وقد يتمثّل الجني في صورة الإنسي، حتى يظن الظان أنه الإنسي. وهذا كثيرٌ؛ كما تصوّر لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم(1)، وكان من أشراف بني كنانة؛ قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطانُ أعمالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُم}(2) الآية. فلما عاين الملائكة ولى هارباً، ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة، فقال: واللهِ ما علمت بحربكم، حتى بلغتني هزيمتكم(3).
__________
(1) هو سراقة بن مالك بن جعشم بن مدلج الكناني المدلجي، أبو سفيان. قال ابن حجر: روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص وأن لا يدلّ عليه، ففعل، وكتب له أماناً. وأسلم يوم الفتح. وفي قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطباً أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمداً
رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكفّ القوم عنه فإنني
أخال لنا يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود النصر فيه فإنهم
وإن جميع الناس طراً مسالمه
وكان في الجاهلية قائفاً، وهو الذي اقتص الأثر لقريش حتى صعدوا الجبل الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وجعلوا يمرون على باب الغار ولا يرونهما، حفظاً من الله لهما. ووقتها قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا". انظر: صحيح البخاري 31420-1421، كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
لسراقة 19 حديثاً، ومات سنة 24 ه.
انظر: الإصابة 218-19. والاستيعاب - بهامش الإصابة - 2118. ودلائل النبوة للبيهقي 2215. والبداية والنهاية 3182-186. والأعلام 380.
(2) سورة الأنفال، الآية 49.
(3) انظر: تفسير الطبري 1014. وتفسير ابن كثير 2317. والبداية والنهاية 3258، 280. وزاد المعاد 355.(16/11)
وهذا واقعٌ كثيراً، حتى إنه يتصوّر لمن يعظّم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به، أتاه، فيظنّ ذلك الشخص أنه شيخه الميت. وقد يقول له: إنه بعض الأنبياء، أو بعض الصحابة الأموات، ويكون هو الشيطان(1).
وكثيراً من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة، من يقول: إنّه رسول الله، ويظنّ ذلك حقاً(2)
__________
(1) ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام في هذا الموضوع، أذكر بعضه، قال رحمه الله: "ومثل هذا يجري كثيراً لكثير من المشركين والنصارى، وكثير من المسلمين، ويرى أحدهم شيخاً، يُحسن به الظنّ، ويقول أنا الشيخ فلان، ويكون شيطاناً. وأعرف من هذا شيئاً كثيراً، وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى، يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه. وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه، وذكر غير واحد أنه استغاث بي في بلاد بعيدة، وأنه رآني قد جئتُه. ومنهم من قال: رأيتُك راكباً بلباسك وصورتك. ومنهم من قال: رأيتك على جبل. ومنهم من قال غير ذلك. فأخبرتهم أني لم أغثهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليُضلّهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله. وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يُحسن به الظن، فرآه قد جاءه وقضى حاجته. قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك". الجواب الصحيح 2321-322. وانظر: المصدر نفسه: 2324، 3348. وجامع الرسائل1195. والرد على المنطقيين ص 105-106. ومجموع الفتاوى 11664، 1379، 84، 92، 17456-458، 1947.
(2) ومما جرى من هذه الأحوال: ما جرى لأناس بتدمر في زمن الشيخ رحمه الله، قال عنهم: "فرأوا شخصاً عظيماً طائراً في الهواء، وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس، وقال لهم: أنا المسيح بن مريم، وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام. وحضروا إلى عند الناس، وبيّنوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يُضلّهم". الجواب الصحيح 2318. وانظر المصدر نفسه 2321.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "فرؤيا الأنبياء في المنام حق، وأما رؤية الميت في اليقظة، فهذا جني يتمثل في صورته". الجواب الصحيح 2326. وانظر: المصدر نفسه 3347. ومجموع الفتاوى 1172-173، 1393-94. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330.(16/12)
. ومن يرى إذا زار بعض قبور الأنبياء أو الصالحين أنّ صاحب القبر قد خرج إليه، فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي، أو الرجل الصالح، وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها، وإلا أتى في صورة إنسان، وقال: إنه ذلك الميت(1).
تمثل الشيطان بالخضر
وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع، ويقول: إنه الخضر(2)
__________
(1) انظر الجواب الصحيح 2318،، 3348.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الحكايات في هذا الباب كثيرة جداً، ومما قاله رحمه الله: "وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جداً. والجاهل يظنّ أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور، أو النبي أو الصالح، أو غيرهما. والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان). مجموع الفتاوى 1168. وانظر: المصدر نفسه 1178-179.
وهذه الأحوال قد حدثت في زمن شيخ الإسلام رحمه الله مع الكفار، لا مع المسلمين، فقد أخبر رحمه الله أن كثيراً "من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته، ويذهب. وربما يكونون قد أحرقوا بيتهم بالنار كما يصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 330. وانظر: الجواب الصحيح 2318-319،، 3347. وجامع الرسائل 1194-195. ومجموع الفتاوى 1379.
(2) الخضر: هو صاحب موسى عليه السلام الذي ورد ذكره في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}، وورد ذكره في السنة أيضاً.
وقد اختلف فيه: هل هو نبيّ أو وليّ ؟ قال الراجز:
واختلفت في خضر أهل العقول
قيل نبي أو ولي أو رسول
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى معلّقاً على قول الراجز هذا: ( أو مَلَك ). ثم رجح نبوته عليه السلام، ونصر هذا القول، واستدلّ به وفق طريقته في تفسير القرآن بالقرآن.
وممن قال بنبوته: القرطبي، وابن كثير، وابن حجر.
وكذا اختلف فيه هل هو حي أو ميت؟ وقد قال الإمام أحمد، والبخاري، وابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي بموته، وأكّدوا أن قول من قال ببقائه حياً لا دليل عليه.
انظر: تفسير القرطبي 1112-15. والزهر النضر في نبأ الخضر لابن حجر ص 27، 115. ومجموع الفتاوى 4337. وأضواء البيان 4158-164. وجهود الشيخ محمد الأمين في تقرير عقيدة السلف 2477، 501.(16/13)
، فاعتقد أنه الخضر، وإنما كان جنيّاً من الجن(1).
لم يقل أحد من الصحابة إنه رأى الخضر
ولهذا لم يجترىء الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة: إنّه الخضر، ولا قال أحد من الصحابة: إني رأيت الخضر(2)
__________
(1) انظر: الجواب الصحيح 2319-320. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 329. ومجموع الفتاوى 1172،، 1371، 78، 93.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل من قال: إنه رأى الخضر وهو صادق؛ إما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه، ويظن ما في نفسه كان في الخارج، كما يقع لكثير من أرباب الرياضات. وإما أن يكون جنياً يتصور له بصورة إنسان ليُضلّه. وهذا كثير جداً، قد علمنا منه ما يطول وصفه. وإما أن يكون رأى إنسياً ظنّ أنه الخضر وهو غالط في ظنه. فإن قال له ذلك الجني أو الإنسي إنه الخضر، فيكون قد كذب عليه، لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة". الرد على المنطقيين ص 185.
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر موضحاً هذه الحقيقة: "ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر؛ فإن خضر موسى مات، كما بين هذا في غير هذا الموضع. والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي، أو إنسي كذّاب. ولا يجوز أن يكون مَلَكَاً مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب، وإنما يكذب الجن والإنس. وأنا أعرف ممن أتاه الخضر، وكان جنياً، ما يطول ذكره في هذا الموضع. وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس. وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة، وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات". مجموع الفتاوى 1249.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "لم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا اجتمع به، لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم، فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد. ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر، ويحضر في كنائسهم، وربما حدثهم بأشياء، وإنما هو شيطان جاء إليهم، فيُضلّهم. ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤمن به، ويُجاهد معه، كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، [سورة آل عمران، الآية 81]، والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس، فكيف لا يكون بين محمد وأصحابه. وهو إن كان نبياً، فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً، فأبو بكر وعمر أفضل منه". الرد على المنطقيين ص 185.(16/14)
. وإنما وقع هذا بعد الصحابة.
وكلما تأخّر الأمر كثر، حتى إنه يأتي اليهود والنصارى، ويقول: إنه الخضر(1).
ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر(2).
وكثيرٌ من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر.
والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا.
ولهذا يقول من يقول منهم(3): لكل ولي خضر. وإنّما هو جني معه(4).
والذين يدعون الكواكب(5)، تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب(6)، وهو شيطانٌ نزل عليه لمّا أشرك، ليغويه.
كما تدخل الشياطين في الأصنام، وتكلم أحياناً لبعض الناس، وتتراءى للسدنة أحياناً، ولغيرهم أيضاً(7).
__________
(1) انظر: الجواب الصحيح 2321، 324. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 366-367. ومجموع الفتاوى 1393. والرد على المنطقيين ص 85.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 1393.
(3) من اليهود والنصارى.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 1393. ومنهاج السنة النبوية 1104.
(5) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن عبّاد الكواكب هؤلاء: "فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب، ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم. ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب، ويتكلمون عليها بالشرك والكفر، فتأتي الشياطين فتكلمهم، وتقضي بعض حوائجهم، ويسمونها روحانية الكواكب، وهي الشيطان، أو الشيطانة التي تضلّهم". الرد على المنطقيين ص 286. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 222. وانظر ما سبق في ص 1214 من هذا الكتاب.
(6) انظر: الجواب الصحيح 2326-327، 3347. ومجموع الفتاوى 1173، 178، 1378، 79.
(7) انظر: الجواب الصحيح 2341. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 338.(16/15)
وقد يستغيث المشرك [بشيخ](1) له غائب، فيحكي الجني صوته لذلك الشيخ، حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما. ثم إنّ الشيخ يُجيبه، فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد، حتى يظنّ أن شيخه سمع صوته وأجابه. وإلا فصوت الإنسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم، ويومين، وأكثر(2).
وقد يحصل للمريد من يؤذيه، فيدفعه الجنّي، ويُخيّل للمريد أنّ الشيخ هو دفعه(3).
وقد يُضرب الرجل بحجر، فيدفعه عنه الجني، ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك، حتى يقول: إني اتقيت عنك الضرب، وهذا أثره فيَّ(4).
وقد يكونون يأكلون طعاماً، فيُصَوَّرُ نظيره للشيخ، ويجعل يده فيه، ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك، حتى يتوهّم الشيخ وهم أنّ يد الشيخ امتدت من الشام إلى مصر، وصارت في ذلك الإناء(5).
مناداة عمر: يا سارية الجبل الجبل
وعمر بن الخطاب لما نادى: يا سارية (6) الجبل، قال: إن لله جنداً
يبلِّغونهم صوتي(7)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): لشيخ.
(2) انظر مجموع الفتاوى 1384.
(3) انظر مجموع الفتاوى 1377، 82.
(4) انظر المصدر نفسه.
(5) انظر مجموع الفتاوى 1384-85.
(6) هو سارية بن زنيم بن عمرو الكناني.
تقدم التعريف به.
(7) قال العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515، أثر رقم 3172: "يا سارية الجبل": قاله عمر بن الخطاب وهو يخطب يوم الجمعة، حيث وقع في خاطره أن الجيش الذي أرسله مع سارية إلى نهاوند بفارس لاقى العدو وهم في بطن واد، وقد همّوا بالهزيمة، وبالقرب منهم جبل، فقال ذلك في أثناء خطبته، ورفع به صوته، فألقاه الله في سمع سارية، فانحاز بالناس إلى الجبل، وقاتل العدو من جانب واحد، ففتح الله عليهم. كذا رواه الواقدي عن أسامة بن زيد، عن ابن أسلم، عن عمر.
وأخرجه سيف مطولاً عن رجل من بني مازن. والبيهقي في الدلائل، واللالكائي في شرح السنة، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء، عن ابن عمر قال: وجه عمر جيشاً، وولى عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، جعل ينادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً. ثم قدم رسول من الجيش، وسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك، إذ سمعنا صوتاً يُنادي: يا سارية الجبل - ثلاثاً -، فاسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح هكذا وهكذا. رواه حرملة في جمعه لحديث ابن وهب، وإسناده كما قال الحافظ ابن حجر حسن.
ولابن مردويه، عن ابن عمر، عن أبيه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فعرض في خطبته أن قال: يا سارية الجبل، من استرعى الذئب ظلم. فالتفت الناس بعضهم لبعض، فقال لهم عليّ: ليخرجن مما قال. فلما فرغ سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من جانب واحد، وإن جاوزوه هلكوا. فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه. فجاء البشير بعد شهر، وذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم، قال: فعدلنا عن الجبل، ففتح الله علينا.
قال في اللآلئ: وقد أفرد الحافظ القطب الحلبي لطرقه جزءاً، ووثق رجال هذا الطريق. وقال: ذكره ابن عساكر، وابن ماكولا، وغيرهم. وسارية له صحبة". كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2514-515.
وأخرجها أبو نعيم في دلائل النبوة ص 210. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 9127. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7131-132، وحسن إسناده. وانظر مشكاة المصابيح 31678، وقال الشيخ الألباني: رواه ابن عساكر وغيره بإسناد حسن.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه القصة في موضع آخر: "وعمر رضي الله عنه لما نادى: يا سارية الجبل، قال: إن لله جنوداً يبلغون صوتي. وجنود الله هم من الملائكة، ومن صالحي الجن. فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية؛ وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة. وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول: يا فلان. فيُعان على ذلك، فيقول الواسطة بينهما: يا فلان. وقد يقول لمن هو بعيد عنه: يا فلان احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك: يا فلان احبس الماء، أرسل الماء؛ إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضرّ بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه. وهذه حكاية: كان عمر مرة قد أرسل جيشاً، فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش، وشاع الخبر، فقال عمر: من أين لكم هذا ؟ قالوا: شخص صفته كيت وكيت، فأخبرنا. فقال عمر: ذاك أبو الهيثم بريد الجن، وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام". مجموع الفتاوى 1388-89.(16/16)
. فعلم أن صوته إنما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض الملائكة، أو صالحي الجن، فيهتفون بمثل صوته؛ كالذي ينادي ابنه، أو غير ابنه، وهو بعيدٌ، لايسمع: يا فلان، فيسمعه من يريد إبلاغه، فينادي: يا فلان، فيسمع ذلك الصوت، وهو المقصود بصوت [أبيه](1). وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة أيام.
وقد قلنا: إنّ [آيات](2) الأنبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والإنس، قال تعالى: {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً}(3).
وأما إذا كانت مما تقدر عليه الملائكة، فهذا مما يؤيدها؛ فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله، ولا يؤيّدونه بالخوارق. فإذا أُيِّد به؛ كما أيَّد الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر، ويوم حنين، كان هذا من أعلام صدقه، وأنّه صادق على الله في دعوى النبوة؛ فإنّها لا تؤيد الكذب، لكن الشياطين تؤيد الكذّاب، والملائكة تؤيِّد الصدق.
التأييد من الملائكة بحسب الإيمان
__________
(1) في ((خ)): ابنه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(3) سورة الإسراء، الآية 88.(16/17)
والتأييد بحسب الإيمان(1)، فمن كان أقوى من غيره، كان جنده من الملائكة أقوى، وإن كان إيمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك؛ كمَلَك الإنسان وشيطانه؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منكم من أحدٍ إلا وُكِّلَ به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن. قالوا: وبك يا رسول الله. قال: وبي، لكن الله أعانني عليه فأسلم"(2). وفي حديث آخر: "فلا يأمرني إلا بخير"(3).
وهو في صحيح مسلم من وجهين(4)؛ من حديث ابن مسعود؛ ومن حديث عائشة.
وقال ابن مسعود: "إن للقلب لَمَّة(5) من الملك، ولمة من الشيطان. فلمة الملك: [إيعاد](6) بالخير، وتصديق بالحق. ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق"(7).
__________
(1) انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 171-172، 195، 537-538.
(2) رواه الدارمي في سننه 2396، كتاب الرقاق، باب: ما من أحد إلا ومعه قرينه من الجنّ. وفي آخره: قال: قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلم: استسلم. أقول ذلك.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند 1385.
(4) رواه مسلم في صحيحه 42167-2168، كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه، من حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
(5) قال ابن الأثير: "اللَّمّة: الهِمَّة، الخطرة تقع في القلب، أو إلمام الملك، أو الشيطان به، والقرب منه. فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". النهاية في غريب الحديث 4273. وقال في القاموس: "والهِمَّةُ بالكسر - ويفتح: ما همَّ به من أمر ليفعل". القاموس المحيط ص 1512.
(6) في ((ط)): إبعاد.
(7) هذا الأثر رواه الترمذي مرفوعاً من طريق عبد الله بن مسعود ( جامع الترمذي 5219، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة البقرة ). والطبري في تفسيره 388-99؛ رواه مرة مرفوعاً عن عبدالله بن مسعود، ومرة موقوفاً عليه. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 48-49. وذكره ابن القيم في الفوائد ص 214-215. وابن كثير في تفسيره 1321.(16/18)
فإذا كانت حسنات الإنسان أقوى، أُيِّدَ بالملائكة تأييداً يقهر به الشيطان، وإن كانت سيئاته أقوى، كان جند الشيطان معه أقوى. وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر؛ فشيطان المؤمن مهزول ضعيف، وشيطان الكافر سمين قوي(1).
الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيده ملكه على شيطانه
فكما أن الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على مَلَكه، وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه، فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر؛ لأنّ الآخر لم يؤيد مَلَكَه، فلم يؤيده، أو [ضعف](2) عنه؛ لأنّه ليس معه إيمان [يعينه](3)؛ كالرجل الصالح إذا كان ابنه فاجراً، لم يمكنه الدفع عنه لفجوره. وبسط هذه الأمور له موضع آخر(4).
والمقصود هنا: الكلام على الفرق بين آيات الأنبياء وغيرهم، وأنّ من قال(5): إن آيات الأنبياء، والسحر، و [الكهانة](6)، والكرامات، وغير ذلك من جنس واحدٍ، فقد غلط أيضاً.
المتكلمون لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء
__________
(1) هذا الكلام ليس من كلام ابن مسعود لعدم وروده في المصادر السابقة، وهو توضيح من شيخ الإسلام رحمه الله لقول ابن مسعود المتقدم.
(2) في ((خ)): ضعفت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): يعينها. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: مجموع الفتاوى 184-85، 4254. وجامع الرسائل 1196-197.
(5) وهم الأشاعرة والماتريدية.
انظر: مجموع الفتاوى 1390. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 585، 586. وما سيأتي ص 1315-1316.
(6) في ((خ)): الكهان. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(16/19)
والطائفتان(1) لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء، بل جعلوها من هذا الجنس؛ فهؤلاء(2) نفوه، وهؤلاء(3) أثبتوه وذكروا فرقاً لا حقيقة له.
وإذا قال القائل: آيات الأنبياء لا يقدر عليها [إلا الله، أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته، أو أنها من فعل الفاعل المختار، ونحو ذلك(4).
الرد على الأشاعرة
قيل له: هذا كلامٌ مجملٌ. فقد يقال عن كل ما يكون آية: لا يقدر عليه إلا الله](5)؛ فإن الله خالق كل شيء، وغيره لا يستقلّ بإحداث شيء. وعلى هذا: فلا فرق بين المعجزات وغيرها.
وقد يقال: لا يقدر عليها إلا الله: أي هي خارجةٌ عن مقدورات العباد؛ فإنّ مقدوراته على قسمين: منها ما يفعله بواسطة قدرة العباد؛ كأفعال العباد، وما يصنعونه؛ ومنها ما يفعله بدون ذلك؛ كإنزال المطر(6).
فإن أراد هذا القائل: أنّها خارجة عن مقدور الإنس؛ بمعنى: أنه لا يقع منهم؛ لا بإعانة الجن، ولا بغير ذلك. فهذا كلامٌ صحيح.
__________
(1) وهم المعتزلة والأشاعرة.
(2) وهم المعتزلة الذين نفوا السحر والكهانة والكرامات، كما سبق بيانه. انظر: ص 147-152، 585.
(3) وهم الأشاعرة، أثبتوا السحر والكهانة والكرامات والمعجزات، ولم يجعلوا بينها فروقاً حقيقيّة؛ كما سبق بيانه في أول هذا الكتاب ص 151-155، وفي ص 501-503 منه.
(4) انظر: البيان للباقلاني ص 8-10، 14، 19، 57. وانظر ما سبق بيانه في هذا الكتاب ص 251-257.
(5) ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ))، و ((م))، و ((ط)).
(6) انظر: منهاج السنة النبوية 3126، 168، 180. ودرء تعارض العقل والنقل 8471-476.(16/20)
و[إن أراد أنّه](1) خارجٌ عن مقدورهم فقط، وإن كان مقدوراً للجنّ: فهذا ليس بصحيح؛ فإنّ الرسل أرسلوا إلى الإنس والجن. والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الإنس، وهي مناقضة لآيات الأنبياء؛ كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}(2).
وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن، أو أن الله يفعلها بلا سبب: فهذا أيضاً باطلٌ. فمن أين له أنّ الله يخلقها بلا سبب ؟ ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامّة ما يخلقه؟ فمن أين له أنّ جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح ؟ وقد أخبر الله بذلك.
وهو وأمّه ممّا جعلهما آيةً للعالمين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابنَ مريَمَ وأُمَّه آيةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرارٍ ومَعِين}(3).
وخلقُ المسيح بلا أب من أعظم الآيات، وكان بواسطة نفخ جبريل، قال تعالى: {فَأرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لَها بَشَرَاً سَوِيّاً قالت إِنّي أعوذُ بالرحمن منكَ إِنْ كنتَ تَقِيّاً قال إنّما أنا رسول ربِّك [لِيَهَبَ](4) لكِ غُلاماً زَكِيَّاً قالت أنّى يكونُ لي [غُلامٌ](5) وَلَم يَمْسَسْني بشرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}(6).
وقال تعالى: {وَمَرْيَم ابنةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فيهِ مِنْ رُوحِنَا}(7).
وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة.
والذي عنده علمٌ من الكتاب، لمّا قال [عفريتٌ(8)
__________
(1) في ((ط)): وأن إرادته.
(2) سورة الشعراء، الآيتان 221-222.
(3) سورة المؤمنون، الآية 50.
(4) وهذه قراءة ورش عن نافع، وأبي عمرو البصري. وقرأ الباقون: لأهب. (النشر في القراءات العشر ص 78).
(5) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): ولدٌ.
(6) سورة مريم، الآيات 17-20.
(7) سورة التحريم، الآية 12.
(8) العفريت: قال الطبري: رئيس من الجن مارد قوي. (تفسير الطبري 19161).
وقال أبو عبيدة: العفريت من كل جن أو إنس: الفائق المبالغ الرئيس.
وقال ابن قتيبة: العفريت: الشديد الوثيق.
وقال الزجاج: العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه، مع خبث ودهاء.
انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6174.(16/21)
من الجنّ](1) لسُليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وإِنِّي عَلَيهِ لقَوِيّ أَمِين قال الَّذي عِنْدَه عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(2)؛ أتته به الملائكة؛ كذلك ذكره المفسرون عن ابن عبّاس وغيره: أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت(3).
وقد أخبر الله تعالى أنّه أيّد محمّداً صلى الله عليه وسلم بالملائكة وبالريح، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم رِيحَاً وَجُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرَاً}(4).
وقال تعالى يوم حنين: {[ثُمَّ َأَنْزَلَ](5) اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا}(6).
وقال تعالى يوم الغار: {فأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}(7).
وقال تعالى: {إِذْ يُوحي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِين آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}(8).
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) سورة النمل، الآيتان 39-40.
(3) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه، فنظر نحو اليمين، فدعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خداً، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان". تفسير البغوي 3420. وزاد المسير 6174-175. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 606.
(4) سورة الأحزاب، الآية 9.
(5) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): فأنزل.
(6) سورة التوبة، الآية 26.
(7) سورة التوبة، الآية 40.
(8) سورة الأنفال، الآية 12.(16/22)
وقد ثبت في الصحيح: أنّ الإنسان يُصوّره مَلَك في الرحم بإذن الله، ويقول الملك: "أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي ربّ مضغة"(1)، فإذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة.
[وقال](2) يُقرر التوحيد بقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُم}(3) الآيات.
ثم النبوة، بقوله: {وإِنْ كُنْتُمْ في رَيبٍ مِمّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا [فأتوا](4) [بسُورةٍ](5)}(6).
[ثم المعاد](7).
وكذلك الأنعام، يقرر التوحيد، ثم النبوة في وسطها، ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضاً، وهو ملة إبراهيم. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع(8).
والمقصود: أنه قد بيَّن انفراده بالخلق، والنفع، والضرّ، والإتيان بالآيات، وغير ذلك، وأنّ ذلك لا يقدر عليه غيره. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق}(9).
__________
(1) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه - ورفع الحديث - أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ قد وكّل بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً، قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه". صحيح مسلم 42038، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.
(2) في ((خ)) كلمة غير واضحة. وما أثبت من ((م)) و ((ط)).
(3) سورة البقرة، الآية 21.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، و ((م)).
(6) سورة البقرة، الآية 23.
(7) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(8) وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الحنيفية ملّة إبراهيم عليه السلام في: مجموع الفتاوى 11572. وأوضح أنّ انخراق العادات لا بُدّ له من أسباب وموانع في: الجواب الصحيح 6394-404. ومجموع الفتاوى 184. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 354-355.
(9) سورة النحل، الآية 17.(16/23)
وقال تعالى: {وجَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ الجِنَّ وخَلَقَهُم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بغيرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعَالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيع السَّمَواتِ والأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيم ذَلِكُم اللهُ رَبُّكُم لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصَار وَهُوَ اللَّطِيف الخَبِيرُ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أَنَأ عَلَيْكُمْ بِحَفيظ وكذلك [نُصَرِّفُ](1) الآيات وليَقُولوا دَرَسْتَ وَلنُبَيِّنَهُ لقومٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِع ما أُوْحِيَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ لا إلهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِض عَنِ المُشْرِكِينَ ولو شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وما جَعَلْنَاك عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بغيرِ عِلْمٍ كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم ثُمَّ إلى رَبِّهِم مَرْجِعُهُم فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كانوا يَعْمَلُون وأقسموا باللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِم لَئِنْ جَاْءَتْهُم آيةٌ ليُؤمِننّ بِهَا قُلْ إِنَّما الآياتُ عِنْدَ اللهِ وما يُشْعِرُكُم أنَّهَا إذا جاءَتْ لا يُؤمِنُون ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وأبْصَارَهُم كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوَّل مَرَّةٍ ونَذَرُهُم في طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون}(2).
ففي هذه الآيات تقرير التوحيد، حتى في إنزال الآيات، قال: {إنّما الآياتُ عند الله}.
__________
(1) في ((خ)): نفصل.
(2) سورة الأنعام، الآيات 100-110.(16/24)
وكذلك قوله في العنكبوت: {وقالُوا لولا أُنْزِل عليهِ آيةٌ (1) مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنما الآياتُ عندَ اللهِ وإنّما أنا نَذِيرٌ مُبينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم إنَّ في ذلك [لَرَحمةً](2) وَذِكْرى لقومٍ يُؤْمِنُون قُلْ كَفَى باللهِ بيني وبينكم شَهِيداً يعلم ما في السَّمَواتِ والأرض والَّذِينَ آمنوا بالباطلِ وكفروا باللهِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون}(3).
وقال أيضاً: {وقالوا لولا نزِّلَ عليهِ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللهَ قادرٌ على أَنْ يُنَزِّلَ آيةً ولكنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون}(4)، هذا بعد قوله: {فإن استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الأرضِ أو سُلَّماً في السماءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَة وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدى فلا تَكُونَنَّ من الجاهِلِينَ}(5).
[و](6) هو أرسله بآيات بان بها الحقّ، وقامت بها الحجّة، وكانوا يطلبون آيات تعنّتاً، فيظنّ من يظنّ أنّهم يهتدون بها، [لكن لا](7) يحصل بها المقصود، وقد [تكون](8) [موجبة](9) لعذاب الاستئصال، فتكون ضرراً بلا نفع. وبيَّن سبحانه أنه قادر على إنزال الآيات، وأنها ليست إلا عنده.
وغير أفعال العباد: قد اتفق الناس على أنه لا يخلقه إلا الله، وإنّما تنازعوا في أفعال العباد، والصواب: أنها أفعال لهم، وهي مخلوقة لله.
__________
(1) قرأ نافع، وأبو عمر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {الآياتُ} على الجمع، وقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: {آية}. على التوحيد. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 6279.
(2) في ((ط)): رحمة.
(3) سورة العنكبوت، الآيات 50-52.
(4) سورة الأنعام، الآية 37.
(5) سورة الأنعام، الآية 35.
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(7) في ((خ)): فلا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(8) في ((خ)): يكون. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(9) في ((ط)): موجة.(16/25)
لكن آيات الأنبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد، كما قال: {قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللهِ}(1).
والملائكة إِنَّما هي سببٌ من الأسباب؛ كما في خلق المسيح [ من غير أب، فجبريل إنّما كان مقدوره النفخ فيها، وهذا لا يُوجب الخلق، [بل](2) هو بمنزلة الإنزال في حقّ غير المسيح.
وكذلك المسيح ](3) لمّا خلق من الطين كهيئة الطير: إنّما مقدوره تصوير الطين، [وأمّا](4) حصول الحياة فيه: فبإذن الله؛ فإنّ الله يحيي ويميت، وهذا من خصائصه.
ولهذا قال الخليل: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}(5).
وفي القرآن، في غير مواضع: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّت مِنَ الحَيّ}(6)
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 109.
(2) بل) ساقطة من ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(3) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(4) في ((م))، و ((ط)): وإنما.
(5) سورة البقرة، الآية 258.
(6) سورة الروم، الآية 19.
وفي سورة آل عمران، الآية 27: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وفي سورة الأنعام، الآية 95: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
وفي سورة يونس، الآية 31: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.(16/26)
، [{وكنتم أمواتاً فأحياكم}(1) ](2)، {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}(3)، [ {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}(4) ](5).
وما يتولّد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلّين به، بل لهم فيه شركة؛ كطمس أبصار اللوطيّة، وقلب مدينتهم.
وكذلك النصر: إنّما ]يقدرون](6) على القتال كالإنس. والنصر هو من عند الله؛ كما قال تعالى: {ومَا جَعَلَهُ اللهُ إلاَّ بُشرى ولتطمئِنَّ به قلوبُكم وما النَّصْرُ إِلاَّ من عند اللهِ}(7).
[والقرآنُ إنّما يقدرون على النزول به، لا على إحداثه ابتداءً، فهم(8) يقدرون على الإتيان بمثله من عند الله](9).
وأمّا الجنّ والإنس فلا يقدرون على الإتيان بمثله؛ لأنّ الله لا يُكلّم بمثله الجنّ والإنس ابتداءً.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 28.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط)).
(3) سورة الروم، الآية 19.
(4) سورة آل عمران، الآية 156.
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وفيه بدلها: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
(6) في ((خ)): يقدر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) سورة الأنفال، الآية 10.
(8) أي الملائكة.
(9) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).(16/27)
ولهذا قال:{لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}(1)، وقال تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}(2)، وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}(3)، وقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}(4)، لم يُكلّفهم نفس الإحداث، بل طالبهم بالإتيان بمثله؛ إما إحداثاً، وإما تبليغاً عن الله، أو عن مخلوق، ليظهر عجزهم عن جميع الجهات(5)؛ فقد يُقال: فنفس أفعال العباد ليست من الآيات؛ إذ كانت مقدورة ومفعولة للعبد، وإن كان ذلك بإقدار الله تعالى، ولا نفس القدرة على ذلك الفعل؛ فإن المقصود من القدرة هو الفعل.
آيات الأنبياء لا يتوصل إليها بسبب
بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد؛ الملائكة، والجنّ، والإنس، وهي أيضاً لا تُنال بالاكتساب؛ فإن الإنس والجنّ قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور، كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه، ونحو ذلك.
وآيات الأنبياء لا يقدر أحدٌ أن يتوصّل إليها بسبب.
والسحر والكهانة ممّا يمكن التوصّل إليه بسبب؛ كالذي يأتي بأقوال وأفعال تُحدّثه بها الجنّ(6).
فالنبوّة لا تُنال بكسب العبيد، ولا آياتها تحصل بكسب العباد(7)
__________
(1) سورة الإسراء، الآية 88.
(2) سورة البقرة، الآية 23.
(3) سورة هود، الآية 13.
(4) سورة الطور، الآية 34.
(5) سبق الكلام على التحدي بالقرآن الكريم. انظر ص 622-623، 624، 1105 من هذا الكتاب.
(6) انظر: مجموع الفتاوى 1189.
(7) فالنبوة فضل إلهي، ومنة ربانية، يختص الله بها من يشاء من عباده؛ فيخصّه بالوحي ليبلغ عباده. فلا تُدرك باختيار العبد وكسبه وإرادته، وإنّما هي اصطفاء من الله، ومنّة منه جل وعلا.
قال تعالى: { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. سورة البقرة، الآية 105.
وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. سورة الأنعام، الآية 154.
وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}. سورة الحج، الآية 75.
أما الفلاسفة، وصوفيتهم: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم أنّهم يقولون بأن النبوة مكتسبة. وبيّن رحمه الله أنها لا تنال باكتساب الإنسان، فقال: "إنّ النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب؛ فإنّ هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره، ولا قدروا الأنبياء قدرهم، لمّا ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها، فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرآة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس، وأن حصول النبوة ليس هو أمراً يُحدثه الله بمشيئته وقدرته، وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد، كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل، صار كثيرٌ منهم يطلب النبوة؛ كما يُحكى عن طائفة من قدماء اليونان، وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام..". كتاب الصفدية 1229. وانظر: المصدر نفسه 1230-234. ودرء تعارض العقل والنقل 5353-356. ومنهاج السنة النبوية 2415-416، 434-435. وبغية المرتاد ص 384. وشرح حديث النزول ص 421. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 204. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 609-612، 732-735، 834-841، 855-857.
وانظر عن طلب صوفية الفلاسفة، أو ملاحدة الصوفية للنبوة في: درء تعارض العقل والنقل10204-205. والرد على المنطقيين ص 483. وكتاب الصفدية 1250-251، 284-285. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 196-199، 236-237.
فالنبوة فضل من الله، ومنّة يمنّ بها على عباده، واصطفاء منه جلّ وعلا، قال العلامة السفاريني رحمه الله:
ولا تنال رتبة النبوة بالكسب والتهذيب والفتوة
لكنها فضل من المولى الأجلّ لمن يشاء من خلقه إلى الأجل
انظر: لوامع الأنوار 2267.(16/28)
، وهذا من الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحر والكهانة.
من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان
وبينهما فروق كثيرةٌ، أكثر من عشرة(1).
أحدها: أ نّ ما تخبر به الأنبياء، لا يكون إلاصدقاً. وأمّا ما يُخبر به من خالفهم؛ من السحرة، [والكهان](2)، وعُبّاد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور من المسلمين؛ فإ نه لابُدّ فيه من الكذب.
[ الثاني: أنّ الأنبياء لا تأمر إلا بالعدل، ولا تفعل إلا العدل](3). وهؤلاء المخالفون لهم لا بُدّ لهم من الظلم؛ فإن ما خالف العدل لا يكون إلا ظلماً؛ فيدخلون في العدوان على الخلق، وفعل الفواحش، والشرك، والقول [على](4) الله بلا علم؛ وهي المحرمات التي حرّمها الله مطلقاً؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّم رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكوا باللهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاتَعْلَمُون}(5).
الثالث: أنّ ما يأتي به من يخالفهم: معتادٌ لغير الأنبياء؛ كما هو معتاد للسحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع والفجور.
وآيات الأنبياء هي معتادة أنها تدلّ: علىخبر الله وأمره، على علمه وحكمه؛ فتدلّ على أنهم أنبياء، وعلى صدق من أخبر بنبوتهم؛ سواء كانوا هم المخبرين، أوغيرهم.
وكرامات الأولياء هي من هذا؛ فإنهم يخبرون بنبوة الأنبياء.
وكذلك أشراط الساعة: هي أيضاً تدلّ على صدق الأنبياء؛ إذ كانوا قد أخبروا بها.
__________
(1) ذكر الشيخ رحمه الله الفروق بين آيات الأنبياء، وبين السحرة والكهان منظمة في ص 671-673 من هذا الكتاب، وقد جعلها اثني عشر فرقاً.
وانظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 671-673، 798، 844، 987، 1020.
(2) في ((ط)): الكهاه.
(3) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(4) في ((خ)): عليه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) سورة الأعراف: 33.(16/29)
فالذي جعله أولئك(1) من كرامات الأولياء، وأشراط الساعة ناقضاً لآيات الأنبياء، إذ هو من جنسها، ولا يدلّ عليها.
فأولئك(2) كذّبوا بالموجود، وهؤلاء(3) سوّوا بين الآيات وغيرها، فلم [يكن](4) في الحقيقة عندهم آية، وكانت الآيات عند أولئك منتقضة.
وأولئك(5) نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق، وهؤلاء(6) نصروا جهلهم أيضاً بقول الباطل، فقالوا: إنّ الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض(7)، وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة إذا جعل آية، وأنه إذا لم يعارض، كان آيةً(8)، وهو تكذيب بالحق أيضاً؛ فإنّه قد ادّعاه غير نبيّ، ولم يعارض(9).
فالطائفتان(10) أدخلت في الآيات ما ليس منها، وأخرجت منها ما هو منها؛ فكرامات الأولياء، وأشراط الساعة من آيات الأنبياء، وأخرجوها. والسحر والكهانة ليس من آياتهم، وأدخلوها، أو سوّوا بينها وبين الآيات، بل [ونوابها](11).
__________
(1) أي المعتزلة.
(2) أي المعتزلة.
(3) أي الأشاعرة.
(4) في ((م))، و ((ط)): تكن.
(5) المعتزلة.
(6) الأشاعرة.
(7) انظر: البيان للباقلاني ص 46-49. والإرشاد للجويني ص 312-313، 319. والمواقف للإيجي ص 369.
وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 151-155، 282، 586-587، 724، 987.
(8) انظر: البيان ص 94-95، 96. والإرشاد ص 319، 328. والمواقف ص 370. وأصول الدين للبغدادي ص 174-175.
وانظر ما سبق ص 585-588، 606-609، 726-727،.
(9) مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، والحارث الدمشقي.
انظر ما سبق ص 192، 282، 598.
(10) المعتزلة والأشاعرة.
(11) في ((خ)) رسمت: لوابها. وهكذا جاءت في ((م))، و ((ط)).(16/30)
الرابع: إنّ آيات الأنبياء والنبوة، لو قُدّر أنها تُنال بالاكتساب، فهي إنما تُنال بعبادة الله وطاعته؛ فإنه لا يقول عاقل: إنّ أحداً يصير نبياً بالكذب والظلم، بل بالصدق والعدل؛ سواءٌ قال: إنّ النبوة جزاء على العمل(1)، أو قال: إنه إذا زكى نفسه، [فاض](2) عليه ما يفيض على الأنبياء(3). فعلى القولين: هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل.
وحينئذ: فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله؛ فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الأنبياء؛ من السحرة، والكهان، وعباد المشركين، وأهل البدع والفجور؛ من أهل الملل؛ أهل الكتاب، والمسلمين؛ فإن هؤلاء [تحصل](4) لهم الخوارق، مع الكذب والإثم. بل خوارقهم مع ذلك أشدّ؛ لأنهم يخالفون الأنبياء. وما ناقض الصدق والعدل، لم يكن إلا كذباً وظلماً.
فكلّ من خالف طريق الأنبياء، لا بُدّ له من الكذب والظلم؛ إما عمداً، وإما جهلاً.
__________
(1) وهذا قول المعتزلة، كما صرح بذلك شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة 2414، 5436-439. وكتاب الصفدية 1225-229.
(2) في ((ط)): فاضل.
(3) هذا قول الفلاسفة، كما مر معنا في ص 1312 من هذا الكتاب. وانظر: كتاب الصفدية 1229، 2230.
وقد قال شيخ الإسلام عن النبوة عند الفلاسفة أنهم "يزعمون أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النبيّ كما يفيض على سائر الأنبياء وغيرهم". بغية المرتاد ص 384. وانظر: الرد على المنطقيين ص 218-219، 474-476.
وفكرة الفيض، والصدور - وهما بمعنى واحد عند من قال بهما -: تولّد عن الله. والله تعالى قد نفى جنس التولد عن نفسه. انظر: كتاب الصفدية 1158-160، 347. والرد على المنطقيين ص 214، 218، 219.
(4) في ((خ)): يحصل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(16/31)
وقوله تعالى:{تَنَزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثيم}(1): ليس من شرطه أ ن يتعمد الكذب، بل من كان جاهلاً يتكلم بلا علم، فيكذب؛ فإن الشياطين تنزل عليه أيضاً؛ إذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من غير اجتهاد يُعذر به، فهو كذّاب.
ولهذا يصف الله المشركين بالكذب، وكثيرٌ منهم لا يتعمّد ذلك.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أفتى أبو السنابل(2): بأنّ المتوفى عنها الحامل، لا [تحلّ](3) بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين. فقال: كذب أبو السنابل(4)؛ [أي في قوله](5): بأنّ المتوفى عنها الحامل لا [تحلّ](6) بوضع الحمل، بل تعتد أبعد الأجلين.
وكذلك لمّا قال بعضهم: ابن الأكوع حبط عمله. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد(7).
ونظائره كثيرة.
فالأنبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب؛ لا عمداً، ولا خطأ.
وكلّ من خالفهم لابد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورةً؛ فإن خبره إذا لم يكن مطابقاً لخبرهم، كان مخالفاً له، فيكون كذباً.
فالذي تَنَزَّل عليه الشياطين إذا ظن واعتقد أنهم جاؤوا من عند الله، وأخبر بذلك، كان كاذباً. وكذلك إذا قال عما أوحوه إليه: إن الله أوحاه إليه، كان كاذباً؛ قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}(8).
__________
(1) سورة الشعراء، الآية 222.
(2) سبقت ترجمته.
(3) في ((خ)): يحل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) سبق تخريجه 978-979.
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(6) في ((خ)): يحلّ. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) سبق تخريجه 979.
(8) سورة الأنعام، الآية 121.(16/32)
ولمّا شاع خبر المختار بن أبي عبيد(1)، وهو أول من ظهر في الإسلام بالكذب في هذا، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكون في ثقيف كذّاب ومبير"(2)
__________
(1) هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبو إسحاق. كان أبوه قد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعلم له صحبة. استعمله عمر بن الخطاب على جيش، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد. ولد المختار عام الهجرة. وقد سار من الطائف بعد مصرع الحسين إلى مكة فأتى ابن الزبير، وكان قد طرد لشره إلى الطائف، فأظهر المناصحة. فلما مات يزيد استأذن ابنَ الزبير في الرواح إلى العراق، فأذن له. وصار إلى العراق، ودعا فيها إلى إمامة محمد بن الحنفية، حتى علا قدره، ثم طالب بدم الحسين وتتبع قتلته، وقتل ابنَ زياد، وشاع في الناس أخبار عنه بأنه ادعى النبوة، ونزول الوحي عليه، ومكث كذلك ستة عشر شهراً، ثم قاتله مصعب بن الزبير أمير البصرة من قبل أخيه عبدالله، فقتله في الكوفة سنة 67 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 3538. والإصابة 6349. وشذرات الذهب 174، 75. والبداية والنهاية 8292-295. والأعلام 7192.
(2) أورد الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالته تُخاطب الحجاج بن يوسف لما قتل ولدها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، قالت له: "... أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذّاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه.. ".
أخرجه مسلم في صحيحه 41971-1972، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها.
وقد رواه أيضاً عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي في جامعه 4499-500، 5729-730، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير.
وانظر مسند الإمام أحمد 6351-352. والبداية والنهاية 8352.
قال النووي: " المبير: المهلك. وقولها في الكذاب: فرأيناه: تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه ادّعى أن جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه. واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد، وبالمبير الحجاج بن يوسف. والله أعلم". شرح النووي على صحيح مسلم 16100.(16/33)
، فكان الكذّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يتشيع لعلي. [ولهذا يوجد الكذب في الشيعة أكثر ممّا يوجد فى جميع الطوئف، والمبير: هو الحجاج بن يوسف(1)، وكان ظالماً معتدياً، وكان يتشيع](2) لعثمان، والمختار يتشيع لعلي، فذُكر لابن عمر، وابن عباس أمر المختار، وقيل لأحدهما: إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}(3)
__________
(1) هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي، أبو محمد. ولد بالطائف سنة 40ه. أمره عبد الملك بقتال عبد الله بن الزبير، ثم ولاه مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق.
قال عنه الذهبي: "كان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن.... - إلى أن قال: - وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً".
سير أعلام النبلاء 4343.
وذكر الإمام الترمذي رواية عنه، عن هشام بن حسان: قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل. (سنن الترمذي 4499، كتاب الفتن، باب ما جاء في ثقيف كذاب ومبير ). وانظر: البداية والنهاية 9131-157. وشذرات الذهب 1106. والأعلام 2168.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(3) سورة الأنعام، الآية 121.
وروى الطبري بسنده إلى أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس، فجاءه رجل من أصحابه، فقال: يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة؛ يعني المختار بن أبي عبيد. فقال ابن عباس: صدق. فنفرتُ فقلتُ: يقول ابن عباس صدق ؟! فقال ابن عباس: هما وحيان؛ وحي الله، ووحي الشيطان. فوحي الله إلى محمد، ووحي الشياطين إلى أوليائهم، ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} , سورة الأنعام، الآية 121. تفسير الطبري 820.(16/34)
، وقيل للآخر: إنه يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}(1).
الخامس: أنّ ما تأتي به السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع؛ من أهل الملل، لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن.
وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها؛ لا الإنس ولا الجن؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنسُ والجنُّ عَلَى أَنْ يَأتوا بِمِثلِ هَذا القُرآنِ لا يَأتونَ بِمثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(2).
السادس: أنّ ما يأتي به السحرة، والكهان، وكلّ مخالف للرسل تُمكن معارضته بمثله، وأقوى منه؛ كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب(3). وآيات الأنبياء لا يُمكن أحداً أن يعارضها؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها.
وكذلك كرامات الصالحين، لا تعارض؛ لا بمثلها، ولا بأقوى منها. بل قد يكون بعضها آيات [أكبر](4) من بعض. وكذلك آيات الصالحين. لكنها متصادقة، متعاونة على مطلوب واحد؛ وهو عبادة الله، وتصديق رسله. فهي آيات، ودلائل، وبراهين متعاضده على مطلوب واحد. والأدلة بعضها أدلّ وأقوى من بعض.
__________
(1) سورة الشعراء، الآيتان 221-222.
وروى الطبري بسنده إلى سعيد بن وهب قال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، ثم تلا: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}. سورة الشعراء، الآيتان 221-222. تفسير الطبري 19126.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه؟ فقال: صدق، قال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}". البداية والنهاية 8294.
(2) سورة الإسراء، الآية 88.
(3) أي باب السحر والكهانة والتنجيم.
(4) في ((خ)): أكثر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(16/35)
ولهذا كان المشايخ(1) - الذين يتحاسدون، ويتعادون، ويقهر بعضهم بعضاً بخوارقه؛ إما بقتل وإمراض، وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته، وإما غير ذلك - خوارقهم شيطانية، ليست من آيات الأنبياء والأولياء.
[وكثيرٌ](2) من هؤلاء يكون في الباطن كافراً منافقاً. وكثيرٌ منهم يموت على غير الإسلام. وكثيرٌ منهم يكون مسلماً مع ظلم يعرف أنه ظلم، ومنهم من يكون جاهلاً يحسب أنّ ما هو عليه ممّا أمر الله به ورسوله. وهذا كما يقع للملوك [المتنازعين على](3) الملك من قهر بعضهم لبعض. فهذا خارج عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.
السابع: أنّ آيات الأنبياء هي الخارقة للعادات؛ عادات الإنس والجنّ، بخلاف خوارق مخالفيهم؛ فإنّ كلّ ضرب منها معتاد لطائفة غير الأنبياء. وآيات الأنبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله، ويصدّقون من صدق على الله؛ وهم الذين جاؤوا بالصدق وصدّقوا. وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله، أو يكذّب بالحقّ [لمّا جاءه](4). فتلك آيات على كذب أصحابها، وآيات الأنبياء آيات على صدق أصحابها؛ فإن الله سبحانه لا يُخلي الصادق ممّا يدلّ على صدقه، ولا يُخلي الكاذب ممّا يدلّ على كذبه؛ إذ من نعته ما أخبر به في [قوله](5): {أَمْ يَقُولُونَ افْترَى على اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَأ اللهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ}(6). ثم قال خبراً مبتدياً: {وَيَمْحُو اللهُ الباطلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}(7)؛ فهو سبحانه لا بُدّ أن يمحق الباطل، ويُحقّ الحق بكلماته.
__________
(1) الذين هم من أولياء الشيطان.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(3) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(4) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(5) في ((ط)): وقله.
(6) سورة الشورى، الآية 24.
(7) سورة الشورى آية 24.(16/36)
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ والأرْضَ وما بينهُما لاعِبِينَ لو أرَدْنا أَن نتخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِن لَدُنَّا إن كُنَّا فاعِلِينَ بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زَاهِق ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(1).
كما أخبر في موضع أنّه لم يخلق الخلق عبثاً ولا سُدى، وإنّما خلقهم بالحق وللحق(2)، فلا بُدّ أن يجزي هؤلاء وهؤلاء بإظهار صدق هؤلاء، وإظهار كذب هؤلاء؛ كما قال: {بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هوَ زَاهِق}(3).
الثامن: أن هذه لا يقدر عليها مخلوق، فلا تكون مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس، وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب، بخلاف تلك؛ فإنّها إما مقدورة للإنس، أو للجنّ، أو ممّا يُمكنهم التوصّل إليها بسبب.
وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء - كما تقدّم(4)، ولكن ليست من آياتهم الكبرى، ولا يتوقّف إثبات النبوة عليها، وليست خارقة لعادة الصالحين، بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل؛ في أهل الكتاب، والمسلمين.
وآيات الأنبياء التي يختصّون بها خارقة لعادة الصالحين.
التاسع: أنّ خوارق غير الأنبياء؛ الصالحين، والسحرة، والكهان، وأهل الشرك والبدع، تُنال بأفعالهم؛ كعبادتهم، ودعائهم، وشركهم، وفجورهم، ونحو ذلك.
__________
(1) سورة الأنبياء، الآيات 16-18.
(2) قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}. سورة المؤمنون، الآية 115.
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}. سورة القيامة، الآية 36.
(3) سورة الأنبياء، الآية 18.
(4) انظر ص 162، 724، 987، 1036 من هذا الكتاب.(16/37)
وأمّا آيات الأنبياء فلا [تحصل](1) بشيء من ذلك، بل الله يفعلها آيةً وعلامةً لهم، وقد يُكرمهم بمثل كرامات الصالحين، وأعظم من ذلك، مما يقصد به إكرامهم.
لكن هذا النوع يُقصد به الإكرام والدلالة، بخلاف الآيات المجردة؛ كانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وإخراج يده بيضاء، والإتيان بالقرآن، والإخبار بالغيب الذي يختصّ الله به.
فأمرُ الآيات إلى الله، لا إلى اختيار المخلوق(2)، واللهُ يأتي بها بحسب علمه، وحكمته، وعدله، ومشيئته، ورحمته، كما يُنزل ما ينزله من آيات القرآن، وكما يخلق من يشاء من المخلوقات، بخلاف ما حصل باختيار العبد؛ إما لكونه يفعل ما يُوجبه، أو يدعو الله به فيجيبه.
__________
(1) في ((خ)): يحصل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) قال أحد الباحثين معلّقاً على كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "فالذي يظهر من استقرائي لكلام ابن تيمية في تحقيقه للفظ المعجز، وفي تقسيمه للآيات: أن منها آيات خاصة لإقامة الحجج، وآيات عامة، قد يكون فيها معنى الإكرام، فهي دلائل وعلامات. فالآيات الخاصة تمثل المعجزات. والآيات العامة تمثل دلائل النبوة، وأعلام النبوة. فكل معجزة علامة ودلالة على النبوة، وليس كل علامة ودلالة على النبوة معجزة بالمعنى الاصطلاحي. أما المعنى اللغوي فقد تطلق المعجزات على أعلام النبوة ودلائلها، كما نقل ابن تيمية عن السلف كأحمد وغيره". خوارق العادات في القرآن الكريم لعبد الرحمن إبراهيم حميدي: ص 35.
وانظر ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حول هذا المعنى في ص 604، 652، 724، 725، 792 من هذا الكتاب. وانظر: الجواب الصحيح 5412-421،، 6380، 387. وفتح الباري 6581.(16/38)
فالخوارق التي ليست آيات(1): تارةً تكون بدعاء العبد، والله تعالى يُجيب دعوة المضطر [إذا دعاه](2)، وإن كان كافراً. لكن [للمؤمنين](3) من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم. وتارةً تكون بسعيه في أسبابها؛ مثل توجهه بنفسه وأعوانه، وبمن يُطيعه من الجنّ والإنس في حصولها.
وأما آيات الأنبياء: فلا تحصل بشيء من ذلك.
العاشر: أنّ النبيّ قد خلت من قبله أنبياء يعتبر بهم، فلا يأمر إلا [بما](4) أمرت به الأنبياء؛ من عبادة الله وحده، والعمل بطاعته، والتصديق باليوم الآخر، والإيمان بجميع الكتب والرسل. فلا يُمكن خروجه عمّا اتفقت [عليه](5) الأنبياء.
وأما السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع من أهل الملل، فإنّهم يخرجون عمّا اتفقت عليه الأنبياء؛ فكلّهم يُشركون مع تنوّعهم، ويُكذّبون ببعض ما جاء به الأنبياء.
والأنبياء كلّهم منزّهون عن الشرك، وعن التكذيب بشيء من الحقّ الذي بعث الله به نبيّاً.
قال تعالى: {واسْأَل من أرسَلْنا من قَبْلِك مِن رُسُلِنا أَجَعَلْنا من دونِ الرَّحْمَنِ آلهةً يُعْبَدُونَ}(6).
وقال تعالى: {وما أرسَلْنا من قبلِك من رَسُولٍ إلا [يُوحَى](7) إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعْبُدُون}(8).
وقال تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلّ أُمّةٍ رسولاً أن اعبُدُوا اللهَ واجتنِبُوا الطاغوتَ فمنهم من هَدَى اللهُ ومنهم من حَقَّتْ عليهِ الضَّلالة}(9).
__________
(1) انظر: الجواب الصحيح 6167-168.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): المؤمنين. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((ط)): بمغ.
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(6) سورة الزخرف، الآية 45.
(7) في ((ط)): نُوحي. وهي قراءة حفص عن عاصم. انظر: النشر في القراءات العشر ص 65.
(8) سورة الأنبياء، الآية 25.
(9) سورة النحل، الآية 36.(16/39)
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إليه من رَبِّهِ والمؤمنونَ كُلّ آمنَ باللهِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بينَ أحدٍ من رُسُلِهِ}(1).
وقال تعالى: {قولوا آمنَّا باللهِ وما أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربِّهم لا نُفرِّقُ بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون [فإن آمنوا بِمِثْلِ ما آمنتُمْ بِهِ فقد اهتّدّوْا](2) وإن تولّوا فإنّما هُمْ في شِقاق}(3).
وقال تعالى: {ولكنّ البِرَّ مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ والملائكَةِ والكتابِ والنَّبِيِّينَ}(4).
وقال تعالى: {إنَّ الَّذِين يكفُرُونَ باللهِ ورُسُلِهِ ويُريدونَ أن يُفَرِّقُوا بين اللهِ ورُسُلِهِ ويقولونَ نُؤمِنُ ببعضٍ ونكفًرُ ببعضٍ ويُريدون أن يتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقَّاً}(5).
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاق النَّبِيِّينَ لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثُمَّ جاءكُم رسولٌ مُصدِّقٌ لما معكم لَتُؤمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قال أَأَقْرَرْتُم وأخذتُم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهِدِينَ}(6).
وقال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّين ما وصّى به نوحاً والَّذي أوحَيْنَا إِلَيْك وما وصَّيْنا به إبراهيم وموسى وعيسى أَن أقيموا الدين ولا تتفرَّقُوا فيه كَبُرَ على المُشْرِكِينَ ما تدعوهم إليه اللهُ يَجْتَبِي إليهِ مَنْ يشَاءُ ويهدِي إليهِ مَنْ يُنِيب}(7).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 285.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)).
(3) سورة البقرة، الآية 136.
(4) سورة البقرة، الآية 177.
(5) سورة النساء، الآيتان 150-151.
(6) سورة آل عمران، الآية 81.
(7) سورة الشورى، الآية 13.(16/40)
وقال تعالى: {يا أيُّها الرُّسُل كُلُوا من الطيِّبات واعملوا صالِحَاً إِنّي بما تَعْمَلُون عليمٌ وأنَّ (1) هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاتَّقُونِ}(2)، ثمّ قال: {فَتَقَطَّعُوا أمرَهُم بَيْنَهُم زُبُرَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُونَ}(3).
وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء: {إنّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّة واحدة وأنا ربكم فاعبُدُون وتقطَّعُوا أمرهم بينهم كُلّ إلينا راجعون فَمَنْ يعمل من الصالحات وهو مُؤْمِنٌ فلا كُفران لِسَعْيِهِ وإِنَّا لَهُ كاتِبُون}(4).
وقال تعالى: {وقالوا لن يَدْخُل الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كان هُوداً أو نَصَارى تلك أمَانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إن كنتُم صادِقِين بلى مَنْ أسلم وَجهَهُ للهِ وهو مُحْسِنٌ فله أجره عند ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون}(5).
__________
(1) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: ((وأن)) بالفتح وتشديد النون، ووافق ابن عامر في فتح الألف، لكنه سكن النون، وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي: ((وإن)) بكسر الألف وتشديد النون. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5478.
(2) سورة المؤمنون، الآيتان 51-52.
(3) سورة المؤمنون، الآية 53.
(4) سورة الأنبياء، الآيات 92-94.
(5) سورة البقرة، الآيتان 111-112.(16/41)
فالأنبياء يُصدِّقُ متأخِّرُهم مُتقدّمهم، ويُبشِّر متقدّمُهم بمتأخِّرِهم؛ كما بَشَّرَ المسيح ومن قَبْلَهُ بمحمّدٍ(1)، وكما صدّق محمّدٌ جميع النّبيّين قبلَهُ(2). ولهذا يقول: {يا أيُّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نَزَّلْنا مُصدّقاً لما معكُم من قبلِ أن نطْمِسَ وجوهاً فنَرُدَّها على أدبارِها أو نلعنهم كما لعنَّا أصحاب السّبْتِ}(3).
وقال: {[نَزَّلَ](4) عَليكَ الكتابَ بالحقِّ مُصدّقاً لِمَا بينَ يديه وأنزل التَّوْراةَ والإنجيلَ}(5).
وقال: {وَأنزَلْنا إليكَ الكتاب بالحقّ مُصدِّقاً لما بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمِنَاً عليهِ}(6).
والأنبياء، وأتباعهم، [كُلُّهم](7) مؤمنون، مسلمون(8)
__________
(1) قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}. سورة الصف، الآية 6.
(2) قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. سورة البقرة، الآية 285.
(3) سورة النساء، الآية 47.
(4) في ((خ)): أنزل.
(5) سورة آل عمران، الآية 3.
(6) سورة المائدة، الآية 48.
(7) في ((ط)): كله.
(8) جميع الرسل متفقون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك، فالغاية التي بُعثوا من أجلها: إفراد الله بالعبادة، والنهي عن جميع الموبقات من الكفر والفسوق والعصيان.
والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله جلّ وعلا للخلق أجمعهم، فأرسل النبيين والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وهو الإسلام. إلا أن شرائعهم تنوعت، فشرع لقوم ما لم يشرع لآخرين.
قال تعالى يحكي عن نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. سورة البقرة، الآيتان 132-133.
وقال تعالى يحكي قول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف، الآية 101]. وقال عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [سورة يونس، الآية 84]. وقال تعالى عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [سورة الأعراف، الآية 126]. وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة النمل، الآية 44]. وقال يحكي عن الحواريين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران، الآية 52].
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أن دين الأنبياء عليهم السلام جميعاً هو الإسلام في مواضع كثيرة من تصانيفه.
فمن ذلك قوله: "وقد ذكر الله عن الأنبياء وأتباعهم أنهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح إلى الحواريين، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران، 85]. وهذا عام في الأولين والآخرين، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران، 19]. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، 36]. وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [ سورة البقرة: آية 112]؛ أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات، وهذا هو الإسلام؛ وهو أن يكون عمله عملاً صالحاً ويعمله لله تعالى. وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له. وبهذا بعث الله الرسل جميعهم". الرد على المنطقيين ص 448.
وانظر: مجموع الفتاوى 392، 7624. والجواب الصحيح112-83. والعقيدة التدمرية ص167-170. ودقائق التفسير 5105. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 182-185. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 488-490.(16/42)
، يعبدون الله وحده بما أمر، ويُصدّقون بجميع ما جاءت به الأنبياء.
ومن خالفهم: لا يكون إلا مُشركاً، ومكذّباً ببعض ما أنزل الله. وبين الطائفتين(1) فروقٌ كثيرةٌ غير خوارق العادات.
الحادي عشر: أنّ النبيّ هو وسائر المؤمنين لا يُخبرون إلا بحقّ، ولا يأمرون إلا بعدل؛ فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد، لا يأمرون بالفواحش، ولا الظلم، ولا الشرك، ولا القول بغير علم.
فهُم بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها. فلا يأمرون إلا بما يُوافق المعروف في العقول، الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول.
فكما أنهم هم لا يختلفون؛ فلا يُناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم وملّتهم واحد وإن تنوّعت الشرائع(2)، فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، موافقون للأدلّة العقلية لا يُناقضونها قطّ. بل الأدلة العقليّة الصحيحة كلّها توافق الأنبياء لا تُخالفهم.
__________
(1) أي بين جنس الأنبياء، وجنس المتنبئين من السحرة والكهان.
(2) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد). أخرجه البخاري في صحيحه31270، كتاب الأنبياء، باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا}. ومسلم في صحيحه 41837، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام. وأحمد في المسند 2309، 406، 437، 482.(16/43)
وآيات الله السمعية والعقلية؛ العيانية(1) والسماعية كلّها متوافقة، متصادقة، متعاضدة، لا يُناقض بعضها بعضاً؛ كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع(2).
والذين يُخالفون الأنبياء؛ من أهل الكفر، وأهل البدع؛ كالسحرة، والكهان، وسائر أنواع الكفّار؛ وكالمُبتدعين من أهل الملل؛ أهل العلم، وأهل العبادة: فهؤلاء مخالفون للأدلة السمعية والعقلية؛ للسماعية والعيانية، مخالفون لصريح المعقول، وصحيح المنقول؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {كُلَّما أُلْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآية(3). فهؤلاء يُخالفون أقوال الأنبياء؛ إما بالتكذيب، وإما بالتحريف من التأويل، وإما بالإعراض عنها وكتمانها؛ فإما لا يذكروها، أو يذكروا ألفاظها، ويقولون: ليس لها معنى يعرفه مخلوق(4)
__________
(1) أي التي تُرى وتُشاهد.
(2) انظر كتابه درء تعارض العقل والنقل؛ فقد ألّفه رحمه الله للرد على القانون الذي ابتدعه المخالفون لمنهج أهل السنة يدّعون فيه حصول التعارض بين العقل والنقل. وقد أصّل شيخ الإسلام رحمه الله أصلاً في الرد على هذا القانون؛ وهو موافقة صريح العقل لصحيح النقل، والتلازم بينهما.
وانظر أيضاً: الرد على المنطقيين ص 373. ومجموع الفتاوى 6300، 16442-443.
(3) سورة الملك، الآية 8.
(4) يُنبّه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ها هنا على أنّ لأهل التعطيل في نصوص الوحي ثلاث طرق:
الطريق الأول: إما بردّها بالتكذيب بها، والتعطيل لها لفظاً ومعنى.
الطريق الثاني: أو صرفها عن معناها الحقيقي، ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم بها، بواسطة التأويل.
الطريق الثالث: وهو التفويض المحض؛ أو قل دعوى الجهل بمعنى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم به، والفقه له.
أما أصحاب القول الأول؛ وهو التكذيب بالنصوص، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: (يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء.
وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته وأنه مستو على عرشه.
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً، بناء على أن الدلالة القطعية لا تفيد اليقين بما زعموا.
ويزعم قوم من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع باليقين". المعجزات وكرامات الأولياء ص 56-57.
وأما التأويل: فقد أوضح الشيخ رحمه الله أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في معان ثلاثة:
أحدها: العاقبة، وما يؤول إليه الكلام. الثاني: يراد به التفسير. الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن موجوداً في عرف السلف رحمهم الله، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام؛ فإن أكثره أو عامته من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب.
انظر: نقض المنطق ص 57-58. والعقيدة التدمرية ص 91-93.
وأما أهل التفويض المحض؛ وهو تفويض علم معاني النصوص إلى الله تعالى، والإعراض عنها بالكلية، والزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المراد، ولم يبلغ البلاغ المبين، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأما التفويض فإنه من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟.. فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون. وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه. وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة. ومعلومٌ أن هذا قدحٌ في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله. ومع هذا فأشرف ما فيه؛ وهو ما أخبر به الربّ عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمراً ونهياً، ووعداً وتوعداً، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير: فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يُناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُستدلّ به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يُبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". درء تعارض العقل والنقل 1201-205.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً عن أهل هذه الطرق: "الخارجين عن طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التجهيل. فأهل التخييل: هم الفلاسفة الباطنية الذين يقولون:إنه خيّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل. وطريقة التأويل طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده، فكان مقصوده أن هذا يكون سبباً للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يُوافق قولهم ليُثابوا على ذلك. فلم يكن قصده لهم البيان والهداية والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلون حالهم في العلم مع عدمه خيراً من حالهم مع وجوده...... - إلى أن قال رحمه الله: - وأما الصنف الثالث الذين يقولون إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه. والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال". نقض المنطق ص 56-57.
وانظر أقوالاً أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله حول هذه الطرق في كتبه: مجموع الفتاوى 468-69، 13175-176، 288-289. ودرء تعارض العقل والنقل 114، 5284-285. ونقض التأسيس 2234-235.(16/44)
؛ كما أخبر الله عن أهل الكتاب: أنّ منهم من يُكذّبُ في اللفظ، ومنهم من يُحرّف الكلم في المعنى، ومنهم جُهّال لا يفقهون ما يقرؤون؛ قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤمِنُوا لَكُمْ}(1)، إلى قوله: {فَوَيْلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهم وويلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون}(2).
وكذلك هم مخالفون للأدلة العقلية.
الأنبياء كملوا الفطرة ومخالفوهم أفسدوا الحس والعقل والخبر
فالأنبياء كمّلوا الفطرة، وبصّروا الخلق؛ كما تقدّم(3) في صفة محمّد [صلى الله عليه وسلم](4): أنّ الله يفتحُ به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً.
ومخالفوهم يُفسدون الحسّ والعقل، كما أفسدوا الأدلة السمعية.
والحسّ والعقل بهما تُعرف الأدلة.
والطرق ثلاثة: الحسّ، والعقل، والخبر.
فمخالفوا الأنبياء أفسدوا هذا، وهذا، وهذا.
أما إفسادهم لما جاء عن الأنبياء: فظاهرٌ.
مخالفوا الأنبياء قسمان:
وأما إفسادهم للحسّ والعقل: فإنّهم قسمان:
قسمٌ أصحاب خوارق حسيّة؛ كالسحرة، والكهّان، وضلال العُبّاد.
وقسمٌ أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول.
وكلٌّ منهما يُفسد الحسّ والعقل.
أصحاب الحال الشيطاني
__________
(1) سورة البقرة، الآية 75.
(2) سورة البقرة، الآية 79.
(3) انظر: ص 1284 من هذا الكتاب.
(4) في ((خ)): صلعم.(16/45)
أما أصحاب الحال الشيطانيّ: فقد عُرف أنّ السحر يُغيّر الحسّ والعقل، حتى يُخيَّل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو. وكذلك سائر الخوارق الشيطانيّة، لا [تأتي](1) إلا مع نوع فساد في الحسّ والعقل؛ كالمؤلهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم، وآخرين لا [تأتيهم](2) إلا في الظلام، وآخرين [يتمثّل](3) لهم الجنّ في صورة الإنس، فيظنّون أنّهم إنس، أو يرونهم مثال الشيء؛ فيظنّون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه، أو يُسمعونهم صوتاً يُشبه صوت من يعرفونه، فيظنّون أنه صوت ذلك المعروف عندهم(4).
وهذا كثيرٌ موجودٌ في أهل العبادات البدعية التي فيها نوعٌ من الشرك ومخالفة الشريعة.
أصحاب الكلام والمقال البهتاني
وأما أصحاب الكلام والمقال البُهتاني: فإنهم بنوا أصولهم العقلية، وأصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحسّ والعقل.
أصل كلام أهل الكلام
فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض(5)
__________
(1) في ((خ)): يأتي. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): يأتيهم. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((م))، و ((ط)): تتمثل.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 1384-85، 92.
(5) سبق توضيح معنى الجواهر المنفردة ص 345 من هذا الكتاب.
والجواهر والأعراض عند المبتدعة هما ما يتكون منه العالم، كما قال الجويني: "العالم جواهر وأعراض؛ فالجوهر هو المتحيز، وكل ذي حجم متحيز. والعرض هو المعنى القائم بالجوهر كالألوان والطعوم والروائح والحياة والعلوم والإرادات والقُدَر القائمة بالجواهر". الإرشاد ص 17.
وانظر: التمهيد للباقلاني ص 37-41. والإنصاف له ص 27-28. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 328-329.(16/46)
مبني على مخالفة الحسّ والعقل؛ فإنّهم يقولون: إنا لا نشهد، بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها، بل كُلّ ما [يُشهَد](1) حدوثه، بل كلّ ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنّما [يحدث](2) أعراض في الجواهر التي هي باقية، لا تستحيل قطّ، بل تجتمع وتتفرّق(3)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): نشهد.
(2) في ((م))، و ((ط)): تحدث.
(3) هذه إحدى الطرق التي يثبت بها المتكلمون من جهمية ومعتزلة، وعلى رأسهم الرازي: الصانعَ. ويسمونها حدوث الصفات. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 57. ومعالم أصول الدين على هامش محصل أفكار المتقدمين للرازي ص 26-29. والأربعين في أصول الدين له ص 70.
وقد أوضح شيخ الإسلام مراد الرازي بهذه الطريقة، فقال: "يعني بذلك ما يُحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك. وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعةً لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وأن ما يُحدث الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها. وهؤلاء ينكرون الاستحالة. وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، قلا يقولون إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة". درء تعارض العقل والنقل 1308.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله - أيضاً - معقباً على كلام الرازي في حدوث الصفات - وهي الطريق الرابع الذي سلكه المتكلمون في إثبات الصانع؛ وهو الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع: "هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين؛ فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يُحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث؛ فيذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك. لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهودة التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيّرت صفاتها بتقدير حدوثها، كما تتغير صفات الجسم إذا تحرّك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله. وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم. وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم أن الرب لم يزل معطلاً لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئاً، بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل؛ الأنبياء وأتباعهم". درء تعارض العقل والنقل 383-84.
فهذه الطريقة التي سلكها الرازي هي العمدة في إثبات الصانع عند المتكلمين، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: "ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع؛ كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود، ونهاية العقول، والمطالب العالية، وغير ذلك من كتبه. وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام..". درء تعارض العقل والنقل 3164.
وانظر: شرح الأصفهانية 1261-262. ومجموع الفتاوى 17322-323. ودرء تعارض العقل والنقل 382 - 84، 163-164. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 351-355.(16/47)
.
والخلق عندهم - الموجود في زماننا، وقبل زماننا -: إنّما هو جمع وتفريق، لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه(1)، ولا خلق لشيء قائم بنفسه؛ لا إنسان، ولا غيره، وإنّما يخلق أعراضاً، ويقولون: إنّ كلّ ما نشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر، كلّ جوهر منها لا يتميّز يمينه عن شماله(2).
وهذا مُخالفةٌ للحسّ والعقل كالأول.
قولهم: إن الأعراض لا تبقى زمانين وإنه لا يفنى شيء من الأعيان
ويقول كثيرٌ منهم: إنّ الأعراض لا تبقى زمانين(3)، ويقولون: إنه لا يفنى ولا يعدم في زماننا شيء من الأعيان، بل كما لا يحدث شيء من الأعيان، [لا يفنى شيء من الأعيان(4)](5).
فهذا أصل علمهم، ودينهم، ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم، وإثبات الصانع، وهو مخالفٌ للحسّ والعقل(6).
ويقول الذين يُثبتون الجوهر الفرد(7)
__________
(1) انظر: أصول الدين للبغدادي ص 40-41، 70-71. وانظر: منهاج السنة النبوية 2139. ومجموع الفتاوى 5424-425، 17244. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 348-349.
(2) انظر: التمهيد للباقلاني ص 37. والإنصاف له ص 27. وأصول الدين للبغدادي ص 35. والفرق بين الفرق له ص 328-329. وانظر مجموع الفتاوى 5421.
(3) انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. والإنصاف له ص 27-28. والشامل للجويني ص 167. وأصول الدين للبغدادي ص 50-52. والمواقف للإيجي ص 101.
وانظر من كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى12316. وشرح حديث النزول ص 157-158. والنبوات ص 268. ونقض تأسيس الجهمية 1102. ودرء تعارض العقل والنقل 1306، 3434. وشرح الأصفهانية 1265. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 155-156، 541.
(4) انظر: أصول الدين للبغدادي ص 45. وانظر: منهاج السنة النبوية 2140. ودرء تعارض العقل والنقل 5202-203.
(5) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(6) سبق ذلك فيما مضى من هذا الكتاب، ص 345.
(7) هذه المسألة من محارات العقول، وقد اضطرب فيها كثير من النظار.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "هذه المواضع من دقيق مسائل النظار التي هي محارات العقول، التي اضطرب فيها أكثر الخائضين في ذلك. وأكثر من تكلم فيها لا يعرف إلا قولين أو ثلاثة أو أربعة، ويظنّ أن ذلك مجموع أقوال الناس، ولا يكون في تلك الأقوال التي يعرفها بل في غيرها... ومسألة الجوهر الفرد من هذا وهذا، ولهذا صار كثير من أعيانهم يصل فيها إلى الوقف والحيرة؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي، وغيرهم". شرح الأصفهانية 1263-264.
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جامع مفصل لهذه المسألة، بيَّن فيه رحمه الله بطلان القول بالجواهر الفردة، وردّ على من يقول إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، وبيَّن أنّ القائلين ببقاء الجوهر وصل حالهم إلى التوقف أو الشك، قال رحمه الله: "فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين؛ لا من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين. بل القائلون بذلك يقولون: إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئاً قائماً بنفسه؛ لا سماء ولا أرضاً ولا حيواناً ولا نباتاً ولا معادن ولا إنساناً ولا غير إنسان، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، فإنما يحدث أعراضاً قائمة بتلك الجواهر لا أعياناً قائمة بأنفسها، فيقولون: إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار، لم يخلق عيناً قائمة بنفسها، وإنما خلق أعراضاً قائمة بغيرها. وهذا خلاف ما دلّ عليه السمع والعقل والعيان. ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك. وهؤلاء يقولون: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء؛ من استحالة بعض الأجسام إلى بعض؛ كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً، ونحو ذلك. وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة: هل تطهر بالاستحالة أم لا؟ ولم ينكر أحد منهم الاستحالة. ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه؛ مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة، وقول من قال منهم: إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت، ومثل قول كثير منهم: إن الإنسان إذا مات، فجميع جواهره باقية قد تفرقت، ثم عند الإعادة يجمعها الله. ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم؛ كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي. وكذلك ابن عقيل، والغزالي، وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء: يذمّون أقوال هؤلاء، ويقولون: إن أحسن أمرهم الشك، وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل". منهاج السنة النبوية 2139-141.(16/48)
: إنّ الفلك، والرحاء، وغيرهما يتفكّك كلّما استدار(1). ويقول كثيرٌ منهم: إنّ كلّ شيء فإنّه يمكن رؤيته، وسمعه، ولمسه(2).
الفلاسفة أضل من المتكلمين فيجعلون ما في الذهن ثابتاً في الخارج
إلى غير ذلك من الأمور التي جعلوها أصول علمهم، ودينهم، وهي مكابرة للحسّ والعقل.
والمتفلسفة أضلّ من هؤلاء(3)؛ فإنهم يجعلون ما في الذهن [ثابتاً](4) في الخارج(5)؛ فيدَّعون أنّ ما يتصوّره العقل من المعاني الغائبة الكليّة موجودة في الجواهر، قائمة بأنفسها؛ إما مجرّدة عن الأعيان، وإمّا مقترنة بها. وكذلك العدد، والمقدار، والخلاء، والدهر، والمادّة(6): يدَّعون وجود ذلك في الخارج(7).
__________
(1) انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص 262.
(2) انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 324-325.
(3) أي من المتكلمين ,
وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على المتفلسفة ومخالفتهم للعقل والسمع في ص 346-347 من هذا الكتاب.
وقد قال عنهم - رحمه الله - أيضاً: " ومن الفلاسفة من يدعي إثبات جواهر قائمة بأنفسها غير متحيّزة. ومتأخرو أهل الكلام... يقولون: ليس في العقل ما يحيل ذلك. ولهذا كان من سلك سبيل هؤلاء - وهو إنما يثبت حدوث العالم بحدوث الأجسام - يقول بتقدير وجود جواهر عقلية، فليس في هذا الدليل ما يدل على حدوثها. ولهذا صار طائفة ممن خلط الكلام بالفلسفة إلى قدم الجواهر العقلية وحدوث الأجسام، وأن السبب الموجب لحدوثها هو حدوث تصور من تصورات النفس، وبعض أعيان المتصوفة كان يقول بهذا". مجموع الفتاوى 17327. وانظر: منهاج السنة النبوية 2141-142.
(4) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(5) انظر ما سبق في هذا الكتاب، ص 384، 1115. وانظر مجموع الفتاوى 17328-329، 342.
(6) سبق بيان معنى المادة في ص 361 من هذا الكتاب. وانظر: منهاج السنة النبوية 2202-203.
(7) انظر ما سبق في هذا الكتاب ص 363.(16/49)
وكذلك ما يُثبتونه من العقول، والعلّة الأولى الذي يُسمّيه متأخّروهم: واجب الوجود(1).
وعامّة ما يُثبتونه من العقليّات، إنّما يُوجد في الذهن. فالذي لا ريب في وجوده: نفس الإنسان، وما يقوم بها. ثمّ ظنّوا ما يقوم بها من العقليات موجوداً في الخارج.
فكان إفسادهم للعقل أعظم، كما أنّ إفساد المتكلمين للحسّ أعظم.
الفلاسفة أصول علمهم العقليات والمتكلمون أصول علمهم الحسيات
مع أنّ هؤلاء المتفلسفة عمدتهم هي العلوم العقليّة. والعقليّات عندهم أصحّ من الحسيّات. وأولئك المتكلمون أصول علمهم هي الحسيّات، ثمّ يستدلّون بها على العقليّات. وبسط هذه الأمور له موضع آخر(2)
__________
(1) الفلاسفة يُقسمون الوجود إلى واجب وممكن، كما أن المتكلمين يُقسمونه إلى قديم وحادث.
قال ابن سينا: "لا شك أن هناك وجوداً. وكل وجود إما واجب وإما ممكن؛ فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود". النجاة لابن سينا ص 383. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 307.
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن استطرد في ذكر مسألة الجوهر، وبيان فساد من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم، أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما: "ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى، وباليوم الآخر في الخلق، وفي البعث، وفي إحياء الأموات، وإعادة الأبدان، وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع. فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور، فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر، ويعرف مِنَ الكلام الذي ذمه السلف، والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول، ما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل". درء تعارض العقل والنقل 5196-197.
وانظر كلام الفلاسفة والمتكلمين في بقاء الجواهر وعدم فنائها، وهل مادة العالم أزلية أم لا، وأن الله يخلقها خلق أعراض، في: منهاج السنة النبوية 1360، 2139، 143، 202، 5443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1122-124، 308، 383-86، 163-164، 444-446، 5195-203. وشرح الأصفهانية1260-265. وبيان تلبيس الجهمية1178-179. ومجموع الفتاوى 5421-425، 17242-260، 313، 443. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 349-350.(16/50)
.
والمقصود هنا: التنبيه على أنّ من خالف الأنبياء، فإنّه كما أنّه مكذّب لما جاءوا به من النبوّة والسمع، فهو مخالفٌ للحسّ والعقل؛ فقد [فسد](1) عليه الأدلة العقليّة والنقليّة(2).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) في ((ط)): فسدت.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 17307-308.(16/51)
فهرس المصادر والمراجع
حرف الألف
(001)- آراء أهل المدينة الفاضلة: لمحمد بن محمد الفارابي. مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى.
(002)- الإبانة عن أصول الديانة: لأبي الحسن الأشعري. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبعة مكتبة دار البيان، دمشق - سوريا، ط 1، 1401هـ.
(003)- إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: لمحمد مرتضىالزبيدي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(004)- الإتقان في علوم القرآن: للسيوطي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(005)- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. طبعة مؤسسة الرسالة، ط 1، 1406هـ.
(006)- الإحكام في أصول الأحكام: لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم. تحقيق محمد أحمد عبد العزيز. طبعة مطبعة العاصمة، القاهرة - مصر، ط 1، 1398هـ.
(007)- إحياء علوم الدين: للغزالي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. نشر مكتبة دار الباز، مكة المكرمة - السعودية.
(008)- إخبار العلماء بأخبار الحكماء: للقفطي، ط القاهرة - مصر، 1326هـ.
(009)- إخوان الصفا: لعمر الدسوقي. طبعة دار النهضة، القاهرة - مصر، الطبعة الثالثة.
(010)- الأذكار: للنووي. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
(011)- الأربعين في أصول الدين: لمحمد بن عمر الرازي. طبع بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - الهند، ط 1، 1353هـ.
(012)- الإرشاد: للجويني. حققه د/ محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد، طبع مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، 1369هـ.
(013)- الإرشاد: للمفيد. طبعة مكتبة دار الزهراء، بيروت - لبنان، 1402هـ.
(014)- أسباب النزول: للواحدي. وبهامشه الناسخ والمنسوخ. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان.
(015)- الاستقامة: لابن تيمية. تحقيق د/ محمد رشاد سالم. طبع على نفقة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1403هـ.
(016)- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان، 1398هـ.(17/1)
(017)- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لابن الأثير. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
(018)- أسماء مؤلفات ابن تيمية: لابن القيم. تحقيق صلاح الدين المنجد. طبعة دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1976 م.
(019)- الأسماء والصفات: للبيهقي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(020)- إشارات المرام في عبارات الإمام: لكمال الدين البياضي. تحقيق يوسف عبد الرزاق، تقديم محمد زاهد الكوثري. طبعة مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة - مصر.
(021)- الإشارات والتنبيهات: لابن سينا. طبعة دار المعارف، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1957 م.
(022)- الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز: للعز بن عبد السلام. طبعة دار الفكر، دمشق - سوريا. نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(023)- اشتقاق أسماء الله: لأبي القاسم الزجاجي. تحقيق د/ عبد الحسين المبارك. طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1406هـ.
(024)- الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني. طبعة مطبعة نهضة مصر، القاهرة - مصر.
(025)- أصول الدين: لعبد القاهر البغدادي. توزيع دار الباز، مكة المكرمة، الطبعة الثانية، 1400هـ.
(026)- أصول الفقه وابن تيمية: للدكتور صالح المنصور. الطبعة الأولى، 1400هـ.
(027)- الأصول والفروع: لابن حزم. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. نشر دار عباس أحمد الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1404هـ.
(028)- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: لمحمد الأمين الشنقيطي. طبعت على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، 1403هـ.
(029)- إظهار الحق: لرحمة الله الهندي. عني بطبعه عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
(030)- الاعتصام: للشاطبي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1402 ه.(17/2)
(031)- اعتقاد فرق المسلمين والمشركين: للرازي. تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ.
(032)- إعجاز القرآن: للباقلاني. شرح وتعليق د/ محمد عبد المنعم خفاجي. طبعة دار الجيل، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1411هـ.
(033)- الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية: لعمر بن علي البزار. تحقيق زهير الشاويش. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1394هـ.
(034)- الأعلام: للزركلي. دار العلم للملايين، الطبعة الثامنة،1989م.
(035)- أعلام النبوة: للماوردي. ضبط وتقديم وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1407ه.
(036)- إغاثة اللهفان: لابن القيم. تحقيق محمد حامد الفقي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(037)- الأغاني: للأصفهاني. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
(038)- الاقتصاد في الاعتقاد: لأبي حامد الغزالي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ.
(039)- اقتضاء الصراط المستقيم: لابن تيمية. تحقيق د/ ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، 1404هـ.
(040)- إلجام العوام عن علم الكلام: لأبي حامد الغزالي. طبعة مكتبة الجندي، القاهرة - مصر.
(041)- الأم: للشافعي. طبعة دار الشعب، القاهرة - مصر.
(042)- الامتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي. صححه وضبطه وشرح غريبه: أحمد أمين - وأحمد الزين. منشورات المكتبة العصرية، بيروت - صيدا - لبنان.
(043)- الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد: لعبد الرحيم بن محمد الخياط. تحقيق د/ نيبرج. طبعة القاهرة - مصر، 1925 م.
(044)- الأنساب: للسمعاني. طبعة مرجليوث - ليدن، 1912 م.
(045)- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به: للباقلاني. تحقيق عماد الدين أحمد حيدر. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ.(17/3)
(046)- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: للبيضاوي. طبع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى، مصر.
(047)- أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع محمد بن إبراهيم الشيباني. مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى، 1409ه.
(048)- إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل: لابن جماعة. تحقيق وهبي سليمان غاوجي الألباني. طبعة دار السلام، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1410هـ.
حرف الباء
(049)- البداية والنهاية: لابن كثير. دار الريان للتراث، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1408هـ.
(050)- بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم. جمعه ووثق نصوصه يسري السيد محمد. دار ابن الجوزي، الدمام - السعودية، الطبعة الأولى، 1414هـ.
(051)- بدائع الفوائد: لابن القيم. طبعة المطبعة المنيرية، القاهرة. (د. ت).
(052)- بدء المعارف: لابن سبعين. تحقيق جورج. ونشر دار الأندلس ودار الكندي / 1978 م.
(053)- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: لمحمد بن علي الشوكاني. تصوير دار المعرفة، بيروت - لبنان، عن طبعة مطبعة السعادة، القاهرة - مصر، 1348هـ.
(054)- البرهان في أصول الفقه: للجويني. تحقيق د/ عبد العظيم الديب. طبع مطبعة الدوحة، الدوحة - قطر، 1399هـ.
(055)- البرهان في عقائد أهل الأديان: لعباس بن منصور السكسكي. تحقيق د/ بسام علي سلامة العموش. نشر مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن، الطبعة الأولى، 1408هـ.
(056)- البرهان في علوم القرآن: للزركشي. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. الطبعة الثانية، 1391هـ.
(057)- بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية وأهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد. تحقيق ودراسة د/ موسى ابن سليمان الدويش. نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة.
(058)- البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات.. للباقلاني. نشر يوسف مكارثي اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت - لبنان، 1958 م.
حرف التاء(17/4)
(059)- تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
(060)- تاريخ الحكماء: للقفطي. منشورات مكتبة الحياة، بيروت - لبنان.
(061)- تاريخ العلماء النحويين. طبع مكتبة المثنى، بغداد - العراق.
(062)- التاريخ الكبير: للبخاري. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(063)- تاريخ مكة: للأزرقي. نشر مكتبة الباز، مكة المكرمة.
(064)- تأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه: للسيوطي. نشر مكتبة الدعوة، القاهرة - مصر.
(065)- تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة. نشر دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
(066)- التبصير في الدين: للاسفراييني. تحقيق كمال يوسف. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان، ط 1، 1403هـ.
(067)- تبيين كذب المفتري: لابن عساكر. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1399هـ.
(068)- تثبيت النبوة: لعبد الجبار. تحقيق د/ عبد الكريم عثمان. طبع الدار العربية، بيروت - لبنان.
(069)- تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد: للبيجوري. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1403هـ.
(070)- التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية: لابن مهدي. تصحيح وتعليق عبد الرحمن بن صالح المحمود. نشر مكتبة الحرمين، الرياض - السعودية، ط 2، 1402هـ.
(071)- تذكرة الحفاظ: للذهبي. تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(072)- التذكرة والاعتبار. تحقيق د/ عبد الرحمن الفريوائي. نشر دار العاصمة، الرياض - السعودية، الطبعة الثانية، 1415هـ.
(073)- الترغيب والترهيب: للمنذري. طبعة المطبعة المنيرية، القاهرة - مصر.
(074)- التسعينية - ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -.
(075)- تسهيل المنطق: عبد الكريم بن علي مراد. طبعة دار مصر للطباعة، القاهرة - مصر.
(076)- تصفية القلوب: لليماني الذمار. تحقيق د/ حسن محمد مقبولي الأهدل، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1412هـ.(17/5)
(077)- التعريفات: لعلي بن محمد الجرجاني. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1403هـ.
(078)- التعليقات: للفارابي. نشر مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - لبنان.
(079)- تفسير آيات أشكلت. تحقيق عبد العزيز بن محمد الخليفة. نشر مكتبة الرشد، الرياض - السعودية، ط 1، 1417هـ.
(080)- تفسير أبي البركات النسفي. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
(081)- تفسير ابن أبي حاتم. نشر مكتبة الدار، ودار طيبة، ودار ابن القيم، ط 1، 1408هـ.
(082)- تفسير أسماء الله الحسنى: لأبي إسحاق الزجاج. تحقيق أحمد المأمون. نشر دار المأمون للتراث، دمشق - سوريا، 1406ه.
(083)- تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل: للبغوي. تحقيق خالد عبد الرحمن العك، ومروان سوار. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان، ط 2، 1407هـ.
(084)- تفسير سورة الإخلاص: لابن تيمية. تحقيق د/ عبد العلي عبد الحميد حامد. طبعة دار الريان للتراث، القاهرة - مصر، ط1، 1408هـ.
(085)- تفسير القاسمي. وقف على طبعه محمد فؤاد عبد الباقي. نشر دار إحياء التراث، بيروت - لبنان.
(086)- تفسير القرآن العظيم: لابن كثير. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1388هـ.
(087)- التفسير الكبير: لفخر الدين الرازي. طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة.
(088)- تفسير المنار: لمحمد رشيد رضا. طبعة دار المعرفة، الطبعة الثانية.
(089)- التفسير والمفسرون: للدكتور محمد حسين الذهبي. نشر دار الكتب الحديثة، ط 2، 1396هـ.
(090)- تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني. تحقيق مصطفى عطا. طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(091)- تقريظ الحافظ ابن حجر العسقلاني على الرد الوافر. نشر مكتبة ابن تيمية، الكويت.
(092)- تلبيس إبليس: لابن الجوزي. طبعة دار المدني، القاهرة - مصر، 1403هـ.(17/6)
(093)- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل: للباقلاني. تحقيق عماد الدين أحمد حيدر. طبعة مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ.
(094)- التمهيد في أصول الفقه: للخطابي. تحقيق د/ مفيد محمد أبو عمشة. مطبوعات مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ط 1، 1406هـ.
(095)- تهافت الفلاسفة: لأبي حامد الغزالي. تحقيق د/ سليمان دنيا. طبعة دار المعارف، القاهرة، مصر، ط 7.
(096)- تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني. طبعة دار صادر، بيروت - لبنان، ط 1.
(097)- تهذيب اللغة: للأزهري. تحقيق عبد السلام هارون. طبعة الدار القومية العربية للطباعة، نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف، 1384هـ.
(098)- التوحيد: للماتريدي. تحقيق د/ فتح الله خليف. طبعة دار المشرق، بيروت - لبنان.
(099)- توضيح المقاصد، وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم: لابن عيسى. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1406هـ.
(100)- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب. طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1402هـ.
(101)- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن سِعدي. طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، 1404هـ.
حرف الثاء
(102)- الثبت في أسماء مؤلفات ابن تيمية. جمع علي الشبل. طبعة دار الوطن، الرياض - السعودية، ط 1، 1417هـ.
(103)- الثقات: لابن حبان. طبع ونشر دائرة المعارف العثمانية بالهند.
حرف الجيم
(104)- جامع الأصول في أحاديث الرسول: لابن الأثير. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دمشق - سوريا، ط1، 1389هـ.
(105)- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: للطبري. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان، 1405هـ.
(106)- جامع الرسائل: لابن تيمية. تحقيق د/ محمد رشاد سالم. مطبعة المدني، القاهرة - مصر، ط 1، 1405هـ.(17/7)
(107)- الجامع الصحيح المسمى سنن الترمذي: لأبي عيسى الترمذي. طبع مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة - مصر، ط1، 1382هـ.
(108)- جامع العلوم والحكم: لابن رجب الحنبلي. طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، (د - ت).
(109)- الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ.
(110)- الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم. طبع دار الفكر، بيروت - لبنان.
(111)- جلاء العينين في محاكمة الأحمدين: لنعمان الألوسي. طبعة مطبعة المدني، القاهرة - مصر، ط 1.
(112)- جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف. رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، إعداد: عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم الطويان، مكتوبة على الآلة الكاتبة.
(113)- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لابن تيمية. تحقيق د/ علي بن حسن بن ناصر، ود/ عبد العزيز بن إبراهيم العسكر، ود/ حمدان بن محمد الحمدان. نشر دار العاطمة، الرياض - السعودية، ط 1، 1414هـ.
(114)- جوهرة التوحيد: لإبراهيم بن حسن اللقاني. مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1403هـ.
حرف الحاء
(115)- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: لابن القيم. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(116)- حاشية الباجوري على شرح الجوهرة: لإبراهيم الباجوري. المطبعة الخيرية، القاهرة - مصر، 1291هـ.
(117)- الحاوي الكبير: للماوردي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1414هـ.
(118)- حجة الله البالغة: للشاه ولي الله الدهلوي. نشر دار الفكر، بيروت - لبنان.
(119)- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1409هـ.
(120)- حياة الأنبياء بعد وفاتهم: للبيهقي. تحقيق د/ أحمد بن عطية الغامدي، نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1414هـ.
حرف الخاء(17/8)
(121)- خزانة الأدب. نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(122)- خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه: للشيخ الألباني، طبع المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط4، 1400هـ.
(123)- الخطط: للمقريزي. طبعة دار صادر، بيروت - لبنان.
(124)- خوارق العادات في القرآن الكريم: عبد الرحمن إبراهيم الحميضي. نشر شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، ط 1، 1402هـ.
حرف الدال
(125)- دائرة المعارف الإسلامية. تأليف جماعة من المستشرقين.
(126)- دائرة معارف القرن العشرين: امحمد فريد وجدي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(127)- درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية. تحقي د/ محمد رشاد سالم. تصوير مكتبة ابن تيمية، القاهرة - مصر.
(128)- الدرّة فيما يجب اعتقاده: لابن حزم. تحقيق د/ أحمد بن ناصر الحمد ود/ سعيد بن عبد الرحمن القزفي. طبع مطبعة المدني، القاهرة - مصر، ط1، 1408هـ.
(129)- الدر المنثور: للسيوطي. طبع دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
(130)- دقائق التفسير: لابن تيمية. طبع مؤسسة علوم القرآن، بيروت - لبنان، ط 2، 1404هـ.
(131)- دلائل النبوة: لأبي نعيم الأصبهاني. تحقيق عبد البر عباس، ومحمد رواس قلعجي. نشر المكتبة العربية، حلب - سوريا.
(132)- الدين الخالص: لصديق حسن خان. تحقيق محمد رمزي النجار، طبع مطبعة المدني، القاهرة - مصر، 1379هـ.
حرف الذال
(133)- ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين: لليافعي. تحقيق د/ موسى بن سليمان الدويش. نشر دار البخاري للنشر والتوزيع، بريدة، ط 1، 1410هـ.
(134)- ذم الكلام: لأبي إسماعيل الهروي. تحقيق عبد الرحمن بن عبد العزيز الشبل. رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة.
(135)- الذيل على طبقات الحنابلة: لابن رجب. طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.
حرف الراء(17/9)
(136)- الرد على الجهمية والزنادقة: لأحمد بن حنبل. تحقيق عبد الرحمن عميرة. نشر دار اللواء، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1397ه.
(137)- الرد على المنطقيين:لإبن تيمية. الطبعة الثانية، 1396. إدارة ترجمان السنة.
(138)- الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الإسلام كافر: لابن ناصر الدين الدمشقي. تحقيق زهير الشاويش. طبع المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1400هـ.
(139)- الرسالة الأضحوية في أمر المعاد: لابن سينا. تحقيق د/ سليمان دنيا. طبع دار الفكر العربي، القاهرة - مصر، 1368هـ.
(140)- رسالة الألواح: لابن سبعين - ضمن رسائل ابن سبعين -. تحقيق د/ عبد الرحمن بدوي.
(141)- رسالة إلى أهل الثغر: لأبي الحسن الأشعري. تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي. نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة - السعودية، ط1، 1409هـ.
(142)- رسالة إلى أهل زبيد على من أنكر الحرف والصوت: للسجزي. تحقيق د/ محمد باكريم باعبد الله. طبعة مركز البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413ه.
(143)- الرسالة التدمرية: لابن تيمية. تحقيق محمد بن عودة السعوي. نشر شركة العبيكان، الرياض - السعودية، ط 1، 1405ه.
(144)- رسائل العدل والتوحيد. تحقيق محمد عمارة. طبعة دار الهلال، القاهرة - مصر.
(145)- الرسالة العرشية في توحيده تعالى: لابن سينا. طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1353هـ.
(146)- الرسالة القشيرية في علم التصوف: للقشيري. نشر دار الكتب العصرية، صيدا - بيروت.
(147)- الروح: لابن القيم. تحقيق محمد اسكندريلدا، طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1402هـ.
(148)- روح المعاني: للآلوسي. نشر إدارة الطباعة المنيرية، ودار إحياء التراث العربي، القاهرة - مصر.
حرف الزاي
(149)- زاد المسير في علم التفسير: لابن الجوزي. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 3، 1404هـ.(17/10)
(150)- زاد المعاد في هدي خير العباد: لابن القيم. تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط. طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط 3، 1402هـ.
(151)- الزهد: لابن المبارك. تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. طبع مجلس إحياء المعارف بالهند، 1385هـ.
(152)- الزهر النضر في نبأ الخضر: لابن حجر. علق عليه سمير حسين حلبي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1408هـ.
حرف السين
(153)- السحر بين الحقيقة والخيال: للدكتور أحمد بن ناصر الحمد. نشر مكتبة التراث بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1408هـ.
(154)- سراج القارئ المبتدي: للقاصح العذري. نشر دار الفكر، بيروت - لبنان، (د - ت).
(155)- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني. نشر مكتبة المعارف، الرياض - السعودية، ط 4، 1408هـ.
(156)- السنة: لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال. تحقيق د/ عطية بن عتيق الزهراني. نشر دار الراية، الرياض، ط 1، 1410هـ.
(157)- السنة: لعبد الله بن أحمد بن حنبل. تحقيق محمد السعيد زغلول. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1405هـ.
(158)- سنن أبي داود: لأبي داود السجستاني. ومعه معالم السنن: للخطابي. تحقيق: عزت الدعاس. نشر دار الحديث، بيروت - لبنان، 1393هـ.
(159)- سنن الدارقطني. تحقيق عبد الله هاشم يمني المدني. نشر شركة الطباعة الفنية المتحدة.
(160)- سنن الدارمي. طبعة دار الريان للتراث، ط 1، 1407هـ.
(161)- سنن سعيد بن منصور. نشر دار الفكر، بيروت - لبنان.
(162)- سنن ابن ماجه. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. نشر دار الفكر، بيروت - لبنان.
(163)- سنن النسائي. اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة. نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب - سوريا، ط 1.
(164)- سير أعلام النبلاء: للذهبي. نشر مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1413هـ.
(165)- السيرة النبوية لابن هشام، بتهذيب عبد السلام هارون. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
حرف الشين(17/11)
(166)- الشامل في أصول الدين: للجويني. تحقيق علي النشار، وفيصل عون، وسهير مختار. نشر منشأة المعارف، الاسكندرية - مصر، 1969 م.
(167)- شأن الدعاء: للخطابي. تحقيق أحمد الدقاق. الطبعة الأولى، 1404هـ.
(168)- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(169)- شرح الأصبهانية: لابن تيمية. تحقيق محمد بن عودة السعوي، 1407هـ، رسالة مطبوعة على الآلة الكاتبة.
(170)- شرح الأصول الخمسة: لعبد الجبار الهمذاني المعتزلي. تحقيق د/ عبد الكريم عثمان. طبع مطبعة الاستقلال الكبرى. نشر مكتبة وهبة، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1384هـ.
(171)- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وكرامات أولياء الله: للالكائي. تحقيق د/ أحمد بن سعد حمدان. نشر دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1415هـ.
(172)- شرح حديث النزول: لابن تيمية. تحقيق محمد بن عبد الرحمن الخميس. نشر دار العاصمة، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1414هـ.
(173)- شرح السنة: للبربهاري. نشر مكتبة السنة، القاهرة - مصر.
(174)- شرح الصاوي على جوهرة التوحيد. نشر دار الإخاء،1980م.
(175)- شرح العقائد العضدية: لجلال الدين الدواني. نشر دار الكتب الثقافية، بيروت - لبنان.
(176)- شرح العقائد النسفية: لسعد الدين التفتازاني. طبعة كتبخانة إمدادية، ديوبند - الهند.
(177)- شرح العقيدة الأصفهانية: لابن تيمية. تحقيق حسنين بن محمد مخلوف. نشر دار الكتب الإسلامية، القاهرة - مصر.
(178)- شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي. تحقيق د/ عبد الله التركي، وشعيب الأرناؤوط. نشر مؤسسة الرسالة، ط 2، 1411ه.
(179)- شرح الفقه الأكبر: لملا علي القاري. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1404هـ.
(180)- شرح قصيدة الإمام ابن القيم: لأحمد بن إبراهيم بن عيسى. تحقيق زهير الشاويش. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 3، 1406هـ.(17/12)
(181)- شرح الكوكب المنير: للفتوحي. تحقيق د/ محمد الزحيلي، ود/ نزيه حماد. من مطبوعات مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ط 1، 1400هـ.
(182)- شرح مراقي السعود على أصول الفقه: لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي. نشر دار أبو الوفاء، 1378هـ.
(183)- شرح المقاصد: لسعد الدين التفتازاني. تحقيق د/ عبد الرحمن عميرة. طبع عالم الكتب، بيروت - لبنان، ط1، 1409 ه.
(184)- شرح المواقف: للجرجاني. طبع مطبعة السعادة، القاهرة - مصر، ط1.
(185)- الشريعة: للآجري. تحقيق محمد حامد الفقي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1403هـ.
(186)- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: للقاضي عياض. تحقيق علي محمد البجاوي. نشر دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
(187)- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: لابن القيم. نشر دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(188)- شيخ الإسلام وجهوده في الحديث: للدكتور عبد الرحمن الفريوائي. نشر دار العاصمة، الرياض - السعودية، ط1، 1416هـ.
حرف الصاد
(189)- الصارم المسلول على شاتم الرسول: لابن تيمية. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. طبعة الحرس الوطني.
(190)- الصحاح: لإسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، طبع على نفقة السيد حسن عباس الشربتلي، 1403هـ.
(191)- الصحائف الإلهية: للسمرقندي. تحقيق د/ أحمد عبد الرحمن الشريف. نشر مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1405هـ.
(192)- صحيح البخاري: للإمام البخاري. ضبطه الدكتور مصطفى البغا. نشر دار القلم، بيروت - لبنان، ط 1، 1401هـ.
(193)- صحيح الترغيب والترهيب: لمحمد ناصر الألباني. طبع المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان.
(194)- صحيح الجامع الصغير: للألباني. طبع المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان.
(195)- صحيح سنن أبي داود: للألباني. نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض - السعودية، ط1، 1409هـ.(17/13)
(196)- صحيح سنن ابن ماجه: للألباني. نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض - السعودية، ط1، 1409هـ.
(197)- صحيح سنن النسائي: للألباني. نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض - السعودية، ط1، 1409هـ.
(198)- صحيح مسلم. بعناية محمد فؤاد عبد الباقي. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(199)- صحيح مسلم بشرح النووي. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(200)- الصفدية: لابن تيمية. تحقيق د/ محمد رشاد سالم. طبع مكتبة ابن تيمية، القاهرة - مصر، ط2، 1406هـ.
(201)- صفة الصفوة: لابن الجوزي. نشر مكتبة السعادة، بيروت - لبنان.
(202)- الصواعق المنزلة: لابن القيم. تحقيق د/ أحمد بن عطية الغامدي، ود/ علي بن ناصر الفقيهي. المملكة العربية السعودية.
(203)- صون المنطق والكلام: للسيوطي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
حرف الطاء
(204)- طبقات الأطباء والحكماء: لسليمان بن جلجل. تحقيق فؤاد سيد. طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، ط 2، 1405ه.
(205)- طبقات الحنابلة: لابن أبي يعلى. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(206)- طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي. تحقيق عبد الفتاح الحلو، ومحمود محمد الطناحي، نشر دار إحياء الكتب العربية.
(207)- طبقات الصوفية: لأبي عبد الرحمن السلمي. تحقيق نور الدين شريبة. نشر دار الكتاب النفيس، الطبعة الثانية، 1406ه.
(208)- طبقات النحويين.طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط2، 1405هـ.
