إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس [إبراهيم 35-36] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لهم عقول يعني لمشركي قريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها وروي أن خالد بن الوليد(3/443)
لما هدم العزى وكانت عند عرفات قال يا رسول الله عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك عقول كادها باريها ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] قال تعالى عن قوم(3/444)
عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {26} [الأحقاف 26] وهذه الشبهة وإن تنوعت عباراتها هي التي ذكرها الأئمة أنها أصل كلام الجهمية كما ذكر الإمام أحمد حيث قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل التِّرْمِذ(3/445)
وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم السُّمَنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهًا قال جهم نعم فقالوا هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا(3/446)
قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مَجَسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ذلك أن زنادقة(3/447)
النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسُّمَني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا(3/448)
قال فهل وجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان فهذا الذي حكاه الإمام أحمد من مناظرة السُّمَنية المشركين للجهم هو كما ذكره أهل المقالات والكلام عنهم أنهم لا يقرون من العلوم إلا بالحسيات ولكن قد يقول بعض الناس إنهم أرادوا بذلك أن ما لا يدركه الإنسان بحسه فإنه(3/449)
لا يعلمه حتى يقولوا عنهم إنهم ينكرون المتواترات والمجربات والبديهات وهذا والله أعلم غلط عليهم كما غلط هؤلاء في نقل مذهب السوفسطائية فزعموا أن فرقة من الناس تنكر وجود شيء من الحقائق ومن المعلوم أن أمة يكون لهم عقل يفارقون به المجانين لا يقولون هذا ولكن قد تقع السفسطة في بعض الأمور وبعض الأحوال وتكون كما فسرها بعض الناس أن السفسطة هي كلمة معربة وأصلها(3/450)
يونانية سوفسقيا ومعناها الحكمة المموهة فإن لفظ سوفيا يدل في لغتهم على الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة فلما كان من القضايا ما يعلم بالبرهان ومنه ما يثبت بالقضايا المشهورة وبعضها يناظر فيه بالحجج المسلمة وبعضها تتخيله النفس وتشعر به فيحركها وإن لم(3/451)
تكن صادقة وهي القضايا الشعرية ومنها ما يكون باطلاً لكن يشبه الحق فهذه الحكمة المموهة هي المسماة بالسفسطة عند هؤلاء وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع فهؤلاء السمنية يكون قولهم إن مالا يدرك بالحواس لا يكون له حقيقة ثم الرجل قد يعلم ذلك بحواسه وقد يعلم ذلك بإِخبار من عَلِم ذلك بحواسه ويدل على ذلك أن هؤلاء قوم موجودون فالرجل منهم لابد أن يقر بوجود أبويه وجده وولادته وحوادث بلده الموجودة قبله وما يحتاج إليه من أخبار الناس والبلاد وهذه الأمور كلها لا يعلمها أحدهم إلا بالخبر فإنه لا يدرك بحسه ولادته وإحبال أبيه لأمه ونحو ذلك لكن المخبرون يعلمونها بالإحساس ولا يتصور أن يعيش في العالم أمة يكذبون بكل ما لا يحسونه بل هذا يلزم أن بعضهم لا يزال غير مصدق لبعض في معاملاتهم واجتماعاتهم والإنسان(3/452)
مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه ومن لم يقر إلا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه وإذا كان مقصودهم أن مالا يحس به لم يكن موجودًا كان من الجواب السديد لهم أن يقال لهم إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات(3/453)
والمجربات والبديهيات وغير ذلك وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه فهذا الذي قالوه هو مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها لكنه هنا ضل فظن أن الله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته واحتاج حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن إحساسه فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن إحساسها بشيء من الحواس وقاس وجود الله على وجود الروح من هذا الوجه وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث أثبت وجود مالا يكون داخل العالم ولاخارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم ولاخارجه ولا يمكن إحساسها فقول جهم هو قول هؤلاء كما قال تعالى(3/454)
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50} وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {51} كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} [الذاريات 50-53] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] قال الإمام أحمد وجد الجهم ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا واتبعه على قوله(3/455)
رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بوصفين مختلفين وفي نسخة لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون(3/456)
وفي نسخة ولا له نور ولا له جسم ليس هو معلوم أو معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي يكون لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا أو قال لا يأتون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق(3/457)
فقلنا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا أو قال لا تأتون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنالهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر(3/458)
وفي نسخة إنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله ثم ذكر أحمد الكلام في مناظرتهم في القرآن والرؤية والصفات والعرش ونحو ذلك وكان الأئمة كالإمام أحمد والفضيل بن عياض(3/459)
وغيرهما إذا أرادوا أن يذكروا ما يستحقه الله من التنزيه ذكروا سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وأنها مستوفية كل ما ينفى في هذا الباب ولهذا لما ناظرت الجهمية الإمام أحمد كأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وغيره من البصريين والبغداديين وذكروا الجسم وملازمه ذكر لهم أحمد سورة الإخلاص فإن ما فيها من التنزيه هو الحق دون ما ادخلوه في لفظ الجسم من الزيادات الباطلة وذلك أن مايذكرونه يدور على أصلين نفي التشبيه ونفي التجسيم الذي هو التركيب والتأليف ولهذا يذكر من العقائد التي ينفى فيها التنزيه الاعتقاد السليم من التشبيه والتجسيم(3/460)
فأصل كلامهم كله يدور على ذلك ولا ريب أنهم نزهوا الله بنفي هذين الأمرين عن أمور كثيرة يجب تنزيهه عنها وما زادوه من التعطيل فإنما قصدوا به التنزيه والتقديس وإن كانوا في ذلك ضالين مضلين وسورة الإخلاص تستوفي الحق من ذلك فإن الله يقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 1-2] وهذان الاسمان الأحد والصمد لم يذكرهماالله إلا في هذه السورة وهما ينفيان عن الله ماهو منزه عنه من التشبيه والتمثيل ومن التركيب والانقسام والتجسيم فإن اسمه الأحد ينفي المثل والنظير كما تقدم الكلام على ذلك في أدلته السمعية وبيّنا أن الأحد في أسماء الله ينفي عنه أن يكون له مثل في شيء من الأشياء فهو أحد في كل ما هو له واسمه الصمد ينفي عنه التفرق والانقسام والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه فإن اسم الصمد يدل على الاجتماع وكذلك كل واحد من معنييه اللذين يتناولهما هذا الاسم(3/461)
وهو أن الصمد هو السيد الذي كمل سؤدده ويصمد إليه في الأمور والصمد هو الذي لا جوف له كما يقال الملائكة صمد والآدمي أجوف والمصمت ضد الأجوف فإن اسم السيد يقتضي الجمع والقوة ولهذا يقال السواد هو اللون الجامع للبصر والبياض اللون المفرق للبصر ويقال للحليم السيد لأن نفسه تجتمع فلا تتفرق ولا تتميز من الغيظ والواردات عليها وكذلك هو الذي يصبر على الأمور(3/462)
والصبر يقتضي الجمع والحبس والضم وضده الجزع الذي يقتضي التفرق وكذلك التعزي والتعزز وعززته فتعزى أو هو لا يتعزى هو ضد الجزوع فإن التعزز والتعزي يقتضي الاجتماع والقوة والجزع يقتضي التفرق والضعف والإنسان له في سؤدده وعزته حالان أحدهما أن يستغني بنفسه عن غيره ويعز نفسه عن غيره فلا يحتاج إلى الغير الذي يحتاج إليه غيره لغناه ولايخاف منه لعزته والثاني أن يكون هو قد احتاج إليه غيره ويكون قد أعز غيره فغلبه وأعزه فمنعه فيكون الناس قد صمدوا له أي قصدوه وأجمعوا له وهذا هو الصمد السيد وذلك إنما يكون من كمال سؤدده وصمديته التي تنافي تفرقه وتمزقه وضعفه ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد ليس كما تقول طائفة من الناس أن الصمد في(3/463)
اللغة إنما هو السيد ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الصمد هو الذي لا جوف له فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا وهم أعلم(3/464)
باللغة وبتفسير القرآن ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤددة وذلك أن لفظ ص م د يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والخلو والتجويف كما يقال صمد المال وصمده تصمدًا إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض ومنه في الاشتقاق الأكبر الصمت والتصمت فإن التاء والدال أخوان متقاربان في المخرج والاشتقاق الأكبر هو ما يكون فيه الكلمتان قد اشتركت في جنس الحرف(3/465)
فالكلمتان اشتركتا في الصاد والتاء والتاء والدال أخوان يقال صمت صماتًا وصموتًا وأصمت وإصماتًا وهو جمع وضم ينافي الانفتاح والتفريج ولهذا يقال للعظام ونحوها من الأجسام منها أجوف ومنها مُصْمَت فظهر أن اسم الأحد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه عنه من التشبيه ومماثلة غيره له في شيء من الأشياء واسمه الصمد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه من الانقسام والتفرق ونحو ذلك مما ينافي كمال صمديته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما ما تزيده المعطلة على ذلك من نفي صفاته التي وصف بها نفسه التي يجعلون نفيها تنزيهًا وإثباتها تشبيهًا ومن نفي حده وعلوه على عرشه وسائر صفاته التي وصف بها نفسه يجعلون نفيها تنزيهًا ويجعلون إثبات ذلك إثباتًا لانقسامه(3/466)
وتفرقه الذي يسمونه تجسيمًا وتركيبًا فهذا باطل وليتدبر هذا المقام فإنه من أعظم الأشياء منفعة في أعظم أصول الدين الذي جاءت به هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن وفيه عظم اضطراب الخلائق وكثر فيه تعارض الحجج وتفرق الطوائف وإذا كانت هذه الشبهة ونحوها هي أصل ضلال الأولين والآخرين لما فيها من ألفاظ المُشْبَهة المُجْمَلة كما قال الإمام أحمد في وصف الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة قال فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم فطريق حل مثلها وأمثالها ما تقدم من الكلام على الألفاظ المتشابهة المجملة التي فيها(3/467)
