مِنْ نُورِ الرِّسَالَةِ وَبُرْهَانِ النُّبُوَّةِ. كَمَا فَعَلَهُ نسطور النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ الَّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ النسطورية فِي التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ؛ لَكِنَّهُ بِمَا أَضَاءَ عَلَيْهِ مِنْ نُورِ الْمُسْلِمِينَ أَزَالَ كَثِيرًا مِنْ فَسَادِ عَقِيدَةِ النَّصْرَانِيِّ وَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَقَايَا عَظِيمَةٌ. وَكَذَلِكَ يَحْيَى بْنُ عَدِيٍّ النَّصْرَانِيُّ لَمَّا تَفَلْسَفَ قَرَّبَ مَذْهَبَ النَّصَارَى فِي التَّثْلِيثِ إلَى أُصُولِ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَاقِلِ وَالْمَعْقُولِ.(2/85)
وَلِهَذَا الْفَلَاسِفَةُ الْمَحْضَةُ - الْبَاقُونَ عَلَى مَحْضِ كَلَامِ الْمَشَّائِينَ - يَرَوْنَ أَنَّ ابْنَ سِينَا صَانِعَ الْمِلِّيين لَمَّا رَأَوْا مِنْ تَقْرِيبِهِ وَجَهِلُوا فِيمَا قَالُوا وَكَذَّبُوا لَمْ يُصَانِعْ وَلَكِنْ قَالَ - بِمُوجِبِ الْحَقِّ وَبِمُوَافَقَةِ أُصُولِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ - مَا قَالَهُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ كَمَا أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الإلهيين الْمَشَّائِينَ وَغَيْرَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ وَبِبَقَاءِ الرُّوحِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَنْفَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَاسِفَةٌ كَثِيرُونَ مِنْ الطَّبِيعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ بَلْ وَبَيْنَ الإلهيين مِنْ الْفَلَاسِفَةِ خِلَافٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ حَتَّى الْفَارَابِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُمْ الْمُعَلِّمُ الثَّانِي يُقَالُ: إنَّهُ اخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ تَارَةً بِبَقَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا وَتَارَةً بِبَقَاءِ النُّفُوسِ الْعَالِمَةِ دُونَ الْجَاهِلَةِ. كَمَا قَالَهُ فِي آرَاءِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَتَارَةً كَذَّبَ بِالْأَمْرَيْنِ وَزَعَمَ الضَّالُّ الْكَافِرُ: أَنَّ النُّبُوَّةَ خَاصَّتُهَا جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْحَقَائِقِ الرُّوحَانِيَّةِ وَكَلَامُهُمْ الْمُضْطَرِبُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ الْعِلْمَ الْأَعْلَى عِنْدَهُمْ وَالْفَلْسَفَةَ الْأُولَى عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ؛ حَتَّى إنَّ مَنْ لَهُ مَادَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الْمُسْلِمِينَ - كَابْنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ - يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ إسْلَامِيٌّ مَحْضٌ؛ فَيَبْنُونَهُ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْفَلْسَفِيَّةِ. كَقَوْلِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ فِي أَوَّلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مُوَافَقَةً لِابْنِ سِينَا وَمِنْ قَبْلِهِ: الْعُلُومُ الْجُزْئِيَّةُ لَا تُقَرَّرُ مَبَادِئُهَا فِيهَا؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ فَإِنَّ مَبْدَأَ الْعِلْمِ أُصُولُهُ(2/86)
وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَهَا. فَلَوْ عُرِفَتْ أُصُولُهُ بِمَسَائِلِهِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى أُصُولِهِ: لَلَزِمَ الدَّوْرُ بَلْ تُوجِدُ أُصُولُهُ مُسَلَّمَةً وَيُقَدَّرُ فِي عِلْمٍ أَعْلَى مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْعِلْمِ إلَّا عَلَى النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَهَذَا قَالُوهُ فِي مِثْلِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ إنَّ الطَّبِيبَ إنَّمَا هُوَ طَبِيبٌ يَنْظُرُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَأَخْلَاطِهِ وَأَعْضَائِهِ لِيَحْفَظَهُ صِحَّتَهُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَيُعِيدُهَا إلَيْهِ إنْ كَانَتْ مَفْقُودَةً وَبَدَنُ الْحَيَوَانِ جُزْءٌ مِنْ الْمُوَلِّدَاتِ فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ أَخْلَاطُهُ. فَأَعَمُّ مِنْهُ: النَّظَرُ فِي الْمُوَلِّدَاتِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ؛ الْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ وَالْأَرْضُ. وَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْجِسْمِ الْمُسْتَحِيلِ ثُمَّ فِي الْجِسْمِ الْمُطْلَقِ فَمَا مِنْ عِلْمٍ يَتَعَلَّقُ بِمَوْضُوعِ بِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَيْنِيَّةِ أَوْ الْعِلْمِيَّةِ إلَّا وَأَعَمُّ مِنْهُ: مَا يَشْتَرِكُ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهِ. فَأَمَّا إدْخَالُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا فِي هَذَا وَجَعْلُهُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ الْأَعْلَى - عِنْدَهُمْ - النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَنْشَأُ الضَّلَالِ الْقِيَاسِيِّ. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْبَرُ وَلِهَذَا: كَانَ شِعَارُ أَكْمَلِ الْمِلَلِ هُوَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: {يَا عَدِيُّ: مَا يفرك أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ(2/87)
يَا عَدِيُّ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهُ يَا عَدِيُّ مَا يفرك أيفرك أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ اللَّهِ} وَبِهَذَا: تَبَيَّنَ صَوَابُ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْدَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِقَوْلِنَا: اللَّهُ الْكَبِيرُ مَعَ أَنَّ كَشْفَ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَالَ: { {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ فَاَللَّهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْأَكْبَرُ} وَالْعِلْمُ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ وَعِلْمُهُ: أَكْبَرَ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ بِنَفْسِهِ وَسَائِرُ مَا سِوَاهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَهُوَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّبُ أَسْبَابِهَا فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلٌ لِلْعِلْمِ بِمَا سِوَاهُ وَسَبَبٌ كَمَا أَنَّ ذَاتَه كَذَلِكَ وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبِّبِ. الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ أَنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سِوَاهُ وَهُوَ عِلْمٌ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي قِيَاسِهِ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ عِلْمٌ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا بِحَقِيقَةِ مَا سِوَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ بِوَصْفِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِلْمُ بِوَصْفِ مُشْتَرِكٍ أَعْلَى مِنْ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَائِرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ؟ . وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ الْمُطْلَقَةِ وَمَا هُوَ كُلٌّ مِنْ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ: هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.(2/88)
الرَّابِعُ: أَنَّ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ وَالذَّاتَ الْمُطْلَقَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ: إمَّا: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِطْلَاقُ الْخَاصُّ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ. كَمَا يُقَالُ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ كَمَا أَنَّ الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ الْعَامَّ وَالذَّاتَ الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ؛ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ؛ وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِلْحَقَائِقِ هَذَا الْعُمُومُ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْقُولَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْأَعْيَانِ. فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا مَعْلُومَهُ هُوَ الْمُثُلُ الذِّهْنِيَّةُ لَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَالْمُثُلُ إنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِتِلْكَ وَإِلَّا لَكَانَتْ جَهْلًا لَا عِلْمًا؛ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِطْلَاقُ الْعَامُّ وَهُوَ مَا لَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ حَتَّى عَنْ الْإِطْلَاقِ. فَالْمُطْلَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ. لَكِنْ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا فَإِمَّا مَوْجُودٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْخَاصُّ فَالْمُطْلَقُ الْعَامُّ لَمَّا كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ صَحَّ أَنْ يُوجَدَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَلَوَاحِقُهُ لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنٌ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْعُلُومِ. إنَّمَا وُجُودُ مَعْلُومِهِ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَلَوْ جَازَ تَرْجِيحُ الْعِلْمِ بِالْمُثُلِ الذِّهْنِيَّةِ عَلَى الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ: لَجَازَ تَرْجِيحُ الْمُثُلِ عَلَى الْحَقَائِقِ وَلَكَانَ الْعِلْمُ بِالرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ: أَفْضَلَ مِنْ ذَاتِ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.(2/89)
الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ بَنَوْا أَمْرَهُمْ فِي عُلُومِهِمْ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَحَدٍّ أَوْسَطَ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الْمَوْصُوفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْمُبْتَدَأُ الْمَوْضُوعُ. وَمَا مِنْ حَدٍّ وَقَضِيَّةٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْحَيَوَانُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ النَّامِي فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ السُّفْلِيُّ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجِسْمُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْجَوْهَرُ فَأَعَمُّ مِنْهُ الْمَوْجُودُ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا ذَاتِيًّا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ أَوْ وَصْفًا عَرَضِيًّا كَمَا يَقُولُهُ الْحُذَّاقُ. فَلَوْ قِيلَ أَعْلَى الْعُلُومِ الْقِيَاسِيَّةِ: الْعُلُومُ بِالْمَوْجُودِ وَلَوَاحِقِهِ؛ لِكَوْنِ مَعْلُومِهِ أَعَمَّ الْمَوْضُوعَاتِ: لَكَانَ لَهُ مَسَاغٌ وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُهُمْ. لَكِنَّ الْعِلْمَ الْقِيَاسِيَّ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ نَظِيرٌ مُمَاثِلٌ فَيُعْرَفُ أَحَدُ الْمِثْلَيْنِ بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِقِيَاسِهِ عَلَى نَظِيرِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ مُنْتَفٍ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، ثُمَّ قَدْ عَارَضَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ الْوُجُودِ وَهُوَ الْمَعْلُومُ وَالْمَذْكُورُ فَقَالُوا: أَعْلَى الْمَعْلُومِ وَأَعَمُّ الْأَسْمَاءِ وَالْحُدُودِ: الْمَعْلُومُ وَالْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ بِنَوْعَيْ الْوُجُودِ: وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ وَنَوْعَيْ الْمَعْدُومِ مُمْكِنِهِ وَمُمْتَنِعِهِ؛ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى النَّاظِرُ فِي الْمَعْلُومِ وَلَوَاحِقُهُ وَهَذَا أَعَمُّ وَأَوْسَعُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْلُومًا أَمْرٌ يَعْرِضُ لَهُ؛ لَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ؛ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مَوْجُودًا إذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَجِدُهُ الْوَاجِدُ هَذَا مُقْتَضَى الِاسْمِ:(2/90)
وَإِنْ عَنَى بِهِ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ فَهَذَا لَيْسَ هُوَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي هِيَ هُوَ كَمَا قَدْ قُرِّرَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ الْمُتَكَلِّمَةِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرَّبِّ هِيَ وُجُودُهُ أَوْ وُجُوبُ وُجُودِهِ أَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا حَقِيقَتَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ خَطَأً قَبِيحًا وَأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ حَقِيقَةُ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ كَوْنُهَا مُمْكِنَةً وَهَؤُلَاءِ بُعَدَاءُ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إلَّا صِفَةً كُلِّيَّةً مِنْ صِفَاتِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ عَرَفُوا حَقِيقَتَهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ قَالَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى هُوَ عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَهُوَ النَّاظِرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ؛ فَإِنَّمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَى فِي ذِهْنِ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَلْقِهِ؛ لَا أَنَّهُ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ؛ وَلَا أَنَّ مَعْلُومَهُ أَعْلَى وَلَا أَعْلَى عِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا أَعْلَى عِنْدَ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْفِطْرَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالشِّرْعَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْوِلَايَةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالرِّسَالَةِ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالْكَلَامِ؛ فَضْلًا عَمَّنْ عَرَفَهُ بِالرُّؤْيَةِ. فَلَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْفَلَاسِفَةِ الصابئية وَأَعْلَى عِلْمِهِمْ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَكَانَ أَصْلُ التَّجَهُّمِ وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الصَّابِئَةِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فِي الْأَصْلِ جهمية وَأَنَّهُ بِمَا فِيهِمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ - الْمُشَارِكَةِ لِلصَّابِئَةِ صَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ نَسَبٌ - صَارَ مَعْبُودُهُمْ وَإِلَهُهُمْ هُوَ(2/91)
الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ مُضَاهَاةً لِمَا عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ تَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَإِنْ كَانَ الْفَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمُونَ لَا يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يُقِرُّونَ بِالرَّبِّ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ الْعَالَمُ؛ لَكِنَّهُمْ بِتَعْظِيمِهِمْ لِلْوُجُودِ الْمُطْلَقِ صَارُوا مُتَّفِقِينَ مُتَقَارِبِينَ وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ النُّصَيْرِ الطوسي الصابئي الْفَيْلَسُوفِ وَكَلَامَ الصَّدْرِ القونوي النَّصْرَانِيِّ الِاتِّحَادِيِّ الْفَيْلَسُوفِ وَكَلَامَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ - الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْنَا الْفَلَاسِفَةُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَنَحْنُ نُنْكِرُهُ - عَرَفَ مَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُرَاسَلَةُ الَّتِي بَيْنَ الصَّدْرِ وَالنُّصَيْرِ فِي إثْبَاتِ النُّصَيْرِ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَجَعَلَ الصَّدْرُ ذَلِكَ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ لَا الْمُعَيَّنَ وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ عَلِمَ حَقِيقَةَ مَا قُلْته وَعَلِمَ وَجْهَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَأَنَّ النُّصَيْرَ أَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ اعْتِرَافُهُ بِالرَّبِّ الصَّانِعِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ الْخَلْقِ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ مِنْ جِهَةِ بُعْدِهِ عَنْ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ. وَأَنَّ الصَّدْرَ أَقْرَبُ مِنْ جِهَةِ تَعْظِيمِهِ لِلْعِبَادَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالتَّأَلُّهِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّصَارَى؛ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَعْبُودَهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَإِنَّمَا يَعْبُدُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ(2/92)
وَلِهَذَا كَانَ الصَّدْرُ أَكْفَرَ قَوْلًا وَأَقَلَّ كُفْرًا فِي عَمَلِهِ وَالنُّصَيْرُ أَكْفَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ كُفْرًا فِي قَوْلِهِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ؛ وَلِهَذَا: يَظْهَرُ لِلْعُقَلَاءِ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلَامِ الصَّدْرِ أَنَّهُ إفْكٌ وَزُورٌ وَغُرُورٌ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ كَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ النُّصَيْرِ أَنَّهُ مُرُوقٌ وَإِعْرَاضٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَلِهَذَا: كَانَ النُّصَيْرُ أَقْرَبَ إلَى الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ مَا هُوَ حَقٌّ كَمَا أَنَّ الصَّدْرَ أَقْرَبُ إلَى الْعُبَّادِ؛ لِأَنَّ فِي فِعَالِهِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ.(2/93)
وَقَالَ:
فَصْلٌ:
وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - الَّذِي هُوَ غَايَةُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ - فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ: يَظُنُّونَ أَنَّ كَمَالَ النَّفْسِ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ - الَّذِي بِهِ تَكْمُلُ مَا يَعْرِفُونَهُ هُمْ مِنْ - عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ وَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ حَتَّى تَسْتَعِدَّ لِلْعِلْمِ. فَتَصِيرُ النَّفْسُ عَالَمًا مُعْتَزِلًا مُوَازِيًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ. وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ؛ بَلْ كَافِرُونَ مِنْ وُجُوهٍ: - مِنْهَا: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا الْكَمَالَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ كَمَا اعْتَقَدَ جَهْمٌ والصالحي وَالْأَشْعَرِيُّ - فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلَيْهِ - وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ؛ لَكِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْجَهْمِيَّة؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ النَّفْسِ: فِي أَنْ تَعْلَمَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ؛ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَالْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ لَا يُوجَدُ أَيْضًا فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. وَإِنْ عَلِمُوا الْوُجُودَ الْكُلِّيَّ الْمُنْقَسِمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ فَلَيْسَ لِمَعْلُومِ عِلْمِهِمْ(2/94)
وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهَكَذَا مَنْ تَصَوَّفَ وَتَأَلَّهَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ فَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ بِخِلَافِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَكَمَالُ النَّفْسِ لَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْعِلْمِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ فَهَذَا عَمَلُ النَّفْسِ وَإِرَادَتُهَا وَدَالُّ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ هُوَ عِلْمُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى؛ الَّذِي تَكْمُلُ بِهِ النَّفْسُ مَعَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَاكَ الْعِلْمُ: سَقَطَتْ عَنْهُمْ وَاجِبَاتُ الشَّرْعِ وَأُبِيحَتْ لَهُمْ مُحَرَّمَاتُهُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَغَيْرِهِمْ؛ مِثْلُ أَبِي يَعْقُوبَ السجستاني صَاحِبِ الْأَقَالِيدِ الملكوتية وَأَتْبَاعِهِ وَطَرِيقَةُ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أَنَّك تَعْمَلُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ سَقَطَ عَنْك الْعَمَلُ وَقَدْ قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ - أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ - فَقَالَ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ: خَيْرٌ مِنْ هَذَا.(2/95)
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ طَلَبُهُ لِلْمُكَاشَفَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِلْمِ: أَعْظَمَ مِنْ طَلَبِهِ لِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُك الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَلِمَاتِ؛ مِنْ الشُّكُوكِ؛ وَالظُّنُونِ؛ وَالْإِرَادَةِ؛ وَالْأَوْهَامِ السَّاتِرَةِ لِلْقُلُوبِ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُكْنَةَ الَّتِي هِيَ الْكَمَالُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُكْنَةِ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى: عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْوُجُودِ: نَفَاذُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ إمَّا بِالْمُلْكِ وَالْوِلَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِمَّا بِالْبَاطِنِ. وَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ وَمُجَاهَدَتُهُمْ - لِذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَيَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ؛ لِتُعِينَهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَهَؤُلَاءِ أَضَلُّ وَأَجْهَلُ مِنْ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ وَغَايَةُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: يَطْلُبُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُرَى طَائِرًا وَمِنْهُمْ يُرَى مَاشِيًا وَمِنْهُمْ (1) .