(209)- طريق الهجرتين: لابن القيم. صححه وراجعه إبراهيم الأنصاري. طبع على نفقة الشيخ حمد بن فالح آل ثاني.
حرف العين
(210)- العبر في خبر من غبر: للذهبي. طبع دائرة المطبوعات بالكويت، سنة 1960 م.
(211)- العبودية: لابن تيمية. طبع المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 5، 1399هـ.
(212)- عدة الصابرين: لابن القيم. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1402هـ.(17/14)
(213)- العدة في أصول الفقه: للقاضي أبي يعلى. تحقيق د/ أحمد بن علي سير المباركي. ط 2، 1410هـ.
(214)- العقائد النسفية: لأبي حفص النسفي. ط مطبعة السعادة، مصر.
(215)- العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية: لمحمد بن أحمد ابن عبد الهادي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1356هـ.
(216)- العقيدة الإسلامية وأسسها: لعبد الرحمن حسن الميداني. نشر دار القلم، دمشق - سوريا، ط3، 1403هـ.
(217)- العقيدة النظامية: للجويني. تحقيق د/ أحمد حجازي السقا. طبع مطبعة الأنوار، القاهرة - مصر، 1367هـ.
(218)- عمدة القاري: للعيني. ط مطبعة دار التقوى، مصر.
(219)- العهد الجديد. نشر دار حلمي للطباعة.
(220)- العهد القديم. نشر دار الكتاب المقدس، جمعية الكتاب المقدس سابقاً، القاهرة - مصر.
حرف الغين
(221)- غاية الأماني في الرد على النبهاني: للآلوسي. نشر دار إحياء السنة، الإسكندرية - مصر.
(222)- غاية المرام في علم الكلام: للآمدي. تحقيق حسن محمود عبد اللطيف. نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة - مصر، 1391هـ.
(223)- الغاية في القراءات العشر: للنيسابوري. طبعة دار الراية، الرياض.
(224)- الغنية في أصول الدين: لعبد الرحمن النيسابوري. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
حرف الفاء
(225)- فتح الباري: لابن حجر العسقلاني. طبعة المكتبة السلفية، القاهرة - مصر، ط2، 1407هـ.
(226)- الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: للساعاتي. طبعة دار الشهاب، القاهرة - مصر.
(227)- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير: للشوكاني. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
(228)- الفتوى الحموية الكبرى: لابن تيمية. تقديم محمد عبد الرزاق حمزة. طبعة مطبعة المدني، القاهرة - مصر، 1403هـ.
(229)- الفتوحات المكية: لابن عربي. طبعة دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة - مصر، 1329هـ.(17/15)
(230)- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لابن تيمية. تحقيق د/ عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى. نشر دار طويق للنشر والتوزيع، ط1، 1414هـ.
(231)- الفرقان بين الحق والباطل: لابن تيمية. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. نشر مكتبة البيان، بيروت - دمشق، ط1، 1405هـ.
(232)- الفرق بين الفرق: لعبد القاهر البغدادي. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان.
(233)- الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم الظاهري. نشر مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر.
(234)- فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال: لابن رشد. تحقيق محمد عمارة. طبعة دار المعارف، القاهرة - مصر، ط2.
(235)- فضائل القرآن: لابن كثير. نشر دار ابن كثير، بيروت - لبنان.
(236)- الفكر الصوفي: للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. نشر مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط3، 1406هـ.
(237)- الفهرست: لابن النديم. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1398هـ.
(238)- فوات الوفيات: لابن شاكر الكتبي. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. مطبعة السعادة، القاهرة - مصر. نشر مكتبة النهضة بمصر.
(239)- فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة: لأبي حامد الغزالي. نشر مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، 1343هـ.
حرف القاف
(240)- قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان: لابن تيمية. تحقيق سليمان الغصن. نشر دار العاصمة، الرياض - السعودية، ط1، 1411هـ.
(241)- القاموس المحيط: للفيروزآبادي. طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان ونشره دار الريان للتراث، القاهرة - مصر، ط2، 1407هـ.
(242)- قطر الولي على حديث الولي: للشوكاني. نشر دار الصحابة، طنطا - مصر.
(243)- قطعة من مكتوب الشيخ المري الحنبلي. تقديم محمد إبراهيم الشيباني. نشر مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط1.
(244)- قواعد العقائد: لأبي حامد الغزالي. تحقيق موسى محمد علي. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان، ط2، 1405هـ.(17/16)
(245)- قوت القلوب: لأبي طالب المكي. طبع المطبعة المصرية، القاهرة - مصر، ط1، 1351هـ.
حرف الكاف
(246)- الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل. تحقيق زهير الشاويش. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط4، 1405هـ.
(247)- الكامل في اللغة: للمبرد. نشر دار الفكر، بيروت- لبنان، ط3، 1403هـ.
(248)- الكتاب: لسيبويه. نشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(249)- الكشاف: للزمخشري. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان، (د - ت).
(250)- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. نشر مكتب التربية العربية لدول الخليج، الرياض.
(251)- الكشف عن مناهج الأدلة: لابن رشد. طبعة دار العلم للجميع، دمشق - سوريا، ط2، 1353هـ.
حرف اللام
(252)- لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول: للمكلاتي. طبع مطبعة السعادة، القاهرة - مصر.
(253)- لسان العرب: لابن منظور. طبع دار صادر، بيروت - لبنان. نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة.
(254)- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني. نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط2، 1390هـ.
(255)- لطائف المعارف: لأبي منصور الثعالبي. تحقيق إبراهيم الأبياري، حسن الصيرفي. طبعة مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة - مصر، ط1.
(256)- اللآلئ المصنوعة من الأحاديث الموضوعة: للسيوطي. طبع دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(257)- لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة: للجويني. تحقيق د/ فوقية حسين محمود. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان، ط2، 1407هـ.
(258)- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: لأبي الحسن الأشعري. تحقيق حمود غرابة. طبع مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة - مصر، 1975 م.
(259)- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: للسفاريني. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان. نشر مكتبة أسامة، الرياض - السعودية، ط2، 1405هـ.
حرف الميم(17/17)
(260)- الماتريدية - دراسة وتقويماً -: تصنيف: أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي. نشر دار العاصمة، الرياض - السعودية، النشرة الأولى، 1413هـ.
(261)- المباحث المشرقية: للرازي. تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط1، 1410هـ.
(262)- المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين: للآمدي. تحقيق د/ عبد الأمير الأعسم. طبعة دار المناهل، بيروت - لبنان، ط1، 1407هـ.
(263)- المجرد: لابن فورك. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان.
(264)- مجلة البحوث الإسلامية. تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، العدد 36.
(265)- مجمع الأمثال: للميداني. قدم له وعلق عليه: نعيم حسين زرزور. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1408هـ.
(266)- مجمع الزوائد: للهيثمي. طبع مكتبة القدس، القاهرة - مصر، 1352ه.
(267)- المجموع شرح المهذب: للنووي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(268)- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وولده محمد. طبعة خادم الحرمين الشريفين. إشراف الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، 1404هـ.
(269)- مجموعة الرسائل الكبرى: لابن تيمية. طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(270)- مجموعة الرسائل والمسائل: لابن تيمية. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1403هـ.
(271)- المجموعة المنيرية. نشر إدارة الطباعة المنيرية، ط1، 1343هـ.
(272)- المحصل، وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين. تحقيق د/ حسين آتاي. طبعة دار التراث، القاهرة - مصر الطبعة الأولى، 1411هـ.
(273)- المحلى: لابن حزم. تحقيق أحمد شاكر. نشر دار الآفاق الحديثة، بيروت - لبنان.
(274)- المحيط بالتكليف: لعبد الجبار المعتزلي. جمع الحسن بن أحمد بن منتويه. طبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والترجمة والنشر، القاهرة - مصر.(17/18)
(275)- مختارات شيخ الإسلام: للحام. طبع مكتبة الأقصى، عمان - الأردن.
(276)- مختصر الصواعق المرسلة: لابن الموصلي. تصحيح زكريا علي يوسف. طبعة مطبعة دار البيان بعابدين، القاهرة - مصر. نشر مكتبة المتنبي، القاهرة - مصر.
(277)- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. تحقيق محمد حامد الفقي. نشر دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1392هـ.
(278)- المدينة الفاضلة: للفارابي. طبعة ليدن - سويسرا، 1895 م.
(279)- مسائل الإمام أحمد، برواية ابنه عبد الله. تحقيق علي بن سليمان المهنا. نشر مكتبة الدار، بالمدينة المنورة. ط1.
(280)- المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة. جمع عبد الإله سليمان الأحمدي. نشر دار طيبة، الرياض - السعودية، ط2، 1416ه.
(281)- المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري. تصوير محمد أمين دمج. نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب - سوريا.
(282)- المستصفى في أصول الفقه: لأبي حامد الغزالي. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط2، 1403هـ.
(283)- مسند الإمام أحمد بن حنبل. نشر المكتبة الإسلامية، ط 4، 1403ه.
(284)- مسند الإمام أحمد، وبهامشه المنتخب من كنز العمال. طبعة دار صادر، بيروت - لبنان.
(285)- المسودة في اصول الفقه: لآل تيمية. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
(286)- مشكاة المصابيح: للتبريزي. تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. طبعة المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط 3، 1405هـ.
(287)- المصباح المنير: للرافعي. نشر المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.
(288)- المضنون به على غير أهله: لأبي حامد الغزالي. مطبوع ضمن القصور العوالي، القاهرة - مصر.
(289)- المطالب العالية في العلم الإلهي: للرزاي. طبعة دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، ط1، 1407هـ.(17/19)
(290)- مع الأنبياء في القرآن الكريم: لعفيف عبد الفتاح طبارة. طبعة دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 12، 1983 م.
(291)- معارج القبول: للشيخ حافظ حكمي. طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة - مصر، (د - ت).
(292)- معارج القدس في مدارج معرفة النفس: لأبي حامد الغزالي. طبعة مطبعة السعادة، القاهرة - مصر.
(293)- معارج الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم. نشر مكتبة ابن الجوزي، الدمام - السعودية، ط1، 1407هـ.
(294)- المعالم الأثرية من السنة والسيرة. نشر مكتبة النمنكاني، المدينة المنورة.
(295)- معالم أصول الدين: للرازي، على هامش طبعة أخرى لمحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين. طبعة المطبعة الحسينية، القاهرة - مصر، 1323هـ.
(296)- معالم السنن: للخطابي. إعداد وتعليق عزت الدعاس، وعادل السيد. مطبوع ضمن سنن أبي داود. طبع دار الحديث، القاهرة - مصر، ط1، 1393هـ.
(297)- معاني القرآن وإعرابه: للزجاج. نشر مكتبة المثنى، بغداد - العراق، (د - ت).
(298)- المعتمد في أصول الدين: لأبي يعلى. تحقيق د/ وديع زيدان حداد. نشر المكتبة العصرية، صيدا - لبنان.
(299)- المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات: لابن تيمية. تحقيق أحمد العيسوي. طبعة دار الصحابة للتراث، طنطا - مصر، ط1، 1411هـ.
(300)- معجم البلدان: لياقوت الحموي. تصوير دار صادر، بيروت - لبنان، (د - ت).
(301)- المعجم الفلسفي. نشر مجمع اللغة العربية بالقاهرة - مصر، 1403هـ.
(302)- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث. مجموعة من المستشرقين. نشر دار الدعوة، استنبول - تركيا، 1986 م.
(303)- المعجم الكبير: للطبراني. تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. طبع الدار العربية، بغداد - العراق.
(304)- معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة. نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.(17/20)
(305)- المعجم الوسيط. قام بإخراجه إبراهيم مصطفى ورفاقه. أشرف على طبعه عبد السلام هارون. القاهرة - مصر.
(306)- معراج السالكين: للغزالي. طبع ضمن القصور العوالي.
(307)- الملل والنحل: للشهرستاني. تحقيق محمد سيد كيلاني. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان. توزيع مكتبة المعارف بالرياض - السعودية، 1400هـ.
(308)- معيار العلم في فن المنطق: لأبي حامد الغزالي. تحقيق د/ علي بو ملحم، طبعة دار ومكتبة الهلال، بيروت - لبنان، ط1، 1993 م.
(309)- المغني: لابن قدامه. نشر دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1408هـ.
(310)- المغني في أبواب العدل والتوحيد: لعبد الجبار المعتزلي. تحقيق د/ عبد الحليم محمود، ود/ سليمان دنيا. طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة - مصر.
(311)- مفتاح دار السعادة: لابن القيم. نشر دار نجد للنشر والتوزيع، 1402ه.
(312)- مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني. تحقيق صفوان عدنان داوودي. طبعة دار القلم، والدار الشامية، دمشق - سوريا، ط1، 1412هـ.
(313)- مقارنة بين الغزالي وابن تيمية: للدكتور محمد رشاد سالم. طبعة الدار السلفية، القاهرة - مصر، 1395هـ.
(314)- المقاصد الحسنة: للسخاوي. نشر المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.
(315)- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبي الحسن الأشعري. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. طبعة مكتبة النهضة المصرية، القاهرة - مصر، ط2، 1389هـ.
(316)- مقدمة ابن خلدون. طبعة دار القلم، بيروت - لبنان، ط 5، 1984م.
(317)- المكتفى في الوقف والابتداء: لأبي عمرو الداني. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(318)- مناهل العرفان: للزرقاني. نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة - مصر.
(319)- المنتقى من أخبار المصطفى: للمجد ابن تيمية. تصحيح محمد حامد الفقي. طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ط 1403ه.(17/21)
(320)- المنقذ من الضلال: للغزالي. طبعة مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - لبنان، ط1، 1408هـ.
(321)- منهاج السنة النبوية: لابن تيمية. تحقيق د/ محمد رشاد سالم. أشرفت على طباعته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط1، 1406ه.
(322)- المواقف في علم الكلام: لعبد الرحمن بن أحمد الإيجي. طبعة عالم الكتب، بيروت - لبنان.
(323)- الموسوعة العربية الميسرة. طبعة دار الشعب، ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بإشراف محمد شفيق غربال.
(324)- الموضوعات: لابن الجوزي. طبعة دار الحديث، القاهرة - مصر.
(325)- الموطأ: للإمام مالك. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. طبعة داؤ إحياء الكتب العلمية، بيروت - لبنان.
(326)- موقف ابن تيمية من الأشاعرة: للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود. نشر مكتبة الرشد، الرياض - السعودية، ط1، 1415هـ.
(327)- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للذهبي. تحقيق علي محمد البجاوي. طبعة دار المعرفة، بيروت - لبنان، ط1، 1382ه.
(328)- ميزان العمل: لأبي حامد الغزالي. تحقيق د/ سليمان دنيا. طبعة مطبعة السعادة، القاهرة - مصر.
حرف النون
(329)- النبوة عند ابن تيمية: لسعيد خليفة. رسالة ماجستير، مطبوعة على الآلة الكاتبة.
(330)- نتائج الأفكار القدسية. نشر مكتبة الماعون، صيدا - لبنان.
(331)- النجاة: لابن سينا. طبعة مطبعة الكردي، الطبعة الأولى، 1321ه.
(332)- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: للأتابكي. طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة - مصر.
(333)- النشر في القراءات العشر: للنيسابوري. طبعة دار الفكر، بيروت - لبنان.
(334)- نقد مراتب الإجماع: لابن تيمية. تعليق على مراتب الإجماع لابن حزم. نشر وتوزيع دار الباز بمكة المكرمة.
(335)- نقض أساس التقديس، أو بيان نقض التأسيس. مخطوط في جامعة الملك سعود، رقم 2590. ومطبوع بتصحيح وتكميل الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم. طبع بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة - السعودية، ط1، 1391هـ.(17/22)
(336)- نقض المنطق: لابن تيمية. تحقيق الشيخان محمد عبد الرزاق حمزة، وسليمان العبد الرحمن الصنيع. صححه الشيخ محمد حامد الفقي، طبعة مكتبة السنة المحمدية، القاهرة - مصر، ط1، 1370هـ.
(337)- نهاية الإقدام في علم الكلام: للشهرستاني. تحقيق الفرد جيوم، ليدن، 1934 م.
(338)- نهاية العقول في دراية الأصول: للرازي. مخطوط يوجد في مكتبة طلعت حرب بالقاهرة - مصر، يحمل الرقم 565 طلعت علم كلام.
(339)- النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير. تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، طبعة المكتبة العلمية، بيروت - لبنان.
(340)- نهج البلاغة: للشريف الرضي. نشر مكتبة الزهراء، بيروت - لبنان، (د - ت).
حرف الواو
(341)- الوافي بالوفيات: خليل بن إيبك صلاح الدين الصفدي. باعتناء: س و يدرينغ. طبعة دار صادر، بيروت - لبنان، 1392هـ.
(342)- الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع: تأليف / عبد الفتاح عبد الغني القاضي. نشر مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1، 1404ه.
(343)- وفيات الأعيان: لابن خلكان. تحقيق د/ إحسان عباس. طبعة مطبعة الغريب، بيروت - لبنان.
حرف الياء
(344)- اليواقيت والجواهر: لعبد الوهاب الشعراني. القاهرة - مصر، ط1، 1351هـ.(17/23)
الموضوع
المقدمة
أسباب اختيار البحث
الخطة التي سرتُ عليها
كلمة شكر وتقدير
القسم الأول: الدراسة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: مدخل لدراسة موضوع الكتاب وما أُلِّف فيه
- المطلب الأول: ما هية النبوة
- المطلب الثاني: حاجة العباد إلى الرسل
- المطلب الثالث: وظائف الرسل
- المطلب الرابع: أقوال الناس في النبوة
أولاً: قول أهل السنة والجماعة
ثانياً: النبوة عند الكلابية والأشاعرة
ثالثاً: النبوة عند المعتزلة والشيعة
رابعاً: النبوة عند المتفلسفة وصوفيتهم
خامساً: النبوة عند الباطنية
- المطلب الخامس: الإيمان بالأنبياء والمرسلين من أركان الإيمان
- المطلب السادس: الإسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين
- المطلب السابع: المعجزات
- المطلب الثامن: ما ألَّف في النبوات.
المبحث الثاني: التعريف بالمؤلِّف
- المطلب الأول: حياة المؤلف الشخصية، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اسمه ونسبه
المسألة الثانية: ولادته، ونشأته، وأسرته
المسألة الثالثة: صفاته الخَلقية
المسألة الرابعة: صفاته الخُلقية
هيئته ولباسه وكرمه
عفوه ومسامحته
- المطلب الثاني: حياة المؤلف العلمية، وفيه مسائل
المسألة الأولى: نشأته العلمية
المسألة الثانية: أبرز شيوخه
المسألة الثالثة: أشهر تلاميذه
المسألة الرابعة: أشهر مؤلفاته
المسألة الخامسة: اهتمام شيخ الإسلام بالتأليف في جانب العقيدة
المسألة السادسة: علماء توقعوا الذيوع والانتشار لكتب شيخ الإسلام
المسألة السابعة: الأيام الأخيرة لشيخ الإسلام، ووفاته
المبحث الثالث: دراسة الكتاب
- المطلب الأول: التعريف بالكتاب
المسألة الأولى: تحقيق اسم الكتاب، وتوثيق نسبته، وتاريخ تأليفه
أولاً: تحقيق اسم الكتاب
توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه
تاريخ تأليف الكتاب
هل الكتاب ناقصٌ أم لا ؟
المسألة الثانية: سبب تأليف الكتاب، وفيها ترجمة موجزة للباقلاني، وتعريف بكتابه البيان
أولاً: سبب تأليف الكتاب(18/1)
ثانياً: ترجمة الباقلاني، والتعريف بكتابه البيان
المسألة الثالثة: منهج شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب النبوات
المسألة الرابعة: مصادر المؤلف في كتابه، والكتب التي أوردها، أو أشار إليها فيه
التعريف بالأصل المخطوط
طبعات الكتاب
عملي في الكتاب
فصل في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم
طرق النظار في التمييز بينها وبين غيرها
قول المعتزلة
من اشتهر عنهم إنكار الكرامات
الردّ عليهم
قول الأشاعرة في الفرق بين المعجزة وغيرها
من أصول الأشاعرة، والرد عليهم
طريقة الفلاسفة في المعجزات
الرد على من فرق بين المعجزة والكرامة بفروق ضعيفة
الخوارق ثلاث مراتب
كرامات الأولياء معجزات للأنبياء
من أسباب تأليف الكتاب
الحكمة من مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم
الفرق بين خبر الرسول وخبر الجنّ
أقسام الخوارق
الآيات الخارقة جنسان
هل الخوارق تدل على صلاح صاحبها أم لا ؟
تنازع الناس في الخوارق..
تنازع الناس في ولاية المعين على قولين
أقوال الناس في الشهادة لمعين بالجنة
الشهادة لمعين بالجنة، وفيها ثلاثة أقوال
الخوارق ثلاثة أنواع
العبد الرسول أكمل من الملك الرسول
فصل: آيات الأنبياء مختصة بهم لا يشركهم فيها أحد
معنى خارق العادة
معنى الكهانة
خوارق بعض المتنبئين
المشركون ليس معهم دليل سمعي
المشركون ليس معهم دليل عقلي
الفرق بين المعجزة وخوارق الكهان
شبهة من قال: القرآن شعر
مدعي النبوة يستعين بالشياطين
الفرق بين النبي والساحر
من خصائص معجزات الأنبياء أنه لا يمكن معارضتها
الفلاسفة لا يعرفون النبوة
جوابان عن سبب عدم معرفة الفلاسفة الرسل
من طرق معرفة النبي بأحواله وجنسها
من أقرّ بجنس الأنبياء يلزمه الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فصل: ومن آياته نصر الرسل على قومهم
الخليلان هما أفضل الرسل
فصل: في آيات الأنبياء وبراهينهم
الرد على الباقلاني في كتابه البيان
من شرط المعجزة عند الأشاعرة
مناقشة الباقلاني في تعريف المعجزة(18/2)
رد شيخ الإسلام على الأشاعرة
كلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر
قول الباقلاني: باب: القول في الفصل بين المعجز والسحر
قال الباقلاني: إذا احتج الساحر بالسحر وادعى النبوة أبطله الله
مناقشة شيخ الإسلام له
رد شيخ الإسلام على الباقلاني من وجوه
قول شيخ الإسلام: وهذا مستدرك من وجوه:
الوجه الأول، والثاني، والثالث، والرابع
الوجه الخامس
الوجه السادس، والسابع
متأخرو الأشاعرة سلكوا طريق الضرورة في معرفة النبيّ
رد شيخ الإسلام عليهم، وبيانه لضعف هذا الجواب من وجوه أربعة
حكمة الله تمنع ظهور المعجزات على يد الكذاب
الرد على من قال: لا دليل على صدق الأنبياء إلا المعجزات
الله قادر على خلق الخوارق على يد الكذاب لكنه لا يفعل لحكمته
الأشاعرة ينفون حكمة الله سبحانه وتعالى
الوجه الثامن: حقيقة المعجزة عند الأشاعرة
الوجه التاسع
فصل: في أن الرسول لا بدّ أن يبين أصول الدين
قول الإمام أحمد في أصول الإسلام
أهل الكلام يوجبون النظر
نهيه المتكلمين عن إيمان المقلد
دليل الحوادث عند المتكلمين ونقده
الاستدلال الفاسد الذي أصله المتكلمون
دليل الحوادث
المتكلمون جعلوا أصل دينهم النظر في الأعراض وحدوث الأجسام
الرسول لم يدع الخلق إلى هذا الدليل
طعن الرازي على من قال لا يُعلم حدوث العالم إلاّ بهذا الطريق
من أنكر سلوك هذا الطريق من العلماء
دليل الأعراض وحدوث الأجسام يوجب اعتقادات ولوازم باطلة
الجهمية التزموا لأجلها نفي الأسماء والصفات عن الله سبحانه وتعالى
المعتزلة التزموا نفي الصفات
الفلاسفة قالوا بقدم العالم
القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر
الكلابية والأشاعرة يثبتون الصفات العقلية ويؤولون صفات الأفعال
من قال: العرض لا يبقى زمانين
ما وقع بين ابن خزيمة والكلابية
افتراق الأمة بسبب طريقة الأعراض
ذم السلف لأهل الكلام والمتكلمين
حذاق الطوائف بيَّنوا فساد طريقة الأعراض(18/3)
الفلاسفة تسلّطوا على المتكلمين بسبب فساد طريقة الأعراض
القائلون بقدم العالم من الفلاسفة
أثر طريقة الأعراض على المتصوفة
الإلهية عند الأشعري القدرة على الخلق
الرد عليه
من أنكر محبة الله
الذين غلطوا في مسمى المحبة والإرادة فسووا بينهما
حقيقة قولهم أن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان
الذين أوجبوا النظر أعرضوا عن طريق الرسول
الإرادة تُطلق على ثلاثة أمور
الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان طريق عقلي صحيح
الأشعري بنى أصول الدين على دليل الحوادث
الأشعري بنى أصول الدين على كون الإنسان مخلوقاً محدثاً..
المتفلسفة سلكوا طريق الإمكان والوجوب
المتفلسفة أشد مخالفة للعقل والسمع من المتكلمين
طريقة الجهمية في خلق الإنسان هي تركيب الجواهر لا إحداثها
الطرق العقلية التي يستدل بها الرازي على إثبات الصانع
الطرق التي ذكرها الغزالي على إثبات الصانع
الناس في خلق الشيء: هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع وافتراق على ثلاثة أقوال:
أولاً: قول المتكلمين
ثانياً: قول الفلاسفة
أقسام الموجودات عند الفلاسفة
حيرة المتكلمين والفلاسفة في خلق الشيء من مادة
قول الفلاسفة في المادة
قول المتكلمين في الجواهر
رد شيخ الإسلام عليهم
المخلوق عند المتكلمين والفلاسفة
الجواهر والأعراض عند المتكلمين
اضطرابهم عند البعث
اضطرابهم إذا أكل حيوان إنساناً
التحقيق في مسألة المادة
لفظ المادة مشترك
إفناء الأعراض والجواهر عند المتكلمين
الرد على الجهمية
الإمكان نوعان
التبديل نوعان
الذين أوجبوا النظر
الرسول لم يُوجب النظر
الذين ضلوا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم
الناس أربعة أصناف
الذين أنكروا محبة الله حزبان
الحزب الأول
الحزب الثاني
الرد عليهم من وجهين
أقسام الناس في المحبة
لفظ الإسلام
حقيقة دين الإسلام
الذين أنكروا المحبة لهم شبهتان
الشبهة الأولى
الرد عليهم
معنى اسم الودود
الأدلة على أن الله يُحبّ عباده، وأنهم يُحبّونه(18/4)
من نفى الصفات الاختيارية لهم في المحبة قولان
معنى الحنان والمنان
القسمة في المحبة رباعية
الشبهة الثانية لمن ينكر المحبة
الفلاسفة يصفون الله بالابتهاج والفرح، ولكنهم قصروا في ذلك
الرد على الفلاسفة من ثلاثة أوجه
الوجه الأول
فصل: ومن تمام القول في محبة الله وانقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره..
لفظ الدعاء في القرآن
اللذات عند الفلاسفة ثلاث
الغزالي بين المسلمين والفلاسفة
الغزالي جعل السلوك إلى الله ثلاثة منازل
نقد شيخ الإسلام للغزالي
فلاسفة الصوفية الذين تأثروا بكلام الغزالي
ذم ابن رشد للغزالي
ذم القشيري للغزالي
العلماء الذين ذموا الغزالي
مراتب الناس عند ابن سبعين
بعض عقائد ابن عربي
المضنون به على غير أهله: فلسفة محضة
سبب تأليف بغية المرتاد (السبعينية)
ابن تومرت يقول بالجود المطلق
أحاديث موضوعة
الوجه الثاني من أوجه الرد على الفلاسفة
الوجه الثالث من أوجه الرد على الفلاسفة
السعادة: العلم بالله وما يقرّب إليه
السعادة متضمنة لأمرين
خير القرون
خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم
معنى البأس
دين الإسلام
الإسلام دين جميع الأنبياء
معنى الإسلام
أهل الإيمان
أهل البدع
البدع نوعان
الجهمية أصل دينهم المعقولات
الكلام في أفعال الرب
أحاديث النهي عن التنازع في القدر
شبهة من ينكر صفات الله
الرد عليهم
مناقشة من ينفي الحكمة
فصل: الرد على من نفى المحبة والحكمة والإرادة
مناقشة من ينفي المحبة، الحكمة، والإرادة، والفعل
صفة المحبة
صفة الضحك والبشبشة
الحسن والقبح عند الأشاعرة
التحسين والتقبيح عند المعتزلة
معنى الكسب عند الأشاعرة
معنى الظلم عند الأشاعرة
من أصول الأشاعرة
فصل: العدل والحكمة أصل داخل في جميع أبواب الدين
عدل الله، وحكمته، وتعليل أفعاله: أصل داخل في جميع أبواب الدين..
حكم أطفال المشركين
تنازع الناس في معنى الظلم
اضطراب الأشاعرة في النبوات
القول بتكليف ما لا يُطاق(18/5)
الأشاعرة عمدتهم في السمعيات الإجماع
الباقلاني لم يعتمد في تنزيه الأنبياء على دليل عقلي ولا سمعي
فصل: مناقشة الأشاعرة في المعجزات
طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات
فصل: المعتزلة جعلوا الخارق لا يكون إلا للرسول
المعتزلة جعلوا الآيات هي الطريق لمعرفة الرسول فأنكروا الكرامات، والسحر، والكهانة..
الأشاعرة جعلوا جنس المعجزة والكرامة وخوارق السحرة واحد..
تعريف المعجزة عند الأشاعرة
مناقشة شيخ الإسلام لهم من وجوه:
الوجه الأول
الوجه الثاني
الوجه الثالث: جعلوا المعجزة: دعوى النبوة مع عدم المعارضة
الوجه الرابع: الكاذب لا بد أن يتناقض
الوجه الخامس: آيات النبي مختصة بالأنبياء
إهلاك أعداء الرسل دليل على صدقهم
أشراط الساعة من آيات الأنبياء دليل على صدقهم
الكاهن، والفرق بينه وبين النبي
الوجه السادس: كثير من الكذابين أتوا بخوارق، وادعوا النبوة، ولم يُعارضوا..
الوجه السابع: آيات الأنبياء ليس من شرطها الاستدلال بها والتحدي
آيات الأنبياء قد تكون لحاجة المسلمين
آيات إبراهيم كانت بعد نبوته
الوجه الثامن، والوجه التاسع
كرامات الأولياء من دلائل النبوة
الوجه العاشر: آيات الأنبياء خارقة لغير الأنبياء
الملائكة تنزل على الأنبياء، والشياطين تنزل على الكذابين
الفلاسفة جعلوا للنبوة ثلاث خصائص
الفرق بين النبي والساحر عند الفلاسفة
الفلاسفة والأشاعرة أدخلوا مع الأنبياء من ليس بنبيّ
حيرة الرازي
الوجه الحادي عشر: آيات الأنبياء مختصة بهم
نصر الله الرسل والمؤمنين بهم، وإهلاك مكذبيهم: من آياتهم
الكعبة لها خاصية ليست لغيرها، فهي من آيات الله
الأشاعرة جعلوا المعجزة دلالة وضعية، ولم يجعلوها عقلية، ولا تدل بجنسها..
رد شيخ الإسلام عليهم
سنة الله في التفريق بين الأنبياء وبين مكذبيهم
القرآن معجزة الرسول الخالدة
جنس الأنبياء متميزون عن غيرهم بالآيات
هل الكتب السابقة معجزة، أم لا ؟(18/6)
مدّعوا النبوة لا يأمرون بما أمرت به الأنبياء، ولا ينهون عما نهت عنه
آيات الأنبياء كثيرة ومتنوعة
الوجه الثاني عشر: ما يأتي به السحرة والكهان فهو مقدور للإنس والجنّ...
خوارق أولياء الشيطان
آيات الأنبياء لا يقدر على مثلها الجن والإنس
ليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين
رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضل مما أُعطي سليمان - عليه السلام -
أنواع استخدام الجنّ
سبب كرامات الأولياء
المقصود من الإسراء
فصل: مما يبين ضعف طريقة الأشاعرة أنهم جعلوا المعجزة لا تدل بجنسها
قول الأشاعرة في المعجزات
تعليق شيخ الإسلام على قولهم
السبر والتقسيم يُعلم به الدليل
تقسيم الأشاعرة للأدلة إلى وضعية وعقلية
معنى الدليل
الدليل قد يدلّ بمجرده، وقد يدلّ بقصد الدالّ على دلالته
لم يُنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم التحدي إلا في القرآن
كرامات الأولياء معجزات لنبيهم
أجزاء الدليل على صدق النبي عند الأشاعرة
فصل: كلام الباقلاني في المعجزات، ومناقشة شيخ الإسلام له
أدلة من نفوا الكرامات، والرد عليهم.
سبب عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب عند المعتزلة والأشاعرة
قول شيخ الإسلام في عدم ظهور المعجزات على يد الكاذب
الرد على القدرية في قولهم: لو جوزنا عليه الإضلال، لجاز أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين...
الله جعل الأشياء متلازمة، وكل ملزوم دليل على لازمه
التمييز بين الصادق والكاذب
فصل: الفروق بين آيات الأنبياء وغيرها
فصل: ما ابتدعه المتكلمون وغيرهم مما يُخالف الكتاب والسنة: باطل
ما يخالف الكتاب والسنة فهو باطل
خطبة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن العلماء
أهل البدع مخالفون للكتاب والسنة
ظهور القدرية والمرجئة
ظهور الخوارج
الأحاديث في الخوارج
اتفاق الصحابة على قتال الخوارج
الصحابة على ثلاثة أقوال في فتنة الجمل وصفين
السنة دلّت على أن علياً أولى الطائفتين بالحق
الأحاديث الدالة على ترك القتال في الفتن(18/7)
بقاء طائفة من أهل الحق إلى يوم القيامة
قول الإمام أحمد في أهل المغرب أنهم أهل الشام
قتال صفين من أي أنواع القتال كان ؟
قتال البغاة
أنواع المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
الكلام في الخوارج
معنى مروق الخوارج من الدين
الخوارج لا يكفرون
قول سعد بن أبي وقاص في الخوارج
إحراق علي لمن ادعى فيه الألوهية
انتقاد ابن عباس لعلي في إحراقهم بالنار
ابن السوداء وإفساده لدين الإسلام
من سب أبا بكر وعمر ففيه زندقة
هل يقتل من سب أبا بكر وعمر.. المسألة فيها تفصيل
قدماء الشيعة يفضلون أبا بكر وعمر
شيعة علي وشيعة عثمان متفقون على تقديم أبي بكر وعمر
قول علي في تفضيل أبي بكر وعمر
قتال علي للغالية الذين يعتقدون إلهيته
بدعة القدرية حدثت في آخر عصر الصحابة
بدعة المرجئة في الإيمان
بدعة الجهمية حدثت في أواخر الدولة الأموية
أصول البدع عند السلف
الجهمية ليسوا داخلين في الثنتين والسبعين فرقة عند كثير من السلف
الجهمية ينفون الأسماء والصفات
المعتزلة يثبتون الأسماء وينفون الصفات
ابن كلاب وأتباعه أثبتوا الصفات العقلية ونازعوا في الصفات الاختيارية، فوافقوا جهماً في بعض قوله
معتقد السالمية والكرامية
الكرامية والكلابية وأكثر الأشعرية مرجئة
الأشعري وأصحابه يوافقون جهماً في بعض قوله في الإيمان
كسب الأشعري
جهم يقول بالجبر
عجائب الكلام
قول الكرامية في الإيمان لم يُسبقوا إليه
منشأ الغلط في أقوال أهل البدع في الإيمان أنهم جعلوه شيئاً واحداً إذا ذهب بعضه ذهب سائره
قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان
قول الجهمية والمرجئة في الإيمان
أصل غلط أهل البدع في الإيمان جعلهم مما يتماثل الناس فيه
الناس غير متماثلين في فعل المأمور
الإيمان يزيد وينقص
مخالفة أهل البدع لأصول دين الرسول
اشتراك أهل البدع في دليل الأعراض
أول من قال بدليل الأعراض
اللوازم التي التزموها في إثبات دليل الأعراض(18/8)
الجهمية والمعتزلة نفوا بدليل الأعراض صفات الله وقالوا بخلق القرآن
قول الأشعري أن الصفات أعراض
قول ابن كلاب في كلام الله
قول السالمية في كلام الله
قول الهشامية والكرامية في كلام الله
قول أئمة السنة والحديث في كلام الله
المتكلمون مخالفون للكتاب والسنة فيما اتفقوا فيه أو تنازعوا
المتكلمون في مسألة القرآن لا يعرفون إلا أقوال أهل البدع، لا يعرفون قول أهل السنة والجماعة
المتكلمون يعتمدون على القياس وعلى الإجماع
إجماع المتكلمين إنما هو على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم
المجتهدون الذين يُعتبر بهم
من شذّ بقول فاسد عن الجمهور، ففي الكتاب والسنة ما يُبيِّن فساد قوله...
القول الذي يدلّ عليه الكتاب والسنة غير شاذّ، وإن كان القائل به واحداً...
العلامات والدلائل التي يبين بها للمرسَل الرسول
جنس خرق العادة لا يستلزم الإكرام
قول الباقلاني في تقسيم العادات إلى عامة وخاصة
قول الأشاعرة: إن المعجز إقدارهم على الفعل، لا نفس الفعل
نقد شرطهم
الأشاعرة أثبتوا للعبد قدرة غير مؤثرة
أبو المعالي والرازي تركا هذا الشرط في المعجزة
قول الباقلاني: خرق العادة يكون لجميع الذين تحداهم الرسول
مناقشة الأشاعرة في شروطهم للمعجزة
طريق الضرورة لإثبات النبوة
تعريف المعجزة عند الأشاعرة وشروطها
مناقشة شيخ الإسلام لشروط المعجزة عند الأشاعرة
الرد على شروط الباقلاني التي اشترطها في المعجزة
آيات الأنبياء وإن لم يتحدّوا بها، فهي دلائل على النبوة
تعريف الدليل
كرامات الأولياء من آيات الأنبياء
ليس من شرط دلائل النبوة اقترانها بدعوى النبوة أو التحدي بها
الدليل ما يستلزم وجود المدلول عليه
الأشاعرة يجعلون الفرق بين جنس المعجزات والكرامات، وخوارق السحرة: ادعاء النبوة، وإلا فالجنس واحد عندهم
رد شيخ الإسلام عليهم
الساحر والكاهن لا يأتي إلا بالفجور
من الفروق بين آيات الأنبياء وبين خوارق السحرة والكهان
الأشاعرة سووا بين الأجناس الثلاثة(18/9)
النبي عند الأشاعرة
من أصول الأشاعرة
الغزالي عدل في النبوة عن طريق المتكلمين إلى طريق الفلاسفة
مقارنة بين الأشاعرة والفلاسفة في النبوات
من أسباب ظهور الفلاسفة على المتكلمين
فصل: قد بيَّن الله أصول الدين في القرآن الكريم
الذين خالفوا الرسول ليس معهم سمع ولا عقل
ما جاء به الرسول يدل عليه السمع والعقل
ذم السلف لأهل الكلام
من الناس من ظنّ أن السلف أنكروا كلام القدرية فقط
ذم الشافعي وأحمد لكلام الجهمية
أصول أهل الأهواء
السلف لم يذموا جنس الكلام
متى تكون المجادلة
المبتدعة أصلوا أصولاً تخالف الكتاب
ندم الرازي وحيرته
نقد شيخ الإسلام للرازي
المتكلمون يستعملون السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
طرق إثبات النبوة عند الرازي
المتكلمون لم يعرفوا الفرق بين آيات الأنبياء ومخالفيهم
المتكلمون ليس في كتبهم إثبات الربوبية ولا المعاد
نقد شيخ الإسلام لكتب المقالات، والمقارنة بين أصحابها
الأشعري أعلم من الشهرستاني بالمقالات
الشهرستاني أعلم من الغزالي بالمقالات
الغزالي حصر أهل العلم الإلهي في أربعة أصناف
ابن رشد حصر أهل العلم الإلهي في ثلاثة أصناف
ملاحدة الصوفية
قولهم في الصحابة لأنهم لم يتكلموا بمثل كلامهم
قول ابن مسعود رضي الله عنه في الحث على التمسك بهدي الصحابة رضي الله عنهم..
فضل الصحابة
الهدى والبيان والبراهين في القرآن
الهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان
النبوة عند المتكلمين
ردود شيخ الإسلام على المتكلمين، ومنها نقض التأسيس
سبب تأليف درء تعارض العقل والنقل
سبب تأليف شرح الأصفهانية
سبب تأليف الجواب الصحيح
الرسول أُرسل بالبينات والهدى
إذا خاطب الله سبحانه وتعالى جنس الإنس، ذكر جنس الأنبياء
التوراة أُنزلت بعد غرق فرعون
الآيات القولية والفعلية
من الفروق بين الأنبياء والسحرة
الرسول بيَّن للناس الأدلة والبراهين الدالة على أصول الدين
الناس في معرفة الله وتوحيده على ثلاثة أقوال(18/10)
أعدل الأقوال في المسألة
فصل: حكمة الله وقدرته
الحجة على من أنكر قدرة الله وحكمته
الحكمة من جعل الرسل من البشر
طرق الناس في دلالة المعجزة على صدق الرسول
معنى الرسول في اللغة
ليس كل من أوحي إليه الوحي العام يكون نبياً
معنى المحدّث والملهم
الذين غلطوا في النبوة
الفلاسفة والباطنية والملاحدة من أبعد الطوائف عن النبوة
خصائص النبوة عند الفلاسفة
ابن سينا جعل للنبي ثلاث خصائص
النبوة عند الفلاسفة
الغزالي يحذّر من الفلاسفة، وربما أخذ بأقوالهم
الفرق بين الرسول والساحر عند الفلاسفة
القوة الفعالة عند الفلاسفة تحصل للساحر
أرسطو وأتباعه لم يعرفوا الأنبياء وآياتهم، لكن السحر موجود فيهم
النبوة عند الفلاسفة مكتسبة، وصوفيتهم يطلبونها
النبوة الحقة
وقائع دخول الجن في الإنس أكثر من أن تحصى
من الفروق بين النبي والساحر
جنة آدم في السماء أم في الأرض
أصح الأقوال في جنة آدم
لفظ الجنة في القرآن
جنة الجزاء مخلوقة
الرد على من أنكر ذلك
الإيمان بنعيم القبر وعذابه
ملاحدة الصوفية، وكلامهم في النبوة
الفرق بين الرسول والنبي
أول رسول بعث إلى المشركين
أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة
الفرق بين الرسول والنبي
ليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة
الإرسال اسم عام
لفظ البعث
فصل: معنى الدلائل والآيات
الدليل هو الآية والبرهان
المخلوقات آيات للرب
كل مخلوق علامة على ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته ووحدانيته
الفرق بين الآية والقياس
ثلاثة أقوال في معنى الآية
آيات القرآن
معنى الآية في العرف
صلاة الكسوف
فصل: الدليل ينقسم إلى ما يدلّ بنفسه، وإلى ما يدلّ بدلالة الدال به
الأدلة العقلية والأدلة الوضعية
الآيات التي تدل بنفسها مجردة نوعان
أنواع القياس
الدليل قد يكون أكثر من مقدمة
لفظ الآيات
القسم الثاني: الدلالة القصدية
فصل: النوع الثاني: ما يدل بقصد الدال به
الدلالة القصدية نوعان:
النوع الأول من الدلالة القصدية
لفظ السيما(18/11)
النوع الثاني من الدلالة القصدية
الدليل مستلزم للمدلول
فصل: خاصة الدليل أن يكون مستلزماً للمدلول
فصل: آيات الأنبياء علامات وبراهين من الله
الله سبحانه وتعالى دل عباده بالدلالة العيانية والمسموعة
تعريف المعجزة عند شيخ الإسلام
فصل: آيات الأنبياء لا توجد إلا مع النبوة
آيات الأنبياء: أدلة، وبراهين
تعريف الآية
فصل: الله سماها آيات وبراهين، لم يكن لفظ المعجزات موجوداً
الله سبحانه لم يُسمّ آيات الأنبياء معجزات
أقوال الناس في تسمية آيات الأنبياء خوارق
مناقشة شيخ الإسلام للباقلاني
حقيقة قول الأشاعرة في النبوة
تعريف الأشاعرة للمعجزة
رد شيخ الإسلام عليهم بجوابين
عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها
آيات الأنبياء منها ما يكون قبل ولادتهم وبعد موتهم
تعريف الأشاعرة لدليل النبوة
الأشاعرة لم يقيموا دليلاً على ثبوت الأنبياء ووجود الرب
الفرق بين النبي والساحر عند الأشاعرة
الفرق بين المعجزات والسحر عند الأشاعرة
قول شيخ الإسلام رحمه الله في آيات الأنبياء
الفرق بين المعجزات والكرامات
الآيات قسمان: كبرى وصغرى
الآيات الكبرى مختصة بالأنبياء
الآيات الصغرى قد تكون للصالحين
نقد شيخ الإسلام للأشاعرة في النبوات
الغزالي عدل عن طريقة الأشاعرة بالاستدلال بالمعجزات
قول الإمام أحمد في علماء الكلام
الأنبياء قد يتماثلون في الآيات
الآية مستلزمة لصدق النبي وثبوت نبوته
أثبت بعضهم واسطة بين الصدق والكذب
كل من تكلم بلا علم فهو كاذب
الكذب يأتي بمعنى الخطأ
الذنب إذا كُتم لم يضرّ إلا صاحبه
الناس فيمن قال إني رسول: قسمان؛ إما مصدّق، وإما غير مصدق
بعض الآيات التي يختص بها النبي عن غيره من الأنبياء
بعض الآيات التي اشترك فيها كثير من الأنبياء
كرامات الأولياء: هل هي من آيات الأنبياء أم لا؟ في ذلك قولان..
فصل: معنى خرق العادة
خوارق الكهان والسحرة ليست من خوارق العادة، وإنما هي من العجائب الغريبة..
مكذبوا الرسل(18/12)
سبب الغلط في آيات الأنبياء
لم يُسمّ الله آيات الأنبياء معجزات، وإنما آيات وبراهين
معنى التعجب
آيات الأنبياء لا نظير لها لغيرهم
السحر والكهانة من إعانة الشياطين لبني آدم
الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه
أصحاب الأحوال الشيطانية عارضوا الأنبياء
الكهانة عند العرب
الأنبياء تعينهم الملائكة، والسحرة تعينهم الشياطين
النبوة عند الفلاسفة
الفلاسفة لم يعرفوا صرع الجن للإنسان
أصول الجهمية
معنى التحدي
طاعة الجن لسليمان عليه السلام طاعة ملكية
طاعة الجن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم طاعة نبوية
حال نبينا مع الجن والإنس أكمل من حال سليمان وغيره
فصل: في خوارق العادات هل تكون خاصة للنبي، أو له ولغيره
الذين سموا آيات الأنبياء خوارق لابدّ أن يخصوا ذلك بالأنبياء دون غيرهم..
الفرق بين النبي والمتنبي
أنواع آيات الأنبياء
الرد على من قال: من شرط آيات الأنبياء أن تقارن دعوى النبوة
أشراط الساعة من آيات الأنبياء
كل خرق عادة لجميع الناس آية للرسول
الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه من آيات الرسول
من أنكر خوارق الدجال وقال عنها إنها خيال
خوارق المتنبئين من جنس خوارق السحرة
التحدي بالقرآن الكريم
اعتراض، وجواب المؤلف عليه
كل ما استلزم نبوة الأنبياء فهو آية لهم
تنوع آيات الأنبياء
كرامات الأولياء من آيات الأنبياء الصغرى
مسمّى العادة
فصل: معنى العادة
سنة الله وعادته
الذين ينفون الحكمة يُجوّزون عليه فعل كلّ ممكن
تعليق المؤلف على كلامهم
اضطراب الأشاعرة في التفريق بين آيات الأنبياء وخوارق غيرهم
فصل: دليل الشيء مشروط بتصور المدلول عليه
اشتقاق كلمة النبي
عصمة الأنبياء
التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من غيرها
لفظ النبي يتضمن معنى الإعلام والإخبار
معنى النبي في اللغة
هل لفظ النبي مهموز أم لا ؟
فصل: طرق الناس في دلالات المعجزة على النبوة
دلالة المعجزات على نبوة الأنبياء(18/13)
كثير من الناس يعلم صدق النبي بلا آية
المسلك النوعي
المسلك الشخصي
طريق الحكمة في معرفة صدق الأنبياء
قياس الأولى
إثبات صفة الإكرام، والأكبر، والأعلى
قياس الأولى
دلالة الآيات من جهة حكمة الله سبحانه وتعالى
فصل: دلّ القرآن على أنه سبحانه لا يؤيد الكذاب..
سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه
من عدل الله
من أعظم الافتراء على الله
أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسل الله
فصل: الاستدلال بالحكمة
الوفاء باليمين وكفارته
استطالة الفلاسفة على المتكلمين
مشيئة الله وقدرته
الإمكان الذهني
الإمكان الخارجي
وقوع ما قدره الله واجب من جهات
الحكمة، والعدل، والرحمة تعلم بالعقل
الجهمية يُنكرون الحكمة والعدل والرحمة
العقلاء يستدلون بصفات الرب على ما يفعله
الكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة
ظن السوء بالله
الأشاعرة ينفون الحكمة ويجوزون على الله فعل كل شيء
جوابان لمن يظن بالله ظن السوء
معنى الإحكام والإتقان
الفلاسفة يُثبتون العناية والحكمة الغائية
المتكلمون يُثبتون الحكمة في مخلوقاته
إثبات صفة العلم والإرادة والحكمة بالعقل
تناقض الفلاسفة الذين يثبتون الإحكام وينفون الحكمة
مقتضيات صفة العلم لله
إثبات الإرادة مستلزم إثبات الحكمة
حكمة الله من لوازم ذاته
البراهين اليقينية على أن الله لا يفعل خلاف الحكمة والعدل، ولا يُسوّي بين الصادق والكاذب
الأشاعرة يجوزون على الله عقلاً أن يسوي بين الصادق والكاذب
الأشاعرة يجوزون على الله عقلاً أن يعذب المؤمنين، ولكن عُلم بالسمع أنه لا يفعل..
الطريقة الأولى عند الأشاعرة في دلالة المعجزة
الطريقة الثانية
دليل القدرة في إثبات النبوة
صفة الكلام لله
الكلام النفسي عند الأشاعرة
أصول الأشاعرة السمعية
أصول الأشاعرة العقلية
العادة
العقل عند الأشاعرة
الرد على الأشاعرة في النبوات
الأشاعرة يوردون الشبهات، ولا يستطيعون الرد عليها
المعتزلة غلطوا من جهات(18/14)
الغزالي ترك طريقة الأشاعرة في الاستدلال بالمعجزات على ثبوت النبوة
النبوة التي يثبتها االغزالي هي نبوة الفلاسفة
الرازي متردد بين نبوة الفلاسفة والأشاعرة
اعتراف الرازي في آخر مصنفاته
أقوال المخالفين يستفاد منها في بيان فساد قول كل طائفة
فصل: ومن حكمة الرب وعدله إنما يرسل من اصطفاه لرسالته
حكمة الله وعدله في إرسال الرسل
الأدلة والبراهين نوعان
آيات الأنبياء يمتنع وجودها بدون صدق النبي
يمتنع دليل الصدق مع عدم الصدق
آيات الأنبياء مع عدم النبوة، وكلام الله بدون إرادة تلك المعاني، كل ذلك ممتنع من عدة وجوه...
أفعال الرب إما واجبة، وإما ممتنعة
الله منزه أن يفعل ما يناقض حكمته
الأشاعرة يمتنع على أصولهم أن يكون كلام الرب دالاً على مراده، أو تكون آياته دالة على صدق الأنبياء...
تعريف المعجزة عند الأشاعرة
صفة الإرادة
قدرة الله في عدم المساواة بين الصادق والكاذب
الأشاعرة استدلوا بمقدمتين
خلاصة الكلام في الموضوع
من لم يثبت الحكمة يلزمة أن ينفي الإرادة والمشيئة والقدرة
اضطراب كلام من نفى حكمة الله في آيات الأنبياء، وفي كلامه
فصل: الاستدلال بسنة الله وعادته سبحانه في معرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب..
سنة الله في نصر الأنبياء وأتباعهم، وإهلاك من كذبهم أو كذب عليهم..
معنى الدأب
فصل: آيات الأنبياء مستلزمة لثبوت النبوة
آيات الأنبياء يلزم من وجودها وجود الأنبياء
الدليل مستلزم للمدلول
التلازم بين نبوة العين وجنس النبوة
دليل عقلي
العلم الضروري والنظري
أقوال الناس في النبوة: هل هي صفة ثبوتية أم إضافية
قول أهل السنة في النبوة
فصل: جميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة
خوارق السحرة والكهان مناقضة للنبوة، ولا تخرج عن مقدور الجن والإنس...
مقدورات الجن والإنس
بعض خوارق الشياطين لأوليائهم
كرامات الصالحين من جهة السبب والغاية
الجن الذي يطيعون الإنس وتستخدمهم الإنس ثلاثة أصناف(18/15)
أصناف طاعة الجن للإنس
هل يكون من الجن رسل ؟
إسلام الجن، واجتماعهم بالرسول صلى الله عليه وسلم
كفار الجن يدخلون النار باتفاق العلماء
أقوال العلماء في مؤمن الجن
هل الجن يدخلون الجنة ؟
مراتب الجن وأنواعهم
سبب صرع الجن
خوارق الشياطين سببها الشرك والظلم
الشياطين لا سلطان لهم على أهل الإخلاص
أسباب اندحار الشياطين
الشياطين تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد
خوارق الشياطين لأوليائهم لا تظهر أمام أهل القرآن والإيمان
طرق خروج الجن من الإنس
الشياطين يخافون من الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الإنس
أماكن الشياطين
الأماكن والأزمان التي لا تتسلط فيها الشياطين
آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجن
خوارق الشياطين علامة على فجور أوليائهم
الفرق بين الأحوال الشيطانية والآيات النبوية
الدعوات المجابة، والرؤيا الصادقة لا ينكرها أحد
بعض المتصوفة يدعي من الكرامات ما لا يجوز أن يكون للأنبياء
أقسام الناس في خوارق الفجار
إنكار المعتزلة للكرامات والسحر والكهانة
قول الأشاعرة في الخوارق
كل علم نظري فمنتهاه أنه ضروري
أصل خطأ المعتزلة والأشاعرة في الخوارق
الفرق بين النبي والساحر عند الفلاسفة
معجزات الأنبياء عند الفلاسفة
معنى الكاهن
القرآن أخبر بالسحر، بخلاف الكهانة
معنى الكاهن عند العرب
اسم الكاهن ليس بذم عند أهل الكتاب
من الفروق بين النبي والساحر
صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة
المراد بالتوراة
الجني يُري قرينه نظير الشيء ليس عينه
تمثل الجني بصورة الإنسي
تمثل الشيطان بإنسي، ودعواه أنه الخضر
لم يقل أحد من الصحابة إنه رأى الخضر
مناداة عمر رضي الله عنه: يا سارية الجبل
التأييد من الملائكة بحسب الإيمان
الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه
الإنسان بصلاحه يؤيده ملكه على شيطانه
المتكلمون لم يعرفوا قدر آيات الأنبياء
الرد على الأشاعرة
آيات الأنبياء لا يتوصل إليها بسبب(18/16)
من الفروق بين آيات الأنبياء، وبين خوارق السحرة والكهان
الأنبياء كملوا الفطرة،ومخالفوهم أفسدوا الحس والعقل والخبر
مخالفوا الأنبياء قسمان:
1- أصحاب أحوال شيطانية
2- أصحاب كلام وحال بهتاني
أصحاب الحال الشيطاني
أصحاب الكلام والمقال البهتاني
أصل أهل الكلام: دليل الحوادث
قول أهل الكلام في بقاء المادة، وأنها لا تستحيل، بل تجتمع وتتفرق
قولهم إن الأعراض لا تبقى زمانين، وأنه لا يفنى شيء من الأعيان
الفلاسفة أضل من المتكلمين، وهم يجعلون ما في الذهن ثابتاً في الخارج
الفلاسفة أصول علمهم العقليات
المتكلمون أصول علمهم الحسيات(18/17)
القسم الثاني: التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين. قال شيخ الإسلام تقي الدّين بن تيميّة - رحمه الله:
فصل((
((في معجزات الأنبياء التي هي آياتهم وبراهينهم)) ((كما سماها الله آيات وبراهين))
...[فإنّ لهم(1) طرقاً](2) في التمييز بينها وبين غيرها، وفي وجه دلالتها.
طرق النظار في التمييز بين المعجزة وغيرها
أمّا الأول: فإنّ [منهم](3) من رأى [أنّ](4) [كلّ ما](5) يخرج عن الأمر المعتاد، فإنه معجزة؛ وهو الخارق للعادة إذا اقترن بدعوى النبوة.
وقد علموا أنّ الدليل مستلزمٌ للمدلول، فيلزم أن يكون كلّ من خُرِقت له العادة نبيّاً.
قول المعتزلة وغيرهم: إن العادة لا تنخرق إلا لنبي
[فقالت](6) طائفة(7): لا تخرق العادة إلا لنبي. وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان، وبكرامات الصالحين.
وهذه طريقة أكثر المعتزلة(8)
__________
(1) أي للنظّار؛ كما هو مثبتٌ في ((م))، و ((ط)).
(2) في ((م)) : وللنظّار طرقٌ. وفي ((ط)): للنظّار طرق - بإسقاط الواو.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(5) في ((خ)): كلما - موصولة.
(6) في ((ط)) فقط: قالت.
(7) وهم أكثر المعتزلة؛ كما سيأتي قول شيخ الإسلام رحمه الله في ذلك.
وهم يقولون إنّ الخوارق لا تظهر على يد غير الأنبياء.
يقول القاضي عبد الجبار:"إنّ العادة لا تُخرق إلا عند إرسال الرسل. ولا تنخرق لغير هذا الوجه؛ لأنّ خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث".
انظر: المغني في أبواب العدل والتوحيد، لعبد الجبار 15/189.
(8) المعتزلة: سموا بذلك لاعتزال رئيسهم واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري. وقيل لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أنّ الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. والأول أرجح. ولهم أصول خمسة اشتهروا بها، هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص20، 114. والملل والنحل للشهرستاني1/43. وخطط المقريزي 2/345. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 49.(19/1)
، وغيرهم؛ كأبي محمد بن حزم(1)، وغيره(2).
من اشتهر عنهم إنكار المعجزات
بل يُحكى هذا القول عن أبي إسحاق الاسفراييني(3)
__________
(1) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسيّ الأصل، الأموي مولاهم، القرطبي الظاهري. قال عنه الذهبي: "الإمام الأوحد، البحر ذو الفنون والمعارف، أبو محمد". ولد بقرطبة في سنة 384 ه، وتوفي سنة 456 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/184. وشذرات الذهب لابن العماد 3/299.
ولأبي محمد بن حزم قول في أنّ الخوارق لا تظهر على يد غير الأنبياء.
يقول: "... وأنّ المعجزات لا يأتي بها أحدٌ إلا الأنبياء عليهم السلام. قال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر، 78]..." المحلّى لابن حزم 1/36. وانظر: الفصل له 5/2-4، 8. والدر فيما يحب اعتقاده، له ص 192.
(2) مثل أبي عبد الله الحليمي. انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 370. ولوامع الأنوار للسفاريني 2/394.
وقال الإيجي في ((المواقف)) عن الكرامات: "وهي جائزة عندنا خلافاً للأستاذ أبي إسحاق، والحليمي منّا، وغير أبي الحسين من المعتزلة".
وأبو إسحاق الاستراباذي من أصحاب الشافعي. انظر: تفسير القرطبي 7/32.
(3) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني. الأصوليّ، الشافعيّ، الملقب: ركن الدين. من مصنفاته: جامع الخلي في أصول الدين، والرد على الملحدين في خمس مجلدات. توفي سنة 418 ه بنيسابور.
انظر: سير أعلام النبلاء 17/353. وشذرات الذهب 3/209. وطبقات الشافعيّة 4/256.
أمّا عن إنكاره لكرامات الأولياء؛ فقد ذكر الجويني في الإرشاد ص 319 أنه أنكر الكرامات. وذكر ذلك الذهبي عنه في السير، فقال: (وحكى أبو القاسم القشيري عنه أنّه كان يُنكر كرامات الأولياء، ولا يُجوّزها. وهذه زلة كبيرة). سير أعلام النبلاء 17/353.
وقال السبكي عنه: "ويزداد تعجبي عند نسبة إنكارها إلى الأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني، وهو من أساطين أهل السنة والجماعة، على أن نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب عليه. والذي ذكره الرجل في مصنفاته أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة". طبقات الشافعية للسبكي 2/315.
وكذلك ابن خلدون في مقدمته اعتذر لأبي إسحاق الاسفراييني بأن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً. مقدمة ابن خلدون 1/402.(19/2)
، وأبي محمد بن أبي زيد(1). ولكن كأنّ في الحكاية عنهما غلطاً(2).
وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين(3).
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي. ويُقال له: مالك الصغير. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب... وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأوّل". توفي سنة 386 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 17/10. وشذرات الذهب 3/131.
(2) وقد اعتذر الباقلاني قبل شيخ الإسلام لابن أبي زيد القيرواني، وكأنّه استبعد صدور ذلك عنه. انظر: البيان للباقلاني ص 5.
وممّن أنكرها: أبو منصور الماتريدي.
انظر كتاب السحر بين الحقيقة والخيال لناصر بن محمد الحمد ص 38.
وقد أوضح د/ محمد باكريم با عبد الله موقف ابن أبي زيد القيرواني من الكرامات، ولخّص المسألة، فقال: "ونخلص من ذلك إلى احتمالين :
الأول: أنّ ابن أبي زيد لم ينكر الكرامات الثابتة للصالحين، وإنّما أنكر ما يدّعيه أهل البدع من وقوع خوارق العادات، واعتبارها كرامات لهم؛ فلم يفهم كثيرٌ مقصودَه، ونسب إليه القول بإنكار الكرامات. وهذا الرأي يميل إليه الباقلاني، والقاضي عياض، وابن تيمية.
الثاني: أنه وقع منه ذلك لأسباب، منها: داعي المناظرة والجدل والإلزام، لكنه رجع عن ذلك. وهذا ما ذهب إليه الطلمنكي.
وعلى كلا الاحتمالين، فلا يعتبر منكراً لكرامات الأولياء؛ لأنّه إما لم يكن وقع منه أصلاً، أو يكون قد وقع منه، ورجع عنه. والله أعلم).
انظر تعليق الدكتور محمد باكريم با عبد الله على رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 228. وانظر مزيداً حول هذه المسألة: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض : 6/218، وكتاب الاستغاثة هامش: 1/46، تحقيق : عبد الله بن دجين السهلي، وقسم الدراسة من الجامع لابن أبي زيد القيراوني: ص 49-50.
(3) جنس المعجزات وجنس خوارق الكهان والسحرة.(19/3)
وهؤلاء يقولون [إن](1) ما جرى لمريم(2)، وعند مولد الرسول(3)[صلى الله عليه وسلم ]؛ فهو إرهاصٌ(4)؛ أي توطئةٌ، وإعلامٌ بمجيء الرسول، فما خُرقت في الحقيقة إلاّ لنبيّ.
الرد على من أنكر الكرامات
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) لقد أكرم الله تعالى مريم بكرامات كثيرة، منها :
1- إكرامها بالرزق؛ قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران 37]
2- حملها بعيسى عليه السلام بواسطة نفخ الملك، بدون أن يمسها بشر؛ قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء 91].
3- تبرئة ابنها لها، وكلامه في المهد؛ قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم 29-30 وما بعدها].
(3) فمما جرى عند مولده صلى الله عليه وسلم، ما أخرجه قوام السنة في دلائل النبوة، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه ، قال: قيل: يا رسول الله ! ما كان بُدؤ أمرك؟ قال: "دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام". دلائل النبوة 1/239، وقد حسّنه محقق الكتاب مساعد الراشد.
وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/262، وصححه الألباني. انظر الصحيحة رقم 1546.
(4) الإرهاص لغة مشتقة من الرِّهص - بالكسر ؛ وهو العرق الأسفل من الحائط.
والإرهاص هو المقدّمة للشيء، والإيذان به.
والإرهاص اصطلاحاً: ما يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من أمرٍ خارق للعادة تمهيداً لها.
انظر: القاموس المحيط للفيروزأبادي ص 801. وكتاب التعريفات للجرجاني ص 31. ولسان العرب لابن منظور 7/44.(19/4)
فيُقال لهم: وهكذا الأولياء، إنّما خُرقت لهم لمتابعتهم الرسول؛ فكما أنّ ما تقدّمه فهو من معجزاته، فكذلك ما تأخّر عنه.
وهؤلاء(1) يستثنون ما يكون أمام الساعة.
لكن هؤلاء كذّبوا بما تواتر من الخوارق لغير الأنبياء.
الرد على من أنكر الكرامات
والمنازع لهم يقول: هي موجودةٌ مشهودةٌ لمن شهدها، متواترةٌ عند كثير من الناس، أعظم ممّا تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء. وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء، فكيف يكذّبون بما شهدوه، ويصدّقون بما غاب عنهم، ويكذّبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره ؟!
قول الأشاعرة في الفرق بين المعجزة وغيرها
وقالت طائفة(2): بل كل هذا حقٌ، وخرق العادة جائزٌ مطلقاً، وكلّ ما خُرق لنبيّ من العادات يجوز أن يُخرق لغيره من الصالحين، بل ومن السحرة والكهان.
لكن الفرق أنّ هذه تقترن بها [دعوى](3) النبوّة؛ وهو التحدّي(4).
من أصول الأشاعرة
وقد يقولون: إنّه لا يمكن أحداً أن يعارضها، بخلاف تلك. وهذا قول من اتّبع جهماً(5)
__________
(1) أي المعتزلة، ومن وافقهم.
(2) وهم الأشاعرة. انظر مقولتهم في: البيان للباقلاني ص 47-48، 90، 94-95، 105-106. والإرشاد للجويني ص 317، 319، 322، 326، 328. وأصول الدين للبغدادي ص 175، 185. والمواقف للإيجي ص 346. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/73، 75. وانظر: الجواب الصحيح 6/400.
(3) في ((خ)) : دعوة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: البيان للباقلاني ص 48.
(5) هو الجهم بن صفوان الراسبي مولاهم، أبو محرز السمرقندي. رأس الفرقة الجهمية. قتله سلم بن أحوز نائب أصبهان سنة ثمان وعشرين ومائة. كان يقول: إنّ العباد مجبورون على أفعالهم، وإنّ الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وإنّ الجنّة والنار تفنيان وتبيدان، وإنّ القرآن مخلوق. وكان يُنكر صفات الله عزّ وجلّ وأسماءه، ويقول: إنّ الله في الأمكنة كلها. تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
انظر: الفرق بين الفرق ص 211. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 34. وسير أعلام النبلاء 6/26. والبداية والنهاية 9/364. والخطط للمقريزي 2/349.(19/5)
على أصله في أفعال الرب من الجهمية(1)، وغيرهم؛ حيث جوّزوا أن يفعل كلّ ممكن(2)؛ فلزمهم جواز خرق العادات مطلقاً على يد كلّ أحد. واحتاجوا مع ذلك إلى الفرق بين النبي وغيره، فلم يأتوا بفرق معقول، بل قالوا: هذا يقترن به التحدي، فمن ادّعى النبوة وهو كاذب، لم يجز أن يخرق الله له العادة أو يخرقها له، ولا [تكون](3) دليلاً على صدقه لما يقترن بها [من ما](4) يناقض ذلك؛ فان هذين قولان لهم(5).
الرد على الأشاعرة
فقيل لهم:لِمَ أوجبتم هذا في هذا الموضع، دون غيره، وأنتم لا توجبون على الله شيئاً؟ فقالوا: لأنّ المعجزةَ علمُ الصدق؛ فيمتنع أن يكون لغير صادق(6). [فقلنا: المجموع](7) هو الممتنع؛ وهو خارق العادة، ودعوى النبوة. أو هذان مع السلامة عن المعارض.
فقيل لهم: ولم قلتم أنه علم الصدق على قولكم؟ فقالوا: إمّا لأنّه يُفضي منع ذلك إلى عجزه؛ وإمّا لأنّه علم دلالته على الصدق بالضرورة.
__________
(1) هي فرقة تنتسب للجهم بن صفوان الراسبي. وقد تبعته في معتقداته كلها. لاحظ التعليقة السابقة.
(2) وهذا قول من يُنكر حكمة الله، والأسباب التي جعلها الله سبباً لحصول بعض الأشياء. ولا فعلَ للعبد عندهم، والله هو الفاعل. وهذا هو قول الأشاعرة.
انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322، 326. وأصول الدين للبغدادي ص 138، 172، 176. والملل والنحل للشهرستاني 1/97. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/13، 112.
وسيأتي توضيح لهذا الأصل عند الأشعري. وانظر شرح الأصفهانية 2/617.
(3) في ((م))، و ((ط)): يكون.
(4) في ((م))، و ((ط)): مما.
(5) انظر: البيان للباقلاني ص 94-95.
(6) انظر: البيان للباقلاني ص 37-38. والجواب الصحيح 6/399.
(7) في ((م)) و ((ط)): فالمجموع - بإسقاط: فقلنا. وزيادة الفاء .(19/6)
فقيل لهم: إنّما يلزم العجز، [أن](1) لو كان التصديق على قولكم ممكناً. وكون دلالتها معلومةٌ بالضرورة؛ هو مُسَلّم، لكنّه يُناقض أصولكم، ويُوجب أن يكون أحد الشيئين معلوماً بالضرورة، دون نظيره. وهذا ممتنع؛ فإنّكم تقولون: يجوز أن يخلق على يد مدّعي النبوة، والساحر، والصالح. لكن إن ادّعى النبوّة، دلّت على صدقه، وإن لم يدّع النبوّة، لم يدل على شيء(2)، مع أنّه لا فرق عند الله بين أن يخلقها على يد مدّعي النبوّة، وغير مدّعي النبوة، بل كلاهما جائز فيه.
فإذا كان هذا مثل هذا: [لِمَ](3) كان أحدهما دليلاً دون الآخر ؟ ولِمَ اقترن العلم بأحد المتماثلين دون الآخر ؟ ومن أين علمتم أنّ الرب لا يخرقها مع دعوى النبوة إلاّ على يد صادق، وأنتم تجوّزون على أصلكم كلّ فعل مقدور(4)، وخلقها على يد الكذاب مقدور ؟!.
الأشاعرة لم يجعلوا بين المعجزات والكرامات فرقاً
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(2) انظر: البيان للباقلاني ص 90.
(3) في ((م))، و ((ط)): فلِمَ.
(4) من أصول الأشاعرة: لا فاعل إلا الله، وليس للإنسان إلا الكسب الذي هو - عندهم - مقارنة القدرة والإرادة للفعل، من غير أن يكون هناك من العبد تأثير، أو مدخل في وجوده، سوى كونه محلاً له.
وقد تقدّم نقل هذا عنهم فيما مضى. وانظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322، 328. وشرح المواقف للجرجاني ص 237. وانظر: الجواب الصحيح 6/394-400.(19/7)
ثمّ هؤلاء(1) جوّزوا كرامات الصالحين، ولم يذكروا بين جنسها(2) وجنس كرامات الأنبياء فرقٌ، بل صرّح أئمتهم(3) [أنّ كلّ ما](4) خُرق لنبيّ، يجوز أن يخرق للأولياء؛ حتى معراج محمد(5)، وفرق البحر لموسى(6)، وناقة صالح(7)، وغير ذلك.
ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقاً معقولاً، بل قد يجوّزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك(8). لكن بينهما فرق دعوى النبوة، وبين الصالح والساحر، والبر والفجور.
طريقة الفلاسفة في المعجزات
__________
(1) أي الأشاعرة.
(2) أي معجزات الرسل.
(3) انظر: أصول الدين للبغدادي ص 174، 175. والإرشاد للجويني ص 317. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/73، 74. وشرح الفقه الأكبر للقاري ص 79.
(4) في ((خ)) : كما. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) المعراج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة. انظر: تهذيب اللغة 1/355.
وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو. وحكمه كحكم غيره من المغيّبات؛ نؤمن به، ولا نشتغل بكيفيّته. انظر شرح الطحاوية ص 270.
وحديث الإسراء والمعراج مخرّج في الصحيحين.
أخرجه البخاري في صحيحه 3/63-65، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج. ومسلم في صحيحه 1/145-147، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات.
(6) قال تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63].
(7) قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء 155].
(8) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 5/2. ونسب هذا القول للباقلاني.
وانظر: البيان للباقلاني ص 94-95. والإرشاد للجويني ص 327-328.(19/8)
وحذّاق(1) الفلاسفة الذين تكلموا في هذا الباب(2)؛ مثل ابن سينا(3)، [و](4) هو أفضل طائفتهم، [وهو](5) أجهل من تكلم في هذا الباب فإنهم جعلوا ذلك كلّه من قوى النفس، لكنّ الفرق أنّ النبيّ والصالح نفسُه طاهرةٌ يقصد الخير، والساحر نفسُه خبيثةٌ.
وأما الفرق بين النبي والصالح فمتعذّرٌ على قول هؤلاء.
الرد على من فرق بين المعجزة والكرامة بفروق ضعيفة
ومن الناس(6)
__________
(1) الحذق، والحذاقة: المهارة في كلّ العمل. انظر تهذيب اللغة 4/35.
(2) في النبوات.
(3) هو الحسين بن عبد الله بن سيناء، أبو علي. الملقّب بالرئيس، الحكيم. قال عنه ابن حجر: "ما أعلمه روى شيئاً من العلم، ولو روى لما حلّت الرواية عنه؛ لأنّه فلسفيّ النحلة، ضالّ. لا رضي الله عنه.
كان يقول بقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني. ونُقل عنه أنّه قال: إنّ الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، بل بعلم كليّ. من مصنفاته: الشفا، والنجاة، والإشارات والتنبيهات. مات سنة 428 ه.
انظر: لسان الميزان لابن حجر 2/291. والأعلام للزركلي 2/241. ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 4/20.
وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء - يعني القرامطة والباطنية والإسماعيلية - وأبوه وجده من أهل دعوتهم، وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة؛ فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل، ويدعون أن للملة باطناً يُناقض ظاهرها". كتاب ((الصفدية)) 1/3-4. وانظر: شرح الأصفهانية 2/634. والرد على المنطقيين ص 141-144، 279، 281، 396. ومجموع الفتاوى 35/186.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(5) في ((م))، و ((ط)): ولكنه.
(6) وهم الأشاعرة.
انظر: أصول الدين للبغدادي ص 174. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص370. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/74. وطبقات الشافعية للسبكي2/317. واليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني 1/161.(19/9)
من فرّق بين معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء بفروق ضعيفة؛ مثل قولهم: الكرامة يُخفيها صاحبها، أو الكرامة لا يُتحدّى بها. ومن الكرامات ما أظهرها أصحابها؛ كإظهار العلاء بن الحضرمي(1)
__________
(1) هو العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي. من سادة المهاجرين. ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم البحرين. ثمّ وليها لأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: رأيت من العلاء ثلاثة أشياء، لا أزال أحبه أبداً: قطع البحر على فرسه يوم دارين. وقدم يريد البحرين، فدعا الله بالدهناء، فنبع لهم ماء، فارتووا. ونسي رجل منهم بعض متاعه فرد، فلقيه ولم يجد الماء، ومات ونحن على غير ماء، فأبدى الله لنا سحابة، فمطرنا، فغسلناه، وحفرنا له بسيوفنا، ولم نلحد له.
انظر: سير أعلام النبلاء 1/262. والبداية والنهاية 6/162-163.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه: "والعلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم، فيستجاب له. ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء بعدهم، فأجيب. ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء، فابتلت سرج خيولهم. ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 311.
وانظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 1/7. وصفوة الصفوة لابن الجوزي 1/694.
وذكر ابن كثير أنه توفي سنة أربع عشرة. البداية والنهاية 7/123.(19/10)
المشي على الماء، وإظهار عمر مخاطبة سارية(1) على المنبر(2)، وإظهار أبي مسلم(3)
__________
(1) هو سارية بن زنيم بن عمرو الكناني. قال ابن عساكر: له صحبة. كان في الجاهلية كثير الغارات، يسبق الفرس عدواً على رجليه، ولما ظهر الإسلام أسلم. قال الواقدي: أمّره عمر على جيش، وسيّره إلى فارس سنة ثلاث وعشرين، وفتح بلاداً منها أصبهان. توفي سنة 30 ه.
انظر: الإصابة لابن حجر 4/96. والأعلام للرزكلي 3/69.
(2) وذلك لما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب على المنبر في المدينة، وسارية ابن زنيم يُجاهد في العراق، فتذكّر عمر سارية، فنادى: يا سارية الجبل. يقول سارية: سمعت صوت عمر، فصعدتُ الجبل.
أورده ابن كثير في البداية والنهاية 7/135، وقال: إسناده جيد حسن.
وكذلك حسّن أسانيده الحافظ ابن حجر في الإصابة 4/98.
(3) هو عبد الله بن ثوب الخولاني، من خولان ببلاد اليمن. دعاه الأسود العنسي إلى أن يشهد أنّه رسول الله، فقال له: أتشهد أني رسول الله ؟ فقال: لا أسمع، أشهد أنّ محمداً رسول الله. فأجّج له ناراً، وألقاه فيها، فلم تضرّه وأنجاه الله منها. فكان يُشبّه بإبراهيم الخليل. ثمّ هاجر، فوجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فأجلسه بينه وبين عمر، وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فُعل له كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.
توفي أبو مسلم الخولاني سنة 60 ه.
وقد ذكر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدداً من الكرامات؛ منها: أنه مشى هو ومن معه في المعسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب في مدّها. ووضعت له جارية السمّ في طعامه، فلم يضرّه. وخبّبت امرأةٌ عليه زوجتَه، فدعا عليها، فعميت، فجاءت وتابت، فدعا لها، فردّ الله عليها بصرها.
انظر: مجموع الفتاوى 11/279. وانظر: حلية الأولياء 2/122، 131. وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 322. وسير أعلام النبلاء 4/7. والبداية والنهاية لابن كثير 8/149. والتقريب لابن حجر 2/473، وفيه ذكر أن اسمه عبد الله بن ثوب.(19/11)
لما أُلقي في النار أنّها صارت عليه برداً وسلاماً. وهذا بخلاف من يدخلها بالشياطين، فإنّه قد يُطفئها، إلاّ أنّها لا تصير عليه برداً وسلاماً. وإطفاء النار مقدورٌ للإنس والجنّ.
ومنها: ما يتحدّى بها صاحبها أنّ دين الإسلام حقّ؛ كما فعل خالد ابن الوليد لما شرب السُّمَّ(1)
__________
(1) وذلك لمّا نزل الحيرة - بالعراق ، وأراد الأعاجم أن يُسقوه السمّ، فأخذه بيده، ثمّ اقتحمه، وقال: بسم الله، وشرب، فلم يضرّه شيئاً.
الخبر أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 4/123-124. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 9/350 أنّ أبا يعلى أخرجه، والطبراني في المعجم الكبير بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح، ورجال الآخر ثقات. وذكر كذلك أنّ رجال إسناد أبي يعلى ثقات. وانظر: مجموع الفتاوى 11/277-278.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله عند محاصرة خالد بن الوليد للحيرة، أن خالداً أخذ السم من ابن بقيلة - من نصارى العرب ، ثم قال: لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي ليس يضرّ مع اسمه داء، الرحمن الرحيم. قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه، فبادرهم فابتلعه. فلما رأى ذلك ابن بقيلة، قال: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد. ثم التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالاً من هذا. ثم دعاهم، وسألوا خالداً الصلح فصالحهم. البداية والنهاية 6/351. وانظر: طبقات الشافعية للسبكي 2/333.
وقد خالفه الصحابة في ذلك.
ويكفي خالداً كرامة أن جعله الله عزاً للإسلام وأهله، وذلاً للكفر، وشتاتاً لشمله.. وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وقال الصديق - رضي الله عنه - في حقه: (يا معشر قريش إن أسدكم قد عدا على الأسد فغلبه على خراديله، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد). البداية والنهاية 6/351.(19/12)
؛ وكالغلام الذي أتى الراهب، وترك الساحر، وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربّه، وكان قبل ذلك قد خُرِقت له العادة فلم يتمكّنوا من قتله(1). ومثل هذا كثير.
مراتب الخوارق
فيقال المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثمّ كرامات الصالحين، ثمّ خوارق الكفار والفجار؛ كالسحرة والكهان، وما يحصل لبعض المشركين، وأهل الكتاب، والضلاّل من المسلمين.
الكرامات سببها اتباع الأنبياء
أمّا الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء؛ فإنّهم يقولون: نحن إنّما حصل لنا هذا باتّباع الأنبياء، ولو لم نتّبعهم لم يحصل لنا هذا.
فهؤلاء إذا قُدّر أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء؛ كما صارت النار برداً وسلاماً على أبي مسلم(2)، كما صارت على إبراهيم(3)؛ وكما يكثّر الله الطعام والشراب لكثيرٍ من الصّالحين(4)؛ كما جرى في بعض المواطن للنبيّ (5)، أو إحياء الله ميتاً لبعض الصالحين(6)
__________
(1) وخبر الغلام طويلٌ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 4/2299-2301، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام.
(2) الخولاني. تقدّمت قصته قريباً ص 159.
(3) قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. [الأنبياء 69].
(4) مثل قصة أبي بكر مع أضيافه، في تكثير الطعام. انظر صحيح البخاري 6/436.
(5) انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري 4/234.
وقد عقد القاضي عياض في كتابه الشفا 1/410 فصلاً: من معجزاته صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام ببركته ودعائه.
(6) من ذلك إحياء الله تعالى لصلة بن أشيم العدوي فرسَه بعد أن ماتت وهو في الغزو، فأحياها الله له، ووصل إلى أهله، وقال لابنه: ألق السرج عن الفرس فإنّها عارية، فلمّا ألقى السرج عنها، سقطت ميتة.
انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 2/239. وطبقات الشافعية للسبكي 2/320. وسير أعلام النبلاء للذهبي 3/499، وقال الذهبي عن هذه القصة: وهذه كرامة ثابتة. وانظر: مجموع الفتاوى 11/280.(19/13)
كما أحياه للأنبياء(1).
كرامات الأولياء معجزات للأنبياء
فهذه الأمور(2) هي مؤكدة لآيات الأنبياء، وهي أيضاً من معجزاتهم بمنزلة ما تقدّمهم من الإرهاص.
ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحدٍ قطّ إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم، ولكن قد يُشاركونهم في بعضها، كما قد يُشاركونهم في بعض أعمالهم.
كرامات الأولياء لا تجعلهم معصومين
وكرامات الصالحين [تدلّ](3) على صحة الدّين الذي جاء به الرسول، لا تدلّ على أنّ الولي معصومٌ، ولا على أنّه يجب طاعته في كلّ ما يقوله(4).
ومن هنا ضلّ كثيرٌ من النّاس من النّصارى وغيرهم(5)؛ فإنّ الحواريّين(6)
__________
(1) مثل عيسى عليه السلام. قال الله تعالى عنه: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}[آل عمران 49].
وكذلك عزير عليه السلام الذي أماته الله وحماره مائة عام، ثمّ بعثهما. قال الله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة 259].
وانظر كتاب الشفا للقاضي عياض1/444، حيث عقد فصلاً في: إحياء الموتى، وكلامهم.
(2) يقصد كرامات الأولياء.
(3) في ((خ)): يدلّ. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 144. والجواب الصحيح 2/338؛ فقد فصّل شيخ الإسلام رحمه الله في هذين الموضعين تفصيلاً طيّباً.
(5) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أصناف الناس بالنسبة لمواقفهم ممن يجري على أيديهم بعض الأمور الخارقة في ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) ص 147.
(6) الحواريّون هم أصحاب عيسى عليه السلام وخاصّته الذين اختارهم ليكونوا تلامذته؛ حيث بادروا إلى الإيمان به، وتعلّموا منه، وكانوا اثني عشر رجلاً.
انظر: الجواب الصحيح 2/398-400 ،، 4/17.(19/14)
، وغيرهم كانت لهم كرامات، كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة، فظنّوا أنّ ذلك يستلزم عصمتهم كما يستلزم عصمة الأنبياء، فصاروا يُوجبون موافقتهم في كلّ ما يقولون.
النبي صارت طاعته واجبة بأمور
وهذا غلطٌ؛ فإنّ النبيّ وجب قبول كلّ ما يقول لكونه نبيّاً [ادّعى](1) النّبوّة، ودلّت المعجزة على صدقه، والنبيّ معصومٌ. وهنا المعجزة(2) ما دلّت على النبوة بل على متابعة النبيّ وصحّة دين النبيّ، فلا يلزم أن يكون هذا التابع معصوماً.
من أسباب تأليف الكتاب
ولكن الذي يحتاج إلى الفرقان الفرق بين الأنبياء وأتباعهم، وبين من خالفهم من الكفار والفجار؛ كالسحرة، والكهان، وغيرهم؛ حتى يظهر الفرق بين الحقّ والباطل، وبين ما يكون دليلاً على صدق صاحبه؛ كمدّعي النبوّة، و[بين](3) ما لا يكون دليلاً على صدق صاحبه؛ فإنّ الدليلَ لا يكون دليلاً حتى يكون مستلزماً للمدلول؛ متى وُجِدَ وُجِدَ المدلول، وإلاّ فإذا وُجِدَ تارةً مع وجود المدلول، وتارةً مع عدمه [فليس بدليل](4).
فآيات الأنبياء وبراهينهم لا [توجد](5) إلاّ مع النبوّة، ولا توجد مع ما يناقض النبوة.
ومدّعي النبوّة إمّا صادق، وإمّا كاذب.
والكذب يُناقض النبوة، فلا يجوز أن يُوجد مع المناقض لها، مثل ما يوجد معها. وليس هنا شيءٌ مخالفٌ لها؛ [لا موافقٌ](6)، ولا مناقضٌ؛ فإنّ الكفر، والسحر، والكهانة، كلّ هذا يناقض النبوّة، لا يجتمع هو [و](7) النبوة.
والنّاس رجلان: رجلٌ موافقٌ لهم، ورجلٌ مخالفٌ لهم.
فالمخالف مناقض.
الفرق بين جنس آيات الأنبياء وخوارق
من خالفهم
__________
(1) في ((خ)) رسمت ادعاء. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) يقصد الكرامة.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(5) في ((خ)) يوجد. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(7) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.(19/15)
وإذا كان كذلك، فيُقال: جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور البشر، بل وعن مقدور جنس الحيوان.
وأمّا خوارق مخالفيهم؛ كالسحرة، والكُهّان؛ فإنّها من جنس أفعال الحيوان؛ من الإنس، وغيره من الحيوان، والجنّ؛ مثل قتل الساحر، وتمريضه لغيره؛ فهذا أمرٌ مقدورٌ، معروفٌ للنّاس بالسّحر، وغير السّحر؛ وكذلك ركوب المكنسة(1)، أو الخابية(2)، أو غير ذلك؛ حتّى تطير به، وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد؛ هذا فعلٌ مقدورٌ للحيوان؛ فإنّ الطير [يفعل](3) ذلك، والجنّ تفعل ذلك. وقد أخبر الله أنّ العفريت قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}(4)؛ وهذا تصرّف في أعراض(5) الحيّ؛ فإنّ الموت، والمرض، والحركة أعراضٌ، والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأعراض، ليس في هذا قلب جنس إلى جنس، ولا في هذا ما يختصّ الربّ بالقدرة عليه، ولا ما يختصّ به الملائكة.
__________
(1) المكنسة - بكسر الميم - ما يُكنس به. والكُناسة - بالضمّ - ما يُكنس؛ وهي الزبالة. انظر: المصباح المنير ص 542.
(2) الخابية: وعاء الماء الذي يحفظ فيه. وجمعه خوابي. المعجم الوسيط 1/13.
(3) في ((م))، و ((ط)) تفعل.
(4) سورة النمل، الآية 39.
(5) العَرَض في اللغة: ما يعرض للإنسان من مرض، وموت، ونحو ذلك.
انظر: الصحاح للجوهري 3/1038. والمعجم الوسيط ص 594.(19/16)
وكذلك إحضار ما يُحضر من طعامٍ، أو نفقة، أو ثياب، أو غير ذلك من الغيب. [و](1) هذا [إنّما هو](2) نقل مالٍ من مكانٍ إلى مكانٍ. وهذا تفعله الإنس والجنّ، لكن الجنّ تفعله، والنّاس لا يُبصرون ذلك. وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيراً، بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يُزادها(3). فهذا لا يقدر عليه إنسيّ ولا جنّي.
أخبار الأنبياء لا كذب فيها، بخلاف من خالفهم
وكذلك الإخبار ببعض الأمور الغائبة، مع الكذب في بعض الأخبار. فهذا تفعله الجن / كثيراً مع الكُهّان(4)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(3) مثل ما حدث في غزوة الحديبية؛ حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما - وهو راوي الحديث : "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال فشربنا. قال الراوي: فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ، قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا، كنّا خمس عشرة مائة".
أخرجه البخاري في صحيحه 4/1526، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية.
وقد ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - قصة أخرى في نبع الماء من بين أصابع نبيّنا صلى الله عليه وسلم. فعنه - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء، فأُتي بقدح رحراح، فجعل القوم يتوضؤون، فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين، قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه.
صحيح مسلم 4/1783، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) مثل حال ابن صياد، لمّا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّي خبّأتُ لك خبيئاً" فقال: هو الدّخّ. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اخسأ، فلن تعدو قدرك".
الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه4/2240، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيّاد.(19/17)
، وهو معتادٌ لهم، مقدورٌ، بخلاف إخبارهم بما يأكلون، وما يدّخرون، مع تسمية الله على ذلك؛ فهذا لا تظهر عليه الشياطين(1).
وبنو إسرائيل كانوا مسلمين يسمّون الله(2).
وأيضاً: فخبر المسيح(3)
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء..". الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/1598، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا الإناء، وأوكئوا السقاء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإنّ الشيطان لا يحلّ سقاءً، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناءً...". الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 10/77، والإمام مسلم في صحيحه 3/1594، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها..
(2) قال الله تعالى في شأنهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [ البقرة، 133].
وأما عن تسميتهم الله، فقد قال الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ.} [المائدة، 5].
ومعلوم أنّهم لو لم يكونوا يُسمّون الله تعالى عند الذبح، لم يكن طعامهم حلاً لنا؛ لأنّ الله تعالى يقول:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام، 121].
(3) وهو إخباره عليه السلام عمّا يأكل بنو إسرائيل وما يدّخرون في بيوتهم.
قال تعالى عن معجزات عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران الآية، 49].(19/18)
، وغيره من الأنبياء ليس فيه كذب قط. والكهان لا بُدّ لهم من الكذب. والربُّ قد أخبر في القرآن أنّ الشياطين [تنزل](1) على بعض الناس، فتخبره ببعض الأمور الغائبة، لكن ذكر الفَرْقَ، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}(2).
الحكمة من مسرى النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليريه الربّ من آياته(3). فخاصّة الرسول ليست مجرّد قطع هذه المسافة، بل قطعها ليريه الربّ من الآيات الغائبة ما يُخبر به. فهذا لا يقدر عليه الجنّ، وهو نفسه لم يحتجّ بالمسرى على نبوته، بل جعله مما يؤمن به؛ فأخبرهم به ليؤمنوا به. والمقصود إيمانهم بما أخبرهم من الغيب الذي رآه تلك الليلة، وإلاّ فهم كانوا يعرفون المسجد الأقصى، ولهذا قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَة المَلْعُونَةَ فِيْ القُرْآن}(4).
قال ابن عباس [رضي الله عنه](5): هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به(6). وهذا كما قال في الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى}(7).
__________
(1) في ((خ)): ينزل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) سورة الشعراء، الآيات 221-223.
(3) قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}. [الإسراء، 1].
(4) سورة الإسراء، الآية 60.
(5) ما بين المعقوفتين من ((ط))، وليس في ((خ))، و ((م)).
(6) انظر: صحيح البخاري 4/1748.
(7) سورة النجم، الآيات 13-18.(19/19)
وكذلك ما يُخبر به الرسول من أنباء الغيب؛ قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً}(1). فهذا غيب الربّ الذي اختص به؛ مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق، فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الله.
الفرق بين خبر الرسول وخبر الجنّ
والجنّ غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة؛ كالذي يسترقه الجن من السماء(2)، مع ما في الجنّ من الكذب، فلا بُدّ لهم من الكذب، والذي يخبرون به هو ممّا يُعلم بالمنامات وغير المنامات، فهو من جنس المعتاد للناس.
وأما ما يخبر الرسل من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلاً؛ مثل إخباره: "إنكم تقاتلون الترك، صغار الأعين، ذُلْفُ الآنُفِ(3)، ينتعلون الشعر، كأنّ وجوههم المَجَانُّ المُطْرَقَة(4)
__________
(1) سورة الجن، الآيتان 26-27.
(2) قال تعالى يحكي عن الجنّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن، 9].
(3) الذَّلَف بالتحريك: قصر الأنف وانبطاحه. وقيل: ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته. والذُّلْف بسكون اللام: جمع أذلف؛ كأحمُر، وحمر. والآنُف: جمع قلة للأنف، وضع موضع جمع الكثرة، ويحتمل أنّه قللها لصغرها.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/165.
(4) وهي التروس التي يُطرق بعضها على بعض. انظر الصحاح للجوهري 4/1516).
والمراد: تشبيه وجوه الترك في عرضها، وتلوّن وجناتها بالترسة المطرقة.(19/20)
"(1)، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تُضيء لها أعناق الإبل ببُصرى(2)"(3)، ونحو ذلك. فهذا لا يقدر عليه جني، ولا إنسيّ.
والمقصود أنّ ما يُخبر به غير النبي من الغيب معتادٌ، معروفٌ نظيره من الجن والإنس، فهو من غيب الله الذي قال فيه: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(4).
والآيات الخارقة جنسان: جنسٌ في نوع العلم، وجنسٌ في نوع القدرة(5)
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/1070. ومسلم في صحيحه 4/2233، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكانه من البلاء. والإمام أحمد في المسند ح 7262 - تحقيق أحمد شاكر.
(2) بُصرى - بضمّ الباء - آخرها مقصور: مدينة بالشام، ويُقال لها حوران.
انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 1/441.
وهي اليوم مدينة من مدن الجمهورية السورية، في شرقها.
(3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/2605. ومسلم في صحيحه 4/2227-2228، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.
وهذا الغيب الذي أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قد وقع - كما ذكر المؤرخون - سنة أربع وخمسين وستمائة. وقد أخبر غير واحد أنّه لمّا ظهرت النار في بعض أودية المدينة النبوية، واستمرت شهراً، وكان الناس يسيرون على ضوئها بالليل إلى تيماء - قرب تبوك - شاهد من كان بحاضرة بلد بُصرى أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز. انظر: الفتن والملاحم - النهاية - لابن كثير 1/18-19.
(4) سورة الجن، الآيتان 26-27.
(5) ولشيخ الإسلام رحمه الله زيادة إيضاح لهذا الموضوع، حيث قال: (الخوارق منها ما
هو من جنس العلم؛ كالمكاشفات. ومنها ما هو من جنس القدرة والملك؛ كالتصرفات الخارقة للعادات. ومنها ما هو من جنس الغنى عن جنس ما يُعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى). ((مجموع الفتاوى)) 11/298-299.
وقال أيضاً: "فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة، أو بالدين فقط، أو بالكون فقط. ثمّ فصّل، واستدلّ لكلّ نوع". انظر: مجموع الفتاوى 11/323-324.
وانظر قاعدة في المعجزات ص 9. وانظر كتاب الصفدية 1/183، فإنه جعل الخوارق ثلاثة أقسام. وقد أفاض المؤلف رحمه الله في ذكر أقسام المعجزات بالتفصيل. انظر: الجواب الصحيح 6/80-296.(19/21)
.
أقسام الخوارق
فما اختصّ به النبيّ من العلم خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ، وما اختصّ به من المقدورات خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ.
خوارق الجنّ
وقدرة الجنّ في هذا الباب(1) كقدرة الإنس؛ لأنّ الجن هم من جملة من دعاه الأنبياء إلى الإيمان، وأرسلت الرسل إليهم؛ قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّوْنَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}(2).
ومعلومٌ أنّ النبيّ إذا دعا الجن إلى الإيمان به، فلا بُدّ أن يأتي بآية خارجة عن مقدور الجنّ؛ فلا بُدّ أن تكون آيات الأنبياء خارجة عن مقدور الإنس والجنّ.
وما يأتي به الكاهن من خبر [الجنّ](3) غايته أنّه سمعه الجني لمّا استرق السمع؛ مثل الذي يستمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون.
وما أعطاه اللهُ سليمانَ مجموعه يخرج عن قدرة الإنس والجنّ؛ كتسخير الرياح، والطير.
خوارق الملائكة تختص بالأنبياء وأتباعهم
وأما الملائكة: فالأنبياء لا تدعوا الملائكةَ إلى الإيمان بهم، بل الملائكة [تنزل](4) بالوحي على الأنبياء، وتعينهم، وتؤيدهم. فالخوارق التي [تكون](5) بأفعال الملائكة تختص بالأنبياء وأتباعهم، لا تكون للكفّار، والسحرة، والكُهّان.
__________
(1) باب الخوارق.
(2) سورة الأنعام، الآية 130.
(3) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(4) في ((خ)): ينزل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) في ((خ)): يكون. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(19/22)
ولهذا أخبر الله تعالى أنّ الذي جاءه بالقرآن مَلَكٌ لا شيطان؛ فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِيْ العَرْشِ مَكِين * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِين * وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِين * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}(1)، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين}(2)، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدُسِ منْ رَبِّكَ بِالحَقِّ}(3)، وقال: {قل مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ}(4)، وقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}(5).
الواجب معرفة الفروق بين آيات الأنبياء وبين من خالفهم
فينبغي أن يُتدبّر هذا الموضع، وتُعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياء، وبين ما يشتبه بها؛ كما يُعرف الفرق بين النبي، وبين المتنبي؛ وبين ما يجيء به النبي، وما يجيء به المتنبي.
فالفرق حاصلٌ في نفس صفات هذا، وصفات هذا، وأفعال هذا، وأفعال هذا، وأمر هذا، وأمر هذا، وخبر هذا، وخبر هذا، وآيات هذا، وآيات هذا؛ إذ الناس محتاجون إلى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يبيّنه، ويُيسّره.
ولهذا أخبر أنه أرسل رسله بالآيات البيّنات. وكيف [يشبّه](6) خير الناس بشر الناس. ولهذا لما مثّلوا الرسول بالساحر، وغيره، قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}(7).
__________
(1) سورة التكوير، الآيات 19-25.
(2) سورة الشعراء، الآيتان 193-194.
(3) سورة النحل، الآية 102.
(4) سورة البقرة، الآية 97.
(5) سورة الشعراء، الآيات 221-223.
(6) في ((خ)): شبه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) سورة الفرقان، الآية 9.(19/23)
وقد تنازع النّاس في الخوارق: هل تدلّ على صلاح صاحبها، وعلى ولايته لله(1) ؟.
هل الخوارق تدل على صلاح صاحبها أم لا ؟
والتحقيق: أنّ من كان مؤمناً بالأنبياء ،لم يستدلّ على الصلاح بمجرّد الخوارق التي قد تكون للكفار والفسّاق، وإنّما يُستدلّ بمتابعة الرجل للنبيّ؛ فيُميّز بين أولياء الله وأعدائه بالفروق التي بيَّنَها اللهُ ورسوله؛ كقوله: {[أَلاَ](2) إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}(3).
وقد علق السعادة بالإيمان والتقوى في عدّة مواضع؛ كقوله لمّا ذكر السّحرة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(4)، وقوله عن يوسف: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ - وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ للَّذِيْنَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}(5)، وقوله في قصة صالح: {وَنَجَّيْنَا الَّذِيْنَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}(6).
وهذه طريقة الصحابة والسلف.
تنازع الناس في ولاية المعين على قولين
وأمّا دلالتها على ولاية المعيّن: فالناس متنازعون؛ هل الوليّ والمؤمن من مات على ذلك؛ بحيث إذا كان مؤمناً تقيّاً، وقد عُلم أنّه يموت كافراً، يكون في تلك الحال عدوّاً لله ؟ أو ينتقل من إيمان وولاية إلى كفر وعداوة ؟. وهما قولان معروفان(7).
__________
(1) للاطلاع على خلافهم في ذلك، راجع: مجموع الفتاوى 11/214، 287. والجواب الصحيح 2/338. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 147-148. وقطر الولي على حديث الولي للشوكاني ص 272.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(3) سورة يونس، الآيتان 62-63.
(4) سورة البقرة، الآية 103.
(5) سورة يوسف، الآيتان 56-57.
(6) سورة فصلت، الآية 18.
(7) انظر: مجموع الفتاوى 11/62، 65.(19/24)
فمن قال بالأول؛ فالوليّ عنده كالمؤمن [عند](1) من علم أنه يموت على تلك الحال، والخوارق لا تدلّ على ذلك.
ولهذا قال هؤلاء؛ كالقاضي أبي بكر(2)، وأبي يعلى(3)، وغيرهما: أنّها لا تدلّ(4).
وأمّا من قال: الولاية تتبدّل؛ فالولاية هنا كالإيمان. وقد يُعلم أنّ الرجل مؤمنٌ في الباطن، تقيّ بدلائل كثيرة، وقد يُطلع الله بعضَ الناس على خاتمة غيره. فهذا لا يمتنع.
أقوال الناس في الشهادة لمعين بالجنة
لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة، وفيها ثلاثة أقوال(5):
قيل: لا يشهد بذلك لغير النبي. وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وعلي ابن المديني، وغيرهم.
وقيل: يشهد به لمن جاء به نص، إن(6) كان [خبراً](7) صحيحاً؛ كمن شهد له النبيّ بالجنة فقط. وهذا قول كثيرٍ من أصحابنا، وغيرهم.
__________
(1) في ((خ)): عنده. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) الباقلاني. هو أبو بكر محمد بن طيب بن محمد بن جعفر البصريّ. سبقت ترجمته.
(3) هو القاضي أبو يعلى؛ محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الفراء، شيخ الحنابلة، وعالم العراق في زمانه. توفي سنة 458 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 18/89. وطبقات الحنابلة 2/193. والبداية والنهاية 12/101.
(4) انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات للباقلاني ص 51. والتمهيد له ص 47-48. والإنصاف ص 69. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1/350. وشرح المقاصد للتفتازاني ص 73، 75، 76.
(5) انظر هذه الأقوال الثلاثة في : مجموع الفتاوى 11/518. ومنهاج السنة النبوية 3/496-497. وشرح الطحاوية ص 538. وغاية الأماني في الرد على النبهاني للآلوسي 1/187. وكذلك في المقدمة السالمة في خوف الخاتمة لملا علي القاري - مخطوط - رقم اللوحة 35، ضمن مجموع ابن سلطان رقم 1589.
(6) في ((خ)): وإن. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) في ((خ)): خيراً. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(19/25)
وقيل: يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح(1)؛ كعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيرهما.
وكان أبو ثور(2) يشهد لأحمد بن حنبل بالجنّة.
وقد جاء في الحديث الذي في المسند: "يُوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار". قالوا: بماذا يا رسول الله ؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ"(3).
وفي الصحيحين: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". ومُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها شراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". فقيل: يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير، فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار. أنتم شهداء الله في الأرض"(4).
وفي حديث آخر: "إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأت"(5).
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والأشبه أن يُشهد له بذلك. هذا في الأمر العام). انظر مجموع الفتاوى 11/65.
(2) هو إبراهيم بن خالد. الإمام الحافظ الحجة المجتهد، مفتي العراق، أبو ثور. ولد في حدود سنة 170 ه. قال الإمام أحمد لمّا سُئل عنه: أعرفه بالسنّة منذ خمسين سنة، وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري. وقال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء. توفي في صفر 240 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 12/72. والبداية والنهاية 10/322.
(3) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند 3/416، 6/466، من حديث أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه. وسنده حسن كما ذكر محققا شرح الطحاوية ص 531.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 1/460. ومسلم في صحيحه حديث 949.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/4021. وقال الساعاتي: (وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: حديث عبد الله بن مسعود هذا صحيح، رجاله ثقات، وأورده الهيثمي، وقال: رواه (طب) ورجاله رجال الصحيح. وغفل عن عزوه للإمام أحمد). الفتح الرباني 19/219-220.(19/26)
وسئل عن الرجل: يعمل العمل لنفسه، فيحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"(1).
الثناء على رجل يعرف بأسباب
والتحقيق: أنّ هذا قد [ يُعلم ](2) بأسباب، وقد يغلب على الظن. ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم ؛ ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية(3): لمّا قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا عثمان بن مظعون(4) في السكنى، / فمرض، فمرضناه، ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن قد أكرمك الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "[وما يدريك](5) أنّ الله قد أكرمه؟". قالت: لا والله، لا أدري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم". قالت: فوالله لا أزكي بعده أحداً أبداً. قالت: ثم رأيت لعثمان [رضي الله عنه](6) بعد في النوم عيناً تجري، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذاك عمله"(7).
وأما من لم يكن مقراً بالأنبياء، فهذا لا يعرف الولي من غيره؛ إذ الولي لا يكون ولياً إلا إذا آمن بالرسل.
الكرامات من جنس آيات الأنبياء
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، حديث 2642.
(2) في ((خ)): يعمل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) هي أم العلاء بنت الحارث بن ثابت الخزرجية. يُقال إنها والدة خارجة بن زيد بن ثابت. إحدى الصحابيات رضي الله عنها. انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4/478.
(4) هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي، أبو السائب. من سادة المهاجرين، وممن فازوا بوفاتهم في حياة نبيّهم صلى الله عليه وسلم، فصلى عليهم. وكان أول من دفن بالبقيع. انظر: حلية الأولياء 1/102. وسير أعلام النبلاء 1/153.
(5) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(6) ما بين المعقوفتين يُوجد في ((ط)) فقط.