والتي أحدثوها وليس لها أصل في كتب الله ولهذا كان هؤلاء من الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر 35] إذ السلطان هو كتاب الله فمن جادل بغير سلطان من الله كان ممن ذمه الله في الكتاب قال الله تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35] قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} [غافر 56] فإن هذه الألفاظ المُشْتَبِهة متى استفسر عن معانيها وفُصِّلَت زال ما في حجتهم من الاشتباه وتبين أنها حجة داحضة وإن كان هؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] وقال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 34-35](3/468)
الوجه الثاني أن قوله من ينفي الجوهر يقول إن كل ما كان يشار إليه بحسب الحس بأنه هاهنا أو هناك فلابد لأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا إنما يريد هؤلاء بكونه منقسمًا أنه يمكن أن يتميز في نفسه بعضه عن بعض أو يتميز منه شيء عن شيء أو العقل يميز منه شيئًا من شيء وليس لهذا التميز حد يُوقَفُ عنده لا يقولون إن فيه انقسامًا غير هذا بل يقولون إنه واحد في نفسه كما أنه واحد في الحس ويقولون إن الجسم منقسم إلى بسيط وإلى مركب وأما مثبتوه فلهم قولان أحدهما أنه أيضًا واحد في نفسه وفي الحس ولكنه قسمته تنتهي إلى حد والثاني أن(3/469)
فيه أجزاء موجودة فالمشار إليه بحسب الحس لايفضي إلى الأمرين جميعًا بل على أنه إن كان منقسمًا كما ذكر لم يفض إلى شيئين بل غايته أن يفضي إلى ما ذكره من التركيب الذي تقدم الكلام عليه وإن لم يكن منقسمًا وذلك عنده لايكون إلا على مثبتة الجوهر الفرد أفضى إلى أن يكون في غاية الحقارة وهذا الجوهر الفرد إما أن يكون منتفيًا في نفس الأمر وإما أن يكون ثابتًا فلا يقول العاقل إن رب العالمين بقدره فلم يبق ما يقال إلا ما ذكره من الانقسام والتركيب وقد تقدم الكلام عليه وثبت أنه لا يفضي إلى هذين الأمرين جميعًا بل إنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط لكن يفضي إلى هذا على تقدير وإلى هذا على تقدير آخر فظهر أن كونه يشار إليه بالحس لا يفضي إلى الأمرين اللذين ذكرهما وإنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط الوجه الثالث السؤال الذي أورده وهو أنه لم لا يجوز أن(3/470)
يكون غير منقسم ولا يكون بقدرالجوهر الفرد بل يكون واحدًا عظيمًا منزهًا عن التركيب والتأليف والانقسام وهذا ليس قول من ذكره من الكرامية فقط بل إذا كان هو قول من يقول إنه فوق العرش وهوجسم فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس بجسم بطريق الأولى والأحرى فإن نفي التركيب والانقسام على القول بنفي الجسم أظهر من نفيه على القول بثبوت الجسم فإذًا على ما ذكره هذا السؤال يورده على كل من يقول إنه فوق العرش ويقول مع ذلك إنه ليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف لا يحصون من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم بل قد ذكر الأشعري أن هذا قول أهل السنة وأصحاب الحديث فقال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه(3/471)
الأشياء وأنه على العرش وقد تقدم قوله في ذلك وقول غيره وهؤلاء طوائف عظيمة وهم أجلّ قدرًا عند المسلمين ممن قال إنه ليس على العرش فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف منهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة وإن كان قد تاب من ذلك بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديمًا شيخهم الأول جهم بن صفوان وبقي أربعين يومًا شاكًّا في ربه(3/472)
لا يقر بوجوده ولا يعبده وهذه ردة باتفاق المسلمين وكذلك ارتد هذا الرازي حين أمر بالشرك وعبادة الكواكب والأصنام وصنف في ذلك كتابه المشهور وله غير ذلك بل من هو أجل منه من هؤلاء بقي مدة شاكًّا في ربه غير مقر بوجوده حتى آمن بعد ذلك وهذا كثير غالب فيهم ولاريب أن هذا أبعد العالمين عن العقل والدين فإذا كان هؤلاء يناظرون ويخاطبون ويستعد لرد قولهم الباطل لما احتيج إلى ذلك فالذين هم أولى بالعقل والدين منهم أولى منهم بذلك ونحن نورد من كلامهم ما تبين به أن جانبهم أقوى من جانب النفاة وليس لنا غرض في تقرير ما جمعوه من النفي والإثبات في هذا المقام بل نبين أنهم في ذلك أحسن حالاً من نفاة أنه على العرش فيما جمعوه من النفي والإثبات وقد أجاب(3/473)
هؤلاء عما ألزمهم به النفاة من التجسيم الذي هو التركيب والانقسام كقول القاضي أبي بكر فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهًا ويدًا قيل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وقوله مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا فإن(3/474)
فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لاتعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة قلنا لا يجب هذا كمالا يجب إذا لم يعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله ولا يجب في كل شيء كان قائماً بنفسه أن يكون(3/475)
جوهرًا لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا واعتلوا بالوجود فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16}(3/476)
[الملك 16] قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وقال أبو الحسن الأشعري يقال لهم ما أنكرتم أن يكون الله عنى بقوله بِديَّ يدين ليستا نعمتين فإن قالوا(3/477)
لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعْتِلاَلِكُمْ ناقضين وإن أثبتم حيًّا(3/478)
لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي خبر الله عنْهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي وكذلك يقال لهم لم تجدوا حكيمًا قديرًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فيه فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد الوجه الرابع قوله عن المنازع لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى وحده منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا قوله العظيم يجب أن يكون منقسمًا وذلك ينافي(3/479)
كونه واحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد(3/480)
يقال له هؤلاء قد يقولون لا هو عينه ولا هو غيره كما عرف من أصولهم أن غيرالشيء ما جاز مفارقته له وأن صفة الموصوف وبعض الكل لا هو هو ولا هو غيره فطائفة هذا المؤسس هم ممن يقولون بذلك وحينئذ فلا يلزم إذا لم يكن عينه أن يكون مغايرًا له فلا يفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد وإذا جاز أن يقولوا إن هذا الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم جاز أيضًا أن يقال إن الذي له قَدْر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه فلا يكون المشار إليه هو عين الآخر فإن قيل فهذا يقتضي أن يكون كل جسم غير مركب ولا منقسم والغرض في هذا السؤال وخلافه فإن هذا السؤال فرق فيه بين العظيم الشاهد والعظيم الغائب وان الشاهد منقسم بخلاف الغائب(3/481)
قيل هذا الجواب هو مبني على أن غير الشيء ما جاز مفارقته له وكل مخلوق فإن الله سبحانه قادر على أن يفرق بعضه عن بعض وإذا جاز مفارقة بعضه لبعض جاز أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أن علمه وقدرته لما كان قيام هبه جائزًا لا واجبًا كان عرضًا أي عارضًا للموصوف لا لازمًا له والرب تعالى لا يجوز أن يفارقه شيء من صفاته الذاتية ولا يجوز أن يتفرق بل هو أحد صمد إذا كان كذلك لم يلزم عند هؤلاء أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أصلوه الوجه الخامس أنهم قد ألزموا المنازع مثلما ذكره وقالوا إذا كان حيًّا عالمًا قادرًا ولم يعقل في الشاهد من يكون كذلك إلا جسمًا منقسمًا مركبًا وقد أثبته المنازع حيًّا عالمًا قادرًا ليس بجسم منقسم مركب فكذلك يجوز أن يكون إذا كان عظيمًا وكبيرًا وعليًّا ولم يعقل في الشاهد عظيم وكبير وعليٌّ إلا(3/482)
ما هو جسم مركب منقسم لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا إلا إذا كان وجب أن يكون كل حي عليم قدير جسمًا مركبًا منقسمًا وكذلك يقولون لمن يقول إن حياته وعلمه وقدرته أعراض وكذلك يقول هؤلاء لمن يسلم إثبات الصفات فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص ولم يكن عندك عرضًا فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا ولا فرق بين البابين بحال فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم ومن القائم بغيره أنه عرض وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء والقائم بغيره لابد أن يحتاج إلى محله فإذا أثبت قائمًا بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك فكذلك لزمه أن يثبت قائمًا بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم وجماع الأمر أنه سبحانه قائم بنفسه متميز عن غيره وله أسماء وهو موصوف بصفات فإن كان كونه عظيمًا وكبيرًا موجبًا لأن يكون كغيره من العظماء الكبراء في وجوب الانقسام(3/483)
الممتنع عليه فكذلك كونه حيًّا عالمًا قادرًا وله حياة وعلم وقدرة وسنتكلم على قوله إن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب وأما ما ذكره من التقسيم فيقال له في الوجه السادس أن ما ذكرته من التقسيم يَرِدُ نظيره في كل ما يثبت للرب فإنه يقال إذا أشرناإلى صفة أو معنى أو حكم كعلمه وقدرته أو عالميته أو قادريته أو وجوبه ووجوده أو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً ونحو ذلك فإما أن تكون الصفة أو المعنى أو الحكم الآخر هو إياه أو هو غيره فإن كان هو إياه لزم أن يكون كونه حيًّا هو كونه عالمًا وكونه عالمًا هو كونه قادرًا وكونه موجودًا هو كونه فاعلاً وكونه فاعلاً هو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وهذا يفضي إلى تجويز جعل المعاني المختلفة معنى واحدًا وأن يكون كل عرض وصفة قامت بموصوف صفة واحدة وهذا شك في البديهيات فهذا نظير ما ألزموه للمنازع فإنه يجب الاعتراف بثبوت معنيين ليس المفهوم من أحدهما هو(3/484)
المفهوم الآخر وهذا قد قررناه فيما تقدم فإن كان ثبوت هذه المعاني يستلزم التركيب والانقسام كان ذلك لازمًا على كل تقدير وإن لم يكن مستلزمًا للتركيب والانقسام لم يكن ما ذكره مستلزمًا للتركيب والانقسام فإن مدار الأمر على ثبوت شيئين ليس أحدهما هو الآخر وهذا موجود في الموضعين وهذا يتقرر بالوجه السابع وهو أن يقال المراد بالغيرين إما أن يكون ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر أو ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فإن كان المراد بالغيرين هو الأول لم يجب أن يكون ما فوق المشار إليه غيره إلا إذا جاز وجود أحدهما دون الآخر وهذا ممتنع في حق الله تعالى بالاتفاق وبأنه واجب الوجود بنفسه على ما هو عليه كما هو مقرر في موضعه ثم قد يقال في سائر المعاني إنه يجوز وجود أحدهما دون(3/485)
