الخلق لا يقدر أن يأتي بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه والعرب تقول في البناء الوثيق والعهد الوثيق الذي لا يمكن حله إنه محكم فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم وأما الذي يدل على أنه كله متشابه فهو قوله تعالى كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر 23] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفصاحة ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة وأما الذي يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7](8/338)
قلت هذا الذي ذكر من أن القرآن كله محكم وأنه كله متشابه قد ذكره عامة العلماء والقرآن دل على ذلك كما ذكره وقالوا في قوله تعالى مُتَشَابِهًا ما ذكره أنه متشابه في المعاني والألفاظ قال كثير من المفسرين كالثعلبي والبغوي مثل ما قال متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وقال أبو الفرج بن الجوزي في المتشابه قولان أحدهما أشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف فالآية تشبه الآية والكلمة تشبه الكلمة والحرف يشبه الحرف والثاني أن بعضه يصدق بعضا فليس فيه اختلاف ولا تناقض وتفسير المتشابه بأنه يصدق بعضه بعضاً(8/339)
معروف عن عامة العلماء وأما القول الأول فهو مأثور عن قتادة قال الآية تشبه الآية والحروف تشبه الحروف ولفظ الحرف في اللغة يراد به الاسم لقوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف فلعل قتادة أراد الآية المنظومة والاسم المفرد يشبه بعضه بعضا في اللفظ والمعنى كما قال غيره فالتشابه في المعنى ينفي التضاد والتناقض المعبر عنه(8/340)
بالاختلاف في قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء 82] وذلك في الأوامر والنواهي والأخبار فيأمر بالشيء الحسن وما يماثله وينهي عن الشيء السيئ وعما يماثله لا يتناقض فيحكم بين المثلين بحكمين مختلفين وكذلك المدح والذم يمدح الشيء وما يماثله ويذم الشيء ويذم ما يماثله وكذلك في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وكلام المخلوقين لا يخلو عن نوع من التناقض والاختلاف والتشابه في الألفاظ تناسبها وائتلافها واعتدالها وأنه كله كذلك بخلاف كلام المخلوقين فإنه يكون بعضه على طريقة في الحسن وباقيه يخالف ذلك فلا يكون آخره كأوله وهذا كالبناء والخياطة إذا كان متناسبا يشبه بعضه بعضاً فهو بخلاف ما يكون بعضه لا يشاكل بعضا وأما المثاني فهو جمع مثنى والتثنية يراد بها التقسيم(8/341)
فقد فسر المثاني بأنه الذي يستوفى فيه الأقسام فيذكر فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام والحلال والحرام لا يذكر أحد القسمين دون الآخر فهو يستوفى الأقسام كما أن المتشابه هو الأمثال وفسر بأنه هو الذي يكون فيه القصص والحجج والأمر والنهي لما في ذلك من الحكمة والبيان ولأن في كل موضع من المعاني النافعة مثلا ليس في الموضع الآخر بمنزلة الشيء الواحد الذي له أسماء متعددة وكل اسم يدل على صفة ومن ذلك أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء كتابه فتثنية الخبر والأمر بألفاظ يختص كل لفظ بمعنى بمنزلة تثنية الأسماء للمسمى الواحد الذي يختص كل اسم بمعنى وهذا يتضمن الإخبار بصفات الأشياء وإن كان الموصوف واحداً فهو تثنية وتكرير باعتبار الذات لا اعتبار الصفات وروى ابن أبي حاتم بإسناد معروف عن سعيد بن جبير(8/342)
عن ابن عباس في قوله تعالى مَثَانِيَ يفسر بعضه بعضاً ويرد بعضه على بعض وعن الحسن قال ثنى الله فيه القضاء تكون السورة فيها آية وفي الأخرى آية تشبهها وكذلك قال عكرمة ثنى الله فيها القضاء وعن الضحاك قال ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى فابن عباس جعل المثاني من جنس المتشابه وهي النظائر(8/343)
التي يفسر بعضها بعضاً وعلى القول الآخر تكون المثاني هي الوجوه وهي الأنواع كالوعد والوعيد والأمر والنهي فصل قال الرازي ولابد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرها في عرف الشريعة أما المحكم في اللغة فالعرب تقول حكمت وأحكمت وحكّمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحَكْمَة اللجام تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي أحكم اليتيم كما تحكم(8/344)
ولدك أي امنعه من الفساد وقوله أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من يعترض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع الموصوف بها عما(8/345)
لا ينبغي قلت هذا الذي قاله قد قاله جماعة كما قيل مثل ذلك في الحد أن معناه المنع وقد يقال الحكم هو الفصل بين الشيئين بالحق وكذلك الحد هو الفصل بين الشيئين والمنع جزء مسماه فالمنع بعض معنى الفصل فإن الفصل بين الشيئين يتضمن منع كل منها من الآخر وإلا فليس كل من منع غيره من شيء قيل إنه أحكمه حتى يكون منعاً بحق وحتى يكون ممنوعاً من شيء دون شيء والحكم هو الفاصل ويقال يوم الفصل وحكم فيصل واحكم بيننا ولا يقال امنع بيننا والحكمة هي الفصل بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب علماً وعملاً ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء 39] وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي السنة لأنها بينت ما يؤمر به وما ينهى عنه(8/346)
قال وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال تعالى إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة 70] وقال تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] ومنه اشتبه الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبهات وقال صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات وفي رواية مشتبهات قال فهذا(8/347)
تحقيق الكلام في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة يقال هما مشتبهان وإن كان كثير من الناس يميز بينهما لكن قد يكون بعض الناس غير مميز بخلاف لفظ التماثل فإنه أخص من لفظ التشابه قال تعالى وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام 141] وفي الآية الأخرى مثلها مشتبهاً وغير متشابه قيل بعضه متشابه وبعضه غير متشابه وقيل بل هو مشتبه في المنظر واللون وهو غير متشابه في الطعم ومعلوم أن كما تشابه ورقه ومنظره كما يشبه ورق الزيتون ورق الرمان فالناس يميزون بينهما وكذلك إذا قيل بعضه متشابه كما تشبه الشجرة الشجرة أو ورقها ورقها أو ثمرها ثمرها(8/348)
وقد تكون مع التمييز بينهما إلا إذا صارا متماثلين مثل حبتي الحنطة فهذا لا تمييز بينهما وهو سبحانه وتعالى قال في القرآن إنه متشابه أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والصدق فالتمييز حاصل مع ذلك وكذلك قوله تعالى وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة 25] والعرب تقول من أشبه أباه ما ظلم والتمييز حاصل بينه(8/349)
وبين أبيه وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالولد للفراش وصاحب الفراش زمعة أبو سودة بنت زمعة أم المؤمنين قال(8/350)
النبي صلى الله عليه وسلم واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه البين بعتبة وعتبة هذا هو ابن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنه فهذا شبه بيّن مع أنهم كانوا يفرقون بين هذا وبين عتبة ابن أبي وقاص وهو الذي ادعاه من فجور قال لأخيه سعد بن أبي وقاص انظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني فاختصم فيه سعد وعبد بن(8/351)
زمعة صحاب الفراش سيد الأمة الذي كان يطؤها وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما في القضاء اعرف الأشباه والنظائر وفسر الأمور برأيك فهو يعلم أن هذا يشبه هذا مع تمييزه(8/353)
بينها ويقال هذا أشبه بهذا من هذا فكل منهما يشبهه وأحدهما أشبه مع التمييز بين الثلاثة وقوله تعالى كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] مع حصول التمييز بينها وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال فهذا تشبيه مع(8/354)
وجود الفرق والتميز ومثل هذا كثير لكن قد يحصل الاشتباه على بعض الناس بحيث لا يميز بينهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فهذا دليل على أن بعض الناس يعلمها ويميز منها الحلال من الحرام وإن كان غيره لا يمكنه ذلك فالمشتبهات قد يعلم الفروق بينها بعض الناس دون بعض وهذا الموضع ينبغي تحقيقه فإنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن كله بأنه محكم في عدة آيات كقوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود 1] وقوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس 1] وقوله تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان 1-2] وقوله تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) [آل عمران 58] كما وصفه بأنه بيان وبأنه مبين في مثل قوله تعالى رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 11] ووصفه بأنه مبين في قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) [النمل 1] وقوله تعالى تِلْكَ(8/355)
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر 1] ووصفه بأنه جعله عربيًّا ليعقلوه ووصفه بأنه بصائر وبيان وهدى للناس ونحو ذلك مما تقدم ذكره وهذا يعم جميع القرآن فعلم أن الآيات التي قيل فيها وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7] هي أيضاً محكمات مبينات وهي بيان وهدى وبصائر لكن اختصت بتشابه لم يكن في المحكمات وكذلك اختصت المحكمات بأحكام أخر غير الأحكام المشتركة وأما المتشابه فإما أن يراد به أنها في نفسها متصفة بالتشابه بحيث هي متشابهة في نفس الأمر وعلى كل أحد إما أن يقال تشابهت على بعض الناس فالتشابه أمر إضافي وإذا أريد هذا المعنى الثاني فكل كلام في الوجود قد يشتبه على بعض الناس لنقص علمهم ومعرفتهم لا لنقص في نفس الكلام الذي هو في نفسه متشابه ومما يوضح هذا أن كل من لم يكن له خبرة بكلام شخص أو طائفة بما يريدونه من تلك الألفاظ إذا سمعها تشتبه عليه ولا يميز بين المراد منها وغيره بل قد يظن المراد غير(8/356)
المراد مثل من يسمع كلام أهل المقالات والصناعات قبل أن يخبر مرادهم ومن هذا الباب أن كثيراً من الجهال وأهل الإلحاد يشتبه عليهم ما هو من الآيات المحكمات وإن كان بعض الملحدين يعرف أنه يكذب وكثير منهم التبس عليه الأمر وظن صدق ما قالوه مثل قول من يفسر مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) [الرحمن 19] بعلي وفاطمة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين لأن اسم البحر يراد به العالم وهذا(8/357)
اسم الحسن فكأن دمعه كاللؤلؤ والحسين(8/358)
قيل كأن دمعه كالمرجان وفسر قوله تعالى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس 12] بأنه علي لأنه إمام معصوم مبين للعلوم واعرف بعض طلبة العلم قرأ قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف 31] وظن أنهما المكان الذي يسمى بالقريتين من أرض الشام وبعض الناس فسر ذات العماد بدمشق لما فيها من العمد ومعلوم أن هذا باطل فإن هادًا لم يكونوا بالشام بل باليمن وهودًا إنما أرسل إليهم فقد قال تعالى بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) [الفجر 6-7] قد نقلوا هذا في كتب التفسير عن عكرمة وابن المسيب وعن(8/359)
القرطبي أنها الإسكندرية فإنها كثيرة العمد أيضا فهذا قد اشتبه على طائفة من العلماء مع أنه من الآيات المحكمات فإنه تعالى قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) [الفجر 6-7] وقد ذكر الله تعالى عاداً في موضع آخر وأنه أرسل إليهم هوداً وانه أنذر قومه بالأحقاف أحقاف الرمل وهذا كله مما علم بالتواتر أنه كان باليمن وقد صار مثل هذا يجعل أحد الأقوال في تفسير الآية مع أن الذين قالوه من علماء السلف قد يكونون أرادوا التمثيل وان دمشق والإسكندرية ذات عماد ليعرف معنى ذات العماد وإلا فلا يخفى على أدنى طلبة العلم أن عاداً كانوا باليمن وهذا كما روي عن حفصة في قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل 112] أنها(8/360)
المدينة وهي جعلت المعنى موجوداً فيها وكذلك قالت طائفة من العلماء في قوله تعالى كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد 43] وقوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] ونحو ذلك أنه عبد الله بن سلام أو هو ونحوه ممن أسلم بالمدينة وهذا مما أحكمه الله فإن هذه الآية نزلت بمكة قبل أن يعرف ابن سلام فضلاً عن أن يسلم ولأنه قال على مثله وأراد شهادة أهل الكتاب على مثل(8/361)
القرآن وهو شهادتهم بما تواتر عنهم من أن الرسل كانوا رجالاً وأنهم دعوا إلى التوحيد وأخبروا بالمعاد فإن المشركين كانوا ينازعون في هذا وهذا وأهل الكتاب ينقلون بالتواتر عن الرسل المتقدمين ما يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم ويكذب المشركين وهذا غير الشهادة المختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد ظن طائفة أن العرش هو الملك مع أن الله تعالى قد أحكم ذلك وبين العرش وأنه مغاير للسموات والأرض في غير موضع كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] وقوله قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) [المؤمنون 86] بعد قوله تعالى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا [المؤمنون 84] وقوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر 7] وقوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] ووصف العرش بأنه عظيم وأنه كريم وأنه مجيد إلى أمثال ذلك من الدلائل المبينة للمراد وأنه ليس هو الملك(8/362)
وطائفة اشتبه عليها ففسروا الكرسي بالعلم مع أن هذا لا يعرف في اللغة البتة والله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علما فلا يختص علمه بالسموات والأرض والمقصود بيان عظمة الرب سبحانه وهو بكل شيء عليم ويعلم ما كان وما يكون فليس في تخصيص علمه بالسموات والأرض مدح ولا لهذا نظير في القرآن فالرب لا يذكر اختصاص علمه بذلك قط وهذا وإن كان من رواية جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فالثابت عن ابن عباس من رواية الثوري عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير خلاف هذا(8/363)
وقال الكرسي موضع القدمين وتنازع الناس في الكرسي هل هو العرش أو دون العرش(8/364)
أقرب من هذا فإن هذا له اتساع في اللغة وأما تسمية العلم كرسيّا فهذا لا يعرف في اللغة ولكن بعضهم تكلف له من قولهم كراس والكرَّاس غير الكرسي فإن قُدِّر أن يسمى الكرسي كرّاساً فهو الكتاب فيكون التقدير وسع كتابه السموات والأرض وهذا أبعد من لفظ العلم فإن كتابه ما فرط فيه من شيء وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [يس 12] والاشتباه الإضافي ليس له ضابط أصلاً فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة والخواطر البالية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله وقال الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق كذا فيقول الله حتى يقول من خلق(8/365)
الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله وحده أو قال فليستعذ بالله وينته في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا الله خلق كل شيء فمن خلق الله قال أبو هريرة قد سألني اثنان وهذا الثالث وكذلك اشتباه معنى الكلام فقد ذهبت الملاحدة الإسماعيلية ونحوهم إلى تأويل الصلاة والصيام والحج(8/366)
بأن الصلاة معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج هو السفر إلى شيوخهم المقدسين وهذا وإن كان بعضهم يعلم أنه متعمد للكذب في ذلك فكثير من عوامهم راج ذبك عليهم وظنوه حقًّا وانه من العلوم الباطنة المكتومة التي لا يعرفها إلا الخواص وان هذا من المحكم ومعلوم أن قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 97] وقوله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة 158] هو البيت الذي بمكة وان الحج هو الحج المعروف وكذلك الصيام قد بين أنه صوم شهر رمضان وشهر رمضان هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وصيامه الصيام المعروف وعند طائفة كبيرة من النصيرية أن رمضان اسم لعدد من شيوخهم وهم يعتقدون ذلك وطائفة ظنت قوله تعالى وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) [الطور 44] هو شخص من الغلاة زعم أنه(8/367)
ينزل من السماء وآخرون ظنوا أن قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل 82] أن الدابة اسم لعالم ينطق بالحكمة وادعى ذلك غير واحد وطائفة ظنوا أن موسى والسحرة صدّقوا فرعون في قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) [النازعات 24] وأن موسى رضي بعبادة العجل وأقرهم على ذلك وأنكر على هارون كونه أنكر عليهم وقالوا إن قوله تعالى مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا(8/368)
نَارًا [نوح 25] أن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وأن أهل النار لا يتألمون في النار بل العذاب مشتق من العذوبة فيجدونه عذباً وإن عاداً لما جاءتهم الريح التي فيها العذاب أحسنوا ظنهم فكان فيها روحهم وفيها ما يستعذبونه وأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) [البقرة 6] المراد به خواص أولياء الله الذين أسروا علم الحقيقة فسواء عليهم أأنذرتهم بالشريعة أم لم تنذرهم لا يؤمنون بها لأنهم قد عرفوا الحقيقة فلم يقبلوا ما يخالفها وهذه التفاسير وأعظم منها موجودة في كتبٍ يُعظَّمُ مصنفوها ويُجعلون أفضل من الأنبياء ويجعلون معرفة هذه التأويلات للقرآن هي من خواص علم أولياء الله تعالى ومعلوم أن الآيات التي اشتبهت عليهم قد أحكمها الله غاية الإحكام وبين مراده الذي عرفه الخاص والعام قال تعالى فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج 46] وقال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ(8/369)