(7) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/954، 955.(19/27)
لكن قد [تدل](1) الخوارق على أنّ هؤلاء على الحقّ، دون هؤلاء؛ لكونهم من أتباع الأنبياء؛ كما قد [يتنازع](2) المسلمون والكفار في الدين؛ فيؤيّد الله المؤمنين بخوارق تدل على صحة دينهم؛ كما صارت النار على أبي مسلم(3) برداً وسلاماً؛ وكما شرب خالد السمّ(4)، وأمثال ذلك. فهذه الخوارق هي من جنس آيات الأنبياء.
كل ما كان الإنسان أقرب إلى الإسلام فهو أقوى خوارق
وقد يجتمع كفار، ومسلمون، ومبتدعة، وفجّار؛ فيؤيّد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجنّ و[الشياطين](5)، ولكن جنهم وشياطينهم أقرب إلى الإسلام؛ فيترجّحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوّات؛ كما يجري لكثيرٍ من المبتدعة، والفجّار، مع الكفّار؛ مثل ما يجري للأحمدية(6)
__________
(1) في ((خ)) : يدلّ. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)) : تتنازع. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) الخولاني. تقدمت قصته قريباً، ص 159.
(4) تقدمت قصة شرب خالد بن الوليد رضي الله عنه للسمّ قريباً، ص 159.
(5) في ((خ)) : الشيطاطين. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) الأحمدية، والرفاعية من طرق الصوفية. وتنسب إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي. ويُوصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق، إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد أحمد الرفاعي في قرية حسن بالقرب من أم عبيدة بالعراق سنة 512 ه ، وتوفي سنة 578، ودفن في قرية أم عبيدة.
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12/312. وسير أعلام النبلاء للذهبي 21/76. وطبقات الشافعية للسبكي 4/19. وشذرات الذهب لابن العماد 4/259. والفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص 366.
وقد ناقش شيخ الإسلام - رحمه الله - هؤلاء الرفاعية وكشف حقيقة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم، وذلك في مناقشة علنية بحضور نائب السلطان وأهل دمشق. انظر مجموع الفتاوى 11/445، 476، 494.(19/28)
، وغيرهم، مع عبّاد المشركين البخشيّة(1) قدّام التتار(2)، كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب إلى الإسلام(3).
كلام الغزالي ينفع الفلسفي ويضر المسلم
__________
(1) بخش ) كلمة سنسكريتية، أصل الكلمة (بهشكو)، وهي تدلّ على كهنة بوذا. وهذا أحد معانيها. والكلمة بهذا المعنى ترادف الكلمة الصينيّة: (هو شانغ)، والتيبتية: (لاما)، والأويغورية: (تواين).
انظر: دائرة المعارف الإسلامية لمجموعة من المستشرقين 6/386.
وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء البخشية في كتاب الصفدية 1/191. ومنهاج السنة 3/446-447.
(2) لعل المراد أنّ أحوال هؤلاء لا تظهر إلا عند التتار.
(3) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قصة لشيخ من الأحمدية: أنه كان مرة عند بعض أمراء التتار، وكان لهذا الأمير صنم يعبده، فقال الأمير لذاك الشيخ: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كلّ يوم، ويبقى أثر الأكل في الطعام. فأنكر الشيخ ذلك، فقال له الأمير: إن كان يأكل، فأنت تموت - يعني سيقتله لإنكاره ذلك. فقال له الشيخ: نعم. يقول ذاك الشيخ: فأقمت عنده إلى نصف النهار، ولم يظهر في الطعام أثر، فاستعظم ذلك التتري. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فقلت لهذا الشيخ: أنا أُبيّن لك سبب ذلك؛ التتريّ كافر مشرك، ولصنمه شيطان يُغويه بما يُظهره من الأثر في الطعام. وأنتَ كان معك من نور الإسلام ما أوجب انصراف الشيطان... فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بُلق؛ فيكم سواد وبياض).
((مجموع الفتاوى)) 11/447-448.
ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن شيخٍ من مشايخ الأحمدية قوله: أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله.
انظر مجموع الفتاوى 11/455.(19/29)
وعند من هو أحق بالإسلام منهم لا تظهر خوارقهم، بل تظهر خوارق من هو أتمّ إيماناً منهم. وهذا يُشبه ردّ أهل البدع على الكفّار بما فيه بدعة؛ فإنّهم وإن ضلّوا من هذا الوجه، فهم خير من أولئك الكفار، لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضرّه هؤلاء، ومن كان [حائراً](1) نفعه هؤلاء. بل كلام أبي حامد(2) ينفع المتفلسف ويصير أحسن؛ فإنّ المتفلسف يُسلم به إسلام الفلاسفة، والمؤمن يصير به إيمانه مثل إيمان الفلاسفة. وهذا [أردأ](3) من هذا، بخلاف ذاك.
والخوارق ثلاثة أنواع(4):
أنواع الخوارق
إمّا أن [تُعين](5) صاحبها على البر والتقوى؛ فهذه أحوال نبيّنا ومن اتبعه؛ خوارقهم لحجّة في الدين، أو حاجةً للمسلمين.
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): جائراً.
(2) هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسيّ الشافعيّ الغزالي. توفي سنة 505 ه.
قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيّأهم، فما استطاع.
وقال عنه ابن الجوزي: صنّف أبو حامد الإحياء، وملأه بالأحاديث الباطلة، ولم يعلم بُطلانها، وتكلّم على الكشف، وخرج عن قانون الفقه.
انظر: سير أعلام النبلاء 19/322.
(3) في ((خ)): ردّه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر أيضاً: مجموع الفتاوى 11/319-320، 323-329.
(5) في ((خ)): يعين. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(19/30)
والثاني: أن تعينهم على مباحات؛ كمن [يُعينه](1) الجنّ على قضاء حوائجه المباحة؛ فهذا متوسط، وخوارقه لا ترفعه ولا تخفضه. وهذا يُشبه تسخير الجنّ لسليمان [عليه السلام](2). والأول مثل إرسال نبيّنا إلى الجنّ يدعوهم إلى الإيمان؛ فهذا أكمل من استخدام الجنّ في بعض الأمور المباحة؛ كاستخدام سليمان [عليه السلام](3) لهم في محاريبَ، وتماثيلَ، وجِفانٍ [كالجوابِ](4) وقدورٍ راسيات، [اعملوا آل داود شُكراً](5)؛ قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ [كَالجَوَابِ](6) وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْملُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرَاً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور}(7)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير}(8).
ونبيّنا أُرسل إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته؛ كما أُرسل إلى الإنس. فإذا اتّبعوه، صاروا سعداء. فهذا أكمل له ولهم من ذاك.
العبد الرسول أكمل من الملك الرسول
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): تعينه.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(4) في ((م))، و ((ط)): كالجوابي.
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(6) في ((م))، و ((ط)): كالجوابي.
(7) سورة سبأ، الآية 13.
(8) سورة سبأ، الآية 12.(19/31)
كما أنّ العبدَ الرّسول أكمل من النبيّ الملِك(1)
__________
(1) وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وانقسم الأنبياء عليهم السلام إلى عبدٍ رسول، ونبيّ ملك. وقد خيَّر الله سبحانه محمّداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون نبيّاً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً... فالنبيّ الملك يفعل ما فرض الله عليه، ويترك ما حرّم الله عليه، ويتصرّف في الولاية والمال بما يُحبّه، ويختار من غير إثم عليه. وأما العبد الرسول فلا يُعطي أحداً إلا بأمر ربه، ولا يُعطي من يشاء ويحرم من يشاء؛ بل رُوي عنه أنّه قال: "إني والله لا أعطي أحداً، ولا أمنع أحداً، إنّما أنا قاسم حيث أمرت". مجموع الفتاوى 11/180-181. وانظر: المصدر نفسه 13/88. ومنهاج السنة النبوية 7/468. والبداية والنهاية لابن كثير 6/50، 294.
وحديث "إني والله لا أُعطي أحداً". رواه البخاري في كتاب فرض الخمس.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إنّ عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختارما عنده.. فبكى أبو بكر.."
انظر: صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة رقم 45 - الفتح 7/227 -. وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رقم 2.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جلس جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إنّ هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة. فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك فقال: أفملكاً نبياً يجعلك، أو عبداً رسولاً. قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: "بل عبداً رسولاً".
انظر: مسند الإمام أحمد 2/231. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المسند 12/142-143)، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان14/280. وقال محققه: صحيح على شرط الشيخين.(19/32)
. ويوسف، وداود، وسليمان [عليهم السلام](1) أنبياء ملوك. وأمّا محمّد [صلى الله عليه وسلم ](2) فهو عبدٌ رسولٌ؛ كإبراهيم، وموسى، والمسيح [عليهم السلام](3). وهذا الصنف أفضل، وأتباعهم أفضل.
أهل البدع أحوالهم من إعانة الشياطين
والثالث: أن تعينه على محرمات؛ مثل الفواحش، والظلم، والشرك، والقول الباطل؛ فهذا من جنس خوارق السحرة، والكهّان، والكفّار، والفجّار؛ مثل أهل البدع من الرفاعية(4)، وغيرهم؛ فإنهم يستعينون بها على الشرك، وقتل النفوس بغير حق، والفواحش. وهذه الثلاثة هي التي حرّمها الله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً}(5).
ولهذا كانت طريقهم من جنس طريق الكهّان، والشعراء، والمجانين - وقد نزّه الله نبيّه عن أن يكون مجنوناً، وشاعراً، وكاهناً(6) - فإنّ إخبارهم(7) بالمغيّبات عن شياطين تنزل عليهم كالكهّان، وأقوى أحوالهم لمؤلهيهم. وهم من جنس المجانين، وقد قال شيخهم: إن أصحاب الأحوال منهم يموتون على غير الإسلام. وأما سماعهم، ووجدهم فهو شعر الشعراء، ولهذا شبّههم من رآهم بعبّاد المشركين؛ من الهند الذين يعبدون الأنداد.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(4) تقدم التعريف بهم ص 180.
(5) سورة الفرقان، الآية 68.
(6) قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}. [سورة الطور، الآيات 29-31].
(7) يعني الكهان، والشعراء، والمجانين.(19/33)
فصل(
كل ما يدل علىالنبوة آية وبرهان عليها
وحقيقة الأمر أنّ ما يدل على النبوة هو آيةٌ على النبوة، وبرهانٌ عليها. فلا بُدّ أن يكون مختصاً بها، لا يكون [مشتركاً](1) بين الأنبياء وغيرهم؛ فإنّ الدليل هو مستلزمٌ لمدلوله، لا يجب أن يكون أعمّ وجوداً منه، بل إما أن يكون مساوياً له في العموم والخصوص، أو يكون أخصّ منه. وحينئذٍ فآية النبيّ لا تكون لغير الأنبياء. لكن إذا كانت معتادة لكلّ نبيّ، أو لكثيرٍ من الأنبياء، لم يقدح هذا فيها، فلا يضرّها أن تكون معتادة للأنبياء.
وصف الآية بأنها خارقة أو غير خارقة وصف لا ينضبط
وكون الآية خارقة للعادة، أو غير خارقة: هو وصفٌ لم يصفه القرآن، والحديث، ولا السلف.
وقد بيّنا في غير هذا الموضع أنّ هذا وصفٌ لا ينضبط(2)، وهو عديم التأثير؛ فإنّ نفس النبوة معتادة للأنبياء، خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم.
إنّ كون الشخص يخبره الله بالغيب خبراًً معصوماًً هذا مختصّ بهم، وليس هو موجوداً لغيرهم، فضلاً عن كونه معتاداً.
معنى الخارق للعادة
فآية النبيّ لا بُدّ أن تكون خارقةً للعادة؛ بمعنى أنّها ليست معتادة للآدميين؛ وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة.
وبهذا احتجوا على أنّه لا بدّ أن تكون خارقة للعادة. لكن ليس في هذا ما يدلّ على أنّ كل خارق آية؛ فالكهانة(3)
__________
(1) في ((خ)): مشركاً. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) انظر من كتب شيخ الإسلام: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/412-421، 6/380-404، 496-505. ومنهاج السنة النبوية 3/228.
وقد بسط المؤلف رحمه الله الكلام على هذا في مواضع من كتابنا هذا. راجع ص 990، 1017، وغيرها.
(3) الكاهن: هو الذي يدّعي مطالعة عالم الغيب، ويُخبر الناس عن الكوائن. وكان في العرب كهنة يدّعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور؛ كشقّ، وسطيح، وغيرهما.
انظر: معالم السنن 4/228. ولسان العرب 13/363.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما الكاهن، والمنجم، ونحو هؤلاء، فيكذبون كثيراً، كما يصدقون أحياناً، ويُخبرون بجمل غير مفصّلة". الجواب الصحيح 6/69.(20/1)
، والسحر(1) هو معتاد للسحرة والكهان، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم؛ كما أنّ ما يعرفه أهل الطب، والنجوم(2)
__________
(1) قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن السحر: "اعلم أنّ السحر في الاصطلاح لا يمكن حدّه بحدّ جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته. ولا يتحقق قدر مشترك يكون جامعاً لها ما نعاً لغيرها. ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً". أضواء البيان 4/444.
وعرفه ابن قدامه بقوله: "عزائم، ورقى، وعقد تُؤثّر في الأبدان والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه". الكافي 4/164. والمغني 12/299. وانظر: زاد المعاد 4/125-126.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع أخرى من كتابه هذا: النبوات ص 172: "أنّ الكاهن إنّما عنده أخبار، والساحر عنده تصرف بقتل، وإمراض، وغير ذلك. وهذا تطلبه النفوس أكثر".
(2) التنجيم نوعان: أولا: علم التأثير عرّفه شيخ الإسلام رحمه الله بأنّه: "الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية، والقوابل الأرضية). وقال رحمه الله عن حكمه: "صناعة محرمة بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل". مجموع الفتاوى 35/192.
وعرفه ابن خلدون رحمه الله بأنّه "ما يزعمه أصحاب هذه الصناعة من أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها، من قبل معرفة قوى الكواكب، وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة؛ فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالّة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية". مقدمة ابن خلدون ص 519-520. وهذا ينافي التوحيد.
والنوع الثاني: علم التيسير؛ وهو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات، فهذا لا بأس به، بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات، أو الاهتداء به في الجهات. انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن السعدي: ص 91-92. وهناك تعاريف أخرى. انظر: معالم السنن 5/371-372. وشرح السنة للبغوي 12/183.(20/2)
، والفقه، والنحو هو معتادٌ لنظرائهم، وهو خارقٌ بالنسبة إلى غيرهم.
الكسوف يُعرف بالحساب
ولهذا إذا أخبر الحاسب(1) بوقت الكسوف والخسوف(2)، تعجب الناس؛ [إذ](3) كانوا لا يعرفون طريقه؛ فليس في هذا ما يختص بالنبيّ. وكذلك [قراءة](4) القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم صارت مشتركة بين النبيّ وغيره. وأما نفس الابتداء به فهو المختص بالنبيّ.
المعجزة تكون من الابتداء مختصة بالنبي
وكذلك ما يرويه من أنباء الغيب عن الأنبياء لما صار مشتركاً بين النبيّ وغيره، لم يبق [آية](5)، بخلاف الابتداء به.
معنى الكهانة
__________
(1) الحَسْبُ يأتي بمعان كثيرة، منها: العدّ والإحصاء وتقدير الشيء. قال الفراء: حَسِبتُ الشيء: ظننتُه أحسِبُه وأحسَبُه، والكسر أجود اللغتين. انظر: تهذيب اللغة 4/329-331، مادة حسب.
وجاء في حديث الهجرة: "فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير...". الحديث رواه البخاري في صحيحه5/79.
(2) الكسوف: مأخوذ من كسفت الشمس والقمر - بفتح الكاف. وقيل:كسف الشمس - بالكاف -، وخسف القمر - بالخاء -. انظر: شرح النووي على مسلم 6/198.
وجمهور أهل العلم على أنّ الكسوف والخسوف يكون لذهاب ضوء الشمس والقمر كلّه، ويكون لذهاب بعضه.
فالكسوف لا يكون إلا في آخر الشهر ليالي الإسرار. والخسوف لا يكون إلا في وسط الشهر ليالي الإبدار.
انظر: مجموعة الفتاوى المصرية 1/320. ومجموع الفتاوى 35/175.
(3) في ((ط)) فقط: إذا.
(4) في ((خ)): قرأت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) في ((خ)): أنه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/3)
فالكهانة مثلاً: وهو الإخبار ببعض الغائبات عن الجن: أمرٌ معروفٌ عند الناس. وأرض العرب كانت مملوءة من الكهان، وإنّما ذهب ذلك بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم (1). وهم يكثرون في كل موضع نقص فيه أمر النبوة؛ فهم كثيرون في أرض عبّاد الأصنام، ويوجدون كثيراً عند النصارى، ويوجدون كثيراً في بلاد المسلمين؛ حيث نقص العلم والإيمان بما جاء به الرسول(2)
__________
(1) لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الجنّ - فيما ذكره الله تعالى عنهم -:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [ الجنّ 8-10].
قال ابن عبّاس: "انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليه الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث.." أخرجه البخاري في صحيحه 2/253. ومسلم في صحيحه 1/331.
قال شيخ الإسلام: "وقد تواترت الأخبار بأنه حين المبعث كثر الرمي بالشهب، وهذا أمر خارق للعادة، حتى خاف بعض الناس أن يكون ذلك لخراب العالم، حتى نظروا هل الرمي بالكواكب التي في الفلك، أم الرمي بالشهب ؟ فلما رأوا أنه بالشهب، علموا أنه لأمر حدث. وأرسلت الجن تطلب ذلك، حتى سمعت القرآن، فعلمت أنه كان لأجل ذلك". الجواب الصحيح 5/353-354.
(2) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ذلك مراراً، وبيَّن أن أحوال المشعوذين تُقبل في مجتمعات الجاهلين، وتكثر حيث يقلّ العلم والعلماء العاملين. انظر: كتاب الصفدية 1/233، 236. والرد على المنطقيين ص 187.
وهذا مشاهد الآن في بعض الأقطار التي يقلّ فيها نور الإسلام؛ فقد شاع بين بعض الناس علوم السحرة، والعرّافين، وأهل الزّار، ومن يُخبر عن الحظ، والطالع. ونفقت بضاعة المشعوذين والدجالين التي هي من علوم الجاهلية؛ كما قال شيخ البطائحية لشيخ الإسلام رحمه الله لما ناظرهم: "أحوالنا تظهر عند التتار، لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله". انظر: مجموع الفتاوى 11/455.(20/4)
؛ لأنّ هؤلاء أعداء الأنبياء، والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء؛ فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ [الشَّيَاطِين](1)[تَنَزَّلُ](2) عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيْم يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}(3).
فهؤلاء لا بُدّ أن يكون في أحدهم كذب وفجور، وذلك يُناقِض النبوّة. فمن ادّعى النبوّة، وأخبر بغيوبٍ من جنس أخبار الكهّان، كان ما أخبر به خرقاً للعادة عند أولئك القوم، لكن ليس خرقاً لعادة جنسه من الكهّان.
خوارق بعض المتنبئين
وهم إذا جعلوا ذلك آية لنبوته، كان ذلك لجهلهم [بوجود](4) هذا الجنس لغير الأنبياء؛ كالذين صدّقوا مسيلمة الكذّاب(5)
__________
(1) في ((خ)): الشيطان.
(2) في ((خ)): تنزلوا.
(3) سورة الشعراء، الآيات 221-223.
(4) في ((ط)) فقط: لوجود.
(5) هو: مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفيّ الوائلي. متنبئ. ولد ونشأ باليمامة في بلدة الجبيلة بوادي حنيفة. وكان قد تنبّأ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر. وزعم أنه اشترك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكان معه من الشياطين من يُخبر بالمغيبات. بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير، حتى أهلكه الله على يد وحشي غلام مطعم بن عدي؛ الذي قتل حمزة بن عبد المطلب. وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام.
انظر: مجموع الفتاوى 11/285. وشذرات الذهب 1/231. والأعلام 7/226.(20/5)
، والأسود العنسي(1)، والحارث الدمشقي(2)، وبابا الرومي(3)
__________
(1) هو عبهلة بن كعب بن غوث العنسي المذحجي، ذو الخمار، ويلقب بالأسود. كان كاهناً مشعبذاً، فتنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وكان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور الغيبية. فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يُخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لمّا تبيّن لها كفره، فقتلوه؛ قتله فيروز الديلمي على فراشه. فبشّر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد. وأتى خبر مقتل العنسي المدينةَ في آخر شهر ربيع الأول، بعد ما خرج أسامة. وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه.
انظر: مجموع الفتاوى 10/666، 11/284. والبداية والنهاية 6/311. والأعلام 5/299.
(2) هو الحارث بن سعيد - أو ابن عبد الرحمن - بن سعد. متنبئ من أهل دمشق. يُعرف أتباعه بالحارثية. كان مولى لأحد القرشيين، ونشأ متعبداً زاهداً، ثم ادعى النبوة. وكان يأتي إلى رخامة فينقرها بيده، فتسبح. ويطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء، ويظهر لهم خيالات يقول إنها الملائكة. وتبعه خلق كثير. قبض عليه عبدالملك ابن مروان، فصلبه، وقتله.
انظر: مجموع الفتاوى 11/285. والبداية والنهاية 9/27-28. والأعلام 2/154.
(3) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا المتنبئ الكذّاب في كثير من كتبه؛ مثل: الجواب الصحيح 2/34. وشرح الأصفهانية 1/287. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 179-180؛ حيث ذكره فيه باسم باباه الرومي.
والبابا: اسم عام، يُطلق على الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية
انظر: المعجم الوسيط 1/35.
ولعلّ المؤلف - رحمه الله - يقصد شخصاً معيّناً؛ فلعله أن يكون البابا نبيّ الصابئة الحرّانيّين؛ إذ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر أنّ الصابئة الحرانيين "لهم نبيّ على أصلهم، يُقال له البابا، وله مصحف يذكر فيه كثيراً من الأخبار المستقبلة، ويذكر أن سيّدته؛ يعني روحانية الزهرة، أخبرته بذلك. وكثير منها صحيح؛ كإخباره بدخول المسلمين بلاد حرّان وغيرها، وفتحهم البلاد، وإهانتهم لطائفته". الرد على المنطقيين ص 480-481.
وليس الأمر علماً بالغيب، بل لعله حدسٌ صدق.(20/6)
، وغير هؤلاء من المتنبئين الكذّابين(1). وكان هؤلاء [يأتون](2) بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم، لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس [بنبي](3). فمن صدقهم ظنّ أنّ هذا مختصٌ بالأنبياء , وكان من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء، كما أنهم كانوا يأتون بأمور [تناقض](4) النبوة(5).
آيات الأنبياء لا يعارضها من ليس بنبي
ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يُعارضها من ليس بنبي، فكل ما عارضها [صادراً م](6) مّن ليس من جنس الأنبياء، فليس من آياتهم.
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "مسيلمة الكذاب والأسود العنسي اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل منهما شياطين تُخبره وتعينه". مجموع الفتاوى 11/666.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): نبي. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): يناقض. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) ذكر علماء التاريخ أنّ مسيلمة كان يتشبّه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر، فغزر ماؤها. فبصق مسيلمة في بئر، فغاض ماؤها بالكلية. وبصق في آخر، فصار ماؤه أجاجاً، وتوضأ، وسقى بوضوئه نخلاً، فيبست، وهلكت. وأتى بولدان يُبرّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم، فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه. ويُقال إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه، ومسحهما، فعمي. انظر: البداية والنهاية 6/331.
وأما الأسود العنسي: فلا أدلّ على كذبه من قصة أبي مسلم الخولاني، حين ألقاه العنسي في النار، فصارت عليه برداً وسلاماً؛ كما صارت النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام.
وقد تقدمت هذه القصة قريباً ص 192.
(6) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).(20/7)
ولهذا طلب فرعون أن يُعارَض ما جاء به موسى لمّا ادعى أنّه ساحر(1)؛ فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى، فلا [تبقى](2) حجته مختصة بالنبوة. وأمره[م موسى](3) أن يأتوا أولاً بخوارقهم، فلمّا أتت، وابتلعتها العصا التي صارت حية، علم السحرة أنّ هذا ليس من جنس مقدورهم، فآمنوا إيماناً جازماً.
ولما قال لهم فرعون: {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابَاً وَأَبْقَى - قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}(4). وقالوا: {آمَناَّ بِرَبِّ العَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُون}(5).
فكان من تمام علمهم بالسحر: أنّ السحر معتادٌ لأمثالهم، وأنّ هذا ليس من هذا الجنس، بل هذا مختص بمثل هذا؛ فدلّ على صدق دعواه.
وفرعون وقومه [بين](6) معاندٍ وجاهلٍ استخفه فرعون؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ}(7).
نقد شيخ الإسلام لبعض من عرف المعجزة
فإذا قيل لهم: المعجزة هي الفعل الخارق للعادة، أو قيل: هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي، أو قيل مع ذلك الخارق للعادة: السليم عن المعارضة؛ فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا.
فإنّه إن أريد به أنّه لم يوجد له نظير في العالم، فهذا باطلٌ؛ فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض، بل النوع الواحد منه؛ كإحياء الموتى: هو آية لغير واحد من الأنبياء.
__________
(1) المدّعي هو فرعون؛ زعم أنّ ما جاء به موسى عليه السلام سحر، وأنّه - عليه السلام - ساحر.
(2) في ((خ)): يبقى. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) سورة طه، الآيتان 71-72.
(5) سورة الأعراف، الآيتان 121-122.
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(7) سورة الزخرف، الآية 54.(20/8)
وإن [قيل](1): إنّ بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها؛ كالقرآن، والعصا، والناقة، لم يلزم ذلك في سائر الآيات(2).
__________
(1) في ((خ)): قد. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) والسبب والله أعلم: أنّ هذه المعجزات لم تتكرر لأنبياء آخرين، إنّما جاءت لما هو شائعٌ بين القوم المرسل إليهم، ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة. فالقرآن الكريم تحدّى به رسول الله صلى الله عليه وسلم العربَ أن يأتوا بسورةٍ من مثله، فعجزوا، وهم الذين عُرفوا بالبراعة في فنون القول والفصاحة. والعصا معجزة موسى عليه السلام لما عُرف عن قوم فرعون من البراعة في السحر. والناقة معجزة صالح عليه السلام، وكان قومه يتقلبون في نعم الله، وينحتون من الجبال بيوتاً؛ فأخرج الله لهم ناقة عشراء من صخرة ملساء، لها شرب، ولثمود شرب يوم آخر.
انظر: رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص166. وأعلام النبوة للماوردي ص 97. والإنصاف للباقلاني ص 93. وأصول الدين للبغدادي ص 108. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 572. والشفاء للقاضي عياض 1/200. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/14. وتفسير ابن كثير 1/364-365، 2/418، 5/169-200. والبداية والنهاية له 2/84. وتفسير السعدي 3/28. ومع الأنبياء في القرآن الكريم ص 22.(20/9)
ثمّ هب أنّه لا نظير لها في نوعها، لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا، فنفس خوارق العادات معتادٌ [جنسه](1) للأنبياء، بل هو من لوازم نبوتهم، مع كون الأنبياء كثيرين؛ وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبيّ(2) وما يأتي به كلّ واحد من هؤلاء، لا يكون معدوم النظير في العالم، [بل ربما كثر نظيره](3).
الكلام عن معنى خرق العادة
[وإن عني بكون](4) المعجزة هي الخارق للعادة: أنّها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة؛ بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك، فهذا ليس بحجة؛ فإنّ أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة، والسحر، ونحو ذلك.
وقد يكون المخاطبون بالنبوة ليس فيهم هؤلاء؛ كما كان أتباع مسيلمة(5)، والعنسي(6)، وأمثالهما؛ لا يقدرون على ما يقدر عليه هؤلاء.
والمبّرز في فنٍ من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه، وليس هذا دليلاً على النبوة؛ فكتاب سيبويه(7)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): جميعه.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 5/266. وابن حبان في صحيحه 8/54، وقال: على شرط مسلم، ولم يُخرّجه. وقال عنه القرطبي: هذا أصحّ ما رُوي في ذلك. انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/14. وصحّحه الألباني. انظر: مشكاة المصابيح 3/1599.
(3) في ((خ)): وإن كثر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): قد يكون. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) سبق التعريف به قريباً ص 192.
(6) سبق التعريف به قريباً ص 192.
(7) هو عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث. أبو البشر. من تلاميذ الخليل. توفي سنة 177ه، وعمره نيف وأربعين سنة. وقد صنّف في النحو كتاباً لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده، فانغمروا في لجج بحره. وكان المبرد إذا أراد إنسان أن يقرأ كتاب سيبويه يقول له: ركبتَ البحر؛ تعظيماً له، واستعظاماً لما فيه. وقال المازني: من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه، فليستحيي.
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 10/182. والفهرست لابن النديم ص 76.(20/10)
مثلاً ممّا لا يقدر على مثله عامّة الخلق، وليس بمعجز؛ إذ كان ليس مختصاً بالأنبياء، بل هو موجود لغيرهم. وكذلك طب أبقراط(1).
بل وعلم العالم الكبير من علماء المسلمين خارج عن عادة الناس، وليس هو دليلاً على نبوّته.
وأيضاً: فكون الشيء معتاداً هو مأخوذ من العود. وهذا يختلف بحسب الأمور؛ فالحائض المعتادة: من الفقهاء من يقول: [تثبت](2) عادتها بمرة، ومنهم من يقول: بمرتين، ومنهم من يقول: لا [تثبت](3) إلا بثلاث(4).
وأهل كلّ بلدٍ لهم عادات في طعامهم، ولباسهم، وأبنيتهم، لم يعتدها غيرهم. فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم، لا لعادة من اعتاده [غيرهم](5).
فلهذا لم يكن في كلام الله، ورسوله، وسلف الأمة، وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، [ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل؛ فإنّ هذا لا ضابط له، وهو مشتركٌ بين الأنبياء وغيرهم. ولكن إذا قيل: من شرطها أن تكون خارقة للعادة](6)؛ بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد.
القول بأن المعجزة هي الخارقة للعادة ليس كافياً لوجهين
__________
(1) هو بقراط بن إيراقليس. طبيب ماهر من تلاميذ أسقلبيوس الثاني. كان في أيام بهمن ابن أردشير. قال يحيى النحوي: بقراط وحيد دهره الذي يضرب به المثل، الطبيب الفيلسوف. وبلغ به الأمر إلى أن عبده الناس. توفي سنة 357 ق.م، وعمره 95سنة.
انظر: طبقات الأطباء ص 24. والفهرست ص 400. وتاريخ الحكماء ص 90.
(2) في ((خ)): يثبت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): يثبت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: هذه الأقوال الثلاثة مع أدلتها في كتاب المغني 1/397-398.
(5) في ((م))، و ((ط)): من غيرهم.
(6) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).(20/11)
ويعرفون أنّ الأمر المعتاد؛ مثل الأكل، والشرب، والركوب، والسفر، وطلوع الشمس، وغروبها، ونزول المطر في وقته، وظهور الثمرة في وقتها، ليس دليلاً، ولا يدّعي أحدٌ أنّ مثل هذا دليلٌ له؛ فإن فساد هذا ظاهر لكلّ أحد.
ولكن ليس مجرد كونه خارقاً للعادة كافياً لوجهين:
أحدهما: أنّ كون الشيء معتاداً وغير معتاد أمرٌ نسبيّ إضافيّ، ليس بوصف مضبوط تتميّز به الآية، بل يعتاد هؤلاء ما لم يعتد هؤلاء؛ مثل كونه مألوفاً، ومجرّباً، ومعروفاً، ونحو ذلك من الصفات الإضافية.
الثاني: أنّ مجرّد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم. وإذا خصّ ذلك بعدم المعارضة، فقد يأتي الرجل بما لا يقدر الحاضرون على معارضته، ويكون معتاداً لغيرهم كالكهانة، والسحر. وقد يأتي بما لا يمكن معارضته، وليس بآية لشيء؛ لكونه لم يختص بالأنبياء.
وقد يُقال في طبّ [بقراط](1) ونحو سيبويه(2) أنّه لا نظير له، بل لا بد أن يقال: إنّه مختصّ بالأنبياء، والطب، والنحو، والفقه.
وإن أتى الواحد بما لا يقدر غيره على نظيره، فليس مختصاً بالأنبياء، بل معروف أنّ هذا تعلّم بعضه من غيره، واستخرج سائره بنظره.
وإذا خصّ الله طبيباً، أو نحوياً، أو فقيهاً بما ميّزه به على نظرائه، لم يكن ذلك دليلاً على نبوّته، وإن كان خارقاً للعادة؛ فإنّ ما يقوله الواحد من هؤلاء قد علمه بسماعٍ، أو تجربةٍ، أو قياسٍ.
وهي طرقٌ [معروفة](3) لغير الأنبياء.
والنبيّ قد علّمه الله من الغيب الذي عصمه فيه عن الخطأ ما لم يعلَمْهُ إلا نبيّ مثلُهُ.
الآية لا تعرف أنها مختصة بالنبي حتى يعرف جنس النبوة
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): أبقراط. وبقراط: تقدم التعريف به.
(2) تقدم التعريف به.
(3) في ((خ)): معرفة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/12)
فإن قيل: فحينئذٍ لا يُعرف أنّ الآية مختصةٌ بالنبيّ، حتى [تُعرف](1) النبوة. [قيل](2): أما بعد وجود الأنبياء في العالم، فهكذا هو.
ولهذا يُبيّن الله عزّ وجلّ نبوّة محمّد في غير موضع باعتبارها بنبوّة من قبله. [و](3) تارةً يُبيّن أنّه لم يُرسل ملائكةً، بل رجالاً من أهل القرى، ليُبيّن أنّ هذا معتادٌ معروفٌ، ليس هو أمراً لم تَجْرِ به عادة الربّ ؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(4)؛ كما ذكره في سورة النحل(5) والأنبياء(6). وقال في يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيْرُوا في الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ للذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ}(7).
فإنّ الكفّار كانوا يقولون: إنّما يُرسل الله مَلَكاً، أو يُرسل مع البشر مَلَكَاً؛ كما قال فرعون {أَمْ أَنَا [خَيْرٌ](8) مِنْ هَذَا الذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِين فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ [أَسْوِرَة](9) مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ [مُقْتَرنِين](10)}(11).
__________
(1) في ((خ)): يعرف. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((م))، و ((ط)): قبل.
(3) حرف الواو ساقطٌ في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) سورة الأنبياء، الآية 7.
(5) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}. [النحل 43].
(6) وهي الآية التي تقدمت آنفاً.
(7) سورة يوسف، الآية 109.
(8) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)).
(9) في ((خ)): أساورة.
(10) رسمت في ((خ)): مقترين.
(11) سورة الزخرف، الآيتان 52-53.(20/13)
وقال قوم نوح: {مَا هذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}(1).
وقال مشركو العرب لمحمد: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي في الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ [إِلَيْهِ](2) مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} (3).
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرَاً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكَاً رَسُولاً}(4).
الآيات الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقدم له نظراء وقد بشروا به
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكَاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكَاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}(5)؛ بيَّن أنّهم لا يُطيقون الأخذ عن الملائكة إن لم يأتوا في صورة البشر، ولو جاءوا في صورة البشر لحصل اللبس.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية 24.
(2) في ((ط)): عليه.
(3) سورة الفرقان، الآيتان 7-8.
(4) سورة الإسراء، الآيتان 94-95.
(5) سورة الأنعام، الآيتان 8-9.(20/14)
وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبَاً أَنْ أَوْحَينَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}(1)، وكانت العرب لا عهد لها بالنبوة من زمن إسماعيل، فقال الله لهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر ِ}(2)؛ يعني أهل الكتاب، {إِنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ}(3): هل أرسل إليهم رجالا أو ملائكة، ولهذا قال له: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُلِ}(4)، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل}(5)؛ بيَّن أنّ هذا الجنس من الناس معروفٌ، قد تقدم له نظراء وأمثال.
وهو سبحانه أمر أن يُسأل أهل الكتاب، وأهل الذكر عما عندهم من العلم [ بأمور ](6) الأنبياء؛ هل هو من جنس ما جاء به محمّد، أو هو مخالفٌ له؛ ليتبيّن بأخبار أهل الكتاب المتواترة جنس ما جاءت به الأنبياء، وحينئذٍ فيعرف قطعاً أنّ محمّداً نبيّ، بل هو أحقّ بالنبوّة من غيره.
والثاني: أن يسألوهم عن خصوص محمّد، وذكره عندهم. وهذا يعرفه الخاصّة منهم، ليس هو معروفاً كالأوّل يعرفه كل كتابي؛ قال تعالى: {قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [وَشَهِدَ](7) شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}(8).
تفسير قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل}
__________
(1) سورة يونس، الآية 2.
(2) سورة النحل، الآية 43.
(3) سورة النحل، الآية 43.
(4) سورة الأحقاف، الآية 9.
(5) سورة آل عمران، الآية 144.
(6) في ((م))، و ((ط)): من أمور.
(7) في ((خ)): شاهد.
(8) سورة الأحقاف، الآية 10.(20/15)
وقوله: {شَهِدَ شَاهِدٌ}: ليس المقصود شاهداً واحداً معيّناً، بل ولا [يُحتَمل](1) كونه واحداً. وقول من قال: [إنه](2) عبد الله بن سلام(3) ليس بشيء(4)؛ فإنّ هذه نزلت بمكة قبل أن يعرف ابن سلام(5)، ولكنّ المقصود جنس الشاهد(6)؛ كما [تقول](7) قام الدليل. وهو الشاهد الذي يجب تصديقه سواء كان واحداً قد يقترن بخبره ما يدلّ على صدقه، أو كان عدداً يحصل بخبرهم العلم [بما](8) تقول؛ فإن [خبرك](9) بهذا صادقٌ. وقوله: {عَلَى مِثْلِهِ}: فإنّ الشاهد من بني إسرائيل على
__________
(1) في ((خ)): يحمل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث؛ الإمام الحبر، المشهود له بالجنّة. أبو الحارث الإسرائيليّ، حليف الأنصار. من خواصّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. أسلم وقت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقدومه المدينة. توفي بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. انظر: سير أعلام النبلاء 2/413.
(4) القول بأنّ المقصود بهذه الآية عبد الله بن سلام: رواه البخاري في صحيحه 3/1387، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وعزاه القرطبيّ إلى ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد. انظر: الجامع لأحكام القرآن 16/124.
(5) قال مسروق رحمه الله: واللهِ ما نزلت في عبد الله بن سلام. ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنّها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه.... فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم. انظر: تفسير الطبري 27/9.
(6) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا الشاهد اسم جنس يعمّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره". انظر: تفسير القرآن العظيم 4/156.
(7) في ((خ)): يقول. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(8) في ((خ)): كما. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(9) في ((خ)): أخبرك. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/16)
[مثل](1) القرآن؛ وهو أنّ الله بعث بشراً، وأنزل عليه كتاباً أمر فيه بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهى فيه عن عبادة ما سواه، وأخبر فيه أنّه خلق هذا العالم وحده، وأمثال ذلك.
المشركون ليس معهم دليل سمعي ولا عقلي
وقد ذَكَرَ في أول هذه السورة(2) التوحيد، وبيّن أنّ المشركين ليس معهم على الشرك لا دليل عقليّ، ولا سمعيّ؛ فقال تعالى: {[مَا خَلَقْنَا](3) السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمَّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُوْنِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئَاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيْضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوْحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(2) سورة الأحقاف.
(3) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): ما خلق الله. وهو خطأ، والصواب ما أثبت.(20/17)
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} إلى آخره(1).
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ}(2)؛ فمن عنده علم الكتاب(3) شهد بما في الكتاب الأول(4)، وهو يوجب تصديق الرسول لأنه يشهد بالمثل(5)، ويشهد أيضاً بالعين(6). و[كلّ](7)
__________
(1) سورة الأحقاف، الآيات 3-10.
(2) سورة الرعد، الآية 43.
(3) قال ابن كثير رحمه الله: (والصحيح في هذا: أنّ {وَمَنْ عِنْدَهُ}: اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة؛ من بشارات الأنبياء به؛ كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} الآية. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة ). تفسير القرآن العظيم 2/521.
(4) وهي الكتب السابقة المتقدمة على القرآن، والتي فيها ذكر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كالتوراة والإنجيل.
(5) أمثال الأنبياء، وحاجة الأمم إليهم، ولأنّ الله سبحانه وتعالى لا بُدّ أن يُقيم الحجة على عباده، فيُرسل إليهم الرسل يدلّونهم على عبادته وحده.
(6) أنّه يخصّ ويُعيّن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ اسمه، وصفاته؛ كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..}. [الصف، الآية 6].
(7) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.(20/18)
من الشهادتين كافية، فمتى ثبت الجنس(1)، عُلم قطعاً أنّ المعيّن منه.
وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ في شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّك فلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ}(2). وهذا سواءٌ كان خطاباً [للرسول](3) والمراد به غيره، أو خطاباً له وهو لغيره بطريق الأولى. [والتقدير](4) قد يكون معدوماً أو ممتنعاً(5)، وهو بحرف (إن)؛ كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ للرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِيْنَ}(6)، و{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}(7)؛ والمقصود بيان الحكم على هذا التقدير: إن كنتُ قلتُهُ فأنت عالمٌ به وبما في نفسي، وإن كان له ولدٌ فأنا عابده، وإن كنت شاكّاً فاسأل إن قُدّر إمكان ذلك؛ فسؤال الذين يقرءون الكتاب قبله إذا أخبروا، فما عندهم شاهدٌ له، ودليلٌ، وحجّةٌ. ولهذا نهى بعد ذلك عن الامتراء(8) والتكذيب.
الآيات التي بتقدير الممتنع بحرف إن كثيرة
__________
(1) جنس الأنبياء.
(2) سورة يونس، الآيتان 94-95.
(3) في ((ط)) فقط: للرسل.
(4) في ((م))، و ((ط)): المقدر.
(5) يرى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله أنّ المحال لا يعلّق عليه إلا المحال؛ فيقول رحمه الله: "إنّ الشرط إن عُلّق به مستحيل، فلا يُمكن أن يصحّ الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلاً أيضاً؛ لأنّ الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل. أما كون الشرط مستحيلاً، والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر، فهذا مما لا يصحّ بحال. ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه...". أضواء البيان 7/294.
(6) سورة الزخرف، الآية 81.
(7) سورة المائدة، الآية 116.
(8) الامتراء: الشكّ.
انظر: لسان العرب 15/278. والقاموس المحيط 766. والمصباح المنير 750.(20/19)
وأما تقدير الممتنع بحرف (إن) فكثيرٌ، ومن ذلك قوله:{فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الأَرْضِ أَوْ سُلَّمَاً في السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}(1)، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}(2)، {أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(3)، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودَاً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(4)، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(5)، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمُهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(6)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ}(7)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوْتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدَاً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}(8)، وقال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}(9). وهذا كُلّه في السور المكية، والمقصود الجنس. فإذا شهد
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 35.
(2) سورة المرسلات، الآية 39.
(3) سورة النمل، الآية 64.
(4) سورة البقرة، الآية 111.
(5) سورة يونس، الآية 38.
(6) سورة الشعراء، الآية 197.
(7) سورة الأنعام، الآية 114.
(8) سورة الإسراء، الآية 107-108.
(9) سورة القصص، الآيات 52-54.(20/20)
جنس هؤلاء مع العلم بصدقهم حصل المطلوب.
شهادة الرسل بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
لا يقف العلم على شهادة كل واحد واحد؛ فإنّ هذا متعذّر. ومن أنكر، أو قال: لا أعلم، لم يضر إنكاره. وإن قال: بل أعلم عَدَمَ مَا شهدوا به، عُلم افتراؤه في الجنس، وعُلم في الشخص [إذ](1) كان لم يحط علماً بجميع نسخ الكتب المتقدمة، وما في النبوّات كلّها، فلا سبيل لأحدٍ من أهل الكتاب أن يعلم انتفاء ذكر محمد في كل نسخة، بكلّ كتابٍ من كتب الأنبياء؛ إذ العلم بذلك متعذّر. ثمّ هذه النسخ الموجودة فيها ذكره في مواضع كثيرة، قد ذكر قطعة منها في غير هذا الموضع(2).
أعظم شرك المشركين دعوى الشريك لله والولد
وما ينبغي أن يعلم أن أعظم ما كان عليه المشركون قبل محمد، وفي مبعثه: هو دعوى الشريك لله، والولد. والقرآن مملوءٌ من تنزيه الله عن هذين، وتنزيهه عن المثل والولد يجمع كلّ التنزيه.
__________
(1) في ((خ)) رسمت: "إن". وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) انظر: الجواب الصحيح 5/197-318؛ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً من الشهادات الدالّة على نبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل.(20/21)
فهذا في سورة الإخلاص، وفي سورة الأنعام في مثل قوله: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}(1)، وفي سورة [سبحان](2): {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ}(3)، وفي سورة الكهف في أولها: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً}(4)، وفي آخرها: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاء... [وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً](5)}(6)، وفي مريم تنزيهه عن الولد في أول السورة(7)، وآخرها(8) ظاهرٌ. وعن الشريك: في مثل قصة إبراهيم(9)، وفي تنزيل(10)، وغير ذلك. وفي الأنبياء تنزيهه عن الشريك والولد، وكذلك في المؤمنين: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}(11)، وأوّل الفرقان: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ}(12)
__________
(1) سورة الأنعام، الآية 100.
(2) في ((ط)) فقط: الإسراء.
(3) سورة الإسراء، الآية 111.
(4) سورة الكهف، الآية 4.
(5) ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((ط)) فقط، ويُوجد بدلاً منه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً}.
(6) سورة الكهف، الآيات 102-110.
(7) في قوله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}. [مريم، 35].
(8) في نحو قوله جل وعلا: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}. [مريم، 92].
(9) انظر: سورة مريم، الآيات 42-48.
(10) قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}. [الزمر، 1-2].
(11) سورة المؤمنون، الآية 91.
(12) سورة الفرقان، الآية 2.(20/22)
. وأما طه، والشعراء مما بسط فيه قصة موسى.
فالمقصود الأعظم بقصة موسى إثبات الصانع(1)، ورسالته؛ إذ كان فرعون منكراً. ولهذا عظم ذكرها في القرآن، بخلاف قصة غيره؛ فإن فيها الردّ على المشركين المقرّين بالصانع، ومن جعل له ولداً من المشركين، وأهل الكتاب(2).
مذهب الفلاسفة الملحدين
ومذهب الفلاسفة الملحدة(3)
__________
(1) الصانع: ليس من أسماء الله تعالى، وإنّما ذلك من باب الإخبار. وما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته؛ كالشيء، والموجود، والصانع، والقائم بنفسه، والقديم؛ فإنّه يُخبر به عنه إن احتيج إليه، وإن كان لا يُدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدلّ على المدح.
انظر: مجموع الفتاوى 9/300-301. وبدائع الفوائد 1/161.
(2) انظر: الجواب الصحيح 6/445.
(3) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "وأما الفلاسفة فإمّا أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما أن يكون من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث. فمن كان من المشركين كما يُذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس كفلاسفة الفرس ونحوهم: فاليهود والنصارى خيرٌ منه. ولذلك هم خيرٌ من فلاسفة الصابئين". درء تعارض العقل والنقل 9/207-208.
وقال في موضع آخر: "الفلاسفة الملاحدة؛ كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وأمثالهم..". درء تعارض العقل والنقل 3/165.(20/23)
دائرٌ بين التعطيل، وبين الشرك والولادة؛ كما يقولونه في الإيجاب الذاتي(1)؛ فإنه أحد أنواع الولادة. وهم ينكرون معاد الأبدان.
وقد قُرن بين هذا وهذا(2) في الكتاب والسنة في مثل قوله: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيَّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً}(3)، إلى قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً}(4). وهذه في سورة مريم المتضمنة خطاب النصارى، ومشركي العرب؛ لأن الفلاسفة داخلون فيهم؛ فإنّ اليونان اختلطوا بالروم، فكان فيها خطاب هؤلاء وهؤلاء.
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال. فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم، فهذا باطل؛ لأنّ العلة التامة تستلزم معلولها. ولو كان العالم معلولاً لازماً لعلة أزلية، لم يكن فيه حوادث؛ فإنّ الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية. وهذا خلاف المحسوس. وسواء قيل: إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات؛ كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة؛ كابن سينا وأمثاله. أو قيل: إنه ذات موصوفة بالصفات، لكنها مستلزمة لمعلولها. فإنه باطلٌ أيضاً. وإن فسّر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كلّ واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه. فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، ومذهب أهل السنة. فإذا قالوا: إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث، فهو موافق لهذا المعنى لا المعنى الذي قالته الدهرية". منهاج السنة النبوية 3/274-275.
(2) بين إنكار البعث، ووصف الله بأنّ له ولداً - تعالى عن ذلك علواً كبيراً -.
(3) سورة مريم، الآيتان 66-67.
(4) سورة مريم، الآية 88.(20/24)
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك. فأمّا شتمه إياي: فقوله: إني اتّخذت ولداً. وأنا الأحد، الصمد، لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد. وأما تكذيبه إياي: فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته" رواه البخاري عن ابن عباس(1).
ولمّا كان الشركُ أكثرُ في بني آدم من القول بأنّ له ولداً، كان تنزيهه عنه أكثر. وكلاهما يقتضي إثبات: (مِثْلٍ)، و(نِدّ) من بعض الوجوه؛ فإنّ الولد من جنس الوالد، ونظير له، وكلاهما يستلزم الحاجة والفقر، فيمتنع وجود قادر بنفسه.
9أ
فالذي جعل شريكاً، لو فُرض مكافئاً، لزم افتقار كلّ منهما. وهو ممتنع. وإن كان غير مكافئ، فهو مقهورٌ.
الولد يتخذه المتخذ للحاجة
والولد يتخذه المتّخذ لحاجته إلى معاونته له؛ كما يُتَّخَذ المال؛ فإنّ الولد إذا اشتدّ أعان والده.
قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيّ لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ}(2)، وقال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّاً}(3)، إلى قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ في السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِ الرَّحْمَنِ عَبْدَاً}(4)، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلّ لَهُ قَانِتُونَ}(5).
__________
(1) أخرجه البخاري 4/1903، كتاب التفسير، باب تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}سورة الإخلاص. وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/350-351، 394-397، عن أبي هريرة.
(2) سورة يونس، الآية 68.
(3) سورة مريم، الآيتان 88-89.
(4) سورة مريم، الآية 93.
(5) سورة البقرة، الآية 116.(20/25)
فإنّ كون المخلوق مملوكاً لخالقه، وهو مفتقر إليه من كل وجه، والخالق غنيّ عنه يُناقض اتّخاذ الولد؛ [لأنه](1) إنما يكون لحاجته إليه في حياته، أو ليخلفه بعد موته. والربّ غنيّ عن كلّ ما سواه، وكلّ ما سواه فقيرٌ إليه، وهو الحي الذي لا يموت.
والوالد في نفسه [مفتقر](2) إلى ولد مخلوق، لا حيلة له فيه، بخلاف من يشتري المملوك فإنه باختياره مَلَكَهُ، ويمكنه إزالة ملكه؛ فتعلقه به من جنس تعلقه بالأجانب. والولادة بغير اختيار الوالد. والربّ يمتنع أن يحدث شيء بغير اختياره.
واتّخاذ الولد هو عِوَض عن الولادة لمن لم يحصل له، فهو أنقص في الولادة.
ولهذا من قال بالإيجاب الذاتي بغير مشيئته وقدرته، فقوله من جنس قول القائلين بالولادة الحاصلة بغير الاختيار، بل قولهم شرّ من قول النصارى ومشركي العرب من بعض الوجوه؛ كما قد بسط الكلام على هذا في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(3)، وغيره(4).
جنس النبوة معروف عند الناس
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): افتقار. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) وهو كتاب تفسير سورة الإخلاص لشيخ الإسلام.
ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كتاب آخر في تفسير السورة، اسمه: جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن. حققه الشيخ سليمان الغفيص، في مرحلة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 17/291.(20/26)
والمقصود: أنّ الله قال لمحمّد: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُّسُل}(1)، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل}(2)؛ فبيَّن أنّ هذا الجنس من الناس معروفٌ، قد تقدم له نظراء، وأمثال؛ فهو معتادٌ في الآدميين، وإن كان قليلاً [في الآدميّين](3).
آيات الأنبياء مختصة بهم وكرامات أتباعهم آيات لهم
وأمّا من جاءهم رسولٌ [لا](4) يعرفون قبله رسولاً؛ كقوم نوح، فهذا بمنزلة ما يبتديه الله من الأمور، وحينئذٍ فهو يأتي بما يختص به، ممّا يعرفون أن الله صدّقه في إرساله. فهذا يدلّ على النوع والشخص، وإن كانت آيات غيره تدلّ على الشخص؛ إذ النوع قد عرف قبل هذا.
[والمقصود](5) أن آيته وبرهانه لا بُدّ أن يكون مختصاً بهذا النوع، لا يجب أن يختصّ بواحدٍ من النوع، ولا يجوز أن يوجد لغير النوع.
وقد قلنا(6) أنّ ما يأتي به أتباع الأنبياء من ذلك هو مختص بالنوع، [فإنا نقول](7) هذا لا يكون إلا لمن اتبع الأنبياء فصار مختصاً بهم. وأما ما يوجد لغير الأنبياء وأتباعهم، فهذا هو الذي لا يدلّ على النبوة؛ [كخوارق](8) السحرة، والكهان.
من طعن بالأنبياء وصفهم بالسحر والجنون والشعر
__________
(1) سورة الأحقاف، الآية 9.
(2) سورة آل عمران، الآية 144.
(3) في ((م))، و ((ط)): فيهم.
(4) في ((م))، و ((ط)): ما.
(5) في ((م))، و ((ط)): والمقصود.
(6) انظر: ص 161، 162، 179، 187.
(7) في ((خ)): فإنّه يقول. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(8) في ((خ)): لخوارق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/27)
وقد عرف الناس أنّ السحرة لهم خوارق، ولهذا كانوا إذا طعنوا في نبوّة النبيّ واعتقدوا علمه، قالوا هو ساحر؛ كما قال فرعون لموسى:{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(1)، وقال للسحرة لما آمنوا: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِيعَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}(2)، و{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}(3)؛ [و](4) كلّ هذا من كذب فرعون، وكانوا يقولون:{يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}(5).
وكذلك المسيح؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ [بَعْدِي](6) اسْمُهُ أَحْمَد فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}(7).
وقال تعالى عن كُفّار العرب: {وَ[إِنْ](8) يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ}(9).
__________
(1) سورة الشعراء، الآيتان 34-35.
(2) سورة طه، الآية 71.
(3) سورة الأعراف، الآية 123.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(5) سورة الزخرف، الآية 49.
(6) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ)).
(7) سورة الصف، الآية 6.
(8) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(9) سورة القمر، الآية 2.(20/28)
وإن نسبوه إلى عدم العلم، قالوا: مجنونٌ؛ كما قالوا عن نوح: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِر}(1)، وقالوا عن موسى: {قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُون}(2)، وقال عن مشركي العرب: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون}(3).
وقد قال تعالى:{[كَذَلِكَ](4) مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون}(5).
فالسحر أمرٌ معتادٌ في بني آدم، كما أنّ النبوّة معتادةٌ فيهم. كما أنّ العقلاء معتادون في بني آدم، والمجانين معتادون فيهم.
فإذا قالوا عن الشخص: إنّه مجنون؛ فإنّه يُعلم هل هو من العقلاء أو من المجانين بنفس ما يقوله ويفعله. وكذلك يُعرف هل هو من جنس الأنبياء، أو من جنس السحرة.
وكذلك لما قالوا عن محمّد: إنّه شاعرٌ(6)
__________
(1) سورة القمر، الآية 9.
(2) سورة الشعراء، الآية 27.
(3) سورة القلم، الآية 51.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(5) سورة الذاريات، الآيتان 52-53.
(6) ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ كفّار مكة قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. [الأنبياء 51].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. [يس 69].
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي ما هو في طبعه؛ فلا يُحسنه، ولا يُحبّه، ولا تقتضيه جبلته. ولهذا ورد أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمّه"، ثمّ ذكر رحمه الله أمثلة على ذلك. انظر: تفسير ابن كثير 3/578.(20/29)
؛ فإنّ الشعراء جنسٌ معروفون في الناس، وقالوا: إنه كاهن(1).
شبهة من قال: القرآن شعر
وشبهة الشعر أنّ القرآن كلام موزون(2)، والشعر موزون.
__________
(1) قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خرجتُ أتعرّض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أُسلم، فوجدتُه قد سبقني إلى المسجد، فقمتُ خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلتُ أعجب من تأليف القرآن. قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ}. قال: فقلت: كاهن. قال: فقرأ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ...}. [الحاقة 40-42] أخرجه الإمام أحمد في مسنده. انظر: الفتح الرباني 20/232.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وما يُوجد في القرآن من مثل قوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف 104]، و{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} [العاديات 11]، ونحو ذلك، فلم يتكلّف لأجل التجانس، بل هذا غير مقصود بالقصد الأول؛ كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر، ولم يقصد به الشعر؛ كقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ 13]، وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر 49]، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح 2-3]، ونحو ذلك). منهاج السنة النبوية 3/53-54. وانظر: الجواب الصحيح 5/433.(20/30)
وشبهة الكهانة أنّ الكاهن يُخبر ببعض الأمور الغائبة؛ فَذَكَرَ الله تعالى الفرق بين هذين، وبين النبيّ، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون}(1)، ثمّ قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرَاً}(2)، {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}(3)، وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ لا بِقَولِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ}(4).
ولهذا لما عرض الكُفّار على كبيرهم [الوحيد](5)
__________
(1) سورة الشعراء، الآيات 221-223.
(2) سورة الشعراء، الآيات 224-227.
(3) سورة يس، الآية 69.
(4) سورة الحاقة، الآيات 41-43.
(5) في ((خ)): التوحيد. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
والمقصود به كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الوليد بن المغيرة، الذي كان من أعظم الناس كفراً، وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر، 11].
انظر: منهاج السنة النبوية 1/41. ودرء تعارض العقل والنقل 5/162.
ومن خبره: "أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يُصلّي ويقترئ، فأعجبه القرآن، ووصفه بأنه ليس بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وأنّ له لحلاوة، وأنّ عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى عليه. وقال لهم أيضاً: سمعت قولاً حلواً أخضر مثمراً يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر ؟ فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضَتْ عليّ الشعراء شعرهم؛ نابغة، وفلان، وفلان ؟. قالوا: فهو كاهن ؟ فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عُرِضت عليّ الكهانة. قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه؟ قال: لا أدري إن كان شيئاً فعسى هو إذاً سحر يؤثر".
انظر: الخبر برواياته في تفسير الطبري 29/156-157، وفي تفسير ابن كثير 4/443.(20/31)
أن يقولوا للناس: هو شاعرٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، وكاهنٌ، صار يُبيّن لهم أنّ هذه أقوال فاسدة، وأنّ الفرق معروفٌ بينه، وبين هذه الأجناس.
فالمقصود أن هذه الأجناس كلّها موجودة في الناس، معتادة، معروفة. وكلّ واحد منها يُعرف بخواصه المستلزمة له، وتلك الخواص آيات له، مستلزمة له. فكذلك النبوّة لها خواصّ مستلزمة لها، تُعرف بها، وتلك الخواص خارقة لعادة غير الأنبياء، وإن كانت معتادة للأنبياء، فهي لا توجد لغيرهم. فهذا هذا(1). والله أعلم.
مدعي النبوة يستعين بالشياطين
فإذا أتى مدّعي النبوّة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبيّ، لا يحصل مثله لساحرٍ، ولا كاهنٍ، ولا غيرهما، كان دليلاً على نبوّته. وكلّ من الساحر، والكاهن يستعين بالشياطين؛ فإنّ الكهّان [تنزل](2) عليهم الشياطين تخبرهم؛ والسحرة تعلّمهم الشياطين؛ قال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى [يَقُولا](3) إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}(4).
والساحر لا يتجاوز سحره الأمور المقدورة للشياطين؛ كما تقدّم بيانه(5).
الساحر ومقدرته ومقصده
__________
(1) كما أنّ جنس الشعر، والسحر، والكهانة لها خواصّ معتادة، مستلزمة لها، تُعرف بها. فكذلك النبوّة من هذا الباب.
(2) في ((خ)): ينزل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): يقول.
(4) سورة البقرة، الآية 102.
(5) تقدّم بيان ذلك ص 192.(20/32)
والساحر كما قال تعالى:{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}(1)،وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاق}(2)؛ فهم يعلمون أنّ السحر لا ينفع في الآخرة، ولا يُقرّب إلى الله، وأنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق؛ فإنّ مبناه على الشرك، والكذب، والظلم، مقصود صاحبه الظلم، والفواحش.
الفرق بين النبي والساحر
وهذا مما يُعلم بصريح العقل أنّه من السيئات؛ فالنبيّ لا يأمر به، [ولا يعمله](3)، [وإنّما](4) يستعين على ذلك [صاحبه](5) بالشرك والكذب. وقد عُلِم بصريح العقل، مع ما تواتر عن الأنبياء أنّهم حرّموا الشِّرك. فمتى كان الرجل يأمر بالشرك، وعبادة غير الله، أو يستعين على مطالبه بهذا، وبالكذب، والفواحش، والظلم، عُلِم قطعاً أنّه من جنس السحرة، لا من جنس الأنبياء.
وخوارق هذا يمكن معارضتها وإبطالها من بني جنسه، وغير بني جنسه. وخوارق الأنبياء لا يمكن غيرهم أن يعارضها، ولا يمكن أحداً إبطالها، لا من جنسهم، ولا من غير جنسهم؛ فإنّ الأنبياء [يصدق](6) بعضهم بعضاً، فلا يُتصوّر أنّ نبياً يُبطل معجزة آخر. وإن أتى بنظيرها، فهو يصدقه.
__________
(1) سورة طه، الآية 69.
(2) سورة البقرة، الآية 102.
(3) ما بين المعقوفتين من ((م))، و ((ط)).
(4) ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((م))، و ((ط)).
(5) ما بين المعقوفتين من ((م))، و ((ط)).
(6) في ((خ)): تصدق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/33)
ومعجزة كلّ منهما آية له، وللآخر(1) أيضا؛ كما أن معجزات أتباعهم(2) آيات لهم، بخلاف خوارق السحرة؛ فإنّها إنّما تدلّ على أنّ صاحبَها ساحرٌ يؤثّر آثاراً غريبةً ممّا هو فسادٌ في العالم، ويُسَرّ بما يفعله من الشرك، والكذب، والظلم، ويستعين على ذلك بالشياطين، فمقصوده الظلم، والفساد، والنبيّ مقصوده العدل، والصلاح. وهذا يستعين بالشياطين، وهذا بالملائكة. وهذا يأمر بالتوحيد لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا إنّما يستعين بالشرك، وعبادة غير الله. وهذا يُعظِّم إبليسَ وجنودَه، وهذا يذمّ إبليسَ وجنودَه.
الإقرار بوجود الملائكة والجن عام وقد أنكرهما الفلاسفة
والإقرار بالملائكة، والجنّ عامّ في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذّ من بعض الأمم(3)
__________
(1) للنبيّ الذي يأتي بعده.
(2) المقصود كرامات أتباعهم.
(3) أنكرت الفلاسفة وجودَ الملائكة والجنّ، وعبّروا عنهما بالقوّة التخييليّة.
انظر: الرد على المنطقيين ص 106. ودرء تعارض العقل والنقل 10/205.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ملاحدة الفلاسفة يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ونحو ذلك من المقالات الخبيثة التي يقولها القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلاّل المتكلمين والمتعبّدة".
مجموع الفتاوى 4/346. وانظر: المرجع نفس 4/259. وشرح الطحاوية ص 402-403.(20/34)
، ولهذا قالت الأمم المكذّبة: {ولَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً}(1)؛ حتى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون. قال قوم نوح: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً}(2)، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}(3).
وفرعون وإن كان مظهراً لجحد الصانع؛ [فإنه ما](4) قال: {فلوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ [أَسْوِرَة](5) مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}(6) إلاَّ وقد سمع بذكر الملائكة؛ إمّا معترفاً بهم، وإمّا مُنكراً لهم.
فذكر الملائكة، والجنّ عامّ في الأمم.
وليس في الأمم أمّة تُنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنّما يُوجد إنكار ذلك في بعضهم؛ مثل من قد [يتفلسف](7)، فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم.
فلا بُدّ في آيات الأنبياء من أن تكون مع كونها خارقةً للعادة أمراً غيرَ معتاد لغير الأنبياء، بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء، ليس مما يقدر عليه غير الأنبياء، لا بحيلة، ولا عزيمة، ولا استعانة بشياطين، ولا غير ذلك.
من خصائص معجزات الأنبياء
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية 24.
(2) سورة المؤمنون، الآية 24.
(3) سورة فصلت، الآيتان 13-14.
(4) في ((خ)) كُتبت: فإنّما. ثمّ صُحّحت في الهامش بقوله: صوابه: فإنّه ما.
(5) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): أساور.
(6) سورة الزخرف، الآية 53.
(7) في ((خ)): يفلسف. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(20/35)
ومن خصائص معجزات الأنبياء: أنّه لا يُمكن معارضتها. فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء، بخلاف ما كان موجوداً لغيرها. فهذا لا يكون آيةً البتة.
الفلاسفة لا يعرفون النبوة
فأصل هذا أن يعرف وجود الأنبياء في العالم، وخصائصهم؛ كما يعلم وجود السحرة، وخصائصهم. ولهذا من لم يكن عارفاً بالأنبياء من فلاسفة اليونان، والهند، وغيرهم، لم يكن له فيهم كلام يُعرف، كما لم يُعرف لأرسطو(1)، وأتباعه فيهم كلام يُعرف، بل غاية من أراد أن يتكلم في ذلك؛ كالفارابي(2)
__________
(1) هو أرسطوطاليس بن نيقو ماخس الفيثاغوري. تتلمذ على أفلاطون، ثم صار بعده أستاذاً. انتهت إليه فلسفة اليونان، فكان هو خاتمهم. وكان مشركاً يعبد الأصنام. وهو الذي جعل المنطق آلة العلوم النظرية. وكان معلماً للإسكندر. وقد عني فلاسفة المسلمين بفلسفة أرسطو، وسمّوه معلمهم الأول. وله كتاب الحيوان.
ولد في اليونان سنة384 ق.م
راجع: تاريخ الحكماء ص 27-53. وفهرست ابن النديم ص 359. وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 2/259. والفرق بين الفرق ص 307-308.
(2) هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان التركي الحكيم. صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما. وهو أكبر فلاسفة المسلمين. وقد أتقن اللغة العربية. وكان مولده سنة 259ه، ووفاته سنة 299ه.
انظر: وفيات الأعيان 5/153. وفهرست ابن النديم ص 368. والبداية والنهاية 11/324.
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي، وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم". درء تعارض العقل والنقل1/157.(20/36)
، وغيره أن يجعلوا ذلك من جنس المنامات المعتادة. ولمّا أراد طائفة؛ كأبي حامد(1)، وغيره أن يقرّروا إمكان النبوة على أصلهم، احتجوا بأنّ مبدأ الطبّ، ومبدأ النجوم، ونحو ذلك، كان من الأنبياء؛ لكون المعارف المعتادة لا تنهض بذلك. وهذا إنّما يدلّ على اختصاص من أتى بذلك بنوعٍ من العلم. وهذا لا يُنكره عاقل.
وعلى هذا بنى ابن سينا أمر النبوة؛ أنها من قوى النفس، وقوى النفوس متفاوتة(2).
وكلّ هذا كلام من لا يعرف النبوة، بل هو أجنبيّ عنها، وهو أنقص ممن أراد أن يُقرّر أنّ في الدنيا فقهاء، وأطباء، وهو لم يعرف غير الشعراء؛ فاستدلّ بوجود الشعراء، على وجود الفقهاء، والأطباء. بل هذا المثال أقرب؛ فإنّ بُعد النبوّة عن غير الأنبياء أعظم من بُعد الفقيه، والطبيب عن الشاعر، ولكنّ هؤلاء من أجهل الناس بالنبوّة، ورأوا ذكر الأنبياء قد شاع، فأرادوا تخريج ذلك على أصول قومٍ لم يعرفوا الأنبياء.
__________
(1) هو الغزالي. وقد مرّ التعريف به.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا القدر، فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء وبين فلسفة المشائين؛ أرسطو وأمثاله. ولهذا تكلموا في الآيات، وخوارق العادات، وجعلوا لها ثلاثة أسباب: القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية؛ إذ كانت هذه هي المؤثرات في العالم عندهم. وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات، وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس. ولكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشرّ. وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء... فإنه مبنيّ على إنكار الملائكة وإنكار الجنّ، وعلى أنّ الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم". الجواب الصحيح6/24. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5/70.(20/37)
فإن قيل: موسى، وغيره كانوا موجودين قبل أرسطو؛ فإنّ أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة(1).
وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت فَمِنْهُم مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ}(2)، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِير}(3)؛ فهذا يُبيِّن أنّ كُلّ أمّة قد جاءها رسولٌ، فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل ؟.
جوابان عن عدم معرفة الفلاسفة الأنبياء
قلت: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنّ كثيراً من هؤلاء لم يعرفوا الرسل؛ كما قال: {وَمِنْهُم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ}(4)، فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم.
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وهو وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني التي تؤرخ له التاريخ الرومي من اليهود والنصارى. وهذا كان مشركاً يعبد هو وقومه الأصنام، ولم يكن يسمى ذا القرنين". الجواب الصحيح1/345. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5/68. ومنهاج السنة النبوية 1/409.
(2) سورة النحل، الآية 36.
(3) سورة فاطر، الآية 24.
(4) سورة النحل، الآية 36.(20/38)
الثاني: أنّه قال تعالى: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم فَهُوَ وَلِيّهُمُ اليَوْمَ}(1)، فإذا كان الشيطان قد زيّن لهم أعمالهم، كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم، فلم يعرفوها. وأرسطو لم يأت إلى أرض الشام، ويُقال: إنّ الذين كانوا قبله كانوا يعرفون الأنبياء، لكن المعرفة المجملة لا تنفع؛ كمعرفة قريش؛ كانوا قد سمعوا بموسى، وعيسى، وإبراهيم سماعاً من غير معرفة بأحوالهم.
وأيضا: فهم وأمثالهم المشاؤون(2) أدركوا الإسلام وهم من أكفر الناس بما جاءت [به](3) الرسل. أما أنهم لا يطلبون معرفة أخبارهم، وما سمعوه: حرّفوه، أو حملوه على أصولهم.
وكثيرٌ من المتفلسفة هم من هؤلاء. فإذا كان هذا حال هؤلاء في ديار الإسلام، فما الظن بمن كان ببلادٍ(4) لا [يُعرف](5) فيها شريعة نبي، بل طريق معرفة الأنبياء كطريق معرفة نوعٍ من الآدميين خصّهم [الله](6) بخصائص، يعرف ذلك من أخبارهم، واستقراء أحوالهم؛ كما يعرف الأطباء، والفقهاء.
جنس النبوة يثبت بأحوال الأنبياء السابقين
__________
(1) سورة النحل، الآية 63.
(2) المشاؤون هم أتباع أرسطو. وسمّوا مشائين لأنهم كانوا يمشون ويلقون دروسهم وهم سائرون في الطريق.
انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي ص 14.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) في ((ط)) فقط: في بلاد.
(5) في ((م))، و ((ط)): تعرف.
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).(20/39)
ولهذا إنّما يقرّر الربّ تعالى في القرآن أمر النبوّة وإثبات جنسها بما وقع في العالم؛ من قصة نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم؛ [فيذكر](1) وجود هؤلاء، وأنّ قوماً صدّقوهم، وقوماً كذّبوهم. ويُبيِّن حال من صدّقهم، وحال من كذّبهم؛ فيُعلم بالاضطرار حينئذٍ ثبوت هؤلاء(2)، [ويتبيّن](3) وجود آثارهم في الأرض. فمن لم يكن رأى في بلده آثارهم، فليسر في الأرض، ولينظر آثارهم، وليسمع أخبارهم المتواترة. يقول الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَومُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيد أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمَاً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِير}(4).
__________
(1) في ((خ)): فتذكر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) انظر: الجواب الصحيح 5/141-142، 6/345-350. وشرح الطحاوية ص151.
(3) في ((خ)): وتبيين. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) سورة الحج، الآيات 42-48.(20/40)
ولهذا قال مؤمن آل فرعون(1) لمّا أراد إنذار قومه: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَاد}(2).
ولهذا لما سمع ورقة بن نوفل(3)، والنجاشيّ(4)، وغيرهما القرآنَ، قال ورقة بن نوفل: هذا هو النَّاموس(5)
__________
(1) ذكر الطبري رحمه الله اختلاف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن؛ فقال بعضهم: كان الرجل إسرائيلياً، ولكنه كان يكتم إيمانه من آل فرعون. وقال آخرون - وهو الصواب: إنه من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله.
انظر: جامع البيان 24/59-60.
(2) سورة غافر، الآيتان 30-31.
(3) هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسديّ، ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم. كان قد كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة رضي الله عنها تسأله عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: ما أراه إلا نبيّ هذه الأمة الذي بشّر به موسى وعيسى.
انظر: الإصابة لابن حجر 3/633-635.
(4) النجاشيّ لقبٌ لكلّ من ملك الحبشة؛ مثل لقب قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك فارس.
والمراد بالنجاشيّ هنا: أصحمة. أسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحسن إلى المسلمين الذين هاجروا إلى أرضه. وأخباره معهم ومع كفار قريش الذين طلبوا منه أن يُسلّم إليهم المسلمين مشهورة. توفي في بلده قبل فتح مكة، وصلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب بالمدينة، وكبّر عليه أربعاً.
انظر: الإصابة لابن حجر 1/17.
(5) الناموس: صاحب السرّ؛ كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء. وزعم ابن ظفر أنّ الناموس: صاحب سرّ الخير، والجاسوس: صاحب سر الشرّ. والأول الصحيح الذي عليه الجمهور. وقد سوّى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب.
والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام. وقوله: "على موسى"، ولم يقل على عيسى، مع كونه نصرانياً؛ لأنّ كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى عليه السلام. وكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم.
على أنّه قد ورد بإسنادين؛ أحدهما حسن، والآخر ضعيف: ناموس عيسى. فعلى هذا: كان ورقة يقول تارةً: ناموس عيسى، وتارةً: ناموس موسى. انظر: فتح الباري 1/35.(20/41)
الذي كان يأتي موسى(1). وقال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به موسى [ليخرج](2) من مشكاة واحدة(3). فكان عندهم علمٌ بما جاء به موسى؛ اعتبروا به، ولولا ذلك لم يعلموا هذا.
وكذلك الجنّ لمّا سمعت القرآن، ولّوا إلى قومهم منذرين،{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابَاً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم}(4).
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 1/5، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإمام مسلم في صحيحه 1/139، 145، 160-161.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والقرآن أصلٌ كالتوراة، وإن كان أعظم منها. ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وكذلك ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى... ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن...". الجواب الصحيح 1/116-118.
(2) في ((خ)): لتخرج. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند 1/201-203،، 5/290-292.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24-27): ورجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع.
(4) هذا نصّ الآية الثلاثين من سورة الأحقاف.(20/42)
ولما أراد سبحانه تقرير جنس ما جاء به محمد، قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدَاً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاًفَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذَاً وَبِيلاً}(1)، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدَى لِلنَّاسِ [تَجْعَلُونَهُ](2) قَرَاطِيسَ [تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ](3) كَثِيرَاً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}(4).
فهو سبحانه يُثبت وجود جنس الأنبياء ابتداءً؛ كما في السور المكية(5) حتى يثبت وجود هذا الجنس، وسعادة من اتبعه، وشقاء من خالفه.
من أقر بجنس الأنبياء يلزمه الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة المزمل، الآيتان 15-16.
(2) في ((خ)): يجعلونه.
(3) في ((خ)): يُبدونها ويُخفون.
(4) سورة الأنعام، الآيتان 91-92.
(5) قيل في تعريف المكي والمدني عدة تعريفات، أشهرها: أنّ المكي:ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة، وإن كان بمكة.
وقد رجح الزركشي أنّ المكي خطاب، المقصود به - أو جلّ المقصود به - أهل مكة.... كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة. والتعريف الأول أظهر.
انظر: البرهان في علوم القرآن 1/187-191.(20/43)
ثم [نبوة](1) عين هذا النبيّ(2) تكون ظاهرة؛ لأنّ الذي جاء به أكمل مما جاء به جميع الأنبياء. فمن أقرّ بجنس الأنبياء، كان إقراره بنبوة محمّد في غاية الظهور، أبين مما أقرّ أنّ في الدنيا نحاة، وأطباء، وفقهاء. فإذا رأى نحو سيبويه، وطب [أبقراط](3)، وفقه الأئمة الأربعة، ونحوهم، كان إقراره بذلك من أبين الأمور.
ولهذا كان من نازع من أهل الكتاب في نبوة محمد إما أن يكون لجهله بما جاء به، وهو الغالب على عامتهم، أو لعناده وهو حال طلاب الرياسة بالدين منهم.
والعرب عرفوا ما جاء به محمد. فلمّا أقرّوا بجنس الأنبياء، لم يبق عندهم في محمّد شكّ.
وجميع ما يذكره الله تعالى في القرآن من قصص الأنبياء، يدلّ على نبوّة محمّد بطريق الأولى؛ إذ كانوا من جنس واحد، ونبوّته أكمل. فينبغي معرفة هذا، فإنّه أصل عظيم(4).
ولهذا جميع مشركي العرب آمنوا به، فلم يحتج أحد منهم أن تؤخذ منه جزية. فإنّهم لما عرفوا نبوته، وأنّه لا بُدّ من متابعته، أو متابعة اليهود والنصارى، عرفوا أنّ متابعته أولى.
__________
(1) كتب في ((خ)): ثبوت. وفي الحاشية: لعله نبوة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) المقصود به الإقرار بنبوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(3) في ((خ)): بقراط. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) فمن أقرّ بجنس الأنبياء يلزمه أن يُقرّ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها في غاية الظهور والبيان. وهذا الأصل من الطرق التي بها تعرف نبوته صلى الله عليه وسلم.
وانظر: الجواب الصحيح 5/141-142، 6/345-350. وشرح الطحاوية ص151.(20/44)
ومن كان من أهل الكتاب: بعضهم آمن به، وبعضهم لم يؤمن جهلاً، وعناداً. وهؤلاء كان عندهم كتاب ظنوا استغناءهم به، فلم يستقرئوا أخبار محمد، وما جاء به خالين من [الهوى](1)، بخلاف من لم يكن له كتاب(2)؛ فإنّه نظر في الأمرين نَظَرَ خالٍ من الهوى، فعرف فضل ما جاء به محمد على ما جاء به غيره.
ولهذا لا تكاد [توجد](3) أمة لا كتاب لها يُعرض عليها دين المسلمين، واليهود، والنصارى، إلاَّ رجّحت دين الإسلام؛ كما يجري لأنواع الأمم التي لا كتاب لها.
فأهل الكتاب مقرون بالجنس، منازعون في العين(4). والمتفلسفة من اليونان والهند منازعون في وجود كمال الجنس، وإن أقرّوا ببعض صفات الأنبياء، فإنّما أقرّوا منها بما لا يختص بالأنبياء، بل هو مشترك بينهم وبين غيرهم.
فلم يؤمن هؤلاء (5) بالأنبياء البتة.
هذا هو الذي يجب القطع به(6)
__________
(1) في ((خ)): هوى. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) مثل المجوس، والصابئة. انظر: الملل والنحل 1/230، 2/5.
(3) في ((خ)): يوجد. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) مقرون بالأنبياء السابقين، منكرون لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) الفلاسفة.
(6) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معتقد الفلاسفة: "ليس للفلاسفة مذهب معيّن ينصرونه، ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات، والمعاد، والنبوات، والشرائع، بل وفي الطبيعيات، والرياضيات، بل ولا في كثير من المنطق، ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيّات المشاهدة، والعقليات التي لا ينازع فيها أحد". منهاج السنة النبوية 1/357.
وقال أيضاً: "لكن الذي لا ريب فيه أنّ هؤلاء أصحاب التعاليم؛ كأرسطو وأتباعه، كانوا مشركين يعبدون المخلوقات، ولا يعرفون النبوات، ولا المعاد البدني، وأن اليهود والنصارى خيرٌ منهم في الإلهيات، والنبوات، والمعاد". منهاج السنة النبوية 1/364.(20/45)
. ولهذا يُذكرون معهم ذكر الجنس الخارج عن أتباعهم؛ فيقال: قالت الأنبياء، والفلاسفة، واتفقت الأنبياء، والفلاسفة؛ كما يُقال: المسلمون، واليهود، والنصارى(1).
__________
(1) يُوجد في ((خ)) بياض.(20/46)
[وقال أيضاً رضي الله عنه :
فصل](1)(
من آيات الأنبياء: نصرهم على قومهم. وهذا من وجهين:
ومن آياته: نصر الرسل على قومهم. وهذا على وجهين :
الوجه الأول بإهلاك الأمم وإنجاء الرسل وأتباعهم
تارةً: يكون بإهلاك الأمم، وإنجاء الرسل وأتباعهم ؛كقوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى. ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، ولا يذكر معها قصة إبراهيم(2). وإنّما ذكر قصة إبراهيم في سورة الأنبياء(3)، ومريم(4)، والعنكبوت(5)، والصافات(6)؛ فإنّ هذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم.
__________
(1) في ((ط)) فقط: فصل... قال رضي الله عنه.
(2) ذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الشعراء بعد قصة موسى وإهلاك فرعون وقومه؛ قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}. الآيتان 69-70.
(3) قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ... إلخ}. سورة الأنبياء، آية 51، إلى آية 73.
(4) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}.. سورة مريم، الآيتان 41-42، إلى آية 50.
(5) قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. سورة العنكبوت، الآية 16، إلى الآية 27.
(6) قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ...}. سورة الصافات، الآيات 83-85، إلى آية 113.(21/1)
بل في سورة الأنبياء كان المقصود ذكر الأنبياء، ولهذا سميت سورة الأنبياء؛ فذكر فيها إكرامه للأنبياء، وإن لم يذكر قومهم؛ كما ذكر قصة داود، وسليمان(1)، وأيوب(2)، وذكر آخر الكلّ: {إِنَّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة}(3)، وبدأ فيها بقصة إبراهيم(4)؛ إذ كان المقصود ذكر إكرامه للأنبياء قبل محمّد وإبراهيم؛ أكرمهم على الله تعالى، وهو خير البرية، وهو [أبو](5) أكثرهم، إذ ليس هو [أبا](6) نوحٍ ولوط، لكن لوط من أتباعه(7)، وأيوب من ذريته؛ بدليل قوله في سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}(8).
__________
(1) قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}. سورة الأنبياء، الآيات 78-82.
(2) قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ...}.. سورة الأنبياء، الآيتان 83-84.
(3) سورة الأنبياء، الآية 92.
(4) وهي تبدأ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ..}. من آية 51، إلى آية 73.
(5) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): أب. والصحيح: أبو.
(6) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): أب. والصحيح: أبا.
(7) قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. سورة العنكبوت، الآيتان 26-27.
(8) سورة الأنعام، الآية 84.(21/2)
وأمّا سورة مريم: فذكر الله تعالى فيها إنعامه على الأنبياء المذكورين فيها؛ فذكر فيها رحمته زكريا، وهبته يحيى(1)، وأنه ورث نبوته، وغيرها من علم آل يعقوب، وأنه آتاه الحكم صبيّاً(2)؛ وذكر بدء خلق عيسى، وما أعطاه الله تعالى من تعليم الكتاب؛ وهو التوراة، والنبوّة، وأنّ الله تعالى جعله مباركاً أينما كان، وغير ذلك(3)؛ وذكر قصة إبراهيم، وحسن خطابه لأبيه، وأنّ الله تعالى وهبه إسحاق ويعقوب نبيّين، ووهبه من رحمته، وجعل له لسان صدق علياً(4)؛ ثم ذكر موسى، وأنّه خصّصه الله تعالى بالتقريب والتكليم، [ووهبه](5) أخاه، وغير ذلك(6)؛ وذكر إسماعيل، وأنّه كان صادق الوعد(7)
__________
(1) في ((ط)) فقط: عليهما السلام.
(2) قال تعالى: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} إلى قوله عن يحيى عليه السلام: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}. سورة مريم، من أولها، إلى آية 15.
(3) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} إلى قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}. سورة مريم، الآيات 16، إلى 34.
(4) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً}... إلى قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}. سورة مريم، الآيات 41-50.
(5) في ((خ)): وهبه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}سورة مريم، الآيات 51-53.
(7) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}. سورة مريم، الآية 54.(21/3)
وكأنّه والله أعلم من ذلك أو أعظمه صَدَقَهُ فيما وَعَدَ به أباه من صبره عند الذبح، فوفى بذلك(1)؛ وذكر إدريس، وأنّ الله تعالى رفعه مكانا عليّاً(2). ثمّ قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم}(3).
وأما سورة العنكبوت: فإنّه ذكر فيها امتحانه للمؤمنين، ونصره لهم، وحاجتهم إلى الصبر والجهاد، وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر، وعاقبة من كذب الرسل؛ فذكر قصة إبراهيم لأنّها من النمط الأول، ونصرة الله له على قومه(4).
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 3/125.
(2) قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}. سورة مريم، الآيتان 56-57.
وانظر أقوال العلماء في معنى رفعه عليه السلام في أعلام النبوة للماوردي ص 82. والبداية والنهاية لابن كثير 1/93.
(3) سورة مريم، الآية 58.
(4) قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. سورة العنكبوت، الآية 16.(21/4)
وكذلك سورة الصافات قال فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ}(1). وهذا يقتضي أنّها عاقبة رديئة؛ إمّا بكونهم غُلبوا وذلّوا، وإما بكونهم أُهلكوا. ولهذا ذكر فيها قصة إلياس، ولم يذكرها في غيرها، ولم يذكر هلاك قومه، بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ}(2). وإلياس قد رُوِيَ أنّ الله تعالى رفعه(3)
__________
(1) سورة الصافات، الآيات 71-73.
(2) سورة الصافات، الآيتان 127-128.
(3) اختلف في إلياس، فذُكر عن ابن مسعود، وقتادة، ومحمد بن إسحاق، والضحاك: أنّ إلياس هو إدريس. وقيل: إلياس نبيّ بُعث إلى بني إسرائيل بعد مهلك حزقيل، فعبدوا الأصنام، ثم دعا الله عليهم، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم، ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه فيُريحه منهم، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا، فمهما جاءه فليركبه، ولا يهابه. فجاءته فرس من نار، فركب، وألبسه الله تعالى النور، وكساء الريش، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسياً ملكياً، أرضياً سماوياً.
انظر: جامع البيان 23/91-94. والجامع لأحكام القرآن 15/76-77. وتفسير القرآن العظيم 3/19-20. وقال ابن كثير رحمه الله في آخر القصة: هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب، والله أعلم بصحته.
وانظر في رفعه عليه السلام: أعلام النبوة للماوردي ص 89. وكذا البداية والنهاية 1/314-316 ،، 2/5.(21/5)
، وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة؛ فإنّ إلياس لم يقم فيهم، وإلياس المعروف بعد موسى(1) من بني إسرائيل، وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال. وبعد نوح(2) لم يهلك جميع النوع. وقد بعث في كلّ أمة نذيراً، والله تعالى لم يذكر قطّ عن قوم إبراهيم(3) أنهم أهلكوا، كما ذكر ذلك عن غيرهم، بل ذكر أنّهم ألقوه في النار، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأرادوا به كيداً، فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين.
وفي هذا :
الوجه الثاني إظهار برهان النبي بالحجة والعلم والقدرة
ظهور برهانه، وآيته، وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضاً [بالقدرة](4)؛ حيث أذلهم ونصره. [وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه، وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه](5).
وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل.
وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك.
الخليلان هما أفضل الرسل
ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل فإنّهم إذا علموا [الدعوة](6) حصل المقصود.
وقد يتوب منهم(7) من يتوب بعد ذلك؛ كما تاب من قريش من تاب.
وأما حال إبراهيم(8): فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يَسْعَ في هلاك قومه، لا بالدعاء، ولا بالمقام، ودوام إقامة الحجة عليهم.
__________
(1) في ((ط)) فقط: عليه السلام.
(2) في ((ط)) فقط: عليه السلام.
(3) في ((ط)) فقط: عليه السلام.
(4) في ((ط)) فقط: بالقدوة.
(5) ما بين المعقوفتين مكرّر في ((خ)).
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(7) من أقوام الأنبياء عليهم السلام.
(8) في ((ط)) فقط: عليه السلام.(21/6)
وقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}(1).
وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم [فعوقبوا](2).
وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله [تعالى](3) عليه برداً وسلاماً، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنّما فيها من الجزاء ما [تحصل](4) به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية.
فمن أراد أعداؤه من أتباع الأنبياء أن يهلكوه فعصمه الله(5)، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، ولم يهلك أعداءه، بل أخزاهم، ونصره؛ فهو أشبه بإبراهيم(6).
وإذا عصمه من كيدهم، وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالاً، ثم كانت العاقبة له، فهو أشبه بحال محمّد [صلى الله عليه وسلم ](7)؛ فإنّ محمداً سيّد الجميع(8)
__________
(1) سورة إبراهيم، الآيتان 13-14.
(2) في ((م))، و ((ط)): إلا عوقبوا.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): يحصل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) العبارة فيها لبس، ومعناها: أنّ من أتباع الأنبياء من يُريد أعداؤه أن يُهلكوه، ويعصمه الله منهم.
(6) جملة: (فهو أشبه إبراهيم): جواب الشرط. ومعناه: من أراد أعداؤه إهلاكه، وعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، وأخزى أعداءه، فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام.
(7) ما بين المعقوفتين لا يوجد في ((ط)).
(8) قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 4/1782، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، رقم 2278. والإمام أحمد في المسند 2/540.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة". أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، رقم 3340. والإمام مسلم في صحيحه، رقم 194.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم، ولا فخر". أخرجه الإمام أحمد في مسنده3/2، 144. وابن ماجه في سننه 2/1440، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة.(21/7)
، وهو خليل الله(1)؛ كما أن إبراهيم خليله.
والخليلان(2): هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة، ما ليس في طريقة غيرهما.
حكمة الرب تعالى في عقوبته لكل قوم بما يناسبهم
ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ديناً غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح.
وأمّا عاد: فذكر عنهم التجبّر، وعمارة الدنيا.
وقوم صالح(3): ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين، لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد، وإنّما أهلكهم لما عقروا الناقة.
وأمّا أهل مدين: فذكر عنهم الظلم في الأموال، مع الشرك؛ {قَالُوا يَا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}(4).
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه رقم 532.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الخُلّة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يُحبّهم ويُحبونه.... ولهذا لم يكن له صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض خليل؛ إذ الخلة لا تحتمل الشركة. فإنه كما قيل في المعنى:
قد تخلّلت مسلك الروح مني وبذا سُمّي الخليل خليلاً.
العبودية لابن تيمية ص 128. وانظر الشفا للقاضي عياض في الفرق بين المحبة والخلة 1/279-289.
(2) إبراهيم، ومحمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلّم.
(3) في ((ط)) فقط: عليه السلام.
(4) سورة هود، الآية 87.(21/8)
وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة، ولم يذكروا بالتوحيد، بخلاف سائر الأمم. وهذا يدلّ على أنّهم لم يكونوا مشركين، وإنما ذنبهم استحلال الفاحشة، وتوابع ذلك. وكانت عقوبتهم أشد؛ إذ ليس في ذلك تديّن، بل شر يعلمون أنه شرّ(1).
وهذه الأمور تدلّ على حكمة الربّ، وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم؛ فإنّ قوم نوحٍ أَغرقهم إذ لم يكن فيهم خيرٌ يُرجى.
فصل
في آيات الأنبياء وبراهينهم
معنى آيات الأنبياء
[و](2) هي الأدلة والعلامات المستلزمة لصدقهم.
الدليل مستلزم للمدلول
__________
(1) وقد وصفهم الله تعالى بصفات قبيحة؛ منها صفة العدوان على حدود الله، فقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. سورة الشعراء، الآية 165-166 .
ووصفهم بالجهل، قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}. سورة النمل، الآية 55.
ووصفهم بالإسراف في الشهوات، قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}. سورة الأعراف، الآية 81.
وقال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}. سورة العنكبوت، الآية 29.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن قوم لوط: "وكانوا كفاراً من جهات؛ من جهة استحلال الفاحشة، ومن جهة الشرك، ومن جهة تكذيب الرسل؛ ففعلوا هذا وهذا، ولكن الشرك والتكذيب مشترك بينهم وبين غيرهم، والذي اختصوا به الفاحشة، فلهذا عوقبوا عقوبة تخصهم، لم يعاقب غيرهم بمثلها، وجعل جنس هذه العقوبة هو الرجم" .تفسير آيات أشكلت من القرآن 1/391 .
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).(21/9)
والدليل لا يكون إلاَّ مستلزما للمدلول عليه مختصاً به، لا يكون مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإنّه يلزم من تحقّقه تحقّق المدلول. وإذا [انتفى](1) المدلول انتفى هو؛ فما يوجد مع وجود الشيء، ومع عدمه، لا يكون دليلاً عليه، بل الدليل ما لا يكون إلاَّ مع وجوده. فما وُجد مع النبوّة تارةً، ومع عدم النبوّة تارةً، لم يكن دليلاً على النبوّة، بل دليلها ما يلزم من وجوده وجودها.
اضطراب الناس في دليل النبوة
وهنا اضطرب الناس، فقيل: دليلُها جنسٌ يختصّ بها، وهو الخارق للعادة. فلا يجوز وجوده لغير نبيّ؛ لا ساحر، ولا كاهن، ولا وليّ(2)؛ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة(3)، [وغيرهم](4)؛ كابن حزم(5)، وغيره.
قول الأشاعرة
وقيل: بل الدليل هو الخارق للعادة، بشرط الاحتجاج به على النبوّة، والتحدّي بمثله. وهذا منتفٍ في السحر، والكرامة؛ كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي أهل الإثبات(6)
__________
(1) في ((خ)): انتفاء. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) الوَلِيّ: بمعنى مفعول في حق المطيع. فيقال: المؤمن ولي الله. المصباح المنير 673.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والولاية ضدّ العداوة. وأصل الولاية: المحبة، والقرب. وأصل العداوة: البُغض والبُعد. وقد قيل: إنّ الوليّ سُمّي وليّاً من موالاته للطاعات؛ أي متابعته لها. والأول أصحّ.
والوليّ: القريب.... فإذا كان وليّ الله هو الموافق، المتابع له فيما يُحبّه ويرضاه، ويُبغضه ويُسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له...". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 9-10.
(3) انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبدالجبار 15/189.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)). وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) انظر المحلى لابن حزم 1/36.
(6) يعني الأشاعرة.
وانظر قولهم في المعجزة، في: أصول الدين للبغدادي ص 175، 185. والإرشاد للجويني ص 307-315. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 339. وشرح المقاصد للتفتازاني 5/11.(21/10)
؛ كالقاضيَيْن أبي بكر(1)، وأبي يعلى(2)، وغيرهما.
البيان: كتاب الباقلاني
وقد بسط القاضي أبو بكر(3) الكلام في ذلك، في كتابه المصنّف(4) في الفرق بين المعجزات، والكرامات، والحيل، والكهانات، والسحر، والنيرنجيات(5).
سبب الغلط عند المعتزلة والأشاعرة في دليل النبوة..
وهؤلاء [وهؤلاء](6) جعلوا مجرّد كونه خارقاً للعادة هو الوصف المعتبر.
وفرقٌ بين أن يقال: لا بدّ أن يكون خارقاً للعادة، وبين أن يقال: كونه خارقاً للعادة هو المؤثّر؛ فإنّ الأول يجعله شرطاً لا موجباً، والثاني يجعله موجباً.
وفرقٌ بين أن يقال: العلم، والبيان، وقراءة القرآن، لا يكون إلاَّ من حيّ، وبين أن يقال: كونه حيّاً يُوجب أن يكون عالماً قارئاً.
ومن هنا دخل الغلط على هؤلاء.
ليس في الكتاب والسنة لفظ المعجزة وخرق العادة
__________
(1) الباقلاني. سبقت ترجمته. وانظر كلامه في كتابه البيان ص 19-20، 46-49. وانظر: الإرشاد للجويني ص 312-313. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171. والمواقف للإيجي ص 339-340.
(2) سبقت ترجمته .
(3) الباقلاني.
(4) طبع هذا الكتاب أول مرة، ونشره الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي عام 1958، في المكتبة الشرقية ببيروت.
(5) النِيرَنْج - بالكسر: أخذ كالسحر، وليس به، وإنما هو تشبيه، وتلبيس.
انظر: اللسان 2/376. والقاموس المحيط ص 265.
(6) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((م))، و ((ط)).(21/11)
وليس في الكتاب والسنة تعليق الحكم بهذا الوصف، بل ولا ذكر خرق العادة، ولا لفظ المعجز، وإنّما فيه آيات وبراهين(1)، وذلك يوجب اختصاصها بالأنبياء.
شرط المعجزة عند الأشاعرة
وأيضاً: فقالوا في شرطها: أن لا يقدر عليها إلا الله، لا [تكون](2) مقدورة للملائكة، ولا للجنّ، ولا للإنس؛ بأن يكون جنسها ممّا لا يقدر عليه إلا الله(3)؛ كإحياء الموتى، وقلب العصا حية.
وإذا كانت من أفعال العباد لكنها خارقة للعادة؛ مثل حمل الجبال، والقفز من المشرق إلى المغرب، والكلام المخلوق الذي يقدر على مثله البشر، ففيه لهم قولان :
أحدهما: أنّ ذلك يصح أن يكون معجزة.
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذه الألفاظ إذا سمّيت بها آيات الأنبياء كانت أدلّ على المقصود من لفظ المعجزات. ولهذا لم يكن لفظ (المعجزات) موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ (الآية)، و (البينة)، و (البرهان)؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ..}. [سورة القصص 32] في العصا، واليد. وقال تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}. [سورة النساء، آية 174].....).
ثمّ ذكر رحمه الله الآيات القرآنية الدالّة على أنّ الآيات النبوية تُسمّى براهين، ثمّ قال رحمه الله: (وأما لفظ الآيات فكثير في القرآن)... ثمّ استشهد بآيات كثيرة، منها قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. [سورة الإسراء، آية 101]...
انظر الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح 5/412-419. وانظر قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام رحمه الله ص 7 .
(2) في ((خ)): يكون. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: البيان للباقلاني ص 8، 19، 57.(21/12)
والثاني: أن المعجزة إنّما هي إقدار المخلوق على ذلك؛ بأن [يخلق](1) فيه قدرة [خارجة](2) عن قدرته المعتادة(3).
مناقشة الباقلاني في تعريف المعجزة
وهذا اختيار القاضي أبي بكر(4)، ومن اتبعه؛ كالقاضي [أبي يعلى](5).
وظنوا أن هذا يوجب طرد قولهم أنّها لا تكون مقدورة لغير الله، بخلاف القول الأول؛ فإنه تقع فيه شبهة إذ كان الجنس معتادا. وإنّما الخارق هو الكثير الخارج عن العادة.
الفرق بين المعجزة وغيرها عند الأشاعرة
وهذا الفرق الذي ذكره ضعيفٌ، فإنّه إذا كان قادراً على اليسير، فَخَرَقَ العادة في قدرته، حتى جعله قادراً على الكثير، فجنس القدرة معتاد مثل جنس المقدور، وإنّما خُرقت العادة بقدرة خارجة عن العادة؛ كما خرقت بفعل خارج عن القدرة. وعنده أنّ خلقَ القدرة خلقٌ لمقدورها، والقدرة عنده مع الفعل، فلا فرق.
__________
(1) في ((خ)): خلق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): خارقة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) وقال عبد القاهر البغدادي - من الأشاعرة -: "قال أصحابنا: أكثر المعجزات من أفعال الله تعالى لا يقدر على جنسها غيره؛ كإحياء الأموات، وإبراء الأكمه، والأبرص، وقلب العصا حية، وفلق البحر، وإمساك الماء في الهواء، وتشقق القمر، وإنطاق الحصى، وإخراج الماء من بين الأصابع، ونحو ذلك. ومنها ما هو خلق لله اختراعاً وكسباً لصاحب المعجزة؛ كإقداره إنساناً على الطفر إلى السماء، وعلى قطع المسافة البعيدة في الساعة القصيرة، وعلى إطلاق لسان الأعجمي بالعربية، ونحو ذلك، مما لم يجر العادة به". أصول الدين للبغدادي ص 176-177. وانظر: شرح المقاصد للتفتازاني 5/17. والإرشاد للجويني ص 308-309.
(4) الباقلاني. انظر: كتابه البيان ص 14-15، 20، 23، 34.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).(21/13)
وهذا القول، وهو: أنّ المعجزة لا تكون إلاَّ مقدورة للرب، لا للعباد: قولُ كثيرٍ من أهل الكلام؛ من القدرية(1)، والمثبتة للقدر، وغيرهم.
دليل الأشاعرة علىامتناع أن تكون هذه الخوارق لغير الله
ثمّ إنّهم لمّا طُولبوا بالدليل على أنّه لا يجوز أن تقدر العباد على مثل: إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو ذلك مما ذكروا أنّه يمتنع أن يكون مقدوراً لغير الله، اعتمدوا في الدلالة على (أنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده)، فلو جاز أن يكون العبد قادراً على هذه الأمور، لوجب أن لا يخلو من ذلك ومن ضده؛ وهو العجز، أو القدرة على ضدّ ذلك الفعل؛ كما يقولونه في فعل العبد:
المعجزات عند الأشاعرة هي ما تعجز قدرات العباد عنها
إنّه إذا لم يقدر على الفعل، فلا بُدّ أن يكون عاجزاً، أو قادراً على ضدّه.
هذا احتجاج من يقول القدرة مع الفعل(2)
__________
(1) القدرية من الألفاظ المشتركة. فالقدرية النفاة هم الذين ينفون الإرادة عن الله تعالى، ويقولون بأنّ العبد يخلق فعل نفسه. وهذا المعروف من معتقد المعتزلة في القدر.
والقدرية المثبتة الذين يجعلون العبد مجبوراً على أفعاله.
قال شارح الطحاوية: "وسمّوا قدرية لإنكارهم القدر. وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب". شرح الطحاوية ص 79.
وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القدرية إلى ثلاثة أصناف:
1- القدرية المشركية. 2- والقدرية المجوسية. 3- والقدرية الإبليسيّة.
انظر: مجموع الفتاوى 8/256-261.
(2) هذا قول الأشاعرة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 46. والإرشاد للجويني ص 219-220.
ويقصد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الكلام أن يُبيّن أنّهم يقولون: القدرة تكون مع الفعل، لا كما يقوله أهل السنة والجماعة: أنّ القدرة تكون قبل الفعل، ومع الفعل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/60-62 ،، 9/241-242. ومجموع الفتاوى 8/129-130، 290-292، 371-376، 10/32، 18/172-173. وشرح الطحاوية ص 45.(21/14)
، والقدرة عنده لا تصلح للضدّين؛ كالأشعرية، فيقول: لا يخلو من القدرة، أو العجز، فهذه مقدمة.
والمقدمة الثانية: ونحن لا نحسّ من أنفسنا عجزاً عن إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ونحو هذه الأمور، لكنّا غير قادرين عليها، ولا يجوز أن نقدر عليها. وهؤلاء يقولون: لا يكون الشيء عاجزاً إلاَّ عمّا يصحّ أن يكون قادراً عليه، [بخلاف ما لا يصحّ أن يكون قادراً عليه](1)، فلا يصحّ أن يكون عاجزاً عنه. ولهذا قالوا: لا ينبغي أن تُسمّى هذه معجزات؛ لأنّ ذلك يقتضي أنّ الله أعجز العباد عنها، وإنما يعجز العباد عما يصحّ قدرتهم عليه. هذا(2) كلام القاضي أبي بكر، ومن وافقه(3).
رد شيخ الإسلام عليهم
وكلا المقدمتين دعوى مجردة لم يقم على واحدة منها حجة. فكيف يجوز أن يكون الفرق بين المعجزة وغيرها مبنيّاً على مثل هذا الكلام الذي ينازعه فيه أكثر العقلاء، ولو كان صحيحاً لم يفهم إلا بكلفة، ولا يفهمه إلا قليلٌ من الناس. فكيف إذا كان باطلاً.
والذين آمنوا بالرسل لِمَا رأوه، وسمعوه من الآيات، لم يتكلموا بمثل هذا الفرق، بل ولا خطر بقلوبهم.
متأخروا الأشاعرة حذفوا القيد الذي وضعه المتقدمون
ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي(4)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من ((خ))، وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((ط)) فقط: وهذا.
(3) انظر: البيان للباقلاني ص 8-12.
(4) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعيّ، الملقّب إمام الحرمين. أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي. متفنّن في العلوم من الأصول والفروع. وألّف العقيدة النظامية على عقيدة أهل التفويض. ويعتبر من أعلام الأشاعرة كان مولده سنة 419 ه ، وتوفي سنة 478 ه ، ودفن بنيسابور.
انظر: البداية والنهاية 12/128. ووفيات الأعيان 3/167. وشذرات الذهب3/358، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة: 2/602.(21/15)
، والرازي(1)، والآمدي(2)، وغيرهم حذفوا هذا القيد؛ وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها، وقالوا: كلّ حادثٍ، فهو مقدورٌ للربّ(3)، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب، وهو خالقها، والعبد ليس خالقاً لفعله؛ فالاعتبار بكونها خارقة للعادة قد استدلّ بها على النبوّة، وتحدّى بمثلها، فلم يمكن أحداً معارضة هذه القيود الثلاثة، وحذفوا ذلك القيد.
كلام الباقلاني في الفرق بين المعجز والسحر
__________
(1) هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري الرازي، الإمام المفسّر. كان يُحسن الفارسية، وكان واعظاً بارعاً بها وبالعربية أيضاً. له كتاب ((مفاتيح الغيب)) في تفسير القرآن الكريم. وله مؤلفات عديدة. وهو من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، وُلد في الريّ سنة 544ه ، وتوفي في وهران سنة 606 ه.