الآخر فيجوز حصول الوجود دون الوجوب أو دون الفاعلية أو دون العلم والعناية ودون كونه حيًّا عالمًا قادرًا ونحو ذلك وإن كان المراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر كالإحساس بأحدهما دون الآخر كما ذكر من جَوَّزَ الإشارة إلى نقطة دون ما فوقها فيقال لا ريب في جواز العلم ببعض المعاني الثابتة لله دون الآخر كماقد يعلم وجوده دون وجوبه ويعلم وجوبه دون كونه فاعلاً ويعلم ذلك دون العلم بكونه حيًّا أو عالمًا أو قادرًا أو غير ذلك وإذا كانت المغايرة ثابتة بهذا المعنى على كل تقدير وعند كل أحد ولا يصح وجود موجود إلا بها وإن كان واحدًا محضًا كان بعد هذا تسمية ذلك تركيبًا أو تأليفًا أو غير تركيب ولا تأليف نزاعًا لفظيًّا لايقدح في المقصود الوجه الثامن أن يقال اصطلاح هؤلاء أجود فإنه إذا ثبت أن الموجودات تنقسم إلى مفرد ومؤلف أو إلى بسيط ومركب أو إلى واحد وعدد علم أن في الموجودات ما ليس بمركب ولا مؤلف ولا عدد وهذه المعاني لا يخلو منها شيء من الموجودات فعلم أن هذه المعاني لا تنافي كون الشيء واحدًا ومفردًا فيما إذا كان مخلوقًا فكيف ينافي كون الخالق واحدًا(3/486)
فردًا غير مركب ولا مؤلف فهذا الاعتبار المعروف الذي فطر الله عليه عباده يوضح هذا أنا قد قدمنا أن اسمه الأحد ينفي أن يكون له مِثل في شيء من الأشياء فهوينفي التشبيه الباطل واسمه الصمد ينفي أن يجوز عليه التفرق والانقسام وما في ذلك من التركيب والتجسيد وذلك لأنه سبحانه وصف نفسه بالصمدية كما وصف بالأحدية وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] في جميع صفاته بل هو كامل في جميع نعوته كما لا يشبهه فيها شيء فهو كامل الصمدية كما أنه كامل الأحدية والواحد من الخلق قد يوصف بأنه واحد كما قال(3/487)
وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء 11] وكما في ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ويوصف بالأحد مقيدًا أو مطلقًا كقوله فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل 58] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ويوصف أيضًا بالصمد وكما قال يحيى بن أبي كثير الملائكة صمد والآدميون جوف وكما قال الشاعر(3/488)
أَلاَ بَكَّرَ النَّاعي بخير بني أشد بعمرو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصمد وكما قال فأنت السيِّدُ الصَّمَدُ(3/489)
وكذلك لما في العبد من معنى الوحدة ومعنى الصمدية مع أنه جسم من الأجسام فعلم أن كون الموجود جسمًا لا يمنع أن يكون واحدًا وأن يكون أحد الأجسام وأن يكون صمدًا مع أن كونه جسمًا لا يمنع أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا لكن العبد ليس له الكمال الذي يستحقه الله في شيء من صفاته ولاقريب من ذلك فالله تعالى إذا وصف أنه واحد صمد عالم قادر كان في ذلك على غاية الكمال الذي لا يماثله في شيء منه شيء من الأشياء لكن إذا كان ما ذكروه من المعاني التي يجعلونها كثرة وعددًا وتركيبًا ثابتة لكل موجود وذلك لا يمنع أن يكون المخلوق واحدًا فكيف يمتنع ذلك أن يكون الإله الذي ليس كمثله شيء أحدًا وذلك يظهر بالوجه التاسع وهو أن هذه المعاني التي يعلم(3/490)
القلب أن أحدها ليس هو الآخر أمر لابد منه كما قد علم على كل تقدير ونفي هذه نفي لكل موجود وهو غاية السفسطة ونهايتها وذلك يجمع كل كفر وضلال ويخالف كل حس وعقل فهذا التميز إن أوجب أن تكون الحقيقة في نفسها فيها نوع من التميز لم يكن هذا منافيًا لما هو الواجب والواقع من الوحدانية فإن ذلك إذا لم ينف أن يكون كثير من المخلوقات واحدًا فأن لا ينفي ذلك في الخالق أولى وأحرى مع أن أحديته لها من الخصائص ما لا يجوز مثله لشيء من المخلوقات فإنه لا مثل له في شيء من الأشياء وأما غيره فله الأمثال قال الله تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] قال فتعلمون أن خالق الأزواج واحد وإن قيل كما يقوله بعض الناس إن هذا الامتياز(3/491)
والتعدد الذهني لا يوجب أن يكون كذلك في الخارج وجعلوا هذا مثل الاتحاد الذي في المعاني الكلية فإنه كما أن الذهن يدرك إنسانية واحدة وجسمًا واحدًا كليًّا عامًّا أو مطلقًا يطابق الأفراد الموجودة في الخارج مع أنه ليس في الخارج شيء إلا موجود بعينه لا يوجد فيها ما هو كلي عام ولكن لما بين الحقائق من التشابه والتماثل يوجد في هذا نظير ما يوجد في هذا فهو باعتبار النوع لا باعتبار العين بل هو نظيره باعتبار العين فإذا كان هذا التشبيه والتمثيل الموجود في الخارج أوجب للذهن إدراك معنى عام كلي يجمع الأمرين وإن لم يكن في الخارج عامًّا كليًّا فكذلك ما يوجد في العين الواحدة مما يظن أنه أجزاء كم وكيف قد يقال للذهن هو الذي يفرق تلك ويميز بعضها عن بعض وإلا فهي في(3/492)
نفسها واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ولا تركيب فالذهن هو الذي يأخذ الشيء الواحد فيفصله ويركبه بعد التفصيل كما أنه هو الذي يأخذ الشيئين فيمثل أحدهما بالآخر ويجعلهما واحدًا بعد التمثيل فما يذكر من التشبيه والتمثيل الذي يعود إلى معنى عام كلي يشتركان فيه وما يذكر من الأجزاء والصفات الذي يعود إلى معان تتميز في الذهن فيركبها ويؤلفها هو الذي عليه مدار باب التشبيه والتمثيل وباب التجسيم الذي هو التركيب وفي أحدهما يجعل الذهن العدد واحدًا وفي الآخر يجعل الواحد عددًا لكن باعتبارين صحيحين لا يخالف ما هو عليه الحقيقة في نفس الآخر لهذا تغلط الأذهان هنا كثيرًا لأن بين ما في الأذهان وما في الأعيان مناسبة ومطابقة وهو من وجه مطابقة العلم للمعلوم ومخالفة من وجه وهوأن ما في النفس من العلم ليس مساويًا للحقيقة الخارجة فلأجل ما بينهما(3/493)
من الائتلاف والاختلاف كثر بين الناس الائتلاف والاختلاف ومن فهم ما يجتمعان فيه ويفترقان زاحت عنه الشبهات في هذه المحارات والغرض في هذا الوجه الذي يقال في مواقع الإجماع بين الخلائق التي لابد من إثبات شيء منها لكل عاقل في كل موجود يقال في مواقع النزاع بين مثبتة الصفات ونفاتها ولهذا يقال ما من أحد ينفي صفة من الصفات التي وردت بها النصوص أو يتأولها على خلاف مفهومها فرارًا من محذور ينفيه إلا ويلزمه فيما أثبته نظير مافر منه فيما نفاه فسبحان من لا ملجأ منه إلا إليه اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك(3/494)
وهذا القدر وإن كان فيه رد على الطائفتين فيما نفته بغير حق فلا يضر في هذا المقام فإن المقصود هنا حاصل به وهو أن هؤلاء المثبتة لعلو الله على عرشه مع نفيهم ما ينفونه يلزمون نفاة العلو على العرش بأعظم مما يلزمونهم به الوجه العاشر قوله أن نقول إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل بناء على البرهان(3/495)
القطعي وهو ما ذكره من التقسيم فيقال له كل برهان قطعي يستعملونه في حق الله تعالى فلابد وان يتضمن نوعًا من قياس الغائب على الشاهد فإنهم إنما يمكنهم استعمال القياس الشمولي الذي هو القياس(3/496)
المنطقي الذي لابد فيه من قضية كلية سواء كانت القضية جزئية حملية أو كانت شرطية متصلة تلازمية أو كانت شرطية منفصلة عنادية تقسيمية فإنه إذا قيل الواحد لا يصدر(3/497)
عنه إلا واحد وقيل لو كان يشار إليه بالحس لكان إما منقسمًا أو غير منقسم أو لو كان فوق العرش لكان إما كذا وإما كذا ولكان جسمًا أو غير ذلك فلابد في جميع ذلك من قضية كلية وهو أن كل واحد بهذه المثابة وأن كل ما كان مشارًا إليه بالحس لا يخرج عن القسمين وان كل ما كان فوق شيء فإما أن يكون كذا وكذا ولابد أن يدخلوا الله تعالى في هذه القضايا العامة الكلية ويحكمون عليه حينئذ بما يحكمون به على سائر الأفراد الداخلة في تلك القضية ويشركون بينها وبينه في ذلك ومشاركته لتلك الأفراد في ذلك الحكم المطلق والمعلق على شرط ومشابهته لها في ذلك هو القياس بعينه(3/498)
ولهذا لما تنازع الناس في مسمى القياس فقيل قياس الشمول أحق بذلك من قياس التمثيل كما يقوله ابن حزم وطائفة وقيل بل قياس التمثيل أحق باسم القياس من قياس الشمول كما يقوله أبو حامد وأبو محمد المقدسي وطائفة(3/499)
وقيل بل اسم القياس يتناول القسمين جميعًا حقيقة كان هذا القول أصوب فما من أحد يقيس غائبًا بشاهد إلا ولابد أن يدخلهما في معنى عام كلي كما في سائر أقيسة التمثيل وما من أحد يدخل الغائب والشاهد في قياس شمول تحت قضية كلية إلا ولابد أن يشرك بينهما ويشبه أحدهما بالآخر في ذلك فقول القائل لو كان عظيمًا مشارًا إليه لكان منقسمًا لأنا لا نعلم عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك أو لا نعقل عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك هو كقوله لأن كل عظيم فإذا أشرنا فيه إلى نقطة فإما أن تكون هي ما فوقها وتحتها أولا تكون هي ذلك فإنه(3/500)
في الموضعين لابد أن يتصور عظيمًا مطلقًا مشارًا إليه ويُشْرك بين العظيم الشاهد المشار إليه وبين العظيم الغائب المشار إليه في ذلك لكن قوله لا يعقل أبلغ من قوله لانعلم أو لم نشهد لأن قوله لا نعلم أو لم نشهد إنما ينفي ما قد علمه وشهده دون ما لم يعلمه ويشهده بعد وقله لا يعقل ينفي أن يكون معقولاً في وقت من الأوقات ومتى لم يعقل العظيم المشار إليه إلا كذلك فالبرهان الشمولي إنما هو بناء على ما تصوره المستدل به وعَقَلَه في معنى العظيم المشار إليه فإن فرضية النقطة في ذلك العظيم المشار إليه وقوله إما أن تكون هي الأخرى أو لاتكون إنما فرض ذلك وقَدَّره فيما عقله وعلمه فارتسم في ذهنه وهو الذي يعقله من معنى العظيم المشار إليه فإن جاز أن يثبت الغائب على(3/501)
خلاف ما يعقل بطل هذا البرهان وكان لمنازعه أن يُثبت واحدًا عظيمًا مشارًا إليه منزهًا عن التركيب وإن كان ذلك على خلاف ما يعقل من معنى العظيم المشار إليه وإن كان لا يثبت الغائب إلا على ما يعقل بطلت مقدمة الكتاب وبطل قوله إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبإثبات موجودين ليس أحدهما متصل بالآخر ولا منفصلاً عنه وهذا كلام في غاية الإنصاف لمن فهمه فإنا لم نقل إن هذا البرهان باطل لكن قلنا صحة مثل هذا البرهان يستلزم صحة مذهب الذي يقول إنه خارج العالم ويمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن كان البرهان صحيحًا صح قوله إنه فوق العرش وإن كان البرهان باطلاً لم يدل على أنه ليس فوق العرش(3/502)
وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال ما قاله المنازع في مقدمة الكتاب مثل قوله الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وتقريره لما ذكره عن معلم الصابئة المبدلين أرسطو حيث قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى(3/503)
فيقال له قولك إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أولا يحصل هذا هو العقل الذي يهتدي به إلى معرفة الجسمانيات فإن الكلام في النقطة والخط وما يتبع ذلك من علم الهندسة وهو متعلق بمقادير الأجسام فإن كان مثل هذا الدليل حقًّا في أمر الربوبية بطلت تلك المقدمة التي قررت فيها أنه لا ينظر في الأمور الإلهية بالعقل الذي به تعرف الجسمانيات وإذا بطلت صح قول منازعك أن وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه ممتنع ومتى بطلت كان قول منازعك معلومًا بالبديهة والفطرة الضرورية التي لا معارض لها حيث لم يعلم فسادها إلا إذا بطل حكم العقل الذي به تعرف الجسمانيات في أمر الربوبية وإذا كان هذا الدليل لما أنه متعلق بالجسمانيات لا يجوز الاستدلال بمثله في أمر الربوبية فقد بطل هذا الدليل ولم يكن(3/504)