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) [الجاثية 23] وقال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام 111] وكذلك طائفة تأولت الشمس والقمر والكواكب بأن المراد بها ما بيّنه بعض الفلاسفة من العقل والنفس وطائفة تأولت جبريل بأنه خيال يكون في نفس النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى يقول إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) ثم قال وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) [التكوير 19-23] فأخبر أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وقال إن الرسول رآه بالأفق المبين وقال في الآية الأخرى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)(8/370)
[النجم 5-9] إلى قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 13-18] فهذا الخبر فيه من الإحكام والإتقان والبيان الذي يمنع أن يكون جبريل في باطن النبي ما يطول وصفه وهذا ظن كثير من الفلاسفة ومن دخل معهم ممن يدعي التحقيق والمكاشفة من الصوفية ويدعي أنه أعلم من الأنبياء ومن هؤلاء من يظن أن فرعون مات على الإيمان وأنه لا يعذب في الآخرة ومنهم من يقول إن غرقه كان ليغتسل غسل الإسلام ويحتجون بقوله تعالى فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 98] قالوا فأوردهم وما دخل وهذه الآية اشتبهت على هؤلاء وعلى غيرهم حتى إنه لما ذهبنا إلى مصر وكان في شيوخهم من يقول هذا وصار لهم جاه سأل بعض ولاة الأمر لمن هو قاضي القضاة عن ذلك فقال ما في القرآن ما يدل على أنه كافراً(8/371)
ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من دين المسلمين واليهود والنصارى والقرآن مملوء من الدلالات على ذلك نحوٍ من أربعين موضعا يبين عذابه في الدنيا والآخرة وأيضاً قوله فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 98] يدل على ذلك وأيضا فإنه قال يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ [هود 98] وإذا كان هو قادمهم فما دخلوا حتى دخل قبلهم ولو قُدّر أن هذه الآية لم تدل فقد دل غيرها ومما اشتبه عليهم أنه قال أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر 46] قالوا وفرعون ليس هو من آل فرعون وهذا الاشتباه من جهلهم بلسان العرب لا من عدم إحكام آيات الله تعالى بل قد أحكمها وقول القائل آل فلان يتناول نفسه ومن يؤول إليه كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) [آل عمران 33] وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) [الحجر 61-62] وقوله تعالى إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) [القمر 34-35] وقوله(8/372)
تعالى إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ [الحجر 58-60] فلوط نفسه داخل في آل لوط وكذلك قول المصلي اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وهذا اللفظ في الصحيحين وهو أصح من غيره(8/373)
وقوله صلى الله عليه وسلم للحسن إن الصدقة لا تحل لآل محمد وقول عبد الله بن أبي أوفى كان القوم إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بصدقتهم دعا لهم وإن أبي أتله بصدقته فقال اللهم صلِّ على(8/374)
آل أبي أوفى وذلك أن الآل ما يؤول إلى الشخص ولا يضاف هذا الاسم إلا إلى معظم يكون آيلاً وسائسا لغيره(8/375)
وأول من يؤول إلى الشخص هو نفسه وقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال 41] ومعلوم أن الغنيمة ما أخذ من الكفار بالقتال ومكاسب المسلمين بالتجارة والصناعة لا تسمى غنيمة ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه يأخذون خمس مكاسب المسلمين وقد ظن بعضهم أنها غنيمة وخمسها وخص بالخمس طائفة معينة وهذا باب واسع وإذا عرف أن الاشتباه الإضافي قد يحصل لبعض الناس فالكلام وإن كان في غاية البيان والإحكام كان كل آية وإن كانت محكمة مبينة قد تشتبه على بعض الناس وعلى هذا فيكون قوله تعالى مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7] أن الآيات المحكمات لا تشتبه على أولئك بل هي أصل الكتاب الذي عرفوه بل اشتباه وأخر متشابهات عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند وغيره إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتهم به فكلوه إلى عالمه(8/376)
فما علم الإنسان كان عليه أن يتبعه ويأتم به فهو في حقه إمام يأتم به وما جهل منه كالذي يشتبه عليه ولا يعرف معناه فإنه يكله إلى عالمه كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال أيها الناس من علم علماً فليقل به ومن لم يعلمه فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم وإن الله تعالى قال لنبيه قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) [ص 86] وهذا(8/377)
التشابه لا ينفي تشابه بعض الآيات في أنفسها فلفظ إنّا ونحن فيه اشتباه لكن ذاك التشابه مقرون بالإحكام فإن الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه قلم يكن كرر لفظاً مما يشبه لفظاً مع اختلاف تعيينهما إلا وقد بين مراده وأحكمه بحيث صار بيناً محكماً مع ما فيه من الاشتباه وذلك الاشتباه لا يمنع كونه مبيناً محكماً وإن كان الراسخون في العلم يعلمون معناه وتفسيره دون غيرهم وهذا هو التشابه المعين وأما التشابه المطلق فهذا عارض لبعض الناس لنقص(8/378)
فهمهم وعلمهم والذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ولو كانوا أصحاء لابتغوا ما تبين لهم ولم يكن فيه اشتباه فعلموا به وما اشتبه عليهم إن أمكنهم أن يردوه إلى المبين لهم وإلا قالوا الله تعالى أعلم وهذا معنى قولهم يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه فإن الآيات الخبرية تتضمن عملاً محبة لله وخوفاً منه وتوكلا عليه ورجاء رحمته وخوفاً من عذابه واعتباراً بما مضى وغير ذلك من أنواع العمل وكلا النوعين التشابه العارض لبعض الناس والمعين لا يتصور أن يخلو منهما خطاب ولو كان في غاية البيان والفصاحة فلا خطاب أبين وأفصح من القرآن ولكن هذا من ضرورة نقص بني آدم فإنه ليس كل أحد يمكنه فهم كل كلام بل سبحان من يسر القرآن للذكر كما يسره للحفظ فيسر حفظه وفهمه أعظم مما يقع في نظائره وإلا فالكتابان المتقدمان التوراة والإنجيل لا يحفظان ولا يفهمان عشر عشر حفظ القرآن وفهمه وما صنفته الناس من العلوم أقل حفظاً وفهما من الكتب المنزلة فإن العناية بها أعظم وحرمتها في القلوب أعظم(8/379)
وبهذا يحصل الجواب عن قول من قال لِمَ نُزِّلَ المتشابه وهذا التشابه الناشئ من نقص المستمع ونقص فهمه وعلمه وبه يحصل الجواب على ما ذكره الرازي من تقسيم المحكم والمتشابه فإنه ذكر أن كل طائفة تجعل ما تذهب إليه محكماً وما يذهب إليه مخالفوها متشابهاً ثم جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي لا صفة في الخطاب وكونه في نفسه قد أحكم وبُيِّن وفُصِّل مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جُوّز وقوعه في الجملة لا يخرجه عن كونه متشابهاً ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العلميات فلم يبق على قوله لهذه الآية مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران 7] معنى بحيث يرد التشابه إليها ولكن المردود إليه هو العقلي فما وافقه أو لم يخالفه فهو(8/380)
المحكم وما خالفه فهو المتشابه وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب على رأي الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق فخاطبهم بالتجسيم مع علمه أنه باطل وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد وقالوا خاطبهم أيضا بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر(8/381)
فصل قال الرازي وأما في عرف العلماء فاعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير المحكم والمتشابه وكتب من تقدمنا مشتملة عليهما والذي عندي فيه أن اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى إما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى أو لا يكون فإن كان موضوعاً لمعنى ولم يكن محتملاً لغيره فهو النص وإن كان محتملاً لغيره ذلك المعنى فإما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون بل يكون احتماله لهما على السوية فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على احتماله للآخر كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً(8/382)
فخرج من هذا التقسيم أن اللفظ إما أن يكون نصًّا أو ظاهراً أو مجملاً أو مؤولاً فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من النقيض والظاهر راجح غير مانع من النقيض فهذا القدر هو المسمى بالمحكم وأما المجمل والمؤول فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ غير راجحة إلا أن المجمل لا رجحان فيه بالنسبة إلى الطرف الآخر والقدر المشترك وهو عدم الرجحان بالنسبة إليه هو المسمى بالمتشابه لأن عدم الفهم حاصل فيه هذا الكلام عليه استدراكات كثيرة أحدها أنه مناقض لما فسّر به المحكم والمتشابه عقيب هذا الفصل فإنه ذكر في الفصل الذي بعده أن المتشابه(8/383)
ما عارضه الدليل العقلي القاطع وما لم يعارضه دليل قاطع عقلي فهو المحكم وقال لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح إلا عند قيام الدليل القاطع أن ظاهره محال ممتنع وإذا كان كذلك فما عارضه الدليل العقلي وجب تأويله وإن قيل هو نص أو ظاهر لاسيما وهو يقول الأدلة اللفظية ليس فيها قاطع فلا نص عنده ويكون عنده متشابهاً من القسم المؤول وما لم يعارضه عقلي فهو محكم يكون إما نصًّا وإما ظاهراً وحينئذ فالمجمل الذي يحتمل المعنيين على السواء هو لا يدل على أحدهما بعينه فلا يتصور أن يعارضه العقل فيكون محكماً وقد جعله هنا من المتشابه والاحتمال المرجوح إن لم يوافقه العقلي القاطع لم يجز حمل اللفظ عليه وإن خالف أدلة سمعية أقوى منه مع كونه مرجوحاً والظاهر بضد ما ذكره هناك لا نص ولا مجمل بل إما ظاهراً وإما مؤولاً وهذا يناقض تقسيمه إلى(8/384)
الأربعة الثاني أن تفسيره المحكم بالنص والظاهر والمتشابه بالمجمل والمؤول معروف م قول طائفة من أهل العلم وقد ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأنه قال المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان والمتشابه ما احتاج إلى بيان فليس تفسيره بذلك مما اختص به لكن هو يتناقض بخلاف أولئك الثالث أنه جعل مورد التقسيم اللفظ الموضوع لمعنى إما أن يحتمل غيره أو لا يحتمل ومعلوم أن اللفظ قد يكون محتملاً في الوضع مثل أن لفظاً مشتركاً مختصًّا كلفظ سهيل والثريا إذا أريد بهما الكوكبان والزوجان من قول الشاعر(8/385)
أيها المنكح الثريا سهيلاً فإن سهيلاً كثيراً ما يسمى به الرجل والثريا تسمى به المرأة وكذلك من أسماء الأعلام كلاب ومرة وكعب ولؤي وأمثال ذلك من الأعلام المنقولة وهذه مشتركة بين ما سميت به وبين ما نقلت منه وهو اشتراك لاختلاف الوضع ومثل هذا الاشتراك لا ينكره عاقل مع احتماله في الوضع(8/386)
فالمستعمل له إما مستعملاً بقرينة لفظية تبين المراد مثل قولنا سهيل بن عمرو وكلاب بن مرة فإن هذا الرجل لا يحتمل الكوكب ولا الكلاب جمع كلب وقوله الثريا كواكب صغار وسهيل هو الكوكب الذي يطلع في الشمال قريباً من القطب الجنوبي نص في الكوكب لا يحتمل إلا معنى واحداً وكذلك سائر الألفاظ فيجب الفرق بين الاحتمال في نفس الوضع وبين الاحتمال في نفس استعمال المتكلم ودلالة المخاطب على المعنى المراد وفهم المخاطب واستدلاله على المراد وحكمه إياه على المراد والمقصود من(8/387)
الكلام هو الدلالة في الاستعمال وإذا قدر وضع متقدم فهو وسيلة إلى ذلك وتقدمة له وحينئذ فاللفظ لا يكون غير نص ولا ظاهر لكونه في الوضع محتملاً لمعنيين وهو في الاستعمال نص في أحدهما فتبين أن ما ذكره من الأسماء والأحكام مما ذكره في الأقسام ليس كما ذكره فإنه جعل كل ما كان موضوعاً لمعنى محتمل بغيره ليس بنص والموضوع لمعنيين على سبيل البدل وهو المشترك بنص مع أنه في عامة الكلام يكون نصًّا في المراد لا يحتمل غيره كقوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران 110] وقوله تعالى إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام 38] وقوله تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ [الرعد 30] وقوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة 134] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم وأمثال هذه الكلمات فيها لفظ الأمة نص في(8/388)
الصنف من الناس أو من الدواب وإن كان لفظ الأمة يراد به الملة والقدوة الذي يؤتم به ويعلم الخير(8/389)
في مثل قوله تعالى وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون 52] وقوله تعالى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل 120] فاللفظ في الوضع يحتمل أكثر من(8/390)
معنى واحد ولكن لما ذكر في الكلام المؤلف كان اقترانه بما ذكر معه يوجب أن يكون نصًّا لا يحتمل إلا معنى واحداً وكذلك لفظ الإمام في مثل قوله تعالى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) [الحجر 74-79] وهذا نص في أن الإمام المبين هو الطريق الواضح كما قال جمهور أهل العلم قال ابن قتيبة قيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقد قال ابن الأنباري وإنما أي لوطاً وشعيباً لبطريق من الحق يؤتم به وقيل وإنهما لفي كتاب مبين وهذان القولان وإن كان كل شيء على طريق مستقيم وكل شيء أحصاه الله عز وجل في الإمام المبين وهو اللوح(8/391)
المحفوظ لكن هذان القولان في تفسير هذه الآية إما مرجوحان وإما باطلان وبكل حال فاللفظ لا يحتمل الإمام من الناس بخلاف قوله تعالى لإبراهيم إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة 124] وقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء 73] ونحو ذلك فإنه نص في ذلك لا يحتمل غيره ومثل هذا كثير يكون اللفظ إذ جرد محتملاً لمعان فإذا أكد ونطق به مع غيره يعين بعض تلك المعاني فلم يحتمل غيره فهذا نص وإن كان موضوعاً لمعنى الوجه الرابع أن يقال الكلام إما أن يدل بمجرده وهو الذي تسميه حقيقة وإما أن لا يدل إلا مع القرينة وهو المسمى المجاز وهذا لا يكون المتكلم به مريداً لمعناه إلا مع القرينة وحينئذ فاللفظ في الحال الأول لا يحتمل إلا الحقيقة وفي الثانية لا يحتمل إلا المجاز فما بقي لفظ مستعمل يحتمل معنيين في نفس الأمر الوجه الخامس قوله إن اللفظ إذا احتمل معنيين كان بالنسبة إلى كل منهما مجملاً وبالنسبة إليهما مشتركاً وحصر(8/392)
الألفاظ في النص والظاهر والمجمل والمؤول فيقال له المجمل قد لا يكون مشتركاً بين معنيين بل يكون عديم الدلالة على أحدهما لقوله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام 141] وقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة 103] وقوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج 77] وقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) [الحج 29] وقوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة 196] فإن لفظ السجود ليس مشتركاً بين واحدة وبين ثنتين وثلاث وأربع ولا لفظ الطواف مشتركاً بين أعداد معينة ولا لفظ الفدية مشتركاً في الصيام بين أيام معينة بل هذه الألفاظ لا تدل بمجردها على شيء معين من المقادير فهي مجملة فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إن السجود سجدتان والطواف سبع والفدية من الصيام صيام ثلاثة أيام ونحو ذلك كان هذا تفسيراً لمجمل القرآن باتفاق العقلاء مع أن المجمل ليس بمشترك الوجه السادس قوله إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون بل هو يحتملهما على السوية(8/393)
فيقال له هذا التساوي والترجيح متى يكون إما أن يكون في الوضع وإما أن يكون في الاستعمال فأما كونه في الوضع فلو كان حقًّا لم يقترن به شيء إذ المقصود دلالة اللفظ على المعنى وهذا إنما يكون باستعماله فيه لا بمجرد وضع متقدم فكيف وتقدير وضع غير الاستعمال مما لم يقم عليه دليل وأيضاً فالوضع لكل منهما إما أن يكون مع التجريد وإما أن يكون مع التقييد والأول ممتنع إلا من واضعين وحينئذ فالمخاطب إن كان قد عرف منه أنه لا يتكلم إلا بوضعه الذي هو لغته وعادته فإنه لا يحتمل إلا ذلك المعنى وإن كان يتكلم بهذا تارة وبهذا تارة صار من القسم الثاني وهو أنه لا يكون موضعاً لأحدهم إلا مع التقييد المعين له ومع التقييد لا يدل على غيره فلم يبق للفظ المستعمل حال(8/394)
يحتمل فيها معنيين على السواء الوجه السابع أن احتمال المعنيين إما أن يكون بالنسبة إلى عناية المتكلم وإرادته وإما أن يكون بالنسبة إلى فهم المستمع وتصوره والأول باطل فإن المتكلم الذي عنى باللفظ معنى لا يكون ذلك المعنى وغيره بالنسبة إليه سواء بل ولا يحتمل اللفظ بالنسبة إليه إلا ما عناه وأراده به لا يحتمل غير ذلك وإن كان بالنسبة إلى المستمع فهذا قد يكون لقصوره وعجزه ونقصه عن فهم اللفظ وأما إن اقترن به ما يدل على مراد المتكلم فلا يكون كلام المتكلم يحتمل معنيين لا على التساوي ولا على الترجيح وإذا كان كذلك فهذا ممكن بل واقع في جميع الألفاظ وكل خطاب قد يكون المستمع لنقصه لم يفهم المراد بل هو وغيره محتمل على السواء أو أحدهما راجحاً وعلى هذا فبقي كونه نصًّا(8/395)
وظاهراً ومجملاً ومؤولاً بالنسبة إلى شخص دون شخص فمن عرف المراد جازماً به لا يحتمل غيره عنده فهو عنده نص ومن ظهر له معنى وجوَّز غيره فهو عنده ظاهر ومن كان هو وغيره عنده سواء في الاحتمال فهو مجمل عنده ومن كان المراد عنده هو الاحتمال المرجوح فهو عنده مؤول فهذه تقسيمات بالنسبة إلى فهم المستمعين ليس تقسيمات للفظ بالنسبة إلى عناية المتكلم ولا دلالة المستمع وعلى هذا فكل كلام عنى به صاحبه معنى صحيحاً ودل عليه فهو محكم وإن كان متشابهاً عند من لم يعرف دلالته ولا يكون هذا التقسيم صفة لازمة للكلام بل يجب أن يكون بعضه لا يكون إلا محكماً وبعضه لا يكون إلا متشابهاً الوجه الثامن أنه إذا كان المتشابه هو المجمل والمشترك وكلاهما لا يفهم منه المراد ولا يدل عليه لم يكن واحد منهما بياناً ولا هدى ولا مبيناً ولا يعلم أنه المراد وقد(8/396)
تقدم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى وبيان ومبين ونحو ذلك من الأسماء فدل على أنه ليس فيه هذا الذي جعله متشابهاً وهو المجمل والمشترك والمؤول بخلاف المجمل الذي يدل على جنس الحكم دون قدره أو وصفه فإن ذلك دل على ما أريد به فهو هدى وبيان له ولكن ثم أمور أخرى لم يدل عليها وليس كل لفظ يدل على كل شيء بخلاف المشترك الذي لا يدل على المراد فإنه لا يحصل به هدى وبيان وما ذكر يدل على أنه ليس في القرآن لفظ يحتمل معنيين على السواء لم يبين المراد به ولا لفظ يحتمل المراد به احتمالا مرجوحاً ولم يبين المراد به بل لابد أن يقترن به ما يبين المراد فيصير المراد هو الذي يدل عليه اللفظ مع تلك القرينة ولا يكون حينئذ مرجوحاً بل ظاهراً أو مقطوعاً به(8/397)