انظر: وفيات الأعيان 4/2488. وشذرات الذهب 5/21. والأعلام 7/203، وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة: 2/662.
(2) هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سلم التغلبي. الفقيه الأصولي، الملقب سيف الدين. كان حنبلياً، ثمّ صار شافعياً. ويعتبر من علماء الأشاعرة، وممن خلطوا الكلام بالفلسفة، له نحو من عشرين مؤلفاً. قال عنه ابن كثير: كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، كثير البكاء، تكلموا فيه بأشياء، الله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظنّ أنّه ليس لغالبها صحة. وُلد سنة 551ه، ومات سنة 631 ه.
انظر: وفيات الأعيان 3/293. والبداية والنهاية 13/140. وشذرات الذهب 5/144. ومعجم المؤلفين 7/155، وموقف شيخ الإسلام من الأشاعرة: 2/679.
(3) انظر: الإرشاد للجويني ص 319، 322.(21/16)
وزعم القاضي أبو بكر أنّ ما يُستدلّ به على أنّ المعجزات يمتنع دخولها تحت قدر العباد لا يصحّ على أصول القدرية. وبَسَطَ القول في ذلك بكلام يصح بعضه دون بعض؛ كعادته في أمثال ذلك(1)، ثمّ جعل هذا الفرق: هو الفرق بين المعجزات، وبين السحر، والحيل؛ فقال: وأمّا على قولنا إن المعجز لا يكون إلا من مقدورات القديم، ومّما يستحيل دخوله، ودخول مثله تحت قدر العباد، فإذا كان كذلك، استحال أن يفعل أحدٌ من الخلق شيئاً من معجزات الرسل، أو ما هو من جنسها؛ لأنّ المحتال إنّما يحتال ويفعل ما يصح دخوله تحت قدرته، دون ما يستحيل كونه مقدورا له(2).
قال: "وأمّا(3) القائلون بأنّه يجوز(4) أن يكون في(5) معجزات الرسل ما يدخل جنسه تحت قُدَرِ العباد، وإن لم يقدروا على كثيره، وما يخرق العادة منه، فإنّهم(6) يقولون: قد علمنا أنه لا حيلة ولا شيء من(7) السحر يمكن أن يتوصل به الساحر، والمشعبذ(8) إلى فعل الصعود في(9) السماء، [والطَفَرِ](10)
__________
(1) انظر: البيان للباقلاني ص 66-70.
(2) انظر: البيان للباقلاني ص 72-73.
(3) في البيان: فأما.
(4) في البيان: قد يجوز.
(5) في البيان: من.
(6) في البيان: فإنهم أيضاً.
(7) في البيان: في.
(8) الشعبذة، والشعوذة: اللعب بخفة. يرى الإنسان منه الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين؛ أي يرى ما ليس له حقيقة. والمشعبذ هو المشعوذ.
انظر: لسان العرب 3/495. والمصباح المنير1/314. والقاموس المحيط ص 427.
(9) في البيان: إلى.
(10) في ((م))، و ((ط)): ولا قفز.
والطفر: هو القفز، والوثوب في ارتفاع. وعُرف بين المتكلمين: النظرية التي تُخالف العقل، والتي اشتهر بها النظّام، فيُقال: طفرة النظام. انظر القاموس المحيط ص 5.
وسيأتي معنى الطفرة عند النظام.(21/17)
من المشرق إلى المغرب(1). [وقَفْزُ](2) الفراسخ الكثيرة، والمشي على الماء، وحمل الجبال الراسيات: هذا(3) أمرٌ لا يتم بحيلة محتال ولا [سحر](4) ساحر(5)"(6).
وتكلّم على إبطال قول من قال: إنّ السحر لا يكون إلا تخييلاً، لا حقيقة له، وذكر أقوال العلماء [والآثار عن الصحابة بأنّ السّاحر يُقتل بسحره(7)، وقولٌ](8) أنّه يُقتل حدّاً عند أكثرهم، وقصاصاً عند بعضهم(9)
__________
(1) في البيان: من الشرق إلى الغرب.
(2) في ((م))، و ((ط)): ولا طفر.
(3) في البيان: هذا زعموا.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(5) في البيان: لا يتمّ بحيلة ساحر ولا محتال.
(6) البيان للباقلاني ص 73.
(7) ومن آثار الصحابة الدالّة على قتل الساحر:
1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: ((اقتلوا كلّ ساحر)). قال الراوي: فقتلنا في يوم واحدٍ ثلاث سواحر.
أخرجه أبو داود 3/431-432، وقال عنه الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ: إسناده حسن. انظر تيسير العزيز الحميد ص 391-392.
2- وما رواه الإمام مالك من أنّ حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت. موطأ مالك 2/871.
3- وما رواه البخاري في تاريخه الكبير: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله". التاريخ الكبير للبخاري، القسم الثاني من الجزء الأول، ص 222.
وانظر: هذه الآثار في أضواء البيان 4/461.
(8) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(9) انظر: البيان للباقلاني ص 74-87.
وقد اتفق الأئمة الأربعة على قتل الساحر كفراً إذا تضمّن سحره الكفر.
أما إن قتل بسحره إنساناً، ولم يكن سحره متضمناً الكفر، فإنه يُقتل عند مالك، والشافعيّ، وأحمد رحمهم الله. أما أبو حنيفة رحمه الله فقال: "لا يُقتل حتى يتكرّر منه ذلك، أو يقرّ بذلك في حقّ شخص معيّن".
وإذا قتل، فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعيّ، فإنّه قال: يُقتل والحالة هذه قصاصاً.
أما هل يقتل الساحر بمجرد فعله السحر، واستعماله، فقال مالك، وأبو حنيفة، ورواية عن أحمد: يقتل.
وقال الشافعيّ: "الساحر إذا كان يعمل في سحره، ما يبلغ به الكفر، يُقتل. فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلاً". وهو رواية عن أحمد.
انظر: المغني 12/302. وفتح الباري 10/247. وتيسير العزيز الحميد ص 391. وتفسير القرآن العظيم 1/147. وشرح النووي على صحيح مسلم 14/176. وتفسير القرطبي 2/23. وأضواء البيان 4/456-457 .(21/18)
. [ ثمّ قال(1) :
باب
القول في الفصل بين المعجز والسحر ](2).
وهو لم يفرق بين الجنسين، بل يجوز أن يكون ما هو معجزةٌ للرسول يظهر على يد الساحر. لكن قال: الفرق: هو (تحدّي الرسول(3) بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه، بتعذر [مثله](4) عليه، فمتى وجد الذي(5) ينفرد الله بالقدرة عليه(6)، من غير تحدٍّ منه(7)، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً. وإذا كان(8) كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً ومشبهاً لآيات الأنبياء(9)، [و](10) كان(11) ما يظهر عند فعل الساحر، من جنس بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله(12) عند تحديهم به.
غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادعى به النبوة، أبطله الله بوجهين)(13):
أحدهما: أن ينسيه عمل السحر، أو لا يفعل عند سحره شيئاً في المسحور؛ من موتٍ، أو سقم، أو بغض، ولم يخلق فيه الصعود إلى جهة العلو، والقدرة على الدخول في بقرة. فإذا منعه هذه الأسباب بطل السحر(14).
والثاني: [أنّ الساحر](15) تمكن معارضته؛ فإن أبواب السحر معلومة عند السحرة. فإذا تحدى ساحر بشيء يفعل عند سحره، لم يلبث أن يجد خلقاً من السحرة يفعلون مثل فعله ، ويعارضونه بأدقّ وأبلغ ممّا أورده(16)
__________
(1) أي الباقلاني. قال هذا في البيان ص 93.
(2) ما بين المعقوفتين في ((ط)) فقط هكذا: (باب القول في الفصل بين المعجز والسحر. ثمّ قال). وهو مخالف لما في ((خ))، و ((م)).
(3) في البيان: عليه السلام.
(4) في ((خ)): مثلثه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) في البيان: وجد الشيء الذي.
(6) في البيان زيادة: على حدّ العادة.
(7) في البيان: على غير تحدي نبيّ به.
(8) في البيان: كان ذلك.
(9) في البيان: الرسل.
(10) في ((خ)): ولو. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(11) في البيان: وإن كان.
(12) في البيان: تعالى.
(13) البيان للباقلاني ص 94.
(14) انظر: البيان للباقلاني ص 94-95.
(15) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(16) انظر: البيان للباقلاني ص 95.(21/19)
"والرسول(1) إذا ظهر عليه مثل ذلك، وادعاه آية له، قال لهم: هذا آيتي وحجتي، ودليل ذلك: أنّكم لا تقدرون على مثله، ولا يفعله الله(2) في وقتي هذا، ومع تحدّيّ(3) ومطالبتي بمثله عند سحر ساحر، وفعل كاهن. وقد كان(4) يظهر من سحرتكم وكهانكم، وهي آية لا تظهر(5) اليوم على أحد من الخلق، وإن دقّ سحره، وعظم في الكهانة(6) علمه. فإذا ظهر ذلك عليه، وامتنع ظهور مثله على يد ساحرٍ أو كاهن، مع أنّه قد كان يظهر(7) من قبل، صار هذا(8) [خرقاً](9) عادة البشر، وعادة السحرة والكهنة(10) خاصّة" (11).
__________
(1) في البيان: عليه السلام.
(2) في البيان: سبحانه.
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والتحدي هو أن يحدوهم؛ أي يدعوهم، فيبعثهم إلى أن يُعارضوه، فيُقال فيه: حداني على هذا الأمر؛ أي بعثني عليه. ومنه سمّي حادي العيس؛ لأنه بحداه يبعثها على السير.
وقد يُريد بعض الناس بالتحدي دعوى النبوة، ولكنه أصله الأول. قال تعالى في سورة الطور: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}". [ سورة الطور، الآيتان 34-35]...). الجواب الصحيح 5/422-423.
(4) في البيان: كان مثل هذا.
(5) في البيان: وآيتي أنه لا يظهر اليوم.
(6) في البيان: في النهاية.
(7) في البيان: يظهر ذلك.
(8) في البيان: ذلك.
(9) كذا في البيان للباقلاني. وهي في جميع النسخ: خرقٌ.
(10) في البيان: عادة الكهنة والسحرة - تقديم وتأخير.
(11) البيان للباقلاني ص 95-96.(21/20)
قال: ولم يبعد أن يقال: هذه الآية أعظم من غيرها، وأنّ لها فضل مزية(1). ذكر هذا بعد أن قال: فإن قال قائل: فإذا أجزتم أن يكون من عمل السحر ما يفعل الله عنده سقم الصحيح وموته، ويفعل عنده بغض المحب وحب المبغض، وبغض الوطن والردّ إليه من السفر، وضيق الصدر والعجز عن الوطء بالربط والشدّ الذي [يعمله](2) السحرة، والصعود في جهة العلو على خيط أو بعض [الآلة](3). [فما](4) الفصل بين هذا، وبين معجزات الرسل؟ وكيف ينفصل - مع ذلك - المعجزات من السحر؟ ويمكن الفرق بين النبي والساحر؟؛ أوليس لو قال نبي مبعوث: إنّي أصعد على هذا الخيط نحو السماء، وأدخل جوف هذه البقرة وأخرج، وإني أفعل فعلاً أفرّق به بين المرء وزوجه، وأفعل فعلاً أقتل به هذا الحي وأسقم هذا الصحيح. فهل كان يكون ذلك لو ظهر على يده آية ودليلاً على صدقه؟ [فما](5) الفصل إذاً بين السحر والمعجز(6).
كلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر هو عمدة الأشاعرة
ثم قال في الجواب: يُقال له: جواب هذا قريبٌ، وذلك أنّا قد بيّنا في صدر هذا الكتاب(7) أنّ من حق [المعجز أن](8) لا يكون معجزاً، حتى يكون واقعاً من فعل الله على وجه خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول بالإتيان... إلى آخر ما كتب(9).
قلت: هذا عمدة القوم، ولهذا طعن الناس في طريقهم، وشنع عليهم ابن حزم(10) وغيره.
__________
(1) انظر: البيان للباقلاني ص 95-96.
(2) في ((م))، و ((ط)): يعلمه.
(3) في ((م))، و ((ط)): الآلات.
(4) في ((م))، و ((ط)): في.
(5) في ((م))، و ((ط)): وما.
(6) انظر: البيان للباقلاني ص 93-94.
(7) يشير الباقلاني إلى أول كتابه ((البيان)).
(8) في ((م))، و ((ط)): المعجزات.
(9) انظر: البيان للباقلاني ص 94.
(10) انظر بعض كتب ابن حزم؛ مثل: كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده ص 195-197. والأصول والفروع 2/132-134. وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2-9. والمحلى 1/36.(21/21)
مناقشة شيخ الإسلام لكلام الباقلاني في الفرق بين المعجزة والسحر
وذلك أن هذا الكلام مستدرك من وجوه :
أحدها: أنّه إذا جوز أن يكون ما ينفرد الرب بالقدرة عليه على قوله: يأتي به النبيّ تارة، والساحر تارة، ولا فرق بينهما إلا دعوى النبوّة، والاستدلال به، والتحدي بالمثل، فلا حاجة إلى كونه مما انفرد الباري بالقدرة عليه، لا سيما وقد ظهر ضعف الفرق بين ما يمتنع قدرة العباد عليه، وما لا يمتنع. ولهذا أعرض المتأخرون عن هذا القيد(1).
لا تكون المعجزة عند الأشاعرة إلا إذا استدل بها واقترن بها دعوى نبوة..
والوجه الثاني: وبه تنكشف حقيقة طريقهم أنه على هذا لم [تتميز](2) المعجزات بوصف تختص به، وإنما امتازت باقترانها [بدعوى](3) النبوة. وهذا حقيقة قولهم، وقد صرّحوا به(4).
__________
(1) قال شيخ الإسلام - فيما سبق من هذا الكتاب -: "ولهذا لما رأى المتأخرون ضعف هذا الفرق؛ كأبي المعالي، والرازي، والآمدي، وغيرهم، حذفوا هذا القيد، وهو كون المعجزة مما ينفرد الباري بالقدرة عليها. وقالوا: كلّ حادث فهو مقدور للربّ، وأفعال العباد هي أيضاً مقدورة للرب". انظر ص 194.
(2) في ((خ)): يتميز. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((م))، و ((ط)): بدعوة.
(4) انظر: شرح المقاصد ص 11. والمواقف للإيجي ص 339. والإرشاد للجويني ص 307-315. وأصول الدين للبغدادي ص 170-171.(21/22)
فالدليل والبرهان إن استدلّ به كان دليلاً، وإن لم يستدلّ به لم يكن دليلاً، وإن اقترنت به الدعوى، كان دليلاً، وإن لم تقترن به الدعوى، لم يكن دليلا عندهم. ولهذا لم يجعلوا دلالة المعجز دلالة عقلية، بل دلالة وضعية(1)؛ كدلالة الألفاظ بالاصطلاح.
وهذا مستدرك من وجوه :
رد شيخ الإسلام عليهم من تسعة وجوه..
منها: أنّ كون آيات الأنبياء مساوية في الحدّ(2) والحقيقة [لسحر](3) السحرة، أمرٌ معلوم الفساد بالاضطرار من دين الرسل.
الثاني: أنّ هذا من أعظم القدح في الأنبياء، [إذ](4) كانت آياتهم من جنس سحر السحرة، وكهانة الكهان.
الثالث: أنّه على هذا التقدير لا [يبقى](5) دلالة؛ فإنّ الدليل ما يستلزم المدلول، ويختصّ به. فإذا كان مشتركاً بينه وبين غيره، لم يبق دليلاً. فهؤلاء قدحوا في آيات الأنبياء، ولم يذكروا دليلاً على صدقهم.
__________
(1) الدلالة اللفظية الوضعية: هي كون اللفظ بحيث متى أُطلق، أو تُخيّل، فُهم منه معناه للعلم بوضعه. وهي المنقسمة إلى المطابقة، والتضمن، والالتزام. لأنّ اللفظ الدالّ بالوضع يدلّ على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى ما يلازمه في الذهن بالالتزام؛ كالإنسان؛ فإنّه يدلّ على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمّن، وعلى قابل العلم بالالتزام.
انظر: التعريفات للجرجاني ص 140. وانظر: الإرشاد للمفيد ص 324.
(2) الحدّ: قول دالّ على ماهية الشيء. التعريفات ص 112.
(3) في ((م))، و ((ط)): بسحر.
(4) في ((م))، و ((ط)): إذا.
(5) في ((م))، و ((ط)): تبقى.(21/23)
الرابع: أنه على هذا التقدير يمكن الساحر دعوى النبوة. وقوله: أنه عند ذلك يسلبه الله القدرة على السحر، أو يأتي بمن يعارضه(1): دعوى مجردة؛ فإنّ المنازع يقول: [لا نسلم](2) أنه إذا ادعى النبوة فلا بدّ أن يفعل الله ذلك، لا سيما على أصله؛ وهو: أنّ الله يجوز أن يفعل كل مقدور(3)، وهذا مقدور للرب فيجوز أن يفعله. وادعى أن ما يخرق العادة من الأمور الطبيعية، والطلسمات(4)، هي كالسحر.
فقال: ولأجل ذلك لم تلتبس آيات الرسل بما يظهر من جذب حجر المغناطيس(5)، وما يوجد ويكون عند كتب الطلسمات(6). قال: وذلك أنّه لو ابتدأ نبيّ بإظهار حجر المغناطيس، لوجب أن يكون ذلك آية له. ولو أنّ أحداً أخذ هذا الحجر، وخرج إلى بعض البلاد، وادّعى أنّه آية له عند من لم يره، ولم يسمع به، لوجب أن ينقضه الله عليه بوجهين.
__________
(1) انظر البيان للباقلاني ص 94-95.
(2) في ((خ)): يسلم. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والتمهيد للباقلاني ص 317-322، 385-386. والإرشاد للجويني ص 319، 322، 326. والاقتصاد للغزالي ص 116-118. وقواعد العقائد له ص 61. والمواقف للإيجي ص 328-331.
(4) الطلسم: لفظ يوناني. وهو في علم السحر خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوب، أو دفع أذى.
انظر المعجم الوسيط / مادة طلسم 2/568.
(5) حجر المغناطيس: هو حجر له خاصيّة جذب الحديد ومعادن أخرى؛ كالكوبالت، والكروم، والنيكل. وهذا الجسم يوجد بكثرة في بلاد السويد، والنورفيج، وأواسط تركيا. وإذا عُلّق المغناطيس تعليقاً حُرّاً فإنّه يأخذ اتجاهاً ثابتاً دائماً نحو الشمال.
انظر: الموسوعة العربية الميسرة 1726. ودائرة معارف القرن العشرين 9/282.
(6) انظر البيان للباقلاني ص 70.(21/24)
أحدهما: أن يؤثر دواعي خلق من البشر إلى حمل جنس تلك الحجارة إلى ذلك البلد. وكذلك سبيل الزناد الذي يقدح النار، وتعرفه العرب(1). وكذلك سبيل الطلسمات التي يقال أنها تنفي الذباب، والبقّ، والحيّات(2).
والوجه الآخر: أن لا يفعل الله عند ذلك ما كان يفعله من قبل(3)، فيقال: هذه دعوى مجردة.
ومما يوضح ذلك :
الباقلاني جعل حجر المغناطيس والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء.. والرد عليه
__________
(1) الزند: العود الذي يقدح به النار، وهو الأعلى. والزندة: السفلى، فيها ثقب، وهي الأنثى. فإذا اجتمعا قيل زندان، ولم يقل زندتان. انظر: الصحاح 2/481. والقاموس 364. والمصباح المنير 256.
(2) قال ابن حزم رحمه الله: "وأما السحر فإنه ضروب، منه ما هو من قبل الكواكب؛ كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب. ومن هذا الباب كانت الطلسمات، وليست إحالة طبيعة، ولا قلب عين، ولكنها قوى ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى أخر؛ كدفع الحرّ للبرد، ودفع البرد للحرّ؛ وكقتل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر. ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا آثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة، ولا يقع فيه برد...". إلى أن قال: "ومنه ما يكون بالخاصة؛ كالحجر الجاذب للحديد، وما أشبه ذلك. ومنه ما يكون لطف يد..". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/4.
(3) انظر البيان للباقلاني ص 98-100.
وقال بعد ذلك: "فلو ادّعى بعضها مدّع لوفّر الله سبحانه دواعي خلق من عباده العالمين بها على معارضة ذلك الرجل، وإظهار مثل قوله".(21/25)
الوجه الخامس: وهو أن جعل قدح الزناد، وجذب حجر المغناطيس، والطلسمات من جنس معجزات الأنبياء، وأنه لو بعث نبيّ ابتداء، وجعل ذلك آية له، جاز ذلك: غلطٌ عظيمٌ، وعدم علم بقدر معجزات الأنبياء وآياتهم. وهذا إنما أتاهم حيث جعلوا جنس الخارق هو الآية(1)؛ كما فعلت المعتزلة. وأولئك(2) كذبوا بوجود ذلك لغير الأنبياء، وهؤلاء(3) ما أمكنهم تكذيب ذلك؛ لدلالة الشرع، والأخبار المتواترة، والعيان على وجود حوادث [من هذا النوع](4)، فجعلوا [الفرق](5) افتراق الدعوى، والاستدلال، والتحدي [دون الخارق](6). ومعلومٌ أن ما ليس بدليل لا يصير دليلاً بدعوى المستدلّ أنّه دليل.
الذين ادعوا النبوة ظهرت لهم خوارق ولم يعارضهم أحد
وقد بسط الكلام في ذلك، وجوز أن [تظهر](7) المعجزات على يد كاذب(8)، إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه؛ فعمدته سلامتها من المعارضة بالمثل، مع أن المثل عنده موجود، وآيات الأنبياء لها أمثال كثيرة لغير الأنبياء، لكن يقول(9) إنّ من ادّعى الإتيان؛ فإما أن لا يظهرها الله على يديه، وإما أن [يُقيّض](10) من يعارضه بمثلها. هذا عمدة القوم، وليس فرقاً حقيقياً بين النبيّ والساحر، وإنّما هو مجرّد دعوى.
__________
(1) أي أنهم حصروا المعجزة في الخارق.
(2) يقصد المعتزلة. انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل 15/189.
(3) يقصد الأشاعرة. انظر الإرشاد للجويني ص 319.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(5) في ((خ)): الفراق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) في ((خ)): والخارق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) في ((خ)): يظهر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(8) انظر: البيان للباقلاني ص47-48، 91، 94. والإرشاد للجويني ص319، 328.
(9) انظر: البيان للباقلاني ص 94-97.
(10) في ((ط)) فقط: يقبض.(21/26)
وهذا يظهر بالوجه السادس: وهو أنّ من الناس من ادّعى النبوة(1)، وكان كاذباً، وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يُمنع منها، ولم يعارضه أحدٌ، بل عُرف أنّ هذا الذي أتى به ليس من آيات الأنبياء، وعُرف كذبه بطرق متعددة؛ كما في قصة الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، [ والحارث ](2) الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء(3) ممّن ادعى النبوة. فقولهم: إنّ الكذاب لا يأتي بمثل هذا الجنس، ليس كما ادعوه(4).
الباقلاني منع من ظهور الخارق على يد الكذاب
الوجه السابع: أنه إنما أوجب أن لا يظهر الله الخوارق على يد الكذاب؛ لأنّ ذلك يُفضي إلى عجز الربّ. وهذه عمدة الأشعري في أظهر قولَيْه(5)، وهي المشهورة عند قدمائهم(6)، وهي التي سلكها القاضي أبو يعلى، ونحوه.
قال القاضي أبو بكر : فإن قال قائلٌ من القدرية(7)
__________
(1) مثل مسيلمة الكذاب.
(2) في ((م))، و ((ط)): والحارس.
(3) وكلّ هؤلاء سبق التعريف بهم.
(4) قال شيخ الإسلام في معرض الردّ عليهم في الجواب الصحيح: "أنت تُجوّز انتقاض العادة، وليس لانتقاضها عندك سبب تختصّ به، ولا حكمة انتقضت لأجلها، بل لا فرق عندك بين انتقاضها للأنبياء والأولياء والسحرة وغير ذلك. ولهذا قلتم: ليس بين معجزات الأنبياء، وبين كرامات الأولياء والسحرة فرق، إلا مجرّد اقتران دعوى النبوة والتحدي بالمعارضة، مع عدم المعارضة، مع أن التحدي بالمعارضة قد يقع من المشرك، بل ومن الساحر، فلم يثبتوا فرقاً يعود إلى جنس الخوارق المفعولة، ولا إلى قصد الفاعل والخالق، ولا قدرته، ولا حكمته". الجواب الصحيح 6/401.
(5) انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 342.
(6) انظر: الإرشاد للجويني ص 327. وانظر أيضاً الجواب الصحيح 6/397، 398.
(7) انظر: شرح الأصول الخمسة لعبدالجبار ص 564، 571.
وذكر الجويني اعتراض المعتزلة هذا عليهم في الإرشاد ص 326.(21/27)
: [ فلم ](1) لا يجوز أن يظهر المعجزات على يد مدّعي النبوّة ليُلبّس بذلك على العباد، ويضل به عن الدين، وأنتم تجوّزون خلقه الكفر في قلوب الكفار، وإضلالهم. [فما](2) الفصل بين إضلالهم بهذا، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على يد الكاذبين؟
قال: فيُقال لمن سأل عن هذا من القدرية: الفصل بين الأمرين ظاهرٌ معلومٌ، وقد نصّ القرآن والأخبار بأنه يضلّ ويهدي(3)، ويختم على القلوب، والأسماع، والأبصار(4).
فأما مطالبتهم بالفرق بين إضلال العباد بهذه الضروب(5) من الأفعال، وبين إضلالهم بإظهار المعجزات على أيدي الكذابين؟ فجوابه: أنّا لم نحل إضلالهم بهذا الضرب لأنه إضلال عن الدين، أو لقبحه من الله لو وقع، أو لاستحقاقه الذمّ عليه - تعالى عن ذلك ، أو لكونه ظالماً لهم بالتكليف مع هذا الفعل. كلّ ذلك باطلٌ محالٌ من تمويههم، وإنما أحلناه لأنه يُوجب عجز القديم عن تمييز الصادق من الكاذب.
__________
(1) في ((ط)) فقط: لم.
(2) في ((م))، و ((ط)): في.
(3) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}. سورة الرعد، آية 27.
(4) قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. سورة البقرة، الآية 7.
(5) الضرب: المثل. وضرب المثل: هو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
(انظر: القاموس المحيط ص 138. ومفردات ألفاظ القرآن ص 506).(21/28)
وتعريفنا الفرق بين النبي والمتنبي من جهة الدليل؛ إذ لا دليل [بقول](1) كلّ أحدٍ أثبت النبوة على نبوة الرسل وصدقهم، إلا [ظهوراً لأعلام](2) المعجزة على أيديهم، أو خبرُ من ظهرت المعجزة على يده عن نبوّة آخرَ مُرسَلٍ. فهذا إجماع لا خلاف فيه؛ فلو أظهر الله على يد المتنبي الكاذب ذلك، لبطلت دلائل النبوة، وخرجت المعجزات عن كونها دلالة على صدق الرسول، ولوجب لذلك عجز القديم عن الدلالة على صدقهم.
ولمّا لم يجز عجزه، وارتفاع قدرته عن بعض المقدورات، لم يجز لذلك ظهور المعجزات على أيدي الكذابين، بخلاف خلق الكفر في قلوب الكافرين(3).
متأخروا الأشاعرة سلكوا طريق الضرورة في معرفة صدق النبي
قلت: هذا عمدة القوم. والمتأخرون عرفوا ضعف هذا، فلم يسلكوه؛ كأبي المعالي(4)، والرازي، وغيرهما. بل سلكوا الجواب الآخر: وهو أنّ العلم بالصدق عند المعجز يحصل ضرورة، فهو علم ضروري(5). [وبيّن](6) ضعف هذا الجواب، مع أنه يُحتجّ به، وقال: فهذا هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن كان الأمر كما زعمتم، فإنما يلزم العجز إذا كان خلق الدليل الدالّ على صدقهم جنسه لا يدلّ، بل جنسه يقع مع عدم النبوّة، ولم يبق عندكم جنسٌ من الأدلة [يختصّ](7) النبوة.
فلِمَ قلتم: إنّ تصديقهم والحال هذه ممكن؟
ولا ينفعكم هنا الاستدلال بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية؛ لأنّ كلامكم مع منكري النبوات. فيجب أن [تقيموا](8) عليهم كون المعجزات دليلاً على صدق النبي.
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): في قول.
(2) في ((م))، و ((ط)): ظهور أعلام.
(3) هذا الكلام لا يوجد في القسم المطبوع من البيان. وهو ناقص من آخره.
(4) انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 325.
(5) انظر: الإرشاد للجويني ص 312، 336.
(6) في ((خ)): وبيان. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) في ((م))، و ((ط)): يخصّ.
(8) في ((خ)): يقيموا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(21/29)
وأما من أقر بنبوّتهم بطريقٍ غير طريقكم، فإنّه لا يحتاج إلى كلامكم. فإذا قال لكم منكروا النبوّة: لا نسلّم إمكان طريق يدل على صدقهم، لم يكن معكم ما يدلّ على ذلك.
وقد أورد هذا السؤال، وأجاب عنه: بأنّه يمكنه تصديقهم بالقول، والمعجزات تقوم مقام التصديق بالقول، بل التصديق بالفعل أوكد. وضرب المثل بمدّعي الوكالة، إذا قال: قُمْ، أو اقعد، ففعل ذلك عند استشهاد وكيله؛ فإنّ العقلاء كلّهم يعلمون أنّه أقام تلك الأفعال مقام القول.
قلت: وهذا يعود إلى الاحتجاج بالطريقة الثانية؛ وهي العلم بالتصديق ضرورة، فلا حاجة إلى طريقة المعجزات.
الثاني: أنّه يُمكن أن يخلق علماً ضرورياً بصدقهم. وقد سلّم القاضي أبو بكر(1) ذلك، لكن قال : إذا اضطررنا إلى العلم بصدق مدّعي النبوة، وأنّه أرسله إلينا، كان في ضمن هذا العلم اضطراره لنا إلى العلم بذاته، وإلى أنه قد أرسل مدعي النبوة. وإذا علمنا ذلك اضطراراً، لم يكن للتكليف بالعلم بصدقه وجهاً، وخرجنا بذلك عن أن نكون مكلفين [للعلم](2) بالدين. وهذا كلامٌ يؤدي إلى خروجنا عن حدّ المحنة والتكليف.
فيُقال له: إذا حصل العلم الضروريّ بوجود الخالق [وبصدق](3) رسوله، كان التكليف بالإقرار بالصانع، وعبادته وحده لا شريك له، وبتصديق رسله، وطاعة أمره. وهذا هو الذي أَمَرَتْ به الرسل؛ أَمَرَتْ الخلق أن يعبدوا الله وحده، وأن يُطيعوا رسله، ولم يأمروا جميع الخلق بأن يكتسبوا علماً نظرياً بوجود الخالق، وصدق رسله. لكن من جحد الحق أمروه بالإقرار به، وأقاموا الحجة عليه، وبيّنوا معاندته، وأنّه جاحدٌ للحقّ الذي يعرفه. وكذلك الرسول كانوا يعلمون أنّه صادق ويكذبونه. فليُتدبّر هذا الموضع؛ فإنه موضعٌ عظيم.
حكمة الله تمنع ظهور المعجزات على يد الكذاب
__________
(1) الباقلاني.
(2) في ((م))، و ((ط)): بالعلم.
(3) في ((خ)): وتصدق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(21/30)
الوجه الثالث: أن يقال: نحن نُسلّم أنّ المعجزات تدلّ على الصدق، وأنّه لا يجوز إظهارها على يد الكاذب، لكن هو(1) لأنّ الله [ميّزه](2) عن ذلك، وأنّ حكمته تمنع ذلك، ولا يجوز عليه كلّ فعل ممكن، وأنتم مع تجويزكم عليه كلّ ممكن(3)، يلزمكم تجويز خلق المعجزة على يد الكاذب، فما علم بالعقل والإجماع من امتناع ظهورها على يد الكاذب يدل على فساد أصلكم.
الرد على من قال لا دليل على صدق الأنبياء إلا المعجزات
الوجه الرابع: أن يقال: لِمَ قلتم أنّه لا دليل على صدقهم إلا المعجزات(4)، وما ذكرتم من الإجماع على ذلك لا يصحّ الاستدلال به لوجهين :
أحدهما: أنه لا إجماع في ذلك، بل كثيٌر من الطوائف يقولون: إنّ صدقهم بغير المعجزات.
الثاني: إنّه لا يصحّ الاحتجاج بالإجماع في ذلك؛ فإنّ الإجماع إنّما يثبت بعد ثبوت النبوة، والمقدمات التي يُعلم بها النبوة لا يُحتج عليها بالإجماع، وقولكم: لا دليل سوى المعجز: مقدمة ممنوعة.
وذُكر عن الأشعري أنّه ذَكَرَ جواباً آخر، فقال: وأيضاً فإنّ قول القائل: ما أنكرتم من جواز إظهار المعجزات على أيدي الكذابين: قولٌ متناقضٌ، والله على كل شيء قدير. ولكن ما طالب السائل بإجازته محالٌ، لا تصحّ القدرة عليه، ولا العجز عنه؛ لأنّه بمنزلة كونه أظهر المعجزات على أيديهم؛ فإنّه أوجب أنهم صادقون؛ لأنّ المعجز دليلٌ على الصدق، ومتضمنٌ له.
__________
(1) كذا في ((خ))، و ((م))، و ((ط)).
(2) في ((م))، و ((ط)): منزه.
(3) انظر: البيان للباقلاني ص81-82، 88-90. والإرشاد للجويني ص319، 322، 326. وانظر ما سبق في هذا الكتاب ص 152-153 ،155، 268، 272-275.
(4) انظر: البيان للباقلاني ص 38. والإرشاد للجويني ص 331.(21/31)
وقوله: مع ذلك أنهم كاذبون: نقضٌ لقوله: أنهم صادقون قد ظهرت المعجزات على أيديهم. فوجب إحالة هذه المطالبة، وصار هذا بمثابة قول من قال: ما أنكرتم من صحة(1) ظهور الأفعال المحكمة الدالّة على علم فاعلها، والمتضمّنة لذلك من جهة الدليل، من الجاهل بها في أنّه قولٌ باطلٌ متناقضٌ، فيجب إذا كان الأمر كذلك استحالة ظهور المعجزات على يد الكاذبين، واستحالة ثبوت قدرة قادر عليه. وكيف يصح على هذا الجواب أن يقال: ما أنكرتم [وزعمتم أنّه](2) من فعل المحال الذي لا يصحّ حدوثه، وتناول القدرة له [هو من قبيل الجائز](3) قياساً على صحّة خلق الكفر، وضروب الضلال التي يصحّ حدوثها، وتناول القدرة لها.
من أصول الأشاعرة تجويزهم على الله فعل كل ممكن وعدم تنزيهه عن شيء.. ويلزمهم على ذلك خلق المعجزة على يد الكذاب
__________
(1) كذا في ((خ))، و ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو من ((م))، و ((ط)).(21/32)
قلت: هذا كلامٌ صحيحٌ إذا عُلم أنّها دليل الصدق، يستحيل وجوده بدون الصدق، والممتنع غير مقدور، فيمتنع أن يظهر على أيدي الكاذبين ما يدل على صدقهم. لكن المطالب يقول: كيف يستقيم على أصلكم [أن يكون](1) ذلك [دليل](2) الصدق، وهو أمرٌ حادثٌ مقدور، وكلّ مقدور يصح عندكم أن يفعله الله، ولو كان فيه من الفساد ما كان؛ فإنّه عندكم لا ينزه عن فعل ممكن، ولا يقبح منه فعل؛ فحينئذ إذا خلق على يد الكاذب مثل هذه الخوارق، لم يكن ممتنعاً على أصلكم، وهي لا تدلّ على الصدق البتة على أصلكم، ويلزمكم إذا لم يكن دليل إلهي، ألاَّ يكون في المقدور دليلٌ على صدق مدعي النبوّة، فيلزم أنّ الربّ سبحانه لا يصدق أحداً ادّعى النبوّة(3).
وإذا قلتم: هذا ممكنٌ، بل واقعٌ، ونحن نعلم صدق الصادق إذا ظهرت هذه الأعلام على يده ضرورةً(4). قيل: فهذا يُوجب أنّ الربّ لا يجوز عليه إظهارها على يد كاذب. وهذا فعلٌ من الأفعال هو قادر عليه، وهو سبحانه لا يفعله، بل هو منزّه عنه. فأنتم بين أمرين: إن قلتم: لا يمكنه خلقها على يد الكاذب وكان ظهورها ممتنعاً، فقد قلتم: أنّه لا يقدر على إحداث حادثٍ قد فعل مثله، وهذا تصريحٌ بعجزه. وأنتم قلتم: فليست [بدليل، فلا](5) يلزم عجزه، فصارت دلالتها مستلزمةً لعجزه على أصلكم. وإن قلتم: يقدر، لكنّه لا يفعل، فهذا حقٌ، وهو ينقض أصلكم.
__________
(1) في ((خ)): لكن أن يكون. - بزيادة: لكن -. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: الجواب الصحيح 6/393-401. وشرح الأصفهانية 2/621-624. وانظر أيضاً شرح الأصول الخمسة لعبدالجبار المعتزلي ص 571-572.
(4) وهذا قد قالوه. انظر الإرشاد للجويني ص 319، 322، 326.
(5) ما بين المعقوفتين رسم في ((خ)) هكذا: بدل ليلا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(21/33)
وحقيقة الأمر: أنّ نفس ما يدلّ على صدق [الصادق](1) بمجموعه، امتنع أن يحصل للكاذب، وحصوله له ممتنعٌ غير مقدور.
الله قادر على خلق الخوارق على يد الكذاب ولا يفعل لحكمة
وأمّا خلق مثل تلك الخارقة على يد الكاذب، فهو ممكنٌ، والله سبحانه وتعالى قادر عليه، لكنه لا يفعله لحكمته(2)؛ كما أنّه سبحانه يمتنع عليه أن يكذب، أو يظلم.
الأشاعرة ينفون حكمة الله تعالى
والمعجزُ تصديقٌ، وتصديق الكاذب هو منزهٌ عنه، والدالّ على الصدق قَصْدُ الربّ تصديق الصادق. وهذا القصد يمتنع حصوله للكاذب؛ فيمتنع جعل من ليس برسولٍ رسولاً، وجعل الكاذبِ صادقاً، ويمتنع من الرب قصد المحال، وهو غير مقدور، وهو إذا صدّق الصادق بفعله علم بالاضطرار والدليل أنّه صدّقه، وهذا العلم يمتنع حصوله للكاذب. واستشهادكم بالعلم: هو من هذا الباب؛ فأنتم تقولون إنّ الربّ لا يخلق شيئاً لشيءٍ(3)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)).
(2) قال ابن حزم رحمه الله: "والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدّعين للنبوّة، لكنّه تعالى لا يفعل، كما لا يفعل ما لا يُريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه". الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/2.
(3) وهي مسألة الحكمة وتعليل أفعال الله التي نفاها الأشاعرة. انظر: الإرشاد للجويني ص 268. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332. ومحصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص 205. وغاية المرام للآمدي ص 224.
وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفيهم تعليل الله، وتجويزهم على الله كلّ فعل، وردّ عليهم، فقال رحمه الله: "حيث قيل لهم: على أصلكم: لا يفعل الله شيئاً لأجل شيء، وحينئذٍ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول، ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له، ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به، إذ كان لا يفعل شيئاً عندكم... وإذا جوّزتم على الربّ كلّ فعل، جاز أن يظهر الخوارق على يد الكاذب. ويُقال لهم أيضاً: أنتم لا تعلمون ما يفعل الربّ إلا بعادة، أو خبر الأنبياء، فقبل العلم بصدق النبيّ لا يعلم شيء بخبره. والعادة إنما تكون فيما يتكرر؛ كطلوع الشمس، ونزول المطر، ونحو ذلك. والإتيان بالخارق للتصديق ليس معتاداً.....".. إلى أن قال - رحمه الله - عنهم: "ويُجوّزون عليه فعل كلّ شيء ممكن، لا يُنزّهونه عن فعل سيئ الأفعال، وليس عندهم قبيحاً وظُلماً إلا ما كان ممتنعاً؛ مثل جعل الشيء موجوداً معدوماً، وجعل الجسم من مكانين. ولهذا ذكر ذلك مخالفوهم حجة إبطال مذهبهم، وقالوا: قولهم يقدح في العلوم الضرورية، ويسدّ باب العلم بصدق الرسل. قالوا: إذا جوّزتم أن يفعل كلّ شيء، فجوّزوا أن يكون الجبال انقلبت ياقوتاً، والبحار لبناً، ونحو ذلك ممّا يُعلم بالضرورة بطلانه. وجوّزوا أن يخلق المعجزات على يدي الكذابين...". الجواب الصحيح6/394-395.
وناقش - رحمه الله - حجج الرازي على نفي الحكمة في أفعال العباد، وردّ عليها، وفنّدها في شرح الأصفهانية 2/357-379. وستأتي هذه المسألة ص 499-503 من هذا الكتاب.(21/34)
. وحينئذٍ: فلا يكون قاصداً لما في المخلوقات من الإحكام، فلا يكون الإحكام دالا على العلم على أصلكم؛ فإنّ الإحكام: إنّما هو جعل الشيء محصّلاً للمطلوب؛ بحيث يجعل لأجل ذلك المطلوب. وهذا عندهم لا يجوز؛ فإثباته علمه، وتصديق رسله مشروطٌ بأن يفعل شيئاً لشيءٍ. وهذا عندكم لا يجوز، فلهذا يُقال: إنّكم متناقضون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حقيقة المعجزة على قول الأشاعرة
الوجه الثامن: أنّ حقيقة الأمر على قول هؤلاء الذين جعلوا المعجزة: الخارق، مع التحدي: أنّ المعجز في الحقيقة ليس إلا منع الناس من المعارضة بالمثل؛ سواءٌ كان المعجز في نفسه خارقاً، أو غير خارق(1). وكثيرٌ [ممّا](2) يأتي به [الساحر](3) والكاهن أمرٌ معتادٌ لهم.
وهم يجوّزون أن يكون آيةً للنبيّ. وإذا كان آيةً، منع الله الساحر والكاهن من مثل ما كان يفعل، أو قيّض له من يعارضه.
وقالوا: هذا أبلغ؛ فإنه منع المعتاد. وكذلك عندهم [أحد](4) نَوْعَي المعجزات [منعهم](5) من الأفعال المعتادة. وهو مأخذ من يقول بالصرفة(6)
__________
(1) انظر: البيان للباقلاني ص 16-20، 72-73. والإرشاد للجويني ص 328-331.
(2) في ((ط)) فقط: ما.
(3) في ((ط)) فقط: ساحر.
(4) في ((م))، و ((ط)): إحدى.
(5) في ((ط)) فقط: فيهم.
(6) الصرفة: هي أنّ الله تعالى صرف الخلق عن الإتيان بمثل القرآن الكريم. وهو قولٌ قال به بعض أهل الكلام؛ كالرازي، وغيره. والصواب أنّ القرآن بنفسه معجز.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أضعف الأقوال: قول من يقول من أهل الكلام إنّه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلباً عاماً، مثل قوله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [سورة مريم، الآية 10]. وهو أنّ الله صرف قلوب الأمم عن معارضته، مع قيام المقتضي التامّ؛ فإنّ هذا يُقال على سبيل التقدير والتنزيل.... وإلا فالصواب المقطوع به: أنّ الخلق كلّهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة من القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكلّ من له أدنى تدبّر؛ كما قد أخبر الله به في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}. [سورة الإسراء، الآية 88]...). الجواب الصحيح 5/429-431.
وانظر: المصدر نفسه 5/420-431. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبدالجبار 16/264. وشرح الأصول الخمسة له ص 587-590. ومقالات الإسلاميين للأشعري 1/296. وأعلام النبوة للماوردي ص 221-222. وإعجاز القرآن للباقلاني ص 77-79. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 352. ومناهل العرفان للزرقاني ص 310-315.(21/35)
.
وإذا كان كذلك، جاز أن يكون كلّ أمرٍ؛ كالأكل، والشرب، والقيام، والقعود معجزةً إذا منعهم أن يفعلوا كفعله، وحينئذٍ: فلا معنى لكونها خارقاً، ولا لاختصاص الربّ بالقدرة عليها، بل الاعتبار بمجرّد عدم المعارضة. وهم يُقرّون بخلاف ذلك، والله أعلم.
الوجه التاسع: أنّه إذا كانت المعجزة هي مجموع دعوى الرسالة، مع التحدي، فلا حاجة إلى كونه خارقاً؛ كما تقدم(1)، ويجب إذا تحدّى بالمثل أن يقول: فليأت بمثل القرآن من يدّعي النبوّة؛ فإنّ هذا هو المعجز عندهم، وإلاَّ القرآن مجرّداً ليس بمعجز؛ فلا يُطلب مثل القرآن إلاَّ ممّن يدّعي النبوّة(2)؛ كما في الساحر والكاهن إذا ادّعى النبوة سلبه الله ذلك، أو قيّض له من يعارضه. وإذا لم يدّع النبوّة جاز أن يظهر على يده مثل ما يظهر على يد النبيّ. فكذلك يلزمهم مثل هذا في القرآن، وسائر المعجزات. والله أعلم.
__________
(1) انظر: ص.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "..أنّ مسيلمة ادّعى النبوّة، واتبعه قومه على ذلك..... أنه كان له مخاريق، وأنّه ظهر كذبه من وجوه متعددة، وأنّ أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة، وقاتلوا قومه على ردّتهم عن الإسلام، واتباعهم نبيّاً كاذباً، لم يُقاتلوهم على كونهم لم يُؤدّوا الزكاة لأبي بكر. وكذلك الأسود العنسيّ الذي ادّعى النبوّة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقتل في حياته؛ كلّ منهما عُرف كذبه بتكذيب النبيّ الصادق والمصدوق لهما، وممّا ظهر من دلائل كذبهما؛ مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوّة، ومثل الإيمان بقرآن مختلف يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به، وإنما هو تصنيف الآدميين؛ كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردّة وعادوا إلى الإسلام: أسمعوني قرآن مسيلمة. فلما أسمعوه إياه قال: ويحكم أين يُذهب بعقولكم ! إنّ هذا كلام لم يخرج.... ). الجواب الصحيح 6/476.(21/36)
فصل
في أن الرسول لا بُدّ أن يبيّن أصول الدين(1)
وهي البراهين الدالّة على أنّ ما يقوله حقّ؛ من الخبر، والأمر؛ فلا بُدّ أن يكون قد بيّن الدلائل على صدقه في كلّ ما أخبر، ووجوب طاعته في كلّ ما أوجب وأمر .
ومن أعظم أصول الضلال: الإعراض عن بيان الرسول للأدلة والآيات والبراهين والحجج؛ فإنّ المعرضين عن هذا؛ إمّا أن يُصدّقوه، ويقبلوا قوله، ويؤمنوا به بلا دليلٍ أصلاً ولا علم؛ وإمّا أن يستدلّوا على ذلك بغير أدلته .
فإن لم يكونوا عالمين بصدقه: فهم ممّن يُقال له في قبره: ما قولك في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فأمّا المؤمن أو الموقن، فيقول: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبيّنات والهدى، فآمنّا به واتبعناه. وأمّا المنافق أو المرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعتُ النّاس يقولون شيئاً، فقلتُهُ. فيُضرب بمِرْزَبَّةٍ (2) من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسمعها كلّ شيء، إلا الثقلين(3)(4) .
__________
(1) للمؤلف رحمه الله رسالة باسم: "معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد .بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم" . نشر مكتبة ابن الجوزي.
وانظر: درء تعارض العقل والنقل للمؤلف 1/22-27 وما بعدها. ومجموع الفتاوى 3/293، 326 .
(2) المِرْزَبَّة، والمِرْزَبَة - بالتشديد، والتخفيف - : عُصَيّة من حديد . القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 114 (رزب) .
(3) الثقلان: الجنّ والإنس. القاموس المحيط للفيروزآبادي ص 1256 (ث ق ل).
(4) معنى حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه 1/461، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ومسلم في صحيحه 4/2200-2201، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوّذ منه. كلاهما أخرجاه بألفاظ مقاربة لما ذكره المؤلف.(22/1)
وإن استدلّ على ذلك بغير الآيات والأدلة التي دعا بها النّاس، فهو مع كونه مبتدعاً(1)، لا بُدّ أن يُخطئ ويُضلّ.
فإن ظنّ الظانّ أنّه بأدلة(2) وبراهين خارجة عمّا جاء به تدلّ(3) على ما جاء به، فهو(4) من جنس ظنّه أنّه يأتي بعبادات غير ما شرعه تُوصل إلى مقصوده(5) .
__________
(1) الابتداع: هو شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه. وهي ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا .. " الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/2675، كتاب الاعتصام، باب: وكذلك جعلناكم أمة وسطا. ومسلم في صحيحه 3/1343، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور. وانظر: معارج القبول للحكمي3/1228).
وعرّف الشاطبي البدعة بقوله: "عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تُضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه". الاعتصام 1/37 .
والمبتدع: هو الذي وقعت منه البدعة. وهو نوعان: مبتدع اعتقاديّ، ومبتدع عمليّ. والمبتدع المقصود هاهنا هو صاحب البدعة الاعتقادية: الذي يعتقد خلاف ما عليه النبيّ عليه السلام؛ سواء صاحب الاعتقاد عمل، أم لم يُصاحب .. وانظر: الاستقامة لابن تيمية 1/5 .
(2) كذا في ((خ))، و ((م))، ولعلّ المراد: أنّه أتى بأدلة
(3) في ((خ)) يدلّ، وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) ليست في ((خ)). وهي في ((م))، و ((ط)) .
(5) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلّ من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإنّ الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق". درء تعارض العقل والنقل 1/234.(22/2)
"وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من النظّار الغالطين(1)، أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من العبّاد الغالطين(2)، أصحاب الإرادة والمحبّة والزهد"(3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: "خيرُ الكلامِ كلامُ اللهِ، وخيرُ الهَدْيِ هديُ محمّد، وشرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة"(4) يتناول هذا وهذا.
وقد أرى الله تعالى عبادَه الآيات في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى تبيّن(5) لهم أنّ ما(6) قاله فهو حقّ؛ فإنّ أرباب العبادة، والمحبّة، والإرادة، والزهد الذين سلكوا غير ما أُمروا به، ضلّوا كما ضلّت النصارى. ومبتدعة هذه الأمة من العبّاد، وأرباب النظر، والاستدلال الذين سلكوا
__________
(1) مثل المتكلمين.
(2) مثل المتصوّفة .
(3) العبارة في ((خ)) وردت هكذا : "وهذا الظنّ وقع فيه طوائف من العبّاد الغالطين أصحاب الإرادة والمحبة والزهد؛ كما وقع في الظنّ الأول طوائف من النظّار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر" .
ولعلّ الصواب ما أُثبت نقلاً عن ((م))، و ((ط))؛ لأنّ الظنّ المُراد في قوله: (وهذا الظنّ ..) هو ظنّ المتكلّمين وأمثالهم ممّن أتوا ببراهين وأدلة خارجة عمّا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) الحديث أخرجه أحمد في المسند 3/310، 371. ومسلم في صحيحه 2/592، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة .. مع اختلاف في الألفاظ.
(5) في ((خ)): يتبيّن، وفي ((م))، و ((ط)): تبيّن.
(6) في ((خ)): أنما، وفي ((م))، و ((ط)): أنّ ما. وهو الصحيح .(22/3)
غير دليله وبيانه أيضاً ضلّوا. قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّيْ هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدّاْيَ فَلاْ يَضِلُّ وَلاْ يَشْقَىْ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ أَعْمَىْ قَاْلَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيْ أَعْمَىْ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيْرَاً قَاْلَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاْتُنَاْ فَنَسِيْتَهَاْ وَكَذِلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىْ}(1) .
قول الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة
وفي الكلام المأثور عن الإمام أحمد: أصول الإسلام أربعة(2): دالٌ، ودليل، ومبيِّن، ومُستدِلّ. فالدالّ هو الله، والدليل هو القرآن، والمبيِّن هو الرسول؛ قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاْسِ مَاْ نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(3)، والمستدِلّ هم أولوا العلم وأولوا الألباب(4) الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم(5).
وقد ذكره ابن الْمَنِّي(6)عن أحمد. وهو مذكور في العدّة(7) للقاضي أبي يعلى(8)، وغيرها، إما أنّ أحمد قاله، أو قيل له، فاستحسنه .
أهل الكلام يوجبون النظر
__________
(1) سورة طه، الآيات 123-126 .
(2) في كتاب ((العدة في أصول الفقه)) للقاضي أبي يعلى: (قواعد الإسلام أربع) .
(3) سورة النحل، جزء من الآية 44 ..
(4) في العدة: (والمستدلّ أولوا الألباب) ..
(5) في العدة: (ولا يُقبل الاستدلال إلا ممّن كانت هذه صفته) ..
(6) ابن المني: هو أبو الفتح؛ نصر بن فتيان بن مطر بن المني النهرواني الحنبلي، شيخ الحنابلة. ولد سنة 501ه. كان ورعاً، عابداً، حسن السمت، على منهج السلف. توفي سنة 583 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 21/137، 138. والبداية والنهاية 12/350. وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/358. وشذرات الذهب 4/277.
(7) انظر: كتاب العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 10/135، تحقيق د/ أحمد بن علي سير المباركي. وانظر:كتاب شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي1/55.
(8) تقدمت ترجمته 175.(22/4)
ولهذا صار كثير من النظّار يوجبون العلم والنظر والاستدلال(1)، وينهون عن التقليد، ويقول كثير منهم: إنّ إيمان المقلّد لا يصحّ، أو أنه وإن صحّ، لكنّه عاص بترك الاستدلال، ثمّ النظر(2) .
الاستدلال الفاسد الذي أصله المتكلمون
والاستدلال الذي يدعون إليه، ويوجبونه، ويجعلونه أول الواجبات(3)
__________
(1) وهذا صنيع جمهور المعتزلة والماتريدية والأشعريّة؛ فإنّهم يوجبون العلم والنظر والاستدلال على كلّ أحد، بل يجعلونه أول واجب على المكلّف. انظر: الغنية في أصول الدين لعبد الرحمن النيسابوري ص 55. وشرح الأصول الخمسة لعبدالجبار المعتزلي ص 60-75. والتوحيد للماتريدي ص 135-137. والإرشاد للجويني ص 3. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 38. وشرحها للقاني ص 24-25.
(2) قال الصاوي في شرح جوهرة التوحيد - بعد أن ساق في المسئلة ستة أقوال - : "والحقّ الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر، إن كان فيه أهلية النظر" .. شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61 .
وانظر: أيضاً: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/353، 408. ومجموع الفتاوى 20/202. والاستقامة 1/142 .
وسيأتي ردّ المصنّف رحمه الله عليهم بالتفصيل في هذا الكتاب 392، 393 .
(3) قال أبو جعفر السمناني عن هذه المسألة: (إنّ هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرّع عليها أنّ الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنّه لا يكفي التقليد في ذلك...). فتح الباري لابن حجر 13/361.
وقد نقلها شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/407، 461.
ومعتقد السلف في هذه المسألة أنّ أوّل واجب على المكلّف: الشهادتان، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشكّ؛ كما هي أقوال المتكلمين. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة)) الحديث أخرجه أحمد في مسنده5/233، 347. والحاكم في مستدركه 1/351، وصححه ووافقه الذهبي. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" الحديث أخرجه البخاري 2/125، كتاب الزكاة، ومسلم 1/50-51، كتاب الإيمان. فهو أول واجب، وآخر واجب .
انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/6-7، 21. ومجموع الفتاوى 16/328. وشرح الطحاوية 1/23 .(22/5)
، وأصل العلم: هو نظر واستدلال ابتدعوه، ليس هو المشروع؛ لا خبراً، ولا أمراً. وهو استدلال فاسد لا يُوصل إلى العلم؛ فإنّهم جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام(1)
__________
(1) لأنّهم قالوا إنّ إثبات الصانع لا يُعرف إلا بالنظر المفضي إلى العلم بإثباته، والعلم بإثبات الصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وإثبات حدوث العالم لا يمكن إلا بإثبات حدوث الأجسام؛ لذلك جعلوا أصل العلم بالخالق هو الاستدلال على ذلك بحدوث الأجسام. انظر: الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية ص 96، 98. والرسالة التدمرية له ص 148. ومنهاج السنة النبوية له 1/309-310 .
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر أنّ الذي أوجب دليل الأعراض وحدوث الأجسام هم متأخرو الأشعريّة؛ كالجوينيّ، فيقول رحمه الله: "وبالجملة: فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة، فكثير من أئمة الأشعريّة، أو أكثرهم يُخالفونه في ذلك، ولا يُوجبونها، بل إمّا أن يُحرّموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها، ويُصرّحون بأنّ معرفة الله تعالى لا تتوقّف على هذه الطريقة، ولا يجب سلوكها. ثمّ هم قسمان؛ قسم يسوقها ويسوق غيرها ويعدّها طريقاً من الطرق، فعلى هذا إذا فسدت لم يضرّهم. والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها، وينهون عنها؛ إمّا نهي تنزيه، وإما نهي تحريم". نقض التأسيس لابن تيمية 2/15.
وهؤلاء الذين يقولون إنّ معرفة الله لا تتوقّف على طريقة الأعراض، ولا يوجبونها، أو الذين ينهون عنها هم من متقدّمي الأشعريّة .. أمّا متأخروهم، فكلهم على أنّها أصل الدين، ولا يُعرف الله إلا بها .
وطريقة الأعراض وحدوث الأجسام هذه مأخوذة عن الجهميّة والمعتزلة؛ فهم الأصل فيها، وعنهم انتشرت، وإليهم تُضاف .. كما نصّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 7/209 .(22/6)
، والاستدلال على حدوث الأجسام بأنّها مستلزمة للأعراض لا يخلو عنها ولا ينفكّ منها(1). ثمّ استدلّوا على حدوث الأعراض. قالوا: فثبتَ أنّ الأجسام مستلزمة للحوادث، لا يخلو عنها، فلا تكون مثلها .
دليل الحوادث
ثمّ كثير منهم قالوا: وما لم يخل من الحوادِث، أو ما لم يسبق الحوادث، فهو حادِث(2)، وظنّ أنّ هذه مقدّمة بديهيّة معلومة بالضرورة لا يُطلب عليها دليل، وكان ذلك بسبب أنّ لفظ الحوادِث يُشعر بأنّ(3) لها ابتداءً؛ كالحادِث المعيّن، والحوادِث المحدودة(4)
__________
(1) وقد اختلفوا فيما يُستدلّ به على حدوثها؛ هل بملازمتها للأعراض جميعها، أو لبعض الأعراض؛ كالأكوان الأربعة، أو لبعض الأكوان؛ كالحركة مثلاً؛ على أقوال.
فاستدلّ المعتزلة بملازمة الأجسام للأعراض جميعها، أو بعضها - كالأكوان - على حدوثها. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبدالجبار ص 95 .
واستدلّ الأشعريّة بملازمة الأجسام للأكوان، أو بعضها - كالحركة والسكون - على حدوثها. انظر: التمهيد للباقلاني ص 38. وأصول الدين للبغدادي ص 59. والإرشاد للجويني ص 40 .
أما الماتريديّة: فقد وافقوا المعتزلة في استدلالهم بملازمة الأجسام للأعراض، أو لبعضها - كالأكوان - على حدوثها .. انظر: العقائد النسفية لأبي حفص النسفي ص 20. وتفسير أبي البركات النسفي 1/200. وإشارات المرام من عبارات الإمام للبياضي ص 82 .
(2) وهذه عبارات متنوعة، مؤدّاها واحد. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/31-32. وكتاب الصفدية له 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل له 8/173 .
وانظر: من كتب الأشعريّة: التمهيد للباقلاني ص 41. والإنصاف له ص 28. والإرشاد للجويني ص 17-28. وأصول الدين للبغدادي ص 60 .
(3) في ((خ)): بأنّه .. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(4) وذلك لأنّ الحادِث ما يكون مسبوقاً بالعدم؛ حدث بعد أن لم يكن.
ويُفهم من هذا أنّ جنس الحوادِث لها ابتداء .
وهذا الأمر صحيح بالنسبة للحوادِث المخلوقة.
أمّا أفعال الله تعالى فليس لنوعها ابتداء؛ فهو - جلّ وعلا - لم يكن معطّلاً عن صفاته الفعلية أزلاً، ثمّ وجدت بعد أن لم تكن. بل هو أزليّ بصفاته، وإن كانت أفعاله قديمة النوع متجدّدة الآحاد.
وما كان كذلك لا يُقال عنه إنّه وُجد بعد العدم .(22/7)
. ولو قدّرت ألف ألف ألف حادث، فإنّ الحوادث إذا جُعلت مقدّرة محدودة، فلا بُدّ أن يكون لها ابتداء(1)؛ فإنّ ما لا ابتداء له ليس له حدّ معيّن ابتدأ منه، إذ قد قيل لا ابتداء له، بل هو قديم أزليّ دائم. ومعلومٌ أنّ هذه الحوادِث ما لم يسبقها فهو حادث؛ فإنّه يكون إمّا معها، وإمّا بعدها(2).
__________
(1) وقد مثّلوا لذلك ببرهان، أطلقوا عليه اسم ((برهان التطبيق))، وقالوا: لو فُرض فيما لا يتناهى من الحوادِث سلسلتان؛ إحداهما من الطوفان إلى ما لانهاية له في القدم، والأخرى من الهجرة إلى ما لا نهاية له في القدم، ثمّ طبّق بين هاتين السلسلتين؛ فكلما طرح من السلسلة الأولى واحد، طرح من الأخرى مقابله واحد أيضاً، وهنا لا يخلو الحال من أمور ثلاثة: إمّا أن يفرغا معاً: وهذا خلاف الفرض، ويلزم منه مساواة الناقص للزائد. وإمّا ألاّ يفرغا، وهو باطل عندهم أيضاً؛ لأنّه يلزم منه المساواة بين مختلفَيْن - على حد قولهم ، وتستحيل المساواة لتحقق الزيادة في أحدهما. وإمّا أن يفرغ أحدهما قبل الآخر؛ فإذا فرغت إحدى السلسلتين، لزم أن تفرغ الأخرى أيضاً لوجود قدر متناه بينهما .
وهذا الأمر الثالث هو المعتبر عندهم، وهو يدلّ على امتناع حوادث لا أول لها .
انظر: من كتبهم: المواقف للإيجي ص 90. وشرح المقاصد للتفتازاني 2/120-122 .
(2) وهذا تقدّمت الإشارة إليه قريباً، وهو إحدى المقدّمتين اللتين بنوا عليهما إثبات حدوث الأجسام، وهو معنى قولهم: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ... إلخ. انظر: نقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 47/ب) .(22/8)
وكثير منهم(1) يفطن للفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ فالجنس: مثل أن يُقال: ما زالت الحوادث توجد شيئاً بعد شيء، أو ما زال جنسها موجوداً، أو ما زال الله متكلّماً إذا شاء، أو ما زال الله فاعلاً لما يشاء(2)، أو ما زال قادراً على أن يفعل قدرة يمكن معها اقتران المقدور بالقدرة، لا تكون قدرة يمتنع معها المقدور؛ فإنّ هذه في الحقيقة ليست قدرة(3)
__________
(1) أي من النظّار .
(2) وهذا ما قاله السلف - رحمهم الله - في صفات الأفعال الاختيارية؛ من أنّها قديمة النوع، حادثة الآحاد، لا بمعنى وجود المفعولات معه جلّ وعلا أزلاً؛ فإنّ القول بوجود المفعولات مع الله جلّ وعلا أزلاً ليس من أقوال المسلمين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/148) .
(3) مع القدرة التامة يتعيّن وجود المقدور، وإلا فليست قدرة. انظر: جامع الرسائل - رسالة في الصفات الاختيارية - لابن تيمية 2/20-21) .
تنبيه : ليس يُفهم من قول السلف - رحمهم الله تعالى - عن الله جلّ وعلا : لم يزل فاعلاً، أو لم يزل خالقاً، أو لم يزل قادراً، ... إلخ: أنّ الخالق للسموات والأرض والإنسان لم يزل يخلق السموات والأرض والإنسان، أو لم يزل يفعل كذا؛ بمعنى أنّ هذه المفعولات، أو المخلوقات موجودة معه في الأزل، بل المراد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر بقوله: "لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله؛ فما من مخلوق من المخلوقات، ولا فعل من المفعولات، إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفاً بأنّه لم يزل فاعلاً له خالقاً له؛ بمعنى أنّه موجود معه في الأزل. وإن قُدّر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلاً لفعل آخر، وقبل هذا المخلوق خالقاً لمخلوق آخر، فهو لم يزل بالنسبة إلى كلّ فعل ومخلوق: سيفعله، وسيخلقه، لا يُقال: لم يزل فاعلاً له بمعنى مقارنته له". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/267-268 .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: "فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال؛ إذ كان كل منهما حادِثاً بعد أن لم يكن، والحادِث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل". درء تعارض العقل والنقل 2/267 .(22/9)
. ومثل أن يُقال في المستقبل: لا بُدّ أنّ الله يخلق شيئاً بعد شيء، ونعيم أهل الجنة دائم لا يزول، ولا ينفذ. وقد يُقال في النوعين: كلمات الله لا تنفذ، ولا نهاية لها؛ لا في الماضي، ولا في المستقبل، ونحو ذلك(1) .
__________
(1) وهذا هو التسلسل الذي أجازه السلف - رحمهم الله تعالى - ورأوا أنّ إثباته ضروريّ لإثبات أفعال الله الاختياريّة، وعليه يشهد قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَاْنَ الْبَحْرُ مِدَاْدَاً لِكَلِمَاْتِ رَبِّيْ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاْتُ رَبِّيْ وَلَوْ جِئْنَاْ بِمِثْلِهِ مَدَدَاً}[الكهف، 109] .
فكلمات الله لا نهاية لها؛ لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، ولا يزال؛ فلا نهاية لكلماته.(22/10)
فالكلام(1) في دوام الجنس وبقائه، وأنّه لا ينفذ، ولا ينقضي، ولا يزول، ولا ابتداء له: غير الكلام فيما يقدر محدوداً له ابتداء، أو له ابتداء وانتهاء(2)؛ فإنّ كثيراً من النظّار(3) من(4) يقول: جنس الحوادِث إذا قدّر له ابتداء، وجب أن يكون له انتهاء؛ لأنّه يمكن فرض تقدّمه على ذلك الحدّ، فيكون أكثر ممّا وجد، وما لا يتناهى لا يدخله التفاضل؛ فإنّه ليس وراء عدم النهاية شيء أكثر منها، بخلاف ما لا ابتداء له ولا انتهاء؛ فإنّ هذا لا يكون شيء فوقه، فلا يفضي إلى التفاضل فيما لا يتناهى. وبسط هذا له موضع آخر(5) .
المتكلمون جعلوا أصل دينهم النظر في دليل الأعراض وحدوث الأجسام
__________
(1) كذا في ((خ))، وفي ((م)). وفي ((ط)): فالكلمة.
(2) وفي هذا إشارة إلى الفرق بين جنس الحوادث، وبين الحوادث المحدودة؛ كما تقدّم التنويه بذلك .
(3) كأبي الهذيل العلاّف، والجهم بن صفوان، ومن وافقهما .. وكان من حجتهم: إذا امتنعت حوادث لا أول لها في الماضي، فيجب أن تمتنع حوادث لا نهاية لها في المستقبل .. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/147) .
(4) هكذا وردت في ((خ))، و ((م))، و ((ط)). ولعلّ الأصوب حذفها .
(5) انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/146-147، 1/223-234، والفتاوى 2/88، و 36/28-30، والصفدية 1/8-135 .
وقد نسب خصوم شيخ الإسلام رحمه الله كالسبكي وغيره (طبقات الشافعية6/106) أنه يقول بقدم العالم وبتسلسل الحوادث، والمشهور من كتب شيخ الإسلام رحمه الله أنه رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم كما رد على قول المتكلمين الذين يجوزون دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي ويقولون: "إن الله خلق بعد أن بم يكن يخلق، ونصر قول أهل الحديث الذي لم يفهمه المتكلمون؛ وهو أن الله لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته ولم يكن معطلا عن الخلق والأمر" .(22/11)
والمقصود هنا أنّ هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم، وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كلّ مكلّف، وأنّه من لم ينظر في هذا الدليل؛ فإمّا أنّه لا يصحّ إيمانه، فيكون كافراً(1) على قول طائفة منهم، وإمّا أن يكون عاصياً(2) على قول آخرين، وإما أن يكون مقلّداً لا علم له بدينه، لكنه ينفعه هذا التقليد، ويصير به مؤمناً غير عاص .
الرسول لم يدع الخلق إلى دليل النظر
__________
(1) وذلك لأنّ النظر في هذا الدليل ((دليل الأعراض وحدوث الأجسام)) هو المسلك الوحيد عندهم لإثبات وجود الله تعالى، فمن لم يسلكه عجز عن إثبات وجود ربّه وتصحيح عقيدته، فصار من الملحدين. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/303. والفرقان بين الحق والباطل له ص 47. وشرح حديث النزول ص 161-162) .
يقول الماتريديّ عن الله تعالى: "لا سبيل إلى العلم به، إلا من طريق دلالة العالم عليه". التوحيد للماتريدي ص 129 .
ويقول أبو حامد الغزالي: "... فبان أنّ من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197 .
(2) قال الصاوي: "والحق الذي عليه المعوّل: أنّه مؤمن عاص بترك النظر ... إلخ". شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 61 .(22/12)
والأقوال الثلاثة باطلة؛ لأنّها مفرّعة على أصل باطل، وهو أنّ النظر الذي هو أصل الدين والإيمان، هو هذا النظر في هذا الدليل؛ فإنّ علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أنّ الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر، ولا بهذا الدليل؛ لا عامة الخلق، ولا خاصّتهم(1)، فامتنع أن يكون هذا شرطاً في الإيمان والعلم .
وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم، وأنّهم عالمون بصدق الرسول، وبما جاء به، وعالمون بالله، وبأنّه لا إله إلا الله، ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعيّن(2)؛ كما قال تعالى:
{وَيَرَىْ الّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ الّذِيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ وَيَهْدِيْ إِلَىْ صِرَاْطِ الْعَزِيْزِ الْحَمِيْدِ}(3)، وقال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوْا الْعِلْمِ قَاْئِمَاً بِالْقِسْطِ}(4)، وقال:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىْ}(5).
__________
(1) فالأنبياء عليهم السلام - وفي مقدمتهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم - لم يأمروا أحداً بسلوك هذا السبيل، فدلّ ذلك على أنّه غير مشروع؛ إذ لو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما دام الأمر كذلك، فليست معرفة الله تعالى موقوفة عليه؛ إذ معرفته جلّ وعلا واجبة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/50 .
(2) وهو ما أنكره بعض النظّار أنفسهم. يقول أبو حامد الغزالي - وهو من أئمة المتكلمين : "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاء مسلماً الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي ص 89 .
(3) سورة سبأ، الآية 6 .
(4) سورة آل عمران، الآية 18 .
(5) سورة الرعد، الآية 19 .(22/13)
وقد وصف باليقين والبصيرة في غير موضع؛ كقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَ}(1)، وقوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ}(2)، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِيْ أَدْعوا إِلَىْ اللهِ عَلَىْ بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنيْ}(3)، وأمثال ذلك.
فتبين أنّ هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء، وجعلوه أصلَ الدين، ليس ممّا أوجبه الله ورسوله(4). ولو قدّر أنّه صحيح في نفسه، وأنّ الرسول أخبر بصحته، ولم يلزم من ذلك وجوبه؛ إذ قد يكون للمطلوب أدلة كثيرة .
طعن الرازي وغيره على الجويني
ولهذا طعن الرازي(5)، وأمثاله(6) على أبي المعالي(7)
__________
(1) سورة البقرة، الآية 4 .
(2) سورة البقرة، الآية 4 .
(3) سورة يوسف، الآية 108 .
(4) بل لم يرد في إثبات هذا النظر والاستدلال دليلٌ؛ لا من كتاب، ولا سنّة، ولا خبر صحابي، ولا قول تابعيّ، ولا أحد من أئمة الدين. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/315-316 .
(5) هو محمد بن عمر بن الحسن التيمي؛ فخري الدين الرازي. أشعري المعتقد، إلا أنّه خلط مذهبه بالاعتزال والفلسفة. توفي سنة 606 ه. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/381-385. ونقض التأسيس لابن تيمية - مخطوط - ق 28/أ . ولسان الميزان لابن حجر 4/246-249 .
(6) كأبي الحسن الآمدي الذي قلّل من شأن دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وقال بعد أن نقل الدليل بطوله: "وهو عند التحقيق سرابٌ غير حقيق". غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 260 .
(7) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، أبو المعالي الجويني . احتار في آخر عمره، وتمنّى أن يكون على عقيدة عجائز بلده. توفي سنة 478 ه .
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/468-477. والفتاوى المصرية لابن تيمية 6/620-621. وبغية المرتاد له ص 450 .(22/14)
في قوله أنّه لا يُعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق(1)، وقالوا: هب أنّه يدلّ على حدوث العالم، فمن أين يجب أن لا يكون ثمّ طريق آخر .
وسلكوا هم طرقاً أُخَر.
فلو كانت هذه الطريقة صحيحة عقلاً، وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة، لم يتعيّن، مع إمكان سلوك طرق أُخرى(2) .
كما أنّه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنصّ والإجماع أنها من آيات الله الدالّة على الهدى. ومع هذا، فإذا اهتدى الرجل بغيرها، وقام بالواجب، ومات ولم يعلم بها، ولم يتمكن من سماعها، لم يضرّه؛ كالآيات المكيّة التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل سائر القرآن. فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه(3)
__________
(1) انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 175/ب. والمطالب العالية له 1/71. والمباحث المشرقية له 1/327، 365. "فقد ضعّف البراهين الخمسة التي احتجّ بها أبو المعالي - في الإرشاد ص 37 - ومن شايعه على حدوث العالم وحدوث الأجسام".
وقد ذكر شيخ الإسلام موقف الأشعريّة من دليل الأعراض في موضع آخر، فقال: "لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق، وإن قالوا إنّ تصديق الرسول لا يتوقف عليها. ثم منهم من يقول إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما؛ وهذه طريقة الأشعريّ وأئمة أصحابه؛ يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقاد صحة طريق الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام .... ومن هؤلاء من يدّعي التعارض بينهما؛ كالرازي وأمثاله؛ كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض؛ كالمعتزلة وأبي المعالي وأتباعه". درء تعارض العقل والنقل 7/74-75 .
(2) فكيف! وهي طريق بدعيّة لم ترد في كتاب الله، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكها أحدٌ من الصحابة الموصوفين بالعلم والإيمان، وكذا التابعون لهم بإحسان .
(3) الطرد: ما يوجب الحكم لوجود العلة؛ وهو التلازم في الثبوت.
والعكس: عبارة عن تعليق نقيض الحكم المذكور بنقيض علته المذكورة.
وقيل العكس: عدم الحكم لعدم العلة.
انظر: التعريفات للجرجاني ص 183، 198. والعدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/77 .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضّحاً هذه القاعدة - فالدليل يجب طرده، لا يجب عكسه - في بعض مؤلفاته: "فمن المعلوم أنّ الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه؛ فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه؛ فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول له. وهذا كالمخلوقات؛ فإنّها آية للخالق؛ فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. وكذلك الآيات الدالاّت على نبوة النبيّ. وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالّة على بعض الأحكام، يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه؛ إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر ..". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 5/269-270 .(22/15)
.
من أنكر سلوك هذه الطريقة
ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء إيجاب سلوك هذه الطريق، مع تسليمهم أنّها صحيحة؛ كالخطّابي (1)(2)، والقاضي أبي يعلى(3)
__________
(1) هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستي. إمام صاحب تصانيف. تأثر بتقريرات المتكلمين في بعض جوانب العقيدة. توفي سنة 388 ه. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/214-216. وسير أعلام النبلاء للذهبي 17/23-28) .
(2) وقد نصّ على أنّه يرى أنّ الطرق الشرعيّة أوضح بياناً، وأصحّ برهاناً من طريقة الأعراض وحدوث الأجسام، وممّا قاله: "فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريق المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها).
ذكر ذلك في كتاب الغنية عن الكلام وأهله. وقد نقل عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس 1/254. وفي درء تعارض العقل والنقل 7/292-294 .
(3) تقدمت ترجمته . ولم أقف على كلام له في ذلك.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنّ أبا يعلى ممّن انتقد دليل الأعراض وحدوث الأجسام. انظر: مجموع الفتاوى 5/543 .(22/16)
، وابن عقيل(1)(2)، وغيرهم(3) .
والأشعري(4)
__________
(1) هو أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي. وقع في حبائل المعتزلة، فتجاسر على تأويل الصفات. من مؤلفاته كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد، ولد سنة 430ه أو 431ه. توفي سنة 513ه. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 19/443-451. ولسان الميزان لابن حجر 4/243-244. ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/424، وشذرات الذهب 4/35 .
(2) وها هو ابن عقيل - رغم وقوعه في حبائل المتكلمين - يقول: "أنا أقطع أنّ الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الجوهر ولا العرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم، فكن. وإنرأيتَ أنّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ". نقله عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 85. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/48 .
(3) كأبي حامد الغزالي (في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127)، وأبي الحسن الآمدي (في غاية المرام في علم الكلام ص 260)، وابن رشد الحفيد (في الكشف عن مناهج الأدلة ص 43)، وغيرهم .
(4) هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر . ينتسب إلى أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنيته أبو الحسن. ولد في البصرة سنة (260 ه)، وتوفي على القول الراجح سنة (324 ه) في بغداد. وكان له ثلاثة أحوال، كان في أولاها معتزلياً، وسلك في الثانية مذهب ابن كلاب، ورجع أخيراً إلى معتقد السلف، وألّف عدة كتب في نصرة معتقدهم؛ ككتاب ((الإبانة))، و((رسالة إلى أهل الثغر))، و((مقالات الإسلاميين)) .
انظر: البداية والنهاية 11/199. وشذرات الذهب 2/302. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر ل((رسالة إلى أهل الثغر)) لأبي الحسن الأشعري).(22/17)
نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضاً في رسالته إلى أهل الثغر، مع اعتقاده صحتها(1)، واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمّى ب((اللّمع)) في الردّ على أهل البدع، وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحاً كثيرة. والقاضي أبو بكر(2) شرحه، ونقض كتاب عبد الجبار(3) الذي صنّفه في نقضه، وسمّاه ((نقض نقض اللمع))(4).
دليل الأعراض وحدوث الأجسام يوجب اعتقادات ولوزام باطلة
__________
(1) وقد ذكر في رسالة إلى أهل الثغر: "أنّ الأعراض لا يصحّ الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدقّ الكلام عليها؛ فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بشبه المنكرين لها ... إلخ"؛ من طولها، وغموضها، والتناقضات التي حوتها .. لذلك رأى الأشعريّ - مع تصحيحه لطريقة الأعراض - أنّ في الطرق الشرعيّة غنية عنها. انظر: رسالة إلى أهل الثغر ص 184-185، 186-187. وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/309.
(2) محمد بن الطيّب الباقلاني. سبقت ترجمته ص 116 من هذا الكتاب .
(3) هو عبدالجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة. توفي سنة 415ه . انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 17/244-245. ولسان الميزان لابن حجر 3/386-387 .
(4) في ((خ)) : (نقض النقض للمع) . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .(22/18)
وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف: فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها ، مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وأنّه لا يحصل بها العلم بالصانع، ولا بغير ذلك(1)، بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب(2) مخالفة كثير ممّا جاء به الرسول، مع مخالفة صريح المعقول(3)؛ كما أصاب من سلكها من الجهميّة، والمعتزلة، والكُلاّبيّة، والكرّاميّة، ومن تبعهم من الطوائف، وإن لم يعرفوا غورها وحقيقتها؛ فإنّ أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازماً له ليطردها، فيلتزم لوازم(4) مخالفة للشرع والعقل، فيجيء الآخر، فيردّ عليه، ويبيّن فساد ما التزمه، ويلتزم هو
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر عن هذه الطريقة: "فهذه الطريقة ممّا يُعلم بالاضطرار أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه. ولهذا قد اعترف حذّاق أهل الكلام كالأشعريّ وغيره بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم. بل المحققون على أنها طريقة باطلة". درء تعارض العقل والنقل 1/39 .
(2) في ((خ)) : يوجب. وما أثبت من ((م))، و((ط)) .
(3) من ذلك تعطيل الله تبارك وتعالى عن صفاته العُلا التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله؛ كلها، أو بعضها .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: "لأجل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض: التزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم نفي صفات الرب مطلقاً، أو نفي بعضها؛ لأنّ الدالّ عندهم على حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها، والدليل يجب طرده؛ فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به، وهو أيضاً في غاية الفساد والضلال. ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه، ....". درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41 .
(4) في ((خ)): لوازماً. والصواب ما أُثبت، وهو في ((م))، و ((ط))؛ لأنّ (لوازم) ممنوعة من الصرف .(22/19)
لوازم أُخر لطردها، فيقع أيضاً في مخالفة الشرع والعقل.
الجهمية التزموا لأجلها نفي الأسماء والصفات
فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته، إذ كانت الصفات أعراضاً تقوم بالموصوف، ولا يُعقل موصوف بصفة إلا الجسم(1)، فإذا اعتقدوا حدوثه، اعتقدوا حدوث كلّ موصوف بصفة، والربّ تعالى قديم. فالتزموا نفي صفاته. وأسماؤه مستلزمة لصفاته؛ فنفوا أسماءه الحسنى(2)، وصفاته العُلا(3) .
المعتزلة التزموا نفي الصفات
والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من(4) تكذيب القرآن تكذيباً ظاهر الخروج عن العقل والتناقض؛ فإنّه لا بُدّ من التمييز بين الربّ وغيره بالقلب واللسان، فما لا يُميَّز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات. وهو حقيقة قول الجهميّة؛ فإنّهم لم يُثبتوا في نفس الأمر شيئاً قديماً البتة(5)
__________
(1) في ((خ)): لجسم. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(2) حكى عنهم شيخ الإسلام في موضع آخر أنهم يقولون عن الله تعالى: "ليس له اسم؛ كالشيء، والحيّ، والعليم، ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء، لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم؛ كالحياة، والعلم؛ فإنّ صِدق المشتقّ مستلزم لصدق المشتقّ منه، وذلك يقتضي قيام الصفات به، وذلك محال ...". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/35 .
(3) وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن تعطيل الجهميّة لأسماء الله وصفاته مستندين لدليل الأعراض وحدوث الأجسام في مواضع كثيرة من كتبه الفريدة. انظر: على سبيل المثال: شرح حديث النزول ص 157. ودرء تعارض العقل والنقل 1/39، 305 ،، 10/260. ومنهاج السنة النبوية 2/97-99) .
(4) في ((خ)): مع. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(5) وأسماء الله تعالى يُثبتونها على أنّها مجاز في الربّ جلّ وعزّ؛ إذ إثباتها على الحقيقة يستلزم إثبات ما دلّت عليه من صفات. وهذا ما يفرّ المعتزلة من إثباته .. لأنّهم يزعمون أنّ إثبات الصفات لله تعالى يقتضي أن يكون جسماً.
انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/41. ومنهاج السنة النبوية 3/361. وشرح الطحاوية 1/24-25 .(22/20)
.
الفلاسفة قالوا بقدم العالم
كما أنّ المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الإمكان والوجوب(1)، وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم، لم يُثبتوا واجباً بنفسه البتة(2)، وظهر بهذا فساد عقلهم، وعظيم جهلهم، مع الكفر؛ وذلك أنّه يُشهد وجود السموات وغيرها. فهذه الأفلاك إن كانت قديمة واجبة، فقد ثبت وجود الموجود القديم الواجب، وإن كانت ممكنة، أو مُحدثة، فلا بُدّ لها من واجب قديم؛ فإنّ وجود الممكن بدون الواجب(3)، والمحدَث بدون القديم ممتنعٌ في بداية العقول. فثبت وجود موجود قديم واجب بنفسه على كلّ تقدير .
فإذا كان ما ذكروه من نفي الصفات عن القديم والواجب يستلزم نفي القديم مطلقاً، ونفي الواجب: عُلم أنّه باطلٌ(4)
__________
(1) إذ الوجود - عندهم - ينقسم إلى واجب، وممكن - وهو خلاف تقسيم المتكلمين له إلى قديم وحادث .
ويُعرّف المتفلسفة الواجب: بأنّه الضروريّ الوجود - وهو يُقابل القديم عند المتكلمين - . ويُعرّفون الممكن بأنّه الذي لا ضرورة فيه بوجه؛ أي لا في وجوده، ولا عدمه - وهو يُقابل المُحدَث عند المتكلمين .
انظر: النجاة لابن سينا ص 366. ومعيار العلم في فن المنطق للغزالي ص 325-326 .
(2) وهم يزعمون أنّ واجب الوجود هو الذات دون صفاتها. ولا يُعقل ذات مجرّدة عن الصفات، بل ذلك من صفات العدم؛ لذلك لم يُثبتوا واجباً. انظر: منهاج السنة لابن تيمية 1/266 .
(3) في ((خ)) : الوجب. ويبدو أنّ الألف سقطت سهواً.
(4) لأنّ الواجب المجرّد عن جميع الصفات، أو القديم الذي ليس له صفة تُميّزه: ممتنع الوجود؛ إذ لا بُدّ لوجوب وجود الواجب، وإثبات وجود القديم من إثبات ما يُميّزه من الصفات .. ولا يستلزم ذلك تعدّد القدماء، أو تركيب الواجب؛ لأنّ نفي ذلك يقتضي نفي ما يُريدون إثباته ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا لم يكن واجباً، لم يلزم من التركيب مُحال، وذلك لأنّهم إنّما نفوا المعاني لاستلزامها ثبوت التركيب، المستلزم لنفي الوجوب. وهذا تناقض؛ فإنّ نفي المعاني مستلزم لنفي الوجوب، فكيف ينفونها لثبوته ؟!". مجموع فتاوى ابن تيمية 6/345 .(22/21)
.
من نفى صفة لزمه نفي جميع الصفات
وقد بُسط هذا في مواضع(1)، وبُيِّن أنّ كلّ من نفى صفة ممّا أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات، فلا يُمكن القول بموجب أدلة العقول، إلا مع القول بصدق الرسول؛ فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول(2)؛ فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول، بل من كذّبه فليس معه لا عقل، ولا سمع؛ كما أخبر الله تعالى عن أهل النّار:
قال تعالى: {كُلَّمَاْ أُلْقِيَ فِيْهَاْ فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَاْ أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيْرٌ قاْلُوْا بَلَىْ قَدْ جَاْءَنَاْ نَذِيْرٌ فَكَذَّبْنَاْ وَقُلْنَاْ مَاْ نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِيْ ضَلاَلٍ كَبِيْرٍ وَقَاْلُوْا لَوْ كُنَّاْ نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَاْ كُنَّاْ فِيْ أَصْحَاْبِ السَّعِيْر فَاعْتَرَفُوْا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقَاً لأصْحَاْبِ السَّعِيْرِ}(3)، وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع(4) .
المعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء
__________
(1) انظر: من كتب ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 2/267. ومجموع الفتاوى 6/345. ودرء تعارض العقل والنقل1/41. والتدمرية ص 31 .
(2) أما المعقولات التي تُخالف ما جاء به الرسول، فالمتأمّل لها يجد أنها وضعت لتكذيب الرسول، لا لتصديقه؛ كما يزعم أصحابها؛ لذلك يصفها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بتسميته لها: "ترتيب الأصول في تكذيب الرسول". انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/207 .
(3) سورة الملك، الآيات 8-10 .
(4) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/320. ومجموع فتاوى ابن تيمية 16/452 .(22/22)
والمقصود هنا أنّ المعتزلة لمّا رأوا الجهميّة قد نفوا أسماء الله الحسنى، [استعظموا ذلك](1)، وأقرّوا بالأسماء. ولمّا رأوا هذه الطريق(2) توجب نفي الصفات: نفوا الصفات؛ فصاروا متناقضين؛ فإنّ إثبات حيّ، عليم، قدير، حكيم، سميع، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا حكمة، ولا سمع، ولا بصر: مكابرة للعقل؛ كإثبات مصلٍّ بلا صلاة، وصائمٍ بلا صيام، وقائمٍ بلا قيام، ونحو ذلك من الأسماء المشتقة؛ كأسماء الفاعلين، والصفات المعدولة عنها .
ولهذا ذكروا في أصول الفقه(3) أنّ صدق الاسم المشتقّ(4)؛ كالحيّ، والعليم لا ينفكّ عن صدق المشتق منه؛ كالحياة، والعلم. وذكروا النزاع مع من(5) ذكروه من المعتزلة؛ كأبي عليّ(6)
__________
(1) استعظموا ذلك): ليست في ((خ)). وأثبتها من ((م))، و ((ط)) .
(2) طريق التركيب؛ إذ زعموا أنّ إثبات الصفات يستلزم تعدّد القدماء، فيكون القديم مُركّباً، والقديم ليس بمُركّب، لذلك زعم عبد الجبار أنّ نفي الصفات هو السبيل الوحيد إلى القول بإفراد الله بالقدم انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبدالجبار 4/341، ونفي الصفات هو أحد أصول المعتزلة الخمسة، ويُطلقون عليه اسم التوحيد. انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/83 والملل والنحل للشهرستاني ص 46-47 .
(3) قال في المراقي :
وعند فقد الوصف لا يشتق وأعوز المعتزليّ الحقّ
شرح مراقي السعود ص 257. وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم 1/22 .
(4) في ((خ)) : مشتق. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(5) في ((خ)) : معمن - موصولة .
(6) أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان ابن عفان، الجبائي البصري. ولد في سنة 234 ه . شيخ المعتزلة. تنسب إليه فرقة الجبائية من المعتزلة. درس الاعتزال على شيخ المعتزلة عن أبي يعقوب الشحّام، وتزوّج الجبائي بأمّ الأشعريّ، فتتلمذ عليه الأشعريّ قبل أن يترك الاعتزال. توفي سنة 335 ه، ومات بالبصرة .
انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/78. والبداية والنهاية 11/134. وسير أعلام النبلاء 14/183. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 50 .(22/23)
، وأبي هاشم(1)،
الكلابية أثبتوا الصفات العقلية
فجاء ابن كُلاّب، ومن اتبعه؛ كالأشعريّ، والقلانسيّ(2)، فقرّروا أنّه لا بُدّ من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعيّ والعقليّ، مع إثبات الأسماء. وقالوا: ليست أعراضاً(3)؛ لأنّ العرض لا يبقى زمانين(4)
__________
(1) أبو هاشم : هو عبد السلام بن أبي علي محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 277ه، وتوفي سنة 321. وإليه تنسب فرقة البهشمية - إحدى فرق المعتزلة .
انظر: شذرات الذهب 2/289. وسير أعلام النبلاء 15/63. والملل والنحل1/78وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 57 .
(2) هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي. قال عنه ابن عساكر: (إنه من معاصري أبي الحسن رحمه الله، لا من تلاميذه كما قال الأهوازي. وهو من جملة العلماء الكبار الأثبات، واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات). تبيين كذب المفتري ص 398 .
(3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ العرض في اللغة: هو ما يعرض ويزول. انظر: مجموع الفتاوى 5/215 ،، 9/300. واستدلّ بقوله تعالى: {يَأْخُذُوْنَ عَرَضَ هَذَاْ الأدْنَىْ}[سورة الأعراف، 169].
وذكر رحمه الله أنّ العرض عند أهل الاصطلاح الكلامي: "قد يُراد به ما يقوم بغيره مطلقاً، وقد يُراد به ما يقوم بالجسم من الصفات. ويُراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى". مجموع الفتاوى 9/300 .
أمّا المتكلّمون: فالعرض عندهم ضدّ الجوهر؛ إذ العالم عندهم جواهر وأعراض. فالجوهر: هو المتحيّز، وكل ذي حجم متحيّز. والعرض: هو المعنى القائم بالجوهر؛ كاللون، والطعم، والرائحة، والحياة، والموت، والعلوم والإرادات، والقُدَر القائمة بالجواهر. انظر: الإرشاد للجويني ص 2. وأصول الدين للبغدادي ص 33 .
(4) بل يطرأ عليه التغيّر والتحوّل، وهذا من صفات الحوادث.
انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/302-306 .(22/24)
، [وصفات الربّ باقية(1).
من قال: إن العرض لا يبقى زمانين
وسلكوا في هذا الفرق - وهو أنّ العرض لا يبقى زمانين ](2) - مسلكاً أنكره عليهم جمهور العقلاء، وقالوا: إنهم خالفوا الحسّ وضرورة العقل، وهم موافقون لأولئك(3) على صحة هذه الطريقة - طريقة الأعراض - قالوا: وهذه(4) تنفي عن الله أن يقوم به حادِث، وكلّ حادِثٍ فإنّما يكون بمشيئته وقدرته. قالوا: فلا يتّصف بشيء من هذه الأمور؛ لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته(5)؛ كخلق العالَم ، وغيره .
بل منهم من قال: لا يقوم به فعل، بل الخلق هو المخلوق؛ كالأشعريّ ومن وافقه(6) .
__________
(1) وليس ذلك شاملاً لكل صفات الله تعالى؛ بل يُفرّقون بين صفات الأفعال، وما عداها؛ فيُطلقون على صفات الأفعال اسم الأعراض، وينفون قيامها بالله تعالى؛ بحجة أنها تعرض وتزول - بزعمهم - ، ولا يُطلقون اسم الأعراض على ما عدا ذلك من الصفات. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/36.
وعلى هذا المعتقد متقدموا الكلابيّة والأشعريّة، وقد نقل اتفاقهم على ذلك: الرازي في كتابه ((المحصّل)) ص 265. والإيجي في ((المواقف)) ص 101.
(2) ما بين المعقوفتين ساقطة من أصل ((خ))، وملحقة بالهامش. وهي في ((م))، و ((ط)) .
(3) للمعتزلة .
(4) أي طريقة الأعراض .
(5) قالوا: لو قامت به الأفعال الاختياريّة، للزم أن لا يخلو منها؛ لأنّ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضدّه. وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 1/104-107. ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 11. وشرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص 51 .
(6) كابن فورك، والغزالي، وغيرهما. انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 472-473. وقواعد العقائد للغزالي ص 165-167 .(22/25)
ومنهم من قال: بل فعل الربّ قديم أزليّ، وهو من صفاته الأزليّة؛ وهو قول قدماء الكلابيّة(1)، وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة(2)
ما وقع بين ابن خزيمة والكلابية
__________
(1) الكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد القطان، المعروف بابن كلاب. سلك الأشعريّ مسلكه في طوره الثاني، وتوفي سنة 240ه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء - يقصد النجارية والضرارية - في باب الأسماء والصفات؛ فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة؛ كما فصّلتُ أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة). مجموع الفتاوى 3/103. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/350، 351 ،، 2/225-227. وذكر مذاهب الفرق الثنتين والسبعين المخالفة للسنة والمبتدعين ص 139-140 .
(2) أصحاب ابن خزيمة: المقصود بهم: أبو علي الثقفي، وأبو بكر الصيفي، وكانا من أخص تلاميذ ابن خزيمة وكانا يقولان بقول ابن كلاب في كلام الله: أنّه أزليّ، وأنّه لا يتكلّم إذا شاء، متى شاء، ولا يتعلّق ذلك بمشيئته. فوقع بين ابن خزيمة وبينهما في ذلك نزاع، حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه .
انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/9، 77-83، 101. ومجموع الفتاوى 17/56. وسير أعلام النبلاء 14/377-381 .
وابن كُلاّب كان قد نفى أن يكون كلام الله تعالى من صفات الأفعال، وأثبته على أنّه كلامٌ يقوم بذات المتكلّم بلا قدرة ولا مشيئة، أزليّ كأزليّة العلم والقدرة. انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 169-170. ودرء تعارض العقل والنقل له 2/18 .(22/26)
لمّا وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل، فكتبوا عقيدةً اصطلحوا عليها(1)، وفيها: إثبات الفعل القديم الأزليّ.
وكان سبب ذلك أنّهم كانوا كلابيّة يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، بل كلامه المعيّن لازمٌ لذاته أزلاً وأبداً .
وكان ابن خزيمة وغيره على القول المعروف للمسلمين وأهل السنّة: أنّ الله يتكلّم بمشيئته وقدرته، وكان قد بلغه عن الإمام أحمد أنّه كان يذمّ الكلابيّة، وأنّه أمر بهجر الحارث المحاسبي(2) لما بلغه أنه على قول ابن كلاب(3). وكان يقول: حذروا عن حارث الفقير؛ فإنّه جهميّ(4)
__________
(1) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ هذه المشاجرة التي وقعت بين ابن خزيمة وبعض أصحابه، وما نتج عنها، ذكرها بطولها الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في تاريخ نيسابور. انظر:مجموع الفتاوى 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/78-83.
(2) هو الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله. من شيوخ الصوفية. قال عنه الذهبي: صدوق في نفسه. وقد نقموا عليه بعض تصوفه وتصانيفه. سير أعلام النبلاء12/110-112 . وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وبسبب مذهب ابن كلاب هجره الإمام أحمد بن حنبل، وقيل تاب منه". منهاج السنة النبوية 1/424. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/368 .
وقد نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص240 عن أبي عبدالرحمن السلمي - صاحب طبقات الصوفية ت 412 أنه قال "وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات" .
(3) في ((ط)): ابن كلام. وهو خطأ مطبعيّ .
(4) لم أجد هذه العبارة بنصها فيما اطلعت عليه من مصادر. ولكن ذكر أبو يعلى في الطبقات: عن الإمام أحمد أنه قال: "حارث أصل البليّة .... ما الآفة إلاّ حارِث ..... حذّروا عن حارث أشدّ التحذير ..". الطبقات 1/62-63.
ونقل ابن الجوزي عن الخلال في كتابه السنة، عن أحمد بن حنبل أنه قال: "احذروا من الحارث أشد التحذير .. الحارث أصل البلية - يعني في حوادث كلام جهم - ذاك جالسه فلان وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم، وما زال مأوى أصحاب الكلام .. حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر: أي يوم يثب على الناس" .
تلبيس إبليس ص 240 .(22/27)
. واشتهر هذا عن أحمد(1) .
__________
(1) لعل كلمة الإمام أحمد رحمه الله فيه قبل أن يتوب ويرجع كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكان الحارث المحاسبي يوافقه - أي ابن كلاب ، ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإنّ أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك .. كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث. فذكروا أنّ الحارث رحمه الله تاب من ذلك، وكان له من العلم والفضل والزهد". مجموع الفتاوى 6/521-522. وانظر: المصدر نفسه 12/368، 17/56. ودرء تعارض العقل والنقل 2/6، 7/148-149. ومنهاج السنة النبوية 1/424 .
وقال أيضاً رحمه الله: "وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين؛ فأهل السنة والجماعة يُثبتون ما قام بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها. والجهميّة من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا. فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلّق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما. وأما الحارث المحاسبي: فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله". درء تعارض العقل والنقل 2/6. وانظر: مجموع الفتاوى 12/366-368 .(22/28)
وكان بنيسابور(1) طائفة من الجهميّة والمعتزلة ممّن يقولون(2) إنّ القرآن وغيره من كلام الله مخلوق، ويُطلقون القول بأنّه متكلّم بمشيئته وقدرته، ولكنّ مرادهم بذلك أنّه يخلق كلاماً بائناً عنه، قائماً بغيره؛ كسائر المخلوقات. وكان من هؤلاء من عرف أصل ابن كلاب، فأراد التفريق بين ابن خزيمة وبين طائفة من أصحابه، فأطلعه على حقيقة قولهم(3)، فنَفَرَ منه(4)
__________
(1) نيسابور: مدينة عظيمة من بلاد خراسان، سمّيت بذلك لأنّ سابور بن أزدشير بن بابك مرّ بها. ومنها ما لا يحصى من العلماء والأئمة؛ كالإمام مسلم وغيره. وقد دخلها التتر سنة 618 ه فدمّروها. انظر: معجم البلدان 5/331. ولطائف المعارف ص 191 .
(2) في ((خ)) يقول: وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) أي أنّ هذا المعتزلي - أو الجهميّ - الذي أراد التفريق بين ابن خزيمة وبعض أصحابه أطلع ابن خزيمة على موافقة بعض أصحابه لابن كلاب في معتقده في كلام الله تعالى .
(4) قال الحاكم: "فلما ورد منصور بن يحيى الطوسي نيسابور، وكان يكثر الاختلاف إلى ابن خزيمة للسماع منه، وهو معتزلي، وعاين ما عاين من الأربعة الذين سميناهم، حسدهم، واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ القدري بباي معمر في أمورهم غير مرة، فقالا: هذا إمام لا يسرع في الكلام، وينهى أصحابه عن التنازع في الكلام وتعليمه، وقد نبغ له أصحاب يُخالفونه، وهو لا يدري، فإنّهم على مذهب الكلابية، فاستحكم طمعهما في إيقاع الوحشة بين هؤلاء الأئمة .
سير أعلام النبلاء 14/377، 381. وكذلك ذكر تلك القصة شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل 2/78-83، وفي مجموع الفتاوى 6/169-172.(22/29)
. وهم كانوا قد بنوا ذلك على أصل ابن كلاب، واعتقدوا أنّه لا تقوم به الحوادث بناءً على هذه الطريقة؛ طريقة الأعراض. وابن خزيمة شيخهم، وهو الملقّب بإمام الأئمة، وأكثر الناس معه، ولكن لا يفهمون حقيقة النزاع؛ فاحتاجوا لذلك إلى ذكر عقيدة لا يقع فيها نزاع بين الكلابيّة وبين أهل الحديث والسنّة؛ فذكروا فيها: أنّ كلام الله غير مخلوق، وأنّه لم يزل متكلّماً(1)، وأنّ فعله أيضاً غير مخلوق؛ فالمفعول مخلوق، ونفس فعل الربّ له قديم غير مخلوق(2) .
وهذا قول الحنفيّة، وكثير من الحنبليّة، والشافعيّة، والمالكيّة، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره في آخر عمره. وبَسْطُ هذا له موضع آخر(3) .
افتراق الأمة بسبب طريقة الأعراض
والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة.
__________
(1) وقد روى الحاكم بسنده عن الإمام ابن خزيمة أنّه قال: "القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال شيء منه مخلوق فهو جهميّ". نقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 14/379. وتذكرة الحفاظ 2/726. وابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/79 .
(2) انظر: هذه العقيدة في: مجموع الفتاوى 6/169-172. وسير أعلام النبلاء 14/381. وتذكرة الحفاظ 2/727.
(3) انظر: موقف الإمام ابن خزيمة من بعض أصحابه ممّن كان يقول بقول ابن كلاب في: درء تعارض العقل والنقل 2/60، 77-83، 101. وشرح العقيدة الأصفهانية ص 34. ومجموع الفتاوى 6/169-172. وشرح حديث النزول ص 158-159. وسير أعلام النبلاء 14/377-381 .(22/30)
ولما عرف كثير من النّاس باطن قول ابن كلاب، وأنّه يقول: إنّ الله لم يتكلّم بالقرآن العربيّ، وإنّ كلامه شيء واحد؛ هو معنى آية الكرسيّ، وآية الدَّيْن(1) عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل؛ فنفروا(2) عنه، وعرفوا أنّ هؤلاء يقولون: إنّه لا يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه .
وكان ممّن أنكر ذلك الكرّامية(3)
__________
(1) ذكر أبو الحسن الأشعريّ أنّ ابن كُلاّب زعم أنّ كلام الله: "ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتجزّأ، ولا يتبعّض، ولا يتغاير. وأنّه معنى واحد قائم بالله عزّ وجلّ، وأنّ الرسم هو الحروف المتغايرة، وهو قراءة القرآن. وأنّه خطأ أن يقال: كلام الله هو هو، أو بعضه، أو غيره. وأنّ العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير، وكلام الله سبحانه ليس بمختلف ولا متغاير؛ كما أنّ ذكرنا لله عزّ وجلّ يختلف ويتغاير، والمذكور لا يختلف ولا يتغاير. وإنّما سُمّيَ كلام الله سبحانه عربياً؛ لأنّ الرسم الذي هو العبارة عنه، وهو قراءته: عربيّ؛ فسُمّي عربياً لعلّة، وكذلك سُمّي عبرانياً لعلّة؛ وهي أنّ الرسم الذي هو عبارة عنه عبرانيّ ...". مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 2/257-258.
وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/424-425، 12/49، 165، 370-371، 17/50-51، 147. والفتاوى المصرية 5/15 .
(2) في ((خ)) : فيفرّوا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) الكرامية: فرقة من فرق المرجئة، تنتسب إلى محمد بن كرّام. قال عنه الذهبي: عابد متكلّم شيخ الكرامية. مات بالشام سنة 255 ه .
قال شيخ الإسلام عنهم: "الكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد؛ حيث جعلوا الإيمان قول باللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب؛ فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنّه يخلد في النّار؛ فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم. وأمّا في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنّة". مجموع الفتاوى 3/103 .
وقال - رحمه الله - أيضاً إنّ الكراميّة المجسمة كلّهم حنفيّة. مجموع الفتاوى 3/185.
وانظر: في بيان معتقد الكرامية: مجموع الفتاوى 6/36. والملل والنحل 1/108. والفرق بين الفرق ص 215-225. وميزان الاعتدال 4/21.(22/31)
، وغير الكرّاميّة؛ كأصحاب أبي معاذ التومني(1)، وزهير البابي(2)
__________
(1) أبو معاذ التومني ينتسب إلى قرية تومن من قرى مصر. من أئمة المرجئة، ورأس الفرقة التومنية. لا يُعرف تاريخ وفاته. وأشار كل من الأشعريّ، والشهرستاني، والبغدادي إلى أقواله وآرائه بالتفصيل. انظر: المقالات لأبي الحسن الأشعري 1/351. والملل والنحل للشهرستاني 1/144. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 203-204. والأنساب للسمعاني 3/111 .