لك طريق إلى إفساد قول من يقول إنه فوق العالم وفوق العرش وإنه مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف أو يقول ليس بجسم كما ذكرنا القولين فيما تقدم يوضح ذلك الوجه الثاني عشر هو أن علوه وكونه فوق العرش هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى والعلم والقول في صفات الموصوف يتبع العلم والقول في ذاته فإن كان مثل هذا الدليل حجة في صفاته نفيًا وإثباتًا كان حجة مثل حجة في ذاته نفيًا وإثباتًا لأن العلم بالصفة دون العلم بالموصوف محال فإذا قال لو كان فوق العرش لكان منقسمًا مركبًا مؤلفًا فإنما هو حكم على ذاته بأنها لا تكون فوق العرش إلا إذا كانت منقسمة مركبة مؤلفة والعلم بذلك ليس أظهر في العقل من العلم بأنه إذا كان موجودًا لم يكن إلا داخل العالم(3/505)
أو خارجه فإن جميع ما ذكره من الحجج في معارضة قولهم إذا كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارجه هو بعينه يقال في قوله إذا كان فوق العرش مشارًا إليه فإما أن يكون منقسمًا وإما أن يكون حقيرًا بل تلك يقال فيها إنا نعلم بالاضطرار أنه فوق العالم ونعلم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه فهاتان قضيتان معينتان ونعلم بالاضطرار أن الموجودين فإما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر بحيث هو كالعرض في الجسم وإما أن يكون مباينًا عنه ونعلم بالاضطرار أن وجود موجود لا يكون داخلاً في الآخر ولا خارجًا عنه محال فهذان علمان عامان مطلقان فإن جاز دفع هذه بأن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من(3/506)
الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال فقول القائل إذا كان فوق العرش فإما أن يكون منقسمًا مركبًا وإما أن يكون بقدر الجوهر الفرد أولى بالدفع أن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال وكون الشيء الذي فوق غيره والذي يشار إليه بالحس لابد أن يكون منقسمًا أو حقيرًا هو من حكم الحس والخيال قطعًا يقرر ذلك الوجه الثالث عشر وهو أنك وسائر الصفاتية تثبتون رؤية الرب بالأبصار كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنك وطائفة معك تقولون إنه يرى لا في جهة ولا مقابلاً للرائي ولا فوقه ولا في شيء من جهاته الست وجمهور عقلاء بني آدم من مثبتة الصفاتية ونفاتها يقولون إن فساد هذا معلوم بالبديهة والحس ومن المعلوم أن كونه فوق(3/507)
العرش غير منقسم ولا حقير أظهر للعقل من كونه مرئيًّا بالأبصار لا في شيء من الجهات الست فإن هذا مبني على أصلين كلاهما تدفعه بديهة العقل والفطرة أحدهما إثبات موجود لا في شيء من الجهات ولا داخل العالم ولا خارجه ولهذا كان عامة سليمي الفطرة على إنكار ذلك والثاني إثبات رؤية هذا بالأبصار فإن هذا يخالفك فيه من وافقك على الأول فإن كونه موجودً أيسر من كونه مرئيًّا فإذا كنت تجوز رؤية شيء بالأبصار لا مقابل للرائي ولا في شيء من جهاته الست فكيف تنكر وجود موجود فوق العالم وليس بمركب ولا بجزء حقير وهو إنما فيه إثبات وجوده على خلاف الموجود المعتاد من بعض الوجوه وذلك فيه إثباته على خلاف الموجود المعتاد من وجوه أعظم من ذلك ودليل ذلك أن جميع فطر بني آدم السليمة تنكر ذلك أعظم(3/508)
من إنكار هذا وأن المخالفين لك في ذلك أعظم من المخالفين لك في هذا فإن كون الرب فوق العالم اظهر في فطر الأولين والآخرين من كونه مرئيًّا بل العلم بالرؤية عند كثير من المحققين إنما هو سعي محض أما العلم بأنه فوق العالم فإنه فطري بديهي معلوم بالأدلة العقلية وأما دلالة النصوص عليه فلا يحصيها إلا الله وما وقع في هذا من الغلط يكشفه الوجه الرابع عشر هو أن معرفة القلوب وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها أن ربها فوق العالم ودلالة الكتاب والسنة على ذلك وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها وكلام السلف في ذلك أعظم من كونه تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة أو أن رؤيته بالأبصار جائزة ويَشْهد لهذا أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام في أوائل المائة الثانية وكان حقيقة قولهم في الباطن تعطيل هذه الصفات كلها كما ذكر ذلك الأئمة لايصفونه إلا بالسلوب المحضة التي لا تنطبق إلا على المعدوم وقد ذكر هذا(3/509)
المؤسس أن جهمًا ينفي الأسماء كلها أن تكون معانيها ثابتة لله تعالى وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى أو أن يتكلم بالقرآن أو غيره أو يكون فوق العرش أو أن يكون موصوفًا بالصفات التي جاءت بها الكتب وعُلمت بدليل من الدلائل العقلية وغيرها لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس إلا ما هو(3/510)
أبعد عن أن يكون معروفًا مستيقنًا من الدين عند العامة والخاصة وأقرب إلى أن يكون فيه شبهة ولهم فيه حجة ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية والشرعية والقياسية وغير ذلك فهذا شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة فإنهم لا يتمكنون ومما عليه العلماء أن مبدأ الرفض كان من الزنادقة(3/511)
المنافقين ومبدأ التَّجهم كان من الزنادقة المنافقين بخلاف رأي الخوارج والقدرية فإنه إنما كان من قوم فيهم إيمان لكن جهلوا وضلوا ولهذا لما نبغت القرامطة الباطنية وهم يتظاهرون بالتجهم والرفض جميعًا وهم في الباطن من أعظم بني آدم كفرًا وإلحادًا حتى صار شعارهم الملاحدة عند الخاص والعام وهم كافرون بما جاءت به الرسل مطلقًا ومن أعظم الناس منافقة لجميع الناس من أهل الملل المسلمين واليهود(3/512)
والنصارى وغير أهل الملل وضعوا الرأي الذي لهم والتدبير على سبع درجات سموا آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وكان من وصيتهم لدعاتهم أن المسلمين إذا أتيتهم فلا تأت هؤلاء الذين يقولون الكتاب والسنة فإنهم صعاب عليك لا يستجيبون لك ولكن ائتهم من جهة التشيع فأظهر الموالاة لآل محمد والتعظيم لهم والانتصار لهم والمعاداة لمن ظلمهم واذكر من ظلم الأولين لهم ما أمكن فإن ذلك يوجب أن يستجيب لك خلق عظيم وبذلك يمكنك القدح في دينهم أخيرًا ثم ذكر درجات دعوته درجة(3/513)
درجة كيف تُدْرِجُ الناس فيها بحسب استعدادهم وموافقتهم له بما يطول وصفه هنا(3/514)
وإنما الغرض التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل والأقرب إلى موافقة الناس إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين وهذا مما يفعله بعض أهل الحق أيضًا في دعوة الناس إلى الحق شيئًا بعد شيء بحسب ما تقتضيه الشريعة وما يناسب حاله وحال أصحابه(3/515)
وإذا كان كذلك فالجهمية الذين كان باطن أمرهم السلب والتعطيل لما نبغوا لم يكونوا يظهرون للناس إلا ما هو أقل إنكارًا عليهم فأظهروا القول بأن القرآن مخلوق وأظهروا القول بأن الله لايرى وكانت مسألة القرآن عندهم أقوى ولهذا أفسدوا من أفسدوه من ولاة الأمور في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون وأخيه أبي إسحاق المعتصم(3/516)
والواثق جعلوا هذه المسألة يمتحنون بها الناس(3/517)
وأظهروا أن مقصودهم إنما هو توحيد الله تعالى وحده لأنه هو الخالق وكل ما سواه مخلوق وأن من جعل شيئًا ليس هو الله تعالى وقال إنه غير مخلوق فقد أشرك وقال بقول النصارى ونحو ذلك فصار كثير ممن لم يعرف حقيقة أمرهم يظن أن هذا من الدين ومن تمام التوحيد فضلوا وأضلوا وكانوا يتظاهرون بأن الله لا يرى لكن لم يجعلوا هذه المسألة المحنة لأنه لا يظهر فيها من شبهة التوحيد العامة بما يظهر في أن كل ما سوى الله مخلوق وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقهم وان المقصود بقولهم إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءت به الكتب الإلهية وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله فإذا قدح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا(3/518)
في كثير من أصلي الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك كما أن كثيرًا من الناس لا يعلمون باطن حال القرامطة لأنهم إنما يظهرون موالاة آل محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن كل مؤمن يجب عليه أن يواليهم وإن أظهروا شيئًا من التشيع الباطل الذي يوافقهم عليه الشيعة الذين ليسوا زنادقة ولا منافقين لكن فيهم جهل وهوى تلبس عليهم فيه بعض الحق كما أن هؤلاء الجهمية وافقهم بعض العلماء والأمراء في بعض ما يظهرونه من لم يكن من الزنادقة المنافقين لكن كان فيهم جهل وهوى تلبس به عليهم نفاقهم العظيم قال الله تعالى في صفة المنافقين لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا(3/519)
زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر الله أن المنافقين لا يزيدون المؤمنين إلا خبالاً وإنهم يوضعون خلالهم أي يبتغون بينهم ويطلبون لهم الفتنة قال الله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر أن في المؤمنين من يستجيب للمنافقين ويقبل منهم فإذا كان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان استجابة بعض المؤمنين لبعض المنافقين فيما بعده أولى ولهذا استجاب لهؤلاء الزنادقة المنافقين طوائف من المؤمنين في بعض ما دعوهم إليه حتى أقاموا الفتنة وهذا موجود في الزنادقة الجهمية والزنادقة الرافضة والزنادقة الجامعة للأمرين وأعظمهم القرامطة والمتفلسفة ونحوهم فإن متقدمي الرافضة لم يكونوا جهمية بخلاف المتأخرين(3/520)
منهم فإنه غلب عليهم التجهم ولهذا كانت الشيعة المتقدمون خيرًا من الخوارج الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما كثير من متأخري الرافضة فقد صار شرًّا من الخوارج بكثير بل فيهم من هو من أعظم الناس نفاقًا بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفوقهم أو دونهم ولهذا قال(3/521)
البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهودي والنصراني ولايسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم قال وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان فاحذروهم الجهمية والرافضة إذا عرف ذلك فالجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأظهروا أن الله لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وإنما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتوسم كما يعلم المنافقون في لحن القول قال(3/522)
الله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد 30] فأقسم سبحانه وتعالى أن المنافقين لتعرفنهم في لحن القول وهذا كما قال حماد بن زيد الإمام الذي هو من أعظم أئمة الدين القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله وقال أيضًا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عباد بن العوام الواسطي كلمت بشر المريسي(3/523)
وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عبد الرحمن بن مهدي ليس في أصحاب الهواء شر من أصحاب جهم يَدُورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا وقال أيضًا أصحاب جهم يريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا(3/524)