وَفِيهِمْ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ. وَطَائِفَةٌ تَجْعَلُ الْكَمَالَ فِي مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مِنْ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ لِيَسْتَعِينُوا بِالشَّيَاطِينِ عَلَى مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَعَلَى مَا يَنْفُذُ بِهِ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْعَالَمِ. وَالْحَقُّ الْمُبِينُ: أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بالأصل كلمتان لم تتضحا للناسخ(2/96)
وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُمْ الَّذِينَ زَكُّوا نُفُوسَهُمْ وَكَمَّلُوهَا كَمَّلُوا الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْإِرَادِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .(2/97)
وَقَالَ أَيْضًا:
فَصْلٌ:
حَقِيقَة مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ - كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ وَنَحْوِهِ - الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ كَلَامُهُمْ وَيُصَرِّحُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ - أَنَّ الْحَقَائِقَ تَتَّبِعُ الْعَقَائِدَ؛ وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ السوفسطائية؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا أَوْ اعْتَقَدَهُ؛ فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ هَذَا الْقَائِلِ الْمُعْتَقِدِ؛ وَلِذَا يَجْعَلُونَ الْكَذِبَ حَقًّا وَيَقُولُونَ الْعَارِفُ لَا يَكْذِبُ أَحَدًا فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْكَاذِبِ؛ فَإِنْ اعْتَقَدَهُ كَانَ حَقًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَكَلَامِهِ. وَلَوْ قَالَ مَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ كَانَ حَقًّا فِي كَلَامِهِ فَقَطْ. وَلِهَذَا يَأْمُرُ الْمُحَقِّقُ أَنْ تُعْتَقَدَ كُلُّ مَا يَعْتَقِدُهُ الْخَلَائِقُ كَمَا قَالَ:
عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عقائدا ... وَأَنَا اعْتَقَدْت جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُتَنَاقِضَةَ لَا تَكُونُ مُعْتَقَدَاتُهَا فِي الْخَارِجِ؛ لَكِنْ فِي نَفْسِ الْمُعْتَقَدِ؛ وَلِهَذَا يَأْمُرُونَ بِالتَّصْدِيقِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ أُصُولِ طَرِيقِهِمْ وَتَحْقِيقِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّقِيضَيْنِ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْخَارِجِ؛ لَكِنْ يُمْكِنُ اعْتِقَادُ اجْتِمَاعِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْمُعْتَقِدِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَشْفًا فَكَشْفُهُمْ مُتَنَاقِضٌ فَخَاطَبْت بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَقَالَ: كِلَاهُمَا(2/98)
حَقٌّ كَاَلَّذِي كُشِفَ لَهُ أَنَّ الزُّهْرَةَ فَوْقَ عُطَارِدَ وَاَلَّذِي كُشِفَ لَهُ أَنَّهَا تَحْتَ عُطَارِدَ فَقَالَ هِيَ مِنْ كَشْفِ هَذَا فَوْقَ عُطَارِدَ وَفِي كَشْفِ هَذَا تَحْتَ عُطَارِدَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَجَعَلُوا الْحَقَائِقَ الثَّابِتَةَ تَتَّبِعُ الْكَشْفَ وَالِاعْتِقَادَ وَالْقَوْلَ. [وَلِهَذَا يَقُولُونَ سِرْ حَيْثُ شِئْت فَإِنَّ اللَّهَ ثَمَّ وَقُلْ مَا شِئْت فِيهِ فَإِنَّ الْوَاسِعَ اللَّهُ] (*) . وَمَضْمُونُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ: يَقُولُ مَا شَاءَ وَيَعْتَقِدُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ وَأَنَّهُ لَا يُنْكَرُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَهَكَذَا يَقُولُونَ. هَذَا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّ مُحَقِّقَهُمْ يَقُولُ: مَا عِنْدَنَا حَرَامٌ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَمَا عِنْدَهُمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا قَالَ الْقَاضِي الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فِيمَا أَنْشَدَنِيهِ الشَّاهِدُ ابْنُ عَمَدَ الْمُلَقَّب بعرعيه (1) :
مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدٌ ... مَا فِيهِ مِنْ حَمْدٍ وَلَا ذَمٍّ
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ ... وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ بِالْحُكْمِ
وَحِينَئِذٍ فَمَا يَبْقَى لِلْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقُدْرَةِ؛ وَلِهَذَا هُمْ يَمْشُونَ مَعَ الْكَوْنِ دَائِمًا فَأَيُّ شَيْءٍ وُجِدَ وَكَانَ: كَانَ عِنْدَهُمْ حَقًّا؛ فَالْحَلَالُ مَا وَجَدْته وَحَلَّ بِيَدِك وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمْته وَالْحَقُّ مَا قُلْته كَائِنًا مَا كَانَ وَالْبَاطِلُ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ. وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ المباحية الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَجْرُونَ مَعَ مَحْضِ الْقَدَرِ. فَإِنَّ أُولَئِكَ يُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَهَؤُلَاءِ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) هكذا أحرف الأصل
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 21) :
وهذا بيت شعر على بحر البسيط، وقد رسم هكذا في المجموع، وصواب الرسم:
(ولهذا يقولون:
سر حيث شئت فإن الله ثمّ وقل ... ما شئت فيه فإن الواسع الله(2/99)
عَطَّلُوا أَيْضًا الصَّانِعَ وَالرِّسَالَةَ وَالْحَقَائِقَ كُلَّهَا وَجَعَلُوا الْحَقَائِقَ بِحَسَبِ مَا يُكْشَفُ لِلْإِنْسَانِ وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْحَقَائِقِ فِي أَنْفُسِهَا حَقَائِقَ تَتَحَقَّقُ بِهِ يَكُونُ ثَابِتًا وَبِنَقِيضِهِ مُنْتَفِيًا؛ بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ: أَلَّا تَقِفَ مَعَ مُعْتَقَدٍ بَلْ تَعْتَقِدُ جَمِيعَ مَا اعْتَقَدَهُ النَّاسُ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً فَإِنَّ الْوُجُودَ يَسَعُ هَذَا كُلَّهُ وَوَحْدَةُ الْوُجُودِ تَسَعُ هَذَا كُلَّهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُجُودَ إنَّمَا يَسَعُ وُجُودَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ لَا يَسَعُ تَحَقُّقَ الْمُعْتَقَدَاتِ فِي أَنْفُسِهَا وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْبَاطِلَ. وَالْقَوْلَ الْكَاذِبَ: هُوَ مَوْجُودٌ دَاخِلٌ فِي الْوُجُودِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَصِدْقًا فَإِنَّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْأَقْوَالِ الْخَبَرِيَّةِ لَا يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ وُجُودِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكُلُّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ حَقِّهَا وَصِدْقِهَا: هِيَ عِنْدَهُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَصِدْقٍ وَكَذِبٍ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا حَقًّا وَصِدْقًا: كَوْنُهَا مُطَابِقَةً لِلْخَبَرِ أَوْ غَيْرَ مُطَابِقَةٍ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ مُطَابِقَةً فِي اعْتِقَادِ الْقَائِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ. وَقَدْ يُسَمَّى كَذِبًا وَقَدْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ} وَقَوْلُهُ: {كَذَبَ مَنْ قَالَهَا إنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّهُ لَجَاهِدٌ} مُجَاهِدٌ وَقَوْلُ عبادة: كَذِبٌ أَبُوكُمْ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَذَبَ نَوْفٌ.(2/100)
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بَلَى قَدْ نَسِيت} . وَكَأَنَّ الْفَرْقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: - أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ صَوَابَهُ وَخَطَأَهُ فَأَخْطَأَ سُمِّيَ كَاذِبًا - بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُفَرِّطْ - لِأَنَّهُ (1) تَكَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ مُجَازَفَةً فَأَخْطَأَ بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ. {وَهَذَا الْفَرْقُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَرَّقَ بِهِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ إنْ حَلَفَ مُجَازِفًا بِلَا أَصْلٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ مِثْلَ مَنْ حَلَفَ أَنَّ هَذَا غُرَابٌ أَوْ لَيْسَ بِغُرَابِ بِلَا مُسْتَنَدٍ أَصْلًا فَبَانَ خَطَأً؛ [فَإِنَّ هَذَا يَحْنَثُ وَذَلِكَ يَحْنَثُ مِثْلَ هَذَا وَإنْ لَمْ يَعْلَمْ خَطَأَهُ وَإِنْ أَصَابَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ حَلِفِهِ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ] وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: الْمُفْتِي إذَا أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ أَثِمَ وَإِنْ أَصَابَ وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إلَى الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ لِلْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ} (*) . وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ فِي أَخْبَارِهِمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَذِبًا بَلْ الْكَذِبُ كَالصِّدْقِ عِنْدَهُمْ فيستعملونه بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَلَا يُبَالُونَ إذَا أَخْبَرُوا عَنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِخَبَرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَتَجِدُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ فَيَعْمَلُونَ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ أَيْضًا إذَا وَافَقَ هَذَا هُوَ أَهَمُّ فِي وَقْتٍ وَهَذَا هُوَ أَهَمُّ فِي وَقْتٍ. وَهُمْ دَائِمًا مَعَ الْمُطَاعِ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا أَوْ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا أَوْ صِدِّيقًا أَوْ زِنْدِيقًا وَالتَّتَارُ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ وَإِنْ شَرِكُوهُمْ فِي هَذَا: فَهُمْ أَحْسَنُ مِنْهُمْ فِي الْخَبَرِيَّاتِ إذْ التَّتَارُ لَا يُخْبِرُونَ عَنْ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ: بِالْخَبَرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَلْ أَحَدُهُمْ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ عِلْمًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ لَا يَعْتَقِدُ شَيْئًا فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) بالأصل: " كأنه "
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 21) :
والعبارات التي تحتها خط (بين معقوفتين هنا) فيها اضطراب، وقد يكون وقع فيها تصحيف، فهي غير مفهومة، والمراد بهذه العبارة - والله أعلم - أن من حلف مجازفا بلا أصل يرجع إليه فإنه يحنث وإن لم يعلم خطأه وإن أصاب.(2/101)
بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَلَا فَهَؤُلَاءِ شَرُّ حَالًا مِنْ مِثْلِ التَّتَارِ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُمْ عَاقِبَةٌ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَّقِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَأْمُورٍ وَمَحْظُورٍ وَصِدْقٍ وَكَذِبٍ وَالْعَاقِبَةُ إنَّمَا هِيَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا قِيَامُ أَحَدِهِمْ: بِقَدْرِ مَا يَكُونُ قَادِرًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُدْرَةَ أَحَدِهِمْ لَا تَدُومُ بَلْ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ سَبَبَ الْوَبَالِ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُنْدَرِجُونَ فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وَفِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} وَفِي قَوْلِهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} . [وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَقَّ نَوْعَانِ: حَقٌّ مَوْجُودٌ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْخَبَرُ الصَّادِقُ وَحَقٌّ مَقْصُودٌ: وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ الْحَكِيمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَضِدُّ الْحَقِّ: الْبَاطِلُ وَمِنْ الْبَاطِلِ الثَّانِي قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو الرَّجُلُ بِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} وَالْحَقُّ الْمَوْجُودُ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ كَانَ كَذِبًا] (*) وَهَؤُلَاءِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَيْنَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ وَالْبَاطِلِ الْمَعْدُومِ الَّذِي يَنْبَغِي نَفْيُهُ فِي الْخَبَرِ
_________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 22) :
قوله هنا: (ومن الباطل الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم. . .) يدل على وجود سقط، إذ لم يتقدم ذكر للـ (الباطل الأول) ، وهذا السقط هو ذكر نوعي الباطل، ويدل على هذين النوعين ما ذكره في 2 / 415 حيث قال هناك:
(فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ؛ وَاَللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. وَالْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: الْوُجُودُ (1) الثَّابِتُ وَالثَّانِي: الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ {: الْوِتْرُ حَقٌّ} .
وَالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: الْمَعْدُومُ. وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ.
الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ (2) .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ {: كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ: إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ: فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ)
(1) لعله (الموجود) .
(2) وهذا الذي أشار إليه هنا في قوله 2 / 201: (ومن الباطل الثاني)(2/102)
عَنْهُمَا وَلَا بَيْنَ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ وَالْبَاطِلِ الَّذِي يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ بَلْ يَقْصِدُونَ مَا هَوَوْهُ وَأَمْكَنَهُمْ مِنْهُمَا. وَأَصْدَقُ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِوُجُودِهِ وَالْخَبَرُ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَإِنْ شِئْت قُلْت أَصْدَقُ خَبَرٍ عَنْ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ خَبَرُ اللَّهِ وَخَيْرُ أَمْرٍ بِالْحَقِّ الْمَقْصُودِ أَمْرُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ يَجْمَعُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنْ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ ".(2/103)
وَسُئِلَ الشَّيْخُ:
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ وَتَعَلَّقَ كُلٍّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ يُونُسَ الْقَتَّاتَ يُخَلِّصُ أَتْبَاعَهُ وَمُرِيدِيهِ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا الْحَرِيرِيَّ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْحَالِ مَا إنَّهُ إذَا خَلَا بِالنِّسَاءِ والمردان يَصِيرُ فَرْجُهُ فَرْجَ امْرَأَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الظُّهُورِ فِي وَقْتٍ فَيَعْلُو دِينُهُ وَشَرِيعَتُهُ؛ وَأَنَّ مِنْ شَرِيعَتِهِ السَّوْدَاءِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ وَتَحْلِيلَ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ وَتَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا؛ كَالتِّينِ وَاللَّوْزِ وَاللَّيْمُونِ. وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَتَرَكَ الصَّلَاةَ وَيَجْتَمِعُ بِهِ نَفَرٌ مَخْصُوصُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَيَّامِ إلَخْ.فَأَجَابَ: أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ يُونُسَ الْقَتَّاتِيَّ يُخَلِّصُ أَتْبَاعَهُ وَمُرِيدِيهِ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(2/104)
فَيُقَالُ جَوَابًا عَامًّا: مَنْ ادَّعَى أَنَّ شَيْخًا مِنْ الْمَشَايِخِ يُخَلِّصُ مُرِيدِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ: فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مَا شِئْتُمْ مِنْ مَالِي} وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: {لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.} وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ. فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ؛ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا - فَكَيْفَ يُقَالُ: فِي شَيْخٍ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا الشَّفَاعَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ آدَمَ لِيَشْفَعَ فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي وَكَذَلِكَ يَقُولُ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى - وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ -(2/105)
وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ؛ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعُ وَاسْأَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعُ؛ فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ} وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. فَهَذَا خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ إذَا رَأَى رَبَّهُ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يَسْجُدَ لَهُ وَيَحْمَدَهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ؛ فَيَحِدُّ لَهُ حَدًّا يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ. وَهَذَا تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ لَكِنْ بِإِذْنِهِ فِي أُمُورٍ مَحْدُودَةٍ لَيْسَ الْأَمْرُ إلَى اخْتِيَارِ الشَّافِعِ. فَهَذَا فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْفَعُ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ مُحَمَّدًا يُخَلِّصُ كُلَّ مُرِيدِيهِ مِنْ النَّارِ: لَكَانَ كَاذِبًا بَلْ فِي أُمَّتِهِ خَلْقٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يَشْفَعُ فِيهِمْ؛ وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَلَيْسَ لَهُمْ شَفَاعَةٌ كَشَفَاعَتِهِ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْ يُشَفِّعُهُ اللَّهُ فِيمَنْ يَشَاءُ وَلَا شَفَاعَةَ إلَّا فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الشَّيْخِ يُونُسَ: فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ لَهُمْ مِنْ الْكَلَامِ فِي سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ: مَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُمْ.(2/106)
وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ عَامَّتِهِمْ - لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَهُمْ وَحَقَائِقَهُمْ - فَهَذَا يَكُونُ مَعَهُ إسْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ خَوَاصّهمْ مِثْلُ الشَّيْخِ سلول وجهلان والصهباني وَغَيْرِهِمْ: فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُوجِبُونَ الصَّلَاةَ؛ بَلْ وَلَا يَشْهَدُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ. وَفِي أَشْعَارِهِمْ - كَشِعْرِ الكوجلي وَغَيْرِهِ - مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِّ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ: مَا لَا يَرْضَى بِهِ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ لِيُونُسَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَكْذُوبٌ عَلَى يُونُسَ لَكِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُمْ يَنْشُدُونَ الْكُفْرَ وَيَتَوَاجَدُونَ عَلَيْهِ وَيَبُولُ أَحَدُهُمْ فِي الطَّعَامِ وَيَقُولُ يَشْرَحُ كَبِدِي يُونُسَ أَوْ مَاءِ وَرْدِ يُونُسَ وَيَسْتَحِلُّونَ الطَّعَامَ الَّذِي فِيهِ الْبَوْلُ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بَرَكَةً. وَأَمَّا كفرياتهم: مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَأَنَا حَمَيْت الْحِمَى وَأَنَا سَكَنْت فِيهِ وَأَنَا تَرَكْت الْخَلَائِقَ فِي مَجَارِي التِّيهِ مُوسَى عَلَى الطُّورِ لَمَّا خَرَّ لِي نَاجَا وَصَاحِبُ أَقْرَبِ أَنَا جَنَّبُوهُ حَتَّى جا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرَى الْخَلَائِقَ أَفْوَاجًا إلَى نَبِيِّهِ عِيسَى يَقْضِي لَهُمْ حَاجَا. وَيَقُولُونَ: تَعَالَوْا نُخَرِّبُ الْجَامِعَ وَنَجْعَلُ مِنْهُ جماره وَنَكْسِرُ خَشَبَ الْمِنْبَرِ وَنَعْمَلُ مِنْهُ زناره وَنُحَرِّقُ وَرَقًا وَنَعْمَلُ مِنْهُ طنباره نَنْتِفُ لِحْيَةَ الْقَاضِي وَنَعْمَلُ مِنْهُ أوتاره. أَنَا حَمَلْت عَلَى الْعَرْشِ حَتَّى صج وَأَنَا صَرَخْت فِي مُحَمَّدٍ حَتَّى هَجَّ وَأَنَّ الْبِحَارَ السَّبْعَةَ مِنْ هَيْبَتِي تَرْتَجُّ.(2/107)
وَأُمُورٌ أُخَرُ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ كَانَ يَتَحَوَّلُ فَرْجُهُ فَرْجَ امْرَأَةٍ: فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ؛ بَلْ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ مَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَصْحَابَهُ يَنْقُلُونَ عَنْهُ كفريات سَطَّرُوهَا عَنْهُ كَقَوْلِهِ: لَوْ قَتَلْت سَبْعِينَ نَبِيًّا مَا كُنْت مُخْطِئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ} . وَإِذَا قِيلَ: هَذَا قَالَهُ مُشَاهَدَةً لِلْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ. أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ الْعُذْرُ أَقْبَحَ مِنْ الذَّنْبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً: لَمْ يَكُنْ عَلَى إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَلَامٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا الْمُحْتَجُّ بِالْقَدَرِ لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ أَحَدٌ لَقَاتَلَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً: فَهُوَ حُجَّةٌ يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يُؤْذِ آدَمِيًّا فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ . وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ لَمْ يَلُمْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ تَابَ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ بَلْ قَالَ لَهُ: بِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى.(2/108)
وَكَذَا يُؤْمَرُ كُلُّ مَنْ أَصَابَهُ مُصِيبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِقَدَرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَأَمَّا الذُّنُوبُ: فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْعَلَهَا؛ فَإِنْ فَعَلَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا فَمَنْ تَابَ وَنَدِمَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ أَشْبَهَ عَدُوَّهُ إبْلِيسَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَائِبِ.(2/109)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الَّذِي يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَأَنَّهُ يُبِيحُ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ وَيُحَرِّمُ النِّكَاحَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ: فَهَذَا أَمْرٌ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَافِرِينَ وَأَخْبَثِ الْمُرْتَدِّينَ وَقَتْلُ هَذَا وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحُجَّةِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَهُ؛ وَإِمَّا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيُقْتَلُ. فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا؛ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْمَعْرُوفَ وَيُحِبَّهُ وَيُنْكِرَ الْمُنْكَرَ وَيَبْغُضَهُ وَيَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ - مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.(2/110)
الْمَسْئُولُ مِنْ إحْسَانِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيِّ الدِّينِ - أَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ - أَنْ يُفْتِيَنَا فِي رَجُلَيْنِ تَشَاجَرَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ وَهُمَا قَوْلُ الْقَائِلِ:
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ
فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ جَعَلَ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ حَقًّا وَاحِدًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَأَبْطَلَ التَّكْلِيفَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الثَّانِي: مَا فَهِمْت الْمَعْنَى وَرَمَيْت الْقَائِلَ بِمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَيَقْصِدْهُ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَالَ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ؛ أَيْ الرَّبُّ حَقٌّ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ حَقٌّ فِي عُبُودِيَّتِهِ فَلَا الرَّبُّ عَبْدًا وَلَا الْعَبْدُ رَبًّا كَمَا زَعَمْت. ثُمَّ قَالَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَقٌّ. فَحَارَ لِمَنْ يَنْسُبُهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ فَقَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَالْمَيِّتُ: لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَرَكَةٌ؛ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ يُقَلِّبُهُ كَمَا يَشَاءُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ - وَإِنْ كَانَ(2/111)
حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ: كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ لَمْ يَقْوَ الْعَبْدُ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّكْلِيفِ: لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. فَالْفِعْلُ لِلَّهِ حَقِيقَةً. وَلِلْعَبْدِ مَجَازًا وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ أَيْ لَا حَوْلَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ: إلَّا بِاَللَّهِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ لِأَنَّهُ لَا مُكَلِّفَ لَهُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ يَقُومُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّكْلِيفُ حَقٌّ. فَتَعَجَّبَ الْقَائِلُ عِنْدَ شُهُودِهِ لِهَذِهِ الْحَالِ وَحَارَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَأَنَّهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ فَمَا يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَقَعَ فِيمَنْ لَا يُفْهَمُ كَلَامُهُ بَلْ التَّقْصِيرُ مِنْ الْفَهْمِ الْقَصِيرِ فَمَعَ أَيِّهِمَا الْحَقُّ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَلَامُ هَذَا الثَّانِي كَلَامٌ بَاطِلٌ وَخَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَحُطْ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ وَلَا هُوَ عَارِفٌ بِحَقِيقَةِ قَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَصْلُهُ الَّذِي تَفَرَّعَ مِنْهُ هَذَا الشِّعْرُ وَغَيْرُهُ وَلَا هُوَ أَخْذٌ بِمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ.
فَأَمَّا أَصْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَهُوَ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَأَعْيَانُ الْمَعْدُومَاتِ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَوُجُودُ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَيْهَا فَوُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ عِنْدَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.(2/112)
وَلِهَذَا قَالَ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بِالسَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ الناموسي لِذَلِكَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَهُ فِيمَا قَالَ: لَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ. فَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وَالدَّوْلَةُ لَك فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَإِنْ كَانَ عَيْنَ الْحَقِّ. قَالَ: وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ؛ عَلَى مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ؛ وَعَنْ مَاذَا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ. إلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَرَفَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَعْدَادِ وَأَنَّ نَفْيَهَا عَيْنُ إثْبَاتِهَا عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ فَالْآمِرُ الْخَالِقُ الْمَخْلُوقُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ؟ فَكُلُّ صِفَاتِ الْحَقِّ حَقٌّ لَهُ كَمَا أَنَّ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ حَقٌّ لِلْخَالِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي سُلُوكِهِ مِنْ جِنْسِ تَرْتِيبِ الْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ. فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ اعْتِقَادُ مُعْتَزِلَةِ الْكُلَّابِيَة الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ وَيُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ السَّبْعَةَ أَوْ الثَّمَانِيَةَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُثْبِتُونَ وُجُودًا وَاجِبًا مُجَرَّدًا صَدَرَتْ عَنْهُ الْمُمْكِنَاتُ.(2/113)
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُجْعَلُ هَذَا الْوُجُودُ هُوَ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ فَلَيْسَ عِنْدَهُ وُجُودَانِ: أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ مُمْكِنٌ. وَلَا أَحَدُهُمَا خَالِقٌ وَالْآخَرُ مَخْلُوقٌ؛ بَلْ عَيْنُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَرَاتِبِ وَالْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ هِيَ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ عَلَى زَعْمِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمَعْدُومَ شَيْئًا ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ: فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ. لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَالِقَ جَعَلَ لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ وُجُودًا مَخْلُوقًا وَابْنُ عَرَبِيٍّ يَقُولُ: بَلْ نَفْسُ وُجُودِهِ فَاضَ عَلَيْهَا فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ فِي وُجُودِهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى ثُبُوتِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَيَعْبُدُنِي وَأَعْبُدُهُ وَيَحْمَدُنِي وَأَحْمَدُهُ؛ وَلِهَذَا امْتَنَعَ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَكُونُ مِنْ مُكَلَّفٍ لِمُكَلَّفِ؛ أَحَدُهُمَا آمِرًا وَالْآخَرُ مَأْمُورًا فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ. وَلِهَذَا مِثْلُ مَا يُوجَدُ مِنْ الْكَلَامِ وَالسَّمْعِ: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ} فَلَمَّا كَانَ الْمُحَدِّثُ هُنَا هُوَ الْمُحَدَّثَ: جَعَلَ هَذَا مَثَلًا لِوُجُودِ الرَّبِّ فَعِنْدَهُ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ عِنْدَهُ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ. وَلِهَذَا يَقُولُ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَأَيْته بِخَطِّهِ.(2/114)
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ نَفْيٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ وُجُودٌ مَخْلُوقٌ بَلْ وُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ عِنْدَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ كَلَامَ الرَّجُلِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهَذَا الْأَصْلُ - وَهُوَ الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَوْلُهُ وَقَوْلُ ابْنِ سَبْعِينَ وَصَاحِبِهِ الششتري والتلمساني وَالصَّدْرِ القونوي وَسَعِيدٍ الفرغاني وَعَبْدِ اللَّهِ البلياني وَابْنِ الْفَارِضِ صَاحِبِ نَظْمِ السُّلُوكِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَأَمَّا مَدْلُولُ هَذَا الشِّعْرِ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ : اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لِلْمُكَلَّفِ ثُمَّ قَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ فَذَاكَ نَفْيٌ. وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَوْجُودٌ وَثَابِتٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ مُنْتَفٍ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا ثَابِتًا وَهَذَا هُوَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ مَوْجُودٌ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُ وُجُودًا؛ فَلَيْسَ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ وُجُودٌ إلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْعَدَمَ (1) . . . مَوْجُودًا حَيًّا نَاطِقًا فَاعِلًا مُرِيدًا قَادِرًا؛ بَلْ هَذَا كُلُّهُ. . . (2) لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا.