(2) كذا في جامع الرسائل 2/6: البابي. وأحياناً يُذكر باسم زهير اليامي - ولعله تصحيف - انظر: مجموع الفتاوى 6/219). لم أقف على ترجمته. وكثيراً ما يقرن شيخ الإسلام بينه وبين أبي معاذ التومني في عرض آرائهما العقديّة، وأنّهما من أهل الكلام من المرجئة. ويُسمّيه في درء تعارض العقل والنقل، وشرح حديث النزول: زهير الأبريّ. وقد أفاد د/محمد رشاد سالم رحمه الله أنّ هذه التسمية خاطئة، والصحيح أنّه زهير الأثريّ؛ كما ذكر ذلك الأشعريّ في المقالات، وقال: وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيراً في أكثر أقواله.
وقد ذكر الأشعريّ في المقالات آراءه بالتفصيل. انظر: مقالات الإسلاميين 1/351، 2/232. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2/19. وشرح حديث النزول ص 404. ومنهاج السنة النبوية 2/361.(22/32)
، وداود بن(1) عليّ(2)، وطوائف. فصار كثير من هؤلاء يقولون: إنّه يتكلّم بمشيئته وقدرته، فأنكروه، لكن يراعي تلك الطريقة لاعتقاده صحتها؛ فيقول: إنّه لم يكن في الأزل متكلّماً؛ لأنّه إذا كان لم يزل متكلماً بمشيئته، لزم وجود حوادث لا تتناهى(3)(4) .
وأصل الطريقة أنّ هذا ممتنع، فصار حقيقة قول هؤلاء أنّه صار متكلّماً بعد أن لم يكن متكلّماً.
فخالفوا قول السلف والأئمة، أنه لم يزل متكلّماً إذا شاء.
وبسط هذه الأمور له موضع آخر(5).
ذم السلف للكلام والمتكلمين
__________
(1) في ((خ)): بابن .
(2) هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، الملقّب بالظاهريّ. قال عنه الخطيب: (هو إمام أصحاب الظاهر، وكان ورعاً ناسكاً زاهداً. مات سنة 270 ه، وقيل سنة 275 ه). تاريخ بغداد 8/369. وانظر: البداية والنهاية 11/55 والأعلام للزركلي 2/333.
(3) في ((خ)): (تتناهى) بدلاً من (لا تتناهى)، وهو غير مستقيم. والصواب ما في ((م))، و ((ط)).
(4) وهم يقولون: إنّ الله تعالى لم يكن في الأزل متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام؛ لأنه لو كان متكلّماً أزلاً بكلام متعلق بمشيئته وقدرته للزم وجود حوادث لا تتناهى في القدم، ويمتنع وجود حوادث لا أول لها .
انظر: توضيح معتقدهم في صفة الكلام في كتب ابن تيمية: مجموع الفتاوى 6/524. والفرقان بين الحق والباطل ص 100. وبغية المرتاد ص 361 .
(5) بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام عن موقف المشبهة من صفة الكلام، ومخالفتهم للسلف والأئمة في هذه القضيّة في كتابه: رسالة في العقل والروح - موجود ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/33 - . وفي قاعدة نافعة في صفة الكلام - يوجد أيضاً ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/75 - . وفي الفرقان بين الحق والباطل ص100-101. وفي مجموع الفتاوى 6/524 .(22/33)
والمقصود هنا أنّ كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع، المخالفة للعقل، التي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذمّ أهلها :
فذمّهم للجهميّة الذين ابتدعوا هذه الطريقة أولاً متواترٌ مشهور، قد صُنِّف فيه مصنّفات(1)
__________
(1) فالإمام نعيم بن حماد، قال عنه الذهبي: "وضع ثلاثة عشر كتاباً في الردّ على الجهميّة" . انظر: سير أعلام النبلاء 10/599.
والإمام أحمد بن حنبل صنّف كتاباً في الردّ على الجهميّة والزنادقة. وهو مطبوع .
والإمام محمد بن أسلم الطوسيّ، له كتاب ((الرد على الجهميّة)). انظر: سير أعلام النبلاء 12/197 .
والإمام ابن أبي حاتم له كتاب ((الرد على الجهميّة)). انظر: سير أعلام النبلاء13/264 .
والإمام ابن قتيبة له كتاب ((الرد على الجهميّة)). انظر: سير أعلام النبلاء 13/298 .
والإمام عثمان بن سعيد الدارمي صنّف في الردّ على بشر المريسي، وفي الرد على الجهميّة، وكلاهما مطبوع .
وغير هؤلاء كثير جداً ممّن لا يُحصون في موضع واحد ...(22/34)
. وذمّهم للكلام والمتكلّمين ممّا عني به أهل هذه الطريقة؛ كذمّ الشافعيّ لحفص الفرد(1)(2)، الذي كان على قول ضرار بن(3) عمرو(4). وذمّ أحمد بن حنبل لأبي عيسى؛ محمد بن(5) عيسى برغوث(6)
__________
(1) حفص الفرد من المجبرة، ومن أكابرهم، نظير النجّار، ويكنى أبا عمرو، وكان من أهل مصر. كان أول أمره معتزلياً، ثمّ قال بخلق الأفعال، وهو من أتباع ضرار بن عمرو، وسمع من أبي الهذيل العلاف من كتبه: الاستطاعة، وكتاب التوحيد، وكتاب الرد على النصارى، وغيرها. قال عنه الذهبي: "حفص الفرد مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام لا يكتب حديثه. وكفّره الشافعيّ في مناظرته". ميزان الاعتدال1/564. وانظر: الفرق بين الفرق ص 214. والفهرست لابن النديم ص 255.
(2) وأمّا ذم الشافعي له، ففيما رواه البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود، قال: "دخل حفص الفرد على الشافعي، فقال - أي الشافعي - لنا: لأن يلقى اللهَ العبدُ بذنوب مثل جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف ممّا عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن". أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي 1/452، وفي الاعتقاد ص 239. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 7/250. وشرح الأصفهانية 2/321.
(3) في ((خ)) ابن .
(4) هو ضرار بن عمرو القاضي. قال عنه الذهبي: "من رؤوس المعتزلة، شيخ الضراريّة. قال الإمام أحمد بن حنبل: شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبدالرحمن، فأمر بضرب عنقه، فهرب". سير أعلام النبلاء 10/544-545. وانظر: الملل والنحل 1/90. والمقالات 1/339. والفرق بين الفرق ص 213-214 .
(5) في ((خ)): ابن .
(6) برغوث: أبو عبدالله محمد بن عيسى. وكان على مذهب النجّار. قال عنه الذهبي: وهو رأس البدعة .. الجهميّ، أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنّف كتاب الاستطاعة، وكتاب المقالات، وكتاب الاجتهاد، وكتاب الردّ على جعفر ابن حرب، وكتاب المضاهاة. قيل توفي سنة أربعين ومائتين، وقيل سنة إحدى وأربعين. وإليه تنسب الفرقة البرغوثيّة. سير أعلام النبلاء 10/544 .
وانظر: الفرق بين الفرق ص 209. والمقالات 2/230. ودرء تعارض العقل والنقل 7/257. وشرح حديث النزول ص 251-252. وشرح الأصفهانية 2/322 .(22/35)
(1)، الذي كان على قول حسين النجار(2). وذمّهما، وذمّ أبي يوسف(3)(4)
__________
(1) ومن أقوال الإمام أحمد في ذمّ أهل الكلام: (علماء الكلام زنادقة)، "لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا يرى أحد نظر في الكلام إلا في قلبه دغل". انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/95. وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83. ودرء تعارض العقل والنقل 7/275 .
(2) هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، وكان حائكاً في حراز العباس ابن محمد الهاشمي. من كبار المجبرة ومتكلميهم. والسبب في موته أنّه اجتمع مع إبراهيم النظّام، فأفحمه النظّام في مناظرات جرت بينهما، فانصرف محموماً، فكان ذلك سبب علته التي مات فيها. انظر: الفهرست لابن النديم ص 204 .
وذكر الأشعريّ في المقالات 2/340 أنّ أصحابه يسمون الحسينيّة. وأما الشهرستاني في الملل والنحل فسمّأهم النجّاريّة، وذكر أنّ أكثرهم معتزلة. وكذلك ذكرهم البغدادي في الفرق بين الفرق ص 207 .
(3) هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، تلميذ أبي حنيفة. عالم، فقيه، محدث. قال يحيى بن معين: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصلح رواية من أبي يوسف. توفي رحمه الله سنة 182 ه.
انظر: تذكرة الحفاظ 1/292. والجواهر المضيئة 2/220.
(4) ومن ذم أبي يوسف لأهل الكلام، قوله: "من طلب العلم بالكلام تزندق". انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/232. والصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264.
وقد ذكر الذهبي رحمه الله في العلو ص112 قول أبي يوسف: (من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن تتبع غريب الحديث كذب).(22/36)
، ومالك(1)، وغيرهم(2) لأمثال هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة(3) .
وقد صنّف في ذمّ الكلام وأهله مصنّفات أيضاً(4)
__________
(1) ومن ذمّ الإمام مالك لأهل الكلام، قوله: (لعن الله عمراً - يعني عمرو بن عبيد ؛ فإنّه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علماً، لتكلّم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع. ولكنّه باطل يدلّ على باطل". شرح السنة للبغوي 1/217. وانظر: الفتاوى المصرية لابن تيمية 6/560 .
ومن أقواله: "لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع ..". انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 4/1264 .
(2) كالقاضي ابن سريج ((مجموع الفتاوى 17/305))، والإمام البغوي ((شرح السنة 1/216))، وغيرهما .
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص، وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي، وأحمد، وغيرهما من الأئمة: ليس فيه إنكار للقدر، بل فيه إثبات له، وإنّما ذموهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه، مع أنّ قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة، وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلوّ ويُثبت الرؤية من الأشعريّة ونحوهم. وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدّم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها، وهي: دليل الأعراض، والتركيب، والاختصاص" .
درء تعارض العقل والنقل 7/278 .
(4) يقول الشيخ عبد الرحمن الشبل في مقدمة تحقيق كتاب ذم الكلام للهروي 1/2: "أمّا الكتب التي ألفها أهل العلم في بيان زيف علم الكلام وبطلانه، وفضح أهله، والرد عليهم، فأكثر من أن تحصى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله النصيب الأكبر منها، بل إنّ كلّ كتاب ألّفه لا بُدّ أن يُشير غالباً إلى شيء من ذلك. لكن من باب التمثيل أيضاً أُشير إلى الكتب الآتية:
1- الغنية عن الكلام وأهله لأبي سليمان الخطابي .
2- إلجام العوام عن علم الكلام لأبي حامد الغزالي. وله أيضاً:
3- تهافت الفلاسفة.
4- الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية. وله أيضاً: نقض المنطق .
5- نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان .
6- فصل الكلام في ذم الكلام لجلال الدين السيوطي. وله أيضاً :
7- القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق .
8- صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام .
9- جهد القريحة في تجريد النصيحة. لخّص فيه السيوطي كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المذكور آنفاً.
وانظر: أيضاً درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، ومختصره لمحمد الموصلي؛ ففيهما مباحث قيّمة تتعلّق بهذا الباب" .(22/37)
، وهو متناول لأهل هذه الطريقة قطعاً. فكان إيجاب النظر بهذا التفسير باطلاً قطعاً، بل هذا نظر فاسد يُناقض الحقّ والإيمان .
حذاق الطوائف ببينوا فساد طريقة الأعراض
ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة(1) من حذّاق الطوائف يتبيّن لهم فسادها(2)؛ كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي(3)، وأبو عبد الله الرازي(4)، وأمثالهما(5) .
ثمّ الذي يتبيّن له فسادها: إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائراً مضطرباً(6) .
الفلاسفة تسلطوا على المتكلمين بسبب فساد طريقة الأعراض
__________
(1) طريقة الأعرض وحدوث الأجسام .
(2) كذا في ((خ))، و ((م)). وفي ((ط)): فاسدها. وهو خطأ .
(3) وقد تقدّم قوله: "فليت شعري متى نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لمن جاءهم مسلماً: الدليل على أنّ العالم حادث: أنّه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادث". فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 89.
وفي قوله توهين لقيمة هذه الطريقة، وتقليل من شأنها، ودليل على أنّه لا يرى - في قرارة نفسه - أنّ هذه الطريقة صالحة للاستدلال على إثبات الصانع .
(4) وقد تقدّم أنّ الرازي ضعّف البراهين الخمسة التي احتُجّ بها على حدوث العالم وحدوث الأجسام. انظر: المطالب العالية للرازي 1/71، والمباحث المشرقية له1/327 .
(5) ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أنّ الرسل لم تدع إلى هذا الدليل المبتدع انظر: ص 185-192). وكذلك نقل الشهرستاني والخطابي ذمّها. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/227، 293، وما بعدها .
(6) لذلك نجد أكثر من سلك هذا المسلك أصابته الحيرة في آخر عمره؛ فمنهم من تاب وأناب، ومنهم من صرّح بما كان يخفيه، وأعلن عن رأيه في الكلام والمنطق.
وسيأتي كلام الرازي، والشهرستاني، والغزالي، وغيرهم لاحقاً إن شاء الله .(22/38)
والقائلون بقدم العالم؛ من الفلاسفة، والملاحدة، وغيرهم تبيّن(1) لهم فسادها؛ فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل؛ فيُبطلون قول هؤلاء أنّه صار فاعلاً، أو فاعلاً ومتكلماً بمشيئته بعد أن لم يكن(2)، ويُثبتون وجوب دوام نوع الحوادث، ويظنّون أنّهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم(3). وهم(4) أضلّ وأجهل من أولئك(5)؛ فإنّ أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم، بل كلّ ما سوى الله فهو حادث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة(6)
__________
(1) في ((خ)) يبين. والصواب من ((م))، و ((ط)) .
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية حاكياً عن طريقة الأعراض التي سلكها المتكلمون: "فطريقتهم التي أثبتوا بها أنه خالق للخلق، مرسل للرسل، إذا حُقّقت عليهم، وُجد لازمها أنه ليس بخالق ولا مُرسِل. فيبقى المسلم العاقل إذا تبيّن له حقية الأمر، وكيف انقلب العقل والسمع على هؤلاء، متعجباً. ولهذا تسلّط عليهم بها أعداء الإسلام من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم؛ لما بيّنوا أنّه لا يثبت بها خلق ولا إرسال؛ فادّعى أولئك قدم العالم، وأثبتوا موجباً بذاته، وقالوا: إنّ الرسالة فيض يفيض على النبيّ من جهة العقل الفعّال، لا أنّ هناك كلاماً تكلّم الله تعالى به قائماً به أو مخلوقاً في غيره". شرح العقيدة الأصفهانية - بتحقيق السعوي - ص 329-330 .
(3) أي مقصود الفلاسفة .
(4) أي الفلاسفة .
(5) أي من المتكلمين .
(6) انظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله على تسلط الفلاسفة وملاحدة الصوفية على المتكلمين في: الرد على المنطقيين ص 310-311. وشرح الأصفهانية ص 329-331. ومجموع الفتاوى 13/157. وشرح حديث النزول ص 420-422، 428. ومنهاج السنة النبوية 1/352 .
قال شيخ الإسلام: "إنّ هؤلاء المتكلمين الذين زعموا أنهم ردوا عليهم، لم يكن الأمر كما قالوه، بل هم فتحوا لهم دهليز الزندقة. ولهذا يوجد كثير ممن دخل في هؤلاء الملاحدة إنما دخل من باب أولئك المتكلمين؛ كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم. وإذا قام من يرد على هؤلاء الملاحدة، فإنهم يستنصرون ويستعينون بأولئك المتكلمين المبتدعين، ويعينهم أولئك على من ينصر الله ورسوله؛ فهم جندهم على محاربة الله ورسوله كما قد وجد ذلك عياناً". شرح حديث النزول ص 422-423 .(22/39)
.
وإن كان الفاعل لم يزل فاعلاً لما يشاء، ومتكلماً بما يشاء، وصار كثير من أولئك(1) إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين، وليس عنده إلا قولهم، وقول هؤلاء(2)، يميل إلى قول هؤلاء الملاحدة، ثمّ قد يُبطن ذلك، وقد يُظهر لمن يأمنه .
أثر طريقة الأعراض على المتصوفة
وابتُلِيَ بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف، وصاروا يُظهرون هذا في قالب المكاشفة(3)، ويزعمون أنّهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان. فأخذوا من نفي الصفات أنّ صانع العالم(4) لا داخل العالم، ولا خارجه. ومن قول هؤلاء: إنّ العالم قديم، ولم يروا موجوداً سوى العالم، فقالوا: إنّه هو الله، وقالوا: هو الوجود المطلق، والوجود واحد، وتكلّموا في وحدة الوجود(5)
__________
(1) ممّن سلكوا طريقة الأعراض وحدوث الأجسام .
(2) الفلاسفة والملاحدة .
(3) المكاشفة: هي عبارة عن بيان ما يستتر عن الفهم، فيُكشف للعبد عنه كأنّه يراه رأي العين. انظر: حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب - بهامش قوت القلوب - (2/273) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً. أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويُسمّى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويُسمّى ذلك كله (كشفاً) و (مكاشفة)؛ أي كشف له عنه" . مجموع الفتاوى 11/313. وانظر: الصفدية 1/186 .
(4) في ((خ)) العلم. وهو خطأ. وما أثبته من ((م))، و ((ط)) .
(5) وحدة الوجود: من أبرز عقائد ملاحدة الصوفية. وقد أوضح شيخ الإسلام مقصودهم به فقال: "معناه أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، وليس وجودها غيره، ولا شيء سواه البتة". مجموع الفتاوى 11/140. وانظر: المصدر نفسه 11/172-173 .
والباطنية: باطنية الشيعة والمتصوّفة؛ كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك، بل يقولون: الوجود واحد: وجود الخالق هو وجود الخلق، فيجب أن يكون كل موجود عابداً لنفسه، شاكراً لنفسه، حامداً لنفسه .
وابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم، وقد صرّح بأنّ الله لم يعط أحداً شيئاً، وأنّ جميع ما للعباد فهو منهم لا منه، وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعينهم، وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده، فالربّ إن ظهر فهو العبد، والعبد إن بطن فهو ربّ، ولهذا قال: لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك، فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء. ولهذا قال: إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين، فالداعي هو المدعو، فكيف يدعو نفسه. وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية، فما بعد هذا شيء.
انظر: جامع المسائل 2/104-105 .(22/40)
، وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه(1) .
ثمّ لمّا ظهر أنّ كلامهم يُخالف الشرع والعقل، صاروا يقولون: ثَبَتَ(2) عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنّما التوحيد في كلامنا، ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدنيّ الأعلى، فليترك العقل والنقل(3)
__________
(1) وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الموضوع بكثرة. انظر: على سبيل المثال: الجزء الثاني من الفتاوى؛ فقد حوى رسائل في هذا الموضوع، منها رسالة تسمى ((حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود)) من ص 134-285، وكذلك ((رسالة إلى نصر المنبجي)) من ص 452-479. وانظر: جامع الرسائل 2/104-116، 201-206 .
(2) كذا في ((خ)). وفي ((م))، و ((ط)): يثبت .
(3) انظر: كلام هؤلاء في الفرقان ص 229. والفتاوى 2/472 .
قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "ولهذا كان هؤلاء الاتحاديّة والحلوليّة يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة، ويصرحون بذلك، وهؤلاء من أعظم النّاس كفراً وشتماً لله، وسبّاً لله سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً ... ويُسمّون أنفسهم المنزِّهون، وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله وأقرب لتنجيس تقديسه .... وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية؛ كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره، وابن سبعين، وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني، وسعيد الفرغاني، إنما يدعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث، وإنما هو شهود الحقائق وكشفها. ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يُناقض صريح العقل، ويقولون لمن يسلكونه لا بد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل، ويقولون: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، ويقولون: لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات؛ فإنّ الوجود واحد، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام، فقلنا حرام عليكم ...". بيان تلبيس الجهميّة 2/538-539. وانظر: بغية المرتاد ص 491. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 229-230. وكتاب الصفدية ص 244.(22/41)
. وصار حقيقة قولهم الكفر بالله، وبكتبه، ورسله، وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيّع. لكنّ أولئك لمّا كان ظاهر قولهم هو ذمّ الخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان [رضي الله عنهم](1)، صارت وصمة الرفض تنفر عنهم خلقاً كثيراً لم يعرفوا باطن أمرهم، وهؤلاء صاروا ينتسبون إلى المعرفة والتوحيد واتباع شيوخ الطرق؛ كالفضيل(2)، وإبراهيم بن أدهم(3)، والتستري(4)
__________
(1) ليست في ((خ)) و ((م))، وهي في ((ط)).
(2) الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، الإمام القدوة الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي. ولد بسمرقند وأصله من الكوفة، وسكن مكة. يُعدّ من العباد الصالحين، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث. توفي بمكة سنة 187ه. انظر: سير أعلام النبلاء 8/421-442. وحلية الأولياء 8/84. وشذرات الذهب 1/316-317. وطبقات الصوفية 6-14. والأعلام 5/153 .
(3) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي نزيل الشام، مولده في حدود المائة. قال عنه ابن كثير رحمه الله: (أحد مشاهير العباد، كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله). توفي سنة 162ه. انظر: سير أعلام النبلاء 7/387-396. وحلية الأولياء7/367. وطبقات الصوفية ص 27. والبداية والنهاية 10/138 .
(4) في ((خ)) السّري، وما أُثبت من ((م))، و ((ط)) .
والتستري هو: سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد الصوفي الزاهد ، وهو من كبار الصوفية. مات سنة 283ه. انظر: سير أعلام النبلاء 13/330. وطبقات الصوفية ص206. وحلية الأولياء 10/189. وشذرات الذهب 2/182.(22/42)
، والجنيد(1)، وسهل بن(2) عبد الله(3)، وأمثال هؤلاء ممّن له في الأمة لسان صدق، فاغترّ بهؤلاء من لم يعرف باطن أمرهم، وهم في الحقيقة من أعظم خلق الله خلافاً لهؤلاء المشايخ السادة، ولمن هو أفضل منهم من السابقين الأولين، والأنبياء المرسلين(4).
__________
(1) هو الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم. قال عنه الخطيب: (نشأ ببغداد، وسمع بها الحديث، ثمّ اشتغل بالعبادة ولازمها). مات سنة 298ه . انظر: تاريخ بغداد 7/241. وسير أعلام النبلاء 20/272. وحلية الأولياء 10/255. وشذرات الذهب 2/228. وطبقات الصوفية ص 155 .
(2) في ((خ)) لبن. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) لعله أبو طاهر سهل بن عبدالله بن الفرخان الأصبهاني. قال عنه الذهبي: أحد الثقات .. وكان من حملة الحجة، كبير القدر. قال أبو نعيم: لقيت أصحابه، وكان مجاب الدعوة..... وهو أول من حمل مختصر حرملة من علم الشافعي .... إلى أن قال: - ومات في سنة ست وسبعين ومائتين. انظر: سير أعلام النلاء 13/333-334. وحلية الأولياء 10/212-213 - وسماه الفرحان .
(4) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإنّ ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام، فضلاً عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبو سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين". الفرقان ص 213.(22/43)
وكان من أسباب ذلك أنّ العبادة والتألّه والمحبة ونحو ذلك ممّا يتكلّم فيه شيوخ المعرفة والتصوّف أمر معظّم في القلوب، والرسل إنّما بُعثوا بدعاء الخلق إلى أن يعرفوا الله، ويكون أحبّ إليهم من كلّ ما سواه، فيعبدوه ويألهوه، ولا يكون لهم معبود مألوه غيره(1) .
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كلّ عمل من أعمال الإيمان؛ كما أن التصديق به أصل كلّ قول من أقوال الإيمان والدين". مجموع فتاوى ابن تيمية 10/48-49. وانظر: جامع الرسائل 2/235.
وتقديم محبة الله تعالى على محبة ما سواه أحد الأسباب - بل أهمها - التي يجد العبد بها حلاوة الإيمان؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من كنّ فيه، وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما .." الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه 1/14، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. ومسلم في صحيحه 1/66، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتّصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان.(22/44)
وقد أنكر جمهور أولئك المتكلمين أن يكون الله محبوباً، أو أنّه يُحبّ شيئاً، أو يُحبّه أحد(1). وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً؛ فإنّ الإله: هو المألوه الذي يستحق أن يؤله ويُعبد، والتألّه والتعبّد: يتضمن غاية الحب بغاية الذلّ(2).
الإلهية: القدرة على الاختراع عند الأشعري
ولكن غلط كثير من أولئك، فظنّوا أنّ الإلهيّة هي القدرة على الخلق، وأنّ الإله بمعنى الآلِه، وأنّ العباد يألههم الله، لا أنّهم هم يألهون الله؛ كما ذكر ذلك طائفة منهم الأشعريّ وغيره(3)
__________
(1) انظر: إنكار ابن كلاب لذلك في مقالات الإسلاميين 1/250، 2/225. وإنكار الباقلاني في كتابه الإنصاف ص 69. وابن فورك في مشكل الحديث وبيانه ص 332. وابن جماعة في إيضاح الدليل ص 139. والقرطبي في تفسيره 20/4. ومدارك التنزيل للنسفي 1/209. وعمدة القاري للعيني 25/84. وانظر: أيضاً: مجموع فتاوى ابن تيمية 10/66 .
(2) انظر: كتاب العبودية للمؤلف؛ فقد تحدّث حول هذا الموضوع ص 35. وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى له 13/202-203، والمصدر نفسه 8/378. والجواب الصحيح 6/31. وجامع الرسائل 2/196، 254-256 .
(3) هذا الفهم الخاطئ قال به الأشعريّ، وتبعه عليه جميع الأشعريّة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/91. وانظر: أيضاً: الجواب الصحيح 2/152. والصفدية 1/148. واقتضاء الصراط المستقيم 2/845. ودرء تعارض العقل والنقل 9/377. ومجموع الفتاوى 8/101. والتدمرية ص 185-186.
وفهمهم هذا خاطئ؛ فإنّ الإله بمعنى المألوه المعبود، لا بمعنى الآلِه كما زعموا. وقد بيّن شيخ الإسلام خطأهم في ذلك، فقال: (والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الآلِه بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسّر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أنّ هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية - وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله؛ فإنّ مشركي العرب كانوا مقرّين بأنّ الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين؛ قال تعالى:{وَمَاْ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُوْنَ} [ يوسف 106] قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض، فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره ..). درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/226-227. وانظر: مجموع الفتاوى 8/378. وشرح الأصفهانية 1/148 .(22/45)
.
وطائفة ثالثة(1) لما رأت ما دلّ على أنّ الله يُحِبّ أن يكون محبوباً من أدلة الكتاب والسنة،
الذين غلطوا في مسمى المحبة والإرادة
وكلام السلف وشيوخ أهل المعرفة، صاروا يقرّون بأنّه محبوب، لكنّه هو نفسه لا يحبّ شيئاً إلا بمعنى المشيئة، وجميع الأشياء مرادة له فهي محبوبة له. وهذه طريقة كثير من أهل النظر والعبادة والحديث؛ كأبي إسماعيل الأنصاري(2)، وأبي حامد الغزالي، وأبي بكر بن العربي(3)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 10/74-75 .
(2) هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الأنصاري، ولد سنة 396، وتوفي سنة 481ه . قال عنه الذهبي: "شيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ الكبير، وشيخ خراسان من ذرية صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي أيوب الأنصاري". انظر: سير أعلام النبلاء 18/503. وطبقات الحنابلة 2/247-248. وشذرات الذهب 3/365-366.
وانظر: كلامه في مدارج السالكين 1/227، وقد علّق عليه ابن القيم رحمه الله بأنّه من أبطل الباطل .
كما نقل كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسمى هذه المسألة مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال. وقال عنه بأنّه في هذه المسألة (أبلغ من الأشعريّة؛ لا يُثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول: إنّ مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأنّ العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء). مجموع الفتاوى 8/230. وانظر: المصدر نفسه 8/339-340.
(3) في ((خ)) :ابن عربي. وما أثبت من ((م))، و((ط)) .
وأبو بكر بن العربي، هو: محمد بن عبدالله بن محمد بن أحمد بن العربي الأندلسي الأشبيلي المالكي. ولد في أشبيلية سنة 468ه، وتوفي سنة 543ه. رحل إلى المشرق، وأخذ من العلماء وأشهرهم الغزالي، ثم رجع إلى الأندلس وتولى قضاء أشبيلية. يعتبر من أئمة المالكية، ومن كبار حفّاظهم وفقهائهم إلا أنه أشعري تتلمذ على الغزالي وتأثر ببعض أفكاره . انظر: سير أعلام النبلاء 20/197. والبداية والنهاية 12/245 - وقال عن وفاته: إنها سنة 545 ه. قانون التأويل - قسم التحقيق - لابن العربي ص 117، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/647.(22/46)
(1) .
وحقيقة هذا القول أنّ الله يُحبّ الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه(2). وهذا هو المشهور من قول الأشعريّ وأصحابه(3)، وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك(4)، وكذلك ذكر ابن عقيل(5)
__________
(1) بل هذا قول المعتزلة والجهميّة وأغلب الأشعريّة. انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبدالجبار المعتزلي 6/51-56. والإنصاف للباقلاني ص 69-70. ولباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي ص 288 .
(2) لأنّ من جوّز إطلاق المحبة على الإرادة، فلازم قوله أنّ الله يحب الكفر ويرضاه كفراً .
انظر: مجموع الفتاوى 8/343 .
(3) يقول أبو المعالي الجويني: "إذا تعلّقت الإرادة بنعيم ينال عبداً، فإنها تسمى محبة ورضى. وإذا تعلّقت بنقمة تنال عبداً فإنها تسمى سخطاً". الإرشاد للجويني ص 239 .
وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69-70. والتمهيد له ص 385-386. وانظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251، 2/189. ومنهاج السنة النبوية 1/134-135، 5/360. وسيأتي مزيد إيضاح لهذا الموضوع، حين نقل كلام الأشعري نفسه في اللمع، في ص 301 من هذا الكتاب .
(4) انظر: الإرشاد للجويني ص 237-239. وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص 102-104. ومجموع فتاوى ابن تيمية 8/230. وفي منهاج السنة 5/360 قال: إن أبا الحسن أول من سوّى بينهما .
(5) وكان يميل إلى بعض كلام المعتزلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله درء تعارض العقل والنقل 1/270.
وقد نقل في منهاج السنة النبوية 5/360 عنه قوله: (أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري) .(22/47)
أنّ أوّل من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعريّ وأصحابه، وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضيّ(1) .
__________
(1) وهذا نجم عن قولهم "إنّ الإرادة تستلزم الرضى والمحبة"، وقد تقدّم نقل ذلك عنهم. وخطؤهم الذي وقعوا فيه وحدا بهم إلى هذه المآزق هو ظنّهم أنّ الإرادة في النصوص كلها بمعنى واحد، بل ولا تتجدّد أيضاً. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، وقول مخالف للكتاب والسنّة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله راداً على معتقدهم هذا : "وإثبات إرادة كما ذكروه لا يُعرف بشرع ولا عقل، بل هو مخالف للشرع والعقل؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يقتضي أنّ جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له". درء تعارض العقل والنقل 8/283. وانظر: أصول الدين للبغدادي ص 102. ومراتب الإرادة لابن تيمية - ضمن مجموع الفتاوى8/188-190، 197. ومجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 339، 340-341، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومدارج السالكين لابن القيم 1/228، 251-252.(22/48)
وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً}(1). وبسط هذه الأمور له مواضع أُخَر(2) .
الذين أوجبوا النظر أعرضوا عن طريق الرسول
والمقصود هنا أنّ الذين أعرضوا عن طريق الرسول في العلم و(3)العمل وقعوا في الضلال والزلل، وأنّ أولئك لما أوجبوا النظر الذي ابتدعوه، صارت فروعه فاسدة ، إن قالوا إنّ من لم يسلكها كفر أو عصى(4)
__________
(1) سورة الإسراء، الآية 38 .
(2) انظر: مجموع الفتاوى 6/115-116، 8/22-23، 230-234، 337-355، 370، 440، 474-476، 16/301-303، 17/101، 18/132. ودرء تعارض العقل والنقل 2/172، 8/283. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 27. ومنهاج السنة النبوية 5/359-361 .
(3) في ((خ)): أو. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(4) ذكر الإمام ابن حزم عنهم ذلك، فقال: "ذهب محمد بن جرير الطبري، والأشعريّة كلها، حاشا السمناني إلى أنّه لا يكون مسلماً إلا من استدلّ، وإلا فليس مسلماً. وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله عزّ وجلّ بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال". الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/35 .
وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في هذه المسألة في درء تعارض العقل والنقل 7/407. وانظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139 .(22/49)
، فقد عُرف بالاضطرار من دين الإسلام أنّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يسلكوا طريقهم، وهم خير الأمة(1). وإن قالوا: إنّ من ليس عنده علم ولا بصيرة بالإيمان، بل قاله تقليداً محضاً من غير معرفة يكون مؤمناً، فالكتاب والسنّة يُخالف(2) ذلك. ولو أنّهم سلكوا طريقة الرسول، لحفظهم الله من هذا التناقض؛ فإنّ ما جاء به الرسول جاء من عند الله(3)، وما ابتدعوه جاؤوا به من عند غير الله، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَاْنَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلافَاً كَثِيْرَاً}(4) .
وهؤلاء(5) بنوا دينهم على النظر، والصوفية بنوا دينهم على الإرادة، وكلاهما لفظ مجمل، يدخل فيه الحق والباطل.
فالحق: هو النظر الشرعيّ، والإرادة الشرعيّة.
النظر الشرعي
[فالنظر الشرعيّ](6): [هو](7) النظر فيما بُعث به الرسول من الآيات والهدى؛ كما قال: {شَهْرُ رَمَضَاْنَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاْسِ وَبَيِّنَاْتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَاْن}(8).
الإرادة الشرعية والسماع الشرعي والدليل الشرعي
__________
(1) وهذا سبق بيانه ص 297- 303 .
(2) في ((خ)): تخالف. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) انظر: معارج الوصول إلى أنّ أصول الدين وفروعه قد بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك درء تعارض العقل والنقل 1/16-27، 38-43، 194-195، 5/363-370 .
وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تناقض الأشاعرة في الشرعيّات والعقليّأت في التسعينيّة ص 259-260 .
وانظر: كلامه - رحمه الله - عن أول واجب على المكلف في درء تعارض العقل والنقل 8/6-7. ومجموع الفتاوى 16/328 .
(4) سورة النساء، الآية 82 .
(5) أي المتكلمون .
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(7) في ((خ)): وهو . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(8) سورة البقرة، الآية 185 .(22/50)
والإرادة الشرعيّة: إرادة ما أمر الله به ورسوله. والسماع الشرعيّ: سماع ما أحبّ الله سماعه كالقرآن. والدليل الذي يستدلّ به هو الدليل الشرعيّ، وهو الذي دلّ الله به عباده، وهداهم به إلى صراط مستقيم(1)؛ فإنّه لمّا ظهرت البدع، والتبس الحقّ بالباطل صار اسم النظر، والدليل، والسماع، [والإرادة يُطلق على ثلاثة أمور :
إطلاقات النظر والإرادة والسماع والدليل
منهم: من يريد به البدعيّ دون الشرعيّ؛ فيريدون بالدليل: ما ابتدعوه من الأدلة الفاسدة، والنظر فيها. ومن السماع والإرادة](2): ما ابتدعوه من اتباع ذوقهم ووجدهم، وما تهواه أنفسهم، وسماع الشعر والغناء الذي يُحرّك هذا الوجد التابع لهذه الإرادة النفسانيّة التي مضمونها اتباع ما تهوى الأنفس بغير هدى من الله.
ومنهم: من يريد مطلق الدليل والنظر، ومطلق السماع والإرادة، من غير تقييدها لا بشرعيّ ولا ببدعيّ. فهؤلاء يُفسّرون قوله: {الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ}(3): بمطلق القول الذي يدخل فيه القرآن والغناء، ويستمعون إلى هذه وهذا، وأولئك(4) يُفسّرون الإرادة بمطلق المحبة للإله(5) من غير تقييدها بشرعيّ ولا بدعيّ، ويجعلون الجميع من أهل الإرادة؛ سواء عبد الله بما أمر الله به ورسوله من التوحيد وطاعة الرسول، أو كان عابداً للشيطان مشركاً، عابداً بالبدع، وهؤلاء أوسطهم ، وهم أحسن حالاً من الذين قيّدوا ذلك بالبدعيّ .
__________
(1) كالنظر في المخلوقات، ودلالة المعجزات، وغير ذلك من الأدلة الشرعية. انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 7/300-302. وشرح حديث النزول ص 27-28. ومجموع الفتاوى 11/378 .
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)). وهو في ((م))، و ((ط)) .
(3) سورة الزمر، الآية 18 .
(4) يقصد الصوفية .
(5) في ((خ)): للتأله. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .(22/51)
وأما القسم الثالث: فهم صفوة الأمة، وخيارها المتبعون للرسول علماً وعملاً، يدعون إلى النظر والاستدلال والاعتبار بالآيات والأدلة والبراهين التي بعث الله بها رسوله، وتدبّر القرآن وما فيه من البيان، ويدعون إلى المحبة والإرادة الشرعيّة؛ وهي محبة الله وحده، وإرادة عبادته وحده لا شريك له بما أمر به على لسان رسوله؛ فهم لا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بما شرع وأمر، ويستمعون ما أحبّ استماعه، وهو قوله الذي قال فيه: {أَفَلَمْ يَدَّبَرُوْا الْقَوْلَ}(1)، وهو الذي قال فيه: {فَبَشِّرْ عِبَاْدِ الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ}(2)؛ كما قال: {وَاتَّبِعُوْا أَحْسَنَ مَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منْ رَبِّكُمْ}(3). وقال: {وَكَتَبْنَاْ لَهُ فِيْ الألْوَاْحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيْلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَاْ بِقُوَّةٍ وَاْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوْا بِأحْسَنِهَاْ}(4) .
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية 68 .
(2) سورة الزمر، الآيتان 17، 18 .
(3) سورة الزمر، الآية 55 .
(4) سورة الأعراف، الآية 145 .(22/52)
[والله](1) سبحانه بيَّنَ القدرة على الابتداء؛ كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّاْ خَلَقْنَاْكُمْ مِنْ تُرَاْبٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية(2)، ومثل قوله: {وَيَقُوْلُ الإِنْسَاْنُ أَإِذَاْ مَاْ مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيَّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً}(3) الآية، ومثل قوله: {وَضَرَبَ لَنَاْ مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَاْلَ مَنْ يُحْيِيْ الْعِظَاْمَ وَهِيَ رَمِيْم قُلْ يُحْيِيْهَاْ الَّذِيْ أَنْشَأَهَاْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيْم}(4)، وغير ذلك .
الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان طريق عقلي صحيح
فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقليّة صحيحة. وهي شرعيّة؛ دلّ القرآن عليها، وهدى النّاس إليها، وبيّنها وأرشد إليها. وهي عقليّة(5)
__________
(1) ليست في ((خ))، و ((م)) .
(2) سورة الحج، الآية 5 .
(3) سورة مريم، الآيتان 66، 67 .
(4) سورة يس، الآيتان 78، 79 .
(5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ الفاضل إذا تأمّل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق. وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع". شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/41.
وانظر: الاستدلال بهذه الطريقة في: نقض أساس التقديس 1/80-82. ودرء تعارض العقل والنقل 7/300-302 .(22/53)
؛ فإنّ نفس كون الإنسان حادثاً بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثمّ من علقة، هذا لم يُعلم بمجرّد خبر الرسول، بل هذا يعلمه النّاس كلهم بعقولهم؛ سواء أخبر به الرسول، أو لم يُخبر. لكنّ الرسول أمر أن يُستدلّ به، ودلّ به، وبيّنه، واحتجّ به؛ فهو دليل شرعيّ؛ لأنّ الشارع استدلّ به، وأمر أن يُستدلّ به؛ وهو عقليّ؛ لأنّه بالعقل تُعلم صحته. وكثيرٌ من المتنازعين في المعرفة هل تحصل بالشرع، أو بالعقل لا يسلكونه. وهو عقليّ شرعيّ، وكذلك غيره من الأدلة التي في القرآن؛ مثل الاستدلال بالسحاب والمطر؛ هو مذكور في القرآن في غير موضع، وهو عقليّ شرعيّ؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّاْ نَسُوْقُ الْمَاْءَ إِلَىْ الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً تأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَاْمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُوْنَ}(1)؛ فهذا مرئيّ بالعيون. وقال تعالى: {سَنُرِيْهِمْ آيَاْتِنَاْ فِيْ الآفَاْقِ وَفِيْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّىْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(2)، ثمّ قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىْ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ}(3) .
فالآيات التي يُريها الناس، حتى يعلموا أنّ القرآن حق، هي آيات عقليّة؛ يستدلّ بها العقل على أنّ القرآن حقّ، وهي شرعيّة؛ دلّ الشرع عليها، وأمر بها. والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقليّة التي يستدلّ بها العقل، وهي شرعيّة؛ لأنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها.
__________
(1) سورة السجدة، الآية 27 .
(2) سورة فصلت، الآية 53 .
(3) سورة فصلت، الآية 53 .(22/54)
ولكنْ كثيرٌ(1) من النّاس لا يُسمّي دليلاً شرعيّاً إلا ما دلّ بمجرّد خبر الرسول، وهو اصطلاح قاصر، ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعيّة؛ الكتاب، والسنّة، والإجماع. والكتاب يُريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط. والمقصود من أصول الفقه: هو معرفة الأحكام الشرعيّة العمليّة؛ فيجعلون الأدلة الشرعيّة: ما دلّت على الأحكام العمليّة فقط، ويُخرجون ما دلّ بإخبار الرسول عن أن يكون شرعاً، فضلاً عمّا دلّ بإرشاده وتعليمه. ولكن قد يُسمّون هذا دليلاً سمعيّاً، ولا يُسمّونه شرعيّاً، وهو اصطلاح قاصر. والأحكام العمليّة أكثر الناس يقولون إنها تُعلم بالعقل أيضاً، وأنّ العقل قد يعرف الحسن والقبح، فتكون الأدلة العقليّة دالّة على الأحكام العمليّة أيضاً.
ويجوز أن تُسمّى شرعيّة؛ لأنّ الشرع قرّرها، ووافقها، أو دلّ عليها وأرشد إليها؛ كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبريّة؛ كإثبات الربّ، ووحدانيته، وصدق رسله، وقدرته على المعاد: أنّ الشرع دلّ عليها، وأرشد إليها. وبسط هذا له موضع آخر(2)
__________
(1) ما أثبت من ((خ))، و ((م))؛ على أنّ (لكنْ) - بالنون الساكنة - للاستدراك. وما في ((ط)) : (لكنّ) - بالنون المشدّدة - من أخوات (إنّ) .
(2) انظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اختلاف الناس في مسألة (الحسن والقبح) في منهاج السنة النبوية 1/316-317. ومجموع الفتاوى 8/90، 309-310، 677-686 ،، 11/347-355، 676-677 ،، 16/246-247، 498. والتسعينيّة ص 247. وشرح الأصفهانيّة - ت مخلوف - ص 161. ودرء تعارض العقل والنقل 8/22، 492 ،، 9/49-62. والرد على المنطقيين ص 420-437. والجواب الصحيح 1/314-315 .
وقال الأشعريّ: "العقل لا يقتضي حسن شيء، ولا قبحه، وإنّما عُرف القبيح والحسن بالسمع، ولولا السمع ما عُرف قبح الشيء، ولا حسنه". انظر: رسالة السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 139. والملل والنحل للشهرستاني 1/101. والإرشاد للجويني ص 258. والمحصل للرازي ص 202. وشرح المواقف للجرجاني 8/181-182.
فالأشاعرة يقولون: "لا حسن، ولا قبح قبل مجيء الرسول، وإنّما الحسن ما قيل فيه: افعل. والقبيح ما قيل فيه: لا تفعل" .(22/55)
.
الأشعري بنى أصول الدين على دليل الحوادث
والمقصود هنا: أنّ الأشعريّ بنى أصول الدين في ((اللمع))، و((رسالة الثغر)) على كون الإنسان مخلوقاً محدثاً، فلا بُدّ له من محدِث(1)، لكون هذا الدليل مذكوراً في القرآن، فيكون شرعيّاً عقليّاً.
لكنّه في نفس الأمر سلك في ذلك طريقة الجهميّة بعينها(2)؛ وهو الاستدلال على حدوث الإنسان بأنّه مُركّب من الجواهر المفردة(3)، فلم يخل من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ فجعل العلم بكون الإنسان محدَثاً، وبكون غيره من الأجسام المشهودة محدثاً إنّما يُعلم بهذه الطريقة؛ وهو أنّه مؤلّف من الجواهر المفردة، وهي لا تخلو من اجتماع وافتراق - وتلك أعراض حادثة(4) - وما لم ينفكّ من الحوادث، فهو محدَث(5) .
__________
(1) انظر: اللمع للأشعريّ ص 6 - ط مكارثي - . ورسالة إلى أهل الثغر ص 144 .
(2) وهذا تقدّم توضيحه قريباً ص 303 .
(3) الجواهر المفردة: تُعرف بأنها الجزء الذي لا يتجزأ، وهو متحيّز لا ينقسم لا بالفكّ والقطع، ولا بالوهم والغرض. انظر: الصحائف الإلهيّة للسمرقندي ص 255 .
وقال صاحب التعريفات عنها: "والجزء الذي لا يتجزأ: جوهر ذو وضع لا يقبل الانقسام أصلاً، لا بحسب الوهم أو الغرض العقليّ. وتتألف الأجسام من أفراده بانضمام بعضها إلى بعض كما هو مذهب المتكلمين". التعريفات للجرجاني ص 103. وانظر: الإرشاد للجويني ص 17. وأصول الدين للبغدادي ص 33 .
(4) وهي من الأكوان الأربعة. والأكوان بعض الأعراض؛ كما تقدّم ص 258 .
(5) وقد نقل عنه تمسّكه بهذه الطريقة - طريقة الأعراض وحدوث الأجسام - ، وبناءه عليها، وتأويله للنصوص كي يُوافقها من جاء بعده من أعلام الأشاعرة؛ كابن فورك في المجرد ص 67. والجويني في الإرشاد ص 120. والبغدادي في أصول الدين ص 113. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 517، 564. والشهرستاني في نهاية الإقدام ص 304 .(22/56)
وهذه الطريقة أصل ضلال هؤلاء؛ فإنّهم أنكروا المعلوم بالحسّ، والمشاهدة، والضرورة العقليّة؛ من حدوث المحدثات المشهود حدوثها، وادّعوا أنه إنما يُشهد(1) حدوث أعراض لا حدوث أعيان، مع تنازعهم في الأعراض. ثمّ قالوا: والأجسام لا تخلو من الأعراض - وهذا صحيح ، ثمّ قالوا: والأعراض حادثة. فاضطربوا هنا. ثمّ قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. وهذا أصل دينهم، وهو أصل فاسد مخالف للسمع والعقل، كما قد بُسط في غير هذا الموضع(2).
والمتفلسفة أشدّ مخالفة للعقل والسمع منهم، لكنهم عرفوا فساد طريقتهم هذه العقليّة، فاستطالوا عليهم بذلك، وسلكوا ما هو أفسد منها كطريقة الإمكان والوجوب(3)؛ كما قد بُسط في موضع آخر(4)؛
الأشعري بنى أصول الدين على دليل الحوادث
__________
(1) في ((ط)): شُهد، وما أُثبت من ((خ))، و((م)) .
(2) انظر: من كتب شيخ الإسلام: مجموع الفتاوى 6/313، 330. وشرح العقيدة الأصفهانية - ت مخلوف - ص 70. وشرح حديث النزول ص 73، وص 413-420 - محقق - . وكتاب الصفدية 2/163. ودرء تعارض العقل والنقل 8/173. ورسالة في الصفات الاختيارية - ضمن جامع الرسائل 2/31-32 - . والفتاوى المصريّة 6/552-556.
(3) تقدّم الكلام على مسلكهم - الوجوب والإمكان - قريباً ص 307 .
(4) انظر: من كتب شيخ الإسلام: شرح العقيدة الأصفهانية - ت السعوي - ص 331، 442-443. وشرح حديث النزول - محقق - ص 420، 422، 428، 436، 438. والفرقان بين الحق والباطل ص 102. ومنهاج السنة النبوية 1/303-304، 352-359، و3/361-362. ودرء تعارض العقل والنقل 3/336-342، 7/242، 345-352، 8/97، 9/68، 379، و10/316-317. ومجموع الفتاوى 12/590، 13/157. ونقض تأسيس الجهميّة 1/223، ومجموع الرسائل الكبرى 1/329-330، ولابن القيم رحمه: مختصر الصواعق المرسلة 1/197-199، ومفتاح دار السعادة 1/158 .(22/57)
فلبّسوا هذا الباطل بالحقّ الذي جاء به الرسول؛ وهو الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات التي يُشهد حدوثها. فصار في كلامهم حق وباطل، من جنس ما أحدثه أهل الكتاب؛ حيث لبسوا الحقّ بالباطل، واحتاجوا في ذلك إلى كتمان الحق - الذي جاء به الرسول - الذي يخالف ما أحدثوه، فصاروا يكرهون ظهور ما جاء به الرسول، بل يمنعون عن قراءة الأحاديث وسماعها، وقراءة كلام السلف وسماعه.
ومنهم من يكره قراءة القرآن وحفظه. والذين لا يقدرون على المنع من ذلك، صاروا يقرأون حروفه، ولا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله، بل إن اشتغلوا بعلومه اشتغلوا بتفسير من يشركهم في بدعتهم؛ ممّن يُحرّف(1) الكلم؛ كلم الله عن مواضعه. والأصل العقليّ الحسيّ الذي به فارقوا العقل والسمع، هو: حدوث ما يُشهد حدوثه؛ مثل حدوث الزرع، والثمار، وحدوث الإنسان، وغيره من الحيوان، وحدوث السحاب، والمطر، ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها، غير حدوث الأعراض؛ كالحركة، والحرارة، والبرودة، والضوء، والظلمة، وغير ذلك. بل تلك الأعيان التي يُسمّونها أجساماً وجواهر هي حادثة؛ فإنه معلوم أنّ الإنسان مخلوق من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة، وأنّ الثمار تُخلق من الأشجار، وأنّ الزرع تُخلق من الحبّ، والشجر تُخلق من النوى؛ قال
__________
(1) في ((م))، و((ط)): يُحرّفون.(22/58)
تعالى: {إِنَّ اللهَ فَاْلِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّىْ تُؤْفَكُوْنَ فَاْلِقُ الإِصْبَاْحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاْنَاً ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوْمَ لِتَهْتَدُوْا بِهَاْ فِيْ ظُلُمَاْتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاْحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَاْ الآيَاْتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُوْنَ وَهُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاْءِ مَاْءً فَأَخْرَجْنَاْ بِهِ نَبَاْتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَاْ مِنْهُ خَضِرَاً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاْكِبَاً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَاْ قِنْوَاْنٌ دَاْنِيَةٌ وَجَنَّاتِ مِنْ أَعْنَاْبِ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّاْنَ مُشْتَبِهَاً وَغَيْرَ مُتَشَاْبِهٍ أُنْظُرُوْا إِلَىْ ثَمَرِهِ إِذَاْ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِيْ ذَلِكم لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ}(1).
طريقة الجهمية في خلق الإنسان هي تركيب الجواهر لا إحداثها
__________
(1) سورة الأنعام، الآيات 95-99 .(22/59)
فهذا الإنسان، والشجر، والزرع المخلوق من مادّة قد خُلق منها عين قائمة بنفسها، [وهم يقولون: إنّما هي من](1) الجسم(2) القائم بنفسه، وهو الجوهر العامّ في اصطلاحهم، الذي يقولون إنّه مُركّبٌ من الجواهر المفردة(3). [وهل الذي خُلق من المادّة هو](4) أعيان، أم لم يخلق إلا أعراض قائمة بغيرها، وأمّا الأعيان فهي الجواهر المفردة، [وتلك لم يُخلق منها](5) شيء في هذه الحوادث، ولكن أُحدِث فيها جمعٌ وتفريقٌ؛ فكان خلقُ الإنسان وغيره هو تركيب تلك الجواهر، وإحداث هذا التركيب لا إحداث تلك الجواهر. وأمّا حدوث تلك الجواهر فإنّما يُعلم بالاستدلال، فيُستدلّ عليه بأنّ الجواهر التي تركّبت منها هذه الأجسام لا تخلو(6) من اجتماع وافتراق، والاجتماع والافتراق حادِث، وما لم يخلُ من الحوادِث فهو حادِث. فهذه طريق هؤلاء الجهميّة أهل الكلام المُحدَث.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)) : وهو الجسم. وما أُثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) وهذا أحد تعريفات الجوهر عند المتكلمين.
(4) ما بين المعقوفتين من ((م))، و ((ط)). وفي ((خ)) : [وهذه الأعيان خلقت من مادّة هي أعيان].
(5) في ((م))، و ((ط)): وتلك منها.
(6) في ((خ)): لا يخلوا. وما أُثبت من ((م))، و ((ط)) .(22/60)
وأما جمهور العقلاء فيقولون: بل نحن نعلم حدوث هذه الأعيان القائمة بنفسها، لا نقول أنّه لم يحدث(1) إلا عرض؛ فإنّ هذا القول يقتضي أنّ تلك الجواهر التي رُكّب منها آدم باقية لم يزل في كلّ آدميّ منها شيء. وهذا مكابرة؛ فإنّ بدن آدم لا يحتمل هذا كلّه، لا يحتمل أن يكون فيه جواهر بعدد ذريته، لا سيّما وكلّ آدميّ إنّما خُلق من مني أبويه. وهم يقولون: تلك الجواهر التي في مني الأبوين باقية بأعيانها في الولد. وهم يقولون: إنّ الجواهر لا تفنى، بل تنتقل من حال إلى حال. وكثير منهم يقول إنّها مستغنية عن الربّ بعد أن خلقها. وتحيّروا فيما إذا أراد أن يفنيها: كيف يفنيها؟ كما قد ذُكر في غير هذا الموضع(2)؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أنّ أصل الأصول معرفة حدوث الشيء من الشيء؛ كحدوث الإنسان من المني، فهؤلاء ظنّوا أنه لا يحدث إلا الأعراض(3) .
__________
(1) في ((ط)) فقط: لا محدث.
(2) وقد بسط شيخ الإسلام رحمه الله الكلام في ذلك في: مجموع الفتاوى 5/421-425، 17/242-260. ودرء تعارض العقل والنقل 3/83-86، 444-446. وشرح الأصفهانية 1/262. ومنهاج السنة النبوية 1/360، 2/139-141، 202، 5/443-444. ودرء تعارض العقل والنقل 1/122-124، 308، 5/195-203، 8/252. وبيان تلبيس الجهمية 1/178، 273 .
وذكر الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله في أثناء تحقيقه لكتاب منهاج السنة النبوية 2/141، حاشية رقم (4) أن لابن تيمية رحمه الله كتاباً اسمه: ((إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية))، ذكره ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ص 36، وابن قيم الجوزية في أسماء مؤلفات ابن تيمية ص 20. وهذا الكتاب من كتب شيخ الإسلام المفقودة .
(3) في ((خ)): عرض. وما أُثبت من ((م))، و ((ط)) .(22/61)
ولهذا لمّا ذكر أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في كتبه (الكبار والصغار) الطرقَ الدالّة على إثبات الصانع لم يذكر طريقاً صحيحاً، وليس في كتبه وكتب أمثاله طريق صحيح لإثبات الصانع، بل عدلوا عن الطرق العقليّة التي يعلمها العقلاء بفطرتهم؛ وهي التي دلّتهم عليها الرسل، إلى طرق سلكوها مخالفة للشرع والعقل، لا سيّما من سلك طريقة الوجوب والإمكان متابعة لابن سينا؛ كالرازي، فإنّ هؤلاء من أفسد النّاس استدلالاً كما قد ذكرنا طرق عامّة النّظّار في غير هذا الموضع؛ مثل كتاب منع تعارض العقل والنقل(1)، وغير ذلك(2).
طرق الرازي العقلية في إثبات الصانع
والمقصود هنا أنّ الرازي ذكر أنّ ما يُستدلّ به على إثبات الصانع(3)؛ إمّا حدوث الأجسام(4)
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/38-39، 96-97، 307-308، 3/73، 7/71، 141-142، 242، 382، 8/17-18، 93 ،، 9/132، 10/260 .
(2) انظر: من كتب شيخ الإسلام: الاستقامة 1/102. وكتاب الصفدية 2/41-55. ومنهاج السنة النبوية 1/309-310، 315. والفتاوى المصرية 6/644-645. وشرح حديث النزول ص 160-161. والفرقان بين الحق والباطل ص 47. ونقض تأسيس الجهمية 1/141-144، 257-258. والرسالة التدمرية ص 148. ومجموع الفتاوى 6/313، 330 ،، 12/44 .
(3) وهذه المسالك جميعها ذكرها الرازي مطوّلة في كتابه نهاية العقول - مخطوط - ق 58/أ 63/أ. وذكرها مختصرة في كتابه الأربعين ص 70. ومعالم أصول الدين - على هامش محصل أفكار المتقدمين - ص 26-29 .
(4) وهذه هي طريقة الأشعريّة، وعامة من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى؛ استدلّوا بقيام الأعراض بالأجسام على حدوثها - أي الأجسام - . وقد ذمّها الأشعريّ كما تقدّم لطولها وغموضها. وسيأتي بيان المصنّف لهذه الطريق، والقائلين بها قريباً .
وشيخ الإسلام قد ناقشها وبيّن بطلانها في الكثير من مصنفاته. انظر: شرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 260-261. ودرء تعارض العقل والنقل 1/96، 307-308، 3/72-87، 5/292-294، 7/229-232 .(22/62)
، وإما حدوث صفاتها(1)، وإمّا إمكانها(2)، وإمّا إمكان صفاتها(3)
__________
(1) كصيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً - في النهاية ، وتحوّل الطين إلى آجرّ، ولبن، ثمّ دار - في النهاية . وهذا التحوّل في صفات الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها .
وهذا المسلك ذكره الأشعريّ في كتابه: اللمع ص 6-7، ط مكارثي. وفي رسالة إلى أهل الثغر ص 34-40.
وشيخ الإسلام يرى أنّ هذا المسلك صحيح لو جُرّد من الأمور الباطلة التي أُدخلت فيه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83.
(2) أي الأجسام .
وهذا المسلك عمدة المتفلسفة؛ كابن سينا وأمثاله. انظر: النجاة لابن سينا ص 383. والرسالة العرشية له ص 2. والتعليقات للفارابي ص 37 .
وطريقتهم أنّ الوجود ينقسم إلى واجب وممكن. وكلّ ممكن فلا بُدّ له من واجب .
وهذه الطريقة قد نصّ على ضعفها شيخ الإسلام في العديد من مصنفاته. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/75، 138 ،، 5/293 ،، 7/230 ،، 8/125، 127. ومجموع الفتاوى 1/49. وشرح الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 141-145) .
(3) وهذا يُعرف بدليل الاختصاص. وقد بنوه على أنّ الأجسام متماثلة، وتخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصّص. وقالوا: لا يجوز أن يكون الله تعالى جسماً، ونفوا لأجل ذلك صفتَي العلو والاستواء. وهو مسلك بعض الأشعريّة. انظر: أصول الدين للبغدادي ص69. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 105، 245.
وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله فساد هذه الطريقة في مواضع عديدة من تصانيفه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/192-203 ،، 7/112-114، 10/312-316. ونقض تأسيس الجهمية 1/183).
وانظر: لهذه الطرق عند الرازي: مجموع الفتاوى 17/246. وشرح الأصفهانية 1/260. ودرء تعارض العقل والنقل 1/307 .(22/63)
، وذكر في بعض المواضع: وإمّا الإحكام والإتقان(1)، لكن الإحكام والإتقان يدلّ(2) على العلم ابتداءً، والاستدلال بحدوث الأجسام، وإمكانها، وإمكان صفاتها طرق فاسدة؛ فإنّ [دلالة](3) حدوثها مبنيّة(4) على امتناع حوادث لا أول لها؛ و [دلالة](5) إمكانها مبنية(6) على أنّ ما قامت به الصفات يمتنع أن يكون واجباً بنفسه؛ لأنّه مُركّب؛ و[دلالة](7) إمكان صفاتها مبنيّة(8) على تماثلها، فلا بُدّ لتخصيص(9) بعضها بالصفات من مُخصّص. وهذه كلها طرق باطلة .
قال(10)
__________
(1) وهذا المسلك أورده شيخ الإسلام، وبيّن ما فيه من حق وما أدخل سالكوه فيه من باطل. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/128-137 .
(2) في ((خ)) : تدلّ. وما أُثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)) .
(4) في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م))، و ((ط)) .
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و((ط)) .
(6) في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبته من ((م))، و ((ط)) .
(7) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)) .
(8) في ((خ)) : مبنيّ. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(9) كذا في ((خ))، و ((م)). وفي ((ط)): للتخصيص .
(10) القائل هو الباقلاني الذي قصد شيخ الإسلام رحمه الله بتأليفه لكتابه ((النبوات)) الردّ عليه .
وهذه المقولة ليست في كتاب ((البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات)) له، بل هي في كتابه: ((شرح اللمع)) وهو غير موجود. وقد نقل عنه شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع متفرقة من درء تعارض العقل والنقل .(22/64)
: وأمّا الاستدلال بحدوث الصفات، فهو الاستدلال بحدوث الأعراض(1) .
__________
(1) تقدّم أنّ من الأمثلة على حدوث الصفات: صيرورة النطفة علقة، ثمّ مضغة، ثمّ إنساناً. أو: تحوّل القطن إلى غزل مفتول، ثمّ ثوب. أو تحوّل الطين إلى آجر ولبن، ثمّ إلى دار. وهذا التحوّل في هذه الأجسام يدلّ على أنّ لها فاعلاً فعلها. وكذا النطفة: لا بُدّ لها من صانع صنعها، وهو الله تعالى .
وهذا الدليل ذكره الأشعريّ في كتابه: ((اللمع)) ص 6-7 - ط مكارثي .
ثمّ جاء بعده الباقلاني، وشرح كتابه: ((اللمع))، وحاول أن يُفسّر أقوال الأشعريّ في هذه المسألة ليُقرّب مذهبه؛ فذكر أنّ الأشعريّ أراد تعميم النطفة، لتشمل سائر الأعراض، كما حاول الباقلاني أن يُدلّل على أنّ مسألة (المحدَث لا بُدّ له من محدِث) مسألة نظرية تحتاج إلى برهان. بينما لم يتعرّض الأشعريّ لهذه المسألة لاعتقاده أنها بدهيّة، لا نظريّة.
وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النَّفَسَ في مناقشة الباقلاني في هذه القضيّة في درء تعارض العقل والنقل 7/304-307، 8/70-88، 106، 300-343 . وخلص إلى أنّ ما قرّره الأشعريّ في ((اللمع)) خير ممّا قاله الباقلاني في شرحه لهذا الكتاب .(22/65)
وهذه الطريق(1) أجود ما سلكوه من الطرق مع أنها قاصرة؛ فإنّ مدارها على أنهم لم يعرفوا حدوث شيء من الأعيان، وإنّما علموا حدوث بعض الصفات. وهذا يدلّ على أنّه لا بُدّ لها من محدث(2).
قال(3): وهذا لا ينفي كون المحدَث جسماً، بخلاف تلك الطرق(4).
وهذه الطريق تدلّ على أنّ الأعراض؛ كتركيب الإنسان لا بُدّ له من مُركّب، ولا ينفي بها شيء من قدم الأجسام والجواهر، بل يجوز أن يكون جميع جواهر الإنسان وغيره قديمة أزليّة، لكن حدثت(5) فيها الأعراض. ويجوز أن يكون المحدث للأعراض بعض أجسام العالم .
فهذه الطريق لا تنفي أن يكون الربّ بعض أجسام العالم.
__________
(1) أي: الاستدلال بحدوث الصفات .
(2) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر - أنّ طريقة القرآن هي الاستدلال بحدوث الأعيان والمخلوقات ذاتها؛ من إنسان، وحيوان، وغير ذلك، لا بحدوث الصفات؛ يقول رحمه الله: (الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدلّ به على المحدث، لا يحتاج أن يُستدلّ على حدوثه بمقارنة التغيّر أو الحوادث له ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بيِّن. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني؛ كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَاْلِقُوْنَ} [الطور 35]، فنفس حدوث الحيوان، والنبات، والمعدن، والمطر، والسحاب، ونحو ذلك معلومٌ بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنّما يُعلم بالدليل ما لم يُعلم بالحسّ وبالضرورة). درء تعارض العقل والنقل 7/219. وانظر: شرح الأصفهانية - ت السعوي - 1/40-41.
(3) أي: الباقلاني .
(4) كأنّ الباقلاني يرى أنّ هذه الطريق أدلّ على مذهبه - في نفي الصفات خشية التجسيم - من سائر الطرق الأخرى .
(5) في ((خ)): حديث. وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .(22/66)
وتلك باطلة، مع أنّ مضمونها أنّ الربّ لا يتصف بشيء من الصفات، فهي لا تدلّ على صانع، وإن دلّت على صانع، فليس بموجود، بل معدوم، أو متصف بالوجود والعدم؛ كما قد بُسط في غير موضع(1) .
ولهذا يقول الرازي في آخر مصنّفاته(2)
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/83 ،، 7/219، 224-232، 300، 304-307 ،، 8/70-88، 100، 106، 300-343. وشرح العقيدة الأصفهانيّة - ت السعوي - ص 261-262. ومجموع الفتاوى 17/267-270 .
(2) في كتاب ((أقسام اللذات)).
وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله بذكر اسمه بقوله: وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبد الله الرازي في كتابه أقسام اللذات لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أعرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات والصفات والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عقدة: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد ؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا ؟ وهل الفعل مقارن أم محدث ؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب !". بيان تلبيس الجهمية 1/128-129 .
وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله عن هذا الكتاب: (وهو كتاب مفيد، صنّفه في آخر عمره). اجتماع الجيوش الإسلامية ص 121 .(22/67)
: لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}(1)، {الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعرْشِ استَوَىْ}(2)، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ}(3)، {وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً}(4). قال: ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي(5) .
ولما ذكر الرازي الاستدلال بحدث الصفات(6)؛ كالحيوان، والنبات، والمطر، ذكر أنّ هذه طريقة القرآن(7) .
__________
(1) سورة فاطر، الآية 10 .
(2) سورة طه، الآية 5 .
(3) سورة الشورى، الآية 11 .
(4) سورة طه، الآية 110 .
(5) نقل شيخ الإسلام رحمه الله كلام الرازي هذا في الكثير من مصنفاته. انظر: مجموع الفتاوى 4/72-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1/159-160. وشرح حديث النزول ص 441. والفتوى الحموية ص15. ومنهاج السنة النبوية 5/271-272. ونقض المنطق ص 60-61. ومعارج الوصول ص 20. والفرقان بين الحق والباطل ص 84. وبيان تلبيس الجهمية 1/128-129.
(6) تقدّم ص 351 - 352 أنّ الرازي ذكرها مطوّلة في كتابه نهاية العقول، ومختصرة في كتابه الأربعين .
(7) انظر: نهاية العقول للرازي - مخطوط - ق 58/ب .(22/68)
ولا ريب أنّ القرآن يُذكر فيه الاستدلال بآيات الله؛ كقوله:{إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ وَمَاْ اَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ وَبَثَّ فِيْهَاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّةٍ وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ}(1). وهذا مذكورٌ بعد قوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْم}(2)، وقبل قوله:{وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}(3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 164 .
(2) سورة البقرة، الآية 163 .
(3) سورة البقرة، الآية 165 .(22/69)
لكن القرآن لم يذكر أنّ هذه صفات حادثة، وأنّه ليس فيها إحداثُ عين قائمة بنفسها ، بل القرآن يُبيِّن أنّ في خلق الأعيان القائمة بنفسها آيات، ويذكر الآيات في خلق الأعيان والأعراض؛ كقوله: {إِنَّ فِيْ خَلْقِ السَّمَوَاْتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَاْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَاْ يَنْفَعُ النَّاْسَ}(1)، وهي أعيان. ثمّ قال :[ {وَمَاْ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاْءِ مِنْ مَاْءٍ}، والماء عينٌ قائمةٌ بنفسها. وقوله:](2) {فَأَحْيَاْ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاْ}(3)؛ هو ما يخلقه فيها من النبات، وهو أعيان. وكذلك قوله:{ وَبَثَّ فِيْهاْ مِنْ كُلِّ دَاْبَّة}، وقوله: {وَتَصْرِيْفِ الرِّيَاْحِ}؛ فالرياح أعيان، وتصريفها أعراض. وقوله:{وَالسَّحَاْبِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاْءِ وَالأَرْضِ}، والسحاب أعيان. {لآيَاْتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ}(4) .
وقد تقدّم(5) أنّ أصل الاشتباه في هذا أنّ خلقَ الشيء من مادّة، هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع [و](6) افتراق وأعراض فقط.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 164 .
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)) .
(3) سورة البقرة، الآية 164 .
(4) سورة البقرة، الآية 164 .
(5) انظر: ما تقدم ص 345-351، وما سيأتي ص 1340-1349 من هذا الكتاب .
(6) ليست في ((خ)). وأثبتها من ((م))، و ((ط)).(22/70)
اختلاف الناس في خلق الشيء هل هو خلق عين، أم إحداث اجتماع وافتراق على ثلاثة أقوال
والناس مختلفون في هذا على ثلاثة أقوال(1): فالقائلون بالجواهر المفردة(2) من أهل الكلام القائلون بأنّ الأجسام مُركّبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر إلى حدّ لا يتميّز منها جانب عن جانب يقولون: تلك الجواهر باقية تنقّلت في الحوادث، ولكن تعتقب عليها الأعراض الحادثة. والاستدلال بالأعراض على حدوث ما يلزمه من الجواهر، ثمّ الاستدلال بذلك على المحدِث، غير الاستدلال بحدوث هذه الأعراض على المحدِث لها؛ فتلك(3) هي طريقة الجهميّة المشهورة، وهي التي سلكها الأشعريّ في كتبه كلها متابعة للمعتزلة(4)، ولهذا قيل: الأشعريّة مخانيث المعتزلة(5).
__________
(1) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله اختلاف الناس وأقوالهم في هذه المسألة.. انظر: منهاج السنة النبوية 2140-142. ومجموع الفتاوى 17243-245. ودرء تعارض العقل والنقل 383-86.
(2) تقدم تعريف الجوهر الفرد ص 345.
(3) أي الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر والأجسام، ثمّ الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام على أنّ لها محدِثاً. هذه هي طريقة الجهميّة، ومن تابعهم.
(4) انظر: اللمع ص 7، 22 - ط مكارثي -. ورسالة إلى أهل الثغر ص 218-219. والإبانة - ت فوقية - ص 67، 80-81، 102.
(5) هذه العبارة يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً بقوله: قيل. وقد نسبها في الفتاوى 8227 لأبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله، أنّه قال: "الأشعريّة الإناث، هم مخانيث المعتزلة". وأحياناً يذكر رحمه الله هذه العبارة بقوله: "فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهميّة".
وأمّا الكلابيّة: فيُثبتون الصفات في الجملة، وكذلك الأشعريّون، ولكنّهم كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري: "الأشعريّة الإناث، وهم مخانيث المعتزلة". انظر: مجموع الفتاوى 14348-349.
أو يذكرها بقوله: "كما قيل: المعتزلة مخانيث الفلاسفة". انظر: مجموع الفتاوى 1231.(23/1)
وأما الاستدلال بالحوادث على المحدِث، فهي الطريقة المعروفة لكل أحد(1)، لكن تسمية هذه أعراضاً هو تسمية القائلين بالجوهر الفرد(2)، مع أنّ الرازي توقّف في آخر أمره فيه؛ كما ذَكَرَ ذلك في نهاية العقول(3). وذُكِر أيضاً عن أبي الحسين البصري(4)، وأبي المعالي(5) أنّهما توقّفا فيه(6).
والمقصود أنّ القائلين بالجوهر الفرد يقولون: إنّما أحدث أعراضاً لجمع الجواهر وتفريقها. فالمادّة(7)
__________
(1) وهذه طريقة شرعيّة عقليّة؛ فالقرآن مليء بالآيات التي تحثّ على التفكّر والتدبّر في خلق الله للاستدلال به على الخالق. وهو أمرٌ معلوم بضرورة العقل. انظر: مجموع الفتاوى 1425. والرسالة التدمرية ص 20. ومنهاج السنة النبوية 329-30.
(2) وهم متأخّروا المعتزلة والأشعريّة. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص 328. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص165. والصحائف الإلهية للسمرقندي ص255.
(3) انظر: نهاية العقول - مخطوط - ق 67أ.
(4) هو أبو الحسين؛ محمد بن علي الطيب البصري. ولد في البصرة، ودرس في بغداد على القاضي عبدالجبار. من متأخري المعتزلة، ومن أئمتهم. وقال عنه ابن حجر: "شيخ المعتزلة، ليس بأهل للرواية". مات سنة 436ه. انظر: لسان الميزان 5598. وشذرات الذهب 359.
(5) الجويني.
(6) بل إنّ أكثر طوائف أهل الكلام لم يتكلّموا به. انظر: من كتب ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 4135-136. والرد على المنطقيين ص 67. ومجموع الفتاوى 12318. ومنهاج السنة النبوية 2211. وتفسير سورة الإخلاص ص 86.
(7) المادّة تُسمّى عند المتفلسفة: هيولى. وهي أحد جُزأي الجسم، والجزء الآخر هو الصورة. وكلّ جزء من هذا الجسم محلّه الجزء الآخر. فالصورة صورة للمادة؛ أي أنّها تحلّ بها. والمادّة محلّ للصورة. انظر: التعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. والمبين في ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110.
يقول شيخ الإسلام: "التحقيق أنّ المادّة والصورة لفظ يقع على معان؛ كالمادّة والصورة الصناعيّة، والطبيعيّة، والكليّة، والأوليّة. فالأوّل: مثل الفضة إذا جعلت درهماً وخاتماً وسبيكةً، والخشب إذا جُعل كرسيّاً، واللبِن والحجر إذا جعل بيتاً، والغزل إذا نُسج ثوباً، ونحو ذلك. فلا ريب أنّ المادّة هنا التي يُسمّونها الهيولى هي أجسام قائمة بنفسها، وأنّ الصورة أعراض قائمة بها، فتحوُّل الفضة من صورة إلى صورة هو تحوُّلها من شكل إلى شكل، مع أنّ حقيقتها لم تتغيّر أصلاً". درء تعارض العقل والنقل 384.(23/2)
التي هي الجواهر المنفردة باقية عندهم بأعيانها، ولكن أحدث صوراً هي أعراض قائمة بهذه الجواهر(1).
قول الفلاسفة
وأمّا المتفلسفة فيقولون: أحدث صوراً في موادّ باقية كما يقول هؤلاء، لكن [يقولون](2): أحدث صوراً هي جواهر في مادّة هي جوهر، وعندهم ثمّ مادّة باقية بعينها، والصور الجوهرية؛ كصورة الماء، والهواء، والتراب، والمولّدات تعتقب عليها(3).
أقسام الموجودات عند الفلاسفة
وهذه المادة - عندهم(4) - جوهر عقليّ، وكذلك الصورة المجرّدة جوهر عقليّ(5)، ولكن الجسم مُركّب من المادّة والصورة(6)، ولهذا قسّموا الموجودات، فقالوا: إما أن يكون الموجود حالا [بغيره](7)، أو محلا، أو مركبا من الحال، والمحل، [أو] (8) لا هذا ولا هذا. فالحال في غيره هو الصورة، والمحلّ هو المادّة، والمركّب منهما هو الجسم، وما ليس كذلك؛ إن كان متعلّقاً بالجسم، فهو النفس، وإلا فهو العقل(9).
__________
(1) انظر: منهاج السنة النبوية 2139-140.
(2) ملحقة بهامش ((خ)).
(3) انظر منهاج السنة النبوية 1360.
(4) أي عند الفلاسفة.
(5) انظر كتاب الشفا لابن سينا 361.
(6) انظر تهافت الفلاسفة للغزالي ص 163.
(7) في ((خ)): لغيره. وما أثبت من ((م)) و ((ط)).
(8) ليست في ((خ)) وهي في ((م)) و ((ط)).
(9) انظر: كتاب الشفا لابن سينا 372. والتعليقات للفارابي ص 41، 43، 60. وتهافت الفلاسفة للغزالي ص 163. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 110. والتعريفات للجرجاني ص 135، 136، 257.(23/3)
وهذا التقسيم فيه خطأ كثير من وجوه، ليس هذا موضعها(1)؛ إذ المقصود أنّهم يقولون أيضاً أنّه لم يُحدِث جسماً قائماً بنفسه، بل إنما أحدث صورة في مادّة باقية(2).
ولا ريب أنّ الأجسام بينها قدر مشترك في الطول والعرض والعمق، وهو المقدار المجرّد الذي لا يختصّ بجسم بعينه(3)، ولكنّ هذا المقدار المجرّد هو في الذهن، لا في الخارج؛ كالعدد المجرّد، والسطح المجرّد، والنقطة المجرّدة، وكالجسم التعليميّ(4)
__________
(1) وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله خطأ هذا التقسيم في مواضع متعدّدة من كتبه. انظر: منهاج السنة النبوية 2211. ودرء تعارض العقل والنقل 4146. وبغية المرتاد ص 416. والرد على المنطقيين ص 67. وكتاب الصفدية 2229.
(2) راجع المصادر المتقدّمة في هامش (6) من الصفحة السابقة.
(3) فكلّ جسم له طول، وعرض، وعمق. ولكن هذه الأبعاد لا تُسمّى تركيباً. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا سمّى مسمّ هذه مركّباً كان إما غالطاً في عقله؛ لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين؛ وجودها، وحقيقتها المغايرة لوجودها. أو على حقيقتين؛ ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها، وصفات زائدة عليها قائمة بها. أو على جواهر منفردة، أو معقولة، أو نحو ذلك من الأمور التي يُثبتها طائفة من الناس ويُسمّونها تركيباً". انظر: درء تعارض العقل والنقل5146.
(4) الجسم التعليمي: هو الذي يقبل الإنقسام طولاً وعرضاً وعمقاً، ونهايته السطح، وهو نهاية الجسم الطبيعيّ. ويُسمّى جسماً تعليمياً إذ يُبحث عنه في العلوم التعليميّة؛ أي الرياضيّة الباحثة عن أحوال الكمّ المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة؛ فإنهم كانوا يبتدؤون بها في تعاليمهم ورياضتهم لنفوس الصبيان لأنها أسهل إدراكاً. انظر: التعريفات للجرجاني ص 76.
وانظر: زيادة إيضاح حول هذا الموضوع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح 4307. وفي درء تعارض العقل والنقل 10290.(23/4)
؛ وهو الطويل العريض العميق الذي لا يختصّ بمادّة بعينها(1).
فهذه المادة المشتركة التي أثبتوها هي في الذهن، وليس بين الجسمين في الخارج شيء اشتركا فيه بعينه، فهؤلاء جعلوا الأجسام مشتركة في جوهر عقليّ، وأولئك جعلوها مشتركة في الجواهر الحسيّة. وهؤلاء قالوا: إذا خلق كلّ شيء من شيء، فإنّما أُحدِثت صورة، مع أنّ المادّة باقية بعينها، لكن أفسدت صورة، وكونت صورة. ولهذا يقولون عن ما تحت الفلك: عالم الكون والفساد(2).
ولهذا قال ابن رشد(3): "إنّ الأجسام المركبة من المادة والصورة هي في عالم الكون والفساد، بخلاف الفَلَك؛ فإنه ليس مركباً من مادة وصورة عند الفلاسفة".
حيرة المتكلمين والفلاسفة في خلق الشيء من مادة
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر - عن لفظ الجسم: "... وكذلك النظار، يُريدون بلفظ الجسم تارة المقدار، وقد يُسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر، وهو الجسمي الطبيعي والمقدار المجرد عن المقدار، كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان، وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن...". مجموع الفتاوى 12316-317.
(2) انظر: الإرشاد للجويني ص 25، وقد أشار إلى هذا القول للفلاسفة.
(3) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف. ولد سنة 520ه. من أهل قرطبة. وهو المعروف بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جدّه شيخ المالكية. عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات. قرّبه المنصور أولاً، ثمّ اتهمه خصومه بالزندقة والإلحاد، فنفاه إلى مراكش وأحرق بعض كتبه، ثمّ رضي عنه، وأذن له بالعودة، فعاجلته الوفاة بمراكش سنة 595ه. من مصنفاته: تهافت التهافت، ومناهج الأدلة. انظر: شذرات الذهب 4320. والأعلام 5318. وسير أعلام النبلاء 21307.(23/5)
قال(1): وإنّما ذكر أنه مركّب من هذا، وهذا: ابن سينا(2).
[وهؤلاء، وهؤلاء](3) تحيّروا في خلق الشيء من مادة؛ كخلق الإنسان من النطفة، والحب من الحب، والشجرة من النواة، وظنّوا أنّ هذا لا يكون إلا مع بقاء أصل تلك المادّة؛ إمّا الجواهر عند قوم(4)، وإمّا المادّة المشتركة عند قوم(5). وهم في الحقيقة يُنكرون أن يخلق الله شيئاً من شيء؛ فإنّه عندهم لم يُحدِث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم، أو جوهر عقليّ عند قوم. وكلاهما لم يخلق من مادّة، والمادّة عندهم باقية بعينها، لم يخلق، و[لن](6) يخلق منها شيء.
وقد ذكروا في قوله: {أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}(7) ثلاثة أمور:
قال ابن عباس والأكثرون: أم خُلقوا من غير خالق، وهو الذي ذكره(8) الخطابي(9).
__________
(1) أي ابن رشد.
(2) تقدمت ترجمته.
(3) كذا وردت في ((خ)) مكرّرة. ولا يوجد التكرار في النسختين الأخريين.
(4) وهم المتكلمون. انظر: شرح الأصفهانية 1262. ومجموع الفتاوى 5424-425.
(5) وهم الفلاسفة. انظر: منهاج السنة النبوية 1360. وشرح الأصفهانية 1262.
(6) في ((خ)): لم. وما أثبته من ((م))، و ((ط)).
(7) سورة الطور، الآية 35.
(8) في ((خ)): ذكر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(9) هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، أبو سليمان. فقيه، مُحدِّث، من أهل بست من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب. له معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، والغنية عن الكلام وأهله. توفي في بست سنة 388 ه. انظر: شذرات الذهب 2127. والبداية والنهاية 11346. والأعلام 2273.(23/6)
وقال الزجاج(1)، وابن كيسان(2): "أم خلقوا عبثاً وسُدى، فلا يُبعثون، ولا يُحاسبون، ولا يؤمرون، ولا يُنهون؛ كما يقولون: فعلتُ هذا من غير شيء؛ أي: لغير علّة"(3).
وقيل: أم خُلقوا من غير مادّة؛ أي: من غير أب وأمّ. ثمّ من هؤلاء من قال: فهم كالجماد. ومنهم من قال: كالسموات؛ ظنّاً منه أنّها خُلقت من غير مادّة. ذكر الأربعة أبو الفرج(4)(5).
وذكر البغوي(6) الوجهين الأولين(7).
قول الفلاسفة في المادة
__________
(1) هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج. كان فاضلاً ديناً حسن الاعتقاد. وله المصنفات الحسنة، منها كتاب معاني القرآن. مات سنة 311 ه. انظر: البداية والنهاية 11159. وتاريخ بغداد 689.
(2) هو محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، أحد حفاظه والمكثرين منه. كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معاً. قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين؛ المبرد وثعلب. توفي سنة 299 ه. انظر: البداية والنهاية 11125. وسير أعلام النبلاء 16329؛ وقد ترجم لولديه، ولم يفرده بترجمة.
(3) انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 565.
(4) هو عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي البكري الحنبلي. ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق. قال عنه الذهبي: "الإمام، العلامة، الحافظ، عالم العراق، وواعظ الآفاق". توفي سنة 595 ه. انظر: تذكرة الحفاظ 41342. وسير أعلام النبلاء 21365. وذيل طبقات الحنابلة 1399. وشذرات الذهب 4239.
(5) زاد المسير لابن الجوزي 855-56.
(6) هو الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، صاحب التفسير، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه. قال عنه الذهبي: الإمام الحافظ الفقيه المجتهد محيي السنة". وقال عنه ابن كثير: "وكان علامة زمانه فيها، وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً". توفي سنة 516 ه. انظر: تذكرة الحفاظ 41257. والبداية والنهاية 12206. وشذرات الذهب 448.
(7) انظر: تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل 4241.(23/7)
والذي ذكرناه من قول أولئك المتكلمين والفلاسفة معنى آخر؛ وهو: أنّ من قال المادّة باقية بعينها، وإنما حدث عرض، أو صورة، وذلك لم يُخلق من غيره، ولكن أُحدِث في المادّة الباقية. فلا يكون الله خلق شيئاً من شيء؛ لأنّ المادّة عندهم لم تُخلق. أمّا المتفلسفة: فعندهم المادّة قديمة أزليّة باقية بعينها.
قول المتكلمين في الجواهر
وأمّا المتكلّمون: فالجواهر عندهم موجودة، ما زالت موجودة، لكن من قال إنّها حادثة من أهل الملل وغيرهم قالوا: يُستدلّ على حدوثها بالدليل، لا أنّ خلقها معلوم للناس؛ فهو عندهم ممّا يُستدلّ عليه بالأدلة الدقيقة الخفيّة، مع أنّ ما يذكرونه منتهاه إلى أنّ ما لا يخلو عن الحوادِث فهو حادث. وهو دليل باطل. فلا دليل عندهم على حدوثها. وإذا كانت لم تُخلق إذ خُلق الإنسان، بل هي باقية في الإنسان، والأعراض الحادثة لم تخلق من مادّة، فإذا خلق الإنسان لم [يُخلق](1) من شيء؛ لا جواهره، ولا أعراضه. وعلى قولهم، ما جعل الله من الماء كلّ شيء حيّ، ولا خلق كلّ دابّة من ماء، ولا خلق آدم من تراب، ولا ذريّته من نطفة، بل نفس الجواهر الترابيّة باقية بعينها لم تخلق حينئذ، ولكن أُحدث فيها أعراض، أو صورة حادثة، وتلك الأعراض ليست من التراب. فلمّا خُلق آدم، لم يُخلق شيءٌ من تراب، وكذلك النطفة جواهرها باقية؛ إمّا الجواهر المنفردة، وإمّا المادّة. والحادث هو عرض، أو صورة في مادّة. ولا هذا، ولا هذا خلق من نطفة. وليس قولهم أنّه لم يُخلق من مادّة، معناه أنّ الخالق أبدعه لا من شيء، وأنّهم قصدوا بها تعظيم الخالق، بل الإنسان لا ريب أنّه جوهر قائم بنفسه. وعندهم ذلك القائم بنفسه ما زال موجوداً، لم يخلق إذ خلق الإنسان. والجوهر الحامل لصورته ما زال موجوداً أيضاً؛ فلم يخلق عند [هؤلاء(2) إلا الأعراض](3)، وعند هؤلاء(4)
__________
(1) في ((ط)) فقط: يخل.
(2) أي المتكلمون.
(3) في ((خ)): هؤلاء الأعراض. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) أي الفلاسفة.(23/8)
إلا صورة مجرّدة.
المخلوق عند المتكلمين والفلاسفة
وكلاهما ليس هو الإنسان، بل صفة له، أو صورة له. هذا هو المخلوق(1) عندهم؛ يُخلق الإنسان فقط.
وقد قال تعالى: {أَوَلا يَذْكرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً}(2)، وقال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً}(3). فقد أمر الإنسان أن يتذكّر أنّ الله خلقه ولم يكُ شيئاً. والإنسان إذا تذكرّ إنّما يذكر أنّه خلق من نطفة.
الجواهر والأعراض عند المتكلمين
وعندهم ما زال جواهر الإنسان شيئاً، وذلك الشيء باق، وإنّما حدث أعراض لتلك الأشياء. ومعلوم أنّ تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان؛ فإنّ الإنسان مأمورٌ، منهيّ، حيّ، عليم، قدير، متكلّم، سميع، بصير، موصوفٌ بالحركة والسكون. وهذه صفات الجواهر، والعرض لا يُوصف بشيء؛ لا سيّما وهم يقولون: العرض لا يبقى زمانين(4). فالمخلوق - على قولهم - لا يبقى زمانين، بل يفنى عقِب ما يُخلق.
اضطرابهم في البعث
ولهذا اضطربوا في المعاد؛ فإنّ معرفة المعاد مبنيّة على معرفة المبدأ، والبعث مبنيّ على الخلق. فقال بعضهم: هو تفريق تلك الأجزاء، ثمّ جمعها، وهي باقية بأعيانها. وقال بعضهم: بل يُعدمها، ويُعدم الأعراض القائمة بها، ثمّ يُعيدها، وإذا أعادها فإنّه يُعيد تلك الجواهر التي كانت باقية، إلى أن حصلت في هذا الإنسان.
اضطرابهم في جواهر المأكول إذا أُعيدت من الآكل
__________
(1) كذا في ((خ))، و ((م))، و ((ط)). وفي حاشية ((خ)) كُتب: لعله المراد.
(2) سورة مريم، الآية 67.
(3) سورة مريم، الآية 9.
(4) تقدّمت مقولتهم هذه ص 310.(23/9)
فلهذا اضطربوا لما قيل لهم: فالإنسان إذا أكله حيوان آخر، فإن أُعيدت تلك الجواهر من الأول، نقصت من الثاني، وبالعكس. أما على قول من يقول إنّها تُفرّق ثمّ تجمع، فقيل له: تلك الجواهر إن جمعت للآكل، نقصت من المأكول، وإن [أُعيدت](1) للمأكول، نقصت من الآكل(2).
وأما الذي يقول: تُعدم ثمّ تُعاد بأعيانها، فقيل له: أتُعدم لما أكلها الآكل، أم قبل أن يأكلها ؟ فإن كان بعد أن أكلها؛ فإنّها تُعاد في الآكل، فينقص المأكول. وإن كان قبل الأكل، فالآكل لم يأكل إلا أعراضاً، لم يأكل جواهر. [فهذا](3) مكابرة. ثمّ إنّ المشهور أنّ الإنسان يبلى ويصير تراباً كما خُلق من تراب، وبذلك أخبر الله. فإن قيل: إنّه إذا صار تراباً عُدمت تلك الجواهر؛ فهو لما خُلق من تراب عُدمت أيضاً تلك الجواهر. فكونهم يجعلون الجواهر باقية في جميع الاستحالات - إلا إذا صار تراباً - تناقضٌ بيِّن، ويلزمهم عليه الحيوان المأكول، وغير ذلك.
وكأنّ هذا الضلال [أصل](4) ضلالهم في تصوّر الخلق الأوّل، والنشأة الأولى التي أمرهم الرب أن يتذكروها ويستدلوا بها على قدرته على الثانية(5). قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَاْ تُمْنُوْنَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُوْنَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَاْلِقُوْن نَحْنُ قَدَّرْنَاْ بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَاْ نَحْنُ بِمَسْبُوْقِيْنَ عَلَىْ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَاْلَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِيْمَاْ لا تَعْلَمُوْنَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُوْلَىْ فَلَوْلا تَذْكُرُوْنَ}(6).
__________
(1) في ((ط)): أعقيدت. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(2) وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في مواضع أخرى. انظر: مجموع الفتاوى 17247، 257. وانظر: هذه المسألة في شرح الطحاوية ص 523. وفي لوامع الأنوار 2160.
(3) في ((خ)): وهذا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): أصله. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) أي النشأة الثانية.
(6) سورة الواقعة، الآيات 58-62.(23/10)
والفلاسفة أجود تصوّراً في هذا الموضع؛ حيث قالوا: تفسد الصورة الأولى وهي جوهر، وتحدث صورة أخرى. فإنّ هذا أجود من أن يُقال: يزول عرض ويحدث عرض.
ولكنّ الفلاسفة غلطوا في توهمهم أنّ هناك مادة باقية بعينها، وإنما تفسد صورتها.
التحقيق في مسألة المادة
والحقّ أنّ المادّة التي منها يُخلق الثاني تفسد، وتستحيل، وتتلاشى، ويُنشئ الله الثانيَ ويبتديه، ويخلق(1) من غير أن يبقى من الأول شيء؛ لا مادة، ولا صورة، ولا جوهر، ولا عرض. فإذا خلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقةً، والعلقة استحالت وصارت مضغةً، والمضغة استحالت إلى عظام وغير عظام. والإنسان بعد أن خُلق، خُلق كلّه؛ جواهره وأعراضه، وابتدأه الله ابتداءً؛ كما قال تعالى:{الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَاْنِ مِنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاْءٍ مَهِيْنٍ}(2)، وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَاْنُ أَنَّاْ خَلَقْنَاْهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئَاً}(3).
فالإنسان مخلوق، خلق الله جواهره وأعراضه كلّها من المني؛ من مادّة استحالت، ليست باقية بعد خلقه؛ كما تقول المتفلسفة أنّ هناك مادّة باقية(4).
ولفظ المادّة مشترك:
فالجمهور يُريدون به ما منه خُلق، وهو أصله وعنصره.
__________
(1) في ((خ)): يخلقه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) سورة السجدة، الآيتان 7-8.
(3) سورة مريم، الآية 67.
(4) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308،، 5195-203. ومنهاج السنة النبوية 2140.(23/11)
وهؤلاء يُريدون بالمادّة جوهر باق، وهو محلّ للصورة الجوهرية. فلم يُخلق عندهم الإنسان من مادّة، بل المادّة باقية، وأحدث(1) صورته فيها؛ كما أنّ الصور الصناعيّة؛ كصورة الخاتم، والسرير، والثياب، والبيوت، وغير ذلك إنّما أحدث الصانع صورته العرضيّة في مادّة لم تزل موجودة ولم تفسد، ولكن حُوِّلَت من صفة إلى صفة. فهكذا تقول الجهميّة المتكلّمة المبتدعة أنّ الله أحدث صورة عرضيّة في مادّة باقية لم تفسد؛ فيجعلون خلق الإنسان بمنزلة عمل الخاتم، والسرير، والثوب.
والمتفلسفة تقول أيضاً: إنّ مادّته باقية لم تفسد؛ كمادّة الصورة الصناعيّة، لكن يقولون: إنّه أحدث صورة جوهريّة. وهم قد يخلطون ولا يفرقون بين الصور العرضيّة والجوهريّة؛ فإنّهم يُسمّون صورة الإنسان صورةً في مادّة، وصورة الخاتم صورةً في مادّة؛ فيكون خلق الإنسان عند هؤلاء وهؤلاء من جنس ما يُحدِثه الناس في الصور من الموادّ، ويكون خلقه بمنزلة تركيب الحائط من اللَّبِن. ولهذا قال من قال منهم: إنّه يستغني عن الخالق بعد الخلق، كما يستغني الحائط عن البَنَّاء.
والأشعريّة عندهم أنّ البَنَّاءَ، والخيَّاط، وسائر أهل الصنائع لم يُحدِثوا في تلك الموادّ شيئاً؛ فإنّ القدرة المُحدثة - عندهم - لا تتعلّق إلا بما هو في محلّها، لا خارجاً عن محلّها. ويقولون: إنّ تلك المصنوعات كلّها مخلوقة لله، ليس للإنسان فيها صنع.
وخَلْقُ اللهِ على أصلهم: هو إحداث أعراض فيها كما تقدّم(2).
فيُنكرون ما يصنعه الإنسان، وهو في الحقيقة مثلما يجعلونه [مخلوقاً](3) للرحمن، وهم لا يشهدون للرحمن إحداثاً ولا إفناءً، بل إنما يحدث عندهم الأعراض، وهي تفنى بأنفسها، لا بإفنائه، وهي تفنى عقب إحداثها.
إفناء الأعراض والجواهر عند المتكلمين
__________
(1) في ((خ)): وأحدثت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) انظر: ص 361-367 من هذا الكتاب.
(3) في ((خ)): مخلوقة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(23/12)
وهذا لا يُعقل، وهم حائرون؛ إذا أراد أن يُعدم الأجسام، كيف يُعدمها؟. والمشهور - عندهم - أنّها تعدم بأنفسها إذا لم يخلق لها أعراضاً. فالعرض يفني عندهم بنفسه، والجوهر يفني بنفسه إذا لم يخلق له عرض بعد عرض. هذا في الإفناء. وأمّا في الإحداث: فإنّهم استدلوا على حدوثها بدليل باطل، لو كان صحيحاً، للزم حدوث كلّ شيء من غير مُحدِث.
فحقيقة أصل [أهل] الكلام المتبعين للجهمية: أنّه لا يُحدِث شيئاً، ولا يُفني شيئاً، بل يُحدث كلَّ شيءٍ بنفسه، ويُفني بنفسه، ويلزمهم جواز أن يكون الربّ مُحدثاً أيضاً بلا محدث.
وهذه الأصول [هي](1) أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب، والسنّة، والمعقولات الصريحة، وهي في الحقيقة لا عقل، ولا سمع؛ كما حكى [الله](2) عن من قال:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِير}(3).
والخلق يشهدون إحداث الله لما يحدثه، وإفناءه لما يُفنيه؛ كالمني الذي استحال، وفني، وتلاشى، وأحدث منه هذا الإنسان؛ وكالحبة التي فنيت، واستحالت، وأحدث منها الزرع؛ وكالهواء الذي استحال، وفني، وحدث منه النار أو الماء؛ وكالنار التي استحالت، وحدث منها الدخان. فهو - سبحانه - دائماً يُحدث ما يُحدثه ويكوّنه، ويُفني ما يُفنيه ويُعدمه. والإنسان إذا مات وصار تراباً فَنِي وعُدِم، وكذلك سائر ما على الأرض؛ كما قال: {كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}(4)، ثمّ يُعيده من التراب كما خلقه ابتداءً من التراب، ويخلقه خلقاً جديداً.
ولكنْ للنشأةِ الثانية [أحكامٌ](5) وصفات ليست للأولى.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(3) سورة الملك، الآية 10.
(4) سورة الرحمن، الآية 26.
(5) في ((ط)) فقط: أحكاماً.(23/13)
فمعرفة الإنسان بالخلق الأول، وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوان، وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار، وما يخلقه من السحاب والمطر وغير ذلك: هو أصلٌ لمعرفته بالخلق، والبعث بالمبدأ والمعاد، وإن لم يعرف أنّ الله يخلقه كلّه من المنيّ؛ جواهره وأعراضه، وإلا فما عرف أنّ الله خلقه. ومن ظنّ أنّ جواهره لم يخلقها إذ خلقه، بل جواهر المنيّ، وجواهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه،لم يخلقها، أو أنّ مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذ خلقه، بل هي باقية أزليّة أبديّة، لم يكن قد عرف أنّه مخلوقٌ مُحدَثٌ.
والعلماء ينكرون على من يقول إنّ روح الإنسان قديمةٌ أزليّة من المنتسبين إلى الإسلام.
وهؤلاء الذين يقولون(1) إنّ مادة جسمه باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة، أبعد عن العقل والنقل منهم. وأولئك أنكروا عليهم حيث قالوا: [الإنسان](2) مركّبٌ من قديمٍ ومحدَثٍ؛ من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ محدَثٍ.
[و](3) هؤلاء(4) جعلوه مركباً من مادة قديمة أزلية، وصورة محدثة، وجعلوا القديم الأزلي فيه أخس ما فيه، وهو المادة؛ فإنّها عندهم أخسّ الموجودات، وهي قديمة أزلية. وأولئك(5) جعلوا القديم الأزلي أشرف ما فيه وهي النفس الناطقة. وكلتا الطائفتين وإن كان ضالاً؛ فالشريف العالي أولى بالقدم من الخسيس السافل، وهذا أولى بالحدوث.
__________
(1) وهم الفلاسفة المنتسبون للإسلام، والمتكلمون.
(2) في ((ط)) فقط: لإنسان.
(3) في ((م))، و ((ط)): أو.
(4) الذين يقولون: إنّ مادة جسم الإنسان باقية بعينها، وهي أزليّة أبديّة.
(5) الذين قالوا: "إنّ روح الإنسان قديمة أزليّة، وإنّ الإنسان مُركّب من لاهوتٍ قديم، وناسوتٍ مُحدَث.(23/14)
وأما المتكلمة الجهمية: فهم لا يتصوّرون ما يشهدونه؛ من حدوث هذه الجواهر في جواهرَ أُخَر من مادة، ثمّ يدّعون أنّ الجواهر جميعها أُبدعت ابتداءً لا من شيء. وهم لم يعرفوا قطّ جوهراً أُحدث لا من شيء، كما لم يعرفوا عرضاً أُحدِث لا في محلّ. وحقيقة قولهم: أنّ الله لا يُحدث شيئاً من شيء؛ لا جوهراً، ولا عرضاً؛ فإنّ الجواهر كلّها أُحدثت لا من شيء، والأعراض كذلك.
والمشهود المعلوم للناس إنّما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثاً من غير مادة، ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً}(1)، ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}(2)، ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(3).
الرد على الجهمية
وهذا(4) هو القدرة التي تبهر العقول؛ وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الأول ويُفنيه ويُلاشيه، ويُحدث شيئاً آخر؛ كما قال: {فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ}(5)، ويُخرج الشجرة الحية، والسنبلة الحية، من النواة والحبة الميتة، ويخرج النواة الميتة، والحبة الميتة، من الشجرة والسنبلة الحية؛ كما يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من الإنسان الحي.
__________
(1) سورة مريم، الآية 9.
(2) سورة النور، الآية 45.
(3) سورة الأنبياء، الآية 30.
(4) هكذا وردت في ((خ))، و ((م))، و ((ط)).
(5) سورة الأنعام، الآية 95.(23/15)
وعندهم(1) لا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حي؛ فإنّ الحيّ والميت إنّما هو الجوهر القائم بنفسه؛ فإنّ الحياة عرض لا يقوم إلا بجوهر، والعرض نفسه لا يقوم بعرض آخر. وإن كان العرض يوصف بأنّه حيّ؛ كما يقال: قد أحييت العلم والإيمان، وأحييت الدين، وأحييت السنة والعدل؛ كما يقال: [أمات](2) البدعة.
فهؤلاء(3) عندهم لا يُخرج جوهراً من جوهر، ولا عرضاً من عرض؛ فلا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حيّ، بل الجواهر التي كانت في الميت هي بعينها باقية كما كانت، ولكن أحدث فيها حياة لم تكن.
وتلك الحياة لم تخرج من ميت؛ فما أُخرج عندهم حيّ من ميت، ولا ميت من حي، ولهذا ينكرون أن يقلب الله جنساً إلى جنس آخر، ويقولون: الجواهر كلّها جنس واحد؛ فإذا خلق النطفة إنساناً، لم يقلب عندهم جنساً إلى جنس، بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت. وخاصية الخلق إنما هي بقلب جنس إلى جنس، وهذا لا يقدر عليه إلا الله؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ}(4).
__________
(1) عند المتكلمة الجهمية.
(2) في ((خ)) رسمت هكذا: امه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) المتكلمة الجهمية.
(4) سورة الحج، الآية 73، 74.(23/16)
ولا ريب أنّ النخلة ما هي من جنس النواة، ولا السنبلة من جنس الحبّة، ولا الإنسان من جنس المني، ولا المني من جنس الإنسان. وهو يخرج هذا من هذا، وهذا من هذا؛ فيخرج كلّ جنسٍ من جنسٍ آخر بعيدٍ عن مماثلته(1)، و {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}(2).
وهو سبحانه إذا جعل الأبيض أسود، أعدم ذلك البياض، وجعل موضعه السواد، لا أنّ الأجسام تعدم تلك المادة [فتحيلها، وتلاشيها، وتجعل](3) منها هذا المخلوق الجديد،ويخلق الضدّ من ضدّه؛ كما جعل من الشجر الأخضر ناراً، فإذا حك الأخضر بالأخضر، سخن ما يسخنه بالحركة، حتى ينقلب نفس الأخضر فيصير ناراً(4). وعلى قولهم ما جعل فيه ناراً، بل تلك الجواهر باقية بعينها، وأُحْدِثَ فيها [عرضٌ](5) لم يكن.
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1308، ففيه كلام مماثل لما هنا. وكذا المصدر نفسه 5201.
(2) سورة لقمان، الآية 11.
(3) في ((خ)): فيحيلها، ويلاشيها، ويجعل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) كما قال تعالى: {الَّذي جَعَلَ لَكُم مِن الشَّجَر الأخضَرِ ناراً فَإذَا أنتُم منهُ تُوقِدُون}. سورة يس، الآية 80.
والمقصود به ما يُشاهدونه من جعله النّار من العفار والمرخ، وهما شجرتان خضراوان، إذا حكت إحداهما بالأخرى بتحريك الريح لها، اشتعل النار فيها.
انظر: تفسير الطبري 2332. ورسالة إلى أهل الثغر ص 160.
(5) في ((ط)) فقط: عرضاً.(23/17)
وخلقُ الشيءِ من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى؛ كما وصف نفسه بذلك في قوله: {قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْر إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب}(1). ولهذا قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرَاً مِنْ طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(2)، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ في قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ}(3).
ولهذا امتنع اللعين ؛كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيْسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينَاً}(4)، وقال: {لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون}(5).
وأيضاً: فكون الشيء مخلوقاً من مادّة وعنصر، أبلغ في العبودية من كونه خُلق لا من شيء، وأبعد عن مشابهة الربوبية؛ فإنّ الرب هو أحدٌ، صمدٌ، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ فليس له أصل وجد منه، ولا فرع يحصل عنه.
__________
(1) سورة آل عمران، الآيتان 26-27.
(2) سورة ص، الآيتان 71-72.
(3) سورة المرسلات، الآية 20-23.
(4) سورة الإسراء، الآية 61.