فإن قيل القرينة هي الدليل العقلي الدال على امتناع إرادة المعنى الباطل قيل أولاً هذا لا يدل على معنى اللفظ المراد به وإنما دل إن دل على امتناع إرادة معنى آخر والدلالة على نفي غير المراد ليست هي الدلالة على المراد فقد يعلم بأدلة عقلية وسمعية انه لم يرد معنيين وإن لم يعلم مراده واللفظ الذي تكلم به لابد أن يدل على المراد إما بمجرده وإما مع القرينة فإن لم يدل لم يكن من الكلام المستعمل إذ لابد من مغنى أريد به وحينئذ فإذا كان المجمل والمتشابه كلاهما لا يدل على المراد ولا يفهم منه لم يكونا من أقسام الكلام ولاسيما ولهم قولان أحدهما أن معنى المتشابه غير معلوم فلا يكون اللفظ قد دل على المراد والثاني أنه يحتمل أموراً متعددة ولا يجزم بواحد منها والمراد على هذا التقدير غير معلوم فدل على أنه لم يدل القرآن على مراد الرب سبحانه وتعالى لا بنفسه ولا مع قرينة وهذا القول من جنس قول من يقول لا معنى له أو له معنى لا يمكن العلم به وقد عرف فساد هذا وهو من جنس أقوال الملحدين(8/398)
لا المؤمنين الموحدين وهؤلاء وإن قالوا إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله فهم عند أنفسهم ليسوا من الراسخين في العلم لا يعلمون المراد ولا يجزمون به بل إما أن لا يعلموه ولا يظنوه وإما أن يظنوه أحد معانٍ متعددة وليس ذلك علماً به ولا ظنًّا بعينه وغايتهم أن يعينوا معنى يظنونه ويرجحونه أو لا يعرفون غيره وهذا ظن ليس بعلم فعلى كل تقدير لم يعلموا تأويله فلم يكونوا من الراسخين وكيف يكونون من الراسخين والراسخ الثابت يقال رسخ رسوخاً إذا ثبت وهذه صفة من يثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وهؤلاء أهل شك وريب واضطراب(8/399)
لا أصحاب رسوخ وثبات ويقين بل قد يدعون اليقين بنقيض وليس عندهم فيه إلا الشك والحيرة أعظم من حيرتهم في معاني القرآن كما صرحوا بذلك وكما هو مبسوط في موضعه الوجه التاسع أنه إذا كان المجمل والمؤول كل منهما لم يدل على المراد ولم يفهم منه المراد بل هما مشتركان في عدم الفهم للقدر المشترك وهو هذا العدم تشابها فيقال له لا تشابه هنا إلا التشابه الإضافي وهو كون المستمع اشتبه الأمر عليه فلم يعرف المراد لا أن هنا لفظين تشابها وإنما يكون اللفظان المتشابهان إذا كان اللفظ يستعمل تارة في معنى وتارة في معنى آخر وإن كان مع القرينة فهذا تشابه فيكون القدر المشترك هو أن اللفظ يستعمل في المراد وفي غير المراد الذي لم يظهر منه المراد ليس القدر المشترك عدم الرجحان وهو المسمى بالمتشابه بل التشابه أمر ثبوتي وهو كون كل منهما يستعمل في المراد وفي غير المراد فقد اشتبه(8/400)
دلالته على المراد بدلالته على غير المراد لا أن هذا العدم هو الاشتباه وقد قيل أو قاله في موضع آخر إن ذلك يسمى متشابهاً إما بأن الذي لا يعلم يكون النفي عنده مشابهاً للإثبات في الذهن وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فأطلق لفظ التشابه على ما لم يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فيقال النفي لا يشتبه بالإثبات إلا لاشتباه دليل هذا بدليل هذا وإذا عدم دليل كل منهما حصل في النفس شك والاشتباه أخص من الشك فليس كل من شك يكون هناك ما اشتبه عليه وإنما يكون الاشتباه إذا وجد ما بينهما تشابه وكذلك عدم العلم لا يسمى عدم كل علم تشابهاً ومن لم يتصور المسألة ولم يعرفها هو جاهل بها ولا يقال اشتبه عليه ومن لم يسمع الكلام لم يعرف مراد المتكلم ودلالة الكلام ولا يقال اشتبه عليه فإن الاشتباه أخص وإنما يكون الاشتباه عند وجود قدر مشترك حصل بسببه الاشتباه كمن رأى شيئاً من بعيد واشتبه عليه هل هو حيوان أو غيره ومن رأي شيئاً في السماء واشتبه عليه هل هو الهلال أو غيره وأمثال ذلك والله تعالى أعلم(8/401)
فصب قال الرازي واعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فهو هنا يتوقف الذهن مثل القرء بالنسبة إلى الحيض والطهر وإنما الصعب المشكل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحا في الآخر ثم إن الراجح يكون باطلاً والمرجوح حقًّا مثاله في القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف 28] ردًّا على الكفار فيما حكى عنهم وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا(8/402)
[الأعراف 28] وكذلك قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 67] قال وظاهر النسيان ما كان ضد العلم ومرجوحه الترك في قوله تعالى فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر 19] ومحكمه قوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وقوله تعالى لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] قال فهذا تلخيص الكلام في تفسير المحكم والمتشابه وبالله التوفيق وعلى هذا استدراكات أحدها قوله إن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فهنا يتوقف الذهن فيقال استواء المفهومين إن كان مع إرادتهما فاللفظ علم شامل وإن كان مع إرادة أحدهما فالاستواء إما أن يكون لاستواء دليلهما بحيث لا يختص المراد بما يدل عليه بل يكون الدليل على المراد وغير المراد سواء وإما أن يكون الاستواء في ذهن المستمع لكونه لم يعرف رجحان دليل المراد وهكذا توقف(8/403)
الإنسان في سائر العلوم ومعرفة الأحكام الشرعية إنما يكون لانتفاء الدليل المرجح للحق في نفس الأمر فتكون الأدلة متكافئة في نفس الأمر ويكون على كل واحد منهما دليل وإما أن يكون التكافؤ في ذهن الناظر لكونه لم يعرف الدليل الراجح لعجزه عن معرفته أو تفريطه وتركه النظر والبحث التام فإن كان التساوي لهذا المعنى وهو قصور الناظر أو تقصيره فهذا موجود في كل كلام وفي كل دليل ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر بالنسبة إلى المفهومين على السواء بل اللفظ دل على أحدهما دون الآخر لكن المستمع الناظر لم يعرف دلالته وحينئذ فعلى هذا التقدير القرآن كله محكم قد بين المراد به وإنما الاشتباه في بعض الآيات لنقص فهم الناظر وقد أخبر الله تعالى أنه أحكم آياته وأنها مبينة وأنها هدى وأنها نور وهذا إنما يكون إذا كانت مبينة لما أراده وعناه وأما إذا كان لا فرق فيها بين المراد وغيره لا يدل على واحد(8/404)
منهما لم تكن مبينة ولا هادية ولا محكمة ولا نوراً وهذا كلفظ القرء الذي مَثّل به إن قيل إنه يستعمل في الحيض وفي الطهر ففي الآية ما يبين المراد من وجوه متعددة والأمة متفقة على هذا لم يقل أحد منهم بتكافؤ دليل هذا وهذا بل منهم من رجح دليل هذا ومنهم من رجح دليل هذا فاتفقوا على أن الشارع نصب الدليل المبين للمراد لكن إحدى الطائفتين عرفته والأخرى لم تعرفه وظنت الآخر هو المراد وهذا لا يكون إلا لدليل صحيح فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على الحق المراد لكن يكون الدليل الصحيح خفي عنها إما عجزاً وإما تفريطاً فظنت ما ليس بدليل دليلاً وإن قال بل التوقف والاستواء في نفس الأمر لانتفاء الدلالة على أحدهما في نفس الأمر أو لتكافؤ الدليلين يقال هذا ممنوع فَلِمَ قلت إن الأمر كذلك ومعلوم أن توقف الذهن قد يكون لقصوره أو لتقصيره وقد يكون لعدم(8/405)
بيان الدليل وعدم بيان المتكلم لمراده فلِمَ أحلت عدم العلم لنقص بيان القرآن دون أن تحيله على نقص فهم الأذهان مع أن الله تعالى وصفه بأنه مبين ومحكم وهدىً ونور وغير ذلك من الأسماء التي تدل على أنه تعالى قد بين به المراد ودل به العباد وهدى به إلى الرشاد وأيضا فنحن قد رأينا أكثر الناس يتوقفون في فهم آية أو يفهمون منها خف ما دلت عليه لقصورهم أو تقصيرهم كما يصيبهم ذلك في الأدلة العقلية وفي كلام العلماء فهذا ضرب من الاشتباه واقع كثيراً وأما وجود آية اشتبه فيها المراد بغيره ولم يبينوا فيها ذلك البتة فهذا مما يمتنع وجوده ولم يقدر أحد أن يقيم دليلا على وجوده بل كل ما ادعاه إن ذكرنا أنه قد بين المراد به اندفع السؤال وإن عجزنا عن ذلك أمكن أن يكون من القسم المشتبه وعدم معرفة المراد لقصورنا لا لقصور في بيان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قيل وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم(8/406)
وكما قيل عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ بأن لا تفهم البقر(8/407)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه وروى الزهري عن أنس أنه سمع(8/408)
عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية قوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) [عبس 24] ثم قال كل هذا قد عرفناه فما الأبّ ثم رقص عصا كانت بيده فقال هذا من باب التكلف وما عليك أن لا تدري ما الأبّ ثم قال اتبعوا ما بُيّن لكم في هذا الكتاب وما لا فدعوه فقوله اتبعوا ما بُيّن لكم أي ما تبين لكم وإلا فالله تعالى قد بينه كله لكن قد يخفي لعض ما فيه على بعض الناس وعمر خفي عليه الأبّ كما خفي عليه الكلالة(8/409)
وقد عرفه غيره من الصحابة ومن بعدهم كما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال الأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس وفي رواية عكرمة عنه قال الأبّ الحشيش(8/411)
للبهائم وكذلك عن سعيد بن جبير وأبي مالك ومجاهد قالوا الأبّ الكلأ قال مجاهد الفاكهة ما يأكل الناس وعن عطاء قال كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبّ وعن الضحاك كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة وذكره غيره عن عكرمة قال الفاكهة ما يأكل الناس والأبّ ما يأكل البهائم ومثله عن قتادة قال الفاكهة لكم(8/412)
والأبّ لأنعامكم وهذا قول اللغويين قاطبة قالوا الأبّ المرعى قال الجوهري وغيره الأبّ المرعى وقال الزجاج هو جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية وعلى قول الضحاك قد يقال إنه يدخل فيه سائر النبات غير الفاكهة وبعضهم يقول ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس والأنعام والأول هو المعروف عند جمهور السلف وأهل اللغة فإن قيل ذكر أبو الفرج فيه قولين أحدهما ما ترعاه البهائم قاله ابن عباس وعكرمة واللغويون والثاني أنه الثمار الرطبة رواه الوالبي عن ابن عباس(8/413)
قيل هذا عند غيره غلط فإن ابن أبي حاتم ذكر هذا في تفسير الفاكهة فذكر عن الوالبي عن ابن عباس وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) [عبس 31] يقول الثمار الرطبة فجعل هذا تفسير الفاكهة وهذا هو الصواب فإنه الثمار الرطبة وأما كون الأبّ هو الثمار الرطبة فهذا غلط لم يقله أحدٌ ولأجل هذا قال مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) [عبس 32] وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا التمثيل بأن خفاء بعض معاني القرآن على بعض أكابر العلماء لا يمنع أن يكون غيره قد عرفه كما يقع مثل ذلك في الحديث والفقه وقد يخفى على بعض الأكابر من الصحابة ومن بعدهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام ما يعلمه من دونهم ولهذا رجع أبو بكر وعمر وغيرهما إلى من دونهم من الصحابة في معرفة أحاديث سمعوها من الرسول وهم لم يسمعوها منه(8/414)
وإذا كان كذلك لم يكن لأحد الجزم بأن ما توقف فيه ذهنه وأذهان من هم أعلم منه فلم يفهموه أن ذلك لنقص في البيان أو لكونه لم يذكر ما يدل على المراد بل كل ذلك قد يكون لنقص علم المستمع الوجه الثاني قوله إنما الصعب المشكل أن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المفهومين ومرجوحا في الآخر ثم إن المرجوح يكون حقّا والراجح باطلاً يقال رجحان أحدهما في أصل الوضع إنما يكون إذا كان مجرداً عن القرينة كما يترجح عند الإطلاق لفظ الأسد والحمار والبحر والسيف أن المراد هو السبع والبهيمة والماء والحديد وأما إذا قيل عن خالد إنه سيف سلّه الله عز وجل على المشركين كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك(8/415)
وكما قال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة بانت سعاد التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال فيها إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول(8/416)
وقيل في أبي قتادة إنه أَسَدٌ من أُسْدِ الله كما قال فيه أبو بكر لا تعمد إلى أَسد من أُسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه(8/417)
وقال في الفرس إنه بحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس أبي طلحة إن وجدناه لبحراً فهنا لم يفهم أحد أن المراد الماء ولا الحديد ولا السبع وإذا كان كذلك فكلام(8/418)
الحكيم من الناس الذي أراد به الإفهام لابد إذا أراد غير معناه عند الإطلاق من أن يأتي بقرينة تبين بعض المراد أو قرينة تبين المراد ويصير اللفظ بها ظاهراً بل نصًّا لا يحتمل المعنى الآخر فلا يكون المعنى الآخر الذي لم يرده المتكلم راجحاً بل ولا يحتمله اللفظ وهذا هو الموجود في عامة كلام العلماء فكيف بكلام رب العالمين فالمعنى الذي أراده هو الذي جعل اللفظ دالا عليه والمعنى الذي لم يرده لا يدل عليه كلامه بل قد يكون فيه ما ينفيه وهذا كلفظ البشارة فإنه عند الإطلاق يراد به الإخبار بما يسر كقوله تعالى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة 213] ونحو ذلك ومع التقييد يراد به الإخبار بما يسوء فيقال فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران 21] وكذلك الإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالله وإذا قيد بـ غير ذلك كقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ(8/419)
الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء 51] لم يحتمل هذا اللفظ الإيمان بالله ومثل هذا كثير الوجه الثالث أن ما ذكره مبني على أن ثم وضعا للألفاظ غير الاستعمال الموجود في الكلام وهذا قد يمكن ادعاؤه في بعض الأسماء كأسماء الأعلام وأما الألفاظ الموجودة في كلام العرب التي نزل بها القرآن من ادعى أن جماعة من العرب وضعوها لأصناف قبل أن يستعملوها فيها احتاج إلى نقل ذلك ولا سبيل إليه ولو كان هذا موجودا لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولم يدّع أن اللغات كلها اصطلاحية بهذا الاعتبار إلا أبو هاشم الجبائي وما علمت أحداً قال هذا القول قبله وبسط هذا له موضع آخر الوجه الرابع الكلام على ما ميّل بع فإنه قال مثاله في القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن(8/420)
يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف 28] فيقال هب أن ظاهره أنهم أمروا بالفسق لكن قد عرف أن الأمر في القرآن نوعان أمر تكليف كالأمر بالشرائع التي بعث بها الأنبياء وأمر تكوين كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس 82] وقوله تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) [الأحزاب 38] أي مأموره وقوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 1] أي مأموره أمر التكوين الذي قدره وقضاه من إظهار الإيمان والثواب والعقاب ونصر المؤمنين وعقوبة الكافرين ومنه قوله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) [القمر 50] ونحو هذا وإذا كان الأمر نوعان فهنا إنما أراد أمر التكوين والآي نفسها وما اتصل بها قبلها وبعدها تدل على الواقع كدلالة غيرها من القرآن فإنه قال قيل هذه الآية وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ(8/421)
رَسُولًا (15) [الإسراء 13-15] فدل بهذه الآيات على أن من عمل صالحاً فلنفسه عمل ومن عمل شيئاً فعليه وانه لا يعاقب إلا بذنبه لا يحمل عليه ذنب غيره ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول وهذا المعنى مذكور في القرآن في غير موضع أنه لا يعذب أحداً ولا يهلكه إلا بذنبه وبعد إرسال الرسول إليه كقوله تعالى وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) [الشعراء 208-209] وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) [الشورى 30] وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء 79] وقوله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم 41] وقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) [القصص 59] ومثل هذا كثير وقد قال تعالى في هذه السورة وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) [الإسراء 58] فلما ذكر ما تقدم من الآيات أن كل عامل يلزمه عمله خيراً كان أو شرًّا وان هداه لنفسه وضلاله عليها وأنه لا يحمل(8/422)
عليه ذنب غيره ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول ذكر بعد هذا انه إنما اقتضت حكمته ومشيئته إهلاك قرية كيف يفعل أنه لا يعذبهم بغير ذنوبهم كما أخبر بذلك فقال تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء 16] فقد أخبر أن هذا الأمر إنما يكون إذا أراد هلاكهم وما شاء الله عز وجل كان فلابد من وقوع هلاكهم والهلاك إنما يكون بالذنوب وأمر التكليف الذي هو الأمر بالحسنات والنهي عن السيئات لا يستلزم وقوع المعصية بل قد يأمرهم فيطيعون فلا يستحقون العذاب بخلاف أمر التكوين كما قال تعالى فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) [الشمس 8] وكما قال تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم 83] وقال تعالى فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف 5] وقال تعالى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 110] وقال تعالى وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) [الأنعام 125] وفي الحديث إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن(8/423)
الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل لا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً فالمترفون من أهل القرى الذين قال فيهم الله عز وجل وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) [هود 116] وقال في أصحاب المشأمة إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) [الواقعة 45-46](8/424)