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1، 2) بياض بالأصل(2/115)
فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْحَيَّ حَيًّا بَلْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ وَهِيَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ مُثَابٌ مُعَاقَبٌ مَوْعُودٌ مُتَوَعَّدٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ - الَّذِي جَعَلَ الْأَبْيَضَ أَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ أَسْوَدَ وَالطَّوِيلَ طَوِيلًا وَالْقَصِيرَ قَصِيرًا وَالْمُتَحَرِّكَ مُتَحَرِّكًا وَالسَّاكِنَ سَاكِنًا وَالرَّطْبَ رَطْبًا وَالْيَابِسَ يَابِسًا وَالذَّكَرَ ذَكَرًا وَالْأُنْثَى أُنْثَى وَالْحُلْوَ حُلْوًا وَالْمُرَّ مُرًّا. وَمَعَ هَذَا فَالْأَعْيَانُ تَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الذَّوَاتِ وَصِفَاتِهَا فَأَيُّ عَجَبٍ مِنْ اتِّصَافِ الذَّاتِ الْمَخْلُوقَةِ بِصِفَاتِهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ اللَّهُ خَالِقَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْحَقِّ؟ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ: فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ هَذَا: فَهَذَا هُوَ الِاتِّحَادُ وَالْإِلْحَادُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَافِي التَّكْلِيفَ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَبْدَ حَقٌّ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ الْخَالِقُ: فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ مُمْكِنًا لِلْمَخْلُوقِ كَمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. كَذِبٌ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَيِّتِ بَلْ هُوَ حَيٌّ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} ؟ وَاَللَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْمَيِّتَ وَإِنَّمَا يُكَلِّفُ الْحَيَّ؛ وَإِذَا قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَيِّتٌ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَا حَيَاةَ لَهُ. قِيلَ: تَفْسِيرٌ مُرَادُهُ بِهَذَا فَاسِدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ إذَا فَسَّرَ ذَلِكَ لَمْ يُنَافِ التَّكْلِيفَ.(2/116)
فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا - لَوْلَا إحْيَاءُ اللَّهِ - وَقَدْ أَحْيَاهُ اللَّهُ فَقَدْ صَارَ حَيًّا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُ؛ وَحِينَئِذٍ فَاَللَّهُ إنَّمَا كَلَّفَ حَيًّا لَمْ يُكَلِّفْ مَيِّتًا وَأَمَّا أَقْوَالُ إخْوَانِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُحَامِينَ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَقٌّ فَحَارَ لِمَنْ يَنْسُبُهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ. فَقَالَ: إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ. وَالْمَيِّتُ: لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَرَكَةٌ؛ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ يُقَلِّبُهُ كَمَا يَشَاءُ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ - وَإِنْ كَانَ حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْعُذْرُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِأَنَّهُ لَا حَيْرَةَ هُنَا؛ بَلْ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْعَبْدُ بِلَا امْتِرَاءٍ وَلَا حَيْرَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُكَلَّفَ بِالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ؛ بَلْ هُوَ الْآمِرُ بِذَلِكَ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ وَمَنْ حَارَ هَلْ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ اللَّهُ أَوْ الْعَبْدُ؟ فَهُوَ إمَّا يَكُونُ فَاسِدَ الْعَقْلِ مَجْنُونًا؛ وَإِمَّا فَاسِدَ الدِّينِ مُلْحِدًا زِنْدِيقًا. وَكَوْنُ اللَّهِ خَالِقًا لِلْعَبْدِ وَلِفِعْلِهِ: لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ الْمَأْمُورَ الْمَنْهِيَّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَطُوفُ وَيَرْمِي الْجِمَارَ وَيَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الرَّاكِعُ؛ السَّاجِدُ الصَّائِمُ الْعَابِدُ لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْعَبْدَ - وَإِنْ كَانَ حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ: لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ لَهُ إحْسَاسٌ وَلَا إرَادَةٌ؛ لِمَا يَقُومُ(2/117)
بِهِ مِنْ الْحَرَكَةُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ الْفِعْلَ أَوْ يُبْغِضُهُ أَوْ يُرِيدُهُ أَوْ يَكْرَهُهُ وَلَا أَنَّهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَصُومُ وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ الْعَدُوَّ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِهَذَا: لَا يُحْمَدُ الْمَيِّتُ عَلَى فِعْلِ الْغَاسِلِ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ حَيًّا مُرِيدًا قَادِرًا فَاعِلًا وَهُوَ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَحُجُّ وَيَقْتُلُ وَيَزْنِي بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَلَهُ مَشِيئَةٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ مَشِيئَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَلَهُ قُدْرَةٌ وَاَللَّهُ خَالِقُ قُدْرَتِهِ وَهُوَ مُصَلٍّ صَائِمٌ حَاجٌّ مُعْتَمِرٌ وَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ أَفْعَالِهِ فَتَمْثِيلُهُ بِالْمَيِّتِ تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ؛ فَيَكُونُ الْغَاسِلُ هُوَ الْمُكَلَّفَ فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ هُوَ الْمُكَلَّفَ. الرَّابِعُ: أَنَّ عُقَلَاءَ بَنِي آدَمَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا فَطَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ الْحَيَّ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى وَيُحْمَدُ وَيُذَمُّ عَلَى أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى ظُلْمِهِ وَفَوَاحِشِهِ: لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَوْ ظَلَمَ ظَالِمٌ لِغَيْرِهِ: لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْمَلَامَ بِالْقَدَرِ. وَأَمَّا الْمَيِّتُ فَلَيْسَ فِي الْعُقَلَاءِ مَنْ يَذُمُّهُ وَلَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يُقَوِّ الْعَبْدَ عَلَى التَّكْلِيفِ: لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ(2/118)
فَكَلَامٌ صَحِيحٌ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مُصَلِّيًا صَائِمًا قَاتِلًا زَانِيًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْفِعْلُ لِلَّهِ حَقِيقَةً؛ وَلِلْعَبْدِ مَجَازٌ. فَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ الْعَبْدُ هُوَ الْمُصَلِّي الصَّائِمُ الْحَاجُّ الْمُعْتَمِرُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْقَاتِلُ الزَّانِي السَّارِقُ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهَذِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَمَفْعُولَاتُهُ حَقِيقَةً وَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ أَيْضًا حَقِيقَةً. وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ - ظَنُّوا أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ؛ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ: قَالُوا فَهِيَ فِعْلُهُ. فَقِيلَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: أَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ؟ فَاضْطَرَبُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ كَسْبُهُ لَا فِعْلُهُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ بِفَرْقِ مُحَقَّقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ فِعْلٌ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الرَّبُّ فَعَلَ ذَاتَ الْفِعْلِ وَالْعَبْدُ فَعَلَ صِفَاتِهِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ؛ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ هِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ: كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَفْسَ خَلْقِهِ وَفِعْلِهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ وَمَفْعُولَةٌ وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ الْقَائِمِ بِهِ لَيْسَتْ قَائِمَةً بِاَللَّهِ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ؛(2/119)
وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِخَلْقِهِ وَفِعْلِهِ كَمَا يَتَّصِفُ بِسَائِرِ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَالْعَبْدُ فَاعِلٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِهَا وَلَهُ عَلَيْهَا قُدْرَةٌ وَهُوَ فَاعِلُهَا بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ فَهِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَمَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ. لَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ: لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ بِتَوَسُّطِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَمَشِيئَتِهِ؛ بِخِلَافِ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَهَا بِتَوَسُّطِ خَلْقِهِ لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا خَلَقَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ مِنْ الْمُسَبَّبَاتِ بِوَاسِطَةِ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلَكِنَّ هَذَا قَدْرُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(2/120)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - أَئِمَّةُ الدِّينِ وَهُدَاةُ الْمُسْلِمِينَ -:
فِي كِتَابٍ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ زَعَمَ مُصَنِّفُهُ أَنَّهُ وَضَعَهُ وَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ بِإِذْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامٍ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ؛ وَأَكْثَرُ كِتَابِهِ ضِدٌّ لِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَكْسٌ وَضِدٌّ عَنْ أَقْوَالِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلَةِ؛ فمما قَالَ فِيهِ: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا سُمِّيَ إنْسَانًا لِأَنَّهُ لِلْحَقِّ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّظَرُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ. وَقَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُمْ لِوَدِّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ: لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ. فَالْعَالِمُ يَعْلَمُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ: كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ. ثُمَّ قَالَ فِي قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي عَيْنِ الْقُرْبِ فَزَالَ الْبُعْدُ فَزَالَ مُسَمَّى جَهَنَّمَ فِي حَقِّهِمْ فَفَازُوا بِنَعِيمِ الْقُرْبِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا أَعْطَاهُمْ هَذَا الْمَقَامَ الذَّوْقِيَّ اللَّذِيذَ مِنْ جِهَةِ الْمِنَّةِ فَإِنَّمَا أَخَذُوهُ بِمَا اسْتَحَقَّتْهُ حَقَائِقُهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَكَانُوا عَلَى صِرَاطِ الرَّبِّ الْمُسْتَقِيمِ.(2/121)
ثُمَّ إنَّهُ أَنْكَرَ فِيهِ حُكْمَ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَائِرَ الْعَبِيدِ فَهَلْ يَكْفُرُ مَنْ يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَوْ يَرْضَى بِهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَأْثَمُ سَامِعُهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا بِالْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ كَمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ لِلتِّبْيَانِ فَقَدْ أَضَرَّ الْإِهْمَالُ بِالضُّعَفَاءِ وَالْجُهَّالِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ الِاتِّكَالُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْمُلْحِدِينَ النَّكَالَ؛ لِصَلَاحِ الْحَالِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الضَّلَالِ.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ الْمَنْكُورَةُ: كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا هِيَ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُفْرًا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ آدَمَ لِلْحَقِّ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّظَرُ: يَقْتَضِي أَنَّ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ الْحَقِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَبَعْضٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ أَجْزَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ؛ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: تُوَافِقُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ ذَلِكَ: فَالْأَمْرُ الْخَالِقُ الْمَخْلُوقُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ الْخَالِقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَا بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ وَهُوَ الْعُيُونُ الْكَثِيرَةُ {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَالْوَلَدُ عَيْنُ أَبِيهِ فَمَا رَأَى يَذْبَحُ(2/122)
سِوَى نَفْسِهِ فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحِ عَظِيمٍ فَظَهَرَ بِصُورَةِ كَبْشٍ: مَنْ ظَهَرَ بِصُورَةِ إنْسَانٍ وَظَهَرَ بِصُورَةِ؛ لَا بِحُكْمِ وَلَدِ مَنْ هُوَ عَيْنُ الْوَالِدِ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فَمَا نَكَحَ سِوَى نَفْسِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: وَهُوَ الْبَاطِنُ عَنْ كُلِّ فَهْمٍ إلَّا عَنْ فَهْمِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَالَمَ صُورَتُهُ وَهُوِيَّتُه. وَقَالَ: وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ عَلَى مَنْ وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ وَعَنْ مَاذَا وَمَا هُوَ إلَّا هُوَ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ. فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ. إلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ عَيْنُ مَا ظَهَرَ وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ وَمَا ثَمَّ مَنْ يَنْطِقُ عَنْهُ سِوَاهُ فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ بَاطِنٌ عَنْهُ - وَهُوَ الْمُسَمَّى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ - وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُحْدَثَاتِ. إلَى أَنْ قَالَ: فَالْعَلِيُّ لِنَفْسِهِ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ: أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ؟ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ وَالذَّمِّ أَلَا تَرَى الْمَخْلُوقَ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْحَقِّ فَهِيَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صِفَاتٌ لَهُ كَمَا هِيَ صِفَاتُ الْمُحْدَثَاتِ حَقٌّ لِلْحَقِّ وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ. فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ فُصُوصُ الْحُكْمِ وَأَمْثَالُهُ(2/123)
مِثْلُ صَاحِبِهِ القونوي والتلمساني وَابْنِ سَبْعِينَ والششتري وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ مَذْهَبُهُمْ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ: أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ؛ وَيُسَمَّوْنَ أَهْلَ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَيَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْعِرْفَانَ وَهُمْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الْخَالِقِ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكُلُّ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَمَدْحٍ وَذَمٍّ إنَّمَا الْمُتَّصِفُ بِهِ عِنْدَهُمْ: عَيْنُ الْخَالِقِ وَلَيْسَ لِلْخَالِقِ عِنْدَهُمْ وُجُودٌ مُبَايِنٌ لِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا أَصْلًا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرُ أَصْلًا لِلْخَالِقِ وَلَا سِوَاهُ. وَمِنْ كَلِمَاتِهِمْ: لَيْسَ إلَّا اللَّهُ. فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ مَا عِنْدَهُمْ لَهُ غَيْرٌ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوا قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} بِمَعْنَى قَدَّرَ رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرٌ لَهُ تُتَصَوَّرُ عِبَادَتُهُ فَكُلُّ عَابِدِ صَنَمٍ إنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ. وَلِهَذَا جَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ: عُبَّادَ الْعِجْلِ مُصِيبِينَ وَذَكَرَ أَنَّ مُوسَى أَنْكَرَ عَلَى هَارُونَ إنْكَارَهُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ. وَقَالَ: كَانَ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَمَا حَكَمَ اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ؛ فَكَانَ عَتْبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ. وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ فِرْعَوْنَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ الْمُحَقِّقِينَ وَأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ. كَمَا قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ جَارٌ فِي الْعُرْفِ الناموسي لِذَلِكَ. قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(2/124)
أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا: فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ؛ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيهِمْ. وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ: لَمْ يُنْكِرُوهُ؛ بَلْ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} فَالدَّوْلَةُ لَك فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وَأَنَّهُ كَانَ عَيْنَ الْحَقِّ. وَيَكْفِيك مَعْرِفَةً بِكُفْرِهِمْ: أَنَّ مِنْ أَخَفِّ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَاتَ مُؤْمِنًا؛ بَرِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ: وَكَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لِفِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِنْدَ الْغَرَقِ فَقَبَضَهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْثِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عِنْدَ إيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَكْتَسِبَ شَيْئًا مِنْ الْآثَامِ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ؛ بَلْ لَمْ يَقُصَّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ كَافِرٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ أَعْظَمَ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَلَا ذَكَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَعُلُوِّهِ: أَعْظَمَ مِمَّا ذَكَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ. وَأَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ أَشَدَّ الْعَذَابِ فَإِنَّ لَفْظَ آلِ فِرْعَوْنَ: كَلَفْظِ آلِ إبْرَاهِيمَ وَآلِ لُوطٍ وَآلِ دَاوُد وَآلِ أَبِي أَوْفَى؛ يَدْخُلُ فِيهَا الْمُضَافُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَإِذَا جَاءُوا إلَى أَعْظَمِ عَدُوٍّ لِلَّهِ مِنْ الْإِنْسِ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ: فَجَعَلُوهُ مُصِيبًا مُحِقًّا فِيمَا كَفَّرَهُ بِهِ اللَّهُ: عَلِمَ أَنَّ مَا قَالُوهُ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِسَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ؟ .(2/125)
وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة لَمَّا قَالُوا إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَكَانَ مِمَّا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ فِي الْبُطُونِ وَالْحُشُوشِ والأخلية؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُهُ نَفْسَ وُجُودِ الْبُطُونِ وَالْحُشُوشِ والأخلية وَالنَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ؟ . وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ. وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَقَالَ: مَنْ قَالَ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهًا. وَأَيْنَ الْمُشَبِّهَةُ الْمُجَسِّمَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ غَايَةُ كُفْرِهِمْ: أَنْ يَجْعَلُوهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقَاتِ. لَكِنْ يَقُولُونَ: هُوَ قَدِيمٌ وَهِيَ مُحْدَثَةُ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ عَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَعَلُوهُ نَفْسَ الْأَجْسَامِ الْمَصْنُوعَاتِ وَوَصَفُوهُ بِجَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ الَّتِي يُوصَفُ بِهِمَا كُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ فَاجِرٍ وَكُلُّ شَيْطَانٍ وَكُلُّ سَبُعٍ وَكُلُّ حَيَّةٍ مِنْ الْحَيَّاتِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إفْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَلِدِينِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ.(2/126)