(5) سورة الحجر، الآية 33.(23/18)
فإذا كان المخلوق له أصلٌ وُجد منه، كان بمنزلة الولد له، وإذا خلق له شيء آخر، كان بمنزلة الوالد، وإذا كان والداً ومولوداً كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية؛ فإنه خرج من غيره، ويخرج منه غيره؛ لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}(1)، وقال تعالى{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِق خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}(2).
وفي المسند عن [بسر](3) بن جحاش(4) قال: "بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: يقول الله تعالى: ابن آدم أنّى [تُعجزني](5)، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيتَ بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي، قلتَ أتصدَّقُ، وأنّى أوان الصدقة"(6).
وكذلك إذا خلق في محلّ مظلمٍ وضيّق؛ كما خلق الإنسان في ظلمات ثلاث، كان أبلغ في قدرة القادر، وأدلّ على عبودية الإنسان، وذلّه لربّه، وحاجته إليه.
__________
(1) سورة المرسلات، الآية 20.
(2) سورة الطارق، الآيات 5-10.
(3) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): بشر - بالشين المعجمة. وقد قال الدارقطني، وابن زبر، وغيرهما: لا يصحّ بالمعجمة. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1148.
(4) هو بسر بن جِحاش القرشيّ. صحابي، نزل حمص، ومات بها. الإصابة لابن حجر 1148.
(5) في ((ط)) فقط: تعج.
(6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4210. وابن ماجه في سننه 1903، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.(23/19)
وقد يقول [المعيّر](1) للرجل: مالك أصل ولا فصل(2)، و[لكنّ](3) الإنسان أصله التراب، وفصله الماء المهين.
ولهذا لمّا خُلق المسيح من غير أب، وقعت به الشبهة لطائفة(4)، وقالوا: إنّه ابن الله، مع أنّه لم يُخلق إلاَّ من مادّة أمّه، ومن الروح التي نُفخ فيها؛ كما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}(5)، [وقال تعالى أيضاً](6): {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرَاً سَوِيَّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيَّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [لأَهَبَ](7) لَكَ غُلامَاً زَكِيَّاً}(8)؛ فما خلق من غير مادة [يكون](9) كالأب له، قد يظن فيه أنّه ابن الله، وأنّ الله خلقه من ذاته.
فلهذا كانت الأنبياء مخلوقة من مادة لها أصول، ومنها فروع، لها والد ومولود. والأحد الصمد: لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
__________
(1) في ((خ)) رسمت هكذا: المعري. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في مجمع الأمثال للميداني: "لا أصل له ولا فصل". قال الكسائي: "الأصل: الحسب، والفصل: اللسان؛ يعني النطق". مجمع الأمثال 2285. وانظر: اللسان 1117، مادة أصل.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(4) المقصود بهم النصارى.
(5) سورة التحريم، الآية 12.
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(7) في ((خ)): ليهب.
(8) سورة مريم، الآيات 17-19.
(9) في ((م))، و ((ط)): تكون.(23/20)
وحدوث الشيء لا من مادة، قد يُشبه حدوثه من غير رب خالق، وقد يُظنّ أنّه حَدَثَ من ذات الرب؛ كما قيل مثل ذلك في المسيح، والملائكة أنّها بنات الله، لمّا لم يكن لها [أب](1)، مع أنّها مخلوقة من مادّة؛ كما ثبت في الصحيح؛ صحيح مسلم عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم ممّا وُصف لكم"(2).
ولمّا ظنّ طائفة أنّها لم تُخلق من مادة، ظنّوا أنّها قديمة أزلية. وأيضاً فالدليل الذي احتجّ به كثيرٌ من النّاس على أنّ كُلّ حادث لا يحدث إلا من شيء، أو في شيء؛ فإن كان عرضاً لا يحدث إلاَّ [في](3) محلّ، وإن كان عيناً قائمة بنفسها لم [تحدث](4) إلاَّ من مادة، فإنّ الحادث إنّما يحدث إذا كان حدوثه ممكناً، وكان يقبل الوجود والعدم، فهو مسبوق بإمكان الحدوث وجوازه، فلا بُدَّ له من محلّ يقوم به هذا الإمكان والجواز.
وقد تنازعوا في هذا: هل الإمكان صفة خارجية، لا بُدّ لها من محلّ، أو هي حكم عقلي لا يفتقر إلى غير الذهن ؟
الإمكان نوعان
__________
(1) في ((خ)): أبا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42294. والإمام أحمد في مسنده 6153، 168.
(3) في ((خ)): من. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): يحدث. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(23/21)
والتحقيق: أنّه نوعان: فالإمكان الذهني: وهو تجويز الشيء، أو عدم العلم بامتناعه، محلّه الذهن. والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل، أو المحل؛ مثل أن [تقول](1): يمكن القادر أن يفعل، والمحل؛ مثل أن [تقول](2): هذه الأرض يمكن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل. [و](3) هذا لا بُدّ له من محلّ خارجيّ، فإذا قيل عن الربّ: يمكن أن يخلق؛ فمعناه أنّه يقدر على ذلك، ويتمكّن منه. وهذه صفة قائمة به.
وإذا قيل: يمكن أن يحدث حادث؛ فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث، فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لا بُدّ له من سبب حادث؛ فذاك السبب إن كان قائماً بذات الرب، فذاته قديمةٌ أزليّةٌ، واختصاص ذلك الوقت بقيام مشيئةٍ، أو تمام تمكّنٍ، ونحو ذلك، لا يكون إلا لسببٍ قد أحدثه قبل هذا في غيره، فلا يحدث حادثٌ مبايِنٌ إلاَّ مسبوقاً بحادثٍ مباينٍ له.
فالحدوث مسبوقاً بإمكانه، ولا بُدّ لإمكانه من محلّ، ولهذا لم يذكر الله قط أنّه أحدث شيئاً إلا من شيء. والذي يقول إنّ جنس الحوادث حدثت لا من شيء، هو كقولهم: إنها حدثت بلا سبب حادث، مع قولهم إنّها كانت ممتنعة، ثم صارت ممكنة، من غير تجدّد سبب، بل حقيقة قولهم أنّ الربّ صار قادراً بعد أن لم يكن، من غير تجدّد شيءٍ يُوجِب ذلك.
وهذه الأمور كلّها من أقوال الجهمية؛ أهل الكلام المحدَث المبتَدَع المذموم، وهو بناء على قولهم: إنّه تمتنع حوادث لا أوّل لها. وهؤلاء وأمثالهم غلطوا فيما جاء به الشرع، وأخبرت به الرسل؛ كما غلطوا في المعقولات؛ فكلّ واحدٍ ممّا يُسمّى شرعاً، وعقلاً، وسمعاً، قد وقع فيه اشتباه.
معنى الشرع
__________
(1) في ((خ)): يقول. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): يقول. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).(23/22)
فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول؛ من الكتاب والسنة. هذا هو الشرع المنزل، وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه، ويُطلق على ما يضيفه بعض الناس إلى الشرع إمّا بالكذب والافتراء، وإما بالتأويل والغلط، وهذا شرع مبدل لا منزّل ولا يجب، بل ولا يجوز اتباعه.
لفظ السنة
وكذلك لفظ السنة: فإنّ السنّة التي يجب اتباعها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تُذكر في الأصول والإعتقادات، وتُذكر في الأعمال والعبادات. وكلاهما يدخل فيما أخبر به وأمر به؛ فما أخبر به وجب تصديقه فيه، وما أوجبه وأمر به وجبت طاعته فيه.
ثم كثيرٌ من الناس يُضيف إلى السنّة ما أدخله بعض الناس فيها؛ إمّا بالكذب، وإما بالتأويل؛ مثل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، واستدلالات بأقواله على ما لا يدلّ عليه، ومثل أقوال أحدثها قوم انتسبوا إلى السنة في بعض الأمور؛ مثل إثبات الصفات، والقدر؛ فإنّ [المنتسبين](1) لذلك يُضافون إلى السنة؛ لأنّ نفاة الصفات، والقدر مبتدعة.
وكذلك حب الخلفاء الراشدين، وموالاتهم يضاف أهله إلى السنّة؛ لأنّ الطاعنين فيهم أهل بدعة.
ومثل الإستدلال بالنصوص على موارد النزاع؛ فإنّ أهل ذلك يُضافون إلى السنّة؛ لكونهم يقصدون اتباع القرآن والحديث، والمخالفون لذلك الذين يردّون الأخبار الصحيحة، أو لا يحتجّون بالقرآن مبتدعون.
ثم قد يقول المضافون إلى السنّة أشياء ليست من السنة؛ مثل أحاديث كثيرة يروونها في فضائل بعض الصحابة، وهي كذب؛ ومثل [نفي](2) الحكمة والأسباب في مسائل القدر؛ ومثل كلامهم في الأجسام والاعراض، وتناهي الحوادث، ونحو ذلك ممّا لم يأخذوه عن الرسول. فهذا ليس من السنّة، وإن كان أهلها وافقوا السنة في مواضع خالفهم [فيها](3) من تنازعهم في هذه المسائل.
__________
(1) في ((خ)): المنتبين. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((ط)) فقط: تقى.
(3) في ((خ)): فيه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(23/23)
فلا يجب إذا كانوا أصابوا حيث وافقوا السنة، أن يُصيبوا حيث لم يوافقوها.
وكذلك مسمى العقل؛ فإنّ مسمّى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية(1).
لكن لمّا أحدث قومٌ من الكلام المبتدَع المخالِف للكتاب والسنّة - بل وهو في نفس الأمر مخالفٌ للمعقول، وصاروا يُسمّون ذلك عقليّات، وأصولَ دين، وكلاماً في أصول الدين، صار من عَرَفَ أنّهم مبتدعة ضُلاّل في ذلك ينفر عن جنس المعقول، والرأي، والقياس، والكلام، والجدل. فإّذا رأى من يتكلّم بهذا الجنس اعتقده مبتدِعاً مبطلاً؛
وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم
كما أنّ هؤلاء(2) لمّا رأوا أنّ جنس المنتسبين إلى السنّة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول، وهم يقولون إنّ السنّة جاءت بذلك، صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يُستدلّ في الأصول بالشرع والسنّة، ويُسمّونهم حشويّة وعامّة(3)
__________
(1) قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك، الآية 10]. وقال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة، الآية 73]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [سورة العنكبوت، الآية 43]. وقال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر، الآية 43].
(2) المتفلسفة.
(3) الحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه. وكذلك هو من الناس؛ فحشوة الناس: رذالتهم. انظر: لسان العرب 14180. وتهذيب اللغة 5137-138.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "مسمّى الحشو في لغة الناطقين به ليس هو اسماً لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته؛ كالجهمية، والكلابيّة، والأشعريّة، ولا اسماً لقولٍ معين من قاله كان كذلك. والطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها... - إلى أن قال: - وإذا كان كذلك، فأوّل من عُرف أنّه تكلّم في الإسلام بهذا اللفظ: عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة؛ فقيههم وعابدهم، فإنّه ذُكر له عن ابن عمر شيء يُخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشوياً؛ نسبه إلى الحشو، وهم العامّة والجمهور. وكذلك تُسمّيهم الفلاسفة كما سمّاهم صاحب هذا الكتاب - يعني الرازي -. والمعتزلة ونحوهم يُسمّونهم الحشوية. والمعتزلة تعني بذلك كلّ من قال بالصفات وأثبت القدر. وأخذ ذلك عنها متأخرو الرافضة، فسمّوا هم الجمهور بهذا الاسم. وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسمّوا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة؛ فمن قال عندهم بموجب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك، سمّوه حشوياً؛ كما رأينا ذلك مذكوراً في مصنفاتهم. والفلاسفة تُسمّي من أقرّ بالمعاد الجسمي والنعيم الحسّي حشوياً. وأخذ ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعريّة فسمّوا من أقرّ بما ينكرونه من الصفات، ومن يذمّ ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهميّة والإرجاء حشوياً. ومنهم أخذ ذلك هذا المصنّف" - يعني الرازي -. بيان تلبيس الجهميّة 1242، 244-245.
وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن لفظ ((الحشوية)) في منهاج السنة النبوية 2520-522. ومجموع الفتاوى 487، 89، 146،، 3186،، 12176.(23/24)
. وكلّ من هؤلاء، وهؤلاء أدخلوا في مسمّى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم.
[ثمّ هؤلاء قبلوا من مسمّى الشرع والسنّة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمّى العقل محموده ومذمومه](1). وأولئك قبلوا مسمّى العقل عندهم محموده، ومذمومه، [وخالفوا مسمّى الشرع محموده ومذمومه](2). فيجب البيان والتفصيل والاستفسار، وبيان الفرقان بين الحق والباطل؛ فإنّ ذلك يوجب التصديق بما جاء به الشرع المنزّل، والسنّة الغرّاء؛ وهو المعقول الحقّ؛ وهو الكلام الصدق؛ وهو الجدل بالتي هي أحسن؛ ويُوجب ردّ ما أُدخل في الشرع والسنّة، وليس منها؛ وردّ ما سُمّي معقولاً، وهو باطل؛ وسُمّي كلاماً صدقاً، وهو كذب؛ وسُمّي جدلاً بالتي هي أحسن، وهو جدل بالباطل بغير علم.
ولهذا حصل من الذين لبسوا الحقّ بالباطل تبديل لما بدّلوه من الدين، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومضاهاة لأهل الكتاب ممّا ذمهم الله عليه. والبخاري في أول كتاب ((خلق أفعال العباد)): ذكر الردّ على المعطّلة الذين يُبدّلون كلام الله من الجهميّة، وذكر من كلام السلف والأئمة فيهم ما عُرِف به مقصودهم(3).
التبديل نوعان
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(3) وكتابه - رحمه الله - قسمه إلى جزئين؛ الأوّل منهما في ذكر كلام السلف والأئمة؛ وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يُبدّلوا كلام الله عزّ وجلّ. انظر: ص 7-24. وأمّا الجزء الثاني فقد أفرده للردّ على الجهميّة، وابتدأه ببابٍ سمّاه: باب الردّ على الجهميّة وأصحاب التعطيل. انظر: ص 71 وما بعدها.(23/25)
والتبديل نوعان: أحدهما: أن يُناقضوا خبره. والثاني: أن يُناقضوا أمره. فإنّ الله بعثه بالهدى ودين الحق، وهو صادقٌ فيما أخبر به عن الله، آمرٌ بما أمر الله به؛ كما قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فَقَدْ أَطَاْعَ اللهَ}(1). وأهل التبديل [الذين يُضيفون إلى دينه وشرعه ما ليس منه، وهم أهل الشرع المبدّل](2): تارةً يُناقضونه في خبره؛ فينفون ما أثبته، أو يُثبتون ما نفاه؛ كالجهميّة الذين ينفون ما أثبته من صفات الله وأسمائه؛ والقدريّة الذين ينفون ما أثبته من قدر الله ومشيئته وخلقه وقدرته؛ والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله وحكمته ورحمته، ويُثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه. وأمثال ذلك.
ومسائل أصول الدين عامّتها من هذا الباب.
الذين أوجبوا النظر لإثبات الصانع
ثمّ إنّهم أيضاً يُوجبون ما لم يُوجبه، بل حرّمه، ويُحرّمون ما لم يُحرّمه، بل أوجبه؛ فيوجبون اعتقاد هذه الأقوال والمذاهب المناقضة لخبره، وموالاة أهلها، ومعاداة من خالفها. ويُوجبون النظر المعيّن في طريقهم الذي أحدثوه؛ كما أوجبوا النظر في دليل الأعراض الذي استدلّوا به على حدوث الأجسام(3)، وقالوا: يجب على كلّ مكلّف أن ينظر فيه ليحصل له العلم بإثبات الصانع(4)
__________
(1) سورة النساء، الآية 80.
(2) ما بين المعقوفتين ملحقة بهامش ((خ)).
(3) وهذا نظر مخصوص؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: "جعلوا ذلك نظراً مخصوصاً؛ وهو النظر في الأعراض، وأنّها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها". مجموع فتاوى ابن تيمية 16329.
(4) يقول الماتريديّ عن الله جلّ وعلا: "لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالَم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه، أو شهادة السمع". التوحيد للماتريدي ص 129.
وقد أورد شيخ الإسلام رحمه الله طريقة المتكلمين في إثبات الصانع، فقال: "قالوا: لأنّه لا يعرف بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع، قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم. ثمّ قالوا: ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث الأجسام، قالوا: ولا دليل على ذلك إلا الاستدلال بالأعراض، أو ببعض الأعراض؛ كالحركة والسكون، أو الاجتماع والافتراق؛ وهي الأكوان؛ فإنّ الجسم لا يخلو منها، وهي حادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث....".
ثمّ ذكر رحمه الله ذمّ السلف لهذه الطريقة، واللوازم التي تلزم سالكيها، فقال: "وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له، ولأجلها قالوا بأنّ القرآن مخلوق، وأنّ الله لا يُرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وأنكروا الصفات. والذامون لها نوعان: منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام؛ فإنّا نعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها، ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه. وهذه طريقة الأشعري في ذمّه لها، والخطابي، والغزالي، وغيرهم ممن لا يُفصح ببطلانها. ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل المقصود، بل تناقضه. وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف". كتاب الصفدية 1274-275.(23/26)
، قالوا: لأنّ معرفة الله واجبة،
ولا طريق إليها إلا هذا النظر وهذا الدليل(1).
الرسول لم يوجب النظر
ولما علم كثيرٌ من موافقيهم(2) أنّ الاستدلال بهذا الدليل لم يُوجبه الرسول، خالفوهم في إيجابهم، مع موافقتهم لهم على صحته(3).
والتحقيق ما عليه السلف؛ أنّه ليس بواجب أمراً، ولا هو صحيح خبراً، بل هو باطلٌ منهيّ(4) عنه شرعاً؛ فإنّ الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل، بل ينهى عن ذلك. لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنّه حقّ، وأنّ الدين لا يقوم إلا على هذا الأصل الذي أصّلوه.
الذين ضلوا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) يقول أبو حامد الغزالي: "من لا يعتقد حدوث الأجسام، فلا أصل لاعتقاده في الصانع أصلاً". تهافت الفلاسفة ص 197.
وانظر: الإرشاد للجويني ص 8-9. والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 435. ورسالة السجزي ص 198.
وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة ونقل كلام بعض من ردّ على هذا القول، أو تبنّاه.
انظر: درء تعارض العقل والنقل 7352-445.
(2) في ((خ)): موافقتهم. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) ومن هؤلاء: أبو الحسن الأشعريّ في رسالته إلى أهل الثغر ص 186. والخطابي في الغنية عن الكلام وأهله - انظر: نقض تأسيس الجهمية 1254، والغزالي في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 127. وغيرهم.
(4) في ((ط)): منهم. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).(23/27)
كما أنّ طوائف من أهل العبادة، والزهد، والإرادة، والمحبة، والتصوف سلكوا طرقاً(1) ظنّوا أنّه لا يُوصل إلى الله إلا بها. ثمّ منهم من يوجبها ويذمّ من لم يسلكها، ومنهم من لم ير أنّ سالكيها أفضل من غيرهم، ويوسع الرحمة؛ لأنّه قد علم أنّ الرسول والصحابة لم يأمروا بها النّاس، مع اعتقادهم أنّها طرق صحيحة موصلة إلى رضوان الله. وهي عند التحقيق طرق مضلّة إنّما توصل إلى رضى الشيطان، وسخط الرحمن؛ كالعبادات التي ابتدعها ضلاّل أهل الكتاب والمشركين، وخالفوا بها دين المرسلين؛ فهؤلاء في الأحوال البدعيّة، وأولئك في الأقوال البدعيّة.
والقول الحقّ هو القرآن، والحال الحق هو الإيمان؛ كما قال جندب(2)، وابن عمر: "تعلّمنا الإيمان، ثمّ تعلّمنا القرآن، فازددنا إيماناً"(3).
__________
(1) كسلوك الصوفيّة للكشف، والوجد، والذوق، وجعل ذلك أساساً للمعرفة؛ فلا تنال حقائق الأمور عندهم إلا بهذه الطرق التي تُعدّ السبيل الأوحد - لديهم - لتحصيل المعارف، ودرك العلوم. وقد نبذوا لأجل هذه الطرق الكتاب والسنّة، بل وعارضوهما بها، وقدموها عليهما. انظر: تفصيل ذلك في كتاب المصادر العامة للتلقي عند الصوفية - عرضاً ونقداً - لصادق سليم صادق -.
(2) ابن عبدالله بن سفيان البجليّ. صحابي. مات بعد الستين. انظر: تقريب التهذيب 1166.
(3) أخرجه ابن ماجه في السنن 123، وكذا أخرجه الخلال في السنة 554، وأشار محققه إلى أنّ إسناده حسن. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 116.(23/28)
وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيّب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب، وطعمها مُرّ. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مرّ، ولا ريح لها"(1).
الناس أربعة أصناف
فالنّاس أربعة أصناف: صاحب قول قرآنيّ، [وحال إيمانيّ؛ فهم أفضل الخلق. وصاحب قول قرآني](2)، وحال ليس بإيمانيّ. وصاحب حال إيمانيّ، وليس له قول. ومن ليس له لا قول قرآنيّ، ولا حال إيمانيّ.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي موسى 41917، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام،، و52070، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، و62748، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم. ومسلم في صحيحه 1549، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).(23/29)
وكثيرٌ من المنتسبين إلى القول، والكلام، والعلم، والنظر، والفقه، والاستدلال ابتدعوا أقوالاً تُخالف القرآن. وكثيرٌ من المنتسبين إلى العمل، والعبادة، والإرادة، والمحبّة، وحسن الخلق، والمجاهدة ابتدعوا أحوالاً وأعمالاً تُخالف الإيمان، وصار مع كلّ طائفة نوعٌ من الحقّ الذي جاء به الرسول، لكن ملبوسٌ بغيره. وصار كثيرٌ من الطائفتين يُنكر ما عليه الأخرى مطلقاً؛ كما قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء(1).
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى حاكياً عن اليهود والنصارى: {وَقَاْلَتِ الْيَهُوْدُ لَيْسَتِ النَّصَاْرَى عَلَىْ شَيْءٍ وَقَاْلَتِ النَّصَاْرَى لَيْسَتِ الْيَهُوْدُ عَلَىْ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُوْنَ الْكِتَاْبَ كَذَلِكَ قَاْلَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ} سورة البقرة، الآية 113.(23/30)
وفي كلّ من الطائفتين شَبَهٌ من إحدى(1) الأمتين؛ ففي المنتسبين إلى العلم إذا لم يُوافقوا العلم النبويّ ويعملوا به شَبَهٌ من اليهود(2). وفي أهل العمل إذا لم يُوافقوا العمل الشرعيّ، ويعملوا بعلمٍ شَبَهٌ من النّصَارى(3)(4). وصار كثيرٌ من أهل الكلام والرأي يُنكرون جنس محبّة الله، وإرادته؛ [كما صار كثيرٌ من أهل الزهد، والتصوّف يُنكر جنس العلم، والكلام، والنظر. وأولئك الذين أنكروا محبّة الله وإرادته](5)، بَنَوْا ذلك على أصل لهم للقدريّة المجبرة(6)، والنافية؛ وهو: أنّ المحبّة، والإرادة، والرضا، والمشيئة شيءٌ واحدٌ، ولا يتعلّق ذلك إلا بمعدوم؛ وهو إرادة الفاعل أن يفعل ما لم يكن فَعَلَه؛ فاعتقدوا أنّ المحبّة، والإرادة لا تتعلّق إلا بمعدوم. فالموجود لا يُحَبّ، ولا يُراد. والقديم الأزليّ لا يُحَبّ، ولا يُراد. والباقي لا يُحَبّ، ولا يُراد؛ فأنكروا أن يكون الله محبوباً، أو مُراداً(7). وهم لإنكار كونه يُحِبّ أبلغ وأبلغ؛ فلا يُثبتون إلا مشيئته أن يخلق فقط، وهي لا تتعلّق إلا بمعدوم. فأمّا أن يُحِبّ موجوداً من خَلْقِه، فهذا باطل عند
__________
(1) في ((ط))، و ((م)): أحد. وما أثبت من ((خ)).
(2) الذين عرفوا الحق، فلم يعملوا به، بل عملوا بخلافه.
(3) الذين لم يعرفوا الحقّ، فعملوا على جهالة.
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان السلف؛ سفيان بن عيينة وغيره يقولون: إنّ من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى". اقتضاء الصراط المستقيم 167. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 869-70. ومجموع الفتاوى 8197.
(5) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(6) في ((ط)): للقدرية والمجبرة. وهو خطأ. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(7) ففسّروا محبّة العبد لربه بأنّها إرادة العبادة له، وإرادة التقرب إليه، ولم يُثبتوا أنّ العبد يُحبّ الله. انظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية ص 51.(23/31)
الطائفتين(1). لكنّ المجبرة يقولون: محبّته هي مشيئته، وقد شاء خَلْقَ كلّ شيء، فهو يُحِبّ كلّ شيء(2). والنفاة يقولون: محبّته هي إرادته إثابة المطيعين؛ وهي مشيئة خاصّة(3).
والذي جاء به الكتاب والسنّة، واتفق عليه سلف الأمة، وعليه مشايخ المعرفة، وعموم المسلمين: أنّ الله يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق بذلك الكتاب والسنّة في مثل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ}(4)، ومثل قوله: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ} (5)، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(6).
لا يُحبّ لذاته محبة مطلقة إلا الله وحده
__________
(1) القدرية المجبرة، والقدرية النافية على السواء في ذلك.
(2) نقل ذلك عنهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في المحيط بالتكليف ص 408.
(3) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار 63، 4، 5. وانظر: منهاج السنة النبوية 5388.
(4) سورة المائدة، الآية 54.
(5) سورة البقرة، الآية 165.
(6) سورة آل عمران، الآية 31.(23/32)
بل لا شيء يُستحقّ أن يُحَبّ لذاته محبّة مطلقة إلا الله وحده. وهذا من معنى كونه معبوداً(1)؛ فحيث جاء القرآن بالأمر بالعبادة، والثناء على أهلها، أو على المنيبين إلى الله، والتوّابين إليه، أو الأوّابين، أو المطمئنّين بذكره، أو المحبين له، ونحو ذلك: فهذا كلّه يتضمّن محبته. وما لا يُحَبّ يمتنع(2) كونه معبوداً، ومألوهاً، [و](3) مُطْمَأَنَاً بذكره. ومن أُطيع لعوضٍ يُؤخذ منه، أو لدفع ضرره، فهذا ليس بمعبود ولا إله، بل قد يكون الشخص كافراً، وظالماً يُبغَض، ويُلعَن، ومع هذا يُعمل معه عمل بعوض. فمن جعل العمل لله لا يكون إلا لذلك، فلم يُثبت الربّ إلهاً معبوداً، ولا ربّاً محموداً، وهو حقيقة قول النفاة من الجهميّة، والقدريّة النافية، والمثبتة. والله سبحانه [وتعالى](4) رغَّب في عبادته، والعمل له بما ذكره من الوعد، ورهَّب من الكفر به، والشرك بما ذكره من الوعيد، وهو حقّ، لكنّه لم يقل إنّ العابد لله، والعامل له لا يحصل له إلا ما ذُكِرَ، بل وقد قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}(5). وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذُخْراً، بله ما أطلعتهم عليه. اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاْءً بِمَاْ كَاْنُوْا يَعْمَلُوْنَ}(6) (7)
__________
(1) إذ العبادة تتضمّن معنى الحبّ، ومعنى الذلّ؛ فهي تتضمّن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: (غاية الذلّ لله، بغاية المحبّة له). انظر: العبودية ص 6.
(2) في ((م))، و ((ط)): ممتنع.
(3) في ((خ)): أو. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) وتعالى) ليست في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(5) سورة السجدة، الآية 17.
(6) سورة السجدة، الآية 17.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه 41794، كتاب التفسير، باب قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاْ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية. ومسلم في صحيحه 42174-2175، كتاب الجنة وصفة نعيمها. وأحمد في مسنده 2313، 416.(23/33)
. وقد ثبت في [الحديث](1) الصحيح عن صهيب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: يا أهل الجنّة ! إنّ لكم عندي موعداً أُريد أن أُنجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم [تُبَيِّض](2) وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتُدخلنا الجنّة، وتُجرنا من النّار ؟ قال: فيَكشفُ الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه، وهي الزيادة"(3).
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(2) في ((م))، و ((ط)): تنتضر.
(3) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1163، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. وأحمد في المسند 4332، 333. والترمذي في جامعه 4687، كتاب صفة الجنة، باب في رؤية الرب تبارك وتعالى. وابن ماجه في سننه 167؛ في المقدمة، حديث رقم (187). كلّهم أخرجوه بألفاظ مقاربة للّفظ الذي ساقه المصنّف.(23/34)
وفي الحديث الذي رواه النسائي: لمّا صلّى عمّار، فأوجز، وقال: دعوتُ في الصلاة بدعاء سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ بعلمك(1) الغيبَ، وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي. اللهمّ إنّي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقُرّة عينٍ لا تنقطع. وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضرّاء مُضرّة، ولا فتنة مُضلّة. اللهمّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين"(2). وروي نحوَ هذا من وجه آخر(3)؛ فقد أخبر الصادق المصدوق أنّه لم يُعطَ أهلُ الجنّة أحبّ إليهم من النظر إليه. وسُنّ أن يُدعى بلذة النظر إلى وجهه الكريم. وأهل الجنّة قد تنعّموا من أنواع النّعيم بالمخلوقات بما هو غاية النّعيم، فلمّا كان نظرهم إليه أحبّ إليهم من كلّ أنواع النّعيم، عُلم أنّ لذّة النّظر إليه أعظم عند أهل الجنّة من جميع أنواع اللَّذَّات.
اللذين أنكروا محبة الله حزبان الحزب الأول
__________
(1) في ((خ)): بعملك. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) أخرجه النسائي في سننه 354-55، كتاب السهو، باب نوع آخر في الدعاء بعد الذكر، رقم (62). وأحمد في المسند 4264. والحاكم في المستدرك 10524-525، وصححه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 1280-281، رقم 1237-1238.
(3) من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ كما في مسند الإمام أحمد 5191.
وهو حديث طويل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ".... أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الممات، ولذةَ نظرٍ إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك، من غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مُضلّة..".
وقد صرّح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 8356 أنّه يقصد بهذا الوجه رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه هذه.(23/35)
والجنّةُ فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين؛ فما لذّت أعينهم بأعظم من لذّتها بالنظر إليه. واللّذّة تحصل بإدراك المحبوب، فلو لم يكن أحبّ إليهم من كلّ شيء، [ما كان النظر إليه أحبّ إليهم من كلّ شيء](1)، وكانت لذّته أعظم من كلّ لذّة. والله تعالى وعد عباده المؤمنين بالجنّة؛ وهي اسمٌ لدارٍ فيها جميع أنواع اللّذّات المتعلقة بالمخلوق، وبالخالق؛ كما أنّ النّار اسمٌ لدارٍ فيها أنواع الآلام، لكن غلط من ظنّ أنّ التنعيم بالنظر إليه ليس من نعيم أهل الجنّة. وصار هؤلاء حزبين: حزباً أنكروا التنعيم بالنظر إليه؛ وهم المنكرون للمحبّة(2)؛ حتى قال أبو المعالي(3) ونحوه ممّن يُنكر محبّته أنّهم إذا رأَوْه لم يلتذوا بنفس النظر، بل يخلق لهم لذّة ببعض المخلوقات مع النّظر(4). وكذلك قال من شاركهم في التجهّم؛ من أهل الوحدة(5)؛ كابن عربي؛ قال: ما التذّ عارفٌ بمشاهدة قطّ(6)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والمنكرون لرؤيته من الجهميّة والمعتزلة تُنكر هذه اللذة. وقد يُفسّرها من يتأوّل الرؤية - بمزيد العلم - على لذة العلم به؛ كاللذة التي في الدنيا بذكره، لكن تلك أكمل. وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة؛ كالفارابي، وأبي حامد، وأمثاله، فإنّ ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5390. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 762-78.
(3) الجويني.
(4) انظر: العقيدة النظامية للجويني ص 39. والإرشاد له ص 171. وقواعد العقائد للغزالي ص 171-172.
وانظر: توضيح هذه المسألة في كتب شيخ الإسلام التالية: مجموع الفتاوى 8345، 10695. ومنهاج السنة 5391-392. والاستقامة 298.
(5) وحدة الوجود. تقدّم تعريفها 328.
(6) لم أعثر عليه في مظانّه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والفلاسفة تُثبت اللذّة العقليّة، وأبو نصر الفارابي وأمثاله من المتفلسفة يُثبت الرؤية لله، ويُفسّرها بهذا المعنى". منهاج السنة النبوية 5388-400.(23/36)
. وادّعى أبو المعالي أنّ إنكار محبّته من أسرار التوحيد(1). وهو من أسرار توحيد الجهميّة المعطّلة المبدّلة. وحُكِيَ عن ابن عقيل أنّه سمع رجلاً يقول: أسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم. فقال له: هَبْ أنّ له وجهاً، أله وجهٌ يُلتذّ بالنظر إليه(2). وهذا بناءً على هذا الأصل؛ فإنّه وشيخه أبا يعلى، ونحوهما وافقوا الجهميّة في إنكار أن يكون الله محبوباً، واتّبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني(3) ونحوه ممّن يُنكر محبّة الله، وجعل القول بإثباتها قول الحلوليّة(4).
الحزب الثاني
[والحزب الثاني](5) أنّ طائفة من الصوفيّة والعبّاد شاركوا هؤلاء في أنّ مسمّى الجنّة لا يدخل فيه النظر إلى الله. وهؤلاء لهم نصيب من محبّة الله تعالى والتلذّذ بعبادته، وعندهم نصيب من الخوف والشوق والغرام، فلمّا ظنّوا أنّ الجنّة لا يدخل فيها النظر إليه، صاروا يستخفّون بمسمّى الجنّة، ويقول أحدهم: ما عبدتُك شوقاً إلى جنّتك، ولا خوفاً من نارك(6)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 8345، 10 695. ودرء تعارض العقل والنقل 665-77 - فقد ردّ فيه على من أنكر لذّة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 8355، 10695. ومنهاج السنة النبوية 5392. والاستقامة 298.
(3) يقول الباقلاني: "واعلم أنّه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبّة، على ما قدّمنا. واعلم أنّ الاعتبار في ذلك كلّه بالمآل لا بالحال". الانصاف للباقلاني ص 69.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 10697. ومنهاج السنة النبوية 5392.
(5) في ((م))، و ((ط)): الجواب الثاني.
(6) نقل الغزالي عن معروفٍ الكرخيّ نحواً من هذه المقالة؛ أنّه عبد الله لا خوفاً من ناره، ولا شوقاً إلى جنّته، بل حُبّاً له. انظر: إحياء علوم الدين 4287.
ونقل الغزالي أيضاً عن أبي سليمان الدارانيّ قوله: (إنّ لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النّار، ولا رجاء الجنّة). إحياء علوم الدين 4287.
ونقل الغزالي أيضاً قول الثوريّ لرابعة العدويّة: (ما حقيقة إيمانك ؟ قالت: ما عبدتُه خوفاً من ناره، ولا حبّاً لجنّته..). إحياء علوم الدين 4287.
والنقول في ذلك عن الصوفيّة كثيرة جداً.
وانظر: مجموع الفتاوى 10240، 699. والاستقامة 2104، 105.(23/37)
.
وهم قد غلطوا من وجهين:
الرد عليهم من وجهين
أحدهما: أنّ ما يطلبونه من النظر إليه والتمتع بذكره ومشاهدته، كلّ ذلك في الجنّة.
الثاني: أنّ الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو أُلقي في بعض عذابها، طار عقله، وخرج من قلبه كلّ محبّة.
ولهذا قال سمنون(1):
وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئتَ فامْتحنّي
ابتلي بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمّكم الكذّاب(2).
وأبو سليمان(3) لمّا قال: قد أُعطيتُ من الرضا نصيباً لو ألقاني في النّار لكنتُ راضياً(4)، ذُكِرَ أنّه ابتُليَ بمرض، فقال: إن لم يُعافني وإلا كفرتُ، أو نحو هذا.
والفضيل بن عياض ابتُلي بعسر البول، فقال: "بحبّي لك إلا فرّجتَ عنّي(5). فَبَذَلَ حبّه في عسر البول".
فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته.
__________
(1) هو سمنون بن حمزة، أبو الحسن الخواص. موسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبّة مستقيم، وسمّى نفسه سمنون الكذّاب. توفي سنة 298ه. انظر: البداية والنهاية 11123. وطبقات الصوفيّة ص 195. وحلية الأولياء 10309. وسير أعلام النبلاء 17441، 651.
(2) انظر: كتاب نتائج الأفكار القدسيّة 1160، وذكر فيه بيتاً آخر زيادة على الذي أورده المصنّف، وهو قوله:
إن كان يرجو
سواك قلبي لانلتُ سُؤلي، ولا التمنّي
وانظر: أيضاً: حلية الأولياء 10309-310. وإحياء علوم الدين للغزالي 4141 ومجموع الفتاوى 10241، 690. والبداية والنهاية 11123.
(3) هو أبو سليمان عبدالرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الدارانيّ - نسبة إلى داريّا؛ قرية من قرى دمشق، له كلام في الزهد. توفي سنة 215ه. انظر: حلية الأولياء 9254. وطبقات الصوفية ص 75. وسير أعلام النبلاء 10182.
(4) هذه الكلمة رواها أبو نعيم بسنده عن أبي سليمان في حلية الأولياء 9163. وكذا أسندها القشيريّ في رسالته 2246. وانظر: مجموع الفتاوى 10241، 689.
(5) أوردها القشيريّ في رسالته 2623. وانظر: مجوع الفتاوى 10691.(23/38)
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: "ما تدعو في صلاتك؟". قال: أسأل اللهَ الجنّة، وأعوذ به من النّار، أما أنّي لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال: "حولها ندندن"(1).
ودَخَلَ على أعرابيّ قد صار مثل الفَرْخ، فقال: "هل كنتَ تدعو الله بشيء ؟". قال: كنتُ أقول: اللهمّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجّله [لي](2) في الدنيا. فقال: "سبحان الله! إنّك لا تستطيعه، ولا تُطيقه، [هلاّ](3) قلتَ: اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار"(4).
والعدوان في الإرادة، والعبادة، والعمل حصل من إعراضهم عن العلم الشرعيّ، واتّباع الرسول، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(5).
__________
(1) أخرجه أحمد في المستد 3474. وأبو داود في السنن 1501، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، رقم 792. وابن ماجه في السنن 1295، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يُقال في التشهد، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، رقم 910. وصحّح النوويّ إسناده في الأذكار 1197، والألباني في صحيح سنن أبي داود 1150، وفي صحيح سنن ابن ماجه 1150، وفي تخريج أحاديث الكلم الطيب 103.
(2) في ((خ)): له. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): هل لا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42068-2069، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهية الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا. والإمام أحمد في مسنده 3107، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الحديث.
(5) سورة آل عمران، الآية 31.(23/39)
قال بعضهم: ليس الشأن في أن تُحبّه، الشأنُ في أن يكونَ هو يُحِبُّكَ(1). وهو إنّما يُحِبُّ من اتَّبع الرسول، وإلا فالمشركون وأهل الكتاب يدّعون أنّهم يُحبُّونه، وأولئك(2) غلطوا [بنفي](3) محبّته، وهؤلاء(4) أثبتوا محبّة شركيّة، لم يثُبتوا محبّة توحيديّة خالصة(5)، وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاْدَاً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}(6).
أقسام الناس في المحبة
فالأقسام ثلاثة(7): أولئك(8) معطّلة للمحبّة، وحقيقة قولهم تعطيل العبادة مطلقاً. وهؤلاء(9) مشركون في المحبّة؛ فهم مشركون في العبادة. أولئك مستكبرون عن عبادته، والكبر لليهود. وهؤلاء مشركون في عبادته، والشرك للنصارى.
لفظ الإسلام
__________
(1) نقله ابن كثير في تفسيره 1358 عند تفسيرقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ}[آل عمران 31] وقال: عن بعض العلماء والحكماء.. ولم يعزه لأحد.
(2) أي الجهميّة، ومن تبعهم من أهل الكلام..
(3) ليست في ((خ)). وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) أي الصوفيّة.
(5) وقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: "لكنهم قصروا في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين".
مجموعة الرسائل والمسائل 4300.
(6) سورة البقرة، الآية 165.
(7) انظر: بيانها في مجموع الفتاوى 1082، 683، 684.
(8) أي الجهميّة ومن تبعهم من المتكلمين.
(9) أي الصوفيّة.(23/40)
وكلّ واحدٍ من المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين، بل الإسلام هو الاستسلام لله وحده. ولفظ الإسلام يتضمّن الإسلام، ويتضمّن إخلاصه لله(1). وقد ذكر ذلك غير واحدٍ، حتى أهل العربيّة؛ كأبي بكر ابن الأنباري(2)، وغيره.
ومن المفسرين من يجعلهما قولين؛ كما يذكر طائفة منهم البغويّ أنّ المسلم هو: المستسلم لله. وقيل: هو المخلص(3).
والتحقيق: أنّ المسلم يجمع هذا وهذا؛ فمن لم يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم لغيره كما يستسلم له، لم يكن مسلماً؛ ومن استسلم له وحده، فهو المسلم؛ كما في القرآن: {بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُوْنَ}(4)، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً}(5).
والاستسلام له يتضمّن الاستسلام [لقضائه](6)، وأمره، [ونهيه](7)؛ فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرُ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ}(8).
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 8623، 635، 1014. والجواب الصحيح 631. وجامع الرسائل 2254.
(2) هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري. ولد في الأنبار سنة 271 ه. من أعلم أهل زمانه بالآداب واللغة. كان حافظاً للشعر والأخبار، كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن. توفي في بغداد سنة 328ه. انظر: طبقات النحويين ص 171. والأعلام 6334.
(3) تفسير البغوي 1106.
(4) سورة البقرة، الآية 112.
(5) سورة النساء، الآية 125.
(6) في ((خ)): لخلقه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) ليست في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(8) سورة يوسف، الآية 90.(23/41)
قال ابن أبي حاتم(1): حدثنا عصام(2) بن [رواد](3)، [حدثنا](4) آدم(5)، عن أبي جعفر(6)، عن الربيع، عن أبي العالية(7) في قوله: {بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}(8)؛ يقول: من أخلص لله. قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع نحو ذلك(9). وقال: ذُكِرَ عن يحيى بن آدم(10)
__________
(1) هو أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن مهران التميمي الرازيّ. ولد سنة240ه، ورحل في طلب الحديث إلى البلاد مع أبيه وبعده، وصنّف التصانيف، من جملتها: كتاب السنة، والتفسير، وكتاب الرد على الجهمية، وفضائل الإمام أحمد. توفي 327 ه. انظر: سير أعلام النبلاء 13263. وطبقات الحنابلة 255. وشذرات الذهب 2308-309. وطبقات الشافعية للسبكي 3324-328.
(2) هو عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني.
انظر: الجرح والتعديل 726. وميزان الاعتدال 366. ولسان الميزان 4167).
(3) في ((ط)): وران. وما أثبت من ((خ))، و ((م))، وتفسير ابن أبي حاتم.
(4) في ((خ)): ثنا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) هو آدم بن أبي إياس العسقلاني. توفي سنة 220 ه.
انظر: الجرح والتعديل 2268. وتهذيب التهذيب 1196).
(6) هو عيسى بن عبدالله بن ماهان الرازي.
انظر: الجرح والتعديل 5227. وميزان الاعتدال 2404. وتهذيب التهذيب 5176.
(7) هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. توفي سنة 93 ه.
انظر: الجرح والتعديل 3510. وسير أعلام النبلاء 4207. وتهذيب التهذيب 3284.
(8) سورة البقرة، الآية 112.
(9) تفسير ابن أبي حاتم 1237. وأخرجه ابن جرير 1493. وابن كثير 1222. وانظر: الدر المنثور 1108. وفتح القدير 1120.
وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم عن رجال هذا الإسناد: "يُحتجّ بروايتهم، لكنّ أبا العالية يُرسل كثيراً، ورواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مضطربة". تفسير ابن أبي حاتم 128، 35، 42. فالأثر في سنده اضطراب.
(10) هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي، أبو زكريا الكوفي، توفي سنة 203 ه.
انظر: الجرح والتعديل 9128. وتهذيب التهذيب 11175، 580، 584.(23/42)
، حدثنا ابن المبارك(1)، عن حيوة بن شريح(2)، عن عطاء بن دينار(3)، عن سعيد بن جبير(4): {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ}، قال: دينه(5).
وقال أبو الفرج(6): "أسلم: أخلص. وفي الوجه قولان: أحدهما: أنّه الدين، والثاني: العمل"(7).
وقال البغوي: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام: الاستسلام والخضوع، وخُصّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، قيل: مؤمنٌ، وقيل: مُخلصٌ(8).
__________
(1) هو عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم. ولد سنة 118ه، وتوفي سنة 181. أحد الأئمة الحفاظ.
انظر: تذكرة الحفاظ 1284. وتهذيب التهذيب 5382.
(2) هو حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري. توفي سنة 158 ه.
انظر: الجرح والتعديل 3306. وتهذيب التهذيب 369.
(3) هو عطاء بن دينار الهذلي، مولاهم المصري. توفي سنة 126ه. له مراسيل عن سعيد بن جبير. انظر: الجرح والتعديل 6332. وميزان الاعتدال 369. وتهذيب التهذيب 7198.
(4) هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد. تابعي ثقة، أخذ العلم في التفسير عن ابن عباس، وقتله الحجاج سنة 95 ه، ومات بعده بأيام.
انظر: الجرح والتعديل 49. والثقات 4275. وتهذيب التهذيب 411.
(5) تفسير ابن أبي حاتم 1337-338.
وقال محقق تفسير ابن أبي حاتم أيضاً: رجال إسناده ثقات، لكن رواية عطاء - التفسير - عن سعيد بن جبير مرسلة؛ حيث لم يأخذ عنه مباشرة، وإنما وجد صحيفة عن سعيد، فاكتتبها.
(6) ابن الجوزي.
(7) زاد المسير (تفسير ابن الجوزي) 1133.
(8) تفسير البغوي 1106.(23/43)
قلت: قول من قال: خضع وتواضع لربّه، هو داخلٌ في قول من قال: أخلص دينه، أو عمله، أو عبادته لله؛ فإنّ هذا إنّما يكون إذا خضع له وتواضع له دون غيره؛ فإنّ العبادة والدين والعمل له لا يكون إلا مع الخضوع له والتواضع، وهو مستلزمٌ لذلك. ولكنّ أولئك(1) ذكروا مع هذا أن يكون هذا الإسلام لله وحده؛ فذكروا المعنيَيْن: الاستلزام، وأن يكون لله.
حقيقة دين االإسلام
29أ
[و](2) قول من قال: خضع وتواضع لله، يتضمّن أيضاً أنّه أخلص عبادته ودينه لله؛ فإنّ ذلك يتضمّن الخضوع والتواضع لله دون غيره. وأمّا ذكره [التوجه](3): فقد بُسط الكلام عليه في غير هذا الموضع(4)، وتبيّن أنّ الله ذكر إسلام الوجه له، وذكر إقامة الوجه له في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّيْنِ}(5)، وذكر توجيه الوجه له في قوله: {إِنِّيْ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاْتِ وَالأرْضَ}(6)؛ لأنّ الوجه إنّما يتوَجّه إلى حيث توجَّه القلب، والقلب هو الملك، فإذا توجَّه الوجه نحو جهةٍ كان القلب متوجّهاً إليها، ولا يُمكن الوجه أن يتوجّه بدون القلب؛ فكان إسلام الوجه، وإقامته، وتوجيهه، مستلزماً لإسلام القلب، وإقامته، وتوجيهه. وذلك يستلزم إسلام كلّه لله، وتوجيه كله لله، وإقامة [كلّه](7) [لله](8). وبسط الكلام على ما يُناسب ذلك(9)(10).
الذين أنكروا المحبة لهم شبهتان
__________
(1) الذين فسّروا إسلام الوجه بإخلاص الدين أو العبادة أو العمل.
(2) ليست في ((ط))، وهي في ((خ))، و ((م)).
(3) في ((خ)): الوجه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: الجواب الصحيح 631.
(5) سورة الروم، الآية 30.
(6) سورة الأنعام، الآية 79.
(7) في ((ط)): كلها. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(8) ليست في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(9) انظر: الرد على المنطقيين ص 448.
(10) ها هنا في ((خ)) بياض بمقدار سطرين. وقد أُشير إلى ذلك في ((م))، و ((ط)).(23/44)
وهذا حقيقة دين الإسلام(1). لكن الذين أنكروا ذلك لهم شبهتان: إحداهما: أنّ المحبّة تقتضي المناسبة(2)، قالوا: وهي منتفية؛ فلا مناسبة بين المحدَث والقديم(3).
الشبهة الأولى والرد عليها
فيُقال لهم: هذا كلامٌ مجملٌ. تعنون بالمناسبة: الولادة؟ أو المماثلة؟ ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الربّ عنه؟؛ فإنّ الشيء يُنسب إلى أصله بأنّه ابن فلان، وإلى فرعه بأنّه أبو فلان، وإلى نظيره بأنّه مثل فلان. ولمّا سأل المشركون النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّه(4)، أنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَد}(5)؛ فلم يخرج من شيء، ولا يخرج منه شيء، ولا له مثل.
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1014،، 11200، 218.
(2) المناسبة بين المحِبّ والمحَبّ.
(3) ومثل هذا القول صدرمنهم في الرؤية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ مثبتة الرؤية، منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤية ربّه؛ قالوا: لأنّه لا مناسبة بين المحدَث والقديم؛ كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظاميّة، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه". مجموع الفتاوى 10695.
(4) قال الطبري: "ذُكِرَ أنّ المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزّة، فأنزل الله هذه السورة جواباً لهم. وقال بعضهم: بل نزلت من أجل اليهود: سألوه، فقالوا له: هذا الله خلق الخلقَ، فمن خلق الله ؟ فأنزلت جواباً لهم". تفسير الطبري 15342.
(5) سورة الإخلاص 1-4.(23/45)
فإن عنيتُم هذا، لم نُسلِّم أنّ المحبّة لا بُدّ فيها من هذا. وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متّصفاً بمعنى يُحبّه المحِبّ، فهذا لازم المحبّة، والربّ متّصفٌ بكل صفةٍ تُحَبّ. وكلّ ما يُحبّ فإنّما هو منه؛ فهو أحقّ بالمحبّة من كلّ محبوب. وإذا كان الإنسان يُحِبّ الملائكة، وهم من غير جنسه، لما اتصفوا به من الصفات الحميدة؛ فالسُبُّوح القُدُّوس ربُّ الملائكة والروح الذي كلّ ما اتّصفت به الملائكة وغيرهم، فهو من جوده وإحسانه، وهو العزيز الرحيم، إذ كان المخلوق كثيراً ما يتّصف بالعزّة دون الرحمة، أو تكون فيه رحمة بلا عزّة. وهو سبحانه: العزيز، الرحيم، الغفور، الودود، المجيد.
معنى اسم الودود
والودود: فعولٌ من الودّ. وقال شعيب: {إنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ}(1)، وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}(2)؛ فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع.
قال أبو بكر بن(3) الأنباري(4): الودود معناه: المحِبّ لعباده؛ من قولهم: وددتُ الرجل أودّه [وُدّاً، ووِدّاً، ووَدّاً](5)، ويُقال: وددتُ الرجلَ [وَدَاداً، ووِدَاداً، ووَدادةً](6).
__________
(1) سورة هود، الآية 90.
(2) سورة البروج، الآية 14.
(3) في ((خ)): ابن.
(4) انظر: كلام ابن الأنباري في تفسير ابن الجوزي؛ زاد المسير 4152. وانظر: كذلك تهذيب اللغة للأزهري؛ فقد نقل كلام ابن الأنباري في 14236.
وابن لأنباري هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري.
تقدمت ترجمته.
(5) ما بين المعقوفتين ضُبطت هكذا في ((خ)).
(6) ما بين المعقوفتين ضبطت هكذا في ((خ)).(23/46)
وقال الخطابي(1): "هو اسمٌ مأخوذٌ من الودّ، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون فعولاً في محلّ مفعول؛ كما قيل: رجل هيوب بمعنى مهيب، وفرس رَكوب بمعنى مركوب. والله سبحانه [وتعالى](2) مودودٌ في قلوب أوليائه، لما [يتعرّفونه](3) من إحسانه إليهم(4). والوجه الآخر: [أن يكون بمعنى الوادّ](5)؛ أي أنّه يودُّ عباده الصالحين؛ بمعنى أنّه يرضى عنهم، ويتقبّل أعمالهم(6). [ويكون](7) معناه أن يُودِّدهم إلى خلقه؛ كقوله: {سَيَجْعَلُ لَُهمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}(8)"(9).
الأدلة على أن الله يحب عباده ويحبونه
__________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) ما بين المعقوفتين ليست في ((خ))، و لا في شأن الدعاء للخطابي. وهي في ((م))، و((ط)).
(3) كذا في ((خ))، وفي شأن الدعاء. وفي ((م))، و ((ط)): يعرفونه.
(4) في ((شأن الدعاء)) زيادة: وكثرة عوائده عندهم.
(5) ما بين المعقوفتين في شأن الدعاء هكذا: أن يكون الودّ بمعنى الوادّ. وما أثبت من ((خ))، وفي ((م))، و ((ط)): أن يكون بمعنى الودّ.
(6) وهذا تأويل للصفة؛ لأنّ المحبّة غير الرضى، وغير قبول الأعمال.
(7) في ((شأن الدعاء)) للخطابي: وقد يكون. وفرق بين العبارتين؛ فالأولى فسّرت الوجه الآخر، وهذه أتت بمعنى جديد.
(8) سورة مريم، الآية 96.
(9) شأن الدعاء للخطابي ص74. وانظر: كلامه في زاد المسير لابن الجوزي 4152.(23/47)
قلت: قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}(1) فسّروها بأنّه يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى عباده(2)؛ كما في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى: يا جبريل إنّي أُحِبُّ فلاناً فأحبَّه، فيُحبُّهُ جبريل، ثمّ يُنادى في السماء: إنّ الله يُحِبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيُحبُّه أهل السماء، ثمّ يُوضع له القبول في الأرض". وقال في البغض مثل ذلك(3).
__________
(1) سورة مريم، الآية 96.
(2) انظر: تفسير الطبري 1132-133. وزاد المسير 5266. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى 15232.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 31175، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، و52146، كتاب الأدب، باب الحبّ في الله، و62721، كتاب التوحيد، باب كلام الربّ مع جبريل، ونداء الله الملائكة. - وفي كلّ هذه المواضع لم يذكر في البُغض مثل ذلك - ومسلم في صحيحه 42030، كتاب البرّ والصلة والآداب، باب إذا أحبّ الله عبداً حبّبه إلى عباده. ومالك في الموطأ 2953. وأحمد في المسند 2514. - وقد ذُكر فيها في البُغض مثل ما ذُكِر في الحبّ -.(23/48)
وقال عبد [بن](1) حُميد(2): أنبأ عبيد الله بن موسى(3)، عن ابن أبي ليلى(4)، عن الحكم(5)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}(6)، قال: "يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم"(7). ورواه ابن أبي حاتم أيضاً(8).
وقال عبدُ: أخبرني شبّابة(9)، عن ورقاء(10)
__________
(1) في ((خ)): ابن بإثبات ألف ابن.
(2) هو عبد بن حميد بن نصر، أبو محمد الكِسِّيّ، اسمه عبدالحميد، فخُفِّف. والكِسِّيّ نسبة إلى بلدة في ما وراء النهر، تُقارب سمرقند، يُقال لها: كِسّ. ويُقال له أيضاً: الكِشِّيّ؛ منسوب إلى كِشّ؛ قرية من قرى جرجان، وإذا أعرب كتب بالسين. ولد عبد بن حميد بعد السبعين ومائة بكِشّ، ونشأ بها، ثمّ رحل وطوّف في البلاد الإسلاميّة للسماع والتلقّي. قال عنه الذهبيّ: كان من الأئمة الثقات. وقال ابن حجر: ثقة حافظ من الحادية عشرة. مات سنة تسع وأربعين. ومن مصنفاته: التفسير، والمسند. انظر: الأنساب للسمعانيّ 11108. وسير أعلام النبلاء 12235. وتذكرة الحفّاظ 2524. وتقريب التهذيب 1640.
(3) هو عبيد الله بن موسى بن أبي المختار باذام العبسي الكوفي، أبو محمد، من التاسعة. مات سنة 213 ه. انظر: الجرح والتعديل 5334. وميزان الاعتدال 316. وتقريب التهذيب 1640.
(4) ستأتي ترجمته.
(5) هو الحكم بن عتيبة الكندي - بالولاء -، أبو محمد. توفي سنة 113 ه.
انظر: الجرح والتعديل 3123. وتهذيب التهذيب 2433.
(6) سورة مريم، الآية 96.
(7) أخرجها الطبري في تفسيره 1132. وانظر: زاد المسير 5266. والدر المنثور 4287.
(8) انظر: الدر المنثور 4287.
(9) هو شبابة بن سوار الفزاري، مولاهم أبو عمر المدائني الخراساني. توفي سنة 254 ه. انظر: الجرح والتعديل 4392. وميزان الاعتدال 2260.
(10) هو ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري، أبو بشر الكوفي. ثقة.
انظر: الجرح والتعديل 950. وميزان الاعتدال 4332. وتهذيب التهذيب 11113.(23/49)
، عن ابن أبي نجيح(1)، عن مجاهد(2):{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}، قال: "يُحبُّهم، ويُحبِّبُهم إلى المؤمنين"(3). أخبرنا(4) عبد الرزاق(5)، عن الثوري(6)، عن مسلم(7)، عن مجاهد، عن ابن عبّاس: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}، قال: محبّةً(8).
__________
(1) هو عبدالله بن أبي نجيح؛ يسار الثقفي، أبو يسار المكي. توفي سنة 101 ه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن تفسيره: "تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير". مجموع الفتاوى 17409.
(2) هو مجاهد بن جبر المكي، أبو الحجاج المخزومي. ولد سنة 21، وتوفي سنة 103 ه. انظر: الجرح والتعديل 8319. وميزان الاعتدال 3439. وتهذيب التهذيب 1042.
(3) تفسير مجاهد - تحقيق عبدالرحمن السورتي - ص 391. وانظر: تفسير الطبري 1132.
(4) القائل عبد بن حميد.
(5) هو عبدالرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم الصنعاني. ولد سنة 126، وتوفي سنة 211ه. انظر: الجرح والتعديل 639. وميزان الاعتدال 2609. وتهذيب التهذيب 6311.
(6) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبدالله الكوفي. الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة 97ه، وتوفي سنة 161ه. انظر: الجرح والتعديل 4222. وتاريخ بغداد 9151. وتهذيب التهذيب 4111.
(7) هو مسلم بن عمران، أو ابن أبي عمران البطين الكوفي.
انظر: الجرح والتعديل 8191. وتهذيب التهذيب 10134.
(8) تفسير القرآن للإمام عبدالرزاق - تحقيق مصطفى مسلم - 214. وانظر: تفسير الطبري 1132. والدر المنثور 4287.(23/50)
وهذا فيه إثبات حبّه لهم، بعد أعمالهم؛ بقوله:{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}، وهو نظير قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ}(1)؛ فهو يُحبُّهم إذا اتّبعوا الرسول. ونظير قوله في الحديث الصحيح: "ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها"(2).
وكذلك قوله: {وَأَحْسِنُوْا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ}(3). {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ}(4). {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِيْنَ}(5). {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِيْنَ يُقَاْتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِهِ صَفَّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَاْنٌ مَرْصُوْصٌ}(6).
وهذه الآيات وأشباهها تقتضي أنّ الله يُحِبّ أصحاب هذه الأعمال؛ فهو يُحِبّ التوابين، وإنّما يكونون توّابين بعد الذنب، ففي هذه الحال يُحِبُّهم. وهذا مبنيّ على الصفات الاختياريّة(7)
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 31.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 52384-2385، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعثت أنا والساعة كهاتين". وأحمد في مسنده 6256.
(3) سورة البقرة، الآية 195.
(4) سورة البقرة، الآية 222.
(5) سورة التوبة، الآية 4.
(6) سورة الصف، الآية 4.
(7) الصفات الاختياريّة: هي الأمور التي يتصف بها الربّ عزّ وجلّ، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبّته...إلخ. فالجهميّة، ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من الصفات، ولا غيرها. جامع الرسائل 23-4.
ولشيخ الإسلام رحمه الله رسالة صغيرة في هذا الموضوع، اسمها: ((رسالة في الصفات الاختياريّة)) ضمن جامع الرسائل 24-70.
وانظر: كلامه أيضاً رحمه الله عن مسألة قيام الأفعال الاختياريّة بالله تعالى، وأقوال السلف فيها، ومن أثبتها، أو نفاها في درء تعارض العقل والنقل 218-24.(23/51)
، فمن نفاها(1) ردّ هذا كلّه.
من نفى الصفات الاختيارية لهم في المحبة قولان
ولهم(2) قولان: أحدهما: أنّ المحبّة قديمة؛ فهو يُحبّهم في الأزل إذا علِم أنّهم يموتون على حالٍ [مرضيّة](3)، ويقولون: إنّ الله يُحِبّ الكفّار في حال كفرهم إذا علم أنّهم يموتون على الإيمان، ويُبغض المؤمن إذا علم أنّه يرتدّ. هذا قول ابن كلاّب(4)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: فباب محبّة الله ضلّ فيه فريقان من الناس؛ فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها، وكذّبوا بحقيقتها. وفريق من أهل التعبّد والتصوّف والزهد، أدخلوا فيها من الاعتقادات، والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين". جامع الرسائل 2245.
(2) أي للمتكلّمة الكلابيّة والآشعريّة، ومن وافقهم في نفي الصفات الاختياريّة.
(3) ليست في ((خ)). وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) انظر: الإنصاف للباقلاني ص 69.
وذكر الأشعريّ في المقالات قول أصحاب ابن كلاّب "أنّ الله لم يزل راضياً عمّن يعلم أنّه يموت مؤمناً، ساخطاً على من يعلم أنّه يموت كافراً"، وذكر أنّ هذا هو قولهم في الولاية، والعداوة، والمحبّة. مقالات الإسلاميّين للأشعريّ 1350. وانظر: المصدر نفسه 2225، 255.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيّناً حال ابن كلاب وعقيدته: "أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطان، له فضيلة ومعرفة ردّ بها على الجهميّة والمعتزلة نفاة الصفات، وبيّن أنّ الله نفسه فوق العرش، وبسط الكلام في ذلك. ولم يتخلّص من شبهة الجهميّة كلّ التخلّص، بل ظنّ أنّ الربّ لا يتصف بالأمور الاختياريّة التي تتعلّق بقدرته ومشيئته؛ فلا يتكلّم بمشيئته وقدرته، ولا يُحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل محباً راضياً، أو غضبان ساخطاً على من علم أنّه يموت مؤمناً أو كافراً. ولا يتكلّم بكلام بعد كلام...". مجموع الفتاوى 7662. وانظر: المصدر نفسه 8340-343.(23/52)
، ومن [تبعه](1). ثمّ منهم من يُفسّر المحبّة بالإرادة(2)، ومنهم من يقول: هي صفة زائدة على الإرادة(3). والقول الثاني: يجعلون هذا من باب الفعل؛ فالمحبّة عندهم: إحسانه إليهم، والإحسان عندهم ليس فعلاً قائماً به، بل بائناً عنه(4).
والكتاب، والسنّة، وأقوال السلف والأئمة، والأدلة العقليّة إنّما تدلّ على القول الأوّل(5)، كما قد بُسط في غير هذا الموضع(6)؛ إذ المقصود هنا [ذِكرُ اسمه (الودود)، والأكثرون على ما ذكره](7) ابن الأنباري(8)، وأنّه فعولٌ بمعنى فاعل؛ أي هو الوادُّ، كما قرنه بالغفور؛ وهو الذي يغفر، وبالرحيم؛ وهو الذي يرحم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي(9)
__________
(1) في ((خ)): اتبعه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 332. وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 69. وجامع الرسائل 2237. ومجموع الفتاوى 10697.
(3) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 37. وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعه ص 139، 143-144. وتأويل الأحاديث الموهمة للتشبيه للسيوطي ص 120. وانظر: أيضاً مجموع الفتاوى لابن تيمية 8340-341.
(4) انظر: الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام ص 144- 145 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي1150. وانظر: جامع الرسائل 2237.
(5) القول الأوّل: هو تفسير الودود بأنّه المُحِبّ لعباده. وليس المراد به القول الأول من أقوال المؤوّلة لصفة المحبّة - والذي تقدّم آنفاً -.
(6) انظر: من كتب شيخ الإسلام: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2193-401. ومجموع الفتاوى 8337، 370. ودرء تعارض العقل والنقل 662-65.
(7) ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط)). وهي في ((خ))، و ((م)).
(8) انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4152.
(9) هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود، أبو حاتم الرازي الحنظلي. الإمام الحافظ شيخ المحدثين.
انظر: الجرح والتعديل 1349-375. وسير أعلام النبلاء 13247. وشذرات الذهب 2171.(23/53)
، ثنا عيسى بن جعفر؛ قاضي الريّ(1)، ثنا سفيان في قوله: {إَنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ}(2)، قال: مُحِبّ. وقال(3): قُرئ على يونس(4): ثنا ابن وهب(5)، قال: وقال ابن زيد(6): قوله: (الودود)، قال: الرحيم. وقد ذَكَرَ(7) فيه [قولين](8)؛ القول الأوّل رواه من تفسير الوالبي(9)
__________
(1) انظر: ترجمته في الجرح والتعديل 6273.
(2) سورة هود، الآية 90.
(3) أي ابن أبي حاتم.
(4) هو يونس بن حبيب بن عبد القاهر بن عبد العزيز الأصبهاني، أبو بشر. توفي سنة 267ه. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بأصبهان وهو ثقة. انظر: الجرح والتعديل 9237.
أو: يونس بن راشد الجزري، أبو إسحاق الحراني القاضي. انظر: الجرح والتعديل 9239. وميزان الاعتدال 4480. وتهذيب التهذيب 11439.
(5) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم، أبو محمد المصري. توفي سنة 198 ه.
انظر: الجرح والتعديل 5189. وتهذيب التهذيب 671.
(6) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم، المدني. توفي سنة 182 ه.
انظر: الجرح والتعديل 5233. وميزان الاعتدال 2564. وتهذيب التهذيب 6177.
(7) أي ابن أبي حاتم. والظاهر أنّه ذكر هذين القولين في تفسيره، ولكن لم يُطبع منه إلا الأجزاء الأولى.
(8) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(9) هو علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي. قال عنه الذهبي: "أخذ تفسير ابن عباس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهداً، بل أرسله عن ابن عباس". مات سنة 123 هـ. صنّف تفسير القرآن. وطريقه عن ابن عباس من أجود الطرق، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: (إنّ بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجلٌ فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً).
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3134. وتهذيب التهذيب لابن حجر 7339. والاتقان للسيوطي 2188. والتفسير والمفسرون للذهبي - المعاصر - 177.
وتفسير الوالبي نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراراً في كتبه بهذا الاسم.
انظر: على سبيل المثال: درء تعارض العقل والنقل 8478، 480. وشرح حديث النزول ص 312. وشرح الأصفهانية - ت السعوي - ص 380. ومنهاج السنة النبوية 2186، 5136، 139، 290. وجامع الرسائل والمسائل 4-5340. وأخذ عنه في هذا الكتاب - النبوات - عدّة مرات.
ولقب الوالبي يشترك فيه ثلاثة أشخاص، كلهم يروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكلهم من المفسرين؛ أولهم: سعيد بن جبير الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي. قال عنه ابن حجر: ثقة. قتله الحجاج سنة 95 ه. انظر: تقريب التهذيب 1292. وحلية الأولياء 4272. وثانيهم: أبو خالد هرمز مولى بني والبة، من بني أسد، من أهل الكوفة. ثقة، مات سنة 100 ه انظر: طبقات ابن سعد 6228. وتهذيب التهذيب 1283-84. والثالث: علي بن أبي طلحة؛ سالم بن مخارق الوالبي؛ كما صرّح باسمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مبيِّناً أنّه هو المقصود، وقال عنه: إنه لم يسمع التفسير عن ابن عباس. انظر: جامع الرسائل والمسائل 4-5540. وشرح الأصفهانية 1380.(23/54)
عن ابن عباس قوله: (الودود)، قال: الحبيب(1). والثاني: قول ابن زيد: الرحيم(2). وما ذكره الوالبي [أنّه](3) الحبيب، قد يُراد به المعنيان؛ أنّه يُحِبُّ، ويُحَبُّ(4)؛ فإنّ الله يُحب من يحبه، وأولياؤه يُحبهم ويُحبُّونه.
والبغويّ ذكر الأمرين، فقال: وللودود معنيان؛ [أنّه](5) يُحِبّ المؤمنين، وقيل: هو بمعنى المودود؛ أي محبوب المؤمنين(6).
وقال(7) أيضاً في قوله: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}(8): أي المحبّ لهم، وقيل: معناه المودود؛ كالحَلُوب، والرَّكوب؛ بمعنى المحلوب والمركوب، وقيل: يغفر، ويودّ أن يغفر، وقيل: المتودّد إلى أوليائه بالمغفرة(9).
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره عن ابن عباس 15138، عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}. وانظر: صحيح البخاري 41885، كتاب التفسير، باب تفسير سورة البروج؛ فإنّه ذكره عن ابن عباس. وانظر: أيضاً فتح القدير للشوكاني 5417.
(2) رواه الطبري في تفسيره عن ابن زيد 15139 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}، وانظر: تفسير القرطبي 19195. وفتح القدير للشوكاني 5413.
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(4) قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية 289 - شرح الهراس -:
وهو الودود يُحِبّهم ويُحبُّهُ
أحبابه والفضل للمنّان
وهو الذي جعل المحبّة في
قلوبهم وجازاهم بحب ثان
وانظر: توضيح المقاصد - شرح ابن عيسى - 2230. وبدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم رحمه الله 5172 عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}. وانظر: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي 1198.
(5) في ((م))، و ((ط)): أن.
(6) تفسير البغوي 2399.
(7) أي البغويّ.
(8) سورة البروج، الآية 14.
(9) تفسير البغوي 5471.(23/55)
قلت: هذا اللفظ معروفٌ في اللغة أنّه بمعنى الفاعل(1)؛ كقول النبيّ [صلى الله عليه وسلم]: "تزوّجوا الودود الولود"(2). وفعول بمعنى فاعل كثيرٌ؛ كالصبور، والشكور، وأمّا بمعنى مفعول، فقليلٌ. وأيضاً: فإنّ سياق القرآن يدلّ على أنّه(3) أراد أنّه هو الذي يودّ عباده؛ كما أنّه هو الذي يرحمهم ويغفر لهم؛ فإنّ شعيباً قال: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ}(4)؛ فذكر رحمته وودّه؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(5). وهو أراد وصفاً يُبيّن لهم أنّه سبحانه يغفر الذنب، ويُقبل على التائب؛ وهو كونه وَدوداً؛ كما قال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ}(6)
__________
(1) انظر: اشتقاق أسماء الله ص 152 لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجاجي؛ فإنه قال: "الودود فيه قولان: أحدهما: أنّه فعول بمعنى فاعل؛ كقولك غفور بمعنى غافر، وكما قالوا: رجل صَبور بمعنى صابر، وشَكور بمعنى شاكر؛ فيكون الودود في صفات الله تعالى عزّ وجلّ على هذا المذهب أنّه يودّ عباده الصالحين ويُحبّهم. والودّ، والمودّة، والمحبّة في المعنى سواء؛ فالله عزّ وجلّ ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو محبّ لهم. والقول الآخر: أنّه فعول بمعنى مفعول؛ كما يُقال: رجلٌ هَيوب؛ أي مهيب؛ فتقديره: أنّه عزّ وجلّ مودودٌ؛ أي يودّه عباده ويحبّونه. وهما وجهان جيّدان". اشتقاق أسماء الله لأبي القاسم الزجاجي ص 152. وانظر: تفسير الأسماء للزجاج ص 52.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3158، 245. ورواه ابن حبان في صحيحه وصححه في كتاب النكاح، باب ما جاء في التزويج واستحبابه، رقم 1228. ورواه سعيد بن منصور في سننه 1139، باب الترغيب في النكاح.
(3) في ((م))، و ((ط)) زيادة كلمة (صح) بعد: أنّه، وهي ليست في ((خ)). ولا وجه لإثباتها.
(4) سورة هود، الآية 90.
(5) سورة الروم، الآية 21.
(6) سورة البقرة، الآية 222.(23/56)
. وقد ثبت في الصحاح من غير وجهٍ عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّ الله يفرح بتوبة التائب أشدّ من فرح من فقد راحلته بأرضٍ دَوِّيَّةٍ(1) مُهلكة، ثمّ وجدها بعد اليأس(2). فهذا الفرح منه بتوبة التائب يُناسب محبّته له، ومودّته له. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}(3)، فإنّه مثل قوله: {وَهُوَ الرَّحِيْم الْغَفُوْرُ}(4).
__________
(1) الأرض الدويّة: هي الأرض القفر، والفلاة الخالية. قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويُقال: دوية، وداوية: مهلكة: هي موضع خوف الهلاك. ويُقال لها مفازة، قيل: إنّه من قولهم: فوز الرجل إذا هلك. وقيل: على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها؛ كما يُقال للّديغ: سليم. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2143، 5271. وشرح النووي على صحيح مسلم 1761.
(2) يُشير رحمه الله إلى الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، ولفظه: "لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرضٍ دوّيّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت. فطلبها، حتى أدركه العطش، ثمّ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه، فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه. فالله أشدّ فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. ومسلم في صحيحه 42102-2103، كتاب التوبة، باب في الحضّ على التوبة والفرح بها. ومسند الإمام أحمد 383؛ كلهم أخرجوه بألفاظ متقاربة.
(3) سورة البروج، الآية 14.
(4) سورة سبأ، الآية 2.(23/57)
وأيضاً: فإنّ كونه مودوداً؛ أي محبوباً، يُذكر على الوجه الكامل الذي يتبيّن اختصاصه به؛ مثل: [اسم](1) الإله؛ فإنّ الإله: المعبود هو مودودٌ بذلك، ومثل اسمه الصمد، ومثل ذي الجلال والإكرام، ونحو ذلك(2).
وكونه مودوداً ليس بعجيب، وإنّما العجب: جوده، وإحسانه؛ فإنّه يتودّد إلى عباده، كما جاء في الأثر: "يا عبدي! كم أتودّد إليك بالنّعم، وأنت تتمقّت إليّ بالمعاصي، ولا يزال مَلَكٌ كريم يصعد إليّ منك بعمل سيء"(3)
__________
(1) في ((ط)): الاسم. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً. فإذا كنّا إذا أحببنا شيئاً لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة، وحبّنا لذلك بطريق التبع. وكنّا نحب من يحب الله لأنّه يُحب الله، فالله تعالى يُحبّ الذين يحبونه؛ فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب". درء تعارض العقل والنقل 415. وانظر: أيضاً المصدر نفسه - عن المحبّة - 9374-376،، 672-73. وجامع الرسائل 2254.
(3) روى أبو نعيم الأصبهاني عن مالك بن دينار أنّه قال: "قرأت في بعض الكتب أنّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم خيري ينزل عليك، وشرّك يصعد إليّ، وأتحبّب إليك بالنّعم، وتتبغّض إليّ بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم قد عرج منك إليّ بعمل قبيح". حلية الأولياء 2358.
وانظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1194. وإثبات صفة العلو لابن قدامه ص 113وقال محققه: إسناده ضعيف لجهالة الشيخ القرشي. وأورده الذهبي من طريق ابن أبي الدنيا ص 97 وقال: إسناده مظلم. وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 268، فقد ذكر أنّ هذا الأثر رواه ابن أبي الدنيا.(23/58)
. وفي الصحيحين عن النبيّ [صلى الله عليه وسلم] أنّه قال: يقول الله تعالى: "من تقرّب إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"(1).
وجاء في تفسير اسمه الحنّان، المنّان: أنّ الحنّان: الذي يُقبل على من أعرض عنه.
معنى الحنان والمنان
والمنّان: الذي يجود بالنوال قبل السؤال(2).
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 62741، كتاب التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، و62694، كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {ويُحذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران 28]، باختلاف يسير في بعض الألفاظ.
ومسلم في صحيحه 42067-2068، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء.
وأحمد في مسنده 2413، 340، 122.
(2) قال الأزهريّ في تهذيب اللغة 15471: "ومن صفات الله تعالى: المنّان؛ ومعناه: المعطي ابتداءً. ولله المنّة على عباده، ولا منّة لأحدٍ منهم عليه".
وانظر: أيضاً شأن الدعاء للخطّابيّ ص 100.
وهذا الأثر أورده القرطبي بدون عزو في كتاب: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى - مخطوط - ق 70أ. وفيه: أنّ أكينة بن عبد الله التميمي سمع علي بن أبي طالب يقول وقد سئل عن الحنّان المنّان، فذكره...
وانظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص 453، تعليق المحقق رقم 13، والفتاوى 5573، و 16217.(23/59)
وأيضاً: فمبدأ الحبّ والودّ منه، لكن اسمه الودود يجمع المعنَيَيْن؛ كما قال الوالبيّ عن ابن عبّاس: أنّه الحبيب(1)؛ وذلك أنّه إذا كان يودّ عباده، فهو مستحقٌ لأن يودّه العباد بالضرورة. ولهذا من قال إنّه يُحبّ المؤمنين، قال: إنّهم يُحِبّونه؛ فإنّ كثيراً من النّاس يقول إنّه محبوب، وهو لا يُحِبّ شيئاً مخصوصاً، لكن محبّته بمعنى مشيئته العامّة(2). ومن النّاس من قال: أنّه لا يُحَبّ، مع أنّه يُثبت محبّته للمؤمنين.
القسمة في المحبة رباعية
__________
(1) انظر: تفسير الطبريّ 15139.
(2) ومن هؤلاء: غلاة الصوفيّة؛ فإنّهم يعتقدون أنّه ليس في مشهدهم لله محبوبٌ، مرضيّ، مرادٌ إلا ما يقع، فما وقع فالله يُحِبّه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه. فمشيئة الله العامّة التي تقع كلّها محبوبة له، يُريدها، ويرضى عنها كما زعموا.
انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 80-81.
ومن هؤلاء: الأشاعرة، ومن وافقهم؛ فإنّه لما ثبت عندهم أنّ المشيئة، والإرادة، والمحبّة، والرضى كلّها بمعنى واحد - على حدّ زعمهم، قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله؛ لأنّ الله شاءها وخلقها.
انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية ص 67. ومدارج السالكين لابن القيم 1228، 251، 2189.
ولازم هذا القول: أنّ الله - تعالى عن ذلك - يُحِبّ الكفر والمعاصي. انظر: الرسالة الأكملية - ضمن مجموع الفتاوى 6115-116 -.(23/60)
فالقسمة في المحبّة رباعيّة؛ فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين؛ قالوا: إنّه يُحِبّ، ويُحَبّ. والجهميّة والمعتزلة تُنكر الأمرين(1). ومن النّاس من قال: إنّه يُحبّه المؤمنون، وأمّا هو، فلا يُحبّ شيئاً دون شيء. ومنهم من عكس فقال: بل هو يُحبّ المؤمنين، مع أنّ ذاتَه لا يُحَبّ(2)؛ كما يقولون أنّه يَرحَم، ولا يُرحَم. فإذا قيل: إنّ الودود بمعنى الوادّ، لزم أن يكون مودوداً، بخلاف العكس. فالصواب القطع بأنّ الودود هو الذي يُوَدّ، وإن كان ذلك مُتَضَمَّنَاً؛ لأنّه يستحقّ أن يُوَدّ، ليس هو بمعنى الودود فقط.
ولفظ الوِداد بالكسر هو مثل الموادّة والتوادّ، وذاك يكون من الطرفين؛ كالتحابّ. وهو سبحانه لمّا جَعَلَ بين الزوجين مودّة ورحمة، كان كلّ منهما يودّ الآخر ويرحمه.
وهو سبحانه كما ثبت في الحديث الصحيح أرحم بعباده من الوالدة بولدها(3)
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-66. وجامع الرسائل 2245. ومجموع الفتاوى 8356.
(2) وقد بيّن شيخ الإسلام رحمه الله بطلان هذا القول، وذكر أنّ المحبوبات على قسمين، فقال: "المحبوبات على قسمين: قسمٌ يُحبّ لنفسه، وقسمٌ يُحب لغيره. إذ لا بُدّ من محبوبٍ يُحبّ لنفسه. وليس شيء شُرع أن يُحبّ لذاته إلا الله تعالى. وكذلك التعظيم لذاته، تارة يُعظّم الشيء لنفسه، وتارة يعظّم لغيره. وليس شيء يستحق التعظيم لذاته إلا الله تعالى. وكلّ ما أمر الله أن يُحَبّ ويُعظّم، فإنّما محبّته لله وتعظيمه عبادة لله؛ فالله هو المحبوب المعظَّم في المحبّة والتعظيم، المقصود المستقر الذي إليه المنتهى...". جامع الرسائل - قاعدة في المحبّة - 2287.
(3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 52235، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.
ومسلم في صحيحه 42109، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنّها سبقت غضبه.
وابن ماجه في السنن 21436، كتاب الزهد، باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة.
وأبو داود في سننه 3469، كتاب الجنائز، باب الأمراض المكفرة للذنوب.(23/61)
، وقد بيّن الحديث الصحيح أنّ فرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد ماله ومركوبه في مهلكة، إذ أوجدهما بعد اليأس(1). وهذا الفرح [يقتضي](2) أنّه أعظم مودّة لعبده المؤمن من المؤمنين بعضهم لبعض. كيف، وكلّ وُدِّ في الوجود فهو من فعله. فالذي جعل الودّ في القلوب هو أولى بالودّ؛ كما قال ابن عبّاس، ومجاهد، وغيرهما(3) في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}(4)؛ قال: يُحِبّهم، ويُحَبِّبهم(5). وقد دلّ الحديث الذي في الصحيحين(6) على أنّ ما يجعل من المحبّة في قلوب النّاس هو بعد أن يكون هو قد أحبّه، وأمر جبريل أن يُنادي بأنّ الله يُحبّه. فنادى جبريل في السماء أنّ الله يُحِبّ فلاناً فأحبّوه(7). وبسط هذا له موضعٌ آخر(8).
وفي مناجاة بعض الداعين: ليس العجب من حبّي لك مع حاجتي إليك، العجب من حبّك لي مع غناك عنّي(9).
وفي أثرٍ آخر: يا عبدي! وحقّي إنّي لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً(10).
ورُوِيَ: يا داود حبّبني إلي عبادي، وحبّب عبادي إليّ؛ مرهم بطاعتي فأحبّهم، وذكّرهم آلائي فيُحبّوني؛ فإنّهم لا يعرفون منّي إلا الحسن الجميل(11)
__________
(1) سبق تخريجه في ص 425.
(2) في ((خ)): تقتضي. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) سبق نقل كلامهم قريباً، ص 415-417.
(4) سورة مريم، الآية 96.
(5) تقدّم ص 417.
(6) وهو قوله عليه السلام: ((إذا أحبّ الله عبداً..))الحديث.
(7) سبق تخريج هذا الحديث ص 414.
(8) انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2287 -.
(9) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم 1034؛ عن أبي يزيد البسطامي.
(10) قال أبو حامد الغزالي: "وفي بعض الكتب: عبدي! أنا - وحقّك - لك محبّ، فبحقّي عليك كن لي محبّاً". إحياء علوم الدين 4274.
(11) انظر: إحياء علوم الدين 4138. وقال محقّقه: "الحديث لم أجد له أصلاً، وكأنّه من الإسرائيليّات".
وانظر: كتاب تصفية القلوب لليماني الذمار ص 298-299. وقال محقّقه: "رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة".
ولم أقف عليه في صحيح ابن حبان.(23/62)
.
وهو سبحانه كما قال؛ كلّ ما خلقه، فإنّه من نعمه على عباده. ولهذا يقول:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَاْ تُكَذِّبَاْن}(1). والخير بيديه، لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوّة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.
وودّه سبحانه هو لمن تاب إليه وأناب إليه؛ كما قال: {إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّاْلِحَاْتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً}(2)، وقال: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّاْبِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ}(3)؛ فلا يستوحش أهل الذنوب، وينفرون منه كأنّهم حمرٌ مستنفرة؛ فإنّه ودودٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحبّ التوابين، ويُحبّ المتطهّرين.
ولهذا قال شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّيْ رَحِيْمٌ وَدُوْدٌ}(4)، وقال هنا: {وَهُوَ الْغَفُوْرُ الْوَدُوْدُ}(5)؛ فذكر (الودود) في الموضعين لبيان مودّته للمذنب إذا تاب إليه، بخلاف القاسي الجافي الغليظ الذي لا ودّ فيه.
الشبهة الثانية لمن ينكر المحبة
__________
(1) سورة الرحمن، وردت في آيات كثيرة.
(2) سورة مريم، الآية 96.
(3) سورة البقرة، الآية 222.
(4) سورة هود، الآية 90.
(5) سورة البروج، الآية 14.(23/63)
والحجّة الثانية لهم: قالوا: إنّ الإرادة والمحبّة لا تتعلّق إلا بمعدومٍ يُراد فعله؛ فإنّه لو جاز أن يُراد الموجود، وأن يُراد القديم، لجاز أن يكون العالَم قديماً مع كونه مُراداً مقدوراً؛ كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة(1)؛ فإنّ القائلين أنّه موجب بذاته والعالَم قديم؛ منهم من يصفه بالإرادة؛ كأبي البركات(2)، وغيره؛ قالوا: ومن المعلوم بالاضطرار للعقلاء إذ قالوا: هذا الأمر حصل بالإرادة أن يكون محدَثاً، كائناً بعد أن لم يكن، ولهذا لا يجوز أن يُقال إنّ قدرته ومشيئته تعلّقت بوجوده، ولا ببقائه، ولا بكونه حيّاً، ومن قال إنّ صفاته قديمة الأعيان، لا يقول إنّ كلامه وإرادته حصلت بإرادته وقدرته.
فيقال: هذا الذي قالوه، صحيحٌ. لكن هنا نوعان؛
أحدهما: إرادة أن يفعل الشيء ويكون. فهذه لا تكون إلا مع حدوثه.
__________
(1) انظر: كلام الفلاسفة في هذا الموضوع في: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2397-398 -. والجواب الصحيح 622-45. ومجموع الفتاوى 7586-597.
(2) هو أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي. قال عنه الذهبي: "العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان". وكان يهودياً، وأسلم في آخر عمره. ولد نحو سنة 480 ه، وتوفي سنة 560 ه. انظر: سير أعلام النبلاء 20419. والأعلام 874.(23/64)
والثانية: محبّة نفس ذاته، من غير أن يفعل في الذات شيء. فهذه التي تتعلّق بالموجود، والباقي، والقديم. وإرادة الفعل تابعة لهذه؛ فإنّه لولا أن تكون الإرادة متعلّقة بنفس الشيء الموجود، امتنع أن يراد إيجاده؛ فإنّ من أراد [أن](1) يبنيَ بيتاً ليسكنه، إنّما مراده نفس البيت لسكناه والانتفاع، وإنّما البناء وسيلة إلى ذلك. لولا إرادة الغاية المقصودة بالذات لم تُرد الوسيلة. وإذا بناه، فهو مريد له بعد البناء، ولهذا يكره خرابه وزواله. وكذلك من أراد أن يلبس ثوباً، فلبسه، فهو في حال اللبس مريدٌ له. فمن أراد إحداث أمر وفعله، كانت إرادة فعله لغاية مقصودة بعد الفعل، هي العلّة [الغائيّة](2).
والفعل المطلوب لغاية، لفاعله إرادتان: إرادة الفعل، وإرادة الغاية. وهذه(3) هي الأصل، وتلك(4) تبعٌ لهذه.
والإرادة إرادة لا تتعلّق بالمعدوم من جهة كونه معدوماً، بل تتعلّق بوجود الفعل، لكن يمتنع أن يراد فعله إلا إذا كان معدوماً(5).
فالعدم شرطٌ في إرادة فعله، ولهذا جُعل من جملة علل الفعل.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين في ((ط)): الغائبة. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
والعلّة الغائيّة هي: ما يوجد الشيء لأجله.
انظر: التعريفات للجرجاني ص 202. والمبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي ص 123. ومعيار العلم في فنّ المنطق للغزالي ص 313.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعلة الغائية متقدّمة في التصوّر والإرادة، وهي متأخرة في الوجود؛ فالمؤمن يقصد عبادة الله ابتداءً، وهو يعلم أنّ ذلك لا يحصل إلا بإعانته، فيقول: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ}.
مجموع الفتاوى 10284. وانظر: المصدر نفسه 8187. ودرء تعارض العقل والنقل 1329-330.
(3) أي إرادة الغاية.
(4) أي إرادة الفعل.
(5) انظر: قاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل 2398 -.(23/65)
ولهذا كان جماهير العقلاء مطبقين على أنّ كلّ مفعولٍ فهو حادث، وكلّ ما أريد أن يُفعل فإنّه يكون حادثاً، وكلّ ما تعلّقت المشيئة والقدرة بفعله فهو حادث.
ثمّ من النّاس من يقول: هذا مختصّ بكونه مفعولاً بالاختيار، وإلا إذا كان معلولاً لعلّة موجبة، لم يلزم حدوثه.
وهو غلط. بل كلّ ما فُعل، فلا يكون إلا مُحدَثاً؛ سواءٌ كان ذلك ممكناً، أو ممتنعاً. بل نفس كونه مفعولاً مستلزمٌ حدوثه، ونفس تصوّر العلم بكونه مفعولاً يوجب العلم بحدوثه، وإن لم يخطر بالبال كونه مفعولاً بالقدرة والاختيار(1).
ثمّ قد يُقال: ما من مفعول إلا وهو مفعولٌ بالاختيار. والقديم إذا قُدّر فاعلاً بلا مشيئة، كان ذلك ممتنعاً. والموجب بالذات إذا قيل هو موجب بذاته المتصفة بمشيئته وقدرته لما يشاؤه، و[هذا](2) حقّ، وهو مستلزمٌ لكونه فاعلاً بمشيئته وقدرته. وأمّا موجب بلا مشيئة، أو موجب يُقارنه موجب، فهذان باطلان، وبهما ضلّ من ضلّ من االمتفلسفة القائلين بقدم الفلك ونفي الصفات. ولكن: من أراد إحداث شيء وأحدثه، لم يجب أن تنقطع إرادته، بل قد يكون مريداً له ما دام موجوداً، ولولا أنّه مريد لوجوده لما فعله. فكلّ ما شاء الله وجوده، فهو مريد إحداثه وبقاءه ما دام باقياً. وأمّا الإرادة والمحبّة المتعلّقة بالقديم: فليست إرادة فعل فيه، بل هي محبّة ذاته. وكلّ إرادة ومحبّة، فلا بُدّ أن تنتهي إلى محبوبٍ لذاته. وكلّ فاعل بالإرادة، فإرادته تستلزم محبّة عامّة لأجلها فعل(3).
__________
(1) انظر: مختصر الصواعق لابن الموصلي 2116.
(2) في ((خ)): ولهذا. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: قاعدة في المحبّة - ضمن جامع الرسائل 2401 -.(23/66)
فالحبّ أصل وجود كلّ موجود، والربّ تعالى يُحبّ نفسه. ومن لوازم [حبّه](1) نفسه: أنّها محبّة مريدة لما يريد أن يفعله، وما أراد فعله، فهو يريده لغاية يُحبّها؛ فالحبّ هو العلّة الغائيّة التي لأجله كان كلّ شيء.
الفلاسفة يصفون الله بالابتهاج والفرح
والمتفلسفة يصفونه بالابتهاج و[الفرح](2)؛ كما جاءت به النصوص النبويّة، لكنّهم يُقصّرون في معرفة هذا وأمثاله من الأمور الإلهيّة؛ فإنّهم يقولون: اللّذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وهو مدرك لذاته بأفضل إدراك(3)؛ فهو أفضل مدرِك لأفضل مدرَك بأفضل [إدراك](4).
تقصير الفلاسفة في ذلك من ثلاثة أوجه
وقد قصّروا في ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ اللّذّة والفرح والسرور والبهجة ليس هو مجرّد الإدراك، بل هو حاصل عقب الإدراك؛ فالإدراك موجب له، ولا بُدّ في وجوده من محبّة. فهنا ثلاثة أمور: محبّة، وإدراك لمحبوب، ولذّة تحصل بالإدراك. وهذا في اللّذّات الدنيويّة الحسيّة وغيرها؛ فإنّ الإنسان يشتهي الحلو ويُحبّه، فإذا ذاقه التذّ بذوقه، والذوق هو الإدراك(5). وكذلك في لذّات قلبه يُحِبّ الله؛ فإنّه إذا ذكره، وصلّى له، وجد حلاوة ذلك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ قُرّة عيني في الصلاة"(6).
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): الفرج. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: المباحث المشرقية في علم الإلهيّات والطبيعيّات للرازي 1513-514.
(4) في ((خ)): ادرك. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) انظر: المباحث المشرقية للرازي 1514؛ فقد ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام هذا.
(6) الحديث رواه أحمد في المسند 3128، 199، 285. والنسائي 761 في عشرة النساء، باب حبّ النساء. والحاكم في المستدرك 2160، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ من حديث أنس.(23/67)
وأهل الجنّة إذا تجلّى لهم، فنظروا إليه، قال: فما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النّظر إليه(1).
والله أعلم(2)(3).
__________
(1) هو جزء من حديث سبق تخريجه ص 398.
(2) وانظر: أقسام النّاس في مقاصد العبادات - سيّما الفلاسفة - في: الجواب الصحيح 637-41. وجامع الرسائل 2251-252. ومجموع الفتاوى 7536.
(3) كتب الناسخ عند نهاية هذا الكلام:
آخر المجلد الحادي والعشرين من بعد المائة الملحق بالكواكب الدراري، ولله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناءً عليه. وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وآله وأصحابه. ختم آخره [.......] بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي عشيّة يوم الخميس حادي وعشرين شهر شوال سنة ثلاثين وثمان مائة من الهجرة النبوية، عفى الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولجميع المسلمين.
يتلوه فصل في تمام القول في محبة الله وانقسام المراد إلى ما يراد لذاته... إلخ.
ملاحظة: في الأصل بين المعقوفتين - التي بعد ختم آخره - بياض، وقد ظهر لي أن اسمه إبراهيم، وذلك من خلال جزء من مخطوطة الكواكب الدراري التي كتبها. وكذلك في البطاقة التي فيها الفهارس والتعريف بكتاب النبوات في مكتبة الجامعة الإسلامية.(23/68)
فصل(1)
في تمام القول في محبّة الله(2)،
وانقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره(3)
تابع: الوجه الأول في الرد على الفلاسفة
__________
(1) كُتب في بداية الورقة: "بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم عونك، لا حول ولا قوة إلا بك".
(2) انظر: كلام المؤلف - رحمه الله - على محبّة الله تعالى في: منهاج السنة النبوية 5388-412. والاستقامة 288-128. ومجموع الفتاوى 1478. والجواب الصحيح 639. وقاعدة في المحبة - ضمن جامع الرسائل - 2193-401.
(3) انظر: مزيد كلامٍ للمؤلف - رحمه الله - عن انقسام المراد إلى ما يُراد لذاته، وإلى ما يُراد لغيره في: درء تعارض العقل والنقل 663-66.(24/1)
ثمّ(1) ذلك الغير لا بُدّ أن يكون مُراداً لذاته، فالمراد لذاته لازمٌ لجنس الإرادة، والإرادة لازمة لجنس الحركة؛ فإنّ الحركة [الطبيعيّة(2)،و](3) القسريّة(4) مستلزمةٌ للحركة الإراديّة(5). والحركة الإراديّة مستلزمة لمرادٍ لذاته. فكان جنس الحركات الموجودة في العالَم مستلزمة للمراد لذاته؛ وهو المعبود الذي يستحق العبادة لذاته؛ وهو الله لا إله إلا هو(6)
__________
(1) في ((ط)): تمّ - بالتاء -، وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(2) الحركة الطبيعيّة: هي التي لا تحصل بسبب أمر خارج، ولا تكون مع شعورٍ وإرادة؛ كحركة الحجر إلى أسفل. التعريفات للجرجاني ص 85.
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)). وهو في حاشية ((خ))، فوق السطر، وعليه علامة التصحيح ((صح)).
(4) الحركة القسريّة: ما يكون مبدؤها بسبب ميلٍ مستفادٍ من خارج؛ كالحجر المرمى إلى فوق. فهي حركة اضطراريّة. التعريفات للجرجاني ص 85.
(5) الحركة الإراديّة: ما لا يكون مبدؤها بسبب أمرٍ خارجٍ مقارناً بشعورٍ وإرادة؛ كالحركة الصادرة من الحيوان بإرادته. التعريفات ص 85.
(6) هذا الدليل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله دليلٌ عقليّ، يستخدمه كثيراً رحمه الله، وقد قال عنه في بعض كتبه: "الحركات الموجودة في العالم ثلاثة: قسرية، وطبيعية، وإرادية. ووجه الحصر: أنّ مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج. فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه؛ كصعود الحجر إلى فوق؛ فهذه الحركة القسرية. وإن كانت بسبب منه؛ فإمّا أن يكون المتحرك له شعور، وإما أن لا يكون. فإن كان له شعور، فهي الحركة الإرادية، وإلا فهي الطبيعية. والحركة الطبيعية في العناصر: إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعيّ، وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة. فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض. وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك في الخارج، عُلم أنّ أصل الحركات كلها الإرادة، فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلويّ والسفليّ هو الإرادة". كتاب الصفدية 1174-175. وانظر: مجموع الفتاوى 16131، 8171.
وقد استخدم شيخ الإسلام رحمه الله هذا الدليل أيضاً لإثبات وجود الملائكة بالعقل. انظر: المصدر المتقدم نفسه.(24/2)
، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. وكلّ عملٍ لا يُراد به وجهه، فهو باطلٌ. وكلّ عاملٍ لا يكون [عمله](1) لله، بل لغيره، وهو المشرك؛ فإنّه كما قال تعالى: {فَكَأَنَّمَاْ خَرَّ مِنَ السَّمَاْءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِيْ بِهِ الرِّيْحُ فِيْ مَكَاْنٍ سَحِيْقٍ}(2)؛ فإنّ قوام الشيء بطبيعته الخاصّة به؛ فالحيّ قوامه بطبيعته المستلزمة لحركته الإراديّة، وقوامها بالمراد لذاته، فإذا لم يكن حركتها لإرادة المعبود لذاته، لم يكن لنفسه قوام، بل بقيت ساقطة، خارَّة؛ كما ذكر الله تعالى. ولهذا يهوي في الهاوية؛ وهو ذنبٌ لا يُغفر؛ لأنّه فسد الأصل؛ كالمريض الذي فسد قلبه، لا ينفع مع ذلك إصلاح أعضائه.
لفظ الدعاء في القرآن
ولفظ دعاء الله في القرآن(3) يُراد به دعاء العبادة، ودعاء [المسألة](4)؛ فدعاء العبادة يكون الله هو المراد به، فيكون الله هو المراد. ودعاء المسألة يكون المراد منه(5)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(2) سورة الحج، الآية 31.
(3) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، وقرأ: {وَقَاْلَ رَبُّكُمُ ادْعُوْنِيْ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاْخرِيْنَ}[سورة غافر، الآية 60]. والحديث أخرجه الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) في ((خ)): للمسألة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) أي من الله تعالى.
والدعاء ينقسم إلى نوعين:
دعاء مسألة: وهو سؤال الله تعالى بأسمائه الحسنى ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره. ودعاء عبادة: وهو التعبّد لله تعالى بمقتضى هذه الأسماء التي فيها ثناء على الله تعالى، والنوعان متلازمان. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} الآيات وفيها : {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعا} وقد اشتملت الآية على النوعين، قيل: أعطيه إذا سألني، قيل: أثيبه إذا عبدني. انظر: مجموع الفتاوى 5211، 1510-11. واقتضاء الصراط المستقيم 2778-779. وبدائع الفوائد1164، 32-3. وزاد المعاد 1335. وتيسير العزيز الحميد ص 216، 640.(24/3)
؛ كما في قول المصلّي: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاْكَ نَسْتَعِيْنُ}(1)؛ فالعبادة إرادته، والاستعانة وسيلة إلى العبادة إرادة المقصود، وإرادة الاستعانة إرادة الوسيلة إلى المقصود، ولهذا قدّم قوله: {إِيَّاْكَ نَعْبُدُ}، وإن كانت لا تحصل إلا بالاستعانة؛ فإنّ العلّة الغائيّة مقدّمة في التصوّر والقصد، وإن كانت مؤخّرة في [الوجود](2) والحصول، وهذا إنّما يكون لكونه هو المحبوب لذاته.
__________
(1) سورة الفاتحة، الآية 5.
(2) في ((خ)): الوجد. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(24/4)
لكن المراد به محبّة مختصة به على سبيل الخضوع له والتعظيم، وعلى سبيل تخصيصها به؛ فيُعبّر عنها بلفظ الإنابة، والعبادة، ونحو ذلك؛ [إذ](1) كان لفظ المحبّة (جنس عامّ)، يدخل فيه أنواع كثيرة، فلا يرضى لله بالقدر المشترك، بل إذا ذُكِر من يُحبّ غير الله، قال تعالى: {وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ}(2)، وإذا ذُكِر محبّتهم لربّهم، ذُكِرت محبّته لهم، وجهادهم؛ كما في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَاْفِرِيْنَ يُجَاْهِدُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ وَلا يَخَاْفُوْنَ لَوْمَةَ لائِمٍ}(3)، وفي مثل قوله:{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَجِهَاْدٍ فِيْ سَبِيْلِهِ}(4). ولهذا كانت القلوب [تطمئنّ بذكره](5)؛ كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ}(6)؛ فتقديم المفعول يدلّ على أنّها لا تطمئِنّ إلا بذكره، [و](7) هو تعالى إذا ذُكِرَ وَجِلَتْ، فحصل لها اضطراب ووجل لما [تخافه](8) من [دونه](9)، و[تخشاه](10) من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذُكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة ؛ لأنّه هو المعبود لذاته، والخير كلّه منه؛ قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَاْدِيْ أَنِّيْ أَنَاْ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ وَأَنَّ عَذَاْبِيْ هُوَ الْعَذَاْبُ الألِيْمُ}(11)
__________
(1) في ((ط)): إذا. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(2) سورة البقرة، الآية 165.
(3) سورة المائدة، الآية 54.
(4) سورة التوبة، الآية 25.
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(6) سورة الرعد، الآية 28.
(7) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(8) في ((خ)): يخافه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(9) في ((خ)): دونها. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(10) في ((خ)): يخشاه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(11) سورة الحجر، الآيتان 49-50.(24/5)
، وقال تعالى: {اِعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَاْبِ وَأَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}(1). وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربّه، ولا يخافنّ عبدٌ [إلا](2) ذنبه)) (3)؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب [من](4) العبد، وإلا فذكر الربّ نفسه يحصل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنةٍ فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سُئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال [النبيّ صلى الله عليه وسلم ](5): "ما اجتمعا في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه ممّا يخاف"(6).
__________
(1) سورة المائدة، الآية 98.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(3) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قول عليّ هذا: ما معناه؟ فأجاب رحمه الله: "هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من أحسن الكلام، وأبلغه، وأتمّه؛ فإنّ الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشرّ، والعبد إنّما يُصيبه الشرّ بذنوبه....." إلى آخر كلامه القيّم رحمه الله تعالى. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 8161-181.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(5) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(6) جزء من حديث رواه الترمذي في جامعه 3302، كتاب الجنائز، رقم 983، وقال: حديث غريب. وابن ماجه - من حديث أنس - في سننه 21423، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له. وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 4163: إسناده حسن. وقال عنه الشيخ الألباني: "رجاله ثقات، وفي سيار بن حاتم كلامٌ لا يضرّ. فالسند حسن". مشكاة المصابيح 1506.(24/6)
ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال: {أَلا بِذِكُرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ}(1)، بل قال: {إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُ}(2)، ثمّ قال: {وَإِذَاْ تُلِيَتْ عَلَيْهمْ آيَاْتُهُ زَأْدَتْهُمْ إِيْمَاْنَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُوْنَ}(3). وإنّما يتوكّلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنّه سبحانه حَسْبُ من توكّل عليه؛ يهديه، وينصره، ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكّل [عليه](4) يتضمّن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عمّا سواه.
وكذلك قال في الآية الأخرى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاْحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوْا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ الَّذِيْنَ إِذَاْ ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوْبُهُمْ وَالصَّاْبِرِيْنَ عَلَى مَاْ أَصَاْبَهُمْ وَالْمُقِيْمِيْ الصَّلاةِ وَمِمَّاْ رَزَقْنَاْهُمْ يُنْفِقُوْنَ}(5)، فهم مُخبتون. والمُخبت: المطمئنّ الخاضع لله. والأرض [الخبت](6): [المطمئنّة](7).
__________
(1) سورة الرعد، الآية 28.
(2) سورة الأنفال، الآية 2.
(3) سورة الأنفال، الآية 2.
(4) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(5) سورة الحج، الآيتان 34-35.
(6) ما بين المعقوفتين ليس في ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(7) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، و ((م))، وهو في ((ط)).(24/7)
روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ}، قال: المطمئنّين(1). وعن الضحّاك: المتواضعين(2)؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكّل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُوْدُ الَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِيْنُ جُلُوْدُهُمْ وَقُلُوْبُهُمْ إِلَىْ ذِكْرِ اللهِ}(3). فذكر أنّه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنّما الاقشعرار والوجل عارضٌ بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقّه، والتعدّي لحدّه؛ فهو كالزبد مع ما ينفع النّاس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع النّاس يمكث في الأرض.
فالخوف مطلوبٌ لغيره، ليدعو النّفس إلى فعل الواجب، وترك المحرّم. وأمّا الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبّته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنّة، فيُلهَمون التسبيح، كما يُلهَمون النَّفَس(4).
اللذات عند الفلاسفة ثلاث
__________
(1) تفسير مجاهد ص 425، وفيه عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِيْنَ}، قال: المطمئنّين. وكذلك تفسير الطبري 9151.
(2) رواه الطبري في تفسيره عن قتادة. انظر: تفسيره 9151.