يعاقبون على ذلك بأن يجعل في قلوبهم دواعي إلى الفسق الذي يستحقون به العذاب فهذا أمر المترفين بأن يفسقوا فيها وحينئذ يحق عليهم القول فيدمرها تدميراً فقوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء 16] دل على أن هذا الأمر أريد به إهلاكهم وأمر التكليف ليس كذلك وقوله تعالى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا دل على أنه ليس أمراً عاماً وأمر التكليف ليس كذلك فالأمر بالإيمان والعمل الصالح عام لا يختص بالمترفين على أن مقصود الآية إنا لا نهلكهم إلا بذنوبهم كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء 15] فإذا أردنا إهلاكهم لم نهلكهم إلا بذنب بل يلهمهم فجورهم فيستحقون بذلك العذاب فقد تبين في نفس الآية أنه لم يرد أمر التكليف والتشريع الذي أرسل به الرسل فإنه لا يأمر أحداً بفسق ولا معصية وقد دل القرآن في غير موضع على أنه إنما يأمر بالأعمال الحسنة لا يأمر بالشر بل ينهى عن أنواع الشر وما يسمى فسقاً ويذم ذلك ويتوعد عليه كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل 90](8/425)
وقال تعالى وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات 11] وقال تعالى أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) إلى قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة 18-20] وقال تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) [الكهف 50] وقال تعالى وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام 120] وقال تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة 2] وقال تعالى إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) [المجادلة 9] ومثل هذا كثير وقد بسط الكلام على هذه الآية ونحوها في غير هذا الموضع وبين أن لفظ الأمر والإرادة والإذن والحكم والقضاء والكتاب والكلمات والتحريم والبعث والإرسال وغير ذلك ينقسم إلى ديني وكوني شرعي وقدري فالرب تعالى له الخلق والأمر وعلينا أن نؤمن بدينه وبشرعه ونؤمن بقضائه وقدره فلفظ الإرادة يكون بمعنى المحبة والرضى لما شرعه وبمعنى المشيئة لما يخلقه(8/426)
والأول هو كقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 185] وقوله مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة 6] وقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء 26] وقوله إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب 33] والثاني كقول نوح عليه السلام وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود 34] وقوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام 125] وأمثال ذلك ولفظ الإذن الشرعي كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) [الأحزاب 45-46] وقال تعالى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) [الحشر 5] وأما الإذن الكوني المحض فقوله تعالى وَمَا هُمْ(8/427)
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 102] والحكم الديني كقوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) [المائدة 1] والحكم الكوني كقوله يعقوب عليه السلام وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) [يوسف 67] والقضاء بمعنى الشرع كقوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] وبمعنى الخلق كقوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت 12] والبعث الديني كـ قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة 2] والكوني كـ قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء 5] والإرسال الديني كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) [الفتح 8] وقوله إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ(8/428)
رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [المزمل 15] والكوني وقوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم 83] وبسط هذا له موضع آخر وأما الآية الأخرى فقوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 67] وقوله تعالى قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 126] وقوله تعالى وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية 34] لا يقتضي أنه لا يعلم أحوالهم بل الأمر كما قال السلف أنهم نسوا في الخير دون الشر كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس نَسُوا اللَّهَ تركوا أنفسهم فَنَسِيَهُمْ يقول تركهم من كرامته وثوابه وفي تفسير(8/429)
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال نسوا من كل خير ولم ينسوا من الشر وهو كما قالوا فإنه من المعلوم أنهم إذا عذبوا فهو الخالق لعذابهم وبمشيئته يكون والمشيئة مستلزمة للعلم فلا يشاء إلا ما علمه بل قدر ذلك وكتبه قبل أن يكون وهو عالم به وبكل شيء بعدما يكون كما أخبر في غير موضع أنه يعلم أحوال العبد واستعمال النسيان في مثل ذلك لا يستلزم عدم العلم(8/430)
يقول القائل لمن أعطى الناس أو مدحهم أو أكرمهم أو ولاهم نسيتني فلم تفعل ما فعلت بفلان ولا يكون غافلاً بل يكون ذاكراً له لكن تركه على عمد لأنه لا يستحق ذلك ويقال لمن عاقب غيره فجعله في السجن ونحوه نسيت فلانا وهو يخطر بقلبه ويشعر به لكنه لا يذكره بخير كما يذكره غيره فإن النسيان ضد الذكر كما قال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف 24] ويقال إذا نسي ذكره أتذكر كذا أم نسيته والذكر المطلوب من الغير لا يراد به مطلق الذكر بل يراد به تذكره بخير ثناءً عليه وإما إحسانا إليه وقد يراد بلفظ الذكر الذكر بالشر والذم كقوله تعالى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) [الأنبياء 36] أي يذكر آلهتكم بالذم والعيب وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الذي يستحقه وهو الذكر بالمدح والثناء هُمْ كَافِرُونَ(8/431)
وهذا يعرف بما يقرن باللفظ فإذا ذكر من يبغض الشخص ويعاديه وقيل هو يذكره علم أنه يذكره بالشر وإذا ذكر من يحبه ويواليه وقيل إنه يذكره علم أنه يذكره بالخير وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض آلهتهم قلما قالوا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء 36] عرف أن المراد ذكرها بالشر ولما ذمهم على أنهم كافرون بذكر الرحمن علم أن المراد ما يستحقه من الذكر كما قال عز وجل وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر 45] وقال وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) [الإسراء 46] والذين نسوا الله قد كان يخطر بقلوبهم ويشعرون به ويدعونه عند الضرورة وإذا سئلوا من خلقهم قالوا الله عز وجل لكنهم لم يذكروه الذكر الذي يستحقه فلم يذكروا كتابه المنزل وأمره ونهيه وخبره كما قال تعالى في الآية الأخرى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 124-126] فالآيات كما أتته ولم يذكرها بل أعرض عنها وإن كان شاعراً بها فكان الجزاء من جنس العمل لا يذكر بما(8/432)
يذكر به المؤمنون من الجزاء بالحسنى بل ينسى فلا يذكر هذا الذكر وإن كان معلوماً لله لا يجوز أن يكون مجهولاً له وهو كما قال قتادة نُسوا من الخير لم ينسوا من الشر ومما يبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهذا الذكر هو جزاء ذكره وهو عالم به سواء ذكره أو لم يذكره ومن لم يذكر الله بل أعرض عن ذكره فإن الله(8/433)
تعالى يعرض عن ذكره بالخير وهذا نسيان له من الخير فتبين أن لفظ النسيان المضاف إلى الله لا يدل على عدم العلم ألبتة وهذا كلفظ الرؤية والسمع فإن السمع متعلق بالأقوال والقول خبر وطلب والمطلوب من سمع الخبر صدقه ومن سمع الطلب إيجابة الطالب فلهذا يعبر بالسمع عن التصديق والإجابة كقول المصلي سمع الله لمن حمده أي أجاب دعاه ولو أريد السمع المجرد أو السمع مع نقص المسموع فهو يسمع لمن حمده ولمن لم يحمده كما قال تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران 181] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] وقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك(8/434)
وقد قال الخليل إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) [إبراهيم 39] فهذا كقوله سمع الله لمن حمد أي أجاب دعاه فإنه يجيب الداعي كما قال تعالى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) [سبأ 50] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً وقال تعالى في ذم قوم(8/435)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة 42] وقال سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة 41] أي مطيعين لهم يستجيبون لهم كما قال تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] أي مطيعون لهم ويقال فلان ما سمع كلام فلان إذا كان لا يصدقه فيما يخبر به ولا يطيعه فيما يأمر ويشير وهو يسمع كلام فلان إذا كان يصدقه ويقبل منه ما يشير به وكذلك الرؤية فالنظر يراد به نظر المحبة أو الرحمة والعطف ومنه قوله تعالى وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران 77] إذ كان المحبوب والمرحوم ينظر إليه والبغيض يعرض عنه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان(8/436)
وملك كذاب وعائل مستكبر وقد قال الله تعالى للمنافقين وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة 105] وقال تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس 14] وهو يعم عمل الخير والشر وكل موضع من هذه المواضع فمع اللفظ ما يدل على المراد به ولا يستوي هذا وهذا وكذلك لفظ النسيان وغيره والنسيان المناقض للعلم قد أخبر في غير موضع بما يوجب تنزيهه عنه مثل قوله عز وجل وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) [مريم 64] وفي قوله تعالى فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] بل في نفس الصورة التي قال فيها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) [طه 126] قال تعالى لَا يَضِلُّ رَبِّي(8/437)
وَلَا يَنْسَى (52) [طه 52] فإنه أخبر أنه يوم القيامة يحاسب العباد بأعمالهم ويثيبهم بها على وجه التفصيل وهو قد أحصاها وهم نسوها قال تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) [المجادلة 6] وهو مع ذلك قد أمر الملائكة بكتب أعمالهم وهو سبحانه وتعالى الذي أنطق الأعضاء وجعلها تخبر بما كان فمن جعل الأعضاء عالمة شاهدة بما مضى كيف لا يكون هو عالم بما مضى شاهد به وهو سبحانه وتعالى لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء(8/438)
فصل قال الرازي الفصل الثالث في الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة اعلم أن هذا موضع عظيم وذلك لأن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات الموافقة لمذهب خصمه متشابهة فالمعتزلة تقول إن قول الله تعالى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29] محكمة وقوله تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] متشابهة والسني يقلب القضية في هذا الباب والأمثلة كثيرة فلابد هاهنا من قانون أصلي يرجع إليه في هذا الباب(8/439)
فنقول إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيداً وخرج القرآن عن أن يكون حجة ثم ذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيًّا أو عقليّا وأما القسم الأول فنقول هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما لإبقاء الآخر بأولى من العكس اللهم إلا أن يقال أحد الدليلين قاطع والآخر ظاهر فالقاطع راجح على الظاهر أو يقال كل واحد منهما وإن كان ظاهراً إلا أن أحدهما أقوى إلا أنا نقول أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها(8/440)
موقوفة على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وعلى عدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والإضمار وعلى عدم المعارض العقلي والنقلي وكل واحدة من هذه المقدمات مظنونة والموقوف على المظنون أولى أن يكون ظنيّا فثبت أن شيئاً م الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيًُّا وأما الآخر وهو أن يقال أحد الدليلين الظاهرين أقوى من الآخر إلا أنه على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الآخر مقدمة ظنية والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره(8/441)
محال ممتنع فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره ثم عند هذا المقام من جوز التأويل عدل إليه ومن لم يجوزه فوّض علمه إلى الله تعالى وبالله التوفيق وقال في تفسيره في تتمة هذا الفصل فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وبترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلالة اللفظية وأنها ظنية كما بينا لاسيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في(8/442)
غاية الضعف ومثل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق المتين ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلائل العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال ولا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب فيقال في هذا الفصل من التناقض والفساد والإلحاد ما الله تعالى أعلم به ولكن ننبه على بعضه فإن ما ذكره في هذا الفصل هو عمدة لأهل الإلحاد وذلك بوجوه الأول أن ما ذكره من أن كل أهل مذهب يجعلون(8/443)
ما وافق قولهم محكماً وما وافق قول خصمهم متشابهاً إنما هو لاعتقادهم أن الدليل العقلي يدل على قولهم دون قول خصمهم لا لاعتقادهم أن في نفس الآيات ما يبين الاشتباه عما احتجوا به دون ما احتج به منازعوهم فإن الاشتباه العارض حاصل من الجميع إذ قد اشتبهت هذه الآيات على قوم وهذه على قوم وأما الاشتباه العام اللازم الذي يرجع إلى دلالة اللفظ فهذا يشترك الناس في العلم به لا يكون هذا متشابهاً عند طائفة محكماً عند طائفة وبالعكس وإذا كانت كل طائفة تجعل قولها محكماً لأنه هو الموافق للدليل العقلي عندهم فهذا هو القول الذي فرّق به بين المحكم والمتشابه لأن كل طائفة تدعي أن العقل معها ويكون الذي أنكره هو الذي قرره(8/444)
يبين ذلك الوجه الثاني وهو أن يقال معلوم أن كل طائفة من الطوائف المنازعين في مسائل الأصول مثل الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والمتفلسفة وغيرهم تدعي كل طائفة أن العقل يدل على صحة قولها وأن ذلك أدلة قطعية(8/445)
وهذا موجود في كتبهم وكلامهم ويعرفه من له أدنى معرفة في هذا الشأن وإذا كان كذلك فما ذكره من الفرقان لا يزيل ما ذكره من النزاع بل ما ذكره من المقرر بما أنكره من أن كل طائفة تجعل المحكم ما وافقها والمتشابه ما وافق خصمها وقد رأينا الكتب المصنفة في ذلك ففي كتب القدرية النافية من المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة دعوى أن الأدلة العقلية توجب أن العبد هو المحدث لفعله وقد يدعون على ذلك العلم الضروري كما ادعاه أبو الحسين ثم إثبات الصانع عندهم مبني على هذا فإنه به يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل ومن لم يعلم هذا لم يعلم افتقار الفعل إلى الفاعل وكذلك ما يثبتونه من التعديل والتجوير وهو مبني عندهم على ما يقولون إنه معلوم بالاضطرار من مسائل التحسين والتقبيح فما وافق هذا عندهم فهو محكم وما خالفه فهو متشابه(8/446)
والقدرية المجبرة أتباع الجهم بن صفوان يقولون بل المعلوم بصريح العقل أن الله خلق كل شيء وأنه لا يجوز أن يكون غير الله محدثاً لشيء وأن الحسن والقبح إنما يعقل في حق من ينتفع بشيء ويتضرر بشيء والرب تعالى منزه عن ذلك فيجوز عليه فعل كل شيء وهذا عندهم هو الأصل المعلوم بصريح العقل وما وافقه محكم وما خالفه متشابه والرازي يعتمد في تفسيره على هذا في الجواب عما يحتج به المنازعون من الآيات الكثيرة التي يحتج بها القاضي عبد الجبار وغيره فيجيب بمسألة الداعي والعلم وهو أن الله(8/447)
خلق داعي العبد فيكون خالقاً لفعله وأنه يعلم ما سيكون فيمتنع خلاف المعلوم وعلى هذا تبطل حجة المعتزلة لأن عندهم يمتنع التكليف بالممتنع وما هو من فعل الغير وحقيقة الأمر أن هذا الجواب جدلي التزامي ليس بجواب علمي فإن عامة أهل السنة يقرون بهذا وهو أن الله خالق أفعال العباد ويقولون مع هذا إن الله يخلق بحكمة ولسبب وأنه منزه عن أن يعاقب أحداً بلا ذنب وغير ذلك من الظلم ويقولون إن الأفعال مشتملة على صفات كانت لأجلها حسنة وسيئة كما هو مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن ما ذكره من القانون يدعيه كل طائفة فهو حجة لما أنكره عليهم لا رافع لما أنكره الوجه الثالث قوله إذا كان لفظ الآية أو الخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل(8/448)
وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيداً ولخرج القرآن عن أن يكون حجة فيقال له إن هذا اللازم هو لازم لك بل هو حقيقة قولك فإن الحجة عندك إنما هو الدليل العقلي والقرآن إنْ وافقه فالاعتماد عليه لا على القرآن وإن خالفه أخذت به لا بالقرآن والقرآن لا يستفاد به ما دل عليه ولا يحتج به بل إما أن يعرض عنه فلا ينظر بحال وإما أن يجتهد في رفع دلالته بالاحتمالات لا في تقرير دلالته فالقرآن على قولك ليس بحجة ولا يفيد في هذا الباب وإنما يحتج به عندك في المسائل الظنية الفروعية وتلك يجوز فيها العدول عن ظاهر إلى ظاهر أرجح منه بالإجماع وأنت قد قررت هنا أنه لا يجوز العدول عن ظاهر مرجوح إلى ما هو أرجح منه فلم يبق عندك في هذا للقرآن في هذا الباب(8/449)
حرمة أصلا ولا فيه فائدة ولا هو حجة فبطل احتجاجك الوجه الرابع أنك قد صرحت في كتابك في نهاية العقول وغيره أن الاستدلال بالقرآن والأدلة السمعية في مسائل الأصول لا يجوز بحال لأن الاحتجاج بها موقوف على نفي المعارض العقلي وهذا النفي لا يمكن العلم به فلا يعلم شرط الاستدلال بها فكل ظاهر يحتج به يقال فيه هذا المعنى غير معلوم لتوقفه على انتفاء المعارض العقلي الوجه الخامس أنك قد صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك وإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن والظن لا يجوز الاحتجاج به في الأصول فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك بل يجب أن يكون من المتشابه وعلى هذا فليس القرآن في هذا الباب منقسماً عندك إلى محكم ومتشابه ومع هذا(8/450)