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لِتَخْصِيصِهِمْ؛ حَيْثُ قَالُوا: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} فَكُلَّمَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: يَقُولُونَهُ فِي اللَّهِ وَكُفْرُ النَّصَارَى جُزْءٌ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ. وَلَمَّا قَرَءُوا هَذَا الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ عَلَى أَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ؛ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: هَذَا الْكِتَابُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ. وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا هَذَا: يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَحَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْعَبْدُ؛ فَقَالَ لَهُ الْقَائِلُ: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ زَوْجَتِي وَبِنْتِي إذًا؟ قَالَ: لَا فَرْقَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَهَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ فِي مَقَالَتِهِمْ إنَّهَا كُفْرٌ: لَمْ يُفْهَمْ هَذَا اللَّفْظُ حَالَهَا فَإِنَّ الْكُفْرَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ بَلْ كُفْرُ كُلِّ كَافِرٍ جُزْءٌ مِنْ كُفْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِرَئِيسِهِمْ أَنْتَ نصيري. فَقَالَ: نُصَيْرٌ جُزْءٌ مِنِّي وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانَ غَايَتُهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ وُجُودُ كُلِّ مَكَانٍ؛ مَا عِنْدَهُمْ مَوْجُودَانِ؛ أَحَدُهُمَا حَالٌّ وَالْآخَرُ مَحَلٌّ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ آدَمَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُرْسَلِينَ: أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ إذْ النَّصَارَى لَمْ تَقُلْ هَذَا(2/127)
- وَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ - لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ عَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ جُزْءُ الْخَالِقِ وَلَا أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَلَا الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ: بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْهَا: هُوَ مِنْ الْكُفْرِ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ نُهُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَكَفَّرُوا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . وَقَالَ الْخَلِيلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ الْخَلِيلُ: {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وَقَالَ الْخَلِيلُ - وَهُوَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَعْظِيمِهِ لِقَوْلِهِ - {يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ. الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَضْلًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ - مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِنَصِّ خَاصٍّ فَمَنْ قَالَ: إنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَوْ تَرَكُوهُمْ لَجَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ(2/128)
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُكَفِّرُونَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ فَكَيْفَ مَنْ يَجْعَلُ تَارِكَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ جَاهِلًا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْهَا؟ مَعَ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعَالِمَ يَعْلَمُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَمَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ كَمَا قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} . وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَالِقُ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ ثُمَّ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا عَابِدَ الْأَصْنَامِ عَابِدًا لِلَّهِ لَا عَابِدًا لِغَيْرِهِ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ اللَّهِ؛ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْإِنْسَانِ(2/129)
وَبِمَنْزِلَةِ قُوَى النَّفْسِ مِنْ النَّفْسِ؛ وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ: اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا غَيْرُهُ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ: كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبًّا غَيْرَهُمَا خَلَقَهُمَا وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ رَبٌّ مُغَايِرٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ. وَلِهَذَا جَعَلَ قَوْمَ عَادٍ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَجَعَلَهُمْ فِي عَيْنِ الْقُرْبِ وَجَعَلَ أَهْلَ النَّارِ يَتَمَتَّعُونَ فِي النَّارِ كَمَا يَتَمَتَّعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ قَوْمَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَسَائِرَ مَنْ قَصَّ اللَّهُ قِصَّتَهُ مِنْ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَعَنَهُمْ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ: فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذِهِ الْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ بَسْطَ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانَ كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة الَّذِينَ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ الْكُفْرَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الجعبري لَمَّا اجْتَمَعَ بِابْنِ عَرَبِيٍّ - صَاحِبِ هَذَا الْكِتَابِ - فَقَالَ: رَأَيْته شَيْخًا نَجِسًا يُكَذِّبُ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ.(2/130)
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَسَأَلُوهُ عَنْهُ - قَالَ: هُوَ شَيْخُ سُوءٍ كَذَّابٌ مَقْبُوحٌ يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَلَا يُحَرِّمُ فَرْجًا فَقَوْلُهُ: يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَوْلَهُ وَهَذَا كُفْرٌ مَعْرُوفٌ فَكَفَّرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ الْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ وَإِنَّ الْعَالَمَ صُورَةُ اللَّهِ وَهُوِيَّةُ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ. وَقَالَ عَنْهُ مَنْ عَايَنَهُ مِنْ الشُّيُوخِ: إنَّهُ كَانَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا وَفِي كُتُبِهِ - مِثْلِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَأَمْثَالِهَا - مِنْ الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ - هَذَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ ابْنِ سَبْعِينَ وَمِنْ القونوي والتلمساني وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَإِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ بِهَذَا الْكُفْرِ - الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - فَكَيْفَ بالذين هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ؟ وَلَمْ أَصِفْ عُشْرَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْتَبَسَ أَمْرُهُمْ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ كَمَا الْتَبَسَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ وَانْتَسَبُوا إلَى التَّشَيُّعِ فَصَارَ الْمُتَّبِعُونَ مَائِلِينَ إلَيْهِمْ غَيْرَ عَالِمِينَ بِبَاطِنِ كُفْرِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ مَنْ مَالَ إلَيْهِمْ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إمَّا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا؛ وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: فَرُءُوسُهُمْ هُمْ أَئِمَّةُ كُفْرٍ يَجِبُ قَتْلُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ(2/131)
زِنْدِيقًا مُنَافِقًا؛ وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: فَرُءُوسُهُمْ هُمْ أَئِمَّةُ كُفْرٍ يَجِبُ قَتْلُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَهُمْ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ قَوْلَهُمْ وَمُخَالَفَتَهُمْ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ أَوْ ذَبَّ عَنْهُمْ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ أَوْ عَظَّمَ كُتُبَهُمْ أَوْ عُرِفَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ أَوْ كَرِهَ الْكَلَامَ فِيهِمْ أَوْ أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ أَوْ مَنْ قَالَ إنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ؛ بَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ وَلَمْ يُعَاوِنْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْقِيَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا الْعُقُولَ وَالْأَدْيَانَ عَلَى خَلْقٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ: أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ مَنْ يُفْسِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَيَتْرُكُ دِينَهُمْ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَكَالتَّتَارِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ وَيُبْقُونَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَلَا يَسْتَهِينُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ فَضَلَالُهُمْ وَإِضْلَالُهُمْ: أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَهُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ. وَلِهَذَا هُمْ يُرِيدُونَ دَوْلَةَ التَّتَارِ وَيَخْتَارُونَ انْتِصَارَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَنْ كَانَ عَامِّيًّا مِنْ شِيَعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ. وَلِهَذَا يُقِرُّونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُمْ عَلَى حَقٍّ كَمَا يَجْعَلُونَ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى حَقٍّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَمَنْ(2/132)
كَانَ مُحْسِنًا لِلظَّنِّ بِهِمْ - وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ - عَرَفَ حَالَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُبَايِنْهُمْ وَيُظْهِرْ لَهُمْ الْإِنْكَارَ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِمْ وَجُعِلَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيلٌ يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكِيًّا فَإِنَّهُ يَعْرِفُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيمَا قَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ النَّصَارَى فَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ هَؤُلَاءِ وَجَعَلَ لِكَلَامِهِمْ تَأْوِيلًا كَانَ عَنْ تَكْفِيرِ النَّصَارَى بِالتَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ أَبْعَدَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(2/133)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الْمُبِينُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَعَلَى سَائِرِ إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ وَصَلَ كِتَابُك تَلْتَمِسُ فِيهِ بَيَانَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَبَيَانَ بُطْلَانِهِ وَأَنَّك كُنْت قَدْ سَمِعْت مِنِّي بَعْضَ الْبَيَانِ لِفَسَادِ قَوْلِهِمْ وَضَاقَ الْوَقْتُ بِك عَنْ اسْتِتْمَامِ بَقِيَّةِ الْبَيَانِ وَأَعْجَلَك السَّفَرُ؛ حَتَّى رَأَيْت عِنْدَكُمْ بَعْضَ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ وَصَادَفَ مِنِّي كِتَابُك مَوْقِعًا وَوَجَدْت مَحَلًّا قَابِلًا. وَقَدْ كَتَبْت بِمَا أَرْجُو أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْفَعَ بِهِ بَأْسَ هَؤُلَاءِ(2/134)
الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُنَزَّلَاتِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَيُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُهْتَدِينَ وَبَيْنَ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْعَارِفِينَ كَمَا تَشَبَّهَ بِالْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَشَبَّهَ مِنْ الْمُتَنَبِّئِينَ كَمَا شَبَّهُوا بِكَلَامِ اللَّهِ مَا شَبَّهُوهُ بِهِ مِنْ الشِّعْرِ الْمُفْتَعَلِ وَأَحَادِيثِ الْمُفْتَرِينَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيِّينَ وَأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ والعنسي وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُفْتَرِينَ وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ هُمْ مِنْ أَتْبَاعِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمُوسَى الْكَلِيمِ وَمُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ الَّذِي جَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . وَقَدْ بَيَّنَ حَالَ مَنْ تَشَبَّهَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ الْمَلْبُوسِ عَلَيْهِمْ اللَّابِسِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ تَنَزُّلًا وَوَحْيًا وَلَكِنْ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ(2/135)
إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} . وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بَدَلَهُ بِمَنْ يُقِيمُ دِينَهُ الْمُبِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ فِيمَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيَنْظِمُونَهُ مِنْ الشِّعْرِ بَيْنَ حَدِيثٍ مُفْتَرًى وَشِعْرٍ مُفْتَعَلٍ. وَإِلَيْهِمَا أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي بَعْضِ مَا يُخَاطِبُهُ بِهِ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفْ النَّاسَ. فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَجَبَّارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ؟ عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ أَعَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى؟ أَمْ شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ؟ يَقُولُ: إنِّي لَسْت أَدْعُوهُمْ إلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ وَلَا شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ كَشِعْرِ طليحة الأسدي. وَهَذَانِ النَّوْعَانِ: هُمَا اللَّذَانِ يُعَارِضُ بِهِمَا الْقُرْآنُ أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْإِفْكِ الْمُبِينِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}(2/136)
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَةَ الْكُهَّانِ الْكَاذِبِينَ وَالشُّعَرَاءِ الْغَاوِينَ وَنَزَّهَهُ عَنْ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَمَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} إلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَالرَّسُولُ هنا جِبْرِيلُ وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا نَزَّهَ مُحَمَّدًا هُنَاكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا وَنَزَّهَ هُنَا الرَّسُولَ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ.(2/137)
فَصْلٌ:
اعْلَمْ - هَدَاك اللَّهُ وَأَرْشَدَك - أَنَّ تَصَوُّرَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ: كَمَا فِي بَيَانِ فَسَادِهِ لَا يَحْتَاجُ مَعَ حُسْنِ التَّصَوُّرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَإِنَّمَا تَقَعُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَقَصْدِهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ بَلْ وَهُمْ أَيْضًا لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَقْصِدُونَهُ وَيَقُولُونَهُ وَلِهَذَا يَتَنَاقَضُونَ كَثِيرًا فِي قَوْلِهِمْ؛ وَإِنَّمَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا وَيَقُولُونَهُ أَوْ يَتَّبِعُونَهُ. وَلِهَذَا قَدْ افْتَرَقُوا بَيْنَهُمْ عَلَى فِرَقٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ مَعَ اسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّهُمْ مُفْتَرِقُونَ. وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنْت لِطَوَائِفَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَسِرَّ مَذْهَبِهِمْ صَارُوا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ وَلَوْلَا مَا أَقْرَنَهُ بِذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ وَالرَّدِّ لَجَعَلُونِي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ وَبَذَلُوا لِي مِنْ طَاعَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَحِلُّ عَنْ الْوَصْفِ كَمَا تَبْذُلُهُ النَّصَارَى لِرُؤَسَائِهِمْ والْإِسْمَاعِيلِيَّة لِكُبَرَائِهِمْ وَكَمَا بَذَلَ آلُ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ. وَكُلُّ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ وَإِمَّا ظَالِمٌ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا أَوْ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. وَهَذِهِ حَالُ(2/138)
أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} . وَحَالُ الْقَرَامِطَةِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ. وَحَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} إلَى قَوْلِهِ {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .(2/139)
فَصْلٌ:
حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ وُجُودُهَا غَيْرَهُ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ وَلِهَذَا مَنْ سَمَّاهُمْ حُلُولِيَّةً أَوْ قَالَ هُمْ قَائِلُونَ بِالْحُلُولِ رَأَوْهُ مَحْجُوبًا عَنْ مَعْرِفَةِ قَوْلِهِمْ خَارِجًا عَنْ الدُّخُولِ إلَى بَاطِنِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَحِلُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ قَالَ بِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ الْحَالِّ وَهَذَا تَثْنِيَةٌ عِنْدَهُمْ وَإِثْبَاتٌ لِوُجُودَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْحَقِّ الْحَالِّ. وَالثَّانِي: وُجُودُ الْمَخْلُوقِ الْمَحَلِّ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِإِثْبَاتِ وُجُودَيْنِ أَلْبَتَّةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقَلُّ كُفْرًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانَ السَّلَفُ يَرُدُّونَ قَوْلَهُمْ وَهُمْ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ عَنْ الْجَهْمِيَّة وَكَفَّرُوهُمْ بِهِ بَلْ جَعَلَهُمْ خَلْقٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ - كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - خَارِجِينَ بِذَلِكَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة وَكَثِيرٍ مِنْ مُتَعَبِّدِيهِمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ إلْحَادَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَجَهُّمَهُمْ وَزَنْدَقَتَهُمْ تَفْرِيعٌ وَتَكْمِيلٌ لِإِلْحَادِ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْأُولَى وَتَجَهُّمِهَا وَزَنْدَقَتِهَا.(2/140)
وَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَتِهِمْ اتِّحَادِيَّةً فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ عَلَى وَزْنِ الِاقْتِرَانِ وَالِاقْتِرَانُ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِوُجُودَيْنِ أَبَدًا وَالطَّرِيقُ الثَّانِي صِحَّةُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ صَارَتْ وَحْدَةً كَمَا سَأُبَيِّنُهُ مِنْ اضْطِرَابِهِمْ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ إمَّا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْوُجُودَ غَيْرَ الثُّبُوتِ وَيَقُولُ إنَّ وُجُودَ الْحَقِّ قَاضٍ عَلَى ثُبُوتِ الْمُمْكِنَاتِ فَيَصِحُّ الِاتِّحَادُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ فَيَقُولُ إنَّ الْكَثْرَةَ الْخَيَالِيَّةَ صَارَتْ وَحْدَةً بَعْدَ الْكَشْفِ أَوْ الْكَثْرَةَ الْعَيْنِيَّةَ صَارَتْ وَحْدَةً إطْلَاقِيَّةً.(2/141)
فَصْلٌ:
وَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُمْ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ: أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى وُجُودُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: - عَيْنُ وُجُودِ الرَّبِّ لَا أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا لَهُ قَائِمًا بِهِ. وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ فِي الْكَائِنَاتِ تَفَرُّقًا وَكَثْرَةً ظَاهِرَةً بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَاحْتَاجُوا إلَى جَمْعٍ يُزِيلُ الْكَثْرَةَ وَوَحْدَةٍ تَرْفَعُ التَّفَرُّقَ مَعَ ثُبُوتِهَا فَاضْطَرَبُوا عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ. أَنَا أُبَيِّنُهَا لَك وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يُبَيِّنُ بَعْضُهُمْ مَقَالَةَ نَفْسِهِ وَمَقَالَةَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ كَمَالِ شُهُودِ الْحَقِّ وَتَصَوُّرِهِ.(2/142)
الْمَقَالَةُ الْأُولَى: مَقَالَةُ ابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ فُصُوصِ الْحُكْمِ.
وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا كُفْرًا فَهُوَ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْجَيِّدِ كَثِيرًا وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الِاتِّحَادِ ثَبَاتَ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ مَعَ خَيَالِهِ الْوَاسِعِ الَّذِي يَتَخَيَّلُ فِيهِ الْحَقَّ تَارَةً وَالْبَاطِلَ أُخْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا مَاتَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ مَقَالَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ مُوَافَقَةً لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ. وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ: أَبُو عُثْمَانَ الشحام شَيْخُ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ وَعَيْنَهُ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُهَا؛ لَمَا تَمَيَّزَ عَنْ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَمَا صَحَّ قَصْدُ مَا يُرَادُ إيجَادُهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَسْتَدْعِي التَّمْيِيزَ وَالتَّمْيِيزُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي شَيْءٍ ثَابِتٍ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَقَدْ كَفَّرَهُمْ(2/143)
بِهَا طَوَائِفُ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ السُّنَّةِ - فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ وُجُودَهَا وَلَا يَقُولُونَ إنَّ عَيْنَ وُجُودِهَا عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَتْبَاعُهُ فَيَقُولُونَ: عَيْنُ وُجُودِهَا عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ فَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ بِذَوَاتِهَا الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ مُتَّحِدَةٌ بِوُجُودِ الْحَقِّ الْقَائِمِ بِهَا. وَعَامَّةُ كَلَامِهِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَفَهِمَهُ. وَابْنُ عَرَبِيٍّ إذَا جَعَلَ الْأَعْيَانَ ثَابِتَةً لَزِمَهُ وُجُودُ كُلِّ مُمْكِنٍ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهَذَا فَرْقٌ ثَالِثٌ. وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ - سَوَاءٌ قَالُوا بِأَنَّ وُجُودَهَا خَلْقٌ لِلَّهِ أَوْ هُوَ اللَّهُ - يَقُولُونَ إنَّ الْمَاهِيَّاتِ وَالْأَعْيَانَ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَلَا مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ الْوُجُودُ صِفَةٌ لِلْمَوْجُودِ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ مَادَّةِ الْعَالَمِ وَهَيُولَاهُ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ صُورَتِهِ فَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُحْدَثَةَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ لَيْسَتْ قَدِيمَةً بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ بَلْ هِيَ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ وَالْأَعْرَاضُ الْقَائِمَةُ بِأَجْسَامِ السَّمَوَاتِ وَالِاسْتِحَالَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْعَنَاصِرِ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالسَّحَابِ(2/144)
وَالْمَطَرِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذَا حَادِثٌ غَيْرُ قَدِيمٍ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ؛ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ عَيْنَ الْمَعْدُومِ ثَابِتَةٌ فِي الْقِدَمِ أَوْ بِأَنَّ مَادَّتَهُ قَدِيمَةٌ يَقُولُونَ بِأَنَّ أَعْيَانَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي الْقِدَمِ وَيَقُولُونَ إنَّ مَوَادَّ جَمِيعِ الْعَالَمِ قَدِيمَةٌ دُونَ صُوَرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ إذَا كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يُمَكِّنْ النَّاقِدَ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ تَصَوُّرًا حَقِيقِيًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلْحَقِّ. فَأَمَّا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ فَإِذَا بُيِّنَ فَبَيَانُهُ يَظْهَرُ فَسَادُهُ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ اشْتَبَهَ هَذَا عَلَى أَحَدٍ وَيَتَعَجَّبُ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ إيَّاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْجَبَ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُتَخَيَّلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ إلَّا وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ وَأَنَّهُمْ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وَأَنَّهُمْ {لَا يَفْقَهُونَ} وَأَنَّهُمْ {لَا يَعْقِلُونَ} وَأَنَّهُمْ {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} وَأَنَّهُمْ {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وَأَنَّهُمْ {يَعْمَهُونَ} . وَإِنَّمَا نَشَأَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الِاشْتِبَاهُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ كَوْنِهِ - أَوْ - {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَرَأَوْا أَنَّ الْمَعْدُومَ الَّذِي يَخْلُقُهُ يَتَمَيَّزُ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ فَظَنُّوا ذَلِكَ لِتَمَيُّزِ ذَاتٍ لَهُ ثَابِتَةٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَيِّزٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ(2/145)
الْمُمْكِنَ وَالْمَعْدُومَ الْمُسْتَحِيلَ وَيَعْلَمُ مَا كَانَ كَآدَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَيَعْلَمُ مَا يَكُونُ كَالْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَيَعْلَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ كَمَا يَعْلَمُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَأَنَّهُمْ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} وَأَنَّهُ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَأَنَّهُ {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وَأَنَّهُمْ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا} وَأَنَّهُ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا انْتِفَاءُ الشَّرْطِ أَوْ ثُبُوتُهُ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي نَعْلَمُهَا نَحْنُ وَنَتَصَوَّرُهَا: إمَّا نَافِينَ لَهَا أَوْ مُثْبِتِينَ لَهَا فِي الْخَارِجِ أَوْ مُتَرَدِّدِينَ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِنَا لَهَا يَكُونُ لِأَعْيَانِهَا ثُبُوتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ عِلْمِنَا وَأَذْهَانِنَا كَمَا نَتَصَوَّرُ جَبَلَ يَاقُوتٍ وَبَحْرَ زِئْبَقٍ وَإِنْسَانًا مَنْ ذَهَبٍ وَفَرَسًا مَنْ حَجَرٍ؛ فَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ لَيْسَ هُوَ ثُبُوتَ عَيْنِهِ فِي الْخَارِجِ بَلْ الْعَالِمُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ وَلَيْسَ لِذَاتِهِ فِي الْخَارِجِ ثُبُوتٌ وَلَا وُجُودٌ أَصْلًا. وَهَذَا هُوَ تَقْدِيرُ اللَّهِ السَّابِقُ لِخَلْقِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ: اُكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ(2/146)
مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ " كُنْ كِتَابًا " فَكَانَ كِتَابًا؟ ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} ". وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ {عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا} وَفِي رِوَايَةٍ {مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا؟ - قَالَ. وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيه هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ فِي الْفُصُوصِ وَغَيْرِهِ مِنْ جُهَّالِ الْعَامَّةِ {كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ} فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّادِقِينَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الْمُعْتَمَدَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ قَطُّ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَخَلَطَ التُّرَابَ بِالْمَاءِ حَتَّى صَارَ طِينًا؛ وَأَيْبَسَ الطِّينَ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَلَوْ قِيلَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ لَكَانَ أَبْعَدَ عَنْ الْمُحَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا وَإِنَّمَا قَالَ {بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} وَقَالَ {وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} لِأَنَّ جَسَدَ آدَمَ بَقِيَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الْآيَةَ: وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ} الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ قَالَ رَبُّكَ(2/147)
لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} الْآيَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا أَيْ كُتِبَ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} . وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ فِيهَا يُقَدَّرُ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِأَيْدِي مَلَائِكَةِ الْخَلْقِ فَيُقَدَّرُ لَهُمْ وَيَظْهَرُ لَهُمْ وَيَكْتُبُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَخْلُوقِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ: حَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِهَا؛ وَهُوَ حَدِيثُ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: {إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ} - وَقَالَ - {فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ} فَلَمَّا أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ وَآدَمُ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ كَانَ أَيْضًا مِنْ الْمُنَاسِبِ لِهَذَا أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ مَا يَكُونُ(2/148)
مِنْهُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الذُّرِّيَّةِ قَدْرًا وَأَرْفَعُهُمْ ذِكْرًا. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كُتِبَ نَبِيًّا حِينَئِذٍ وَكِتَابَةُ نُبُوَّتِهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِ نُبُوَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ كَوْنٌ فِي التَّقْدِيرِ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ كَوْنًا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ إذْ نُبُوَّتُهُ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ؟ الْآيَةَ. وَقَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ مَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ أَمْرِي: دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي وَقَدْ خَرَجَ لَهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ} هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ. حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سويد عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِي عَنْ العرباض رَوَاهُ البغوي فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَكَذَا وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْهُ نَحْوَهُ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِالْإِسْنَادِ عَنْ العرباض قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنِّي عَبْدُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ} وَقَوْلُهُ(2/149)
{لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ} أَيّ مُلْتَفٌّ وَمَطْرُوحٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صُورَةً مِنْ طِينٍ لَمْ تَجْرِ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ. وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْأَبْوَابِ وَالْقِبَابِ وَالْأَوْرَاقِ} وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ آثَارٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ التَّنْوِيهَ بِاسْمِهِ وَإِعْلَاءَ ذِكْرِهِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ لَمَّا {قِيلَ لَهُ متى كُنْت نَبِيًّا؟ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ} وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بشران مِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي (الوفا بِفَضَائِلِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ العوفي ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ طهمان عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ {مَيْسَرَةَ قَالَ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُنْت نَبِيًّا؟ قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَاسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَخَلَقَ الْعَرْشَ: كَتَبَ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ فَكَتَبَ اسْمِي عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْقِبَابِ وَالْخِيَامِ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَمَّا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَظَرَ إلَى الْعَرْشِ فَرَأَى اسْمِي فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِك فَلَمَّا غَرَّهُمَا الشَّيْطَانُ تَابَا وَاسْتَشْفَعَا بِاسْمِي إلَيْهِ} . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: وَمِنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ رشدين ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الفهري(2/150)
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا أَصَابَ آدَمَ الْخَطِيئَةَ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ يَا رَبِّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إلَّا غَفَرْت لِي فَأَوْحَى إلَيْهِ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ وَمَنْ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ إنَّك لَمَّا أَتْمَمْت خَلْقِي رَفَعْت رَأْسِي إلَى عَرْشِك فَإِذَا عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْت أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِك عَلَيْك؛ إذْ قَرَنْت اسْمَهُ مَعَ اسْمِك. فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ غَفَرْت لَك وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِك وَلَوْلَاهُ مَا خَلَقْتُك} فَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُمَا كَالتَّفْسِيرِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ؛ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ بِحِرَاءِ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. قَالَ: لَسْت بِقَارِئِ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْت: لَسْت بِقَارِئِ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْت. لَسْت بِقَارِئِ ثُمَّ أَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي؛ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ} الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَبِهَا صَارَ نَبِيًّا ثُمَّ أَنَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ وَبِهَا صَارَ(2/151)