(3) سورة الزمر، الآية 23.
(4) أخرج مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام ؟ قال: "جشاء، ورشح كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد، كما يُلهمون النَّفس". صحيح مسلم 42180-2181، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات أهل الجنّة وتسبيحهم فيها بكرة وعشيّاً. ومسند الإمام أحمد 3349. وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2211.(24/8)
والمتفلسفة(1)
__________
(1) الفلاسفة هم طائفة من اليونانيّين يشتغلون بالفلسفة، ولهم أقوال مختلفة. وكلمة فلسفة كلمة يونانيّة مركّبة من فيلو، ومعناها: محبّ، وسوفيا، ومعناها: الحكمة. فالفيلسوف هو محبّ الحكمة. ومذهبهم: أنّ العالّم قديم، وعلّته مؤثّرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار. وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد. وتأثّر بهم كثيرٌ ممّن أراد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة؛ مثل ملاحدة الصوفيّة، والشيعة. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 141. والملل والنحل 2155. والمعجم الفلسفي ص 138-140. والجواب الصحيح 622-45. وكتاب الصفدية 1267،، 2323. والرد على المنطقيّين ص 332.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الفلسفة: "والفلسفة هي باطن الباطنيّة، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقلّ أن يسلم من دخل مع هؤلاء في نوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه". درء تعارض العقل والنقل 3269.(24/9)
رأوا اللّذّات في الدنيا ثلاثة(1): حسيّة، ووهميّة، وعقليّة. والحسيّة في الدنيا غايتها دفع الألم. والوهميّة خيالات [وأضغاث](2)، واللذّة الحقيقيّة هي العلم. فجعلوا جنس العلم غاية، وغلطوا من وجوه: أحدها: أنّ العلم بحسب المعلوم، فإذا كان المعلوم محبوباً تكمل النفس بحبّه، كان العلم به كذلك. وإن كان مكروهاً، كان العلم به لحذره، ودفع ضرره؛ كالعلم بما يضرّ الإنسان من شياطين الإنس والجنّ. فلم يكن المقصود نفس العلم، بل المعلوم. ولهذا قد يقولون: سعادتها في العلم بالأمور الباقية(3)، وأنّها تبقى ببقاء معلومها. ثمّ يظنّون أنّ الفَلَك والعقول والنفوس أمور باقية، وأنّ بمعرفة هذه تحصل سعادة النفس. وأبو حامد في مثل ((معراج السالكين))، ونحوه، يُشير إلى هذا(4)
__________
(1) ولقد شاركهم الرازي، وقسّمها مثل تقسيمهم في آخر كتبه؛ وهو كتاب أقسام اللّذّات، وبيّن أنّها ثلاثة: الحسيّة؛ كالأكل، والشراب، والنكاح، واللباس. واللذة الخياليّة الوهميّة؛ كلذة الرياسة، والأمر، والنهي، والترفع، ونحوها. واللذة العقليّة؛ كلذة العلوم، والمعارف. وهي الحقّ، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم. انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص 304-305. وجامع الرسائل 2250-251. وانظر: ما سيأتي لاحقاً ص 478.
(2) في ((خ)) رسمت: (واصحار) كذا مهملة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: كتاب العلم، ضمن إحياء علوم الدين للغزالي.
(4) انظر: معراج السالكين - ضمن مجموعة القصور العوالي 3113-114 -.
وقال الغزالي في المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي 2162 : "وأمّا الكلام في أنّ بعض هذه اللّذّات ممّا لا يُرغَب فيها؛ مثل اللبن، والاستبرق، والطلح المنضود، والسدر المخضود، فهذا ممّا خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم، ويشتهونه غاية الشهوة".(24/10)
؛ فإنّ كلامه برزخٌ بين المسلمين وبين الفلاسفة؛ ففيه فلسفة مشوبة بإسلام، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفة(1)،
الغزالي بين المسلمين والفلاسفة
ولهذا كان في كتبه؛ كالإحياء، وغيره يجعل المعلوم بالأعمال، والأعمال كلها إنّما غايتها هو العلم فقط(2)، وهذا حقيقة قول هؤلاء الفلاسفة(3)، وكان يُعظِّم الزهد(4) جداً، ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل؛ وهو عبادة الله وحدَه لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ فإنّ هذا التوحيد يتضمّن محبّة الله وحده، وترك محبّة المخلوق مطلقاً، إلا إذا أحبّه [لله](5)، فيكون داخلاً في محبّة الله، بخلاف من يُحبّه مع الله؛ فإنّ هذا شرك.
__________
(1) وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنه أيضاً: "ولهذا جعلوا كثيراً من كلامه برزخاً بين المسلمين والفلاسفة المشائين؛ فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم، والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف، فلا يكون مسلماً محضاً، ولا فيلسوفاً محضاً على طريقة المشائين". منهاج السنة النبوية 1357. وانظر: بغية المرتاد ص 193، 198، 199. وشرح الأصفهانية 2507.
(2) انظر: إحياء علوم الدين 153.
(3) وقال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "ثمّ إنّهم مع إقرارهم بأنّ جعل هذه المعاني الصابئية الفلسفية هي مسميات هذه الأسماء النبوية، أو التي يٌقال إنّها نبويّة، هو من كلام هؤلاء المتفلسفة، يقطعون بذلك في مواضع أُخر. بل فيما يجعلونه من أشرف العلوم والمعارف، حتى إنّهم يجعلونه من العلوم التي يُضنّ بها على غير أهلها، ومن العلم المكنون الذي يُنكره أهل الغرة بالله، ولا يعرفه إلا أهل العلم بالله. وهذا موجود في مواضع كثيرة؛ كما في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة". بغية المرتاد ص 195-196.
(4) انظر: كتاب الزهد، ضمن إحياء علوم الدين 4203-225.
(5) في ((م))، و ((ط)): الله. وما أثبت من ((خ)).(24/11)
وهؤلاء المتفلسفة إنّما يُعظّمون تجريد النفس عن الهيولي(1)، وهي المادّة، وهي البدن، وهو الزهد في أغراض البدن، و[هو](2) الزهد في الدنيا. وهذا ليس فيه إلا تجريد النفس عن الاشتغال بهذا؛ فتبقى النفس فارغة؛ فيُلقي إليها الشيطان ما يُلقيه، ويوهمه أنّ ذلك من علوم المكاشفات والحقائق(3)
__________
(1) قال صاحب التعريفات: "الهيولي: لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادّة. وفي الاصطلاح: هي جواهر في الجسم قابلة لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال، والانفصال، محلّ للصورتين: الجسميّة، والنوعيّة". التعريفات ص 321.
وقال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "الهيولي في لغتهم بمعنى المحلّ؛ يُقال الفضة هيولي الخاتم والدرهم، والخشب هيولي الكرسيّ؛ أي هذا المحلّ الذي تُصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض. ويدّعون أنّ للجسم هيولي، محلّ الصورة الجسميّة، غير نفس الجسم القائم بنفسه". مجموع الفتاوى 17328.
(2) في ((خ)): هي. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) يقول الغزالي عن هذه المكاشفات والحقائق التي تحصل له: "وهذه هي العلوم التي لا تسطّر في الكتب، ولا يتحدّث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه، على سبيل المذاكرة، وبطريق الإسرار، وهذا هو العلم الخفي". إحياء علوم الدين 120-21. وانظر: المنقذ من الضلال ص 51.
ويقول أيضاً في ((كيمياء السعادة)) - ضمن الجواهر الغوالي ص 15-16 : "إنّ صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله، كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام".
وانظر: العواصم من القواصم ص 22-23. والرد على المنطقيّين ص509-510. والصفدية 1230. ودرء تعارض العقل والنقل 10281-282. وسير أعلام النبلاء 19333-334. وجامع الرسائل 1163-164.(24/12)
، وغايته وجود مطلق، هو في الأذهان، لا في الأعيان(1).
الغزالي جعل السلوك إلى الله ثلاثة منازل
ولهذا جعل أبو حامد السلوك إلى الله ثلاثة منازل، بمنزلة السلوك(2) إلى مكة؛ فإنّ السالك إليها له ثلاثة أصناف من الشغل:
الأول: تهيئة الأسباب؛ كشراء الزاد، والراحلة، وخرز الراوية(3).
والآخر: السلوك، ومفارقة الوطن، بالتوجّه إلى الكعبة، منزلاً بعد منزل.
__________
(1) وأوضح شيخ الإسلام رحمه الله مرادهم من الوجود المطلق: "أنّ الحق هو الوجود المطلق، والفرق بينه وبين الخلق من جهة التعيين، فإذا عُيِّن كان خلقاً، وإذا أُطلق الوجود كان هو الحقّ". بغية المرتاد ص 410.
وقال أيضاً - رحمه الله : "ومنتهاهم أن يُثبتوا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الذهن، لا في الخارج. وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتصوّفة أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد". درء تعارض العقل والنقل10282. وانظر: المصدر نفسه 1290، 318، 6242. والرد على المنطقيّين ص 309، 522. وشرح حديث النزول ص 97.
(2) في ((خ)): تكرار: (ثلاثة منازل بمنزلة السلوك). إلا أنّ الذي قابل النسخة تنبّه لهذا التكرار، فوضع (من) في أوله، و (إلى) في آخره؛ علامة على الحذف. والله أعلم.
(3) خرز الرواية خياطة الأدم. لسان العرب 5344، والمصباح المنير ص 166 والمقصود خياطة القربة للماء.(24/13)
والثالث: الاشتغال بأركان الحجّ، ركناً بعد ركن، ثمّ بعد النزوع(1) عن لبسة الإحرام، وطواف الوداع، استحقّ التعرّض للملك، والسلطنة. قال: فالعلوم ثلاثة(2): قسمٌ يجري مجرى سلوك البوادي، وقطع العقبات؛ وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات، وطلوع تلك [العقبة](3) الشامخة التي عجز عنها الأوّلون والآخرون، إلا الموفّقون.
قال(4): فهذا سلوك للطريق، وتحصيل علمه(5)؛ كتحصيل علم جهات الطريق، ومنازله. وكما لا يغني علم المنازل وطريق البوادي دون سلوكها، فكذا لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب. لكن المباشرة دون العلم، غير ممكن.
قال: وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه؛ وهو العلم بالله، وصفاته، وملائكته، وأفعاله، وجميع ما ذكرناه في تراجم علم المكاشفة.
قال: وها هنا نجاة وفوز بالسعادة. والنجاة حاصلة لكلّ سالك للطريق، إذا كان غرضه المقصد؛ وهو السلامة. وأمّا الفوز بالسعادة: فلا ينالها إلا العارِفون؛ فهم المقرّبون المنعّمون في جوار الله بالروح، والريحان، وجنّة نعيم(6).
وأما الممنوعون دون ذروة الكمال، فلهم النجاة والسلامة؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنَ الْمُقَرَّبِيْن فَرَوْحٌ وَرَيْحَاْنٌ وَجَنَّةُ نَعِيْمٍ وَأَمَّاْ إِنْ كَاْنَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْنِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَاْبِ الْيَمِيْن} (7).
__________
(1) في إحياء علوم الدين: ثمّ بعد الفراغ والنزوع.
(2) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالىهنا القسمين الثاني والثالث من العلوم التي ذكرها الغزالي في الإحياء، وترك الأول منها؛ وهو: "قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة، وشراء الناقة؛ وهو علم الطب، والفقه، وما يتعلّق بمصالح البدن في الدنيا". إحياء علوم الدين 154.
(3) في ((خ)): العاقبة. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) أي أبو حامد الغزالي.
(5) أي علم الطريق.
(6) في ((م))، و ((ط)): وجنّةٍ، ونعيم - بزيادة الواو.
(7) سورة الواقعة، الآيات 88-91.(24/14)
وقال: وكل من لم يتوجّه إلى المقصد، أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال بالأمر والعبوديّة، بل لغرض عاجل، فهو من أصحاب الشمال، ومن الضالّين؛ فله نزلٌ من حميم وتصلية جحيم.
قال: واعلم أنّ هذا هو الحق اليقين عند العلماء الراسخين في العلم؛ أعني أنّهم أدركوه بمشاهدة من الباطن. ومشاهدة الباطن أقوى وأجلّ من مشاهدة الأبصار(1)، وترقّوا فيه عن حدّ التقليد إلى الاستبصار(2).
تعليق شيخ الإسلام على كلام الغزالي
قلت: وكلامه من هذا الجنس كثير، ومن لم يعرف حقيقة مقصده [يهوله](3) مثل هذا الكلام؛ لأنّ صاحبه يتكلّم بخبرة ومعرفة بما يقوله، لا بمجرد تقليدٍ لغيره. لكنّ الشأن فيما خبره، هل هو حقّ مطابق. ومن سلك مسلك المتكلمين؛ الجهميّة، والفلاسفة، ولم يكن عنده خبرة بحقائق ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، بل ولا بحقائق الأمور عقلاً وكشفاً، فإنّ هذا الكلام غايته.
__________
(1) والغزالي يمتدح الصوفية بأنها أفضل الطرق الموصلة للمكاشفات، فيقول: "ومن أول الطريقة تبتدي المكاشفات والمشاهدات، حتى إنّهم في يقظتهم يُشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد. ثمّ يترقّى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبّر أن يُعبّر عنها، إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه". المنقذ من الضلال ص 50.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 154-55، مع اختلاف يسير جداً في بعض الكلمات.
(3) في ((ط)): فهو له. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).(24/15)
[و](1) أمّا من عرف حقيقة ما جاءت به الرسل، أو عرف مع ذلك بالبراهين العقليّة والمكاشفات الشهوديّة صدقَهم فيما أخبروا؛ فإنّه يعلم غاية مثل هذا [الكلام](2)، وأنّه إنّما ينتهي إلى التعطيل(3).
ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة، وسلوك، وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه، منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء(4).
وهذا الذي جعله هنا الغايةَ، وهو: معرفة الله، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، قد ذكره في ((المضنون به على غير أهله))(5)، وهو فلسفة محضة. قولُ المشركين من العرب خيرٌ منه، دع قول اليهود والنصارى. بل قوم نوح، وهود، وصالح، ونحوهم كانوا يُقرّون بالله، وبملائكته، وصفاته، وأفعاله، خيراً من هؤلاء. [لكن](6) لم يُقرّوا بعبادته وحده لا شريك له، ولا بأنّه أرسل رسولاً من البشر.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(2) في ((ط)): كالكلام.
(3) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الغزالي، وما تؤول إليه حاله: (وما يُشير إليه أحياناً في الإحياء وغيره، فإنّه كثيراً ما يقع في كلامه ما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة، ويخلطه بكلام الصوفيّة، أو عباراتهم، فيقع فيه كثيرٌ من المتصوّفة الذين لا يُميّزون بين حقيقة دين الإسلام، وبين ما يخالفه من الفلسفة الفاسدة وغيرها، لا سيّما إذا بُني على ذلك، واتُّبِعت لوازمه، فإنّه يُفضي إلى قول ابن سبعين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهما، ممّن يقول بمثل هذا الكلام، وحقيقة مذهبهم يؤول إلى التعطيل المحض، وأنّه ليس للعالَم ربّ مباين له، بل الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق). جامع الرسائل 1164.
(4) لم أعرف هذا الرجل الذي شافه شيخ الإسلام بشأن حال الغزالي.
وللإمام الطرطوشي عبارة في حال الغزالي، مثل ما ذكر هذا الرجل. انظر: سير أعلام النبلاء 19339، 494.
(5) المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2126-153.
(6) في ((خ)): ثمّ من. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).(24/16)
حقيقة قول الفلاسفة في أصول الدين
[وهذا حقيقة قول](1) هؤلاء؛ فإنّهم لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ولا يُثبتون حقيقة الرسالة، بل النّبوّة عندهم فيضٌ من جنس المنامات(2).
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((ط))، وهو في ((خ))، و ((م)).
(2) انظر: المضنون به على غير أهله - ضمن القصور العوالي - 2143، 149-150. وانظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس ص 151؛ حيث سلك فيه طريقة الفلاسفة في النبوة، وأنّها ثلاث: قوة التخييل، وقوة العقل، وقوة النفس.
ولاحظ كتاب الصفدية لشيخ الإسلام 1230، وفيه ينقل عن الغزالي: (أنّه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى). وانظر: سير أعلام النبلاء 19333-334.(24/17)
وأولئك الكفّار ما كانوا يُنازعون في هذا الجنس؛ فإنّ هذا الجنس موجود لجميع بني آدم، ومع هذا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنّهم كانوا يُقرّون بالملائكة؛ كما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوْا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاْعِقَةً مِثْلَ صَاْعِقَةِ عَاْدٍ وَثَمُوْدَ إِذْ جَاْءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوْا إِلاَّ اللهَ قَاْلُوا لَوْ شَاْءَ رَبُّنَاْ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً}(1). وقال [قوم](2) نوح: {مَاْ هَذَاْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيْدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاْءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَاْ سَمِعْنَاْ بِهَذَاْ فِيْ آبَاْئِنَاْ الأَوَّلِيْنَ}(3). بل فرعون قال لموسى: {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَاْ [الَّذِيْ](4) هُوَ مَهِيْنٌ وَلا يَكَاْدُ يُبِيْنُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاْءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِيْنَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاْعُوْهُ إِنَّهُمْ كَاْنُوْا قَوْمَاً فَاْسِقِيْنَ}(5).
والعبادات كلّها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق. والشريعة سياسة مدنيّة. والعلم الذي يدّعون الوصول إليه لا حقيقة لمعلومه في الخارج(6)
__________
(1) سورة فصلت، الآية 13-14.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(3) سورة المؤمنون، الآية 24.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)).
(5) سورة الزخرف، الآيات 52-55.
(6) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ الموجودات العقلية التي يُثبتها هؤلاء من واجب الوجود؛ كالعقول العشرة التي هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والواحد المجرّد الذي يقولون إنه صدر عنه العالم، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان. والوجود المطلق الذي يقولون إنه الوجود الواجب إنّما يُوجد في الأذهان لا في الأعيان". كتاب الصفدية 1243.
وانظر: مناظرات شيخ الإسلام لعلمائهم، وفضحه لأصولهم ومعتقداتهم، وبيانه - رحمه الله - أنّ آخر أمرهم ينتهي إلى الوجود المطلق، وهو في الأذهان لا في الأعيان: في كتاب الصفدية 1296، 302، 303.(24/18)
.
والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان بعبادة الله وحده، وتصديق الرّسول فيما أخبر؛ فالأعمال عبادة الله، والعلوم تصديق الرّسول. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارةً بسورتي الإخلاص(1)
__________
(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. أخرجه البخاري في كتاب التهجّد 272، باب ما يُقرأ في ركعتي الفجر. ومسلم 1502، كتاب صلاة المسافرين، باب في استحباب ركعتي سنة الفجر.
وأخرج الترمذي في جامعه 3607، كتاب الحج، باب ما يُقرأ في ركعتي الطواف، من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ}، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}وانظر: التدمرية ص 5. وكتاب الصفدية 2312.
وسمّيتا سورتي الإخلاص؛ لأنّ سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وصف الله سبحانه بالوحدانيّة، والصمديّة، ونفي الكُفُؤ عنه، والمِثل؛ فاسمه الأحد دلّ على أنّه مستحق لجميع صفات الكمال وحده.
وسورة {قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ}، فيها إيجاب عبادة الله وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كلّ ما سواه.
وأمّا من حيث الدلالة: ف{قُلْ يَاْ أَيُّهَاْ الْكَاْفِرُوْنَ}: متضمّنة للتوحيد العمليّ الإراديّ؛ وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة.
وأمّا سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}: فمتضمّنة للتوحيد القولي العلميّ؛ كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلاً كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوه لم يفعل ذلك؟ فقال: لأنّها صفة الرحمن، فأنا أُحبّ أن أقرأ بها. فقال: "أخبروه أنّ الله يُحبّه". انظر: التحفة المهدية ص 28.(24/19)
، وتارةً: {قُوْلُوْا آمَنَّاْ بِاللهِ وَمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْنَاْ}(1) الآية؛ فإنّها تتضمّن الإيمان، والإسلام. وبالآية من آل عمران: {قُلْ يَاْ أَهْلَ الْكِتَاْبِ تَعَاْلَوْا إِلَىْ كَلِمَةٍ سَوَاْءٍ بَيْنَنَاْ وَبَيْنَكُمْ}(2)(3).
فلاسفة الصوفية الذين تأثروا بكلام الغزالي
[والذين](4) سلكوا خلف أبي حامد، أو ضاهوه في السلوك؛ كابن سبعين، وابن عربي، صرّحوا بحقيقة ما وصلوا إليه، وهو أنّ الوجود واحد(5)، وعلموا أنّ أبا حامد لا يُوافقهم على هذا، فاستضعفوه، و[نسبوه](6) إلى أنّه مقيّد بالشرع والعقل(7).
وأبو حامد بين علماء المسلمين، وبين علماء الفلاسفة. علماء المسلمين يذمّونه على ما شارك فيه الفلاسفة ممّا يُخالف دين الإسلام. والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الإسلام، وعلى كونه لم ينسلخ [منه](8) بالكليّة إلى قول الفلاسفة.
ذم ابن رشد للغزالي
__________
(1) سورة البقرة، الآية 136.
(2) سورة آل عمران، الآية 64.
(3) قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه أخرجها مسلم في صحيحه 1504، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر.
(4) في ((ط)): والذي. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(5) وشيخ الإسلام رحمه الله يرى أنّ ابن عربيّ، وابن سبعين؛ من أئمة ملاحدة الصوفيّة تأثّروا بكلام الغزالي، وبنوا أفكارهم على أصله الفاسد. انظر: من كتبه: كتاب الصفدية 1230-244. وجامع الرسائل 1163-164. ودرء تعارض العقل والنقل 6241، 10283.
(6) في ((خ)): نسبه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) انظر: ذمّ ابن سبعين للغزالي في: بد المعارف لابن سبعين ص 144. وكذا انظر: ذمّ ابن طفيل له - وهو من الفلاسفة - في فلسفة ابن طفيل، ورسالته ((حي ابن يقظان)) دراسة عبد الحليم محمود ص 79، نقلاً عن تعليق محقق بغية المرتاد ص110.
(8) في ((ط)): عنه.(24/20)
ولهذا كان الحفيد ابن رشد(1) يُنشد فيه:
يوماً يمان إذا ما جئتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدناني(2)
ذم القشيري للغزالي
وأبو نصر القشيريّ(3)، وغيره [ذمّوه](4) على الفلسفة، وأنشدوا فيه [أبياتاً](5) معروفة، يقولون فيها :
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرضٌ من كتاب الشفا(6)
وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا حفرة ما لها من شَفا
فلما استهانوا بتعريفنا ... رجعنا إلى الله حتى كفا
__________
(1) وابن رشد معدود من الفلاسفة. وقد قال يذمّ الغزالي: (إنّه لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعريّ، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنّه كما قيل:
يوماً يمان إذا لاقيتَ ذا يمنٍ وإن لقيتَ معديّاً فعدنانيّ)
فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ص 30.
(2) من شعر عمران بن حطان الخارجي. انظر: الكامل للمبرد 2170. والأغاني للأصفهاني 18112. وانظر: منهاج السنة النبوية 1357. ودرء تعارض العقل والنقل 10283.
(3) هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري. قال عنه الذهبي: "النحويّ المتكلّم، وهو الولد الرابع من أولاد الشيخ - أبو القاسم القشيريّ". دخل بغداد، فوعظ بها، فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعيّة، وأُخرج من بغداد لاطفاء الفتنة، فعاد إلى بلده. توفي سنة 514ه. انظر: سير أعلام النبلاء 19424. والبداية والنهاية 12200. وطبقات الشافعيّة 7159.
(4) ما بين المعقوفتين ملحق من ((خ)) بين السطرين.
(5) في ((خ)): أبيات. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) في ((خ)) ضبطها هكذا: الشِّفَا. وكتب في الحاشية: أي الشفا لابن سينا.(24/21)
فماتوا على دين [رسطالس](1) ... وعشنا على سنة المصطفى(2)
ذم العلماء له
ولهذا كانوا يقولون: أبو حامد قد أمرضه الشفاء(3).
__________
(1) نسب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأبيات إلى أبي نصر القشيري في مواضع أخرى من كتبه. انظر: مجموع الفتاوى 9253. والرد على المنطقيين ص 501-511.
(2) في ((م)) و ((ط)): برسطالس. ويقصد به أرسطوطاليس، أحد الفلاسفة اليونان القدماء. انظر: ترجمته ص 227.
(3) قال شيخ الإسلام رحمه الله - في موضع آخر : "وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: مرّضه الشفاء؛ يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة". مجموع الفتاوى 10551.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومادّة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا، ولهذا يُقال: أبو حامد أمرضه الشفاء، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا، ورسائل أبي حيّان التوحيديّ، ونحو ذلك". بغية المرتاد ص 449.
وانظر: أيضاً: مجموع الفتاوى 655. والرد على المنطقيّين ص 511.(24/22)
وكذلك الطرطوشي(1)، والمازري(2)، وابن عقيل(3)، وأبو البيان(4)، وابن حمدين(5)
__________
(1) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي. قال عنه الذهبي: الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية عالم الاسكندرية. وطرطوشة هي آخر حدّ المسلمين من شمالي الأندلس. ولد فيها سنة 451 ه ورحل إلى المشرق، وأخذ عن العلماء، وحجّ، وسكن الاسكندرية، وتخرج على يديه نحو من مائتي فقيه مفت. توفي سنة 520ه. ومن كتبه كتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب الحوادث والبدع، وسراج الملوك، وغيرها. انظر: سير أعلام النبلاء 19490. والأعلام 7133، 134. وشذرات الذهب 4602. وانظر: كلامه عن الغزالي في: سير أعلام النبلاء 19334، 339، 494، 495. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6243.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، محدث من فقهاء المالكية. قال عنه الذهبي: "وكان بصيراً بعلم الحديث. وقال عنه القاضي عياض: هو آخر المتكلمين، من شيوخ أفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر". ولد سنة 453 هـ، وتوفي سنة 536هـ. من مؤلفاته: الكشف والإنباء في الرد على الإحياء، والمعلم بفوائد مسلم. انظر: سير أعلام النبلاء 20104. وشذرات الذهب 4114. والأعلام للزركلي 6277. وانظر:كلامه على الغزالي في سير أعلام النبلاء 19330-332، 340-342. وطبقات الشافعية للسبكي 6240-242.
(3) ترجمة ابن عقيل سبقت.
(4) هو نبأ بن محمد بن محفوظ القرشي، أبو البيان الدمشقي الشافعي. قال عنه الذهبي: "اللغوي الأثري الزاهد، شيخ البيانيّة، وصاحب الأذكار المسجوعة..... وكان حسن الطريقة، صيِّناً، ديِّناً، تقياً، محبّاً للسنة والعلم والأدب، له أتباع ومحبّون". توفي سنة 551 ه. انظر: سير أعلام النبلاء 20326، 327. وطبقات الشافعيّة للسبكي 7318-320. والبداية والنهاية 12235. وشذرات الذهب 4160.
(5) هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبدالعزيز بن حمدين الأندلسي المالكي، قاضي الجماعة. قال الذهبي عنه: "صاحب فنون ومعارف وتصانيف. ولي القضاء ليوسف بن تاشفين في قرطبة. توفي سنة 508 ه، وكان ذكياً بارعاً في العلم، متفنناً، أصولياً، لغوياً، شاعراً، حميد الأحكام.... وكان يحطّ على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألّف في الردّ عليه". سير أعلام النبلاء 19422. وانظر: نفح الطيب 3537.
وقد أفتى قاضي الجماعة ابن حمدين مع بعض العلماء في إتلاف كتاب ((إحياء علوم الدين))، ورفعوا أمرهم إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فأصدر أمره إلى جميع الأقاليم بمصادرة الكتاب وإحراقه. وأحرق بحضور جماعة من أعيان قرطبة وعلمائها، يتقدمهم قاضي الجماعة ابن حمدين. وكان ذلك سنة 503 ه. انظر: الحلل الموشية في ذكر أخبار المراكشية ص 104. وسير أعلام النبلاء 19327 - في ترجمة القاضي عياض - وكذلك عصر المرابطين والموحدين لمحمد عبدالله عنان ص 79.(24/23)
، ورفيق أبي حامد؛ أبو نصر المرغيناني(1)، وأمثال هؤلاء(2) لهم كلامٌ كثيرٌ في ذمّه على ما دخل فيه من الفلسفة. ولعلماء الأندلس في ذلك مجموع كبير.
مراتب الناس عند ابن سبعين
__________
(1) وهو أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبدالجليل الفرغاني المرغيناني. من أكابر فقهاء الحنفية. كان حافظاً مفسّراً محققاً أديباً. من مؤلفاته: الهداية في شرح البداية، ومنتقى الفروع. ولد سنة 530ه، وتوفي سنة 593ه. انظر: الأعلام 4266.
وقد كنّاه شيخ الإسلام هنا أبو نصر. والصحيح أبو الحسن؛ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في بعض مؤلفاته. انظر: بغية المرتاد ص 281. ودرء تعارض العقل والنقل 6239. وكتاب الصفدية 1210. ومجموع الفتاوى 466. والأعلام 4266.
(2) وممن ذمّ الغزالي من غير هؤلاء، وذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه الأخرى: أبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، ويوسف الدمشقي، وأبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وأبو عمرو بن الصلاح، وأولاد القشيري، وغيرهم من الشافعيّة. وأبو الحسن بن شكر، وأبو زكريا النووي. كما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
انظر: درء تعارض العقل والنقل 6239، 240. وبغية المرتاد ص 280-281. وكتاب الصفدية 210-211. ومجموع الفتاوى 466. ونقض المنطق ص56.
وكذلك القاضي عياض، نقل كلامه الذهبي في سير أعلام النبلاء 19327. وذكر الزبيدي في اتحاف السادة المتقين 140، الذين أنكروا على الغزالي، أنّهم: "طوائف شتى؛ ما بين مغاربة، ومشارقة، ومالكية، وشافعية، وحنابلة...".(24/24)
ولهذا لما سلك خلفه ابن عربي(1)، وابن سبعين(2)، كان ابن سبعين في كتاب [((البد))](3) وغيره، يجعل الغاية هو المقرّب؛ وهو نظير المقرّب في كلام أبي حامد، ويجعل المراتب خمسة: أدناها الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ الفيلسوف؛ وهو السالك، ثمّ المحقّق(4)
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي. من أئمة فلاسفة الصوفية أهل الزندقة والإلحاد. قال عنه الذهبي: قدوة القائلين بوحدة الوجود. ولد بالأندلس عام 560، وتوفي بدمشق عام 638ه. انظر: البداية والنهاية 13167. وشذرات الذهب 5190. والأعلام 6281.
(2) هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين. يُعدّ من فلاسفة الصوفية ومن القائلين بوحدة الوجود. ولد سنة 613، ومات سنة 668 بمكة. انظر: البداية والنهاية 13275. وشذرات الذهب 5329. والأعلام 3280. وانظر: مقدمة تحقيق بغية المرتاد ص 135-144.
(3) في ((م))، و ((ط)): اليد.
وكتاب ((البد)) هو: ((بد العارف)) لابن سبعين، وهو مطبوع. (نقلاً عن شرح الأصفهانية 2548).
(4) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهم يُرتّبون الناس طبقات؛ أدناهم عندهم الفقيه، ثمّ المتكلّم، ثمّ الفيلسوف، ثمّ الصوفيّ؛ أي صوفيّ الفلاسفة، ثمّ المحقّق. ويجعلون ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في الثانية، وأبا حامد وأمثاله من الصوفيّة من العشرة، ويجعلون المحقّق هو الواحد". الردّ على المنطقيّين ص 522. وانظر: كتاب الصفدية 1268. وشرح الأصفهانية 2547-548.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً طويلاً - في موضع آخر - بيَّن فيه معنى المحقّق؛ فقال: "لهذا كان هؤلاء؛ كابن سبعين ونحوه يعكسون دين الإسلام؛ فيجعلون أفضل الخلق: المحقّق عندهم؛ وهو القائل بالوحدة. وإذا وصل إلى هذا فلا يضرّه عندهم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، بل كان ابن سبعين، وابن هود، والتلمساني، وغيرهم يُسوّغون للرجل أن يتمسّك باليهوديّة والنصرانيّة؛ كما يتمسّك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، ويقولون لمن يختصّ بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضرّكم بقاؤكم على ملّتكم، بل يقولون مثل هذا للمشركين عُبّاد الأوثان). كتاب الصفدية 1268-269.(24/25)
.
عقائد ابن عربي
وابن عربي له أربع عقائد(1): الأولى: عقيدة أبي المعالي وأتباعه مجرّدة عن حُجّة. والثانية: تلك العقيدة مبرهنة بحججها الكلاميّة. والثالثة: عقيدة الفلاسفة؛ ابن سينا وأمثاله الذين يُفرّقون بين الواجب والممكن. والرابعة: التحقيق الذي وصل إليه؛ وهو [أنّ](2) الوجود واحدٌ(3). وهؤلاء يسلكون مسلك الفلاسفة الذي ذكره أبو حامد في ميزان العمل؛ وهو: أنّ الفاضل له ثلاث عقائد: عقيدة مع العوامّ يعيش بها في الدنيا؛ كالفقه مثلاً. وعقيدة مع الطلبة يدرّسها لهم؛ كالكلام. والثالثة: [سرٌ](4) لا يطّلع عليه أحدٌ إلا الخواصّ(5)
__________
(1) قال ابن عربي في الفتوحات المكية :
عقد البرية في الإله عقائداً وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
نقلاً عن الفكر الصوفي ص 102.
(2) ما بين المعقوفتين ليست في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(3) انظر: الفتوحات المكية 131-32، 38.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا ذكر ابن عربي في الفتوحات له أربع عقائد؛ الأولى: عقيدة أبي المعالي وأمثاله مجرّدة عن الحجة. ثمّ هذه العقيدة بحجتها. ثمّ عقيدة الفلاسفة. ثمّ عقيدة المحققين؛ وذلك أنّ الفيلسوف يُفرّق بين الوجود والممكن والواجب. وهؤلاء يقولون: الوجود واحد. والصوفي الذي يُعظّمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظّمه ابن سينا، وبعده المحقق" الرد على المنطقيين ص 522. وانظر: بغية المرتاد ص 446.
وقال رحمه الله أيضاً: "لهذا ذكر ابن عربي في أول الفتوحات ثلاث عقائد؛ عقيدة مختصرة من إرشاد أبي المعالي بحججها الكلامية. ثمّ عقيدة فلسفيّة؛ كأنّها مأخوذة من ابن سينا وأمثاله. ثمّ أشار إلى اعتقاده الباطن الذي أفصح به في فصوص الحكم؛ وهو وحدة الوجود، فقال: وأمّا عقيدة خلاص الخاصّ فتأتي مفرقة في الكتاب" كتاب الصفدية 1267.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)).
(5) انظر: ميزان العمل ص 405-408. بتحقيق سليمان دنيا.
ولخّص د محمد رشاد سالم في تعليقه على كتاب الصفدية 1268 كلام ابن عربي الذي ذكر فيه أنّ له ثلاث عقائد؛ فقال: "كر ابن عربي العقيدة الأولى في ج 1 ص 34 من كتاب الفتوحات المكية، وذكر في آخرها ص 38: "هذه عقيدة العوام من أهل الإسلام أهل التقليد وأهل النظر ملخّصة مختصرة" ثمّ قال بعد ذلك مباشرة: "م أتلوها إن شاء الله بعقيدة الناشئة الشادية... ثمّ أتلوها بعقيدة خواصّ أهل الله من أهل طريق الله؛ من المحققين أهل الكشف والوجود. وجردتها أيضاً في جزء آخر سمّيته المعرفة، وبه انتهت مقدمة الكتاب. وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئتُ بها مبدّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبيّنة، لكنّها كما ذكرنا متفرّقة...إلخ. وتنتهي مقدمة الكتاب ص 47" والطبعة التي أشار إليها دمحمد رشاد سالم هي طبعة دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329 ه.(24/26)
.
المضنون به على غير أهله فلسفة محضة
ولهذا صنّف الكتب المضنون بها على غير أهلها، وهي فلسفة محضة، سلك فيها مسلك ابن سينا(1). ولهذا يجعل اللوح المحفوظ هو النّفس الفلكيّة(2) إلى أمور أخرى قد بُسطت في غير هذا الموضع، ذكرنا ألفاظه بعينها في مواضع؛ منها: الردّ على ابن سبعين وأهل الوحدة، وغير ذلك(3)؛ فإنّه لمّا انتشر الكلام في مذهب أهل الوحدة، وكنتُ لمّا دخلتُ إلى مصر بسببهم، ثمّ صرتُ في الإسكندرية، جاءني من فضلائهم من يعرف حقيقة أمرهم(4)، وقال: إن كنتَ تشرح لنا كلام هؤلاء، وتُبيِّن مقصودهم، ثمّ تُبطله، وإلا فنحن لا نقبل منك كما لا نقبل من غيرك؛
سبب تأليف بغية المرتاد السبعينية
فإنّ هؤلاء لا يفهمون كلامهم. فقلتُ: نعم! أنا أشرح لك ما شئتَ من كلامهم؛ مثل كتاب [البُد](5)
__________
(1) قال د محمد رشاد سالم بعد ذكر عقائد الغزالي الثلاث: "هذا هو السبب الذي جعل الغزالي يكتب كتباً للعامّة، وكتباً أخرى للخواصّ، سمّاها أحياناً بالكتب المضنون بها على غير أهلها. وقد اختلف الباحثون في تعيين هذه الكتب الخاصّة (أو المضنون بها على غير أهلها)، ولكنّهم اتفقوا على أنّه ألّف كتباً من هذا النوع أودعها أفكاراً لم يتمكّن من التصريح بها لعامّ الناس إشفاقا عليهم من الضلال. ولعلّ هذا التصريح في عناوين كتبه ورسائله مثل الاقتصاد في الاعتقاد، وإلجام العوام عن علم الكلام، والمضنون به على غير أهله" مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 16-17. وانظر: الجواب الصحيح 539. وشرح الأصفهانية 2547.
(2) انظر: المضنون الصغير - ضمن القصور العوالي 2183-184. ومشارق الأنوار ص 198.
(3) انظر: بغية المرتاد (وهو الرد على ابن سبعين) ص 194، 198، 228، 326، 327. والرد على المنطقيين ص 474، 480. ومجموع الفتاوى 1244-245، 10402-403.
(4) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه القصة في كتابه الصفدية 1302. وفي الرد على المنطقيين ص 3.
(5) في ((م))، و ((ط)): اليد.
وكتاب ((البد)) هو: بد العارف لابن سبعين، وقد طُبع بتحقيق د. جورج. ونشر في دار الأندلس ودار الكندي سنة 1978 م. انظر: بغية المرتاد ص 48، ح 1.(24/27)
، والإحاطة(1) لابن سبعين، وغير ذلك. فقال لي: لا، ولكن ((لوح الأصالة))(2)؛ فإنّ هذا يعرفون، وهو في رؤوسهم. فقلتُ له: هاته. فلمّا أحضره شرحتُه له شرحاً بيِّناً، حتى تبيَّن له حقيقة الأمر، وأنّ هؤلاء ينتهي أمرهم إلى الوجود المطلق، فقال: هذا حقّ. وذَكَرَ لي أنّه تناظر اثنان؛ متفلسف سبعينيّ، ومتكلّم على مذهب ابن التومرت(3)
__________
(1) الإحاطة: إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين، تحقيق د عبد الرحمن بدوي، دار الطباعة الحديثة بمصر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لهذا أمر ابن سبعين أن يُنقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة. والإحاطة عندهم: هي الوجود المطلق المجرّد الذي لا يتقيّد بقيد، وهو الكلّي الذي لا يتقيّد بإيجاب ولا إمكان" كتاب الصفدية 1285.
(2) اسمها: رسالة الألواح؛ وهي ضمن رسائل ابن سبعين. تحقيق د عبد الرحمن بدوي ص 190-200. وهي التي ردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه بغية المرتاد.
(3) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت البربري المصمودي الهرغي الخارجي بالمغرب، المدّعي أنّه علويّ حسنيّ، وأنّه الإمام المعصوم المهدي. مؤسس دولة الموحدين التي قامت على أنقاض دولة المرابطين. توفي سنة 524 ه. قال عنه الذهبي: "افق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيّع... وسمّى أصحابه بالموحدين، ومن خالفه بالمجسّمين" انظر: سير أعلام النبلاء 19539-552. وطبقات الشافعيّة للسبكي 6109-117. والبداية والنهاية 12199-200. وشذرات الذهب 470-72.
قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: "أقبح من غلوّ هؤلاء: ما كان عليه المتسمّون بالموحدين في متبوعهم الملقّب بالمهدي محمد بن تومرت الذي أقام دولتهم بما أقامها به من الكذب والمحال، وقتل المسلمين، واستحلال الدماء والأموال؛ فعل الخوارج المارقين، ومن الابتداع في الدين، مع ما كان عليه من الزهد والفضيلة المتوسطة، ومع ما ألزمهم به من الشرائع الإسلاميّة، والسنن النبوية؛ فجمع بين خير وشرّ. لكن من أقبح ما انتحلوه فيه: خطبتهم له على المنابر، بقولهم: الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم" بغية المرتاد ص 494. وانظر: مجموع الفتاوى 13386.
ويُقال إنّهم قتلوا القاضي أبا بكر بن العربي، والقاضي عياض البستي. انظر: بغية المرتاد ص 495.
قال عبد الله بن الأشبيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسيّ، سمعت أبا عبد الله ابن تومرت يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفُتح لنا). سير أعلام النبلاء 19326.(24/28)
، فقال ذاك: نحن شيخنا يقول بالوجود المطلق(1)
__________
(1) قال ابن سبعين: "يا هذا ! الوجود المطلق هو الله، والمقيّد أنا وأنت، والقدر جميع ما يقع في المستقبل، والمطلق إذا ذكر نفسه ذكر كلّ شيء" الرسالة الرضوانيّة ضمن رسائل ابن سبعين ص 328 - نقلاً عن مقدمة محقق بغية المرتاد ص 140.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "لهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق؛ وهو الوجود المشترك بين الموجودات. وهذا إنمّا يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان. والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهيّ" الرد على المنطقيين ص 309. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 6242،، 10298. وبغية المرتاد ص 410. والجواب الصحيح 4304.
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه القصّة في منهاج السنة بتوسّع، فقال: "صاروا يتباهون في التعطيل الذي سمّوه توحيداً أيّهم فيه أحذق، حتى فروعهم تباهوا بذلك كتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة، وابن التومرت، وأمثاله من أتباع الجهميّة؛ فهذا يقول بالوجود المطلق، وهذا يقول بالوجود المطلق، وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل. كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء، وخاطبتهم في ذلك، وصنّفتُ لهم مصنّفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم، وبيان فساده؛ فإنّهم يظنّون أنّ الناس لا يفهمون كلامهم، فقالوا لي: إن لم تُبيِّن وتكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثمّ تُبيِّن فساده، وإلا لم نقبل ما يُقال في ردّه، فكشف لهم حقائق مقاصدهم، فاعترفوا بأنّ ذلك مرادهم. ووافقهم على ذلك رؤوسهم، ثمّ بيّنت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يُصنّفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين". منهاج السنة 3297-298.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا رأيت لابن تومرت كتاباً في التوحيد صرّح فيه بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات، ولا أثبت الرؤية، ولا قال إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة، ولهذا كان حقيقة قوله موافقاً لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد؛ كما يُقال: إنّ ابن تومرت ذكره في فوائده المشرقية أنّ الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق، فوجود الخالق يكون مجرّداً، ووجود المخلوق يكون مقيّداً". درء تعارض العقل والنقل 520. وكذلك انظر: المصدر نفسه: 3438-439، 10298-300. وانظر: رد شيخ الإسلام على ابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-487.(24/29)
.
وقال الآخر: ونحن كذلك إمامنا.
قلتُ له: والمطلق في الأذهان لا في الأعيان. فتبيّن له ذلك، وأخذ يُصنّف في الردّ عليهم(1).
ابن تومرت يقول بالوجود المطلق
ولم أكن أظنّ ابنَ التومرت يقول بالوجود المطلق، حتى وقفتُ بعد هذا على كلامه المبسوط(2)، فوجدتُه كذلك، وأنّه كان يقول: الحقّ حقّان؛ الحقّ المقيّد، والحقّ المطلق؛ وهو الربّ. وتبيَّنتُ أنّه لا يُثبتُ شيئاً من الصفات، ولا ما يتميّز به موجود عن موجود؛ فإنّ ذلك يُقيّد شيئاً من الإطلاق.
__________
(1) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض مناظراته لهؤلاء السبعينيّة، فقال رحمه الله: "وقلتُ لبعض حذّاقهم: هب أنّ هذا الوجود المطلق ثابتٌ في الخارج، وأنّه عين الموجودات المشهودة. فمن أين لك أنّ هذا هو ربّ العالمين الذي خلق السموات والأرض وكلّ شيء. فاعترف بذلك، وقال: هذا ما فيه حيلة". الجواب الصحيح 4313.
وانظر: مناظرات أخرى لهؤلاء في: المصدر نفسه 4309-312. وبغية المرتاد ص 520-521. ومنهاج السنة النبوية 828. وكتاب الصفدية 1296.
(2) في كتاب ابن تومرت: ((الدليل والعلم)). وقد نقل عنه شيخ الإسلام بعضَ كلامه، ثمّ ردّ عليه. انظر: درء تعارض العقل والنقل 3439-440.
وهناك رد لشيخ الإسلام على المرشدة لابن تومرت، مخطوط، في جامعة الملك سعود بالرياض. وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن المرشدة لابن تومرت في مجموع الفتاوى 11476-493.(24/30)
وسألني هذا(1) عمّا يحتجّون به من الحديث؛ مثل الحديث المذكور في العقل، وأنّ أوّل ما خلق الله تعالى العقل(2)
__________
(1) يعني الرجل الذي في الاسكندرية، الذي طلب منه أن يشرح له كلام أصحاب وحدة الوجود.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية 7318 عن عائشة بلفظ: ":حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أوّل ما خلق الله سبحانه وتعالى العقل، فقال: أقبِل، فأقبل. ثمّ قال: أدبِر، فأدبَر. ثمّ قال: ما خلقتُ شيئاً أحسن منك، بك آخذ، وبك أُعطي". قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان. ومنصور الزهري أحد رواة الحديث - لا أعلم له راوياً عن عبد الحميد إلا سهلاً، وأراه واهماً فيه.
وقد بيَّن العلماء أنّه حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد قال أبو الفرج ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الموضوعات لابن الجوزي 1174).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الحديث كذب موضوع على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك أهل العلم بالحديث؛ كأبي جعفر العقيليّ، وأبي حاتم البستي، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي الفرج بن الجوزي، وغيرهم". الجواب الصحيح 540-41. وانظر: بغية المرتاد ص 171-178. ومجموع الفتاوى 1244، 18122-123، 336-338. ودرء تعارض العقل والنقل 5224. ومنهاج السنة النبوية 815-16. وكتاب الصفدية 1238-239. والرد على المنطقيين ص 196-197. والفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان ص 206.
قال ابن القيم: أحاديث العقل كلها كذب. انظر: المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 66-67. وانظر: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1129-130.(24/31)
، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف(1)، وغير ذلك؟ فكتبتُ له جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة، وأبو حامد وهؤلاء لا يعتمدون على هذا، وقد نقلوه إمّا من رسائل إخوان الصفا(2)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما يروونه: كنتُ كنزاً لا أُعرف، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ خلقاً فعرّفتهم بي، فبي عرفوني. هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعرف له إسناداً صحيحاً ولا ضعيفاً". مجموع الفتاوى 18122. وانظر: المصدر نفسه 18376. ودرء تعارض العقل والنقل 8507. وبغية المرتاد ص 169.
وقد حكم عليه بالوضع: السخاوي. انظر: المقاصد الحسنة ص 327.
(2) إخوان الصفا: هم جماعة من الإسماعيليّة الباطنيّة، لزموا التكتّم، وألفوا مقالات، وعددها إحدى وخمسون مقالة؛ خمسون منها في خمسين نوعاً من الحكمة، ومقالة حادية وخمسون جامعة لأنواع المقالات. ثمّ بثّوا مقالاتهم وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقّنوها الناس، وزعموا أنّه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. انظر: الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 25. ومجموع الفتاوى 479. وكتاب إخوان الصفا لعمر الدسوقي.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن رسائل إخوان الصفا: "وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر، وبنوا القاهرة. فصنّفت على مذاهب أولئك الإسماعيليّة كما يدلّ على ذلك ما فيها. وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام. وهذا إنّما كان بعد المائة الثالثة. وقد عُرف الذين صنّفوها؛ مثل زيد بن رفاعة، وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي، وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبي أحمد النهرجوري، والعوفي. ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم، وقد ذكر ذلك أبو حيّان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة" منهاج السنة النبوية 2466.
وقال رحمه الله أيضاً: "صنّفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيّع؛ كما كان سلكه هؤلاء العبيديّون". منهاج السنة 811.
وانظر: المصدر نفسه 454-55. ودرء تعارض العقل والنقل 510، 26-27. والرد على المنطقيين ص 444. والجواب الصحيح 537-38. وبغية المرتاد ص 180-181. والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 23-12.(24/32)
، أو من كلام أبي حيان التوحيدي(1)، أو من نحو ذلك(2).
وهؤلاء في الحقيقة من جنس الباطنيّة الإسماعيليّة(3)
__________
(1) أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي. فيلسوف متصوّف معتزلي. قال أبو الفرج ابن الجوزي: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيديّ، وأبو العلاء المعري. وأشدّهم على الإسلام أبو حيّان؛ لأنّهما صرّحا وهو محجم ولم يُصرّح". وقال الذهبي عنه: "نسب نفسه إلى التوحيد؛ كما سمّى ابن التومرت أتباعه بالموحدين، وكما يُسمي صوفية الفلاسفة نفوسهم بأهل الوحدة، وبالاتحاديّة". مات مستتراً فقيراً عن نيف وثمانين عاماً، وأحرق كتبه، ولم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. من كتبه: المقايسات والصراحة، والصديق، والإمتاع والمؤانسة، وغيرها. مات سنة 400 ه.
انظر: سير أعلام النبلاء 17119-123. وطبقات الشافعية للسبكي 5286. والأعلام 4326.
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والغزالي في كلامه مادة فلسفية كبيرة، بسبب كلام ابن سيناء في الشفاء، وغيره، ورسائل إخوان الصفا، وكلام أبي حيان التوحيدي... وكلامه في الإحياء غالبه جيّد، لكن فيه موادّ فاسدة؛ مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة من ترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة". مجموع الفتاوى 654-55.
وانظر: المصدر نفسه 463-64. وبغية المرتاد ص 449. وسير أعلام النبلاء 19341. ودرء تعارض العقل والنقل 6242.
(3) الإسماعيليّة: نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وهم إحدى فرق الباطنية الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطناً، ولكلّ تنزيل تأويلاً، ويخلطون كلامهم ببعض كلام الفلسفة، ويدّعون من الإلهيّة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره كدعوى النصيريّة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم: "الإسماعيليّة أخذوا من مذاهب الفرس، وقولهم بالأصلين: النور والظلمة وغير ذلك أموراً، وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية، وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك. ومزجوا هذا بهذا، وسمّوا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي، وجعلوه هو القلم واللوح، وأنّ القلم هو العقل". منهاج السنة النبوية 815.
وانظر: الجواب الصحيح 2403-404. ومجموع الفتاوى 7502، 503. ودرء تعارض العقل والنقل 10-11. وانظر: أيضاً: الملل والنحل للشهرستاني 1191-198. والفرق بين الفرق للبغدادي ص 62-82.(24/33)
، لكنّ أولئك يتظاهرون بالتشيّع والرفض، وهؤلاء غالبهم يميلون إلى التشيّع، ويُفضّلون علياً(1). ومنهم من يُفضّله بالعلم الباطن، ويُفضّل أبا بكر(2) في العلم الظاهر؛ كأبي الحسن [الحرالّي](3)، وفيه نوعٌ من مذهب الباطنيّة الإسماعيليّة، لكن لا يقول بوحدة الوجود مثل هؤلاء، ولا أظنّه يُفضّل غير الأنبياء عليهم؛ فهو أنبل من هؤلاء من وجه، لكنّه ضعيف المعرفة بالحديث، والسير، وكلام الصحابة والتابعين؛ فيبني له أصولاً على أحاديث موضوعة، ويخرج كلامه من تصوّف، وعقليّات، وحقائق. وهو خيرٌ من هؤلاء، وفي كلامه أشياء حسنة صحيحة، وأشياء كثيرة باطلة، والله سبحانه [وتعالى](4) أعلم.
الوجه الثاني من أوجه الرد على الفلاسفة
__________
(1) في ((ط)): رضي الله عنه.
(2) في ((ط)): رضي الله عنه.
(3) في ((خ))، و ((م))، و ((ط)): الحرلي. وما أثبت من مصادر ترجمته.
والحرالّي: هو أبو الحسن علي بن أحمد بن حسن التجيبي الأندلسي الحرالّي - وحرالّه: قرية من عمل مرسيه - ولد في مراكش، ورحل إلى الشرق، وسكن حماه، وتوفي فيها سنة 637 ه. مفسّر من علماء المغرب. قال عنه الذهبي: "كان فلسفيّ التصوف، ملأ تفسيره بحقائقه ونتائج فكره، وزعم أنّه يستخرج من علم الحروف وقتَ خروج الدجال، ووقتَ طلوع الشمس من مغربها". ميزان الاعتدال 3114.
وانظر: سير أعلام النبلاء 2347. وشذرات الذهب 5189. والأعلام 4256. ووقع في المخطوطة الحرلي، وكذلك في أصل درء تعارض العقل والنقل 10286. ورجّح الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله أنّه الحرالّي.
(4) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).(24/34)
الثاني: أنّ صلاح النفس في محبّة المعلوم المعبود؛ وهي عبادته، لا في مجرد علم ليس فيه ذلك، وهم جعلوا غاية النفس التشبّه بالله على حسب الطاقة(1)
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرّد أن يعلم الوجود، أو يعلم الحقّ؛ فيكون عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، وهو التشبّه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنّما هي شروط وأعوان على مثل ذلك، فلم يُثبتوا كون الربّ تعالى معبوداً مألوهاً يُحَبّ لذاته، ويكون كمال النفس أنها تُحبّه؛ فيكون كمالها في معرفته ومحبّته، بل جعلوا الكمال في مجرّد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو في مجرّد معرفته عند من يقرب إلى الإسلام منهم". درء تعارض العقل والنقل 657.
وكذا قال رحمه الله في موضع آخر - بعد أن ذكر محبة الله لعباده، ومحبتهم له : "ومن نفى الأولى من الجهميّة والمعتزلة ومن وافقهم، فقد أخطأ. ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقتهم فقد أخطأ. مع أنّ هؤلاء المتفلسفة لا يُثبتون حقيقة الأولى، فإنّهم لا يُثبتون أنّ الربّ تُحبّه الملائكة والمؤمنون، وإنّما يجعلون الغاية تشبّههم به، لا حبّهم إياه. وفرقٌ بين أن تكون كوَّن هذا مثل هذا، وبين أن تكون الغاية كون هذا يُحبّه هذا محبّة عبوديّة وذلّ. ولهذا قالوا: "الفلسفة هي التشبّه بالإله على قدر الطاقة". ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنّما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف. فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون، بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلاً له". درء تعارض العقل والنقل 669-70.
وانظر: المصدر نفسه 670، 3269. وانظر: شرح الطحاوية 188. ومجموع الفتاوى 7536، 17321. والجواب الصحيح 632-37. وجامع الرسائل 2251-252.(24/35)
، وكذلك جعلوا حركة الفَلَك للتشبّه به(1). وهذا ضلال عظيم؛ فإنّ جنس التشبّه يكون بين [اثنين](2) مقصودهما واحد؛ كالإمام والمؤتمّ به.
وليس الأمر هنا كذلك. بل الربّ هو معبودٌ لذاته، وهو يعرف نفسه، ويُحبّ نفسه، ويُثني على نفسه، والعبد نجاتُه وسعادته في أن يعرف ربّه، ويُحبّه، ويُثني عليه. والتشبّه به: أن يكون هو [محبوباً لنفسه](3)، مثنياً بنفسه على نفسه. وهذا فسادٌ في حقّه، وضارٌ به. والقوم أضلّ من اليهود والنصارى، بل ومن مشركي العرب؛ فإنّه ليس الربّ عندهم؛ لا رب العالمين وخالقهم؛ ولا إلههم ومعبودهم.
ومشركو العرب كانوا يُقرّون بأنّه خالق كلّ شيء، وما سواه مخلوقٌ له محدَث. وهؤلاء الضالّون لا يعترفون بذلك؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع(4).
الوجه الثالث من أوجه الرد على الفلاسفة
والوجه الثالث: أنّهم يظنّون أنّ ما عندهم هو علمٌ بالله. وليس كذلك، بل هو جهل.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 17329.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(3) ما بين المعقوفتين كتب في ((خ)) هكذا: (لنفسه محبوباً). وعليها علامة ((م))؛ وهي علامة على التقديم والتأخير.
(4) انظر: حقيقة مذهب الاتحاديّين أو وحدة الوجود ضمن مجموعة الرسائل والمسائل 43-114. وقاعدة في المحبّة ضمن جامع الرسائل 2193-401. ودرء تعارض العقل والنقل 662-70. والرد على المنطقيين ص 282، 394، 521-526. وكتاب الصفدية 1268-273. والفتاوى 7504، 586-597، 631-632، 17295. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 217-230.(24/36)
والرازي لمّا شاركهم(1) في بعض أمورهم صار حائراً معترفاً بذلك؛ لمّا ذكر أقسام اللّذّات(2)، وأنّ اللّذّة العقليّة هي الحقّ؛ وهي لذّة العلم، وأنّ شرف العلم بشرف المعلوم؛ وهو الربّ، وأنّ العلم به ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال. قال: وعلى كلّ مقامٍ عقدة؛ فالعلم بالذات فيه أنّ وجود الذات: هل هو زائد عليها أم لا؟ وفي الصفات: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وفي الأفعال: هل الفعل مقارنٌ أم لا؟. ثمّ قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب؟ أو من الذي ذاق من هذا الشراب؟
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأمّلتُ الطرق الكلاميّة، والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتُها تشفي عَليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَىْ الْعَرْشِ اسْتَوَىْ}(3)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّاْلِحُ يَرْفَعُهُ}(4)، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(5)، {وَلا يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمَاً}(6). ومن جرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي(7)
__________
(1) أي شارك الفلاسفة. انظر: جامع الرسائل 2250.
(2) ذكر ذلك في كتابه: أقسام اللذات. وقد قال د محمد رشاد سالم عن هذا الكتاب: "وهذا الكتاب مخطوط بالهند، ولم يذكره بروكلمان ضمن مؤلفات الرازي". حاشية درء تعارض العقل والنقل 1160.
(3) سورة طه، الآية 5.
(4) سورة فاطر، الآية 10.
(5) سورة الشورى، الآية 11.
(6) سورة طه، الآية 110.
(7) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن الرازي في كثير من كتبه، وكذلك تلميذه ابن القيم، والذهبي، مع اختلاف يسير في ألفاظه. وقد سبق أن ذُكر في ص 357-358 من هذا الكتاب.
وانظر: مجموع الفتاوى 472-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1159-160. وبيان تلبيس الجهمية 1128-129. ومنهاج السنة النبوية 5270-272. واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 305-306. والمنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 85. والصواعق المنزلة - تحقيق د أحمد بن عطية الغامدي، و د علي ابن ناصر الفقيهي - 170. وسير أعلام النبلاء - عند ترجمة الرازي - 21501. والبداية والنهاية لابن كثير 1354. وطبقات الشافعية للسبكي 896. وشرح الطحاوية 1244.(24/37)
.
السعادة العلم بالله وما يقرب إليه..
فالسعادة هو أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يُقرّب إليه، ويعلم أنّ السعادة في أن يكون الله هو المحبوب المراد المقصود، ولا يحتجب بالعلم عن المعلوم؛ كما قال ذلك الشيخ العارف للغزالي لمّا قال له: أخلصتُ أربعين صباحاً، فلم يتفجّر لي شيء ! فقال: يا بنيّ أنتَ أخلصتَ للحكمة، لم يكن الله هو مرادك، والإخلاص لله أن يكون الله هو مقصود المرء ومراده، فحينئذ تتفجّر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه؛ كما في حديث مكحول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أخلص لله أربعين صباحاً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"(1)(2).
ولهذا تقول العامّة: قيمة كلّ امرئ ما يُحسن(3)، والعارفون يقولون: قيمة كلّ امرئ ما يطلب(4)، وفي الإسرائيليّات: يقول الله تعالى: "إنّي لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظر إلى همّته"(5).
__________
(1) رواه أبو نعيم بإسناده عن مكحول، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... وقال: كذا رواه يزيد الواسطي متصلاً، ورواه ابن هارون، ورواه أبو معاوية عن الحجاج، فأرسله. حلية الأولياء 5189. وقال الألباني: حديث ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة 155-66. وانظر: المغني عن حمل الأسفار رقم 1652. وانظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للحداد 21052، 62406-2407.
(2) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحكاية عن الغزالي في: درء تعارض العقل والنقل 666.
(3) هذه الحكمة منسوبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: نهج البلاغة 418.
(4) انظر: الجواب الصحيح 635.
(5) انظر: الجواب الصحيح 635.(24/38)
فالنفس لها قوة الإرادة مع الشعور، وهما متلازمان. وهؤلاء لحظوا شعورها وأعرضوا عن إرادتها. وهي تتقوّم بمرادها، لا بمجرّد ما [تشعر](1) به؛ فإنّها تشعر بالخير والشرّ، والنافع والضارّ، ولكن لا يجوز أن يكون مرادها ومحبوبها إلا ما يُصلحها وينفعها؛ وهو الإله المعبود الذي لا يستحقّ العبادة غيره، وهو الله لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
العلم الحق ما أخبرت به الرسل
ثمّ مع هذا يكون العلم حقاً، وهو ما أخبرت به الرّسل؛ فالعلم الحقّ هو ما أخبروا به، والإرادة النافعة إرادة ما أمروا به؛ وذلك عبادة الله وحده لا شريك له؛ فهذا هو السعادة، وهو الذي اتفقت عليه الأنبياء كلّهم؛ فكلّهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذلك إنّما يكون بتصديق رسله [وطاعتهم](2).
السعادة متتضمنة للأصلين
__________
(1) في ((خ)): يشعر. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((ط)): وطاعته. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).(24/39)
فلهذا كانت السعادة متضمّنة لهذين الأصلين: الإسلام، والإيمان؛ عبادة الله وحده، وتصديق رسله؛ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِيْنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِيْنَ}(1)؛ قال أبو العالية(2): هما خصلتان يُسأل عنهما كلّ أحد؛ يُقال: لمن كنتَ تعبد، وبماذا أجبتَ المرسلين(3). وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع(4). والله أعلم.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 6.
(2) هو رفيع بن مهران البصري، أبو العالية الرياحي. أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو شابّ، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ودخل عليه. روى عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبيّ بن كعب، وغيرهم رضي الله عنهم. وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير بالمدينة. انظر: سير أعلام النبلاء 4207. والتفسير والمفسرون لمحمد الذهبي 1115.
(3) لم أجد هذا الأثر في المصادر التي اطّلعت عليها.
(4) انظر: درء تعارض العقل والنقل 662-70. وقاعدة في توحيد الإلهيّة وإخلاص العمل والوجه لله - ضمن مجموع الفتاوى 120-32 - والتدمرية ص 165-178، 195-206، 232-234. ومجموع الفتاوى 1189-310. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 181-182.(24/40)
واتبع لها أسعد الناس في الدنيا والآخرة، وخير القرون القرن الذين شاهدوه مؤمنين به وبما يقول؛ إذ كانوا أعرف الناس بالفرق بين الحقّ الذي جاء به وبين ما يُخالفه، وأعظم محبّة لما جاء به وبُغضاً لما خالفه، وأعظم جهاداً عليه. فكانوا أفضل ممّن بعدهم في العلم، والدين، والجهاد؛ أكمل علماً بالحقّ والباطل؛ وأعظم محبّة للحقّ وبُغضاً للباطل؛ وأصبر على متابعة الحقّ، واحتمال الأذى فيه، وموالاة أهله، ومعاداة أعدائه. واتّصل بهم ذلك [إلى](1) القرن الثاني، والثالث، فظهر ما بُعث به من الهدى ودين الحقّ على كلّ دين في مشارق الأرض ومغاربها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "زُوِيَت لي الأرضُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلكُ أُمّتي ما زُوي لي منها"(2).
وكان لا بُدّ أن يظهر في أمّته ما سبق به القدر، واقتضته نشأة البشر من نوعٍ من التفرّق والاختلاف، كما كان فيما غَبَر. لكن كانت أمّته صلى الله عليه وسلم خيرَ الأمم، فكان الخير فيهم أكثرَ منه في غيرهم، والشرّ فيهم أقلَّ منه في غيرهم؛ كما يعرف ذلك من تأمّل حالهم وحال بني إسرائيل قبلهم.
__________
(1) ما بين المعقوفتين مكانها بياض في ((خ))، وهي في ((م))، و ((ط)).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 42215-2216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. وأحمد في المسند 5278. وأبو داود في سننه 4450، ح (4252)، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن. والترمذي في جامعه 4472، ح (2176)، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً في أمّته. وابن ماجه في سننه 21304، ح (3952)، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن. وكلّهم أخرجوه من طريق أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مرفوعاً.(24/41)
وبنو إسرائيل هم الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاْ بَنِيْ إِسْرَاْئِيْلَ الْكِتَاْبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاْهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاْتِ وَفَضَّلْنَاْهُمْ عَلَىْ الْعَاْلَمِيْنَ وَآتَيْنَاْهُمْ بَيِّنَاْتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَاْ اخْتَلَفُوْا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِيْ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ فِيْمَاْ كَاْنُوْا فِيْهِ يَخْتَلِفُوْنَ ثُمَّ جَعَلْنَاْكَ عَلَىْ شَرِيْعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاْءَ الَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوْا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئَاً وَإِنَّ الظَّاْلِمِيْنَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاْءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِيْنَ}(1)، وقال لهم موسى:{يَاْ قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاْءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكَاً وَآتَاْكُمْ مَاْ لَمْ يُؤْتِ أَحَدَاً مِنَ الْعَاْلَمِيْنَ}(2).
خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الجاثية، الآيات 16-19.
(2) سورة المائدة، الآية 20.(24/42)
فإذا كان بنو إسرائيل الذين فضّلهم الله على العالَمين في تلك الأزمان، وكانت هذه الأمة خيراً منهم، كانوا خيراً من غيرهم بطريق الأولى. فكان ممّا خصّهم الله به أنّه لا يُعذّبهم بعذاب عامّ؛ لا من السماء، ولا بأيدي الخلق؛ فلا يُهلكهم بسنة عامة، ولا يُسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم؛ كما كان يُسلّط على بني إسرائيل عدوّاً يجتاحهم، حتى لا يبقى لهم دينٌ قائمٌ منصورٌ، ومن لا يقبل منهم يبقى مقهوراً تحت حكم غيرهم. بل لا تزال في هذه الأمّة طائفة ظاهرة على الحقّ إلى يوم القيامة(1)، ولا يجتمعون على ضلالة(2)؛ فلا [تزال](3) فيهم أمّة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون(4).
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". رواه مسلم في صحيحه 31524، رقم (173)، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين"، و1137، رقم (247)، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأحمد في المسند 3345.
وعند البخاري من حديث المغيرة بن شعبة 62667، كتاب الاعتصام، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ" وهم أهل العلم.
(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله لا يجمع أمتي على ضلالة". أخرجه الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 4466، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.
وللحديث شواهد أخرى عن أبي ذر وغيره أخرجها الدارمي في سننه 129. والحاكم في مستدركه 1115.
(3) في ((خ)): يزال. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) قال تعالى: {ولتكن منكم أمّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ وَيأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عنِ المُنْكَرِ وأولئك همُ المفلحون}. سورة آل عمران، الآية 104.(24/43)
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "سألتُ ربّي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني [عن](1) واحدة؛ سألتُ ربّي أن لا يُسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها؛ وسألتُه أن لا يُهلكهم بسنة عامّة، فأعطانيها؛ وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها"(2).
معنى البأس
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ))، وهو في ((م))، و ((ط)).
(2) هو جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 42216، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.(24/44)
وهذا البأس نوعان؛ أحدهما: الفتن التي تجري عليهم. والفتنة تَرِدُ على القلوب، فلا [تعرف](1) الحقَّ، ولا [تقصده](2)؛ فيؤذي بعضهم بعضاً بالأقوال والأعمال. والثاني: أن يعتدي أهل الباطل منهم على أهل الحقّ منهم، فيكون ذلك محنةً في حقّهم، يُكفّر الله بها سيِّئاتهم، ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرّهم كيد الظالمين لهم، بل تكون العاقبة للتقوى، ويكونون من أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين؛ إذا كانوا من أهل الصبر واليقين؛ ف{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ}(3). والمتعدّي منهم إمّا أن يتوبَ الله عليه كما تاب على إخوة يوسف بعد عدوانهم عليه، وآثره الله عليهم بصبره وتقواه؛ كما قال لمّا قالوا: {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوْسُفُ قَاْلَ أَنَاْ يُوْسُفُ وَهَذَاْ أَخِيْ قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَاْ إِنَّهُ مِنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِيْنَ قَاْلُوْا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَاْ وَإِنْ كُنَّاْ لَخَاْطِئِيْنَ قَاْلَ لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاْحِمِيْنَ}(4).
__________
(1) في ((خ)): يعرف. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) في ((خ)): يقصده. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) سورة يوسف، الآية 90.
(4) سورة يوسف، الآيات 90-92.(24/45)
وكما فعل سبحانه بقادة الأحزاب الذين كانوا عدواً لله وللمؤمنين، وقال فيهم: {لا تَتَّخِذُوْا عَدُوِّيْ وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاْء}(1)، ثمّ قال: {عَسَىْ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِيْنَ عَاْدَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةٌ وَاللهُ قَدِيْرٌ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}(2)؛ وفي هذا ما دلّ على أنّ الشخص قد يكون عدواً لله، ثمّ يصير وليّاً لله، موالياً لله ورسوله والمؤمنين؛ فهو سبحانه يتوب على من تاب، ومن لم يتب فإلى الله إيابه، وعليه حسابه. وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ومع غيره ما أمر الله به ورسوله؛ من قصد نصيحتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النّور، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ كما أمر الله ورسوله، لا اتّباعاً للظنّ وما تهوى الأنفس، حتى [يكون](3) من خير أمة أخرجت للنّاس؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وهؤلاء يعلمون الحقّ ويقصدونه، ويرحمون الخلق، وهم أهل صدقٍ وعدلٍ؛ أعمالهم خالصة لله، صوابٌ موافقة لأمر الله؛ كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(4). قال [الفُضَيْل](5) بن عياض(6)، وغيره: أخلصه، وأصوبه؛ والخالص أن يكون لله؛ والصواب أن يكون على السنّة(7).
دين الإسلام
__________
(1) سورة الممتحنة، الآية 1.
(2) سورة الممتحنة، الآية 7.
(3) في ((خ)): تكون. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) سورة الملك، الآية 2.
(5) ما بين المعقوفتين لا توجد في ((ط)).
(6) سبقت ترجمته.
(7) انظر: تفسير البغوي 4369.
وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه، انظر: جامع الرسائل 1257، 2226. والعبودية ص 69-70. ومجموع الفتاوى 1333، 7495. والتدمرية ص 233.(24/46)
وهو كما قالوا؛ فإنّ هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله؛ كما قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيْنَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاْهِيْمَ حَنِيْفَاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاْهِيْمَ خَلِيْلاً}(1)؛ فالذي أسلم وجهه لله: هو الذي يُخلص نيّته لله، ويبتغي بعمله وجه الله. والمحسن: هو الذي يُحسن عمله؛ فيعمل الحسنات. والحسنات: هي العمل الصالح. والعمل الصالح: هو ما أمر الله به ورسوله؛[من](2) واجبٍ ومستحبٍ. فما ليس من هذا ولاهذا، ليس من الحسنات، والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسناً.
وكذلك قال لمن قال: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَاْنَ هُوْدَاً أَوْ نَصَاْرَىْ}(3)، قال: {تِلْكَ أَمَاْنِيُّهُمْ قُلْ هَاْتُوْا بُرْهَاْنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَاْدِقِيْنَ بَلَىْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُوْنَ}(4). وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيْنَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِيْ الآخِرَةِ مِنَ الْخَاْسِرِيْنَ}(5).
الإسلام دين جميع الأنبياء
__________
(1) سورة النساء، الآية 125.
(2) في ((ط)): مزن.
(3) سورة البقرة، الآية 111.
(4) سورة البقرة، الآيتان 111-112.
(5) سورة آل عمران، الآية 85.(24/47)
والإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم من الأمم؛ كما أخبر الله بنحو ذلك في غير موضع(1) من كتابه؛ فأخبر عن نوح(2)، وإبراهيم، وإسرائيل(3) [عليهم السلام](4) أنّهم كانوا مسلمين. وكذلك عن أتباع موسى(5)، وعيسى(6) [عليهما السلام](7)، وغيرهم(8)
__________
(1) قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}. سورة المائدة، الآية 44.
(2) حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. سورة يونس، الآية 72.
(3) وأخبر الله تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. سورة البقرة الآيات 130-132.
(4) ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط.
(5) حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}. سورة يونس، الآية 84.
(6) قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. سورة آل عمران، الآية 52.
(7) ما بين المعقوفتين من ((ط)) فقط.
(8) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له. وعبادته تعالى في كلّ زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله". الجواب الصحيح 183. وانظر: مجموع الفتاوى 7624.(24/48)
.
معنى الإسلام
والإسلام هو أن يَستسلم لله، لا لغيره؛ فيعبد الله ولا يُشرك به شيئاً، ويتوَكَّل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويُحبّ الله المحبّة التامّة، لا يُحبّ مخلوقاً كحبّه لله، بل يُحِبّ لله، ويُبغض لله، ويُوالي لله، ويُعادي لله. فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلماً، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلماً. وإنّما تكون عبادتُه بطاعته؛ وهو طاعة رسله؛ [فَمَنْ](1) يُطع الرسول فقد أطاع الله(2)؛ فكلّ رسول بُعث بشريعة، فالعمل بها في وقتها هو دين الإسلام. وأمّا ما بُدِّل منها فليس من دين الإسلام. وإذا نُسخ منها ما نُسخ لم يبق من دين الإسلام؛ كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهراً، ثمّ الأمر باستقبال الكعبة(3)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): من.
(2) انظر: معنى الإسلام كما أوضحه شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ص 250-252، 346. ومجموع الفتاوى 7623، 635. والفرقان ص 182. والتدمرية ص 169. والاستقامة 2128.
(3) روى البخاري عند تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [ سورة البقرة، الآية 142]، عن البراء رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت. وأنّه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قومٌ، فخرج رجل ممّن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكّة. فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحوّل قبل البيت رجال قُتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. صحيح البخاري 41631، كتاب التفسير، باب: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}.(24/49)
؛ وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يُولّي المصلّي وجهه شطر المسجد الحرام(1).
فمن قصد أن يُصلّي إلى غير تلك الجهة، لم يكن على دين الإسلام؛ لأنّه يُريد أن يعبد الله بما لم يأمره. وهكذا كلّ بدعة تُخالف أمر الرسول؛ إمّا أن تكون من الدين المُبدّل الذي ما شرعه الله قطّ، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه؛ كالتوجّه إلى بيت المقدس. فلهذا كانت السنّة في الإسلام كالإسلام في الدين؛ هو الوسط؛ كما قد شُرح هذا في غير موضع(2).
__________
(1) ويُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله تفاوت الإيمان في حق العباد، وأنّ الأعمال إنّما تجب وتكون إيماناً وإسلاماً إذا فُرضت عليهم. انظر: كتاب الإيمان ص 184-186.
(2) انظر: التدمرية ص 169-170. ومجموع الفتاوى 180، 189، 190، 310-311. وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق ص 16-27.(24/50)
والمقصود هنا أنّه إذا ردّ ما تنازع فيه الناس إلى الله والرسول؛ سواء كان في الفروع أو [الأصول](1)، كان ذلك خيراً وأحمدَ عاقبة؛ كما قال تعالى: {يَاْ أَيُّهَاْ الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَاْزَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَىْ اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً}(2). وقال تعالى: {كَاْنَ النَّاْسُ أُمَّةً وَاْحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَاْبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاْسِ فِيْمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ وَمَاْ اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلاَّ الَّذِيْنَ أُوْتُوْهُ مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاْءَتْهُمُ الْبَيِّنَاْتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَىْ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا لِمَاْ اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاْءُ إِلَىْ صِرَاْطٍ مُسْتَقِيْمٍ}(3).
وفي صحيح مسلم عن عائشة، [أنّ](4) النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام [يُصلّي](5)
__________
(1) في ((خ)): الأصل. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) سورة النساء، الآية 59.
(3) سورة البقرة، الآية 213.
(4) في ((ط)): فأنّ. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(5) ما بين المعقوفتين في ((خ)). وليس في ((م))، و ((ط)).
وفي صحيح مسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهمّ رب..." وذكرت الحديث.(24/51)
من اللّيْل يقول: "اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما [اختُلف](1) فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"(2).
أهل السنة
وهذه حال أهل العلم والحق والسنّة؛ يعرفون الحق الذي جاء به الرسول؛ وهو الذي اتفق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول؛ ويدعون إليه؛ ويأمرون به نصحاً للعباد، وبياناً للهدى والسداد. ومن خالف ذلك لم يكن لهم معه هوى، ولم يحكموا عليه بالجهل، بل [حكمه](3) إلى الله والرسول؛ فمنهم من يُكفره الرسول، ومنهم من يجعله من أهل الفسق أو العصيان، ومنهم من يعذره ويجعله من أهل الخطأ المغفور. والمجتهد من هؤلاء المأمور بالاجتهاد، يجعل له أجراً على فعل ما أمر به من الاجتهاد، وخطؤه مغفور له؛ كما دلّ الكتاب(4)
__________
(1) في ((خ)): اختلفت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 1534، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء.
(3) في ((ط)): حكمة. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(4) قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. [سورة البقرة، الآيتان 285-286].
وثبت في صحيح مسلم أنّ الله سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلتُ. انظر: صحيح مسلم 1116، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لا يُكلّف إلا ما يُطاق، رقم 200. ومسند الإمام أحمد 1233.
وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. [سورة الأحزاب، الآية 5]. وانظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 144-146 - تحقيق د عبد الرحمن عبد الكريم اليحيى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر". متفق عليه؛ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 9133، كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب. والإمام مسلم في صحيحه 31342، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.(24/52)
.
أهل البدع
وأمّا أهل البدع: فهم أهل أهواء وشبهات، يتّبعون أهواءهم فيما يُحبّونه ويُبغضونه، ويحكمون بالظنّ والشبه؛ فهم يتّبعون الظنّ وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. فكلّ فريقٍ منهم قد أصّل لنفسه أصلَ دينٍ [صنعه](1)؛ إمّا برأيه وقياسه الذي يُسمّيه عقليّات؛ وإمّا بذوقه وهواه الذي يُسمّيه ذوقيّات(2)؛ وإمّا بما يتأوّله من القرآن، ويُحرّف فيه الكلم عن مواضعه، ويقول إنّه إنّما يتّبع القرآن كالخوارج(3)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): وضعه.
(2) قال صاحب التعريفات: "والذوق في معرفة الله عبارة عن نور عرفانيّ يقذفه الحقّ بتجلّيه في قلوب أوليائه، يُفرّقون به بين الحقّ والباطل من غير أن يتلقّوا ذلك من كتاب أو غيره". التعريفات ص 44.
وانظر: أيضاً تعريف الذوق في الرسالة القشيريّة 1271. وانظر: شرح الأصفهانية 2516-517.
(3) المقصود أنّ الخوارج لا يأخذون بالسنة.
وكل من خرج على الإمام الحقّ الذي اتفقت الجماعة عليه يُسمّى خارجاً. وأول من عرف بذلك، واشتهر به: الذين خرجوا على علي رضي الله عنه في حروراء، وقاتلهم. وهم فرق كثيرة يقولون بتخليد صاحب الكبيرة، ويجمعهم القول بتكفير علي بن أبي طالب، وعثمان، والحكمين، وأصحاب الجمل، ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما. ويجمعهم أيضاً القول بالخروج على الإمام إذا كان جائراً.
انظر: الملل والنحل 114. والفرق بين الفرق ص 72، 73. والمقالات 1167. وانظر أيضاً: منهاج السنة النبوية 3461.(24/53)
؛ وإمّا بما يدّعيه في الحديث والسنّة ويكون كذباً وضعيفاً كما يدّعيه الروافض(1)؛ من النصّ والآيات. وكثيرٌ ممّن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه يحتجّ من القرآن بما يتأوّله على غير تأويله، ويجعل ذلك حجّة لا عمدة، وعمدته في الباطن على رأيه، كالجهميّة والمعتزلة في الصفات والأفعال، بخلاف مسائل الوعد والوعيد(2)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنّما سُمّوا رافضة، وصاروا رافضة لمّا خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترحّم عليهما، فرفضه قومٌ، فقال: رفضتموني، رفضتموني. فسمّوا رافضة. وتولاّه قومٌ فسمّوا زيديّة؛ لانتسابهم إليه. ومن حينئذٍ انقسمت الشيعة إلى رافضة إماميّة، وزيديّة. وكلما ازدادوا في البدعة، ازدادوا في الشرّ. فالزيديّة خيرٌ من الرافضة، أعلم، وأصدق، وأزهد، وأشجع".
منهاج السنة النبوية 296. وانظر: المصدر نفسه 3471. ومجموع الفتاوى 1335-36.
وهم يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفّرون أكثر الصحابة، إلا عدداً يسيراً.
وقد أخبر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "أصل الرفض من المنافقين والزنادقة؛ فإنّه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوّ في عليّ بدعوى الإمامة والنصّ، وادّعى العصمة له". مجموع الفتاوى 4435، 28483.
وانظر: في تعريف الرافضة: المقالات للأشعريّ 189. واعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 52. والملل والنحل 1155. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 36. وشرح حديث النزول لابن تيمية ص 427. وبغية المرتاد ص 341.
(2) يُراد بمسائل الوعد والوعيد عند الرافضة ما أُريد بها عند المعتزلة.
ومسائل الوعد والوعيد بيّنها القاضي عبد الجبار المعتزلي بقوله: ".... وأما علوم الوعد والوعيد: فهو أنّ الله تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه التخلّف والكذب..". شرح الأصول الخمسة ص 135-136.
والروافض في إثبات الوعيد فرقتان؛ إحداهما تُثبته لمخالفيهم خاصّة. والأخرى تُثبته للنّاس عامّة.
يقول الأشعريّ في المقالات: "واختلفت الروافض في الوعيد، وهم فرقتان: فالفرقة الأولى منهم يُثبتون الوعيد على مخالفيهم، ويقولون: إنّهم يعذّبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم، ويزعمون أنّ الله سبحانه يدخلهم الجنّة، وإن أدخلهم النّار أخرجهم منها. ورووا في أئمتهم أنّ ما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم إليهم، حتى يصفحوا عنهم. والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد، وأنّ الله عزّ وجلّ يُعذّب كلّ مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان، أو من غير أهل مقالتهم، ويُخلّدهم في النّار". المقالات للأشعريّ 1126. وانظر: منهاج السنة النبوية 2303.(24/54)
؛ فإنّهم قد يقصدون متابعة النصّ.
البدع نوعان
فالبدع نوعان: نوعٌ كان قصد أهلها متابعة النصّ والرّسول، لكن غلطوا في فهم النصوص، وكذّبوا بما يُخالف ظنّهم من الحديث ومعاني الآيات؛ كالخوارج، وكذلك الشيعة المسلمين، بخلاف من كان منافقاً زنديقاً(1) يُظهر التشيّع، وهو في الباطن لا يعتقد الإسلام. وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد مع الوعد.
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن لفظ الزندقة أنّه "لا يُوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يُوجد في القرآن. وهو لفظٌ أعجميّ معرّب، أُخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعُرِّب. وقد تكلّم به السلف والأئمة؛ في توبة الزنديق، ونحو ذلك. فأمّا الزنديق الذي تكلّم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم المنافق الذي يُظهر الإسلام، ويُبطن الكفر، وإن كان مع ذلك يُصلّي ويصوم ويحجّ ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطِّلاً للصانع وللنبوّة، أو للنبوّة فقط، أو لنبوّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم فقط، فهذا زنديق، وهو منافق. وما في القرآن والسنّة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين". بغية المرتاد ص 338.(24/55)
ولهذا قال عبد الله بن المبارك(1)، ويوسف بن أسباط(2)، وغيرهما إنّ الثنتين وسبعين فرقة(3) أصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدريّة.
الجهمية أصل دينهم المعقول
وأمّا الجهميّة النافية للصفات، فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول(4)؛ فإنّه ليس في الكتاب والسنّة نصّ واحدٌ يدلّ على قولهم، بل نصوص الكتاب والسنّة متظاهرة بخلاف قولهم، وإنّما يدّعون التمسّك بالرأي المعقول. وقد بُسط القول على بيان فساد حججهم العقليّة، وما يدّعيه بعضهم من السمعيّات، وبُيِّن أنّ المعقول الصريح موافق للمنقول الصحيح في بطلان قولهم، لا مخالف له(5).
الكلام في أفعال الرب تعالى
__________
(1) سبقت ترجمته.
(2) يوسف بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ. له مواعظ وحكم. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا يُحتجّ به. وقال البخاري: دفن كتبه، فكان حديثه لا يجيء كما ينبغي. انظر: سير أعلام النبلاء 9169. وحلية الأولياء 8237. وشذرات الذهب 1343.
(3) يُشير إلى حديث: "إنّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة - يعني الأهواء - كلّها في النار إلا واحدة وهي الجماعة...". أخرجه الإمام أحمد في المسند 4102. وأبو داود في سننه 55، كتاب السنّة، باب شرح السنّة. والحاكم في مستدركه 1128، وصحّحه ووافقه الذهبي.
(4) وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5302، 309،، 7110. وكتاب الصفدية 2239-240. ومجموع الفتاوى 3350-354. وشرح الطحاوية 2795. ورسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 216. وشرح السنة للبربهاري ص 57.
(5) وقد هدم شيخ الإسلام رحمه الله قانون المتكلّمين العقليّ الذي جعلوه مقدّماً على الأدلّة السمعيّة، والتزموا لأجله لوازمَ ردّوا بها كثيراً من أمور العقيدة. وقد بسط ذلك - رحمه الله - في كتابه الكبير: ((درء تعارض العقل والنقل)).(24/56)
والمقصود هنا: الكلام في أفعال الربّ؛ فإنّ الجهميّة والمعتزلة ومن اتبعهم صاروا يسلكون فيه بأصلٍ أُصِّل بالمعقول، و[يجعلونه](1) العمدة، وخاضوا في لوازم القدر برأيهم المحض، فتفرّقوا فيه تفرّقاً عظيماً، وظهر بذلك حكمة نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته عن التنازع في القدر، مع أنّ المتنازعين كان كلّ منهما يُدلي بآية، لكن كان ذلك يُفضي إلى إيمان كلّ طائفة ببعض الكتاب دون البعض، فكيف إذا كان المتنازعون [عمدتهم](2) رأيهم.
أحاديث النهي عن التنازع في القدر
والحديث رواه أهل المسند والسنن [مفصّلاً](3)، ورواه مسلم(4) مجملاً عن عبد الله بن رباح الأنصاري أنّ عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ(5) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع [أصوات](6) رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنّما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".
__________
(1) في ((خ))، و ((م)): يجعلون. وما أثبت من ((ط)).
(2) في ((خ)): عهدتهم. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((خ)): متصلاً. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) صحيح مسلم 42053، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن.
(5) قال ابن الأثير: "التهجير: التبكير إلى كلّ شيء، والمبادرة إليه؛ يُقال: هجّر يُهجّر تهجيراً فهو مُهجِّر". النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5246.
(6) في ((خ)) : أصواتاً. وفي ((م))، و ((ط)) : صوت. وما أثبت من صحيح الإمام مسلم رحمه الله.(24/57)
وقال الإمام أحمد في المسند: [ثنا](1) أبو معاوية، [حدثنا](2) داود ابن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه(3) قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والنّاس يتكلّمون في القدر. قال: فكأنّما يُفْقأ في وجهه حبّ الرمّان من الغضب. قال: فقال: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض ؟ بهذا هَلَكَ من كان قبلكم" قال(4): فما غبطتُ نفسي بمجلسٍ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده، ما غبطتُ نفسي بذلك المجلس أنّي لم أشهده". وهذا حديث محفوظ من [رواية](5) عمرو بن شعيب. وقد رواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية(6).
وكتب أحمد في رسالته إلى المتوكّل(7)
__________
(1) في ((م))، و ((ط)): حدثنا.
(2) في ((م))، و ((ط)): ثنا.
(3) عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(4) أي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(5) في ((خ)): روايته. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) رواه أحمد في المسند 2178، 196. وابن ماجه في السنن 133، في المقدمة، باب في القدر. وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1115، 3627. والبغوي في شرح السنّة1260. وقال محقّقاه: إسناده حسن. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده - كما في زوائد ابن ماجه 153 - وقال الساعاتي عن رواية الإمام أحمد: وقال البوصيريّ: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وانظر: الفتح الرباني 1142. وقد حسّنه محقّق جامع الأصول 10135 عبد القادر الأرناؤوط.
ورواه الآجري بسنده عن أبي أمامة في الشريعة ص 68. وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 136: سنده حسن، وقال في تعليقه على شرح الطحاوية ص 218: صحيح.
(7) ذكر هذه الرسالة بنصها عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في كتاب السنّة ص 21-26. وأبو نعيم في الحلية - عند ترجمة الإمام أحمد - 9216-219.
وهي رسالة أرسلها الإمام أحمد رحمه الله جواباً لرسالة وصلته من وزير المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان يُخبره أنّ أمير المؤمنين أمره أن يكتب إليه، يسأله عن أمر القرآن، لا مسألة امتحان، ولكن مسألة معرفة وبصيرة.. وقال الذهبي عن هذه الرسالة: "رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهد بالله أنّه أملاها على ولده". تاريخ الإسلام. ومقدمة المسند لأحمد شاكر 1124.(24/58)
هذا الحديث. وجعل يقول في مناظرته لهم يوم الدار في المحنة: إنّا قد نُهينا عن أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض(1).
وروى هذا المعنى: الترمذي من حديث أبي هريرة(2)، وقال: حديث حسن غريب.
شبهة من ينكر صفات الله
__________
(1) كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد
(2) أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرّ وجهه؛ حتى كأنّما فُقئ في وجنتيه حبُّ الرّمّان، فقال: أبهذا أُمرتم ؟ أم بهذا أُرسلت إليكم ؟! إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمتُ عليكم ألاّ تنازعوا فيه" الحديث أخرجه الترمذي في جامعه 4443، كتاب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر. وقال: وفي الباب عن عمر، وعائشة، وأنس. وهذا الحديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث صالح المرّيّ، وصالح المرّيّ له غرائب يتفرّد بها، لا يُتابع عليها. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 149،، 2104.(24/59)
قال(1): وفي الباب الذي [فررت](2) منه؛ فإنّه لمّا قيل: إنّ له حياة، وعلماً، وقدرة، وإرادة، وغضباً، ورضي، ونحو ذلك، قلتَ: هذا يستلزم أن يكون موافقاً للمخلوق في مسمّى هذه الأسماء. وهذا تشبيه(3). فقيل لك(4): هذا يلزم مثله في الذات؛ فإن قيل بتعطيل الذات(5)، فذلك يستلزم ما فررت منه؛ من ثبوت جسم قديم حامل للأعراض والحركات. وإذا كان هذا لازماً لك على تقدير نفي الذات كما ثبت أنّه لازمٌ على تقدير إثباتها، كان لازماً على تقدير النقيضين؛ النفي والإثبات. وما كان كذلك لم يمكن نفيه. و[أمّا](6) نحن فقد بيَّنَّا أنّ اللازم على تقدير إثباتها لا محذور فيه، وإنّما المحذور لازم على تقدير نفيها. وهذا قد بُسط في غير هذا الموضع(7).
مناقشة من ينفي الحكمة
__________
(1) لم يتبيَّن لي القائل، والكلام الذي سيأتي غير واضح. ولا أدري أهو من كلام الترمذيّ، أم من كلام شيخ الإسلام - فلعله رجع بعد الاستطراد انظر: ص 499؛ فليس هذا الكلام في نسخ جامع الترمذي التي بين أيدينا.
(2) في ((خ)): قررت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) وهذا الكلام - كما يُفهم - من كلام مَن يُنكر صفات الله؛ كالجهميّة، والمعتزلة. وهذه حجّتهم؛ إذ أنّهم لم يفهموا من صفات الخالق إلا ما هو من صفات المخلوق؛ فشبّهوا، ثمّ عطّلوا.
(4) المقصود به الجهمي والمعتزلي الذي يُعطِّل الصفات ويُثبت الذات. فيُقال له: القول في الصفات كالقول في الذات.
(5) وهذا قول ملاحدة الصوفية، وغلاة الفلاسفة الذين يقولون بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان.
(6) في ((خ)): انما. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(7) انظر: العقيدة التدمرية ص 15-30، 35-46. وشرح الأصفهانية 2384-388، 441-445، 450، 457-467. ودرء تعارض العقل والنقل 1128، 129، 6119-137. والرد على المنطقيين ص 225-232. ومنهاج السنة 2115-120، 160-172، 595-598. وكتاب الصفدية 188، 234-37.(24/60)
والمقصود هنا: أنه يُقال لهؤلاء(1)
__________
(1) المقصود بهم الفلاسفة، والجهميّة. وانظر: ص 533.
فهم ينفون تعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وأن يكون مختاراً في أفعاله، ويقولون هو موجب بالذات، فلا يكون فعله لغاية. انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 3150-155. وكذا انظر: بيان تلبيس الجهمية 1161.
وقال شيخ الإسلام عن الحكمة: "كل ما خلقه الله فله فيه حكمة؛ كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}. وهو سبحانه غنيّ عن العالمين. فالحكمة تتضمّن شيئين؛ أحدهما حكمة تعود إليه يُحبّها ويرضاها. والثانية إلى عباده، هي نعمه عليهم يفرحون بها، ويلتذّون بها. وهذا في المأمورات، وفي المخلوقات". مجموع الفتاوى 835-36.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أقوال النّاس في الحكمة، فقال عن الجهميّة: "ُنكرون التعليل جملة، ولا يُثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم. والمعتزلة يُثبتون تعليلاً متناقضاً في أصله وفرعه؛ فيُثبتون للفاعل تعليلاً لا تعود إليه حكمة" درء تعارض العقل والنقل 854.
أمّا الفلاسفة، فيقول عنهم شيخ الإسلام رحمه الله إنّهم "ُثبتون علة غائيّة للفعل، وهي بعينها للفاعل. ولكنّهم متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون له العلّة الغائيّة، ويُثبتون لفعله العلة الغائيّة، ويقولون مع هذا ليس له إرادة، بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار. وقولهم باطل من وجوه..." مجموعة الرسائل والمسائل 4-5288.
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله تناقض الجهميّة والمتفلسفة في موضع آخر؛ فيقول: "لمتفلسفة متناقضون؛ فإنّهم يُثبتون غاية وحكمة غائيّة، ولا يُثبتون إرادة. والجهميّة تُثبت أنّه سبحانه مريد، ولا تُثبت له حكمة فعل لأجلها. وكلّ من القولين متناقض" شرح الأصفهانيّة 2378.
وانظر: الكلام عن الحكمة وأقوال الناس فيها في كتب شيخ الإسلام: شرح الأصفهانية 1150-155، 2353-378. ومنهاج السنة النبوية 1133-148، 454، 2612-615، 314، 32، 180-198، 207، 214-215. ودرء تعارض العقل والنقل 854، 9110-111. ومجموع الرسائل 4-5234-235، 240. وانظر: رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر - ضمن مجموع الرسائل والمسائل 4-5283-346 - وهي في مجموع الفتاوى 881-158. ومجموع الفتاوى 6128-130،، 835، 57، 377-378، 466-468، 16129-133، 296-298، 1795، 96، 99وبيان تلبيس الجهمية 1163-217. واقتضاء الصراط المستقيم 1409.
وانظر: الإرشاد للجويني ص 268 وما بعدها. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 297. ومحصل أفكار المتقدمين للرازي ص 205. والفصل لابن حزم 3174. والمغني في أبواب التوحيد والعدل لعبد الجبار الهمذاني 648، 1192-93.
ولعل القول الذي قصده شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يُقال للفلاسفة نظير ما قيل لنفاة الصفات، هو ما صرّح به بقوله: "على هذا فكلّ ما فعله علمنا أنّ له فيه حكمة. وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل. وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفيّة ذاته، وكما أنّ ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا. وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نُكذّب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنّه حكيم فيما يفعله ويأمره، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيّات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته. فلا نُكذّب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها" مجموعة الرسائل 4-5233.(24/61)
الذين ينفون الحكمة، ثمّ الإرادة، ثمّ الفعل في الأفعال نظير ما قيل لأولئك(1) في الصفات، ويجعل مبدأ الكلام من الإرادة في الموضعين(2). فيُقال لمن أثبتها، ونفى الحكمة من المنتسبين إلى إثبات القدر(3)
__________
(1) والمقصود بهم المعتزلة والجهميّة. وقد مرّ إلزامات المؤلف رحمه الله لهم قبل أسطر؛ وهو أن يُقال للجميع: يلزمكم التشبيه بالمقدار الذي تُثبتونه لخالقكم ومعبودكم، وإلا أثبتوا حكمته من غير تشبيه.
(2) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ نفي الحكمة هو أصل حجة الفلاسفة على نفي الصانع، فقال: "هذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؛ وهي مسألة القدر، ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة. وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم، قال لهم: بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وعن هذا نشأ مذهب المجوس القدرية، مجوس هذه الأمة، حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم من فروع تلك الحجة" بيان تلبيس الجهمية 1163.
(3) والمقصود بهم الأشاعرة؛ فهم قد أثبتوا الإرادة، ونفوا الحكمة. وانظر: كتاب الصفدية 1147-148،، 2331.
"قد ردّ ابن تيمية على نفاة الحكمة من الأشاعرة، وذلك لأنّ إثبات النبوة مبنيّ على إثبات صفة الحكمة لله تعالى، والمتكلمون ينفون أن تكون أفعال الربّ تعالى واقعة لسبب، أو لعلّة، أو لغرض، بمعنى آخر: ينفون أن يكون الله تعالى يفعل شيئاً لشيء آخر. ومثال ذلك:... أن تكون المعجزة مفعولة للربّ لغرض إثبات نبوّة الأنبياء؛ فهم ينفون ذلك الغرض، وهو في الحقيقة نفيٌ لحكمته سبحانه. ومن نفى صفة الحكمة عن الله تعالى فقد انسدّ عليه طريق إثبات النبوّة. لذا وجدناه يُقرّر أنّه قد أجمع المسلمون على أنّ الله تعالى موصوفٌ بالحكمة، ولكنّهم تنازعوا في تفسير ذلك.." النبوة عند ابن تيمية لسعيد خليفة ص 333-334. رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة. وانظر: النبوات ص 821.(24/62)
، والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة: لم نفيتم الحكمة؟ فإذا قالوا: لأنّا لا نعرف من يفعل [لحكمة](1) إلا من يفعل لغرضٍ يعود إليه. وهذا لا يكون إلا فيمن يجوز عليه اللذّة، والألم، والانتفاع، والضرر، والله منزّهٌ عن ذلك(2). فيُقال لهم ما قاله نفاة الإرادة(3)، وأنتم لا تعقلون إرادة إلا فيمن يجوز عليه اللذّة والألم والانتفاع والضرر، وقد قلتم أنّ الله تعالى مريدٌ؛ فإمّا أن تطردوا أصلكم النافي، فتنفوا الإرادة؛ أو المثبت، فتُثبتوا اللذّة، وإلا، فما المفرق(4)؟ فإذا قال نفاة الإرادة(5): فلهذا نفينا الإرادة؛ كما رجّحه الرازي في المطالب العالية(6)، واحتجّ به الفلاسفة. قيل لهم: فانفوا أن يكون فاعلاً، فإنكم لا تعلمون فاعلاً غير مقهور إلا بإرادة، ولا يعقلون ما يفعل ابتداءً إلا بإرادة، أو فاعلاً حياءً إلا بإرادة، أو فاعلاً مطلقاً إلا بإرادة(7)
__________
(1) في ((ط)): الحكمة. وما أثبت من ((خ))، و ((م)).
(2) انظر: التمهيد للباقلاني ص 50 - حيث ذكر هذا الكلام بنصّه. وكتاب الأربعين للرازي ص 250. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332.
وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على هذه الحجة بأربعة وجوه. انظر: شرح الأصفهانيّة 2369-371.
(3) من الجهميّة والمعتزلة.
(4) معنى ذلك: "إذا أردتم به أنّ حكمة الله هي ما ذكرتم، فهي دعوى بلا برهان؛ لأنّ حكمة الربّ تعالى فوق تحصيل اللذّة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق. أمّا الخالق سبحانه فهو غنيّ بذاته عن كلّ ما سواه، حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين، كما أنّ إرادته وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين. فحكمته سبحانه أجلّ وأعلى من أن يُقال إنّها تحصيل لذّة، أو دفع ألم وحزن". الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى ص 72. وانظر: التدمرية ص 34.
(5) الجهميّة والمعتزلة.
(6) انظر: المطالب العالية للرازي 3217.
(7) المقصود أنّ المعتزلة القدرية يُثبتون أنّ الله فاعل. وشيخ الإسلام رحمه الله يلزمهم بإثبات الإرادة؛ لأنّه لا يعقل فاعل غير مقهور إلا بإرادة.(24/63)
.
فإن قال أتباع أرسطو(1)
__________
(1) أرسطو: هو أرسطو بن نيقوماخس (384 - 322 ق. م). يُسمّونه المعلم الأول. ولد في مدينة أسطاغيرا اليونانيّة. وكان أفلاطون يُعلّم الفلسفة ماشياً، وتابعه على ذلك أرسطو فسمّي هو وأصحابه المشائين. انتهت إليه فلسفة اليونان، وكان هو خاتمتهم. وكان مُشركاً يعبد الأصنام. وقد عنى فلاسفة المسلمين بفلسفة أرسطو، وسمّوه معلّمهم الأول).
انظر: الفهرست ص 307-312. وطبقات الأطباء والحكماء ص 25-27. والملل والنحل للشهرستاني 337-63. مجموع الفتاوى 11171-172. والرد على المنطقيّين ص 186، 283. والفرق بين الفرق ص 307-308.
وقد ذكر شيخ الإسلام عن أرسطو أنّه "أوّل من صرّح بقدم الأفلاك، وأنّ المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون إنّ هذا العالم محدَث...وأصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مُشركين يعبدون المخلوقات، ولا يعرفون النبوات، ولا المعاد البدني، وإنّ اليهود والنصارى خيرٌ منهم في الإلهيّات، والنبوات، والمعاد". منهاج السنة النبوية 1360، 364. وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2167. وشرح الأصفهانية 165. والجواب الصحيح 1345. والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 80-81.
أمّا عن مجمل اعتقاد أرسطو وأتباعه، فإنّهم يقولون: أنّ الله تعالى ليس هو خالق هذا العالم، بل لم يخلق شيئاً، وإنّما العالم قديم، وإنّما صدر عن الله العقل الأول لا على سبيل الخلق والإيجاد، وإنّما عن طريق ما يُسمّونه بالفيض والصدور، وأنّ الله هو علّة موجبة بذاته، وهو واحد لا يصدر عنه إلا واحد، ولذلك صدر عنه العقل الأوّل، وعن هذا العقل صدر عقل ثان، ونفس، وفلك. وعن العقل الثاني صدر عقل ثالث، ونفس، وفلك، وهكذا إلى أن أصبح هناك عشرة عقول، وتسعة نفوس وأفلاك. والعقل عند الفلاسفة بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثى. وأراد بعضهم التوفيق بين الفلسفة والشريعة، فقالوا: إنّ العرش هو الفلك التاسع. وربّما جعل بعضهم النفس هي اللوح المحفوظ، كما جعل العقل هو القلم. وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعّال العاشر، أو النفس المتعلقة به... وزعموا أنّ العقول والنفوس هي الملائكة، وأنّهم التسعة عشر الذين على سقر، وأنّ جبريل هو العقل الفعّال، وأنكروا وجود الملائكة.
ثمّ يزعمون أنّ هذه النفوس الفلكيّة هي المؤثرة الفعالة في القوى الأرضيّة المنفعلة، وأنّ القوى السماوية هي أسباب لحدوث الكائنات العنصرية؛ فهم يُثبتون بذلك صدوراً للمخلوقات بعضها عن بعض دون إرادة الله تعالى وعلمه ومشيئته، ويُثبتون كذلك التأثير في عالم الأرض، هو من عالم السموات والأفلاك. وأمّا تدبير الأمور اليوميّة؛ أي الحوادث الجزئيّة، وأنّه تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فليس لله عندهم في ذلك تأثير، وأسقطوا عن الله تعالى رعايته لهذا الكون، وإمساكه عن الزوال والفناء.
وقد أوجبوا وجود نبيّ يستقيم به نظام الكون، وهو عندهم بمثابة الرئيس المدنيّ. والفيلسوف أفضل منه؛ لأنّ النبيّ يتلقى وحيه وعلمه عن طريق القوة المتخيلة، والفيلسوف يتلقى علمه عن طريق القوة الناطقة المفكرة. والقوة المفكرة عندهم هي الرئيسيّة المتحكمة في المتخيلة.