فإنه مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع وهو باطل عقلاً وشرعاً الوجه السادس أنك قد قدمت أن المحكم نوعان نص وظاهر وأن النص ما يكون موضوعاً لمعنى لا يحتمل غيره وهنا قد جعلت الألفاظ ليس فيها شيء من ذلك بل ما من لفظ إلا ويحتمل معنى آخر وأن نفي المعنى الآخر لا يكون إلا ظنا فغايتها أن تكون ظاهرة فإن قلت النص ما ظن أنه لا يحتمل إلا معنى والظاهر ما يحتمل معنيين وظن رجحان أحدهما فيقال لك وهذا كله لا يجوز عندك التمسك به في هذه المسائل فلا يكون محكماً بل متشابهاً وهذا مناقض بقولك ولإجماع الأمة الوجه السابع أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يُبْنَى عليه ويستدل به ويتبع والمتشابه يرد إليه وعلى هذا علماء المسلمين يقولون المحكم هو الأصل والمتشابه يرد إليه وأنت جعلت الأصل هو(8/451)
ما زعمته من العقل وجعلت القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إليه فما خالفه كان متشابهاً فلم يبق في القرآن محكم يرد إليه المتشابه ولا هو أم الكتاب وأصله الوجه الثامن أنه على قولك لا سبيل لأحد إلى أن يعرف شيئا من القرآن محكما فإن ذلك يمكن إذا علم انتفاء المعارض العقلي وهذا النفي غير معلوم فلا يجزم بأن شيئاً منه محكم فإن قلت أنا أقول إن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع قيل وأنت تقول إن حمله على ظاهره لا يجب إلا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حق وما لم يعضده دليل عقلي لم يجزم بثبوته كما لا يجزم بنفيه إلا إذا نفاه الدليل العقلي فالمعتمد عندك في الجزم بالنفي والإثبات على الدليل العقلي والقرآن عديم التأثير لا يجزم بنفي ما نفاه ولا بإثبات ما أثبته وهذه حال من لا يؤمن بالله وبكتابه وحال من لا يؤمن بما أنزل(8/452)
الله تعالى من الكتاب ولا بما أرسل من الرسل الوجه التاسع قولك إنه لا يترك الدليل السمعي لدليل أرجح منه لأن الترجيح لا يكون إلا ظنا والظن لا يجوز التعويل عليه في المسائل العقلية القطعية فيقال لك فرق بين رجحان الاعتقاد واعتقاد الرجحان فأنت قد ذكرت هذا الفرق كما ذكره أبو الحسين البصري وغيره واعتقاد الرجحان قد يكون علماً فإذا اعتقد أن هذا الظاهر أرجح من هذا الظاهر فهذا يكون معلوماً مستيقناً وكذلك يجب العمل بهذا الراجح ويكن العامل عاملاً بعلم لا بظن وحينئذ فإذا تعارض ظاهران وقد علم رجحان أحدهما جزمنا بأن إرادة الله لذلك الشيء أرجح وكان هذا الجزم علماً فلمَ لا يجوز ذلك وإن لم يجزم بوجود المراد وهذا الجزم ينتفع به نفعاً عظيماً(8/453)
الوجه العاشر هب أنا لا نجزم بشيء بل نرجح إرادة أحدهما على الآخر فإذا قلنا إرادة هذا أرجح وغلب على الظن أن هذا هو المراد كما في كثير من الآيات والأحاديث التي تنازع الناس في تفسيرها فغلب على الظن رجحان أحد الأقوال فِلمَ لا يجوز هذا وما المانع منه وليس هذا تعويلا على الظن في مسألة عقلية قطعية بل في مسألة سمعية غير قطعية فإن التقدير أن هذا لم يخالف دليلاً قطعيا بل العقل يجوز إرادة هذا وإرادة هذا والسمع قد رجّح أحدهما ترجيحا ظنيا فِلمَ لا يجوز مثل هذا الترجيح وهذا هو الظاهر الذي هو أحد مسمى المحكم عندك الوجه الحادي عشر أن من الناس من يقول مسائل الأصول لا يجوز التمسك فيها إلا بأدلة يقينية لا ظنية هذا على وجهين فإن كان مما أمرنا فيها باليقين كاليقين بالوحدانية والإيمان بالرسول والإيمان باليوم الآخر مما أمرنا فيه باليقين لم يمكن إثباتها إلا بأدلة يقينية وأما ما لا يجب علينا فيه(8/454)
اليقين كتفاصيل الثواب والعقاب ومعاني بعض الأسماء والصفات فهذه إذا لم يكن فيها دليل قطعي يدل على أحد الطرفين كان القول مما يترجح من الأدلة أن هذا هو الظاهر الراجح قولاً عدلاً مستقيماً بل كان خيراً من الجهل المحض وأيضا فمن الناس من لا يقدر على العلم في جميع ما يتنازع فيه الناس وفي دقيق المسائل فإذا تكلم بحسب طاقته واجتهاده فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها الوجه الثاني عشر أنه إذا لم يجز القول بالظن الراجح فالقول بالجهل والكذب والقول الباطل أولى أنه لا يجوز فإن هذا لا يجوز بالإجماع وما يذكرونه مما يسمونه أدلة عقلية على نفي ما دل عليه القرآن والسنة من الصفات إنما هي أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علماً ولا ظنًّا بل جهلاً مركباً كما بينا هذا في غير موضع كما وصف الله تعالى حال الكفار بقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] الوجه الثالث عشر قوله إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل ولا يكون لفظيًّا فيقال هذا قرع وقوع هذا فِلمَ قلت إن الأخبار يعارضها(8/455)
دليل عقلي قطعي وقد بسطنا هذا في مواضع وبينا أن هذا غير واقع بل لابد أن يبين الله مراده حتى يحصل بكلامه الهدى والبيان وتقوم به الحجة فما كان ظاهراً غير مراد بينه بآية أخرى كما في الخاص والعام فأما أن يكون دالاً على غير الحق وهو لم يبين الحق الذي أراده فهذا غير واقع بل غير الله إذا تكلم بكلام ولم يبين مراده بكلامه كان معيباً مذموماً فرب العالمين أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم وعن أن يتكلم بكلام ولم يبين به مراده بل يظهر منه غير ما أراده والذي أراده لا يدل عليه ألبتة كما يزعمه هؤلاء المعطلة الملحدون الوجه الرابع عشر قوله ليس ترك ظاهر أحدهما لإبقاء الآخر بأولى من العكس فيقال له أحدهما مفسر للآخر مبين للمراد به ليس معارضاً له إلا عند من لا يفهم كقوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ(8/456)
تُقَاتِهِ [آل عمران 102] وقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن 16] فإن قوله مَا اسْتَطَعْتُمْ مفسر لقوله حَقَّ تُقَاتِهِ ورافع لظن من يظن أن الله أمر الناس بحق تقاته الذي لا يستطيعونه وهذا هو الذي أراده من قال من المتقدمين أن هذه ناسخة لتلك أرادوا أنها ناسخة للظن الفاسد من معناها ولم يريدوا أن الله أمر الناس بما لا يستطيعونه من تقواه ثم نسخ ذلك ولكن رقع ما يظن أن الآية دالة عليه يسمونه نسخاً فإنه من إلقاء الشيطان وقد قال تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) [الحج 52] ولكن من الناس من لم يعرف مرادهم بلفظ النسخ وعادتهم واصطلاحهم فيه فيظن أنهم أرادوا به معناه الخاص فيكون قد أمروا بما لا يستطيعه العباد وهذا لم يقع في الشريعة قط ولا عرف أن السلف رحمهم الله تعالى فهموا هذا من الآية وهكذا إذا كانت إحدى الآيتين دلت على المعنى دلالة راجحة فإنها تقضي على(8/457)
الدلالة المرجوحة وتفسرها الوجه الخامس عشر قوله إن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية قد أبطلناه عي مواضع ونحن ننبه هنا على بطلانه فنقول هذا القول من أعظم السفسطة وهو من أعظم أنواع السفسطة التي في الوجود ولهذا لم يعرف هذا القول عن طائفة معروفة من طوائف بني آدم لا المسلمين ولا غيرهم لظهور فساده فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق وأن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضاً ويفهم بعضهم مراد بعض علماً ضروريًّا أعظم من علمهم بالعلوم النظرية والنطق للإنسان أظهر صفات الإنسان التي تميز بينه وبين البهائم ولظهور ذلك قوله تعالى فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات 23] ولهذا يقول من يقول في الإنسان إنه الحيوان الناطق ثم البهائم يفهم بعضها(8/458)
مراد بعض بأصوات تصوتها وقد تسمى منطقاً لها كما قال سليمان عليه السلام يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل 16] وقد ذكر سبحانه وتعالى قول النملة أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) [النمل 18] فالنملة قالت للنمل قولاً يتضمن أمراً وتحذيراً وسليمان عليه السلام فهم ما قالته فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل 19] وهو أيضاً خاطب الهدهد وخاطبه بما حكاه الله حيث قال الهدهد له أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) [النمل 22-28] بل هو سبحانه وتعالى ينطق الجماد بأصوات يفهمها من يفهمها من الآدميين كما قال تعالى عن داود عليه السلام يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ 10] وقال تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) [ص 18](8/459)
والحصى قد سبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وكان(8/460)
أبو الدرداء وسلمان الفارسي يسمعان تسبيح القدر وقال(8/461)
النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن وهذا باب واسع فهو سبحانه لعموم هدايته هدى مخلوقاته وجعل بعضها يفهم عن بعض مراده بما ألهمه الله من نطق أو غيره وهذا لبسطه موضع آخر ولكن المقصود هنا أن دلالة الأدلة القطعية القولية على مراد المتكلم ومعرفة المستمع بمراده وفهمه لكلامه هو ما يعرفه جميع بني آدم علماً ضروريًّا قبل علمهم بالأدلة العقلية المجردة فالطفل إذا صار فيه تمييز(8/462)
علم مراد أبيه وأمه بما يخاطبانه به وفهمه لمراد الأم أسبق إليه من العلم بالأدلة العقلية النظرية فإن هذا مما يعلم به مراد المتكلم اضطرارا ولا يتوقف قهم الصغير لكلام مربيه أبيه وأمه وغيرهما لا على نقل اللغة والنحو والتصريف ولا على نفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي والسمعي بل يعلم مرادهم بكلامهم اضطراراً لا يشك فيه ثم سائر بني آدم يخاطب بعضهم بعضاً ويفهم مرادهم من غير احتياج إلى شيء من تلك المقدمات ويكتبون الكتب إلى الغائب الذي لا يراهم ولا يرى حركاتهم فيعلمون مراد الكاتب اضطراراً في أكثر ما يكتبه وإن كان بعض ذلك قد يظن أو لا يفهم لكن الأغلب أنهم يعلمون مراده اضطراراً وهذا موجود(8/463)
في مكاتبة العامة والخاصة ومن يخاطبهم فإذا كان الخط الدال على اللفظ يعلم به المراد اضطراراً في أكثر ما يكتب فاللفظ الذي هو أقرب إلى المعنى المراد أولى أن يعلم به المراد اضطرارا ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجوداً في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم وأن يفهم مرادهم من خطابهم وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء فالأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم وبأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بياناً وقد قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 4] فهو إنما أرسل الرسل بلسان قومهم الذين خاطبوهم أولا ليبن الرسول ما أراده وما أوحاه الله إليه من الرسالة فكيف يجوز أن يقال إنهم لم يبينوا المراد وأن أقوالهم لم تدل على مرادهم فلم يبينوا ما أوحي إليهم بياناً قاطعاً لأنهم بينوه بلفظهم وهذا يقول إن شيئا من الأدلة(8/464)
اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيًّا مع أن هذا القول كما تقدم لا يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا من المسلمين ولا من غيرهم ولا عن عالم معروف إذ كان هذا القول في غاية السفسطة وجحد الحقائق وإنما الذي يقوله بعض الناس هو القدح في بعض الأدلة اللفظية والسمعية كما قد يقدحون في بعض ... الأدلة العقلية أما القدح في الجنس فهذا لا يعرف في جنس المتكلمين عن طائفة من الآدميين ولكن هذا الرجل كثير السفسطة والتشكيك فهو من أعظم المتكلمين سفسطة وتشكيكاً وهذا من جملة سفسطته لا يعرف من جنس المتكلمين من هو أعظم تقريراً للشكوك والشبهات الباطلة وأضعف جواباً عنها منه وتقريره لما يقدح في جنس الأدلة القولية النطقية الدالة على مراد المتكلم هو من هذا الباب بل هذه الأدلة الدالة(8/465)
على مراد المتكلم هي أبين وأظهر عند جميع بني آدم من جنس الأدلة العقلية المجردة ولهذا تجد كل أمة يرجعون إلى قول قائل مقبول القول عندهم هم أقل اختلافا في معرفة مراده من الذين يرجعون إلى مجرد الأدلة العقلية المجردة ولهذا كان غير أهل الكتاب من أصناف المشركين من فلاسفة الهند واليونان والعرب وغيرهم أعظم اختلافا فيما يدعونه من الأدلة العقلية من اختلاف أهل الكتاب في مراد الأنبياء ثم أهل الحديث والسنة الذين يرجعون إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجوعهم إلى القرآن أقل اختلافا من غير أهل العلم بذلك ومن يرد أخباراً صحيحة لزعمه أنها أخبار آحاد لا تفيد العلم أو يقبل أخباراً ضعيفة أو موضوعة يظنها صحيحة فهؤلاء أكثر اختلافا من أهل المعرفة بالحديث لأنهم إذا كانوا أعرف بالحديث فالحديث يدلهم على مراد الرسول فيكون الاختلاف بينهم أقل من أولئك وأمة محمد وإن(8/466)
كانوا قد اختلفوا في أشياء فهذا من لوازم النشأة الإنسانية فالشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني كما قال تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) [الأحزاب 72] لم يخلص أحد من البشر عن ذلك لكن من كان أفضل وأكمل كانت معرفته بالحق أكمل وعمله به أكمل وأمة محمد أكمل في معرفته والعمل به فهم أفضل الأمم ثم أهل السنة وأهل المعرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمعانيه والمتبعون لذلك هم أكمل علماً وعملاً من غيرهم فهم أعلم الناس يقيناً ومعرفة لاتباعهم الرسول ومعرفتهم بكلامه وعلمهم بذلك ونطقهم به بخلاف ما زعمه هؤلاء من أن الأدلة النطقية لا يمكن أن يقطع فيها بمراد المتكلم وأيضا فقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالحق وأنصح الخلق للخلق وأكمل الناس بياناً وعبادة ودلالة على الحق وإذا اجتمع العلم والقدرة والإرادة وجب وجود المطلوب فكيف يكون أعظم الناس معرفة وبياناً ودلالة لم يعرف مراده مع أن(8/467)
الناس قد عرفوا مراد جميع من تكلم في العلوم وقطعوا بمرادهم في أكثر ما قالوه والمظنون والمشكوك فيه قليل مغمور بالنسبة إلى المعلوم المقطوع به فالفقهاء يعرفون مراد أئمتهم المصنفين للكتب وكذلك النحاة والأطباء وكذلك المصنفون في علوم الحديث والتفسير وغير ذلك فإذا كان هؤلاء قد بينوا مرادهم مع أن البيان غير واجب عليهم فكيف لا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراده مع أن الله تعالى قد أوجب عليه البلاغ المبين وقد بسط الكلام على فساد هذا الأصل الذي هو من أعظم السفسطة عقلاً ومن أعظم الإلحاد في كلام الله تعالى شرعاً وصاحبه جحد نعمة الله عز وجل في تعليمه البيان والقرآن وقال تعالى الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) [الرحمن 1-4] في(8/468)
ما زعمه من أن بيان الإنسان وكلامه ونطقه لا يعلم به مراده والقرآن الذي علمه الله تعالى لعباده وتكلم به لا يُعلم به مراده وهذا جحد لنعمة القرآن والبيان وقد تقدم ما ذكرناه من الآيات على أن القرآن لا يجوز أن يشتمل على ما لا يعلم منه المراد وأن الله تعالى سماه بياناً وهدى ونورا وأمر بتدبره والتفكر فيه وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه بينه وعرف بمعناه وإذا كان هذا يدل على فساد قول من يقول إن بعضه لا يعلم منه المراد فمن قال إن شيئا من الدلائل السمعية لا يعلم بها المراد ولا يحتج بها في المسائل العلمية هو أولى بالفساد من قول أولئك من وجوه كثيرة وقد ذم الله تعالى في غير موضع من لم يفهم كلامه وجعلهم من الكفار والمنافقين كقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ(8/469)
عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) [محمد 16] وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام 25] وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) [يونس 42] وما ذكره الرازي من أنه موقوف على عشر مقدمات ظنية والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنيًّا وهو نقل اللغة والنحو والتصريف وعلى عدم المجاز والنقل والاشتراك والإضمار والتخصيص وعدم المعارض العقلي والسمعي دعوى باطلة من وجوه أحدها أن العلم بمراد المتكلم من عادته وحاله وداعيته وقصده أمر معلوم عنده بالاضطرار كما قصده بالأفعال الاختيارية مثل أكله وشربه ولباسه وركوبه وغير ذلك من أفعاله فكما أنه إذا أكل وشرب وإن كان الأكل والشرب يحصل باختياره فإنه يعلم أنه أكل وشرب ليشبع وأنه يشبع بالأكل والشرب وإن كان قد يقع أحيانا خلاف ذلك وكذلك يعلم دلالة أصواته الدالة بالطبع وإن كانت باختياره وبغير اختياره مثل النفخ والنحنحة والعطاس(8/470)
والقهقهة وغير ذلك فكيف بأحواله الدالة بقصده واختياره التي قد علم من حاله أنه يقصد به الإفهام والبيان فالعلم بمراده بهذه أظهر وأقوى وإذا جُوّز أن يكون أراد غير ما دل على إرادته فإن تلك الأفعال والأحوال قد يقصد بها غير ما يدل عليه في العادة فقد يبكي الرجل محالا حتى يظهر حزنه وهو كاذب كما جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف 18] الوجه الثاني أن الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم إما شاهد له قد سمع كلامه وإما غائب بلغه كلامه فالمشاهدون له قد بين لهم مراده مع القول بتعيين ما أراده فلما أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج بين لهم مسمى هذه الألفاظ ولم يحوجهم في ذلك إلى أن يعرفوا مسمى هذه الألفاظ من كلام غيره فلم يحتاجوا إلى نقل لغة غيره ولا نفي احتمالات ولا نفي معارض بل علموا مراده بهذه الألفاظ لما بينه لهم مع القول معرفة ضرورية ونقلوا ذلك إلى من بعدهم نقلا يفيد اليقين(8/471)
والعلم أعظم من اليقين والعلم بنفس ألفاظه فحصل العلم لمن شاهده ولمن غاب عنه أعظم من ألفاظه وقد يكون في الذين شاهدوه من لم يسمع كلامه لكنه علم مراده وما أمر به وما نهى عنه ولم يسمع نفس اللفظ إما لبعده وإما لغيبته وهو إنما يسأل عما أراده ليس له غرض في نفس اللفظ فعلم المراد بالاضطرار واللفظ لا يعرفه الوجه الثالث أن علم المخاطبين بالمعنى الذي أراده المتكلم أهم عندهم من العلم بلفظه ولهذا إنما يبحثون عن ذلك وهو الذي ينقلونه عنه ويبلغونه عنه فإن الله تعالى قد حكى عن الأمم المتقدمين من الأنبياء وأتباعهم وتكذيبهم أقوالاً كثيرة ولم ينقل لفظ أحد منهم وإنما نقل معنى كلامه باللغة العربية وبنظم القرآن المخالف لسائر نظم الكلام مع أن أولئك تكلموا بغير العربية وبغير نظم القرآن(8/472)