وقال عاصم بن علي ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربًا وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا هكذا وجدت هذا عنه في كتاب خلق الأفعال للبخاري والأول رواه ابن أبي حاتم عن عاصم بن علي بن عاصم في كتاب(3/525)
الرد على الجهمية وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدًا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بهذا فرارًا من هذا الكلام(3/526)
وقال وكيع بن الجراح من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله(3/527)
إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فهو جهمي فاحذروه قال وكيع أيضًا لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل وقال الحسن بن موسى الأشيب وذكر الجهمية فنال(3/528)
منهم ثم قال أُدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له سمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك(3/529)
فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه وصلبه ومثل هذا كثير من كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك أن الله ليس على العرش ويجعلون هذا منتهى قولهم وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق إذ كانوا لا يتظاهرون بذلك بين المؤمنين كما كانوا يظهرون مسألة الكلام والرؤية لأنه قد استقر في قلوب المسلمين بالفطرة الضرورية التي خلقوا عليها وبماجاءتهم به الرسل من البينات والهدى وبما اتفق عليه أهل الإيمان من ذلك مما لا يمكن الجهمية إظهار خلافه وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فهذا يبين أن الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين(3/530)
أعظم بكثير من الاعتراف بأن الله يرى في الآخرة وأن القرآن غير مخلوق فإذا كان هؤلاء الشرذمة الذين فيهم من التجهم ما فيهم مثل الرازي وأمثاله يقرون بأن الله يرى كان إقرارهم بأن الله فوق العالم أولى وأحرى فإنه لا يَرِد على مسألة العلو سؤال إلا ويَرِد على مسألة الرؤية ما هو أعظم منه ولا يمكنهم أن يجيبوا لمن يناظرهم في مسالة الرؤية بجواب إلا أجاب من يناظرهم في مسألة العرش بخير منه فإن نفاة الرؤية قالوا إن أحد حججهم الواحد منا لايرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئيًّا لنا قالوا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من العلوم(3/531)
الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها احتجوا بهذه الحجة وبحجة الموانع وهو أنه لو صحت رؤيته لوجبت رؤيته الآن لارتفاع موانع الرؤية وثبوت شروطها وهي صحة الحاسة وحضور المرئي وأن لا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية ولا تكون الحجب حاصلة وزعموا أن هذه الشروط متى وجدت وجبت الرؤية وإذا انتفى بعضها امتنعت الرؤية قال الرازي وهاتان الطريقتان يعني حجة الموانع(3/532)
وحجة المقابلة عليهما تعويل المعتزلة في العقليات يعني في مسألة نفي رؤية الله تعالى وقال في الجواب عن هذه الحجة من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن المقابلة ليست شرطًا لرؤيتنا لهذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام الثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم إنها تكون شرطًا في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه(3/533)
الأشياء فلا يلزم من اشتراط في رؤية نوع من جنس اشتراط رؤية نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين الله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي لا يقال ليس في الأمة أحد قال إنه يصح أن يكون مرئيًّا مع أنه يستحيل منا رؤيته فيكون مردودًا بالإجماع لأنا نقول إنا لا نسلم أن أحدًا من الأمة لم يقل بذلك فإن أصحاب المقالات قد حكوا ذلك عن جماعة وهو قد ذكر قبل في مسألة كون الله سميعًا بصيرًا من(3/534)
دعوى الضرورة في هذه الأمور ومن مقابلة الدعوى بالمنع ما هو أعظم مما يكون في مسألة العرش فإن قيل هذا يبين أن مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك قيل أن سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين بسبب ظهور الخلاف(3/535)
فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضًا في إنكار أن الله فوق العرش كما تقدم ذكره من كلامهم لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم ومباحثهم في مسألة حدوث العالم والكلام في الأجسام والأعراض هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف حتى قال محمد بن خويز منداد أهل البدع والهواء عند مالك(3/536)
وأصحابه هم أهل الكلام فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعريًّا كان أو غير أشعري وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل(3/537)
الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة مالا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي(3/538)
هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإٍِن(3/539)
كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على(3/540)
العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم وصاروا يفزعون منهم ويجنبون عنهم ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين وبسبب ما وقع في أهل الإيمان والسيف وأهل العلم والقلم أديلت عليهم الأعداء كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [آل عمران 155] حتى إن بعض الأعيان الذي كان في باطنه ميل إلى الفلسفة والاعتزال ولا يتظاهر بذلك درس مسألة(3/541)
الرؤية من جانب المثبتين وذكر حجتهم فيها ولا ريب أن ذلك يُظْهر من استطالة المعتزلة عليهم ما يشفي به قلبه ولهذا صار كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقًا وتناقضًا حيث يوافقون أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منهم ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته وهذا كله لما وقع من الاشتباه عندهم في هذه المسائل ولما تعارض عندهم من الدلائل والله هو المسئول أن يغفر لجميع المؤمنين ويصلح لهم أمر الدنيا والآخرة والدين إنه على كل شيء قدير وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات بحيث يَعْظُم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات من أدقِّ(3/542)
مسائل القرآن والصفات وغير ذلك بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم لما يرى فيهم من نوع خير أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ومراتب الحق عند الله ومن ظلمه حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانًا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه الوجه الخامس عشر قوله واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة فلا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل(3/543)
يقال قولك عن الحنابلة إنهم يقولون بالتأليف والتركيب ويعبرون بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض أتعني به أنهم يطلقون هذا اللفظ أم تعني به أنهم يثبتون الصفات المستلزمة لهذا المعنى فإن عنيت الأول فلم نعلم أحد من الحنابلة يطلق هذا اللفظ كله وإن كنت أنت اطلعت على أحد منهم يقول هذا اللفظ فهذا ممكن لكن يكون هؤلاء طائفة قليلة منهم والذي بلغنا من ذلك أن لفظ البعض جاء في كلام طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وهو مذكور في كتب السنة جاء عن عبيد بن(3/544)
عمير من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه ورواه عنه حماد بن سلمة وصرح به ورواه سفيان الثوري وأظنه اختصربعضه ورواه سفبان بن عيينة فكنى عنه وكذلك(3/545)
في خبر مسألة رؤية محمد ربه شيء يشبه ذلك من كلام(3/546)
عكرمة عن ابن عباس ثم ذلك ليس مختصًّا بالحنابلة ولا هو فيهم أكثر منه في(3/547)
غيرهم بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام من الإمامية وغيرهم من يطلق من هذه الألفاظ أمورًا لا يصل إليها أحد من الحنابلة فما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه وهذا موجود في كتب المقالات وكتب السنة وكتب الكلام وفي طوائف بني آدم المعروفين وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع وبينا سبب ذلك أن الإمام أحمد له من الكلام في أصول الدين وتقرير ما جاءت به السنة والشريعة في ذلك ما هو عليه جماعة المؤمنين وإظهار دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك والرد على أهل الأهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك أعظم مما لغيره لأنه ابتلى بذلك أكثر مما ابتلى به غيره ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم مما(3/548)
اتصل إلى غيره فصار له من الصبر واليقين الذي جعلهما الله تعالى سببًا للإمامة في الدين بقوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} [السجدة 24] ما جعله الله له من الإمامة في أصول الدين السّنية الشرعية ما أنعم الله به عليه وفضله به فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء(3/549)
ولهذا مازال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة مُتَّبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فإنهم يقولون نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة بل لأنه أظهر من السنة التي(3/550)
اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهره غيره فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه وظهور المخالفين للسنة وقلة أنصار الحق وأعوانه حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم(3/551)
السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم(3/552)
حروراء ونحو ذلك(3/553)
فيما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقامت فيه مقامهم وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء والمرسلين بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم والله يرضى عن جميع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وإن كان يعني بالتركيب والتأليف واعترافهم بالأجزاء والأبعاض هو إثباتهم للصفات التي ورد بها الكتاب والسنة مثل الوجه واليدين ونحو ذلك فهذا قول جميع سلف الأمة وأئمتها وجميع المشهورين بلسان الصدق فيها من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وهو قول الصفاتية قاطبة من الكلابية والكرامية والأشعرية وقد ذكر محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له هذه المسألة وأثبت صفة الوجه(3/554)
واليد فقوله عن الكرامية إنهم لا يثبتون ذلك إن أراد به بعضهم فلعله يكون وإلا فلا ريب أن فيهم من يثبت هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد التي يسميها هو الجوارح والأبعاض ويطلقون أيضًا لفظ الجسم إما لفظًا وإما لفظًا ومعني وأما الحنبلية فلا يعرف فيهم من يطلق هذا اللفظ لكن فيهم من ينفيه وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وهوالذي كان عليه الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وإن كانوا مع ذلك يثبتون ما جاءت به النصوص مما يسميه المنازعون تجسيمًا وتشبيهًا بل يقولون إثبات هذه المعاني أحق بمعنى التجسيم ممن يثبت(3/555)