رَسُولًا لِقَوْلِهِ: {قُمْ فَأَنْذِرْ} وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْوُجُودَ الْعِلْمِيَّ وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ يَعْقِلُهُ الْإِنْسَانُ بِقَلْبِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى سَمْعٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ قَبْلَ كَوْنِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَشْيَاءِ مَعْلُومَةً لِلَّهِ قَبْلَ كَوْنِهَا: فَهَذَا حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهَا مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ. وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ: هُوَ الْقَدَرُ الَّذِي يُنْكِرُهُ غَالِيَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَهُمْ كُفَّارٌ كَفَّرَهُمْ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ بَيَّنَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هَذَا الْقَدَرَ وَأَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السُّؤَالِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ فَأَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ {عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ - أَوْ قَالَ - مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا قَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ(2/152)
فييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ - ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلَى آخِرِ الْآيَاتِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ - ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} } الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: {قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ فَقَالَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ: {أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ لَا. بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: {جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ} .(2/153)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ {عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إنَّك لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك. سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ قَالَ: رَبِّ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ} يَا بُنَيَّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي} وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عبادة أَنَّهُ قَالَ: دَعَانِي - يَعْنِي أَبَاهُ - عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ تَتَّقِ اللَّهَ تُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَتُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَإِنْ مُتّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْت النَّارَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ اُكْتُبْ قَالَ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى الْأَبَدِ} .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي خُزَامَةَ (1) عَنْ أَبِيهِ {أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْت رُقًى نسترقيها وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا؟ قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ} . لَكِنْ إنَّمَا ثَبَتَتْ فِي التَّقْدِيرِ الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ الَّذِي سَيَكُونُ فَأَمَّا الْمَعْدُومُ
__________
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
(1) في المطبوعة: " أبي حراثة " والصحيح ما أثبتناه من الترمذي وابن ماجه(2/154)
الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا يَكُونُ فَمِثْلُ إدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَقَلْبِ الْجِبَالِ يَوَاقِيتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَعْدُومُ مُمْكِنٌ وَهُوَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ بِمُقَدَّرِ كَوْنُهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ. وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعَاتُ مِثْلُ شَرِيكِ الْبَارِي وَوَلَدِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وَيَعْلَمُ أَنَّهُ {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} . وَهَذِهِ الْمَعْدُومَاتُ الْمُمْتَنِعَةُ: لَيْسَتْ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي الْعِلْمِ فَظَهَرَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعِلْمِ مَا لَا يُوجَدُ وَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ إذْ الْعِلْمُ وَاسِعٌ؛ فَإِذَا تَوَسَّعَ الْمُتَوَسِّعُ وَقَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ مَوْجُودٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ ثَابِتٌ فِي الْعِلْمِ فَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الْحَاصِلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعَامَّةُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ: أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا وَأَنَّ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ وَحُصُولَهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ؟ .(2/155)
فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادَ أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ أَمْ خَلَقُوا هُمْ أَنْفُسَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمَّا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا لَمْ يَتِمَّ الْإِنْكَارُ إذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ مَا خُلِقُوا إلَّا مِنْ شَيْءٍ لَكِنْ هُوَ مَعْدُومٌ فَيَكُونُ الْخَالِقُ لَهُمْ شَيْئًا مَعْدُومًا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وَلَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا لَكَانَ التَّقْدِيرُ: لَا يُظْلَمُونَ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يظلموه فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الزَّلْزَلَةِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ لَيْسَ إخْبَارًا عَنْ الزَّلْزَلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ السَّاعَةُ لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ. وقَوْله تَعَالَى {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الشَّيْءَ وَأَنَّهُ يُكَوِّنُهُ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ وُجُودُهُ لَا عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ نَفْسَهُ تُرَادُ وَتَكُونُ وَهَذَا مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَعَامَّةُ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مَجْعُولَةٌ وَأَنَّ مَاهِيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ وُجُودِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُ الشَّيْءِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَاهِيَّتِهِ بَلْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ وَهُوَ عَيْنُهُ وَنَفْسُهُ وَمَاهِيَّتُهُ وَحَقِيقَتُهُ وَلَيْسَ وُجُودُهُ وَثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ.(2/156)
وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ الْوُجُودُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَيَقُولُونَ الْمَاهِيَّاتُ غَيْرُ مَجْعُولَةٍ وَيَقُولُونَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ فَيَقُولُ: الْوُجُودُ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ وَلَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ وَمَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ مُخْتَصَّةٌ بِهِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ؛ وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْوُجُودِ وَالْعَيْنِ وَالثُّبُوتِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ: لَيْسَ هُوَ ثُبُوتُهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِيقَتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا الَّتِي هِيَ هِيَ فَالْإِنْسَانُ إذَا تَصَوَّرَ مَاهِيَّةً فَقَدْ عَلِمَ وُجُودَهَا الذِّهْنِيَّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ الْخَارِجِيُّ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: قَدْ تَصَوَّرْت حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَعَيْنَهُ وَنَفْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ وَمَا عَلِمْت وُجُودَهُ أَوْ حَصَلَ وُجُودُهُ الْعِلْمِيُّ وَمَا حَصَلَ وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَلَمْ يُعْلَمْ مَاهِيَّتُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا عَيْنُهُ الْحَقِيقِيَّةُ وَلَا نَفْسُهُ الْحَقِيقِيَّةُ الْخَارِجِيَّةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ وُجُودِهِ وَلَفْظِ مَاهِيَّتِه؛ إلَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الذِّهْنِيِّ وَالْآخَرُ عَنْ الْخَارِجِيِّ فَجَاءَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرِكٌ وَالْحَقِيقَةَ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا - فَالْقَوْلُ فِيهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُعَيَّنَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا؛ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ يُدْرِكُ الْمَوْجُودَ الْمُشْتَرِكَ(2/157)
كَمَا يُدْرِكُ الْمَاهِيَّةَ الْمُشْتَرِكَةَ فَالْمُشْتَرَكُ ثُبُوتُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَمَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ أَلْبَتَّةَ وَالذِّهْنُ إنْ أَدْرَكَ الْمَاهِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَإِنَّمَا الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُطْلَقٌ عَامٌّ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان فَالْعِلْمُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ وَيُكْتَبُ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَيَصِيرُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ سُورَةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذَكَرَ فِيهَا النَّوْعَيْنِ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَذَكَرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِوُجُودِهَا الْعَيْنِيِّ عُمُومًا ثُمَّ خُصُوصًا فَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالْخَلْقِ بَعْدَمَا عَمَّ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَخَصَّ التَّعْلِيمَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ وَذَكَرَ الْقَلَمَ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ هُوَ الْخَطُّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْخَطَّ يُطَابِقُهُ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تُطَابِقُ الْمَعْنَى.(2/158)
فَصَارَ تَعْلِيمُهُ بِالْقَلَمِ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ وَالرَّسْمِيِّ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطَلَقَ التَّعْلِيمَ أَوْ ذَكَرَ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَرَاتِبِ. فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ مُعْطِيهِمَا؛ فَهُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُعَلِّمُ بِالْقَلَمِ وَمُعَلِّمُ الْإِنْسَانِ. فَأَمَّا إثْبَاتُ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.(2/159)
فَصْلٌ:
فَهَذَا أَحَدُ أَصْلَيْ ابْنِ عَرَبِيٍّ. وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ فَقَوْلُهُمْ إنَّ وُجُودَ الْأَعْيَانِ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ وَعَيْنُهُ وَهَذَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنْ جَمِيعِ مُثْبِتَةِ الصَّانِعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمَنْ فَهِمَ هَذَا فَهِمَ جَمِيعَ كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيٍّ نَظْمَهُ وَنَثْرَهُ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ يَغْتَذِي بِالْخَلْقِ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَعْيَانِ مُغْتَذٍ بِالْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ وَلِهَذَا يَقُولُ بِالْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ وَبِالْفَرْقِ مِنْ حَيْثُ الْمَاهِيَّةُ وَالْأَعْيَانُ وَيَزْعُمُ أَنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّاتِ لَا تَقْبَلُ إلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْعَدَمِ فِي أَنْفُسِهَا فَهِيَ الَّتِي أَحْسَنَتْ وَأَسَاءَتْ وَحَمِدَتْ وَذَمَّتْ وَالْحَقُّ لَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا إلَّا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْعَدَمِ. فَتَدَبَّرْ كَلَامَهُ كَيْفَ انْتَظَمَ شَيْئَيْنِ: إنْكَارَ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنْكَارَ خَلْقِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلرَّبِّ الَّذِي خَلَقَ فَلَا يُقِرُّ بِرَبِّ وَلَا بِخَلْقِ وَمُنْكِرٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَا رَبَّ وَلَا عَالَمُونَ مربوبون إذْ لَيْسَ إلَّا أَعْيَانٌ ثَابِتَةٌ وَوُجُودٌ قَائِمٌ بِهَا فَلَا الْأَعْيَانُ مَرْبُوبَةٌ وَلَا الْوُجُودُ مَرْبُوبٌ وَلَا الْأَعْيَانُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا الْوُجُودُ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَظَاهِرِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُجَلِّي وَالْمُتَجَلِّي؛ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ عِنْدَهُ هِيَ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ وُجُودُ الْخَلْقِ.(2/160)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا صَاحِبُهُ الصَّدْرُ الْفَخْرُ الرُّومِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ أَدْخَلَ فِي النَّظَرِ وَالْكَلَامِ مِنْ شَيْخِهِ لَكِنَّهُ أَكْفَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً بِالْإِسْلَامِ وَكَلَامِ الْمَشَايِخِ؛ وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُهُمْ كُفْرًا كَانَ كُلُّ مَنْ حَذَقَ فِيهِ كَانَ أَكْفَرَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ وَأَعْيَانِهَا لَا يَسْتَقِيمُ وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ وَلَا بُدَّ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ فَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَمَيَّزُ وَأَنَّهُ إذَا تَعَيَّنَ وَتَمَيَّزَ فَهُوَ الْخَلْقُ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ فِي مَرْتَبَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَفْسَدَ مِنْ جِهَةِ تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ وَثُبُوتِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحَقِّ وُجُودًا خَارِجًا عَنْ أَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَأَنَّهُ فَاضَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الْغَنِيِّ عَنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقَ وَالْمَرْبُوبَ هُوَ الرَّبَّ بَلْ لَمْ يُثْبِتْ خَلْقًا أَصْلًا وَمَعَ هَذَا فَمَا رَأَيْته صَرَّحَ بِوُجُودِ الرَّبِّ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْوُجُودِ الْقَائِمِ بِأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ.(2/161)
وَأَمَّا هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَا ثَمَّ سِوَى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ؛ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَمَا فِي الْخَارِجِ جِسْمٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَا إنْسَانٌ مُطْلَقٌ وَلَا حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
وَالْحَقَائِقُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْإِطْلَاقِ.