انظر: مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ص 79. والنبوة عند ابن تيمية ص 370-371. ونقض المنطق ص 99-106. وتفسير سورة الإخلاص ص 49. وكتاب الصفدية 17-9، 280. والفارابي وآراء المدينة الفاضلة ص 55، 61، 89، 112. والنجاة لابن سينا ص 310-311.(24/64)
: فلهذا قلنا إنّه لا يفعل شيئاً(1)، وليس بموجب بذاته شيئاً، لكن قلنا: إنّ الفلك يتشبّه به، أو قال من هو أعظم تعطيلاً منهم: فلهذا نفينا الأول بالكليّة، ولم [نُثبت](2) علّة تفعل، ولا علّة يُتشبّه بها. قيل لهم(3): فهذه الحوادث مشهودة، وحركة الكواكب، والشمس، والقمر مشهودة، فهذه الحركات الحادثة، وغيرها من الحوادث؛ مثل السحاب، والمطر، والنبات، والحيوان، والمعدن، وغير ذلك ممّا يُشهد حدوثه؛ أحدث بنفسه من غير أن يُحدثه محدِث قديم، أو لا بُدّ للحوادث من محدِث قديم ؟
__________
(1) وقال شيخ الإسلام رحمه الله موضّحاً هذا المعنى في كتابه الردّ على المنطقيّين: "فإنّ هؤلاء حقيقة قولهم أنّه لم يخلق شيئاً. ومتقدّموهم كأرسطو وأتباعه على أنّه يتحرّك الفلك للتشبّه بها. فليس هو عندهم لا موجباً بالذات، ولا فاعلاً بالمشيئة. وأما ابن سينا وأمثاله ممّن يقول إنّه موجب بذاته، فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنّه مخالف لضرورة العقل؛ إذ يُثبتون مفعولاً ممكناً يمكن وجوده، ويمكن عدمه، وهو مع هذا قديمٌ أزليّ لم يزل ولا يزال، وهو مفعول معلول لعلّة فاعلة لم يزل مقارناً لها في الزمان. فكل من هذين القولين ممّا خالفوا فيه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين...". الرد على المنطقيين ص 524-525.
وانظر: المصدر نفسه ص 220. ودرء تعارض العقل والنقل 1126، 127، 669-70، 8216-224، 290. ومنهاج السنة 1149-150، 402، 405، 3271-289. وشرح الأصفهانية 193. وكتاب الصفدية 2334-335.
(2) في ((خ)): يثبت. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) أي لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله.
وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الطريق العقليّ المذكور في القرآن الكريم في كتابه شرح الأصفهانيّة 141، 2353. وكتاب الصفدية 19-10. وفي رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة - ضمن جامع الرسائل والمسائل 4290.(24/65)
فإن قالوا: بل حَدَثَ كلّ حادث بنفسه، من غير أن يُحدثه أحد(1): كان هذا ظاهر الفساد، يُعلم بضرورة العقل أنّه في غاية المكابرة، ونهاية السفسطة، مع لزوم ما فرّوا منه؛ فإنّهم فرّوا من أن يكون ثَمَّ فاعلٌ محدِث، وقد أثبتوا فاعلاً محدِثاً، لكن جعلوا كلّ حادِث هو يحدث بنفسه ويفعلها؛ فجعلوا ما ليس بشيء يجعل الشيء، وجعلوا المعدوم يُحدث الموجود؛ فلزمهم ما فرّوا منه من إثبات فاعل، مع ما لزمهم من الكفر العظيم،وغاية الجهل، وغاية فساد العقل.
وإن قالوا: بل كُلّ محدَثٍ يُحدِثه مُحدِث، وللمُحدِث مُحدِث(2)
__________
(1) انظر: شرح الأصفهانية 139.
وقد قال لهم شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم، بل هو وارد في كلّ ما يحدث في الوجود من الحوادث. والحدوث مشهود، محسوس، متفق عليه بين العقلاء، فكلّ ما يُورده على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة". مجموعة الرسائل والمسائل 4345.
(2) من نفى الحكمة عن الله من الفلاسفة والأشعريّة استدلّ على ذلك بلزوم التسلسل، وقال هو محال على الله. انظر: التمهيد للباقلاني ص 51-52. والأربعين في أصول الدين للرازي ص 250.
وقد ردّ شيخ الإسلام رحمه الله على شبهتهم هذه بأربعة وجوه في شرح الأصفهانية 2363-368. وانظر: كتاب الصفدية 227. ومنهاج السنة النبوية 1145-147.
وممّا قاله رحمه الله في ردّه على هذه الشبهة: (هذا التسلسل في الحوادث المستقبليّة، لا في الحوادث الماضية؛ فإنّه إذا فعل فعلاً لحكمة، كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل. فإذا كانت تلك الحكمة يُطلب منها حكمة أخرى بعدها، كان تسلسلاً في المستقبل. وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له، وسبب لحكمة ثانية؛ فهو لا يزال سبحانه يُحدِث من الحكم ما يُحبّه ويجعله سبباً لما يُحبّه). منهاج السنة النبوية 1149.(24/66)
. قيل لهم: هذا أيضاً ممتنع في صريح العقل؛ فإنّ التسلسل في الفاعل ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء(1)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر: "التسلسل الممتنع إنّما هو التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للفاعل فاعل، وهلم جرا إلى غير نهاية؛ سواء عبّر عن ذلك بأنّ للعلّة علّة وللمؤثّر مؤثّر، أو عبّر عنه بأنّ للفاعل فاعلاً. فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل. ولهذا كان هذا ممتنعاً باتفاق العقلاء؛ كما أنّ الدور الممتنع هو الدور القبلي. فأما التسلسل في الآثار: وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره، أو لا يكون إلاّ ويكون بعد غيره. فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو ممتنع في الماضي والمستقبل. وقيل: هو جائزٌ في الماضي والمستقبل. وقيل: ممتنع في الماضي، جائز في المستقبل. والقول بجوازه مطلقاً هو معنى قول السلف، وأئمة الحديث، وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه". منهاج السنة النبوية 2393.
وقال رحمه الله: "لفظ التسلسل يُراد به التسلسل في المؤثرات؛ وهو أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل. وهذا باطلٌ بصريح العقل واتفاق العقلاء. وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: ((آمنت بالله ورسله))). درء تعارض العقل والنقل 1363. وانظر: المصدر نفسه 3144، 161، 243، 4292-293، 9180-185، 238-241. ومنهاج السنة النبوية 1146، 176، 2128، 129، 392، 426. ومجموع الفتاوى 1245. وكتاب الصفدية 110-11، 23، 27، 30. وشرح الأصفهانيّة 146.(24/67)
؛ فإنّه كلما كثر ما يُقدَّر أنّه حادث، كان أحوج إلى القديم. فليس في تقدير حوادث لا [تتناهى](1) ما يُوجب استغناءها عن القديم، بل إذا كان المحدَث الواحد لا بُدّ له [من](2) محدِث غيره، فمجموع الحوادث أولى بالافتقار إلى محدِثٍ لها خارج عنها كلّها؛ فإنّ المحدِث لمجموعها يمتنع أن يكون واحداً منها؛ فإنّه يلزم أن يُحدِث نفسه، ويمتنع أن يكون المجموع أحدث المجموع؛ فإنّ الشيء لا يُحدِث نفسه.
والمجموع هي الآحاد الحادثة وهيئتها الاجتماعيّة، وتلك الهيئة محتاجة إلى [المجموع الذي](3) هو كلّ واحد، واحد. والمجموع ليس إلا الآحاد واجتماعها، وكلّ ذلك مفتقر إلى محدِث مباين لها؛ فلا بُدّ للحوادث من قديم ليس بحادث(4).
__________
(1) في ((خ)): يتناهى. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(3) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(4) انظر: رد المؤلف رحمه الله على هذه الشبهة في مجموعة الرسائل والمسائل 4343.(24/68)
ثمّ يُقال لهم: إذا قُدّر تسلسل الفاعلين، وأنّ ما كان محدِثاً له محدَث، وهلم جرا. فهذا فيه إثبات ما فررتم منه؛ وهو أنّ هذا المحدَث فعل هذا، وهذا فعل هذا. لكن أثبتم ما لا يتناهى من ذلك في آنٍ واحد، فركبتم ما فررتم منه، مع لزوم هذه الجهالات التي تقتضي غاية فساد العقل، والكفر [بالسمع](1). وإذا كان المحذور يلزمهم على تقدير أن يكون الحادث أحدث نفسه، أو أحدث كلُّ حادِثٍ [حادثاً](2) آخر، مع فساد هذين، تبيّن أنّه لا ينفعه إنكار القديم. وإن قال(3): بل أُقرّ بالمحدث القديم. قيل: فقد أقررت بفعل القديم للمحدَث، وإذا ثبت أنّ القديم فعل المحدَث، وأنت لا تعلم فاعلاً [إلا لجلب](4) منفعة، أو دفع مضرّة(5)
__________
(1) في ((ط)): بالمسع.
(2) في ((خ)): حادث. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) أي الفيلسوف الذي يقول بقدم العالم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم. وإنّما اشتهر القول بقدمه عنه، وعن متبعيه؛ كالفارابي، وابن سينا، والحفيد، وأمثالهم". كتاب الصفدية 1130. وانظر: المصدر نفسه 1148-151. ومنهاج السنة النبوية 3386.
(4) في ((ط)): إل لجلب.
(5) قال شيخ الإسلام: "... فإنّ الواحد منّا إنّما يُحسن إلى غيره لجلب منفعة، أو لدفع مضرّة. وإنّما يضرّ غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة. فإذا كان الذي يُثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه، لم يكن إثبات إحداهما ونفي الأخرى أولى من العكس. ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة، وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره، لم يكن بينهما فرق. وحينئذ: فالواجب إمّا نفي الجميع، ولا سبيل إليه للعلم الضروريّ بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم، وأنّ ذلك يستلزم الإرادة. وإمّا إثبات الجميع؛ كما جاءت به النصوص. وحينئذٍ فمن توهّم أنّه يلزم من ذلك محذور، فأحد الأمرين لازم؛ إمّا أنّ ذلك المحذور لا يلزم، أو أنه إن لزم فليس بمحذور". قاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58.(24/69)
. قيل له: [فما](1) كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن كونه يفعل بإرادته(2). وقيل لمثبت الإرادة(3): ما كان جوابك عن هذا، كان جواباً عن حكمته؛ فقد بيّن أنّ من نفى الحكمة، فلا بُدّ أن ينقض قوله، ويلزمه مع التناقض نفي الصانع، وهو مع نفي الصانع تناقضه أشدّ.
والمحذور الذي فرّ منه ألزم، فلم يُغن عنه فراره من إثبات الحكمة إلا زيادة الجهل والشرّ. وهكذا يُقال لمن نفى حبّه، ورضاه، وبغضه، وسخطه(4).
__________
(1) في ((خ)): فينما. وما أثبت من ((م))، و((ط)).
(2) يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله هذا الجواب الإلزاميّ في موضع آخر فقال: "إذا قال لهم الناس: إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل. قالوا: القول في حدوث الحكمة، كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات. ونحن نُخاطب من يُسلّم لنا أنّه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن؛ فإذا قلنا: إنّه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن يقول: هذا يستلزم التسلسل. بل نقول له: القول في حدوث الحكمة، كالقول في حدوث المفعول الذي ترتّبت عليه الحكمة. فما كان جوابك عن هذا، كان جوابنا عن هذا". مجموعة الرسائل والمسائل 4341.
(3) وهو الأشعري. وجوابه في إثبات الإرادة؛ فيُقال له: القول في الحكمة، كالقول في الإرادة التي تُثبتها.
(4) وهم الأشاعرة الذين نفوا تلك الصفات مع الحكمة. انظر: التمهيد للباقلاني ص 47-48، 50-51.(24/70)
وهذا مقامٌ شريفٌ من تدبّره وتصوّره تبيّن له أنّه لا بُدّ من الإقرار بما جاء به الرسول، وأنّه هو الذي يُوافق صريح المعقول، وأنّ من خالفه، فهو ممّن لا يسمع، ولا [يعقل، وهو](1) أسوأ حالاً ممّن فرّ من الملك العادل الذي يلزمه [بطعام](2) امرأته وأولاده، والزكاة الشرعيّة، إلى بلادٍ ملكها ظالم ألزمه بإخراج أضعاف ذلك لخنازيره وكلابه، مع قلّة الكسب في بلاده. و[بمنزلة](3) من فرّ من معاشرة أقوام أهل صلاح وعدلٍ ألزموه ما يلزم واحداً منهم من الأمور المشتركة إذ كانوا مقيمين، أو مسافرين؛ ان يُخرج مثلما يُخرجه الواحد منهم. فكره هذا، وفرّ إلى بلدٍ، فألزمه أهلها بأن يُنفق عليهم ويخدمهم، وإلا قتلوه وما أمكنه الهرب منهم.
__________
(1) في ((ط)): يعق لو هو.
(2) في ((خ)): بالطعام. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) في ((ط)): بمنزل.(24/71)
فمن فرّ من حكم الله ورسوله أمراً وخبراً، [أو](1) ارتدّ عن الإسلام، أو بعض شرائعه خوفاً من محذور في عقله، أو عمله، أو دينه، أو دنياه، كان ما يُصيبه من الشرّ أضعاف ما ظنّه شرّاً في اتباع الرسول. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىْ الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوْا بِمَاْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَاْ اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاْكَمُوْا إِلَىْ الطَّاْغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوْا أَنْ يَكْفُرُوْا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَاْنُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيْدَاً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودَاً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ باللهِ إِنْ أَرَدْنَا إلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقَاً أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعْرِض عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيْغَاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاْءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيْمَاً فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً}(2).
__________
(1) في ((خ)): و. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(2) سورة النساء، الآيات 59-65.(24/72)
فصل(1)
مناقشة من ينفي المحبة والحكمة والإرادة
ويقال لهم : لِمَ فررتم من إثبات المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل ؟ فإن قالوا : لأنّ ذلك لا يعقل إلا في حق من يلتذّ، ويتألم، وينتفع، ويتضرّر. والله منزّهٌ عن ذلك(2)
__________
(1) مسألة الحكمة وتعليل الأفعال وتداخلها بالقدر من أعظم المسائل التي اضطرب فيها المبتدعة .
وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضوع رسالة مستقلة، أسماها: "أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل". انظرها في جامع الرسائل والمسائل 4-5283-346 .
وذلك على إثر سؤال ورد إليه وهو في الديار المصرية سنة أربع عشرة وسبعمائة في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق، وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أم لغير علة ؟ فأجاب رحمه الله بقوله: "هذه المسألة من أجل المسائل الكبار التي تكلّم فيها الناس، وأعظمها شعباً وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات؛ فإنّ لها تعلقاً بصفات الله تعالى، وبأسمائه، وأفعاله، وأحكامه؛ من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد . وهي داخلة في خلقه وأمره، فكلّ ما في الوجود متعلق بهذه المسألة؛ فإنّ المخلوقات جميعها متعلقة بها، وهي متعلقة بالخالق سبحانه . وكذلك الشرائع كلها؛ الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر، والأمر، ومسائل الصفات والأفعال. وهذه جوامع علوم الناس ...". جامع الرسائل والمسائل 4-5285 .
(2) هذه الشبه يحتجّ بها أكثر الفرق؛ كالجهميّة الذين ينفون بها المحبة، والإرادة، والحكمة، والفعل؛ والأشاعرة ينفون بها المحبة، والحكمة، والتحسين، والتقبيح "ذكر الرازي هذه الشبهة ضمن أدلّة الأشاعرة في نفي الحكمة انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-251. وانظر: نهاية الإقدام للشهرستاني ص 397 . ولأبي الحسن الأشعريّ كلام في إنكار الحكمة، انظره في رسالة إلى أهل الثغر ص 240، 442"؛ والمعتزلة ينفون بها الصفات . وانظر: ص 7، 9، 27 .
وشيخ الإسلام رحمه الله أورد هذه الشبهة ضمن أدلة الأشاعرة، وردّ عليها من وجهين بكلام طويل، انظره في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-60 . وأوردها في موضع آخر من قول الرازي في الأربعين ص 250 يحتجّ بها على نفي الحكمة، وردّ عليها بخمسة أوجه في شرح الأصفهانية 2369-371 .
وقد يتمسّك الفلاسفة بهذه الشبهة في نفي المحبّة، والحكمة، والإرادة، والفعل . ولكنّ واقع الحال لا يُساعدهم على الأخذ بها، إذ عمدتهم في نفي الصفات هو دليل التركيب، وليس دليل الأعراض . وهذه الشبهة متفرعة عن دليل الأعراض كما سيأتي .(25/1)
. قيل للفلاسفة: فأنتم تُثبتون أنّه مستلذّ، مبتهج، فهذا غير محذور عندكم(1)
__________
(1) وهذا من الأجوبة الملزمة؛ لأنّ الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام: "يُعبّرون بلفظ البهجة، واللذة، والعشق، ونحو ذلك عن الفرح، والمحبّة، وما يتبع ذلك". منهاج السنّة النبويّة 3183. وانظر: من كتب الفلاسفة النجاة لابن سينا ص 227-251 .
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: لِمَ لَمْ تُثبتوا المحبة، والحكمة، ... إلخ، وأثبتم البهجة، واللذة، والعشق، مع أنّكم تُعبّرون بها عن المحبة، والفرح ... إلخ .
وانظر: ردود شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة في هذه الجُزئيّة في: منهاج السنة النبوية 5388-400 . والعقيدة التدمرية ص 40-41 . ودرء تعارض العقل والنقل 1100،، 8216-224، 290 والرد على المنطقيين ص 214 . وشرح الأصفهانية ص 236 . وكتاب الصفدية 2263-264، 268-269 .
وقد عاب شيخ الإسلام رحمه الله على الفلاسفة إثباتهم اللذة، والبهجة، ونحو ذلك ممّا أثبتوه ويقتضي نقصاً، وتركهم صفات الكمال التي أتى بها النصّ، فقال: "ويقولون أيضاً إنه يلتذّ ويبتهج . ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل . ويقولون إنّه مدرك، وأنّ اللذّة أفضل إدراك لأفضل مدرَك؛ فيُسمّونه مدرِكاً، ومدرَكاً" . درء تعارض العقل والنقل 582 .(25/2)
. وإن قلتم: لأنّ ذلك(1) يستلزم لذّةَ حادثة . قيل لكم: في حلول الحوادث قولان، وليس معكم في النفي إلا ما يدلّ على نفي الصفات مطلقاً؛ كدليل التركيب(2). وقد عُرف فساده من وجوه(3) .
وقيل للجهميّة(4)
__________
(1) أي إثبات المحبة، والحكمة، والإرادة .
(2) فهؤلاء الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام يأخذون بدليل التركيب في نفي الصفات عموماً، ولا يأخذون بدليل الأعراض في نفي حلول الحوادث . بل هم يقولون: "الجسم مركّب إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المنفردة . وكلّ مركب ممكن . فبهذه الحجة نفوا الصفات، وكانوا من أشدّ الناس تجهماً؛ لأنّهم زعموا أنّ إثبات الصفات يُنافي هذا التوحيد.." . شرح الأصفهانية 151 . وانظر: العقيدة التدمرية ص 40-41 .
وانظر: كلام شيخ الإسلام رحمه الله عن مراد المتكلمين والفلاسفة ب(المركب) في درء تعارض العقل والنقل 3403-404 .
(3) فدليل التركيب من الأدلة الفاسدة الباطلة .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بطلانه: "قالوا: والعالم حامل الصفات مركّب، فلا يكون واجباً . وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا تتمّ إلا بنفي الصفات، ونفي الصفات باطل، كان طريقهم في إثبات الصانع باطلاً . ولهذا كان الصانع الذي يُثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان، لا في الأعيان . فقولهم يستلزم التعطيل" . كتاب الصفدية 1244 .
وانظر: نقد شيخ الإسلام رحمه الله لدليل التركيب، وبيانه لفساده من أوجه عديدة في: شرح الأصفهانية ص 50-89 . ودرء تعارض العقل والنقل 5246-247 . وكتاب الصفدية 187، 104-106 . وشرح حديث النزول ص 83-88 .
(4) وانظر: قول الجهمية، وشبهتهم في نفي الحكمة، وردّ شيخ الإسلام رحمه الله عليهم في جامع الرسائل والمسائل 4286-287 .
وقال شيخ الإسلام أيضاً: "ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة . وهذا قول الأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم ....... وهذا القول في الأصل قول جهم بن صفوان، ومن اتبعه من الجهمية" . مجموع الفتاوى 837-38 .(25/3)
والمعتزلة: إن أردتم أنّ ذلك يقتضي حاجته إلى العباد، وأنّهم يضرّونه أو ينفعونه(1)، فهذا ليس بلازم . ولهذا كان الله منزّهاً عن ذلك، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الإلهيّ: "يا عبادي! إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"(2).
__________
(1) ذكر هذه الحجة في نفي الحكمة عن الله: الشهرستاني في نهاية الإقدام ص 397-398 . والرازي في الأربعين ص 249-250 . والإيجي في المواقف في علم الكلام ص 331-332 .
وقد ردّ على هذه الشبهة شيخ الإسلام رحمه الله بعشرة أوجه في شرح الأصفهانية 2358-363 .
وقال رحمه الله في معرض ردّه على المعتزلة في قولهم في الحكمة: "أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأنّ الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يُحمد لأجله؛ إما لتكميل نفسه بذلك؛ وإما لقصده الحمد والثواب بذلك؛ وإما لرقة وألم يجده في نفسه، يدفع بذلك الإحسان لألم؛ وإما لالتذاذه، وسروره، وفرحه بالإحسان؛ فإنّ النفس الكريمة تفرح، وتسرّ، وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها؛ فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله . أما إذا قُدِّر أنّ وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أنّ مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يُعدّ عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة، ولا مصلحة، ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة، ولا آجلة، كان عبثاً، ولم يكن محموداً على هذا . وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث، فوقعتم في العبث؛ فإنّ العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة، ولا منفعة، ولا فائدة تعود على الفاعل" . جامع الرسائل والمسائل 4291 .
(2) جزء من حديث قدسيّ طويل، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 41994-1995، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم .(25/4)
فالله أجلّ من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه، أو يخاف منهم أن يضرّوه . وإذا كان المخلوق العزيز لا يتمكّن غيره من قهره، فمن له العزّة جميعاً، وكلّ عزة فمن عزّته أبعد عن ذلك . وكذلك الحكيم المخلوق إذا كان لا يفعل بنفسه ما يضرّها، فالخالق جلّ جلاله أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكناً . فكيف إذا كان ممتنعاً .
قال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئَاً [يُرِيْدُ اللهُ أَنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظَّاً فِي الآخِرَةِ](1) وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2). وقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىْ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاْتِ مَا رَزَقْنَاْكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ [كَانُوا](3) أَنْفُسَهُم يَظْلِمُون}(4).
فقد بيَّن أنّ العصاة لا يضرّونه، ولا يظلمونه، كعصاة المخلوقين؛ فإنّ مماليك السيّد، وجند الملك، وأعوان الرجل، وشركاءه إذا عصوه فيما يأمرهم ويطلبه منهم، فقد يحصل له بذلك ضرر في نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو غير ذلك . وقد يكون ذلك ظلماً له .
والله تعالى لا يقدر أحدٌ على أن يضرّه ولا يظلمه. وإن كان الكافر على ربه ظهيراً، فمظاهرته على ربه، ومعاداته له، ومشاقّته، ومحاربته، عادت عليه بضرره، وظلمه لنفسه، وعقوبته في الدنيا والآخرة .
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) .
(2) سورة آل عمران، الآية 176 .
(3) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من ((خ)) .
(4) سورة الأعراف، الآية رقم 60 .(25/5)
وأما النفع فهو سبحانه غنيٌ عن الخلق، لا يستطيعون نفعه [فينفعوه](1)؛ فما أمرهم به إذا لم يفعلوه، لم يضرّوه(2) بذلك؛ كما قال تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبِيلاً وَمَنْ كفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ}(3)، وقال: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّيْ غَنِيٌ كَرِيْمٌ}(4)، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم وَلا تَزِرُ وَاْزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(5) .
__________
(1) في ((خ)) : فيتفعونه . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(2) يقول شيخ الإسلام رحمه الله في معرض ردّه على منكري الحكمة، مبيِّناً أنّ قيام الصفات بالله لا يلزم منه افتقاره جلّ وعلا إليها، بل هو الغني عن العالمين: "فإنّ الله غني واجب بنفسه. وقد عُرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه، ولا إمكانه، ولا حاجته، وأنّ قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله: مفتقر إلى ذاته. ومعلومٌ أنّه غنيّ بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه. فتوهّم حاجة نفسه إلى نفسه؛ إن عنى به أنّ ذاته لا تقوم إلا بذاته. فهذا حقّ؛ فإنّ الله غني عن العالمين، وعن خلقه، وهو غني بنفسه . وأما إطلاق القول بأنّه غني عن نفسه، فهو باطل؛ فإنّه محتاج إلى نفسه . وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد . ولا خالق إلا الله تعالى" . قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58 .
(3) سورة آل عمران، الآية 97 .
(4) سورة النمل، الآية 40 .
(5) سورة الزمر، الآية 7 .(25/6)
وإن أردتم أنّه [هو](1) سبحانه لا يُريد، و[لا](2) يفعل ما يفرح به، ويُسَرُّ به، ويجعل عباده المؤمنين يفعلون ما يفرح به، فمن أين لكم هذا(3)
__________
(1) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)) .
(2) ما بين المعقوفتين ليس في ((خ)) .
(3) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا لم يأمر الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة . وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة، ولا سرور، ولا منفعة، ولا فرح بوجه من الوجوه؛ لا في العاجل، ولا في الآجل، لا يُستحسن من الآمر" . جامع الرسائل والمسائل 4291 .
وانظر: النصوص الكثيرة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لإثبات محبة الله، وفرحه، وأفعاله جل وعلا في منهاج السنة النبوية 3160-162 . وقاعدة في الكرامات والمعجزات ص 58-59 .(25/7)
؟ وإن سمى هذا لذة، فالألفاظ المجملة التي قد يُفهم منها معنى فاسد إذا لم ترد في كلام الشارع لم [نكن](1) محتاجين إلى إطلاقها؛ كلفظ (العشق). وإن أُريد به المحبة التامّة، وقد أطلق بعضهم(2) على الله أنّه يعشق، ويُعشق، وأراد به أنه يُحِبّ، ويُحَبّ محبة تامة، فالمعنى صحيح، واللفظ فيه نزاع. واللذة يُفهم منها لذة الأكل، والشرب، والجماع؛ كما يُفهم من العشق المحبة الفاسدة، والتصور الفاسد، ونحو ذلك ممّا يجب تنزيه الله عنه؛ فإنّ الذين قالوا لا يجوز وصفه بأنّه يعشق؛ منهم من قال: لأنّ العشق هو الإفراط في المحبة، والله تعالى لا إفراط في حبّه. ومنهم من قال: لأنّ العشق لا يكون إلا مع فساد التصوّر للمعشوق، وإلا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحبّ . وهذا المعنى لا يُمدح فاعله؛ فإنّ من تصوّر في الله ما هو منزّه عنه، فهو مذموم على تصوّره، ولوازم تصوّره. ومنهم من قال: لأنّ الشرع لم يرد بهذا اللفظ، وفيه إبهام، وإيهام، فلا يُطلق. وهذا أقرب. وآخرون يُنكرون محبة الله، وأن يُحِب ويُحَب؛ كالمعتزلة، والجهميّة، ومن وافقهم من الأشعرية(3)
__________
(1) في ((خ)): يكن . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "ويقولون إنه عاشق، ومعشوق، وعشق. مع أنّ لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل. وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل، ولا عاشق، ولا معقول، ولا معشوق" . درء تعارض العقل والنقل 582. وانظر: المصدر نفسه 5247،، 9304-310، 10224 والصفدية 136 . ومنهاج السنة النبوية 3183 .
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إنكار هؤلاء لمحبة الله تعالى: "وكان الجعد ... أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى، وبإنكار محبته، وتكليمه؛ كما يقول هؤلاء المتفلسفة، والجهمية، والباطنية، ونحوهم من المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم؛ فيُنكرون أن يكون الله يُحِب، أو يُحَب حقيقةً، ويُنكرون التمتع برؤيته، ويُنكرون أن يكون هو سبحانه موصوفاً بالفرح، ونحوه؛ لزعمهم أنّ هذا من نوع اللذة، والبهجة . والله لا يُوصف بذلك عندهم ...". كتاب الصفدية 2263.(25/8)
، وغيرهم، فهؤلاء يكون الكلام معهم في كونه يُحِبّ، ويُحَبّ؛ كما نطق به الكتاب والسنّة في مثل [قوله](1): {فَسَوْفَ يَأْتِيْ اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّوْنَهُ}(2)، لا في لفظ العشق.
لفظ اللذة فيه إبهام وإيهام
كذلك لفظ اللذة فيه إبهام، وإيهام، والشرع لم يرد بإطلاقه، ولكن استفاض عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الله يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح من وجد راحلته بعد أن فقدها، وأيس منها في مفازةٍ مهلكة، [يائس](3) من الحياة والنجاة من تلك الأرض، ومن وجود مركبه، ومطعمه، ومشربه، ثمّ وجد ذلك بعد اليأس؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فكيف تجدون فرحه بدابّته"؟. قالوا: عظيماً يا رسول الله . قال: "[لله](4) أشدّ فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته"(5).
__________
(1) في ((خ)): قولهم .
(2) سورة المائدة، الآية 54 .
(3) في ((م))، و ((ط)): ويئس من .
(4) في ((ط)): الله .
(5) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 52324-2325، كتاب الدعوات، باب التوبة. والإمام مسلم في صحيحه 42102-2104، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة، والفرح بها .(25/9)
وقد نطق الكتاب والسنّة بأنّه يُحِبّ المتقين(1)، والمحسنين(2)، والصابرين(3)، والتوابين والمتطهرين(4)، والذين يُقاتلون في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوصٌ(5)، وأنّه يرضى عن المؤمنين(6). فإذا كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأنّ ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب. قيل لكم(7): إن كان هذا لازماً، فلازم الحق حقّ. وإن لم يكن لازماً بطل نفيكم(8). والفرح في الإنسان هو لذّة تحصل في قلبه بحصول محبوبه .
__________
(1) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . سورة التوبة، الآية 4 .
(2) قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . سورة البقرة، الآية 195 .
(3) قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} .سورة آل عمران، الآية 146 .
(4) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . سورة البقرة، الآية 222 .
(5) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .سورة الصف، الآية 4 .
(6) قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سورة الفتح، الآية 18.
(7) المقصود بهم الفلاسفة، وغيرهم من الجهمية، والمعتزلة، والأشعريّة ممّن ينفي صفة المحبّة والرضى .
وانظر: جواب شيخ الإسلام رحمه الله المطوّل على هذه الشبهة في قاعدة في المعجزات والكرامات ص 58؛ فقد أجابهم بجوابين؛ أحدهما بالإلزام. وانظر: كتاب الصفدية 2260-264 .
(8) انظر: لشيخ الإسلام كلاماً مماثلاً لهذا في منهاج السنة النبوية 3182-183 . وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 55-56، 58-59 .(25/10)
وقد جاء أيضاً وصفه تعالى بأنّه يُسَرّ في الأثر، والكتب المتقدّمة(1)؛ وهو مثل لفظ الفرح(2) .
صفة الضحك والبشبشة
__________
(1) قال ابن القيم رحمه الله: "وفي صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة: "عبدي الذي سُرّت به نفسي"، وهذا من كمال محبته له؛ جعله مما تُسرّ به نفسه سبحانه" . مدارج السالكين 1216 . وانظر: كلامه رحمه الله في السرور، وهل يوصف الله تعالى به، أم لا ؟ في مدارج السالكين 3161 .
وسيأتي نقل ذلك مفصّلاً مما يُسمّى بالعهد القديم، في آخر هذا الكتاب، عند ذكر صفته صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة . انظر: ص 1284 من هذا الكتاب؛ حيث يرد في النصّ ما يُثبت سرور الربّ تبارك وتعالى بنبيّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وقد نقل الشيخ رحمه الله هذا النص في الجواب الصحيح 5175 في نبوة أشعيا: "عبدي الذي سُرّت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا".
(2) الفرح في اللغة: السرور . انظر: مشكل الحديث لابن فورك ص 67 . والأسماء والصفات للبيهقي 2421 . وفتح الباري لابن حجر 1118 .(25/11)
وأمّا الضحك: فكثيرٌ في الأحاديث(1). ولفظ البشبشة جاء أيضاً أنّه يتبشبش للداخل إلى المسجد؛ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم(2)
__________
(1) مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنّة" . الحديث رواه البخاري في صحيحه 31040، كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم، ثمّ يُسلم. ومسلم في صحيحه 31504، كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة .
(2) الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" . الحديث أخرجه ابن ماجه واللفظ له (صحيح سنن ابن ماجه، حديث رقم 652) . وأحمد في المسند 2307، 328، 340، 453 . وابن خزيمة في صحيحه 2379، وصحح إسناده أحمد شاكر 8501 . ورواه الدارمي في رده على بشر المريسي ص 203. وصححه الألباني انظر: صحيح ابن ماجه 652. وصحيح الترغيب والترهيب325 .
والحديث فيه إثبات البشبشة، وهي بمعنى الفرح .
قال ابن الأثير: "البش: فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة، والإقبال عليه. وقد بششت به أبش". فمعنى البشّ: الفرح . ويُضرب إذا تلقّى الصديق صديقه بالبرّ، وقرّبه، وأكرمه . انظر: النهاية في غريب الحديث 1130 .
وقال أبو يعلى الفراء بعد الكلام على صفة الفرح لله تعالى: " .... وكذلك القول في البشبشة؛ لأنّ معناه يُقارب معنى الفرح . والعرب تقول: رأيتُ لفلان بشاشة، وهشاشة، وفرحاً . ويقولون: فلانٌ هشٌ بشٌ فرحٌ؛ إذا كان منطلقاً؛ فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح .
وقد ذكر ابن قتيبة هذا الحديث في كتاب الغريب، وقال قوله: (يُبشبش) من البشاشة، وهو يتفعَّل؛ فحمل الخبر على ظاهره، ولم يتأوّله". انتهى كلام أبي يعلى في إبطال التأويلات لأخبار الصفات 1243 . وانظر: غريب الحديث لابن قتيبة 1160 . ومشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص 68، 256. والأسماء والصفات للبيهقي 2421-422 .(25/12)
.
وجاء في الكتاب والسنة ما يُلائم ذلك ويُناسبه شيءٌ كثير(1) .
فيُقال لمن نفى ذلك: لم نفيتَه؟ ولم نفيتَ هذا المعنى؛ وهو وصف كمال لا نقص فيه؟ ومن يتصف به أكمل ممّن لا يتصف به؟ وإنّما النقص فيه أن يحتاج فيه إلى غيره، والله تعالى لا يحتاج إلى أحد في شيء، بل هو فعّال لما يُريد . لكن القدرية قد يُشكل هذا على قولهم؛ فإنّ العباد عندهم مستقلّون بإحداث فعلهم، ولكن هذا مثل إجابة دعائهم، وإثابتهم على أفعالهم، ونحو ذلك ممّا فيه أنّ أفعالهم تقتضي أموراً يفعلها هو . وهم لا [يفرّون](2) من كونه [يجب](3) عليه أشياء، وأنّه يفعل ما يجب عليه؛ فيكون العبد قد جعله مريداً لما لم يكن مريداً له . وحينئذٍ فإذا كان العباد يجعلونه مريداً عندهم، فالقول في لوازم الإرادة، كالقول فيها . وهذا إمّا أن يدلّ على [فساد](4) قولهم في القدر، وهو الصواب . وإمّا أن يقولوا: إنّ مثل ذلك جائزٌ على الله، وجائزٌ أن يجعله العبد مريداً بدون مشيئته لذلك، وبدون أن يكون هو الذي شاء ذلك من العبد، فيلزمهم في لوازمها ما يلزمهم فيها.
وأمّا على قول المثبتة(5): فكلّ ما يحدث، فهو بمشيئته، وقدرته، فما جعله أحدٌ مريداً فاعلاً، بل هو الذي يُحدِث كلَّ شيء، ويجعل بعضَ الأشياء سبباً لبعض .
فإن قال نافي المحبة، والفرح، والحكمة، ونحو ذلك(6): هذا يستلزم حاجته إلى المخلوق . ظهر فساد قوله .
__________
(1) يُريد رحمه الله الأدلة السمعية التي دلّت على إثبات صفات الله الفعليّة .
وقد جمع رحمه الله أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على مسألة أفعال الله تعالى في درء تعارض العقل والنقل 3115-146 .
(2) في ((خ)): يقرون . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(3) في ((ط)): يحب .
(4) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين .
(5) المثبتة للقدر .
(6) أي الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، والأشعرية، وغيرهم من نفاة هذه الصفات .(25/13)
وإن قيل: إنّ ذلك إن كان وصف كمال، فقد كان فاقداً له، وإن كان نقصاً، فهو منزّه عن النقص . قيل له: هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه، وحدوثه [قبل](1) ذلك قد يكون نقصاً في الحكمة، أو يكون ممتنعاً غير ممكن؛ كما يُقال في نظائر ذلك(2) .
__________
(1) في ((خ)): قبل .
(2) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجّة، وأنّها قول من يقول: "خلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات، لا لعلّة، ولا لداع، ولا باعث . وهو قول الأشعرية، والظاهرية" . وقد ردّ عليها رحمه الله . انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4286 .
وقال رحمه الله أيضاً في حصر الأقوال في التعليل وعدمه فذكر قول أهل السنة والجماعة : "والخامس قول من يُعلّل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته . فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قُدّر أنّه قام به كلام أو فعل متعلّق بمشيئته وأنّه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك؛ فيكون النوع قديماً، وإن كانت آحاده حادثة" . مجموعة الرسائل والمسائل 4342 . وانظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 57-58 .
وقد ذكر هذه الحجة الرازي في الأربعين ص 249-250 . وردّ عليها شيخ الإسلام رحمه الله من عشرة أوجه . انظر: شرح الأصفهانية 2357-363 .
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحجة أيضاً عن الفلاسفة، وغيرهم من نفاة الأفعال الاختيارية وردّ عليهم رحمه الله من خمسة أوجه . انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4219-220 .
وكذلك هذه الحجة هي شبهة لمنكري تعليل أفعال الله تعالى. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله من خمسة أوجه. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4337-339 ومنهاج السنة النبوية 1145) .
وانظر: هذه الشبهة في: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332 . وشرح المقاصد للتفتازاني 4301 .(25/14)
وتمام البسط في هذا الأصل مذكور في غير هذا الموضع(1) .
والمقصود هنا التنبيه على لوازم ذلك؛ فإنّ نفاة ذلك(2) نفوا أن يكون في الممكن فعل ينزّه عنه، فليس عندهم فعل يحسن منه، وفعل يُنزّه عنه.
الحسن والقبح عند الأشاعرة
بل [عندهم](3) تقسيم الأفعال؛ أفعال الربّ والعبد إلى حسن وقبيح، لا يكون عندهم إلا بالشرع. وذلك لا يرجع إلى صفة في الفعل، بل الشارع عندهم يُرجّح مثلاً على مثل(4). والحسن والقبيح إنّما يعقل إذا كان الحسن ملائماً للفاعل؛ وهو الذي يلتذ به، والقبيح يُنافيه؛ وهو الذي يُتألّم به . والحسن، والقبح في أفعال العباد بهذا الاعتبار متفق على جوازه. وإنّما النزاع في كونه يتعلّق به المدح والثواب . وهذا في الحقيقة يرجع إلى الألم واللذة .
__________
(1) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل 4283-346 رسالة أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة .. ؛ فإنّها في صميم الموضوع، وهي عبارة عن سؤال ورد للمؤلف رحمه الله من الديار المصرية، مضمونه: هل يفعل الله تعالى لحكمة أم لا ؟ وهل هذه الحكمة لم تزل، أو محدثة ؟ ثمّ أورد السائل على تفرعات السؤال إشكالات . فأجاب عنها شيخ الإسلام رحمه الله بهذه الرسالة القيمة . وانظر: أيضاً منهاج السنة النبوية 1133-147 .
(2) المقصود بهم الأشاعرة الذين ينفون التحسين والتقبيح العقليّين .
(3) في ((م))، و ((ط)): عنده .
(4) يقول الجرجاني في شرح المواقف: "فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع . ولو عكس الشارع القضيّةَ فحسّن ما قبّحه، وقبّح ما حسّنه، لم يكن ممتنعاً، وانقلب الأمر، فصار القبيح حسناً، والحسن قبيحاً". شرح المواقف للجرجاني 8181-182. وانظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 243. واللمع له ص71. والإنصاف للباقلاني ص 48، 74-77. والإرشاد للجويني ص 258 . والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 157. والمحصل للرازي ص 202 . والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323-330. وشرح المقاصد للتفتازاني 4282-289.(25/15)
فلهذا سلّم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب(1) [أقسام اللذّات](2) إنّ الحسن والقبح العقليّين [ثابتان](3) في أفعال العباد دون الرب(4)
__________
(1) كتاب أقسام اللذات؛ كما صرّح به شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه . انظر على سبيل المثال: جامع الرسائل 2250-251. وبيان تلبيس الجهمية 1127، وكذلك هذا الكتاب النبوات، كما سبق ص 478؛ حيث صرح بذكر هذا الاسم.
وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم رحمه الله ص 304-305؛ إذ أورد نماذج من هذا الكتاب، تبيَّن من خلالها تسليم الرازي، وحيرته في آخر عمره .
وشيخ الإسلام نقل هذا أيضاً . يقول رحمه الله: "ومن الناس من أثبت قسماً ثالثاً للحسن والقبح، وادّعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال، أو صفة نقص. وهذا القسم لم يذكره عامّة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين؛ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة . والتحقيق: أنّ هذا القسم لا يُخالف الأول؛ فإنّ الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال، هو يعود إلى الموافقة والمخالفة؛ فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألّم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي" . مجموعة الرسائل الكبرى 2104 .
(2) بياض بمقدار ثلاث كلمات في جميع النسخ . ولعلّ ما أثبتّ هو المقصود؛ لأنّه ألّفه في آخر حياته .
(3) في ((خ)) رسمت هكذا: ياتيان .
(4) قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف الحسن والقبح، وعلاقتهما بالحكمة والقدر، وكيف وقع الاشتباه والاختلاف في ذلك: "إنّ الحسن هو: الحق، والصدق، والنافع، والمصلحة، والحكمة، والصواب . وإنّ الشيء القبيح هو: الباطل، والكذب، والضارّ، والمفسدة، والسفه، والخطأ" .
ثم ذكر رحمه الله قول القدرية، والجبرية في أفعال العباد، وارتباط ذلك بالحسن، والقبح؛ فقال: "والمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أنّ الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وأنّ الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعويض بنفع لاحق . وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضارّ والمنافع، والخير والشرّ بالنسبة إليه . ويقول هؤلاء: إنّه لا يُتصوّر أن يفعل ظلماً، ولا سفهاً أصلاً . بل لو فرض أنّه فعل أي شيء، كان فعله حكمة وعدلاً وحسناً، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه، وهو لم ينه أحداً . ويُسوّون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين . والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد، ولا يتضرّر بمعصيتهم . لكنِ الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته، وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة . والآخرون يقولون: ما حسن منّا حسن منه، وما قبح منا قبح منه ....." . وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النفس في توضيح موقف المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح . انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص 53 .
وأما التحسين والتقبيح عند أهل السنة والجماعة، فقد فصّل فيه شيخ الإسلام القول. وممّا قاله: "..وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع، ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة، أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك؛ كما يُعلم أنّ العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم. فهذا النوع هو حسن وقبيح . وقد يُعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنّه أثبت للفعل صفة لم تكن. لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك . وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنّهم قالوا: إنّ العباد يُعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً . وهذا خلاف النصّ؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ....
النوع الثاني: إنّ الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع .
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به؛ كما أُمر إبراهيم بذبح ابنه، فلمّا أسلما وتلّه للجبين حصل المقصود، ففداه بالذبح . وكذلك حديث أبرص، وأقرع، وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة ؟ فلمّا أجاب الأعمى، قال المَلَك: أمسك عليك مالك، فإنّما ابتُليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك . فالحكمة منشؤها من نفس الأمر، لا من نفس المأمور به . وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أنّ الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع . والأشعريّة ادّعوا أنّ جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأنّ الأفعال ليست لها صفة، لا قبل الشرع، ولا بالشرع . وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة . وهو الصواب" . مجموع الفتاوى 8434-436 . وانظر: المصدر نفسه 16498 . ومجموعة الرسائل والمسائل 4292 . ومنهاج السنة النبوية 1316، 2294-302، 3177. ودرء تعارض العقل والنقل 822، 492، 949-62. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص 53-54 . والرد على المنطقيين ص 420-437 . ومجموعة الرسائل الكبرى 2103-105 . وشرح الأصفهانية 2342، 393، 617 .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن موقف الناس من التحسين والتقبيح: "وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها؛ كحسن العدل والتوحيد والصدق، وقبح الظلم والشرك والكذب: هل يُعلم بالعقل، أم لا يُعلم إلا بالسمع . وإذا قيل: إنّه يُعلم بالعقل، فهل يُعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم؛ وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم ...". الجواب الصحيح 2307-308 .(25/16)
، إذا كان معناهما يؤول إلى اللذة والألم .
الحسن والقبح عند المعتزلة
والمعتزلة أثبتوا حسناً وقبحاً عقليّين في فعل القادر مطلقاً، سواء كان قديماً، أو محدَثاً. وقال(1): الحُسْن: ما للقادر فعله. و[القبيح ما](2) ليس له فعله. وقالوا: إنّ ذلك ثابتٌ بدون كونه مستلزماً للّذة والألم. كما ادّعوا ثبوت حكمته للفاعل القادر، ولا تعود إليه، ولا يستلزم اللذة؛ فادّعوا ما هو خلاف الموجود والمعقول(3). ولهذا تسلّط عليهم النفاة(4)
__________
(1) لعلها: قالوا .
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)) .
(3) وانظر: تعريف عبد الجبار الهمذاني وهو من رؤوس المعتزلة للقبيح والحسن في كتابه: المغني في أبواب التوحيد والعدل ج 6، القسم الأول ص 26-30، 59-60 . والأصول الخمسة له ص 326-332، 564-566 . والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري المعتزلي 1363 .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في ذكر موقف كل من المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح والحكمة: "وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر. والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثّلوا الله فيها بخلقه، ولم يُثبتوا حكمة تعود إليه، فسلبوه قدرته، وحكمته، ومحبته، وغير ذلك من صفات كماله . فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر . كما تنازعوا في مسألة التحسين والتقبيح؛ فأولئك أثبتوا على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه، وأثبتوا حسناً وقبحاً لا يتضمّن محبوباً ولا مكروهاً، وهذا لا حقيقة له . كما أثبتوا تعليلاً لا يعود إلى الفاعل حكمه . وخصومهم سووا بين جميع الأفعال، ولم يُثبتوا لله محبوباً، ولا مكروهاً، وزعموا أنّ الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل، لم يختلف حاله. وغلطوا؛ فإنّ الصفة الذاتية للموصوف قد يُراد بها اللازمة له". منهاج السنة النبوية 3177 .
(4) الأشاعرة نفاة الحسن والقبح . انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي ص 249-250 .
ويُقال لهم: "حكمة الرب فوق تحصيل اللذة ودفع الألم، بل هو يتعالى عن ذلك؛ لأنّ ما ذكر غرض المخلوق . أمّا الخالق سبحانه فهو غنيٌ بذاته عن كلّ ما سواه؛ حكمته سبحانه لا تُشابه حكمة المخلوقين؛ كما أنّ إرادته، وسائر صفاته لا تُشابه صفات المخلوقين" . الحكمة والتعليل في أفعال الله ص 72 .(25/17)
، فكان حجّتهم عليهم أن يُثبتوا أنّ هذا أمر لا يُعقل إلا مع اللذة والألم. ثمّ يقولون: وذلك في حقّ الله مُحال. فحجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: أنّ الحسن والقبح والحكمة مستلزم للذة والألم، وذلك في حق الله مُحال .
والمعتزلة منعوا المقدمة الأولى، فغلبوا معهم. والمقدمة الثانية جعلوها محلّ وفاق(1)، وهي مناسبة لأصول المعتزلة؛ لكونهم ينفون الصفات؛ فنفي الفعل القائم به أولى على أصلهم، ونفي مقتضى ذلك أولى على أصلهم . وهذه المقدمة التي اشتركوا فيها [تقتضي](2) نفي كونه مريداً، ونفي كونه فاعلاً، ونفي حدوث شيء من الحوادث؛ كما أنّ نفي الصفات يقتضي نفي [شيء](3) قائمٍ بنفسه موصوفٍ بالصفات .
فنفي اتصافه بالصفات يستلزم أن لا يكون في الوجود شيء يتصف بصفة، ونفي فعله، وإحداثه يقتضي أن لا يكون في الوجود شيء حادِث؛ فكان ما نفوه مستلزماً نهاية السفسطة(4)
__________
(1) المعتزلة جعلوها محلّ وفاق مع الأشاعرة؛ لأنّها موافقة لأصولهم .
(2) في ((خ)): يقتضي .
(3) ما بين المعقوفتين ليس في ((م))، و ((ط)) .
(4) المقصود بالسفسطة: الحكمة المموّهة . ويُراد بها التمويه، والخداع، والمغالطة في الكلام، وجحد الحقائق . وهي كلمة معربة من اليونانية، مركبة من سوفيا؛ وهي الحكمة، ومن اسطس؛ وهو المموّه؛ فمعناه: حكمة مموّهة .
يقول الجرجاني في التعريفات ص 158: "السفسطة: قياس مركب من الوهميات . والغرض منه تغليط الخصم، وإسكاته؛ كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرضٌ؛ لينتج أنّ الجوهر عرض" .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ هذه الكلمة هي كلمة معربة، وأصلها باليونانية (سوفسقيا)؛ أي حكمة مموهة؛ فإنّ (سوفيا) باليونانية هي الحكمة، ولهذا يقولون: (فيلسوف)؛ أي محبّ الحكمة ... وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله، وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها، ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل، فسمّوها (سوفسقيا)؛ أي حكمة مموهة" . بيان تلبيس الجهمية 1322-324. وانظر: التسعينيّة ص 36-37. وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 45. وانظر: تقسيم شيخ الإسلام للسفسطة إلى ثلاثة أقسام في منهاج السنة 1419. وفي كتاب الصفدية 197 قسمها إلى أربعة أقسام .(25/18)
، وجحد الحقائق . ولهذا كان من وافق هؤلاء على نفي محبة الله لما أمر به من الصوفية، يلزمهم تعطيل الأمر والنهي، وأن لا [ينفى](1) إلا القدر [العامّ](2) .
وقد التزم ذلك طائفة من محققيهم(3)، وكان نفي الصفات يستلزم نفي [الذات](4)، وأن لا يكون [موجودان](5)، أحدهما واجب قديم خالق، والآخر ممكن، أو محدَث، أو مخلوق . وهكذا التزمه طائفة من محققيهم؛ وهم القائلون بوحدة الوجود، و[هؤلاء](6) يقولون [بكون](7) العبد أولاً يشهد الرفق بين الطاعة والمعصية، ثمّ يشهد طاعة بلا معصية، ثمّ لا طاعة ولا معصية، بل الوجود واحد(8)، فالذين أثبتوا الحسن والقبح في الأفعال، وأنّ لها صفات تقتضي ذلك، قالوا بما قاله جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم .
__________
(1) في ((خ)): يبقى . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(2) في ((ط)) : العلم .
(3) انظر: كتاب الصفدية 1243-245، 264-265 .
(4) في ((م))، و ((ط)): الصفات .
(5) في ((خ)): موجودا ان .
(6) في ((م))، و ((ط)): هم .
(7) في ((خ)): يكون . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(8) وقد سوّى غلاة الصوفية بين الإيمان والكفر، والخير والشرّ بكونه منه سبحانه وتعالى . انظر: جامع الرسائل والمسائل 4300-301. وجامع الرسائل 1125. ومجموع الفتاوى 8331، 339، 343-350 .
وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شيء، حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكلّ ما نهى عنه . ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شرّ، ولا حسن ولا قبح إلا بهذا الاعتبار . فما في الوجود ضر ولا نفع . والنفع والضرّ أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضرّ هذا؛ كما يُقال مصائب قوم عند قوم فوائد". مجموع الفتاوى 8343 .
وانظر: بيان تلبيس الجهمية 1162 .(25/19)
قال أبو الخطاب(1): "هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين(2)، لكن تناقضوا، فلم يُثبتوا لازم ذلك، فتسلّط عليهم النفاة. والنفاة لمّا نفوا الحسن والقبح في نفس الأمر(3)، قالوا(4): لا فرق في ما يخلقه الله، [وبما يأمر](5) به بين فعل وفعل، وليس في نفس الأمر حسن، ولا قبيح، ولا صفات توجب ذلك . واستثنوا ما يوجب اللذة والألم، لكن اعتقدوا ما اعتقدته المعتزلة أنّ هذا لا يجوز إثباته في حق الربّ. وأما في حق العبد: فظنّوا أنّ الأفعال لا [تقتضي](6) إلا لذة وألماً في الدنيا . وأمّا كونها مشتملة على صفات تقتضي لذة وألماً في الآخرة، [فذاك](7) عندهم باطلٌ، ولم يمكنهم أن يقولوا إنّ الشارع يأمر بما فيه لذة مطلقاً، و[ينهى](8) عمّا فيه ألم مطلقاً .
__________
(1) أبو الخطاب هو محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني البغدادي، أحد أعيان المذهب الحنبلي. ولد سنة 432ه. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع الكثير، ودرّس، وأفتى، وناظر، وصنّف في الأصول والفروع . توفي في بغداد سنة 510 ه . قال السلفي: "هو ثقة رضيّ من أئمة أصحاب أحمد" .
انظر: البداية والنهاية 12180 . والذيل على طبقات الحنابلة 1116-127 . والأعلام للزركلي 5291 . وسير أعلام النبلاء 19349 .
(2) انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 4294 .
وقد نقل شيخ الإسلام رحمه الله هذا النص عن أبي الخطاب في كتابه الجواب الصحيح 2309 .
(3) وهم الأشاعرة، نفاة الحسن والقبح العقليّين، والحكمة والمحبة .
ولأبي الخطاب كتاب مطبوع اسمه التمهيد في أصول الفقه، يقع في أربع مجلدات، من مطبوعات المجلس العلمي في جامعة أم القرى .
(4) المقصود بهم الأشاعرة . وهذه حجتهم . وانظر: ص 547-552 . وانظر: شرح الأصفهانية 2616-620 .
(5) في ((م))، و ((ط)): وما يأمره .
(6) في ((خ)): يقتضي .
(7) في ((م))، و ((ط)): فذلك .
(8) في ((خ)): نهي .(25/20)
وكون الفعل يقتضي ما يوجب اللذة، هو عندهم من باب التولّد(1)
__________
(1) المقصود به هنا: التوليد؛ وهو " أن يحصل الفعل عن فاعله بتوسّط فعلٍ آخر؛ كحركة المفتاح في حركة اليد" . التعريفات للجرجاني ص 98 .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن مسألة التوليد، وموقف كل من المعتزلة والأشاعرة منها:
"فإنّ أفعال الإنسان، وغيره من الحيوان على نوعين: أحدهما المباشر، والثاني المتولّد. فالمباشر ما كان في محلّ القدرة؛ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب . وأما المتولّد فهو ما خرج عن محلّ القدرة؛ كخروج السهم من القوس، وقطع السكين للعنق، والألم الحاصل من الضرب، ونحو ذلك . فهؤلاء المعتزلة يقولون: هذه المتولّدات فعل العبد؛ كالأفعال المباشرة . وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون: بل هذه الحوادث فعل الله تعالى، ليس للعبد فيها فعل أصلاً" . كتاب الصفدية 1150 .
وقال رحمه الله في موضع آخر عن أقوال الناس في التولّد:
"فأما الأمور المنفصلة عنه التي يُقال إنها متولّدة عن فعله . فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى؛ كما يقول ذلك كثيرٌ من متكلمي المثبتين للقدر . ومنهم من يقول: بل هو مفعول له على طريق التولد؛ كما يقوله من يقوله من المعتزلة . ويُحكى عن بعضهم أنه قال: لا فاعل لها بحال . وحقيقة الأمر: أنّ تلك قد اشترك فيها الإنسان، والسبب المنفصل عنه؛ فإنّه إذا ضَرَبَ بحجر فقد فعل الحَذْف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسببٍ آخر من الحجر والهواء . وكذلك الشبع، والرّيّ حصل بسبب أكله وشربه الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك. والله خالق هذا كلّه" . درء تعارض العقل والنقل 9340-341 .
وانظر: عن التولّد عند المعتزلة والأشعرية: الأصول الخمسة لعبدالجبار ص 387-390، 424 . والتمهيد للباقلاني ص 63-64، 334-341 . والإرشاد للجويني ص 230 . وأصول الدين للبغدادي ص 137 . والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 359 . والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 316-319 . وشرح المقاصد للتفتازاني 4271 .(25/21)
.
معنى الكسب عند االأشاعرة
وهم لا يقولون به، بل قدرة العبد عندهم لا [تتعلّق](1) إلا بفعل في محلّها، مع أنّها عند شيخهم(2) غير مؤثرة في المقدور، ولا يقول أنّ العبد فاعلٌ في الحقيقة، بل كاسب(3)
__________
(1) في ((خ)): يتعلق . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(2) المقصود به أبو الحسن الأشعري. قال في مقالات الإسلاميين 2221: (والحق عندي أنّ معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسباً لمن وقع بقدرته) .
وقال الشهرستاني في الملل والنحل 191: (قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يُشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع) .
وقال الشهرستاني عن الكسب، وتأثير القدرة عند الأشعريّ:
"ثمّ على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث؛ لأنّ جهة الحدوث قضيّة واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض ..... أنّ الله تعالى أجرى سنّته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له . ويُسمّى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد، حصولاً تحت قدرته". الملل والنحل للشهرستاني 197. وانظر: اللمع للأشعري ص93-95. والإنصاف للباقلاني ص70-71. والإرشاد للجويني ص 208-210 . وأصول الدين للبغدادي ص 133-137 .
(3) الكسب عند الأشعريّ:
قال الأشعري عن الكسب : (فكل من وقع منه الفعل بقدرة قديمة، فهو فاعل خالق، ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب. وهذا قول أهل الحق). مقالات الإسلاميين 1539 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الكسب عند الأشعرية: "وهم وإن كانوا لا يُثبتون لقدرة العبد أثراً في حصول المقدور، فإنّهم يُفرّقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدوراً للعبد، وما كان خارجاً عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدوراً للعبد . وأكثر من نازعهم يقول: إنّ هذا كلام لا يُعقل؛ فإنّه إذا لم يثبت للقدرة أثر، لم يكن الفرق بين ما كان في محلّ القدرة، وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقاً في محلّ الحادث، من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير . وتسمية هذا مقدوراً دون هذا تحكّم محض، وتفريق بين المتماثلين .
ولهذا قال بعض الناس: عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري .
وإذا قيل لهؤلاء: الكسب الذي أثبتموه لا تُعقل حقيقته . فإذا قالوا: الكسب ما وُجد في محل القدرة المحدثة مقارناً لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه . قيل لهم: فلا فرق بين هذا الكسب، وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها؛ إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يُوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر؛ كاشتراك العرضين الحادثين في محل واحد، في زمان واحد . بل قد يُقال: ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسباً بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل". كتاب الصفدية 1148، 150-152. وانظر: المصدر نفسه 2331 . ومنهاج السنة النبوية 313، 109 . ودرء تعارض العقل والنقل 8320. وشرح الأصفهانية 1150، 2350. ومجموع الفتاوى 30139.
وانظر: أيضاً: أصول الدين للبغدادي ص133-134. وشرح الجوهرة للبيجوري ص 104. والعقيدة الإسلامية لعبدالرحمن حبنكة ص 757-758.(25/22)
.
ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقاً معقولاً، بل حقيقة قولهم قول جهم: إنّ العبد لا قدرة له، ولا فعل، ولا كسب(1) .
والله عندهم فاعل فعل العبد، وفعله هو نفس مفعوله؛ فصار الربّ عندهم فاعلاً لكلّ ما يُوجد من أفعال العباد. ويلزمهم أن يكون هو الفاعل للقبائح، وأن يتّصف بها على قولهم إنّه يُوصف بالصفات الفعليّة القائمة بغيره .
وقد تناقضوا في هذا الموضع(2) [فجعلوه](3) متكلماً بكلام يقوم بغيره، وجعلوه عادلاً ومحسناً بعدلٍ وإحسانٍ يقوم بغيره؛ كما قد بُسط في غير هذا الموضع(4) .
وحينئذٍ فما بقي يمكنهم أن يُفرّقوا بين ممكن وممكن من جميع الأجناس؛ أي يقولوا: هذا يحسن من الرب فعله، وهذا يُنزّه عنه. بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن مقدور.
معنى الظلم عند الأشاعرة
والظلم عندهم هو فعل ما نهى المرء عنه، أو التصرّف في ملك الغير(5)
__________
(1) لاحظ الحاشية السابقة .
(2) أي وصفه بالصفات الفعليّة القائمة بغيره .
(3) في ((خ)): فلم يجعلوه . وما أثبت من ((م))، و ((ط)) .
(4) انظر: كتاب الصفدية 1153-154 . وشرح الأصفهانية 125-28 . ومنهاج السنة النبوية 2107-120 . ودرء تعارض العقل والنقل 5242-250 .
(5) انظر: التمهيد للباقلاني ص384-385. وأصول الدين للبغدادي ص131-133. وشرح المقاصد للتفتازاني 4274-281. وشرح العقائد العضدية لجلال الدواني 2186-189 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الطائفة إنهم يقولون: (الظلم ليس بممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قُدّر وجوده منه فإنّه عدلٌ . والظلم هو الممتنع؛ مثل الجمع بين الضدّين، وكون الشيء موجوداً معدوماً؛ فإنّ الظلم إمّا التصرف في ملك الغير، وكل ما سواه ملكه؛ وإمّا مخالفة الآمر الذي تجب طاعته . وليس فوق الله تعالى آمرٌ تجب عليه طاعته . وهؤلاء يقولون: مهما تصور وجوده، وقُدّر وجوده فهو عدل . وإذا قالوا كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فهذا أمر أُوهم . وهذا قول المجبرة؛ مثل جهم ومن اتبعه . وهو قول الأشعري ومن اتبعه، وأمثاله من أهل الكلام، وقول من وافقهم من الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية) . جامع الرسائل 1121-122 .
قال الأشعري: "وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة، لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً؛ إذ الظلم هوالتصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه . وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور" . الملل والنحل 1100 .(25/23)
. وكلاهما ممتنعٌ في حقّ الله. فأما أن يكون هناك أمر ممكن مقدور، وهو منزّه عنه، فهذا عندهم لا يجوز.
من أصول الأشاعرة
فلهذا جوّزوا عليه كلّ ما يُمكن، ولا ينزهونه عن فعل لكونه قبيحاً، أو نقصاً، أو مذموماً، ونحو ذلك(1). بل يعلم ما يقع وما لا يقع بالخبر؛ أي بخبر الرسول كما علم بخبره المأمور والمحظور، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو بالعادة مع أنّ العادة يجوز انتقاضها عندهم. لكن قالوا: قد يُعلم بالضرورة عدم ما يجوز وقوعه، من غير فرق؛ لا في الوجود، ولا في العلم بين ما علموا انتفاءه، وما لم يعلموه؛ إذ كان أصل قولهم هو جواز التفريق بين المتماثلين بلا سبب. فالإرادة القديمة عندهم تُرجّح مثلاً على مثل بلا سبب في خلق الرب وفي أمره . وكذلك عندهم قد يُحدث في قلب العبد علماً ضرورياً بالفرق بين المتماثلين بلا سبب. فلهذا قالوا: إنّ الشرع لا يأمر وينهى لحكمة(2) .
__________
(1) انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 323، 328، 330، 331 .
(2) المقصود بهم الأشاعرة . انظر: التمهيد للباقلاني ص 50-66 . والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 331-332 .(25/24)
ولم يعتمدوا على المناسبة، وقالوا: علل الشرع أمارات(1)؛ كما قالوا: إنّ أفعال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط(2)
__________
(1) انظر: المواقف للإيجي ص 314-315، 323 .
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وملخص ذلك أنّ الله إذا أمر بأمرٍ فإنّه حسنٌ بالاتفاق، وإذا نهى عن شيء فإنّه قبيحٌ بالاتفاق . لكن حسن الفعل وقبحه إما أن ينشأ من نفس الفعل، والأمر والنهي كاشفان؛ أو ينشأ من نفس تعلق الأمر والنهي به؛ أو من المجموع . فالأول هو قول المعتزلة . ولهذا لا يجوّزون نسخ العبادة قبل دخول وقتها؛ لأته يستلزم أن يكون الفعل الواحد حسناً قبيحاً . وهذا قول أبي الحسين التميمي من أصحاب أحمد، وغيره من الفقهاء . والثاني قول الأشعرية ومن وافقهم من الظاهرية، وفقهاء الطوائف . وهؤلاء يجعلون علل الشرع مجرّد أمارات، ولا يُثبتون بين العلل والأفعال مناسبة . لكن هؤلاء الفقهاء متناقضون في هذا الباب" . شرح الأصفهانية 2618 . وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-75 . والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 323 .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن الأشعرية: "وقالوا: إن الطاعات والمعاصي مع الثواب والعقاب كذلك، ليس في الطاعة معنى يُناسب الثواب، ولا في المعصية معنى يُناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمة لأجلها أمر ونهى . ولا أراد بإرسال الرسل رحمة العباد ومصلحتهم، بل أراد أن يُنعّم طائفة، ويُعذّب طائفة لا لحكمة . والسبب هو جعل الأمر، والنهي، والطاعة، والمعصية علامة على ذلك، لا لسبب، ولا لحكمة . وأنه يجوز أن يأمر بكل شيء، حتى بالشرك، وتكذيب الرسل، والظلم، والفواحش، وينهى عن كل شيء، حتى التوحيد، والإيمان بالرسل، وطاعتهم" . مجموع الفتاوى 8468 .
ونحو هذا الكلام الذي حكاه شيخ الإسلام عن الأشعرية، ذكره البيجوري من الأشعرية في كتابه شرح جوهرة التوحيد، فقال: "وبالجملة: فهو سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضرّه معصية، والكلّ بخلقه . فليست الطاعة مستلزمة للثواب، وليست المعصية مستلزمة للعقاب، وإنما هما أمارتان تدلان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى، حتى لو عكس دلالتهما بأن قال: من أطاعني عذّبته، ومن عصاني أثبته، لكان ذلك منه حسناً" . شرح الجوهرة ص 108 .(25/25)
، من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يُناسب الثواب أو العقاب(1) .
ومن أثبت المناسبة من متأخّريهم؛ كأبي حامد(2) ومن تبعه . قالوا: عرفنا بالاستقراء أنّ المأمور به تقترن به مصلحة العباد؛ وهو حصول ما ينفعهم، والمنهي عنه تقترن به المفسدة، فإذا وُجد الأمر والنهي عُلم وجود قرينه الذي علم بعادة الشرع من غير أن يكون الربّ أمر به لتلك المصلحة، ولا نهى عنه لتلك المفسدة .
وجمهورهم وأئمتهم على أنّه يمتنع أن يفعل لحكمة .
لكن الآمديّ قال: إنّ ذلك جائز غير واجب؛ فلم يجعله واجباً، ولا ممتنعاً(3)
__________
(1) انظر: الكلام على المناسبة، وما يُراد بها، وتفصيل شيخ الإسلام لها في مجموعة الرسائل والمسائل 4224-225 . وانظر: الإنصاف للباقلاني ص 74-77 .
(2) الغزالي .
(3) ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جميل مختصر في توضيح قول أهل السنة والجماعة في مسألة أفعال العباد، وإثبات ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكمة، نختم به هذا الفصل الذي أفاض فيه المؤلف رحمه الله في الحديث عن أقوال الفلاسفة والمتكلمين في هذه القضيّة .
يقول رحمه الله تعالى: "جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دلّ عليه المنقول والمعقول؛ فيقولون: إنّ أفعال العباد مخلوقة لله، مفعولة له، وهي فعلٌ للعباد حقيقة لا مجازاً. وهم يُثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب، والحكم، وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد. لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعيّة من الفلاسفة وغيرهم، بل يقولون: إنّ الله خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وأنّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أنّ الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله . لا يقولون إنها معلولة له، أو متولدة عنه؛ كما يقوله الفلاسفة، ولا أنها مستغنية عنه بعد الإحداث؛ كما يقوله من يقوله من أهل الكلام . بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والاحتياج إليه، لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة. فما كان بالأسباب، فالله خالقه، وخالق سببه جميعاً. ويقولون مع هذا: إنّ الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقلّ بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لا بُدّ له من أسباب أُخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه؛ كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك؛ فإنّه لا بُدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه. وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل؛ كالسحاب، والسقف، وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل".كتاب الصفدية 1154-155 .(25/26)
.
فصل
عدل الله وحكمته وتعليل أفعاله
وهذا الأصل(1)
__________
(1) المقصود به عدل الله وحكمته والتعليل في أفعاله؛ كما مرّ في الفصل السابق.
وقد ألّف شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الأصل رسائل قيّمة؛ مثل رسالة في معنى كون الربّ عادلاً وفي تنزّهه عن الظلم. وهي ممّا ألّفه رحمه الله في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق. (انظر جامع الرسائل 1119-142). وكذلك رسالة في شرح حديث أبي ذر: "يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي"؛ ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2205-246. وانظر منهاج السنة النبوية 1133-146.
وممّا قاله رحمه الله عن هذا الأصل: "وهذا الأصل؛ وهو عدل الربّ، يتعلّق بجميع أنواع العلم والدين؛ فإنّ جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك، وكذلك أقواله وشرائعه وكتبه المنزلة، وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد، ومسائل النبوات، وآياتهم، والثواب والعقاب، ومسائل التعديل والتجوير، وغير ذلك. وهذه الأمور ممّا خاض فيه جميع الأمم". جامع الرسائل 1125.
وشيخ الإسلام رحمه الله يردّ على المبتدعة في أصولهم التي بنوا عليها معتقداتهم، فلذلك ربط رحمه الله بين المعجزات وثبوت النبوة، مع مسائل العدل والحكمة.
وقد ذكر أحد أئمة الأشاعرة أنّ النبوّات والمعجزات مبنيّة على أصول، ومرتبة على قواعد. وأصل هذه الأصول كما ذكر هو القول بالتعديل والتجوير.
يقول الجويني في الإرشاد ص 257 عن القول في التعديل والتجوير: (إنّ مضمون هذا الأصل العظيم، والخطب الجسيم تحصره مقدّمتان، وثلاث مسائل:
إحدى المقدمتين في الردّ على من قال بتحسين العقل وتقبيحه.
والأخرى: أنه لا واجب على الله تعالى يدلّ عليه العقل.
وأما المسائل الثلاث؛ فإحداها في بيان مذاهب أهل الملل في إيلام الله تعالى من يؤلمه من عباده وخليقته. وهذه المسألة تتشعب القول في التناسخ والأعراض. والمسألة الثانية في الصلاح والأصلح. والثالثة في اللطف ومعناه.
وإذا نجزت هذه الأصول افتتحنا بعده المعجزات، ورتبنا على ثبوت النبوات السمعيات).
فالتعديل والتجوير هو أصل الأصول التي بنى عليها هؤلاء إثبات النبوة.
لذلك كان اهتمام شيخ الإسلام رحمه الله في الردّ على أصحابها، ونقض ما عندهم من الباطل، وإظهار الحقّ وإعزازه بالدليل والبرهان.(25/27)
دخل في جميع أبواب الدين؛ أصوله، وفروعه؛ في خلق الربّ لما يخلقه، ورزقه، وإعطائه، ومنعه، وسائر ما يفعله تبارك وتعالى، ودخل في أمره، ونهيه، وجميع ما يأمر به، وينهى عنه. ودخل في المعاد؛ فعندهم(1) يجوز أن يُعذّب الله جميع أهل العدل والصلاح والدين، والأنبياء والمرسلين بالعذاب الأبديّ، وأن يُنعّم جميع أهل الكذب والظلم والفواحش بالنّعيم الأبديّ. لكنْ بمجرّد الخبر عرفنا أنّه لا يفعل هذا(2). ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا له ذنب أصلاً بالعذاب الأبديّ(3).
حكم أطفال المشركين
بل هذا واقعٌ عند من يقول بأنّ أطفال الكفّار يُعذّبون في النّار مع آبائهم(4)
__________
(1) المقصود بهم الأشاعرة. (انظر منهاج السنة النبوية 1135).
(2) قال الأشعريّ: "فلا يقبح منه أن يُعذّب المؤمنين، ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يُعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره".
ثمّ قال: "والدليل على أنّ كل ما فعله فله فعله: أنّه المالك القاهر الذي ليس بمملوك، ولا فوقه... فإن قال: فإنّما يقبح الكذب لأنّه قبّحه ؟ قيل له: أجل، ولو حسَّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض". اللمع ص 71.
(3) انظر التمهيد للباقلاني ص 382-386.
(4) مسألة هل أطفال المشركين يُعذّبون، أم لا، فيها اختلاف بين الفرق:
فقد ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يُعذّب الله أطفال المشركين. وذهبت الجبريّة والأشاعرة إلى جواز ذلك، وقالوا: لا يقبح ذلك من الله تعالى؛ لأنّه مالك الرقاب، ويتصرّف في ملكه كيف يشاء.
أمّا قول أهل السنة والجماعة، فيقول في بيانه شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما ثبوت حكم الكفرة في الآخرة للأطفال، فكان أحمد يقف فيه؛ تارة يقف عن الجواب، وتارة يردّهم إلى العلم؛ لقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهذا أحسن جوابيه، كما نقل محمد بن الحكم عنه، وسأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"...". رواه البخاري ومسلم في كتاب القدر.
ثم قال رحمه الله: "وهذا التفصيل يُذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه؛ فإنّ من قطع لهم بالنّار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنّة كلّهم، جاءت نصوص تدفع قوله. ثمّ إذا قيل هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يُذنب، وانفتح باب الخوض في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقدر، والشرع، والمحبة، والحكمة، والرحمة. فلهذا كان أحمد يقول هو أصل كل خصومة. أما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخراً، وهو قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين": فإنّه فصل الخطاب في هذا الباب. وهذا العلم يُظهر حكمه في الآخرة. والله تعالى أعلم". درء تعارض العقل والنقل 8397، 402. وذكر ابن حجر في الفتح (3290-291) عشرة أقوال للعلماء في أطفال المشركين. وانظر: منهاج السنة النبوية 2306-309. والجواب الصحيح 2296-300. ومجموع الفتاوى 4277-281، 303، 24372. وطريق الهجرتين لابن القيم ص 677-689. وانظر أيضاً: شرح الأصول الخمسة لعبدالجبار ص 477-479. ورسائل العدل والتوحيد ص 222. وأصول الدين للبغدادي ص 256.(25/28)
؛ فإنّهم كلّهم يُجوّزون تعذيبهم؛ إذ كان عندهم يجوز تعذيب كلّ حيّ العذاب المؤبّد بلا ذنب، ولا غرض، ولا حكمة(1).
لكن: هل يقع هذا في أطفال المشركين ؟ منهم من جزم بوقوعه؛ كالقاضي أبي يعلى ومن وافقه(2). ومنهم من توقّف لعدم الدليل السمعيّ عنده، لا لمانع عقليّ؛ كالقاضي أبي بكر(3)، ونحوه(4). وليس عندهم من أفعال الله ما يُنزّهونه عنه، أو ما [تقتضي](5) الحكمة وجوده، بل يجوز عندهم أن يفعل كلّ ممكن، ويجوز أن لا يفعل شيئاً من الخير(6).
__________
(1) يقول شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً في موضع آخر: "وهؤلاء يُجوّزون أن يُعذّب الله العبدَ في الدنيا والآخرة بلا ذنب؛ كما يُجوّزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب. ثمّ من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النّار، ومنهم من يُجوّزه ويتوقّف فيه". منهاج السنة النبوية 2306.
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل 8398. والجواب الصحيح 2296-297.
(3) الباقلاني.
يقول الباقلاني: "فإن قال قائل: فهل يصحّ على قولكم هذا أن يؤلم الله سبحانه سائر النبيّين، ويُنعّم سائر الكفرة والعاصين من جهة العقل قبل ورود السمع؟ قيل له: أجل، له ذلك. ولو فعله لكان جائزاً منه غير مستنكر من فعله". التمهيد ص 385.
(4) كالجويني. انظر الإرشاد ص 273.
(5) في ((خ)): يقتضي. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(6) انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-386. والإرشاد للجويني ص 273.(25/29)
لكن إذا أخبر أنّه يفعل شيئاً، أو أنّه لا يفعله، علم أنّه واقعٌ، أو غير واقعٍ بالخبر. ويجوز عندهم أن يُعذّب من لا ذنب له، ومن هو أبرّ الناس وأعدلهم وأفضلهم عذاباً مؤبّداً لا يُعذّبه أحداً من العالمين. ويجوز أن يُنعّم شرّ الخلق من شياطين الإنس والجنّ نعيماً في أعلى درجات الجنّة، لا يُنعّم مثله [لمخلوق](1)، لكن لمّا أخبر بأنّ المؤمنين يدخلون الجنّة، والكفّار يدخلون النّار، علم ما يقع(2)، مع أنّه لو وقع ضدّه لم يكن بينهما فرقٌ عندهم، ثمّ مع مجيء [الخبر](3) فكثيرٌ منهم وافقه. أمّا في جنس الفسّاق مطلقاً، [فيُجوّزون](4) أن يدخل جميعهم الجنّة، ويُجوّزون أن يدخل جميعهم النّار، ويُجوّزون أن يدخل بعضهم؛ كما يقوله من يقوله [من واقفة](5) الشيعة، والأشعريّة؛ كالقاضي أبي بكر(6)؛ لأنّ القرآن عنده لم يدلّ على شيء، والأخبار أخبار آحاد [بزعمه](7)، فلا يحتجّ بها في ذلك.
وأمّا جمهور المنتسبين إلى السنّة من أصحاب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم: فيقطعون بأنّ الله يُعذّب بعض أهل الذنوب بالنّار، ويعفو عن بعضهم(8)؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْء}(9)، فهذا فيه الإخبار بأنّه يغفر(10) ما دون الشرك، وأنّه يغفره لمن يشاء، لا لكلّ أحد.
__________
(1) في ((ط)): المخلوق.
(2) انظر: التمهيد للباقلاني ص 382-383.
(3) في ((خ)): الخير. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((خ)): يجوزون، وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(5) في ((م))، و ((ط)): ممن وافق.
(6) الباقلاني. انظر التمهيد له ص 385-386.
(7) في ((خ)): يزعمه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(8) انظر: جامع الرسائل 1123-124، 126.
(9) سورة النساء، الآية، 48، 116.
(10) في ((ط)): يغفقر.(25/30)
لكن: هل الجزاء، والثواب، والعقاب مبنيٌ على الموازنة بالحكمة والعدل؛ كما أخبر الله بوزن الأعمال(1)، أو يغفر ويُعذّب بلا سبب، ولا حكمة، ولا اعتبار الموازنة فيه؟
لهؤلاء قولان: فمن جوّز ذلك فإنّه يجوز عندهم أن يُعذّب الله من هو أبرّ النّاس وأكثرهم طاعات وحسنات على سيئة صغيرة عذاباً أعظم من عذاب أفسق الفاسقين. ويجوز عندهم أن يغفر لأفسق الفاسقين من المسلمين وأعظمهم كبائر كلّ ذنب، ويُدخله الجنّة ابتداءً، مع تعذيب ذلك في النّار على صغيرة(2).
__________
(1) قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}. [سورة الأعراف، الآيتان 8-9].
وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. [سورة الأنبياء، الآية 47].
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}. [سورة القارعة، الآيات 6-9].
وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4302.
وللشيخ مرعي الحنبلي المقدسي رسالة مطبوعة باسم كتاب تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان.
(2) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن هؤلاء المجبرة أنّهم: "لايجعلون العدل قسيماً لظلم ممكن لا يفعله، بل يقولون: الظلم ممتنع. ويُجوّزون تعذيب الأطفال، وغير الأطفال بلا ذنبٍ أصلاً، وأن يخلق خلقاً يُعذّبهم بالنّار أبداً، لا لحكمة أصلاً، ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة، ولا لرعاية عدل، فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب فأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء لله تعالى". جامع الرسائل 1125.(25/31)
ولهذا قال جمهور النّاس(1) [عن هؤلاء](2): إنّهم لا يُنزّهون الربّ [عن](3) السّفه والظلم، بل يصفونه بالأفعال التي يُوصف بها المجانين والسفهاء؛ فإنّ المجنون والسفيه قد [يُعطي](4) مالاً عظيماً لمن ليس هو له بأهل. وقد يُعاقب عقوبة عظيمة [لمن](5) هو أهل للإكرام والإحسان.
تنازع الناس في معنى الظلم
والربّ تعالى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وخير الراحمين. والحكمة وضع الأشياء مواضعها، والظلم وضع الشيء في غير موضعه(6)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما المثبتون للقدر..... فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته، والظلم الذي يجب تنزيهه عنه، وفي تعليل أفعاله وأحكامه، ونحو ذلك. فقالت طائفة: إنّ الظلم ممتنع منه غير مقدور، وهو محال لذاته؛ كالجمع بين النقيضين، وأنّ كل ممكن مقدور، فليس هو ظلماً، وهؤلاء هم الذين قصدوا الردّ عليهم، وهؤلاء يقولون: إنّه لو عذّب المطيعين، ونعّم العصاة، لم يكن ظالماً. وقالوا: الظلم: التصرّف فيما ليس له. والله تعالى له كلّ شيء. أو هو مخالفة الأمر، والله لا آمر له. وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر..... وقالت طائفة: بل الظلم مقدور ممكن، والله تعالى منزّه لا يفعله، لعدله. ولهذا مدح الله نفسه، حيث أخبر أنّه لا يظلم الناس شيئاً. والمدح إنّما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع". منهاج السنة النبوية 1134-135.
وقالوا: "والظلم وضع الشيء في غير موضعه؛ فهو لا يضع العقوبة إلا في المحلّ الذي يستحقها، لا يضعها على محسن أبداً". المصدر نفسه 1139.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(3) في ((خ)): على. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(4) في ((م))، و ((ط)): يعطى.
(5) في ((م))، و ((ط)): من.
(6) وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تنازع الناس في معنى الظلم على ثلاثة أقوال.
القول الأول: قول المجبرة والأشعريّة: "أنّه هو التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وكلاهما منتفٍ في حق الله تعالى". جامع الرسائل 1127.
وانظر معنى الظلم عند الأشعري في: الملل والنحل 1101.
وقد نقلت هذا القول بتوسّع من قول شيخ الإسلام رحمه الله في ص 560-561، 564-571 من هذا الكتاب. وانظر جامع الرسائل 1121.
الثاني: قول المعتزلة: "أنّه عدل لا يظلم، لأنه لم يُرد وجود شيء من الذنوب؛ لا الكفر، ولا الفسوق، ولا العصيان. بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته؛ كما فعلوه عاصين لأمره. وهو لم يخلق شيئاً من أفعال العباد؛ لا خيراً، ولا شراً، بل هم أحدثوا أفعالهم. فلمّا أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها؛ فعاقبهم بأفعالهم، لم يظلمهم". جامع الرسائل 1123.
الثالث: قول أهل السنة: "أنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع كل شيء في موضعه. وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، ولا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يُناسبه، وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يُفرّق بين متماثلين، ولا يُسوّي بين مختلفين، ولا يُعاقب إلا من يستحقّ العقوبة؛ فيضعها موضعها، لما في ذلك من الحكمة والعدل". جامع الرسائل 1123-124. وانظر منهاج السنة 1134، 2304، 309، 312.(25/32)
.
ومن تدبّر حكمته في مخلوقاته، ومشروعاته(1) رأى ما يُبهر العقول؛ فإنّه مثلاً خلق العين، واللسان، ونحوهما من الأعضاء لمنفعة، وخلق الرِّجل، والظفر، ونحو ذلك لمنفعة، فلا تقتضي الحكمة أن يستعمل العين واللسان حيث يستعمل اليد والرجل والظفر، ولا أن يستعمل الرجل واليد حيث يستعمل العين واللسان. وهذا من حكمته موجود في أعضاء الإنسان، وسائر الحيوان، والنبات، وسائر المخلوقات. فكيف يجوز في حكمته، وعدله، ورحمته في مَنْ هو دائماً يفعل ما يُرضيه من الطاعات، والعبادات، والحسنات، وقد نظر نظرة منهيّاً عنها، أن يُعاقبه على هذه النظرة بما يُعاقب به أفجر الفُسّاق، [وأن يكون أفجر الفُسّاق](2) في أعلى عليّين، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما [يُريد](3).
لكن لا يشاء إلا ما يُناسب حكمته، ورحمته، وعدله، كما لا يشاء ويُريد إلا ما علم أنّه سيكون.
فلو قيل: هل يجوز أن يشاء ما علم أنّه لا يكون ؟ لم [يجز](4) ذلك باتفاقهم(5)، لمناقضة علمه. والعلم يُطابق المعلوم. فكيف يشاء ما يُناقض حكمته، ورحمته، وعدله. وبسط هذه الأمور له مواضع متعدّدة(6).
اضطراب الأشاعرة في النبوات
__________
(1) وقد تكلّم شيخ الإسلام رحمه الله عن الحكمة من بعض مخلوقات الله في الجواب الصحيح 6396.
وتكلّم تلميذه الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله عن بعض هذه الحكمة في مخلوقات الله.
انظر مفتاح دارالسعادة 1188، 210، 256، 257.
وانظر الحكمة في شرع الله في كتاب ((حجة الله البالغة)) للشاه ولي الله الدهلوي 1152.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)).
(3) في ((ط)): يريده.
(4) في ((ط)): يجر.
(5) انظر: الإنصاف للباقلاني ص 75.
(6) انظر: جامع الرسائل 1120-142. والمجموعة المنيريّة 2205-246. ومنهاج السنة 1134-145. ومجموعة الرسائل والمسائل 4234-235، 283-346.(25/33)
والمقصود أنّ هؤلاء(1) لمّا احتاجوا إلى إثبات النبوات اضطربوا في صفة النبيّ، وما يجوز عليه، وفي الآيات التي بها يُعلم صدقه؛ فجوّزوا أن يُرسل الله من يشاء بما يشاء، لا يشترطون في النبيّ إلا أن يُعلم ما أُرسل به(2)؛ لأنّ تبليغ الرسالة بدون العلم ممتنع. ومن جوّز منهم تكليف ما لا يُطاق مُطلقاً(3)
__________
(1) أي الأشاعرة.
(2) المقصود بهم الأشاعرة.
وانظر كلام الباقلاني الذي سيأتي نقل شيخ الإسلام رحمه الله له قريباً ص 732.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن النبوة عند الأشاعرة: "فهؤلاء يجوّزون بعثة كلّ مكلّف، والنبوة عندهم مجرّد إعلامه بما أوحاه إليه. والرسالة مجرّد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه. وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختصّ بها، بل هي من الصفات الإضافيّة؛ كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعيّة". منهاج السنة 2414. وسيأتي نحو هذا الكلام في هذا الكتاب، ص 731 .
(3) يذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ إطلاق "القول بتكليف ما لا يُطاق من البدع الحادثة في الإسلام؛ كإطلاق القول بأنّ العباد مجبورون على أفعالهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك، وذم من يُطلقه، وإن قصد به الردّ على القدرية الذين لا يُقرّون بأنّ الله خالق أفعال العباد، ولا بأنّه شاء الكائنات. وقالوا: هذا ردّ بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل". درء تعارض العقل والنقل 165.
أمّا عن موقف السلف رحمهم الله من ذلك: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه "ليس في السلف والأئمة من أطلق القول بتكليف ما لا يُطاق، كما أنّه ليس فيهم من أطلق القول بالجبر.... ولهذا كان المقتصدون.... يفصّلون في القول بتكليف ما لا يطاق، كما تقدم القول في تفصيل الجبر؛ فيقولون: تكليف ما لا يُطاق لعجز العبد عنه لا يجوز، وأمّا ما يُقال إنّه لا يُطاق للاشتغال بضدّه، فيجوز تكليفه". مجموع الفتاوى 8469.
وذهبت المعتزلة إلى أنّ تكليف ما لا يُطاق غير ممكن. انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 133، 396).
وذهبت طائفة، منهم الرازي إلى جواز تكليف ما لا يُطاق مطلقاً.
وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة، وذكره رحمه الله لمن منعها، أو أجازها، أو فصّل فيها القول في: مجموع الفتاوى 8294-302، 437-440، 469-474. ودرء تعارض العقل والنقل 160-65.(25/34)
، يلزمه جواز أن يأمره الله بتبليغ رسالة لا يعلم ما هي.
القول بتكليف ما لا يطاق.
وجوّزوا من جهة العقل ما ذكره القاضي أبو بكر: أن يكون الرسول فاعلاً للكبائر(1)
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله عن القاضي أبي بكر وغيره إنّه يقول: "إنّ العقل لا يُوجب عصمة النبيّ إلا في التبليغ خاصّة؛ فإنّ هذا هو مدلول المعجزة. وما سوى ذلك إن دلّ السمع عليه، وإلا لم تجب عصمته منه.
وقال محققوا هؤلاء؛ كأبي المعالي وغيره: إنّه ليس في السمع قاطع يُوجب العصمة. والظواهر تدلّ على وقوع الذنوب منهم. وكذلك كالقاضي أبي بكر إنّما يُثبت ما يُثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع؛ لأنّ الإجماع حجة. وما سوى ذلك فيقول لم يدلّ عليه عقل ولا سمع. وإذا احتجّ المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأنّ هذا يُوجب التنفير ونحو ذلك، فيجب من حكمة الله منعهم منه؛ قالوا: هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين. قالوا: لا يجب على الله شيء، ويحسن منه كل شيء، وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضاً؛ كما أوجبنا ثواب المطيعين، وعقوبة الكافرين؛ لإخباره أنه يفعل ذلك، ونفينا أن يغفر لمشرك؛ لإخباره أنه لا يفعل ذلك، ونحو ذلك". منهاج السنة 2414-415.
وانظر: الإرشاد للجويني ص 356-357 فصل في عصمة الأنبياء . وأصول الدين للبغدادي ص 167-169 فصل عن عصمة الأنبياء عليهم السلام . والمواقف للإيجي ص 358-359. وشرح المقاصد للتفازاني 550-51.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: "وطوائف أهل الكلام الذين يُجوّزون بعثة كل مكلف؛ من الجهمية، والأشعرية، ومن وافقهم........ متفقون أيضاً على أنّ الأنبياء أفضل الخلق، وأنّ النبي لا يكون فاجراً. لكن يقولون: هذا لم يعلم بالعقل، بل بالسمع؛ بناءً على ما تقدم من أصلهم من أنّ الله يجوز أن يفعل كل ممكن". منهاج السنة النبوية 2419.(25/35)
، إلا أنّه لا بُدّ أن يكون عالماً بمرسله. لكن ما عُلم بالخبر أنّ الرسول لا يتصف به، علم من جهة الخبر فقط، لا لأنّ الله منزّه عن إرسال ظالم، أو مرتكب للفواحش، أو مكاس، أو مخنّث، أو غير ذلك؛ فإنّه لا يُعلم نفي شيء من ذلك بالعقل، لكن بالخبر.
وهم في السمعيات عمدتهم الإجماع(1).
عمدة الأشاعرة في السمعيات
وأما الاحتجاج بالكتاب والسنّة، فأكثر ما يذكرونه تبعاً للعقل أو الإجماع. والعقل والإجماع مقدّمان عندهم على الكتاب والسنّة(2).
لم يعتمد الباقلاني في تنزيه الأنبياء على دليل عقلي ولا سمعي
__________
(1) الإجماع في اللغة: العزم والاتفاق. وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أمر دينيّ". التعريفات للجرجاني ص 15 .
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّ "معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام. وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكنْ كثير من المسائل يظنّ بعض الناس فيها إجماعاً، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة". مجموع الفتاوى 2010.
وانظر رد شيخ الإسلام رحمه الله على الأشاعرة، وادعائهم الإجماع في درء تعارض العقل والنقل 895-96.
(2) وانظر على سبيل المثال رسالة إلى أهل الثغر للأشعريّ؛ فإنّه ذكر فيها واحداً وخمسين إجماعاً، مع أنّ جلّها، أو أكثرها دلّ عليه الكتاب والسنّة.(25/36)
فلم يعتمد القاضي أبو بكر(1) وأمثاله في تنزيه الأنبياء [لا](2) على دليل عقليّ، ولا سمعيّ من الكتاب والسنّة؛ فإنّ العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاء؛ إذ كان يجوز عنده على الله فعلُ كلّ ما يقدر عليه. وإنّما اعتمد على الإجماع؛ فما أجمع المسلمون عليه أنه لا يكون في النبيّ نَزّه عنه، ثمّ ذكر ما ظنّه إجماعاً؛ كعاداته، وعادات أمثاله في نقل إجماعات(3)
__________
(1) الباقلاني.
(2) ما بين المعقوفتين ملحق في ((خ)) بين السطرين.
(3) والأمثلة كثيرة في ذلك؛ سيما في كتاب البيان للباقلاني، والإرشاد للجويني؛ انظر مثلاً قوله عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أنّ دليله الإجماع (في الإرشاد ص 368)، وغير ذلك.
يقول الباقلاني: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر، وما يفعل عنده ونحو ما ذكرناه، ونحو فلق البحر، وإخراج اليد بيضاء، والآيات التسع، وإخراج ناقة من صخرة، وأمثال هذا مما قد أجمعت الأمة ووقفت على أنه لا يكون عند سحر ساحر". البيان للباقلاني ص 92.
وقال أيضاً عن الملائكة: "ولا يمتنع عندنا أن يدعي منهم مدع الربوبية من جهة العقل، لولا الإجماع على منع ذلك، ووصف الباري سبحانه لهم بالنهاية في الطاعة والمعرفة... فقد ورد الإجماع واستقر بأن ذلك لا يكون منهم، ولا ما دونه من المعاصي". البيان ص 103.
وقال الجويني: "واتفق الفقهاء على وجود السحر، واختلفوا في حكمه، وهم أهل الحل والعقد وبهم ينعقد الإجماع... ثم اعلموا أن السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق. وليس ذلك من مقتضى العقل، ولكنه متلقى من إجماع الأمة". الإرشاد للجويني ص 323. وانظر المصدر نفسه ص 332.
وقال الجويني أيضاً : "إنه ما من أمر يخرق العوائد، إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل". الإرشاد ص 319.
وقال الإمام القرطبي: "أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى،.... وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه". الجامع لأحكام القرآن 247.(25/37)
لا يُمكن نقلها عن واحد من الصحابة، ولا ثلاثة من التابعين، ولا أربعة من الفقهاء المشهورين؛ كدعواه الإجماع على أنّ الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة(1)، مع قوله أنّ العقل يُحيل أن يكون مأموراً به؛ فيدّعي الإجماع على براءة المأمور من فعل ما أُمر به، لكونه فعل ما نُهي عنه.
ولأهل الكلام والرأي من دعوى [الإجماعات](2) التي ليست صحيحة، بل قد يكون فيها نزاعٌ معروفٌ، وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادّعوا فيه الإجماع ما يطول ذكره هنا.
وقد ذكرنا قطعة من الإجماعات الفروعيّة التي حكاها طائفة من أعيان العلماء العالمين بالاختلاف(3)، مع أنّها منتقضة، وفيها نزاع ثابت لم يعرفوه. وقد يكون غيرهم حكى الإجماع على نقيض قولهم. وربّما كان من السلف؛ كقول الشافعيّ: ما أعلم أحداً قَبِل شهادة العبد(4).
وقبله من الصحابة: أنس بن مالك؛ يقول: ما أعلم أحداً ردّ شهادة العبد(5).
وكدعوى ابن حزم الإجماع [على إبطال](6) القياس(7).
وأكثر الأصوليّين يذكرون الإجماع على إثبات القياس.
__________
(1) انظر: الإرشاد للجويني ص .
(2) في ((خ)): الإجمات. وهو تصحيف. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) ولشيخ الإسلام رحمه الله تعليق على مراتب الإجماع لابن حزم، باسم نقد مراتب الإجماع. نشر وتوزيع دار الباز بمكة المكرمة.
(4) هذه العبارة عن الشافعي رحمه الله لم أجدها. ولكنه رحمه الله ذكر في كتاب الأمّ عدم قبول شهادة العبد . انظر: الأم للشافعي 743 طبعة الشعب. وانظر: الحاوي الكبير للماوردي 17213-214. والمجموع شرح المهذب للنووي 2321-24).
(5) انظر: المغني لابن قدامه 14185.
(6) ما بين المعقوفتين ملحق بهامش ((خ)).
(7) انظر كلام ابن حزم رحمه الله عن إبطال القياس في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام 71208-1209، ضمن الأجزاء من 5 إلى 8.(25/38)
وبسط هذا له موضع آخر(1).
فصل
طريقة الأشاعرة في إثبات المعجزات
ولمّا أرادوا(2) إثبات معجزات الأنبياء عليهم السلام، وأنّ الله سبحانه لا يُظهرها على يد كاذب، مع تجويزهم عليه فعل كلّ شيء(3)، [فتقوا فتقاً](4)، فقالوا: لو جاز ذلك، لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة. وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعا. فهذا هو المشهور عن الأشعري، وعليه اعتمد القاضي أبو بكر، [وابن فورك](5)، والقاضي أبو يعلى، [وغيرهم](6)(7).
وهو مبني على مقدمات.:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى؛ الجزء التاسع عشر، والجزء العشرين. وكتاب أصول الفقه عند ابن تيمية رحمه الله إعداد الدكتور صالح المنصور. ومختارات شيخ الإسلام للّحام.
(2) أي الأشاعرة. وانظر: الإرشاد للجويني؛ فقد ذكر أنّ المعتزلة "قالوا: إذا جوّزتم أن يُضلّ الربّ عباده، ويُغويهم، ويُرديهم، فما يؤمنكم من إظهار المعجزات على أيدي الكذّابين". الإرشاد للجويني ص 326.
(3) انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي ص 331. وانظر: شرح الأصفهانية لشيخ الإسلام 2616-624.
(4) رسمت في ((خ)): فبقوا مما. وفي ((م))، و ((ط)): فعوا معا.
وقد ذكر شيخ الإسلام كلمة مماثلة في موضع آخر من هذا الكتاب ص 488 ، هي: فتقوا فتقاً. فترجح لديّ أنّها المرادة، والله أعلم.
(5) ما بين المعقوفتين ملحق في هامش ((خ)).
(6) في ((خ)): (وغيرهم وغيرهم) مكررة .
(7) فعندهم أنّ الخوارق لا تظهر على يد مدعي النبوة إذا كان كاذباً، حتى يتميز المتنبي من غير النبيّ. أمّا إذا لم يدّع النبوة، فلا مانع من ظهور الخوارق.
انظر: البيان للباقلاني ص 48، 94، 95، 105. والإرشاد للجويني ص 319، 326، 327. ونهاية الإقدام للشهرستاني ص 434. والمواقف في علم الكلام للإيجي ص241-242. وتفسير الرازي 3214-215. وشرح المقاصد للتفتازاني 518. وانظر من كتب ابن تيمية: الجواب الصحيح 6394، 398. ودرء تعارض العقل والنقل 940.(25/39)
أحدها: أن النبوة لا تثبت إلا بما ذكروه من المعجزات(1)، وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبيّ إلا بهذا الطريق، وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة، وأن إعلام الخلق بأن هذا نبيّ بهذا الطريق ممكنٌ.
فلو قيل لهم: لا نُسلِّم أنّ هذا ممكنٌ على قولكم، فإنّكم إذا جوّزتم عليه فعلَ كلّ شيء، وإرادة كلّ شيء، لم يكن فرقٌ بين أن يُظهرها على يد صادق، أو كاذب، ولم يكن إرسال رسول [يصدقه](2) بالمعجزات ممكناً على أصلكم، ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات؛ إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز. وهذا إنّما يكون دليلاً إذا علم أنّه إنّما خلقه لتصديق الرسول. وأنتم عندكم لا يفعل شيئاً لشيء، ويجوز عليه فعل كل شيء.(3).
وسلك طائفة منهم طريقاً آخر؛ وهي طريقة أبي المعالي(4)، وأتباعه؛ وهو أنّ العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علمٌ ضروريٌ.
__________
(1) انظر: كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر للباقلاني ص 37-38. والإنصاف له ص 93. والإرشاد للجويني ص 331. وأعلام النبوة للماوردي ص 62. وشرح المقاصد للتفتازاني 519؛ فقد ذكروا أنّ الدلالة على ثبوت النبوة لا تكون إلا بالمعجزة الخارقة للعادة فقط.
وانظر ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المقولة في: شرح الأصفهانية 2471، 491. والجواب الصحيح 6504. ودرء تعارض العقل والنقل 940.
(2) في ((خ)): بصدقه. وما أثبت من ((م))، و ((ط)).
(3) أي أنّكم أيها الأشاعرة عندكم أنّ الله لا يفعل لحكمة. فكيف يستقيم مع أصلكم، أن يخلق الله المعجزة لتصديق الرسول ؟ أليس هذا فعلاً لحكمة ؟!.
وانظر: الجواب الصحيح 6393-400. وشرح الأصفهانية 2616.
(4) الجويني.(25/40)
وضربوا له مثلاً بالملك(1).
وهذا صحيح إذا مُنعت أصولهم؛ فإنّ هذه تُعلِم إذا كان المعلم بصدق رسوله ممّن يفعل شيئاً لحكمةٍ. فأمّا من لا يفعل شيئاً لشيءٍ، فكيف يُعلم أنّه خلق هذه المعجزة لتدلّ على صدقه لا لشيءٍ آخر ؟ ولم لا يجوز أن يخلقها لا لشيءٍ على أصلهم(2) .
وقالوا أيضاً ما ذكره الأشعري: المعجز: علم الصدق، ودليله؛ فيستحيل وجوده بدون الصدق، فيمتنع وجوده على يد الكاذب(3) .
__________
(1) انظر: الإرشاد للجويني ص 313، 325-330. ولمع الاعتقاد له ص 71. وشرح الأصول الخمسة لعبدالجبار المعتزلي ص 571. والمواقف للإيجي ص 341. وشرح المقاصد للتفتازاني 514. وتفسير القرطبي 151.
وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله على هذا المثل، وتعليقه عليه في: شرح الأصفهانية 2623-624. والجواب الصحيح 6397-399. ودرء تعارض العقل والنقل 944.
(2) وشيخ الإسلام رحمه الله يُبيّن أنّ هذا من تناقضات أبي المعالي الجويني؛ حيث إنّه أثبت أنّ المعجزة معلومة بالاضطرار، وضرب مثال الملك الذي يفعل لحكمة.
وأبو المعالي ممن يُنكر الحكمة في أفعال الله، فلا يستقيم له هذا المثال؛ لأنّه مناقضٌ لأصولهم التي أصّلوها.
ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لكن يُقال لهم: الملك يفعل فعلاً لمقصود، فأمكن أن يُقال إنّه قام ليُصدّق رسوله. وأنتم عندكم أنّ الله لا يفعل شيئاً لشيء، فلم يبق المثل مطابقاً. ولهذا صاروا مضطربين في هذا الموضع". الجواب الصحيح 6397.
(3) انظر: رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص 141، 183-184.
وانظر كذلك: كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر للباقلاني ص 37-38.
وقال الجويني: "وقد قال شيخنا رحمه الله: المعجزة فعلٌ لله تعالى، يقصد بمثله التصديق". الإرشاد له ص 309، 327. وانظر: شرح المقاصد 512. وأصول الدين للبغدادي ص 178.
وانظر كلام شيخ الإسلام عن هذا القول في: الجواب الصحيح 6399.(25/41)
وهذا كلامٌ صحيحٌ، لكن كونه: علم الصدق، مناقضٌ لأصولهم؛ فإنّه إنّما يكون علم الصادق إذا كان الربّ منزّهاً عن أن يفعله على يد الكاذب، أو علم بالاضطرار أنّه إنّما فعله لتصديق الصادق، أو أنّه لا يفعله على يد الكاذب.
وإذا عُلم بالاضطرار تنزّهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم(1).
__________
(1) وكذلك يُوضّح شيخ الإسلام رحمه الله تناقضهم في قولهم: إنّ المعجزة دليلٌ على صدق النبيّ، ولا يُمكن أن يخلقها الله على يد كاذب؛ لأنّ من أصولهم أنّ الله لا يقبح منه شيء؛ فكلّ فعل ممكن لا يُنزّه عنه.
انظر مذهبهم في ذلك في: البيان للباقلاني ص 47-48، 91، 94، 96. والتمهيد له ص 385. والإنصاف له ص 62، 67. والإرشاد للجويني ص 238، 273. وأصول الدين للبغدادي ص 170، 174. وانظر أيضاً منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2419.
وهذا القول الله لا يقبح منه شيء من أصول الأشاعرة:
يقول الجويني: "إنه ما من أمر يخرق العوائد إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل". الإرشاد للجويني ص 319.
ويقول أيضاً: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الربّ تعالى عند ارتياد الساحر ما سيستأثر بالاقتدار عليه؛ فإنّ كلّ ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى". الإرشاد ص 322.
ويقول المازري: "ومذهب الأشعريّ أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك يقصد خوارق السحرة ، وهو الصحيح عقلاً لأنه لا فاعل إلا الله". نقل عنه النووي في شرحه على صحيح مسلم 1475.
ويقول القرطبي: "قال علماؤنا: وينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر... ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الشبع عند الأكل، والريّ عند شرب الماء..". الجامع لأحكام القرآن 246-47.
ويظهر تناقض الأشاعرة جليّاً في دعواهم أنّ جنس المعجز يقع على يد الكاذب، وأنّه يمتنع وقوعه على يديه إذا ادّعى النبوّة. انظر: الإرشاد للجويني ص 322، 328. وشرح المقاصد للتفتازاني 518.(25/42)