لفظه دون معناه وكذلك قوله عن الكرامية إنهم زعموا أنه غير متناهٍ فهذا إنما هو قول بعضهم كما تقدم ذكره لذلك وأن منهم من يقول هو متناهٍ ثم إن كلا من القولين ليس من خصائص الكرامية بل النزاع في ذلك مشهور عن غيرهم وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من النزاع فيما ذكره الأشعري في المقالات وكذلك قولهم لا يقبل القسمة هذا اللفظ قد يطلقه طوائف منهم ومن غيرهم وقد لا يطلقه طوائف لما فيه من الإجمال والتناقض فالذي يقال على الكرامية بإثباتهم واحدًا فوق العرش لا ينقسم أو يشار إليه ولا ينقسم يقال على غيرهم ففي الطوائف الأربعة من الفقهاء كثير ممن يقول نحو ذلك وكذلك(3/556)
ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه يقولون نحو ذلك فإن كان كل من قال إنه فوق العرش وقال إنه ليس بجسم أو أثبت له هذه الصفات التي وردت بها النصوص كالوجه واليد وقال مع ذلك إِنه ليس بجسم يرد عليه ذلك فإنه يلزمه أنه يشار إليه بحسب الحس وأنه واحد لا ينقسم هذه القسمة التي زعمها ولهذا نجد في هذه الطوائف منازعة بعضهم لبعض في ذلك كما يوجد في أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكذلك يوجد في أصحاب الأشعري من يتنازعون في ذلك فنفاة الجهة منهم يقولون إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون إن الله تعالى فوق العرش وإِنه ليس بجسم متناقضون وكذلك(3/557)
نفاة الصفات الخبرية يقولون إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون ومثبتة العلو منهم والصفات الخبرية يقولون إن نفاة ذلك منهم يتناقضون حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوق كالعلم والقدرة والحياة قالوا وليس هو بعرض في حق الخالق ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه ويقولون ليس بجسم في حق الخالق وكذلك أصحاب الإمام أحمد فطائفة منهم كابن عقيل وصدقة بن الحسين وأبي الفرج بن الجوزي قد يقولون إن ابن حامد والقاضي أبا يعلى(3/558)
وأبا الحسن بن الزاغوني ونحوهم متناقضون حيث ينفون الجسم ويثبتون هذه الصفات وجمهورهم يقول بل هؤلاء هم المتناقضون الذين يثبتون الشيء تارة وينفونه أخرى كما هو معروف من حالهم واجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد أعظم من اجتماعهما في لوازمه وملزوماته فإن كان كل منهما في وقتين فالأول أعظم وكذلك إن كانا في وقت واحد وأماإن كان الأول في وقتين والثاني في وقت واحد فهذا أبلغ من وجه وهذا أبلغ من وجه ويقولون إن أولئك متناقضون حيث يسلمون ثبوت الصفات التي هي فينا أعراض ويمنعون ثبوت الصفات التي هي فينا أجسام الوجه السادس عشر قوله فلا جرم صار(3/559)
قول الكرامية على خلاف بدهية العقل يقال هذا العقل الذي هذا على خلاف بديهته إما أن يكون حكمه وشهادته في الربوبية مقبولاً أو مردودًا فإن لم يكن مقبولاً لم يضر هؤلاء ولا غيرهم مخالفته فإنه بمنزلة الشاهد الفاسق الذي قال الله تعالى فيه إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] وإن كان حكمه وشهادته مقبولاً كان هذا المنازع وموافقوه أعظم مخالفة له من هؤلاء كما قد تقدم بيان ذلك وإذا كان مخالفة قولهم لبديهة العقل أعظم من قول هؤلاء لم يجب على هؤلاء أن يرجعوا عن القول الذي هو أقل مخالفة لبديهة العقل بل يكون الواجب على هذا التقدير على الطائفتين الاعتراف بما في بديهة العقل فيعترفون جميعًا بأنه فوق(3/560)
العالم ويمتنع أن يكون لا داخله ولا خارجه وحينئذ يكون مشارًا إليه بحسب الحس وحينئذ يكون فيه ما سماه تأليفًا وانقسامًا وإن لم يكن هو المعروف من التأليف والانقسام فإن المعروف من ذلك يجب تنزيه الله تعالى عنه كما نزه عنه نفسه في سورة الإخلاص كما تقدم التنبيه عليه بقوله تعالى الله الصمد فإن الصمد فيه من معنى الاجتماع والقوة والسؤدد ما ينافي الانقسام والافتراق الوجه السابع عشر أنه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم وذلك أن النفاة كثيرًا ما يصفون أهل الإثبات بالتشبيه والتجسيم الذي هو التأليف ومن المعلوم أنهم أحق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل بينما هو قول المشركين الذين هم(3/561)
بربهم يعدلون وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون وذلك أنهم يقولون إن كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه متحيز والمتحيزات كلها متماثلة ويقولون كل ما هو فوق شيء فإنه من جنس واحد متماثل لأنه متحيز والمتحيزات متماثلة ويقولون كل ما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه من المتحيزات التي هي متماثلة وهذا كله قول الجهمية المعتزلة وغيرهم وقد سلك الرازي ذلك في قوله إن الأجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية وأما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول أولاً فمقصودهم به النفي المطلق وكل ذلك بناء على أن جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا في كل ما هو موصوف به حتى إن غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون كل ما يقال له حي(3/562)
وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل هؤلاء جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا وندًّا في كل ما له من الأسماء والصفات حتى لزم من ذلك أن يكون كل جسم عدلاً لله ومثلاً وكفوًا حتى البقة والبعوضة وأن يكون كل حي عَدْلاً لله وكفوًا وسميًّا وكل ذلك بناء على أن كل ما هو مسمى بهذه الأسماء موصوف بهذه الصفات فإنه جنس واحد متماثل وهذا من أعظم العدل بالله وجعل الأنداد لله ثم إنهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية وعطلوه فصاروا مشركين معطلين ولهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدًا ومعبودًا وجوزوا كل شرك في العالم فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الأقوال والأفعال فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله وإشراكهم به وتشبيههم إياه بخلقه فيما لله من صفات الإثبات وأما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم(3/563)
يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات أخرى فإنهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم فيكونون عادلين به المعدومات وقد قدمنا فيما مضى أن الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيًّا وأما الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتًا فلا يوصف بها إلا المعدوم وبينَّا أيضًا أن كل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح لله تعالى لأن تلك الصفة لا مدح فيها بحال إذ المعدوم المحض لا يمدح بحال وما ليس فيه مدح فإن الله لا يوصف به سبحانه وتعالى بل له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ولما ذكرناه أيضًا فيما تقدم وأما تمثيلهم له وعدلهم إياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات فقولهم إنه لا يتكلم وإن وصفوه بالكلام ظاهرًا موافقة للمؤمنين فمعناه عندهم أنه خلق كلامًا في غيره(3/564)
وكذلك قولهم إنه ليس له سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك وإذا كان كذلك ظهر ما ذكر من جهة المنازع فإن المنازع قلب عليهم القضية وقال إذا ألزمتمونا أن نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم وذلك أنه لما قال إنه لا يمكن أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر لأن ذلك حقير وذلك على الله محال فقال المنازع أنتم قلتم لا يمكن الإحساس به أو الإشارة إليه بحال والذي لا يمكن الإحساس به ولا الإشارة إليه يكون كالمعدوم فيكون أشد حقارة فإذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الأول وهو كلام قوي جدًّا والمنازع وأصحابه يعلمون صحة هذا الكلام لأنهم يقرون في مسألة الرؤية أن كل موجود يجوز أن يحس بالحواس الخمس ويلتزمون على ذلك أن الله يجوز أن يحس به(3/565)
بالحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وأن مالا يحس به بالحواس الخمس لا يكون إلا معدومًا فعامة السلف والصفاتية على أن الله يمكن أن يُشْهد ويُرى ويحس به وأول من نفى إمكان إحساسه الجهم بن صفوان لما ناظره السُّمنية المشركون الوجه الثامن عشر أنه قال في الجواب أما قولهم الذي لا يُحَس ولا يُشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أماإذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة(3/566)
يقال له هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت أثبت تنزيهه عن الحيز بهذه الحجة التي جعلت من مقدماتها أنه ليس بحقير بقدر الجوهر الفرد فقيل لك ما لا يمكن الإشارة إليه وإحساسه أحقر من الجوهر الفرد وقد وصفته بذلك فلا يكون وصفه بقدر الجوهر الفرد محالاً على أصلك فقلتَ أما كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم إذا كان له حيز ومقدار وأما إذا كان منزهًاعن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة فيقال لك الكلام إنما هو في تنزيهه عن الحيز والمقدار فأنت تنفي ذلك ومنازعك يثبته وهو محل النزاع فإذا كان جوابك مبنيًّا على محل النزاع كنت قد صادرت منازعك على المطلوب حتى جعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه والمقدمة لابد أن(3/567)
تكون معلومة أو مسلمة فتكون قد طلبت منه تسليم الحكم قبل الدلالة عليه وادعيت علمه قبل حصول علمه وقد صادرته عليه وطلبت منه أن يسلمه لك بلا حجة وإيضاح هذا أن العلم بكونه إذا وصفته بأنه لا يُحس ولا يُشار إليه ليس بأحقر من الجوهر الفرد إما أن يقف على العلم بكونه ليس بذي حيز ومقدار أو لا يتوقف فإن توقف عليه لم يصح هذا الجواب حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ومقدار حتى يتم الجواب عما أُورد على الحجة فإذا كان جواب الحجة لا يتم حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ولا مقدار ولا يثبت ذلك حتى يتم جواب الحجة لم يكن واحدًا منهما حتى يكون الآخر قبله وذلك دور ممتنع وإن كان العلم بكونه ليس أحقر من الجوهر الفرد إذا وصف بأنه لا يحس ولا يشار إليه لا يقف على العلم بأنه ليس بذي حيز(3/568)