وهو الصادق فيما حكاه عنهم إذ كان المقصود هو معاني ألفاظهم لا نفس الألفاظ وكذلك الناس ينقلون مذاهب العلماء وأقوالهم بغير ألفاظهم وهم متفقون على هذا وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فهم معناه جازت روايته بالمعنى عند الجمهور ومن منعه فإنما منعه خوفاً من تقصير المبلغ في أداء المعنى الذي أراده وأما مع العلم بالمعنى فلا ريب فيه(8/473)
وقد اتفق المسلمون على أن القرآن والحديث يترجم بغير لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم وغير لغته لمن احتاج إلى ترجمته ممن لا يعرف بالعربية بل وللعربي الذي لا يعرف لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين معانيه لمن يعرف لغته ولكن ليس هو من أهل العلم بخصائص كلامه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما التفسير أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعرفه العلماء وتفسير لا يعلمه(8/474)
إلا الله تعالى فعامة الأمة يعلمون معاني القرآن الظاهرة المنقولة بالتواتر من غير حاجة إلى شيء من تلك المقدمات وهو يسألون عن معاني القرآن والحديث ليفهموها ويعرفوها وإن كانوا لا يحفظون لفظ الحديث ولكن قد عرفوا معناه فيفتون به ولهذا قال أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهما معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلينا من حفظه فاهتمامهم بفهم المعنى أعظم من اهتمامهم باللفظ وإذا كان كذلك كانت معرفته ونقله أبلغ من معرفة اللفظ وإذا كان لفظ(8/475)
القرآن وكثير من الحديث منقولاً بالتواتر فنقل المعنى أولى ولهذا الوجه والذي قبله إذا سمعت الأمة عوامها وخواصها قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد البيت الذي بمكة وأن الحج هو الأعمال المشروعة وأكثرهم لا يحفظ هذه الآية الوجه الرابع أن أهل العلم بالكتاب والحديث قد نفلوا لغة الرسول صلى الله عليه وسلم التي خاطبنا بها ولم يحتج مع ذلك إلى نقل لغة أحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يحتاج علماء الدين إلى أهل اللغة في فهم القرآن والحديث إلا في مواضع يسيرة يحتاج بعضهم إليها كألفاظ غريب القرآن والحديث والفقه ومعانيها فلا يحتاجون في ذلك إلى نقل أهل اللغة وإن احتاج إلى ذلك بعضهم أو ذكر ذلك على سبيل الاستشهاد والاعتبار كما يقوى الدليل بالدليل فكل ما احتاج المسلمون إلى نقله من لغة القرآن فهم يتبعون عندهم نقلاً معلوماً مقطوعاً به إلا مواضع قليلة خفيت على بعضهم فصارت عنده(8/476)
مظنونة أو مجهولة الوجه الخامس أن قوله إنه موقوف على نفي المجاز والاشتراك والإضمار والتخصيص وقد يقول والنقل فيقال هذا تكثير للمقدمات من غير حاجة فهو كما لو قيل موقوف على نفي مجاز الزيادة والنقص والاستعارة فهذا تكثير بلا فائدة بل يكفي أن يقال على نفي احتمال آخر للفظ سواء احتمل ذلك بطريق المجاز أو الاشتراك أو الإضمار والتخصيص نوع من المجاز فإن اللفظ إما أن تكون دلالته على المعنيين سواء فهو المشترك وإما أن يكون هو بمجرده يدل على معنى وبالقرينة يدل على معنى آخر وهو المجاز وهذا على رأي من يقول إن في اللغة مجازاً وأما من نفى ذلك وقالا ما ثم إلا دلالة مطلقة أو مقيدة به فالمطلق مقيد بالإطلاق والمقيد مقيد بالقيد اللفظي كما يقول إن صيغة الأمر والنهي والعموم تدل عند تجردها على معنى الأمر والنهي والاستغراق ومع القرينة على التخصيص أو التهديد وبتجردها عن القرينة المخصصة إلى قرينة تبين المراد فإذا قيل اللفظ المجازي ما دل مع القرينة(8/477)
والحقيقة ما دل بمجرده قيل إن يُعن التجريد والإطلاق من كل وجه فما في ألفاظ الكلام ما هو كذلك بل كلها مقترنة بغيرها فإن الكلام إما جملة اسمية وإما جملة فعلية وكل منهما أقل ما يأتلف من لفظين مفردين وكل منهما مقترن بالآخر ليس واحد منهما مجرداً مطلقاً عن جميع القرائن وإن عنى بالتجريد والإطلاق أن يكون مجرداً عن بعض القرائن فهذا حق وجميع الكلام يدل مع قرينة على معنى ومع عدمها وقرينة أخرى على معنى آخر حتى لفظ الإنسان فإنه يقال إنسان العين والألفاظ التي هي صريحة في الأحكام مثل لفظ الطلاق والنكاح وغيرهما قد يقترن بها ألفاظ تزيل دلالتها باتفاق المسلمين كما إذا قيل أنت طالق من وثاق فهذا لا يقع به الطلاق بالاتفاق أو قال يا دنيا غري غيري قد طلقتك ثلاثاً أو قال ودي من ودك طالق فهذا لا تطلق به الزوجة باتفاق المسلمين والكلام على مسمى الحقيقة مبسوط في مواضع أخر(8/478)
والذي لابد منه أن اللفظ إذا ما دل على معنى دلالة فلابد أن ينفي احتماله لغير ذلك المعنى وإذا جاز أن يراد به ذلك المعنى الآخر النافي لهذا المعنى لم تكن دلالته قطعية لكن إذا علم المراد قطعاً علم دلالة الفظ عليه ثم ذلك المعنى الآخر إن لم يكن منافياً لهذا المعنى لم تضر دلالة اللفظ عليه إذ دل عليهما جميعاً وأما إن نافى هذه الدلالة كان ضدًّا للمعنى المراد ومعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الآخر فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقض كل ذلك وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي فإنه إذا علم المراد علم قطعاً أنه لا ينفيه دليل آخر لا سمعي ولا عقلي لأن ذلك نقيض له وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه قطعاً فحاصل كلامه ثلاث مقدمات أنه موقوف على ما يدل على المراد وعلى ما ينفي ضده ونقيضه فيقال الدال على المراد يستلزم الدلالة على ضده ونقيضه فلا يحتاج إلا إلى العلم بالمراد فقط والعلم بالمراد كثيراً ما يكون علماً اضطراريًّا كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة فإن الإنسان إذا سمع(8/479)
مخبرًا يخبر بأمر قد يحصل عنده ظن ثم يقوى بالخبر الآخر حتى يكون علمًا ضروريًّا وكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداء وقد يظنه ثم يتكرر كلام المتكلم أو يتكرر سماعه له ولما يدل على مراده فيصير علمه بمراده ضروريّا وقد يكون العلم بالمراد استدلاليّا نظريّا وحينئذ فذلك يتوقف على مقدمة واحدة وقد يتوقف على مقدمتين وعلى أكثر أما دعوى المدعي أن كل استدلال بدليل لفظي على مراد المتكلم يتوقف على عشر مقدمات فهذا باطل قطعاً وأبطل منه أن كل مقدمة فهي ظنية بل عامة المقدمات التي يتوقف عليها فهم ومراد المتكلم وقد تكون قطعية في غالب الأمر لمن تدبر ذلك فإن قيل إذا كان المراد قد بينه المتكلم بغير ذلك اللفظ ونقل عنه متواتراً لم يكن مستفاداً من اللفظ بل يكون مستفاداً من ذلك النقل قيل لهم نقلوا المراد ونقلوا أنه هو المراد باللفظ وأن اللفظ دال عليه كما نقلوا وجوب الحج وأن وجوبه مراد بقوله(8/480)
تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران 97] وأنه أريد بهذا اللفظ وجوب حج البيت الذي بمكة وكذلك قوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة 185] وقوله تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] ونحو ذلك فإذا سمع هذا اللفظ علم قطعاً أنه أريد به هذا المعنى كما علم أن هذا المعنى قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده فكلاهما معلوم قطعاً فلو قال قائل أنا أوجب الحج وصيام شهر رمضان فإن ذلك منقول بالتواتر لكن أقول صيام رمضان المراد به موالاة ثلاثين رجلاً وحج البيت المراد به حج بيوت العلم والحكمة والمراد به صلاة الجمعة كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار وأيضاً فإذا عُرّف ما أريد باللفظ ابتداء من لم يعرف معناه فيطلب معرفة معناه فيفسر له بالمعنى المعلوم المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا سمع اللفظ ذكره ما أمر الله تعالى به وما اخبر به فيذكر ما أوجب الله تعالى عليه وما أخبر الله تعالى به ليفعل هذا ويصدق هذا ونحن لا ننكر أن بعض الناس قد يتوقف فهمه لبعض الألفاظ على ما ذكره من المقدمات الظنية لكن المنكر دعواه العموم والغلبة فإن(8/481)
غالب آيات القرآن في حق غالب الناس لا يتوقف على عشر مقدمات ظنية كما ذكره بل هذا من أظهر البهتان وإن قدر إن بعض الآيات يتوقف على هذا في حق بعض الناس فذلك لقوة جهله وبعده عن معرفة الرسول وما جاء به كمن يكون حديث عهد بالإسلام أو قد نشأ ببادية بعيدة عن دار العلم والإيمان فإنه قد لا يعرف أن الله تعالى أوجب الحج والصيام بل ولا الصلاة ولا حرم الخمر فلا يجعل هذا حكماً في حق غالب المسلمين كذلك إذا قُدر أن بعض الناس لم يحصل له علم بمعنى بعض الآيات إلا لتوقف ذلك على أدلة ظنية في حقه لم يلزم أن لا يحصل العلم بها وبغالب القرآن لغيره وإن قُدر أنه لم يحصل لم يجز أن يقال إن العلم بالمراد غير ممكن كما قال هذا القائل إن شيئاً من الأدلة اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيّا فنفي إمكان القطع عن شيء من الألفاظ وهذا أشد فساداً من أن يقال إن شيئاً من الأدلة العقلية لا يمكن أن يكون قطعيّا لأن العلم بمراد المتكلم أظهر(8/482)
وأنشر وليس المراد بكون الدليل العقلي والسمعي قطعيّا إلا كونه يدل على مراد المتكلم ثم المتكلم إن كان ممن يعلم أن مراده حق وأنهم معصومون من الكذب عمداً وخطأً فيما يبلغونه ويخبرون به عن الله تعالى وهم قد أخبروا عن الله تعالى بهذا المعنى الذي أراده فحينئذ نقطع بأن هذا حق في نفس الأمر وأما إن لم يكن المتكلم كذلك بل يجوز عليه الخطأ فإنا نقطع بمراده لا لكونه صواباً وحقًّا وأيضاً فالأدلة السمعية تدل بطريقتين تارة تدل بمجرد الخبر فإن ما أخبر به الصادق المصدوق لا يكون إلا حقًّا وتارة يكون قد بين الأدلة العقلية التي تدل على ما أخبر به أو على إمكانه والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله تعالى الدالة عليه وعلى وحدانيته وعلى علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته والدالة على أمره ونهيه وإباحته ووعده ووعيده وكذلك ما يخلقه من(8/483)
الآيات العيانية فإنها تدل على نفسه وخلقه وقدرته ومشيئته وتدل أيضاً على أمره ونهيه وحبه وبغضه وسخطه ورضاه كما تدل عقوباته للمكذبين للأنبياء على أمره لهم بالإيمان بالأنبياء ومحبة ذلك وعلى نهيه عن تكذيبهم وبغضه لذلك فالآيات المخلوقة العيانية تدل على قدرته وعلى شرعه لهم وعلى خلقه وعلى أمره وكذلك الآيات المنزلة المسموعة القرآنية تدل على هذا وعلى هذا وقد دل بهذه الآيات القولية على الاستدلال بتلك الآيات العيانية العقلية فإنه يدل على الدلائل العقلية والسمعية كلاهما وإذا فهمما دل عليه من الدلائل العقلية وعرفت دلالتها على المطلوب بمجرد العقل وإن لم يخبر بها النص كان هذا دليلاً عقليًّا قطعيّا وكان مستفاداً من الأدلة السمعية واللفظية لكونها هي التي دلت عليه وأرشدت إليه ونبهت عليه وإذا كان هذا موجوداً مما يستفاد من كلام المخلوقين فما يستفاد من كلام الخالق أعظم وأعلى والله تعالى أعلم(8/484)
وقد تبين في غير موضع أن هؤلاء المتكلمين الجهمية والمتفلسفة الدهرية ليس معهم أدلة عقلية تعارض القرآن وتقوم مقام القرآن فما سلكوه في إثبات الصانع وصفاته طرق فاسدة لا تغني عن أدلة القرآن العقلية الدالة على ذلك فضلاً عن أن تعارضها وهذا أحد ما يبين به فساد ما يذكرونه من تقديم مثل هذه الأدلة على دلالة القرآن عقليها وخبريها ولا ريب أن طريقهم فيه من النفاق والإلحاد والجهل ما يطول وصفه ولذلك قال الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره علماء الكلام زنادقة وكان الذين يشيرون إليهم خيراً من هذا وأمثاله وكذلك قال الشافعي لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا(8/485)
الإشراك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام في الأحداث وقال حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة والشافعي أشار إلى كلام حفص الفرد وأمثاله وكان على طريقة ضرار بن عمرو وأحمد أشار إلى كلام هذا وأمثاله فإنه كان أفضل من ناظر وأبو عيسى محمد بن عيسى برغوث وهو من أتباع(8/486)
حسين النجار وكلام أولئك خير من كلام هؤلاء الذين جمعوا إلى تعطيل أولئك إلحاد الفلاسفة مع أن أولئك لم يظهروا كل ما في قلوبهم للأئمة فالجهمية لم تكن تظهر لهم لا داخل العالم ولا خارجه وإنما أظهروا أنه في كل مكان فالأئمة استعظموا ما أظهروه فكيف ما أبطنوه والذي أبطنه أولئك هو خير من قول الملاحدة الذين جمعوا بين أقوال الجهمية والفلاسفة الدهرية وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى(8/487)
قوله إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام وقد بسط هذا في مواضع والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار ولو صح هذا لكان لا يجزم أحد بمراد أحد ولكان العلم بمراد كل متكلم لا يكون إلا ظنًّا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار وإذا كان آحاد العامة قد بين مراده بكلامه حتى يقطع بمراده فالعلماء أولى بذلك وإذا كان العلماء المصنفون في العلوم يقطع بمرادهم في أكثر ما يقولونه كما يقطع بمراد الفقهاء والأطباء والحُسّاب وغيرهم فالرسول الذي هو أكمل الخلق علماً وبياناً ونصحاً أولى أن يبين مراده ويقطع به وكلام الله تعالى أكمل من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأكمل بياناً فهو أولى(8/488)
بالقطع بمراد الرب فيه من كلام كل أحد ومعاني الكلام منقولة بالتواتر معلومة بالاضطرار أعظم من ألفاظه والمسلمون كلهم يعلمون بالاضطرار أن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس في الوضوء وبالاغتسال من الجنابة وبالتيمم وأن الله تعالى أمر بالصلاة إلى الكعبة وأمر بالحج إلى البيت الذي بمكة والطواف به والتعريف بعرفات وصوم شهر رمضان وامتناع الصائم من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك من معاني القرآن وأكثرهم لا يحفظون حروف القرآن فمعانيه التي دلت عليها هي معلومة عندهم بالاضطرار منقولة بالتواتر أعظم من العلم بألفاظه الدالة على تلك المعاني ولا يحتاجون في ذلك إلى نقل اللغة ولا نفي المعارض بل الأمر موقوف على مقدمة واحدة وهو العلم بمراد المتكلم وهذا قد يعلم اضطراراً وقد يعلم بأدلة قطعية وقد يكون ظنًّا كذلك العلم بما أخبر له الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته ومن اليوم الآخر كثير منه أو أكثره معلوم عند الأمة اضطراراً نقلاً متواتراً(8/489)
وإن كان أكثرهم لا يحفظون حروفه وإذا سمعوا حروفه علموا قطعاً أنها دالة على تلك المعاني المعلومة عندهم كما إذا سمعوا قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد بلفظ البيت البيت الذي بمكة وإذا سمعوا شهر رمضان علموا أن المراد بهذا اللفظ بالشهر التاسع الذي بين شعبان وشوال وإذا سمعوا خلق السموات والأرض علموا أن المراد بذلك أنه هو الذي أحدثهما وابتدأهما وأنشأهما لا أنهما قديمتان ملازمتان له وإذا سمعوا قوله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة 73] وقوله كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) [فاطر 9] علموا أن المراد بذلك إحياء الموتى للقيامة وإذا سمعوا قوله تعالى وتقدس إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] علموا أن ذلك معنى أنه سميع بصير وأمثال ذلك كثير الوجه السادس عشر أن هذا القول مضمونه جحد(8/490)
الرسالة في الحقيقة وإن أقر بها بلسانه بل مضمونه أن ترك الناس بلا رسول يرسل إليهم خير من أن يرسل إليهم الرسول وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهتد به أحد في أصول الدين بل ضل به الناس وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول وذلك أن القرآن على ما زعمه هؤلاء لا يستفاد منه علم ولا حجة بل إذا علم بالعقل شيء اعتقد ثم القرآن إن كان موافقاً لذلك أقر لكونه معلوماً بذلك الدليل الذي استنبطناه لا لكون الرسول أخبر به ولا لكونه أرشد إلى دليل عقلي يدل عليه وإن كان الظاهر مخالفاً للعقل اتبعنا العقل وكان ذلك الظاهر وجوده كعدمه إما نصًّا وإما ظاهراً فاحتاجوا إما إلى التأويل وإما إلى التفويض لئلا يضلوا وغيرهم ضل باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم مقتضياً لضلال قوم فكانت الطائفتان(8/491)
بسببه في ضلال وسعر وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول فهذا حقيقة قول هؤلاء الملحدين وسيأتي اعترافه بهذا وجوابه عنه بجواب الملحدين الوجه السابع عشر أن هذا وأمثاله يتناقضون فتارة يقول نحن نعلم انتفاء الظاهر لكن لا نعلم المراد وتارة يقول بل الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب العامة بما يوافق ما عندهم فلو خاطبهم ابتداء بإثبات ما ليس بجسم ولا متحيز ولا يشار إليه قالوا هذا عدم محض فوقعوا في التعطيل فكان الصلح أن يأتي بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما لزمهم وهذا كلام من يريد من العامة فهم تلك المعاني وهي باطلة في نفس الأمر عند هؤلاء وعلى هذا فقد أراد(8/492)
منهم فهم الباطل الذي دل عليه بلفظه وهذه طريقة أهل التخييل الذين يقولون أرادوا أن يتخيلوا ما ينفعهم وإن لم يكن حقًّا وطريقة أهل التأويل نفي إرادة هذا المعنى والجهل بما أراد وهذا يناقض هذا وهذا وأمثاله يتناقضون فتارة يجعلونه هكذا وتارة هكذا في كلا الأمرين على الباطل وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يريد المعاني الباطلة أو أن يقصر في بيان ما أراده فالأول كذب وإضلال وتلبيس وإظهار ما هو كذب وإن قيل إنه لم يقصد الكذب بل الرسول كما أنه أعلم اخلق بالحق فهو أنصحهم لهم وأعظمهم رغبة في تعريفهم وتعليمهم وهداهم وهو أحسنهم بياناً وأتمهم برهانا قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى(8/493)
اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] وقال تعالى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) [النمل 79] وقال تعالى قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف 108] فإن قيل فإذا كان ما ذكره فاسداً لا يحصل به الفرق بل هو عزل القرآن بالكلية فما الفرق بين المحكم والمتشابه قيل المتشابه نوعان أحدهما ما يكون بسبب المستمع لقصور منه أو تقصير فهذا لا يختص بنوع من الكلام بل قد يعرض في جميع أنواعه لكن ما يكون فيه من التشابه يكون هذا فيه أقوى فإنه يبقى التشابه من الطرفين وصاحب هذا المقام هو مأمور أن يعمل بما تبين له معناه ويؤمن بما اشتبه عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه رحمهما الله تعالى وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن(8/494)
أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أما وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حَجْرة إذا ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول بهذا أمرتم بهذا هلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً فما(8/495)
عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتبعوا ما تبين لكم من الكتاب وما لا فدعوه وإذا كان القرآن نزل يصدق بعضه بعضاً فمن الممتنع أن يكون فيه تناقض واختلاف تضاد فمن فهم آية فآمن بها وظن أن الأخرى تناقضها فليعلم أنه مبطل في ذلك وأن معنى الأخرى يوافقها لا يخالفها وإن لم يفهم معنى الآيتين آمن بهما ووكل علمهما إلى الله تعالى وأما التشابه الذي يكون في نفس الآية فهذا لا يكون إلا مقرونا بالإحكام والبيان والهدى فإن الله تعالى قد أحكم كتابه كله وبينه وجعله هدى وأمر بتدبره لكن من الآيات ما لا اشتباه(8/496)
فيه بوجه ومنها ما فيه اشتباه من بعض الوجوه وإن كان ذلك مع الإحكام والبيان مثل لفظ إنا ونحن ونحو ذلك وكل آية فقد أراد الله تعالى وتقدس بها معنى وعلى ذلك المعنى دل فلا يجوز أن تكون دلالة القرآن على ما أراده الرب تعالى وعناه وعلى غيره سواء بل هذا لا يجوز في كلام آحاد العلماء فكيف في كلام رب العالمين وإذا كان القرآن لا تناقض في دلالته فالمذهبان إن كان القرآن دل عليهما فكلاهما حق كقول من يقول إن العبد فاعل لفعله وقول من يقول إن الله تعالى هو الذي جعله فاعلاً فكلاهما حق والقرآن قد دل على هذا ولى هذا فأخبر أن العباد فاعلون وأنهم هم الذين يكفرون ويؤمنون ويعملون وقال الخليل وابنه عليهما الصلاة والسلام رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ [البقرة 128] ونحو ذلك وقال رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ(8/497)
ذُرِّيَّتِي [إبراهيم 40] وأمر عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم ونحو ذلك وإن كان كلاهما باطلاً فالقرآن ينفيهما جميعا كقول من يقول إن العبد لا قدرة له ولا مشيئة ولا فعل وقول من يقول بل هو الذي يخلق فعله دون الله فالقرآن ينفي هذا وهذا بل نفس الآيات إذا كانت دالة على ما يقول فهي تدل كما يدل أمثال ذلك من الكلام والأدلة وإلا لم تدل ودلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة وتارة بالاستدلال ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة وبما كان يقوله السلف يفسرون به القرآن بدلالة السنة وبدلالة سائر الآيات وغير ذلك كما أن النصارى لما ادعوا أن قوله إنا ونحن تدل على قولهم إن الآلهة ثلاثة وقالوا في قوله تعالى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة 133] أن الآلهة ثلاثة كان في هذا تشابه فإن لفظ نحن يستعمل في الواحد الذي له شركاء وفي الواحد المعظم المطاع الذي له مماليك تطيعه والعطف يكون لتغاير الصفات ويكون لتغاير الذوات فهو أمر متشابه والمحكم في القرآن كقوله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة 163] وقوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقوله تعالى أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ(8/498)
مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام 19] وقوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء 110] وقوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة 73] وأمثال ذلك فيرد إليه المتشابه ويعلم أن قوله إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة 133] عطف لتغاير الصفات كقوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وكقوله تعالى رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) [الدخان 7-8] وقوله تعالى إنا ونحن لعظمة الرب تعالى وان ما سواه مخلوق مملوك له من الملائكة وغيرهم فهو أحق بنون العظمة ممن استعمل هذا اللفظ فيه من الملوك وإن كان اللفظ نفسه لا اشتباه فيه وإذا اشتبه على هذا لقصور فهمه بُيّن له ذلك بنظائره ولهذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يسمون ما أشكل على بعض الناس حتى فهم منه غير المراد متشابهاً(8/499)
كما صنف الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله فهو لم ينكر عليهم مسمى التأويل بل إنه أنكر أن يتأولوه على غير متأوله وهو التأويل الباطل والمراد بالتأويل التفسير وليس المراد صرفه إلى الاحتمال المرجوح وقوله فيما شكّت فيه من متشابه القرآن هو ما تشابه عليها وإن كان الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه لكن(8/500)
لقصورهم وتقصيرهم تشابه عليهم حتى شكوا فيه فهذا هذا والله تعالى أعلم الوجه الثامن عشر أن هذا القول في تأويل القرآن ومعناه يضاهي قول المشركين في تنزيل القرآن ولفظه ومعناه ولا ريب أن المقصود من الألفاظ هو المعنى فمن وافق المشركين في معاني القرآن على ما قالوه فإنما آمن بلفظ فقط فهو منافق يظهر الإسلام بلفظه به دون قلبه من جنس الذين قال الله تعالى فيهم إنهم يقولون للرسل نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون 1] قال الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) [المنافقون 1] ومن جنس الذين قالوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ(8/501)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) [البقرة 8-13] وإذا لقوا الآيات ونظائرها وذلك أن المشركين وكل من كذب لما كذّبوا بأن القرآن منزل من الله وكذّبوا الرسول بما جاء به حادوا واختلفوا ماذا يقولون في الكتاب والرسول وقالوا أقوالا متناقضة يظهر فسادها لكل من تأملها وآخرون منهم لما رأوا هذه الأقوال متناقضة أمسكوا عنها فلم يقولوا شيئا منها لكنهم اقتصروا على تكذيب القرآن والرسول لما زعموا أنه قام عندهم أدلة تدل على أنه ليس برسول الله ولا القرآن منزل من الله تعالى فعلموا بموجب تلك الأدلة ثم بعد ذلك قالوا فليكن أي شيء كان وليس علينا تعيين ما هو فهكذا الذين جوزوا معاني القرآن التي أرادها الله تعالى ورسوله بالكتاب والسنة صاروا في القرآن والحديث حزبين حزباً يحملون كلام الله ورسوله على معان أخر يظهر للمتأمل أن الله لم يردها ولا هي معنى كلامه وقال آخرون يكفينا أن تنفى تلك المعاني وبعد(8/502)
هذا فليدل القرآن والحديث على أي شيء دل ليس علينا أن نعرف ما دل عليه فهم مشتركون في جحد المعاني التي أرادها الله تعالى ورسوله ثم ادعى بعضهم معاني أنها هي المرادة والاعتبار بين أنها ليست مرادة فالذي أراده الله تعالى ورسوله جحدوه وقالوا إن الدليل عندنا بنفيه والذي حملوا عليه كلام الله ورسوله لم يرده الله تعالى ولا رسوله فقال آخرون نحن نوافقكم على جحد ما جحدتموه من تلك المعاني وأما ما فسرتم به القرآن والحديث فقد ظهر بطلانه أيضا فنحن نعرض عن تدبر القرآن والحديث وفهم معناه ولا يضرنا بعد ذلك دلالته على أي شيء دل فهؤلاء يأمرون بالجحد لمعاني التنزيل وبالجهل البسيط في تفسير القرآن وتأويله وأولئك يأتون بالجهل المركب في التفسير والتأويل فهؤلاء كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] وأولئك كظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور 40](8/503)
وأهل العلم والإيمان الذين أوتوا القرآن والإيمان هم كما قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) [النور 35] فإن هذا النور هو نور الإيمان والقرآن جميعا كما قال تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى 52-53] وبذلك فسره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم رضي الله عنهم كما روى عبد بن حميد حدثنا عبد الله بن يوسف عن أبي(8/504)
جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] قال بدأ بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمنين فقال مثل نوره أي مثل نور المؤمن قال ولذلك كان أبي يقرؤها مثل نور المؤمن قال هو عند جعل الإيمان والقرآن في صدره قال المشكاة قال صدره فيها مصباح فالمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره قال الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ قال فالزجاجة قلبه قال الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قال فقلبه بما استنار بالقرآن والإيمان كأنه كوكب دري يقول يضيء يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ(8/505)
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ قال الشجرة الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له قلت هذا نظير الحديث المأثور من أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وهو معروف من مراسيل مكحول وقد ذكره أحمد بن حنبل وغيره وقد روي(8/506)
متصلاً بإسناد فيه مقال قال لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ قال فمثله كمثل الشجرة التفت بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هو المؤمن قد أخبر أنه يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله تعالى فيها وهو بين أربع خلال عن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال نُورٌ عَلَى نُورٍ فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة ثم ضرب مثل الكافر فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) [النور 39] قال فكذلك الكافر يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيراً فلا يجده فيدخله الله النار قال وضرب الله تعالى مثلا آخر للكافر(8/507)
فقال أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور 40] قال هو يتقلب في خمس من الظلمة فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمات إلى النار وهذا قد رواه عامة من صنف في التفسير كما رواه ابن أبي حاتم وروي أيضا عن السدي فيها مصباح قال المصباح النور والإيمان والقرآن قال والزجاجة هي القلب والمشكاة هي الصدر فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء فكذلك أضاء القلب فأضاء البيت فكذلك نزل النور في الصدر فأضاء به الجوف كله فلم يدخله حرام نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ قال السدي نور النار ونور الزيت حيث اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحب فكذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه وفي كلام طائفة من السلف أن النور نور القرآن وفي كلام(8/508)
طائفة أخرى أنه نور الإيمان والنور يعمهما جميعاً كما قال تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى 52] كما أن في كلام طائفة من السلف أنهم جعلوا هذا مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام الأكثرين أنه مثل لكل مؤمن والجميع صحيح فمحمد صلى الله عليه وسلم سيدهم وإمامهم وما فيه من وصف الشجرة بأنها بين الشجر هي قول طائفة وطائفة أخرى قالوا بل هي في الصحراء لا تزال الشمس عليها وهو أصفى الزيت وقيل بل هي متوسطة تطلع عليها وقت الطلوع والغروب وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن من كان يجحد معاني القرآن التي أرادها الله تعالى به فإنه لا يحصل له هذا النور لا نور القرآن ولا نور الإيمان فتلك الأنوار المعاني الشريفة ثم إذا جحدها كان في ظلمة الجحود والتعطيل ومن فسرها بغير المراد كان مثله كظلمات في بحر لجي ومن لم يعرفها ولا قال شيئا فهو كسراب بقيعة وهذا وإن كان عمومه يتناول من كذب بمعاني(8/509)
القرآن التي جاءت بها الرسل كالملاحدة فمن كذب ببعضها وجحده فله نصيب من ذلك بحسب ما كذب به وجحده وإن كان له نصيب من الإيمان ببعضها من وجه آخر فقد يجتمع في الرجل شعبة إيمان وشعبة نفاق كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة(8/510)
الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وكذلك أهل التكذيب بالقرآن والرسول اختلفوا فيه فقيل ساحر وقيل مجنون وقيل شاعر وقيل كاهن كما قيل في القرآن إنه سحر وإنه شعر وإنه أساطير الأولين اكتتبها وإنه إفك افتراه فجعلوا القرآن عضين قال تبارك وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا(8/511)
وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) [الفرقان 1-9] وكذلك قال تعالى وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) [الإسراء 45-48] فهم لما جحدوا الحق أرادوا أن يشبهوه ويجعلوه من جنس السحر أو الشعر أو الكذب أو غير ذلك فكانوا ضالين لا يستطيعون مع هذا الضلال سبيلاً من السبل الهادية كالتائه عن الطريق الذي(8/512)
لا يستطيع معرفة وهكذا أهل الجحد لمعانيه منا قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب وقد قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) [البقرة 176] فإن قيل فقد اختلف السلف في بعض معانيه قيل السلف لم يكن فيهم من جعل عمدته في الباطن على شيء يخالف القرآن ثم القرآن إما أن يتأوله على هواه وإما أن يعرض عن معناه ويهجره كما قال تعالى عن الرسل وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)(8/513)
[الفرقان 30] وهجر معانيه أعظم من هجر ألفاظه بل السلف كلهم كانوا مقرين بما تبين لهم منه وهو المحكم الذي هو أم الكتاب كذلك يشتبه على بعضهم بعضه فإما أن يعلم تفسيره ويعلم معناه الموافق لمعنى المحكم وإما أن لا يعلم لكنه يعلم أن معناه لا يناقض معنى نص المحكم فبكل حال لم يكونوا يجعلون غير الرسول صلى الله عليه وسلم معارضا له مقدما عليه آراؤهم وأهواؤهم وعقولهم ومقاييسهم وأذواقهم ولا كتابا آخر مخالفا له وأما أهل الإلحاد فيجعلون عقولهم ومقاييسهم وأذواقهم هي الأم والأصل الذي يعتمدون ثم القرآن إن وافق ذلك وإلا سلكوا فيه أحد المسلكين إما ضرب الأمثال الباطلة وإما هجره والإعراض عنه وقد اجتمعت للمكذبين للرسل من مشركي العرب وغيرهم كما أن من عارضه بكتاب آخر(8/514)
وقدم ذلك عليه فهم من جنس اليهود والنصارى ومكذبو الرسل الذين يقدمون آراءهم على ما أنزل الله أسوأ حالاً وأضعف عقلاً وإيماناً وأشد كفراً من أهل الكتاب الذين يوجبون كتاباً آخر غير القرآن عليهم فإن هؤلاء من جنس من يحتج بنص منسوخ أو ضعيف الدلالة ولكن يظن أنه من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أو يعارض قوله بما يظن أنه معارض له من قوله وهذا مازال في الناس بخلاف من يعارض قوله بما يعلم أنه ليس من قوله وإنما هو قول غيره فهذا لم يؤمن بالرسول ولا بما جاء به ولهذا لم يُعرف عن أحد من السلف أنه عارض آية أو حديثاً إلا بما يظن أنه معنى آية أو حديث آخر سواء كان مصيباً في المعارضة أو مخطئاً فالمصيب الذي يعارض المنسوخ بالناسخ كما كان الصحابة ومن بعدهم من العلماء يقولون في قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة 184] دل على أن المقيم المطيق يخيّر بين الصيام والافتداء وهو منسوخ بقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ(8/515)
فَلْيَصُمْهُ [البقرة 185] وهذا معلوم بالتواتر وإجماع الأمة أن الصيام واجب على المقيم القادر لا يخيّر بينه وبين الافتداء كما كان في أول الأمر وقد قال كثير من السلف هذه الآية ليست منسوخة وأرادوا أن فيها أحكاماً غير منسوخة كما قد يستدل بها على افتداء العاجز والمرضع والحامل لكن الحكم الأول قد اتفقوا على نسخه وقد يعارضون ما يفهم من آية بما يدل على نقيض ذلك المعنى ليبين أنه لم يفرد وقد يسمون هذا نسخاً كما عارض ابن مسعود وغيره عموم قوله تعالى في المتوفى عنها زوجها يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة 234] بأن سورة الطلاق وقد سماها سورة النساء القصرى نزلت بعد ذلك وفيها وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 4] وكان علي وابن عباس ومن اتبعهم رضي الله تعالى عنهم يقولون تعتد أبعد(8/516)
الأجلين وكان عمر وابن مسعود وغيرهما يقولون إذا وضعت حلت وجاءت السنة الصحيحة بذلك في قصة سُبيعة الأسلمية لما توفي عنها زوجها سعد بن خولة عام حجة الوداع ووضعت بعده بليال وقال لها أبو السنابل بن بعكك ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشراً فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذب أبو السنابل حللت فانكحي فاتفق(8/517)
عامة العلماء على اتباع السنة وإن كان القرآن يدل على مثل ذلك لكن القرآن قد يخفى على الأكابر وأما السنة فصريحة لا تخفى على أحد بلغته وعائشة لما عارضت قوله إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه عارضت ذلك بقوله تعالى وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر 18] لم تعارضه بالمعقول وأن هذا ظلم ووافقها على(8/518)
هذا كثير من العلماء وبعضهم رد الحديث كما اختاره الشافعي رحمه الله تعلى في مختلف الحديث وقال إن عائشة روت لفظين أحدهما يوافق هذا الحديث وهو قوله إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله(8/519)
والثاني قوله إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها وبعضهم تأوله على ما هو ذنب للموصي والقول(8/520)
الآخر وهو الصحيح وهو أنه لا منافاة بينهما وإن هذا التعذيب ليس هو حملاً لذنب لنائحة على غيرها بل ذنبها بالنياحة باق عليها ولا هو عقوبة للميت على نياحتها لكونه لم ينه عنها ونحو ذلك بل هذا من نوع الألم والأذى الذي يحصل بذلك كما يتأذى الميت بغير ذلك كما قد بسط في مواضع ولهذا قيل يعذب ولم يقل يعاقب والعذاب يقال في(8/521)
مطلق الأذى كما روي إن السفر قطعة من العذاب وعارضه بعضهم بقوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] كما نقل عن ابن عباس وهؤلاء يجعلون الإضحاك والإبكاء مما يفعله الرب تعالى كالإماتة والإحياء فلا ينهى عنه وهو ضعيف أيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت عنه الأحاديث بالنهي عن النياحة ونحوها من البكاء وقوله إن الله تعالى لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه(8/522)
وقال ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودها بدعوى الجاهلية وقال أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة(8/523)
وقال إن النائحة إذا لم تتب فإنها تلبس يوم القيامة درعاً من جرب وسربالاً من قطران وبايع النساء على أن لا ينحن وهو من تأويل قوله وَلَا يَعْصِينَكَ فِي(8/524)