فَإِذَا قُلْنَا: حَيَوَانٌ عَامٌّ أَوْ إنْسَانٌ عَامٌّ أَوْ جِسْمٌ عَامٌّ أَوْ وُجُودٌ عَامٌّ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَاللِّسَانِ وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا ثَمَّ شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ يَعُمُّ شَيْئَيْنِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ صِفَاتِ الْحَيِّ. فَيُقَالُ: عِلْمٌ عَامٌّ وَإِرَادَةٌ عَامَّةٌ وَغَضَبٌ عَامٌّ وَخَبَرٌ عَامٌّ وَأَمْرٌ عَامٌّ. وَيُوصَفُ صَاحِبُ الصِّفَةِ بِالْعُمُومِ أَيْضًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَلِيِّ وَهُوَ يَدْعُو فَقَالَ: يَا عَلِيُّ عُمَّ فَإِنَّ فَضْلَ الْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ كَفَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ} وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ {لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} عَمَّ وَخَصَّ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَتُوصَفُ الصِّفَةُ بِالْعُمُومِ كَمَا فِي حَدِيثِ التَّشَهُّدِ: {السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . وَأَمَّا إطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِالْقَلْبِ أَحَقُّ بِالْعُمُومِ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ وَسَائِرُ الصِّفَاتِ(2/162)
كَالْإِرَادَةِ؛ وَالْحُبِّ؛ وَالْبُغْضِ؛ وَالْغَضَبِ؛ وَالرِّضَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مَا يَعْرِضُ لِلْقَوْلِ وَإِنَّمَا الْمَعَانِي الْخَارِجَةُ عَنْ الذِّهْنِ هِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ كَقَوْلِهِمْ: مَطَرٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ عَامٌّ؛ هَذِهِ الَّتِي تَنَازَعَ النَّاسُ: هَلْ وَصْفُهَا بِالْعُمُومِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا مَجَازٌ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ لَا يَقَعُ إلَّا حَيْثُ يَقَعُ الْآخَرُ فَلَيْسَ هُنَاكَ عُمُومٌ وَقِيلَ بَلْ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ الْمُطْلَقَ قَدْ عَمَّ. وَأَمَّا الْخُصُوصُ فَيَعْرِضُ لَهَا إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ ذَاتٌ وَعَيْنٌ تَخْتَصُّ بِهِ وَيَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ: أَعْنِي الْحَقِيقَةَ الْعَيْنِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ الَّتِي لَا اشْتِرَاكَ فِيهَا مِثْلُ: هَذَا الرَّجُلُ وَهَذِهِ الْحَبَّةُ وَهَذَا الدِّرْهَمُ وَمَا عَرَضَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لَهَا فِي الذِّهْنِ. فَإِنَّ تَصَوُّرَ الذِّهْنِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ الْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْمُمْتَنِعَ وَالْمُقَدَّرَاتِ. وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَيَعْرِضُ لَهَا إذَا كَانَتْ فِي الذِّهْنِ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَتَصَوَّرُ إنْسَانًا مُطْلَقًا وَوُجُودًا مُطْلَقًا. وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ فَهَلْ يُتَصَوَّرُ شَيْءٌ مُطْلَقٌ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ قِيلَ: الْمُطْلَقُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنِ وَقِيلَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ إذْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنٌ مُقَيَّدٌ وَالْمُطْلَقُ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَدَدُ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ بِلَا شَرْطٍ أَصْلًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ الْمُعَيَّنُ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ(2/163)
بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعَيَّنُ الْمُقَيَّدُ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فَإِنَّهُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُضَافُ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُضَافُ. فَإِذَا قُلْنَا: الْمَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: طَهُورٍ وَطَاهِرٍ وَنَجِسٍ فَالثَّلَاثَةُ أَقْسَامُ الْمَاءِ: الطَّهُورُ هُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِطَهُورِ كَالْعُصَارَاتِ وَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فَالْمَاءُ الْمَقْسُومُ هُوَ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ وَالْمَاءُ الَّذِي هُوَ قَسِيمٌ لِلْمَاءَيْنِ هُوَ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. لَكِنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ الَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي اسْمِ الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ اللَّفْظِيِّ وَهُوَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ كَلَفْظِ مَاءٍ أَوْ فِي اللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ كَلَفْظِ مَاءٍ نَجِسٍ أَوْ مَاءِ وَرْدٍ. وَأَمَّا مَا كَانَ كَلَامُنَا فِيهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِي مَعَانِي اللَّفْظِ فَفَرْقٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلَطُونَ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ هَذَيْنِ غَلَطًا كَثِيرًا جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهُ مُعَيَّنًا لَا يَقْبَلُ الشِّرْكَةَ كَأَنَا وَهَذَا وَزَيْدٍ وَيُقَالُ لَهُ الْمُعَيَّنُ وَالْجُزْءُ وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الشِّرْكَةَ فَهَذَا الَّذِي يَقْبَلُ الشِّرْكَةَ هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ وَلَهُ ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فَمِثَالُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ اللَّفْظِ وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ أَيْ يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَمَا قُلْنَا(2/164)
فِي لَفْظِ الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَنِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} وَيُقَالُ: مَاءُ الْوَرْدِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ عِنْدَ التَّقْيِيدِ؛ فَإِذَا أُخِذَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ لَفْظِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَفْظِ الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ فَهُوَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَيُقَالُ: الْمَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى مُطْلَقٍ وَمُضَافٍ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ مُطْلَقٌ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ يَقْتَضِي الشُّمُولَ وَالْعُمُومَ وَهُوَ قَوْلُنَا الْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. فَهُنَا أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْعَامُّ وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطٍ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ إلَّا لَفْظٌ مُؤَلَّفٌ وَالْقِسْمُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ اللَّفْظُ بِشَرْطِ إطْلَاقِهِ وَالثَّانِي اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ وَهُوَ اللَّفْظُ بِشَرْطِ تَقْيِيدِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاللَّفْظِ إمَّا أَنْ يُطْلِقَهُ أَوْ يُقَيِّدَهُ لَيْسَ لَهُ حَالٌ ثَالِثَةٌ فَإِذَا أَطْلَقَهُ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ وَإِذَا قَيَّدَهُ كَانَ لَهُ مَفْهُومٌ ثُمَّ إذَا قَيَّدَهُ إمَّا أَنْ يُقَيِّدَهُ بِقَيْدِ الْعُمُومِ أَوْ بِقَيْدِ الْخُصُوصِ؛ فَقَيْدُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ: الْمَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَقَيْدُ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: مَاءُ الْوَرْدِ. وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْيِيدِ اللَّفْظِ وَإِطْلَاقِهِ وَبَيْنَ تَقْيِيدِ الْمَعْنَى وَإِطْلَاقِهِ عُرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْعُمُومِ أَوْ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْخُصُوصِ. وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْمَعَانِي نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَمُطْلَقٌ لَا بِشَرْطِ. وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الْمُطْلَقُ مِنْهَا قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا الْمَاءُ الْمُطْلَقُ(2/165)
وَالرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا إنْسَانٌ. فَالْمُطْلَقُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ بِمَا يُنَافِي الْإِطْلَاقَ فَلَا يَدْخُلُ مَاءُ الْوَرْدِ فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ لَا بِقَيْدِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُقَيَّدُ كَمَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ النَّاقِصُ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مِنْ الْمَعَانِي لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إنْسَانٌ مُطْلَقٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهَذَا أَوْ ذَاكَ وَلَيْسَ فِيهِ حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَطَرٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مِنْ الْأَلْفَاظِ كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَمُسَمَّاهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِطْلَاقِ هُنَا فِي اللَّفْظِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُعَيَّنًا وَبِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ هُنَاكَ فِي الْمَعْنَى وَالْمُسَمَّى الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ يَتَمَيَّزُ بِهَا لَيْسَ بِشَيْءِ وَإِذَا كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا فَتَمْيِيزُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا تَمْيِيزَ لَهُ فَلَيْسَ لَنَا مَوْجُودٌ هُوَ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ قَدْ يُقَالُ: هُوَ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ حَقِيقَةٌ تَتَمَيَّزُ وَلَا ذَاتٌ تَتَحَقَّقُ؛ حَتَّى يُقَالَ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ تَمْنَعُ غَيْرَهَا بِحَدِّهَا أَنْ تَكُونَ إيَّاهَا.(2/166)
وَأَمَّا الْمُطْلَقُ مِنْ الْمَعَانِي لَا بِشَرْطِ: فَهَذَا إذَا قِيلَ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّمَا يُوجَدُ مُعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا مَخْصُوصًا وَالْمُعَيَّنُ الْمَخْصُوصُ يَدْخُلُ فِي الْمُطْلَقِ لَا بِشَرْطِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إذْ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ أَعَمُّ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُطْلَقُ بِلَا شَرْطٍ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ: أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ الْمَشْرُوطُ بِالْإِطْلَاقِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْهُ. فَإِذَا قُلْنَا: حَيَوَانٌ أَوْ إنْسَانٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَإِنْ عَنَيْنَا بِهِ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ عَنَيْنَا الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا مَخْصُوصًا فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ إلَّا مُعَيَّنٌ مُتَمَيِّزٌ مُنْفَصِلٌ عَمَّا سِوَاهُ بِحَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ وُجُودَ الْحَقِّ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُعَيَّنِ: فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ لِلْحَقِّ وُجُودٌ أَصْلًا وَلَا ثُبُوتٌ إلَّا نَفْسُ الْأَشْيَاءِ الْمُعَيَّنَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُعَيَّنَةُ لَيْسَتْ إيَّاهُ فَلَيْسَ شَيْئًا أَصْلًا. وَتَلْخِيصُ النُّكْتَةِ: أَنَّهُ لَوْ عَنَى بِهِ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ فَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ لِلْحَقِّ وُجُودٌ أَصْلًا وَإِنْ عَنَى بِهِ الْمُطْلَقَ بِلَا شَرْطٍ فَإِنْ قِيلَ بِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ بِوُجُودِهِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا مُعَيَّنًا فَلَا يَكُونُ لِلْحَقِّ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الْأَعْيَانِ. فَيَلْزَمُ مَحْذُورَانِ. (أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَقِّ وُجُودٌ سِوَى وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَالثَّانِي التَّنَاقُضُ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ دُونَ الْمُعَيَّنِ.(2/167)
فَتَدَبَّرْ قَوْلَ هَذَا؛ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْحَقَّ فِي الْكَائِنَاتِ: بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْخَاصَّةِ وَالْفَصْلِ فِي سَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَوْجُودَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: يَجْعَلُ الْمَظَاهِرَ وَالْمَرَاتِبَ فِي الْمُتَعَيِّنَاتِ كَمَا جَعَلَهَا الْأَوَّلُ فِي الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ.(2/168)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا التلمساني وَنَحْوُهُ: فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَاهِيَّةٍ وَوُجُودٍ وَلَا بَيْنَ مُطْلَقٍ وَمُعَيَّنٍ بَلْ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ سِوَى. وَلَا غَيْرٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا الْكَائِنَاتُ أَجْزَاءٌ مِنْهُ وَأَبْعَاضٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ وَأَجْزَاءِ الْبَيْتِ مِنْ الْبَيْتِ فَمِنْ شِعْرِهِمْ:
الْبَحْرُ لَا شَكَّ عِنْدِي فِي تَوَحُّدِهِ ... وَإِنْ تَعَدَّدَ بِالْأَمْوَاجِ وَالزَّبَدِ
فَلَا يَغُرَّنَّك مَا شَاهَدْت مِنْ صُوَرِ ... فَالْوَاحِدُ الرَّبُّ سَارِي الْعَيْنِ فِي الْعَدَدِ
وَمِنْهُ:
فَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ ... وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ: هُوَ أَحْذَقُ فِي الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ فَإِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَجَعْلِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا أَوْ التَّمْيِيزَ فِي الْخَارِجِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَجَعْلَ الْمُطْلَقِ شَيْئًا وَرَاءَ الْمُعَيَّنَاتِ فِي الذِّهْنِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ بَاطِلَانِ. وَقَدْ عَرَفَ مَنْ حَدَّدَ النَّظَرَ: أَنَّ مَنْ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ شَيْئَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا) وُجُودُهَا.(2/169)
وَالثَّانِي ذَوَاتُهَا أَوْ جَعَلَ لَهَا حَقِيقَةً مُطْلَقَةً مَوْجُودَةً زَائِدَةً عَلَى عَيْنِهَا الْمَوْجُودَةِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا قَوِيًّا وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعَقْلِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ التَّعْيِينِ وَمِنْ الْمَاهِيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ مُتَصَوَّرَاتِ الْعَقْلِ وَمُقَدَّرَاتِهِ أَوْسَعُ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ حَاصِلٌ بِذَاتِهِ كَمَا يُتَصَوَّرُ الْمَعْدُومَاتُ وَالْمُمْتَنِعَاتُ وَالْمَشْرُوطَاتُ وَيُقَدَّرُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ أَلْبَتَّةَ مِمَّا يُمْكِنُ أَوْ لَا يُمْكِنُ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ صِفَاتٍ مُطْلَقَةً فِيهِ وَمِنْ الْمَوْجُودَاتِ ذَوَاتٌ مُتَصَوَّرَةٌ فِيهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشَدُّ جَهْلًا وَكُفْرًا بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَظَاهِرِ وَالظَّاهِرِ وَلَا يَجْعَلُ الْكَثْرَةَ وَالتَّفْرِقَةَ إلَّا فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ لَمَّا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فَلَمَّا انْكَشَفَ غِطَاؤُهُ عَايَنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرٌ وَأَنَّ الرَّائِيَ عَيْنُ الْمَرْئِيِّ وَالشَّاهِدَ عَيْنُ الْمَشْهُودِ.(2/170)
فَصْلٌ:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ: لَا أَعْرِفُهَا لِأَحَدِ مِنْ أُمَّةٍ قَبْلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلَكِنْ رَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَرِسْطُو أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلَهُ: إنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَرَّدَ ذَلِكَ وَحَسْبُك بِمَذْهَبِ لَا يَرْضَاهُ مُتَكَلِّمَةُ الصَّابِئِينَ. وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ بِحُدُوثِ دَوْلَةِ التَّتَارِ وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفْرُ الْحُلُولَ الْعَامَّ أَوْ الِاتِّحَادَ أَوْ الْحُلُولَ الْخَاصَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّبَّ هُوَ الْعَبْدَ حَقِيقَةً؛ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِحُلُولِهِ فِيهِ؛ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْخَلْقِ كَالْمَسِيحِ أَوْ يَجْعَلَهُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُلُولُ الْخَاصُّ وَهُوَ قَوْلُ النسطورية مِنْ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ وَتَدَرَّعَ بِهِ كَحَوْلِ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَقَّقُوا كُفْرَ النَّصَارَى؛ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَوَّلُهُمْ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَغَالِيَةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ حَلَّ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَالِيَةِ النُّسَّاكِ(2/171)
الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي الْأَوْلِيَاءِ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِي الْوِلَايَةِ أَوْ فِي بَعْضِهِمْ: كَالْحَلَّاجِ وَيُونُسَ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ.
وَالثَّانِي: هُوَ الِاتِّحَادُ الْخَاصُّ وَهُوَ قَوْلُ يَعْقُوبِيَّةِ النَّصَارَى وَهُمْ أَخْبَثُ قَوْلًا وَهُمْ السُّودَانُ وَالْقِبْطُ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا وَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ مِنْ غَالِيَةِ. الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ الْحُلُولُ الْعَامُّ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ مُتَعَبِّدَةِ الْجَهْمِيَّة؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ.
الرَّابِعُ: الِاتِّحَادُ الْعَامُّ وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ عَيْنُ وُجُودِ الْكَائِنَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا إنَّ الرَّبَّ يَتَّحِدُ بِعَبْدِهِ الَّذِي قَرَّبَهُ وَاصْطَفَاهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونَا مُتَّحِدَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَا زَالَ الرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ هُوَ غَيْرَهُ. وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ أُولَئِكَ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَنْ عَظَّمُوهُ كَالْمَسِيحِ وَهَؤُلَاءِ(2/172)
جَعَلُوا ذَلِكَ سَارِيًا فِي الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَوْسَاخِ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْأَنْجَاسُ والأنتان وَكُلُّ شَيْءٍ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَدَّ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا قَالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وَقَالَ لَهُمْ: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الْآيَةَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى هُمْ أَعْيَانُ وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ لَيْسُوا غَيْرَهُ وَلَا سِوَاهُ؟ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ إلَّا نَفْسَهُ؟ وَأَنَّ كُلَّ نَاطِقٍ فِي الْكَوْنِ فَهُوَ عَيْنُ السَّامِعِ؟ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا} وَأَنَّ النَّاكِحَ عَيْنُ الْمَنْكُوحِ حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ: - وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ - فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ كُلُّهَا - أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَكَانَ النَّصَارَى ضُلَّالًا أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ إذْ هُوَ شَيْءٌ مُتَخَيَّلٌ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُعْقَلُ حَيْثُ يَجْعَلُونَ الرَّبَّ جَوْهَرًا وَاحِدًا ثُمَّ يَجْعَلُونَهُ ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ وَيَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْخَوَاصِّ وَالْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ الْأَقَانِيمُ وَالْخَوَاصُّ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ جَوَاهِرَ فَيَتَنَاقَضُونَ مَعَ كُفْرِهِمْ. كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةُ ضُلَّالٌ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ قَوْلَ(2/173)
رُءُوسِهِمْ وَلَا يَفْقَهُونَهُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالنَّصَارَى كُلَّمَا كَانَ الشَّيْخُ أَحْمَقَ وَأَجْهَلَ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ وَعِنْدَهُمْ أَعْظَمَ. وَلَهُمْ حَظٌّ مِنْ عِبَادَةِ الرَّبِّ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ كَالنَّصَارَى هَذَا مَا دَامَ أَحَدُهُمْ فِي الْحِجَابِ فَإِذَا ارْتَفَعَ الْحِجَابُ عَنْ قَلْبِهِ وَعَرَفَ أَنَّهُ هُوَ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَيَبْقَى سُدًى يَفْعَلُ مَا أَحَبَّ وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ بِمَرْتَبَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِحِفْظِ الْمَرَاتِبِ؛ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ الْمَحْجُوبُونَ وَهُمْ غَالِبُ الْخَلْقِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ إذْ عَدُّوهُمْ كَامِلِينَ.(2/174)