ومقدار لم يصح هذا الجواب وهو قولك كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره بل كان الجواب أن يقال لا يلزم أن يكون أحقر من الجوهر الفرد سواء قيل إِنه ذو حيز ومقدار أو لم يقل ذلك لكنه لو قال ذلك لظهر أن كلامه باطل فإنه يعلم بالحس والضرورة أن كل ما كان ذا حيز ومقدار قيل إنه لا يحس ولا يشار إليه فإنه أصغر من الجوهر الفرد ومما يوضح الأمر في ذلك أن هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة فإنه لما ذكر حجته على أنه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة قال له المعارض ما ذكرته من أنه لا يمكن إحساسه والإشارة إليه يستلزم أن يكون معدومًا وذلك أبلغ في الحقارة من الجوهر الفرد فقال له قولك يستلزم من الحقارة أعظم مما ألزمت به أهل الإثبات فأجاب عن المعارضة بمنع الحكم وأن صحته ملازمة لصحة قول المنازع وهذا من أفسد الأجوبة فإن المعارض يقول بل هو عندي ذو حيز ومقدار فلم قلت إنه ليس كذلك وهل النزاع إلا فيه وقولك أما إذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة يقال لك من الذي سلم لك ذلك وهل النزاع إلا فيه وهذه الحجة التي ذكرتها إنما أقمتها(3/569)
على نفي ذلك وهي لاتتم إلا بالجواب على المعارضة فكيف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفس مذهبك وهل هذا إلا بمنزلة أن يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه فإن قيل هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه لكن قال صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه وهو لا يقول ذلك فهو يقول للمعترض مالم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك وهو في هذا الباب في مقام المنع والمعترض يستدل وللمستدل الأول أن يمنعه بعض المقدمات ويجعل سند منعه أنه لا يقول بذلك فهو ذكر ذلك لإبداء سند المنع لا حجة للمنع فإن المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة فيقال المعترض لم يبن دليله على هذا بل ذكر أن ما لا يحس ولا يشارإليه معدوم أحقر من الجزء الذي لا يتجزأ فادعيت أن هذا إنما يلزم إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة فهذا الملزوم إنما تقول إنه لازم لدليله(3/570)
أن دليله مستلزم لهذا فمتى صح دليله هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره لأنه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على أنك جعلته أحقر من الجوهر الفرد وجعلته معدومًا وأنه ذو حيز ومقدار فيدل على صحة مذهبه وعلى أن مذهبك يستلزم أن الله معدوم هذا بإقراره أن دليله يستلزم صحة ذلك وإن قلت إن دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى أنه لم يثبت أن الله ذو حيز ومقدار لم يثبت أنه إذا كان لايحس ولا يشار إليه أنه أصغر من الجوهر الفرد فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة فلا تكون قد أجبت عن المعارضة وهو المطلوب وذلك أنه لا يسلم أنا إذا علمنا أن الشيء لا يحس ولا يشار إليه لم يعلم أنه معدوم حتى يعلم قبل ذلك أنه ذو حيز ومقدار بل قد يكون العلم بأنه ذو حيز ومقدار بعد ذلك أو قبله أو معه إذا كانا متلازمين وهذا لازم على أصلك وأصل أصحابك لزومًا قويًّا فإنكم(3/571)
أنتم وسائر الصفاتية تسلمون أن كل موجود فإنه يمكن أن يحس وأن الذي لا يمكن إحساسه هو المعدوم وكثير من أهل السنة والحديث يقولون بأنه يلمس أيضًا وأنتم تريدون أنه يدرك بالحواس الخمس وأنتم تثبتون هذا مثل إثبات أنه ذو حيز ومقدار ولم يكن العلم بذلك موقوفًا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار وإذا كنت قد قلت إن كونه موصوفًا بأنه أحقر من الجوهر الفرد فإذا كان لا يحس ولا يشار إليه فقد لزمك إما أن يكون معدومًا أو يكون ذا حيز ومقدار وإذا قلت إنه يحس بطل ما ذكرته هنا من أنه لا يحس ولا يشار إليه وهذا الذي يورده المنازع حُمِّد في النظر الصحيح في المناظرة العادلة فإِنه يظهر به من تناقض منازعه وضعف(3/572)
حجة ما يدفعه به عنه ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر وهذا يتقرر بالوجه التاسع عشر وهو أن هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون إنه تجوز رؤيته بل يجوزون كونه مدركًا بإدراك اللمس بل يجوزون كونه مدركًا بغير ذلك من الحواس مع قولهم إنه ليس فوق العرش ولا يمكن أن يكون مشارًا إليه بالحس ولا يمكن أن يحس به لا ريب أنهم متناقضون في ذلك غاية التناقض فإن من المعلوم أن إدراك اللمس به أبعد من كونه مشارًا إليه بالحس أو كونه في جهة فإن لمس الإنسان قائمًا بذاته التي هي في جهة معينة فإدراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه في جهة من اللامس وغير ذلك مالا يقتضيه مجرد كونه ترفع إليه الأيدي أو الأعين فإن من المعلوم أنا نشير إلى كل شيء من الموجودات التي نراها ومع هذا فلا يمكننا أن نلمس منها إلا بعضها فإذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارًا إليه باليد والعين أولى وأحرى(3/573)
وكذلك كل ما يلمسه فلا يكون إلا في جهة وكثيرًا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه فكيف يجوز إثبات لمسه مع منع كونه في جهة أليس هذا تناقضاً محضاً بل هذا نفي الشيء مع إثبات ما هوأبلغ منه وتحريم الشيء مع استحلال ما هو أعظم منه كما قال ابن عمر يستفتوني في دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كما قال تعالى قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ [البقرة 217] وهو بمنزلة من يقول إن الله لا يرى ولكن يُصافح ويُعانق وكذلك قولهم إنه يرى وقولهم إنه يتعلق به إدراك اللمس مع قولهم لا يمكن أن يحس به تناقض ظاهر وإذا كان ذلك تناقضًا منهم ومن المعلوم أن مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع سلف الأمة وأئمتها فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس وذلك مستلزم لبطلان ما(3/574)
قالوه في هذه المسألة فإن قيل دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف قيل لا نسلم أنه ضعيف ثم إن كان ضعيفًا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة فإن كان أضعف ظهر تناقضهم في النفي والإثبات في هاتين المسألتين الوجه العشرون أنهم قد قرروا في هاتين المسألتين هنا وهناك أن ما لا يمكن أن يشار إليه ويحس به يكون معدومًا وقرر هناك أن كل موجود فإنه يصح أن يرى وأن يلمس فيحس به ويلمس وهو أبلغ من الإشارات الحسية إليه وأن الله يصح أن يرى وأن يتعلق به إدراك اللمس فإن كل واحد من الرؤية واللمس مشترك بين الجوهر والأعراض فيتعلق بالله تعالى وهذا يوجب أن يكون الله يمكن أن يشار إليه ويمكن أن يحس به خلاف ماذكره هنا كما تقدم وقرر هنا أن ما كان كذلك فإنه يكون ذا حيز ومقدار وأنه يلزمه أن يكون منقسمًا مركبًا الانقسام والتركيب العقلي الذي ألزم به مخالفه هنا وهذا(3/575)
يقتضي أنه من لوازم أصولهم التي هم معترفون فيها بالأصل وبلازم الأصل لم يلزمهم إياه غيرهم بالدليل بل هم اعترفوا به أن يكون الله له حيز ومقدار وأنه مركب مؤلف له أجزاء وأبعاض وهذا هو الذي أنكره في هذا الموضع وليس هذا من جنس ما يلزم الرجل غيره شيئًا بالحجة لكن هذا أقر بأن الله سبحانه وتعالى موصوف بوصف وأقر في موضع آخر أنه إذا كان موصوفًا بذلك الوصف لزم أن يكون كذا وكذا فمجموع الإقرارين أقر فيهما بما ذكرناه الوجه الحادي والعشرون أنه اعترف هنا أنه يكون أشد حقارة من الجوهر الفرد وأن يكون معدومًا إذا كان ذا حيز ومقدار وقلنا إنه لا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس وقد ذكر هنا أنه لا يمكن أن يشار إِليه ولا يمكن أن يحس به فلزم أن يكون معدومًا أحقر من الجوهر الفرد ولا ريب أن هذه حقيقة قولهم وقد اعترف هو بمقدمات ذلك لكن مفرقة لم يجمعها في موضع واحد إذ لو جمعها لم يخفَ عليه وهذا شأن المبطل الوجه الثاني والعشرون أن منازعه يقول قد ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم(3/576)
الفطرة من البرية أن رب العالمين فوق خلقه وأن من قال إنه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك إله يصلى له ويسجد وإنما هناك العدم المحض فإنه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين فإن اعتقد أنه مقر به وهذا يقتضي كما قلت أنه ذو حيز ومقدار وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الإشارة الحسية إليه ولا يمكن الإحساس به فإنه معدوم كما اعترف به وكما(3/577)
هو معروف في الفطر وهو أحقر من الجوهر الفرد بلا ريب فثبت أن قولك يستلزم أن الباري معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وهذا مما اتفق علماء السلف وأئمة الدين أن قول الجهمية أنه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن أنه معدوم لا حقيقة له ولا وجود وقد صرحوا بذلك في غير موضع وكذلك هو في جميع الفطر السليمة وإن أردت أن تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار فيقال الوجه الثالث والعشرون أنه إذا عرض على الفطر السليمة التي لم تقلد مذهبًا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست فإن الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودًا إلا أن يكون معدومًا وهذا قبل أن يخطر بفكر الإنسان الحيز والمقدار نفيًا وإثباتًا ثم بعد ذلك إذا علم أن الموجود أو أن هذا لا يكون إلا ذا حيز ومقدار كان ذلك لازمًا آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس(3/578)
الوجه الرابع والعشرون أن المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركًا بإدراك اللمس وذلك لأنا من حيث اللمس نميز بين الطويل والأطول كما أن نميز من حيث البصر بين الطويل والأطول فإن اقتضى ذلك كون الأجسام مرئية اقتضى أن تكون ملموسة ولا شك أنا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة فإن إدراك اللمس معلق بالأجسام والأعراض فيعود ما ذكرتموه من الرؤية بتمامه في اللمس فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وأنه باطل بالضرورة وقال في الجواب إن أصحابنا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك(3/579)
وقال أيضًا قولهم لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم وذلك معلوم الفساد بالضرورة قلنا دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة وذكر أيضًا أن المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها وهو ماإذا كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرًا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرًا جدًّا ولا لطيفًا ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فتارة يَدَّعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد(3/580)
الاختيار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وقال في الجواب أما دعوى العلم الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور فلا نزاع فيه وأما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع قال فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تَغيُّرها عن مجاريها فإن الإنسان كما يستبعد أن يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد أن يذهب إلى جَيْحُون فيجد ماءه بالكلية دمًا أو عسلاً ويرى(3/581)
شخصًا شابًّا قويًّا مع أن ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير أب وأم على ذلك الوجه ويرى طفلاً رضيعًا مع أن ذلك الطفل كان مولودًا قبل ذلك بمائة ألف سنة على تلك الحال وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الأمور استبعادًا مع أن شيئًا من ذلك ليس بممتنع وكذا فيما ذكروه(3/582)