مَعْرُوفٍ [الممتحنة 12] وقد ذم سبحانه وتعالى الضحك ودعا إلى البكاء في هذه السورة التي قال تعالى فيها وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) [النجم 43] بقوله تعالى أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) [النجم 59-60] وكذلك لما عارضت قوله عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم(8/525)
تلت قوله تعالى فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [الروم 52] ولما أنكرت رؤيته لربه تعالى تلت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى 51] ولما ظنت أن القرآن يخالف ذلك نسبت الراوي إلى الغلط وإن كان أئمة الصحابة وجمهور علماء المسلمين على التصديق بالحديث وأنه لا منافاة بينه وبين القرآن فالمقصود أنه ليس من الصحابة من قال إن القرآن أو الخبر يخالف العقل والأدلة العقلية فالواجب أن يقول بموجب العقل والأدلة العقلية والقرآن إما أن يعرض عنه فيصير مهجوراً أو يتصور له التأويلات التي تتضمن تحريف الكلم عن مواضعه بل كلهم متفقون على تعظيم القرآن وأنه ما أول(8/526)
إلا على حق وأنه هدى وبيان وشفاء وإن قصر فهم بعضهم عن بعض عرف أن ذلك من نقص فهمه وعلمه لا من نقص ما دل عليه القرآن ولا يجعلون إيمانهم بما دل عليه القرآن موقوفا على نفي المعارض بل قد تيقنوا على أنه لا يعارضه حق بل كل ما عارضه فهو باطل كشبه السوفسطائية والقرامطة التي يعارضون بها الأدلة العقلية والسمعية والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن ضرب القرآن بعضه ببعض فلا يجوز معارضة آية بآية للتصديق بمعنى إحداهما دون الأخرى بل يجب الإيمان به كله فكيف بمن عارضه بكتاب آخر فكيف بمن عارض جنس الأنبياء والكتب المنزلة من السماء بنا لم يأت به كتاب ألبتة بل كان مضاهياً الذين يجادلون في آيات الله لغير سلطان والذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فهؤلاء من جنس المكذبين للرسل المشركين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه(8/527)
وأين هذا من قوله تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) [الأعراف 1-3] وإذا قال القائل الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عرف صدقه بأدلة عقلية وأنه لابد له من الأدلة العقلية فهذا صحيح لكن تلك الأدلة العقلية التي بها يعرف صدق الرسل هي مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها القرآن على أحسن الوجوه وأكملها فالأدلة العقلية التي تستحق أن تسمى أدلة عقلية على المطالب العالية الإلهية وهي الإيمان بالرب تعالى والإيمان بكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح الذي به يسعد الناس وينجون من العذاب في الدنيا والآخرة قد دل عليه القرآن أحسن دلالة وبينه أحسن بيان بل ضرب الله في القرآن من كل مثل وجميع ما يذكره الناس في هذا الباب متكلمهم ومتفلسفهم ما كان فيه حقّا فقد جاء القرآن به وبأحسن منه على أكمل الوجوه بل ما جاءت به النبوات في التوراة والإنجيل من المطالب الإلهية جاء القرآن بها وما حرفها فكيف بالأمور التي تعرف بمجرد العقل من غير وحي من السماء في هذا الباب فإن معرفة هذه أيسر(8/528)
فإذا كان القرآن قد اشتمل على معاني الكتب فكيف لا يشتمل على هذه وهذه الجملة لها تفصيل مبسوط في مواضع بل بين في مواضع أن ما سلكه أهل البدع من أهل الفلسفة والكلام لا يصلون إلى علم ويقين بل إنما غاية صاحبه الشك والضلال وهذا مما اعترفت به حذاقهم وممن اعترف به أبو عبد الله الرازي رحمه الله في غير موضع من كتبه ولفظه في بعضها لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) [طه 5] وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وأقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) [طه 110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهذا قاله في آخر عمره في آخر ما صنفه وهو كثير التناقض يقول القول ثم يرجع عنه ويقول في الآخر(8/529)
ما يناقضه كما يوجد هذا في عامة كتبه تغمده الله برحمته وعفا عنه وسائر المؤمنين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) [الحشر 10] وتوبته معروفة مشهورة وقد بسط هذا في مواضع وبيّن أنه يمتنع تعارض الأدلة اليقينية سواء كانت كلها عقلية أو كلها سمعية أو بعضها سمعي وبعضها عقلي فلا يجوز أن يكون أحد من الأنبياء أخبر بخلاف ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم فإن أخبار الأنبياء كلها صدق يجب الإيمان بها فكما لا يجوز أن تتناقض أخباره فلا يتناقض خبر نبي وخبر آخر وأما الأعمال والأصول الكلية فلا يختلفون بشيء منها كالأمر بتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له والأمر بإخلاص الدين له والأمر بالعدل وغير ذلك وكذلك النهي عن الفواحش وعن الظلم وعن الشرك(8/530)
والقول على الله عز وجل بلا علم كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) [الأعراف 33] كما ذكر المأمور به في قوله تعالى قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف 29] وكما قد ذكر أصول الشرائع في آخر الأنعام وفي بني إسرائيل وغير ذلك وهذه الأمور مما اتفقت(8/531)
عليها شرائع الأنبياء وأكثر المسلمين على أنها لا تقبل النسخ ولا يجوز أن يبعث نبي بخلافها ولا ينسخ منها شيء وأما الذين يجوزون على الله تعالى أن يأمر بكل شيء وينهى عن كل شيء فيجوزون النسخ في هذه وغيرها وبكل حال فلم يقع في شيء منها نسخ وإنما جاء النسخ في أمر يسير من فروع الشرائع كما قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة 48] كما شرع السبت لأهل التوراة وشرع لأهل القرآن(8/532)
الجمعة وكما حرم عليهم كل ذي ظفر وشحم الثرب والكليتين وأحل لأهل القرآن جمع الطيبات وإنما حرم عليهم الخبائث ورفع الله تعالى عمن اتبعه من أهل الكتاب آصارهم والأغلال التي كانت عليهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف 157] وكذلك الأدلة العقلية الخبرية والأدلة العقلية على حسن بعض الأشياء وقبح بعضها عند من يقول بذلك إذا كانت حقّا فإنها لا تناقض شيئاً مما جاءت به الرسل لا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا غيره ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يعلم بالعقل الصريح امتناعه بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ما يعجز عقل بعض الناس(8/533)
عن فهمه وتصوره فإن العقول متفاوتة وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ما لا يستطيع الناس أو كثير منهم أن يروه في الدنيا أو يسمعوا صوته أو يتصوروه ويكفيك أن موسى عليه السلام مع عظم قدره لما تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) [الأعراف 143] ولكن كثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة ولا تكون ممتنعة كما يظن أشياء جائزة أو واجبة ولا تكون كذلك ولهذا عامة الطوائف بالعقليات توجب هذا أو تجوز ما يقول الآخر إنه ممتنع وكلاهما يزعم أن العقل دل على ذلك فلهذا كان من الناس من يظن أن المعقولات الصريحة تخالف ما جاء به القرآن والحديث الصحيح من إثبات معاني أسماء الله وصفاته كما يقول ذلك المعطلة الجهمية ومن يشاركهم في بعض ذلك فالذين نفوا علو الله على خلقه ونحو ذلك هم من هؤلاء والرازي في هذا الكتاب قد(8/534)
يستوعب ما يحتج به طوائف النفاة من الحجج العقلية وقد تقدم بيان فساد ذلك جميعه من وجوه متعددة تبين أن جميع ما يعتمدون عليه من الحجج التي يسمونها براهين عقلية التي عارضوا بها ما جاء به القرآن والحديث باطلة وأن العقل الصريح موافق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقضه فالعقل الصريح لا يخالف النقل بل هو يوافقه ويعاضده ويؤيده ويكفينا أن نبين فساد ما يعارضه أما ذكر ما يوافقه من العقليات النظرية فهذا أبلغ وأحسن وقد تبين أن الفطرة العقلية الضرورية متوافقة والعقليات النظرية موافقة فالذين عارضوه هم خالفوا السمع والعقل فكانوا من جنس الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) [الملك 10](8/535)
فصل قال الرازي الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظاهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها وقال المتكلمون بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات والكلام على هذا من وجوه أحدها أنه لم يحك إلا قولين تحريم التأويل أو وجوبه وبقي القول بجوازه دون وجوبه وهو قول كثير من الناس ومنهم من يوجبه في حال دون حال ومنهم من يجوزه في حال دون حال ولبعض الناس دون بعض وأكثر القائلين بالتأويل هذا(8/536)
مذهبهم لم يقولوا إنه واجب على الأعيان لكن قد يقولون إنه واجب على الكفاية الوجه الثاني أن مذهب السلف يعرف بنقل أقوالهم أو نقل من هو خبير بأقوالهم وما ذكره من العبارة لم ينقل عن أحد من السلف ولا نقله من يحكي إجماع السلف ونحن ذكرنا قطعة من أقوال السلف في هذا الباب وأقوال من يحكي مذاهبهم من جميع الطوائف في جواب الفتيا الحموية في الرد على الجهمية وغير ذلك ولكن ما ذكره هذا من مذهب السلف والتفويض إنما يعرض في كلام أبي حامد ونحوه ممن ليس لهم خبرة بكلام السلف رحمهم الله بل ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يميزون بين صحيح هذا وبين(8/537)
ضعيفه ولكن ينقلون مذهب السلف بحسب اعتقادهم لا بأقوال السلف وما بينوه وقالوه في هذا الباب وأقوال السلف كثيرة مشهورة في كتب أهل الحديث والآثار الذين يرونها عنهم بالأسانيد المعروفة وكذلك في كتب التفسير وقد صنفوا في هذا الباب مصنفات كثيرة منها من يسمي مصنفه كتاب السنة ومنهم من يسميه الرد على الجهمية ومنهم من يسميه الشريعة ومنهم من يسميه الإبانة عن شريعة(8/538)
الفرقة الناجية وفيها من الآثار الثابتة عن السلف التي بها تعرف مذاهبهم ما لا يحصى فمن لم تكن له معرفة بذلك مثل كثير من أهل الكلام هذا وأمثاله إذا نقلوا مذهب السلف مذهباً لا يعرفونه وعن قوم لا يعرفون ما قالوا ويضيفون إلى السلف ما هم بريئون منه ويكذب عليهم فيما ينقل عنهم كما يكذب على الرسول بتقويله ما لم يقله أو القول بلا علم وعلى القرآن بتحريف الكلم عن مواضعه وهذه حقيقة قول الملحدة وهو الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين وقد قال تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) [الأعراف 33] وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) [الأعراف 152](8/539)
الوجه الثالث قوله عن مذهبهم إنه يجب القطع أن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها ويجب تفويض معناها إلى الله تعالى فيقال هذا الذي لا يعرف عن أحد من السلف رحمهم الله تعالى لا يعرف عن أحد منهم أنه قال يجب القطع بأن مراد الله منها غير ظاهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى بل المعروف عن السلف نفي تشبيهها ومماثلتها بصفات المخلوقين وإنكارهم على الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي ونزول كنزولي واستواء كاستوائي ونحو ذلك فهذا ثابت صريح عن غير واحد من السلف وأئمة السنة ولا يعرف عن أحد من السلف وأئمة الإسلام المعروفين أنه قال إن الله تعالى جسم أو جوهر أو متحيز ولا قال إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا قال هو في جهة ولا ليس في جهة فهذه الألفاظ نفياً وإثباتا لا توجد في القرآن والحديث ولا يوجد نفيها(8/540)
ولا إثباتها في كلام أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المعروفين بالإمامة في الدين كالأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم(8/541)
ولا يعرف أيضاً عن أحد من السلف أنه قال إن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها فضلا عن أن يقول يجب القطع بشيء بل لفظ الظاهر مجمل فقد يراد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين فهذا هو الذي نفاه السلف كما ذل الكتاب على معنى ذلك وكذلك العقل قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وقال تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [الإخلاص 4] وقال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) [مريم 65] فمن قال إذا استوى على العرش ك استواء الملك بحيث يكون محتاجاً إلى العرش فهذا تمثيل منكر فإن الله تعالى غني عن كل ما سواه والعرش وكل مخلوق مفتقر إلى الله تعالى من كل وجه وهو بقدرته يحمل العرش وحملته وكذلك من قال ينزل كنزول المخلوق بحيث يبقى تحت(8/542)
العرش ويخلو منه العرش فهذا يقوله طائفة والسلف أنكروا ذلك كما أنكره حماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما وقالوا إنه ينزل ولا يخلو منه العرش وهو فوق العرش وهو يقرب من خلقه كيف يشاء وكذلك من قال إنه في السماء بمعنى أن الأفلاك تحويه فمن قال إنها تحمل على الظاهر بهذا المعنى فهذا قوله قول باطل منكر عند السلف كما دل الكتاب والسنة على بطلانه وأما إذا قيل تحمل على الظاهر اللائق بجلال الله تعالى كما تحمل سائر الصفات مثل لفظ المشيئة والسمع والبصر والقدرة والعلم فإن مثبتة الصفات يحملون هذه على ظاهرها عند عامة المسلمين إلا الغلاة المنكرون للأسماء ومع هذا فليس مفهومها في حق الله تعالى مثل مفهومها في حق المخلوق بل هنا ثلاث اعتبارات أن تذكر مطلقة وأن تذكر مضافة إلى الرب وأن تذكر مضافة إلى العبد فإذا ذكرت مضافة إلى الرب مثل قوله تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة 255](8/543)
وقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات 58] وقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر 7] وقوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف 156] ونحو ذلك فهنا يمتنع أن يدل على شيء من خصائص صفات المخلوقين وإذا ذكرت مضافة للعبد كقوله تعالى عن يعقوب وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف 68] وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم 54] وقوله وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت 15] فهنا يمتنع أن يدخل فيها شيء من خصائص الرب تعالى وإذا ذكرت عامة مطلقة فقيل العلم ينقسم إلى علم الرب وعلم العبد والموجود ينقسم إلى القديم والحديث فاللفظ العام المطلق الذي هو مورد المعتبر به يدل على شيء من خصائص الرب تعالى ولا على خصائص العبد الوجه الرابع أن مذهب ـهم صريح في نقيض(8/544)
ما ذكره وأنهم كانوا يقولون إن الله تعالى مستوٍ على العرش ويثبتون له الصفات الخبرية كما تواترت النقول عنهم بذلك بضد ما حكاه هذا وأمثاله عنهم والوجه الخامس فوله ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى لا يجوز تأويلها فيقال السلف فوضوا إلى الرب علم كيفيتها كما قال مالك وربيعة الاستواء معلوم والكيف مجهول وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم وأما فهم معناها وتفسيرها فلم يكن السلف ينكرونه ولا كانوا ينكرون التأويل بهذا المعنى وإنما أنكروا تأويلات أهل التعطيل التي هي تحريف الكلم عن مواضعه فكانوا ينكرون على من يتأول القرآن على غير تأويله كما صنف الإمام أحمد كتابه في الرد على من تأول القرآن كقوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] بمعنى أنه لا يرى(8/545)
في الدنيا ولا في الآخرة وأنكروا على من تأول قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] بمعنى أنه كان فيهما وأنكروا على من تأول قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] على نفي الصفات فأنكروا التأويلات الباطلة مثل التأويلات التي ذكرها هذا وغيره فلم يكن التأويل في عرفهم هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بل كانوا يسمون التفسير تأويلاً وما يؤول إليه اللفظ تأويلاً وإن وافق ظاهره وينكرون تفسير القرآن والأحاديث بالتفسيرات الباطلة وهو التأويلات الباطلة(8/546)
فصل قال الرازي واحتج السلف على صحة مذهبهم بوجوه الأول بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] والذي يدل على أن الوقف واجب وجوه فيقال لا ريب أن كثيراً من السلف كانوا يرون الوقف عند قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ويقول بعضهم انتهى علم الراسخين إلى أن يقولوا آمنا به همن هؤلاء(8/547)
من يقول هذا ومنهم من يقول أيضاً إن الراسخين يعلمون التأويل والتأويل الذي نفي عن الراسخين غير الذي أثبت لكن ما عرف عن أحد من السلف أنه جعل هذا التأويل الذي لا يعلمه إلا الله أن تنفي دلالة الآيات والأحاديث عما دلت عليه من الصفات وإثبات تأويلات تخالف ما دلت عليه والقول بأن تلك التأويلات لا يعلمها إلا الله بل لم يعرف عن أحد من السلف أنه كان لفظ التأويل عنده صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح وإذا لم يكن هذا المعنى هو معنى لفظ التأويل عندهم فإذا قالوا لا يعلم تأويله إلا الله لم يكن هذا مرادهم كما حكاه هذا عنهم بل قد تقدم بعض أقوال السلف الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله أن التأويل عندهم هو التأويل في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف 53] وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] ومنه كيفية صفات الرب تعالى وكما قالوا الاستواء معلوم والكيف مجهول أو غير ذلك مما قالوه(8/548)
وما علم أن أحداً منهم قال إن فسرت النصوص عما تدل عليه إلى معنى مرجوح من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بل هذه التأويلات عندهم باطلة مردودة يعلم الله بطلانها لا يقال إنها حق لا يعلمه إلا الله بل نقول فيها ما قاله الله تعالى في الآلهة والأوثان وشفاعتها قال عز وجل وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) [يونس 18] وهذه التأويلات من جنس تأويلات القرامطة والملاحدة لا يقال فيها لا يعلمها إلا الله بل هي تأويلات باطلة يعلم الله أنها باطلة وقد بَيّن لعباده أنها باطلة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أن قول من قال إنه لا يعلم تأويله إلا الله يريد له السلف أن نصوص الصفات لا يفهم منها شيء بل يقطع أن مدلولها غير مراد والمراد لا يعلمه إلا الله فهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف بل أقوالهم صريحة بخلافه والله تعالى أعلم(8/549)