قال واعلم أن تجويز انخراق العادات لازم على الفلاسفة أو المسلمين والمتكلمين وبين ذلك إلى أن قال فليس لأبي الحسين إلا دعوى الضرورة في أول المسألة وليس لنا في مقابلتها إلا المنع فإذا كانت هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لإثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود إذا كان خارج العالم لم يكن إلا منقسمًا أو حقيرًا مع أن هذا أظهر بوجوده(3/583)
فصل قال الرازي البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصًّا بالحيز والجهة وذلك أنه لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان محتاجًا في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك الجهة وذلك محال فكونه في الحيز والجهة محال بيان الملازمة أن الحيز والجهة أمر موجود والدليل عليه وجوه أحدها أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون(3/584)
الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيات وجب كونها أمورًا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك الثاني هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات فإن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت بالإشارة والعدم المحض والنفي الصِّرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة(3/585)
الحسية الثالث أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا مَحَالة للمطلوب والمُنْتَقَل عنه مغاير للمُنْتَقَل إليه فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيز والجهة أمر موجود ثم إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة فثبت أنه تعالى لو كان مختصًّا بالجهة والحيز لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه الأول أن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون في وجوده بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وكل ذلك في حق واجب الوجود(3/586)
لذاته محال الثاني أن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر ويمكن وصفه بالزائد والناقص وكلما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته فلو كان الله مفتقرًا إليه لكان مفتقرًا إلى الممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنًا لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودًا في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة فإن قيل لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة(3/587)
إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصًّا بالحيز والجهة والجواب أما قوله الحيز والجهة ليس أمرًا موجودًا فجوابه أنا قد بينا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك وأما قوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز(3/588)
كونه منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو مباينًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لانزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لايكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هناك وهذا هو مراد الخصم من قولهم إنه تعالى مباين عن العالم أو منفرد عنه وممتاز عنه إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز(3/589)
أمرًا موجودًا ويقتضي أن المتحيز يحتاج إلى الحيز قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق يقال هذه الحجة وغيرها من الحجج كلها مبنية على أن القول بكونه فوق العرش يستلزم أن يكون متحيزًا كما قدمه في الحجة الأولى فقد تقدم أن هذا فيه نزاع مشهور بين الناس من مثبتة الصفات ونفاتها فإن كثيرًا من الصفاتية من الكلابية والأشعرية وغيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون ليس بجسم وهو فوق العرش وقد يقولون ليس بمتحيز وهو فوق العرش إذا كان المراد بالمتحيز الجسم أو الجوهر الفرد(3/590)
وكثير منهم من الكرامية والشيعة والفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون هو فوق العرش وهو جسم وهو متحيز ولكن منهم من يقول ليس بمركب ولا منقسم ولا ذي أجزاء وأبعاض ومنهم من لا ينفي ذلك وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم فألفاظهم فيها أنه فوق العرش وفيها إثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها أبعاض وأنها تقتضي التركيب وال انقسام وقد ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا لله حد وأن ذلك لايعلمه غيره وأنه مباين لخلقه وفي ذلك لأهل الحديث والسنة(3/591)
مصنفات وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الأولين فإن هؤلاء كثيرًا ما يكون النزاع بينهم لفظيًّا لكن أهل السنة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معانيها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته أن يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به ولهذا يطعن كثير من أهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها لكن وجود هذا وأمثاله في أهل الكلام أكثر منه في أهل الحديث بأضعاف(3/592)
مضاعفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب وإذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وأمثالها مبني على مقامين المقام الأول مقام من يقول إنه نفسه تعالى فوق العرش ويقول إنه ليس بجسم ولا متحيز كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الأمر وتبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية وأعظم تناقضًا من هؤلاء وأن هؤلاء لا يع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارًا مما ألزموه إياه من التناقض لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار فيكون الذي وقع فيه من(3/593)
التناقض ومخالفة الفطرة والضرورة العقلية أعظم مما فر منه مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء أناأجد حرارتها وألمها فيقال له النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألمًا وإن كنت لا تجد حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين زيادة على ذلك ولهذا كان من هؤلاء المثبتة ممن له في الأمة من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من أولئك وإن كان قد يذمه من وجه آخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقًا ولكن بيان أن طريقهم أقل(3/594)
خطأ وطريق الأولين أعظم ضلالة فهذا أحد المقامين وقد تقدم بيانه فلا نعيده وأما المقام الثاني فهو مقام من يسلم له أنه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهاية ويطلق عليه أيضًا لفظ الجهة فإن أهل الإثبات متنازعون في إثبات لفظ الجهة وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في اسم الحد أيضًا وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فنقول وعلى هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه الأول أن كلام هذا وغيره في حيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو إضافي مضطرب متناقض فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فإنا قد اعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود(3/595)
في عامة هؤلاء تحقيقًا لقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً [النساء 82] بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضًا فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقيض هذا فقال الوجه الرابع فيه أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية فيكون حكمها واحدًا وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين وقال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء(3/596)
الصرف والعدم المحض فلم يكنْ هناك فوق ولا تحت الثاني أنه لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورًا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك فهذا تصريح بأنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صِرْف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكنْ لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض وذكر في نهايته في مسألة حدوث العالم لما ذكر نزاع المنازع في أن الكون والحصول في الحيز أمر زائد على ذات الجسم وذكر أسئلتهم على دليله ثم قال وإن سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الحصول في الحيز زائد على ذات الجسم لكن معنا مايدل على نفي ذلك وهو أمور ثلاثة(3/597)
الأول وهو أن الحصول أمر نسبي والأمور النسبية تستدعي وجود أمرين لتتحقق بينهما تلك النسبة فلو كان الحصول في الحيز أمرًا ثبوتيًّا للزم أن يكون الحيز أمرًا ثبوتيًا وهو باطل لأنه لو كان موجودًا لكان إما أن يكون حالاً في الجسم أو لا يكون حالاً فيه فإن كان حالاً في الجسم لم يكن الجسم حالاً فيه فلا يكون حيزًا للجسم وإن لم يكن حالاً فيه فإما أن يكون ذا حيز أو لا يكون والأول يقتضي التسلسل ثم ذكر الثاني والثالث وليس هذا ذكر موضعهما ثم إنه في الجواب سلَّم أن الحيز ليس أمرًا وجوديًّا وأجاب عما ذكروه فقال قوله الحصول في الحيز أمر نسبي(3/598)
فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج قلنا هذا باطل بالعلم فإنه نسبة أو ذو نسبة بين العالم والمعلوم ثم إنا نعلم به المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أن النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة فعلمنا أن وجود النسبة لا يقتضي وجود كل واحد من المنتسبين وقال في نهايته في آخر هذه الطريقة واعلم أن هذه الطريقة مبنية على جواز خروج كل جسم عن حيزه وقد دللنا على ذلك بما مر ويمكن أن يستدل عليه بوجوه أُخر منها أن نقول لو وجب حصول جسمين في حيز لكان الحيز الذي حصل فيه الجسم الآخر إما أن يكون مخالفًا للحيز الأول أو لا يكون فإن كان مخالفًا له كان أمرًا ثبوتيًّا لأن العدم الصِّرْف والنفي المحض لا يتصور فيه الاختلاف لأن المعقول في الاختلاف أن تكون حقيقته غير قائمة مقام الحقيقة الأخرى وذلك يستدعي حقائق متعينة في أنفسها وذلك في العدم محال ولما بطل ذلك ثبت أن الأحياز لو كانت(3/599)
متخالفة لكانت أمورًا وجودية وهي إما أن يكون مشارًا إليها أو لا يكون والقسم الأول على قسمين إما أن تكون حالة في الأجسام فحينئذ يستحيل حصول الجسم فيها وإلا لزم الدور أو لا تكون حالة في الأجسام مع أنه يمكن الإشارة إليها وذلك هو المتحيز فيكون الحيز متحيزًا وكل متحيز فله حيز وللحيز حيز آخر ولزم التسلسل وإن لم يكن الحيز مشارًا إليه استحال حصول الجسم المشار إليه فيه قال فثبت أن الحيز نفي محض وأنه إذا كان كذلك استحال أن يخالف حيزًا وقال أيضًا في نهايته في الحجة الثانية على حدوث العالم وهو أنه ممكن وكل ممكن محدث وقرر إمكانه بوجوه منها الكلام الذي حكيناه عنه قبل هذا في تقرير أن(3/600)
واجب الوجود لا يقال لا ينفي في ضمن الكلام على حجته على نفي الجسم وكون كل حيز هل يكون واجب الوجود أم لا فهي طريقة الفلاسفة التي قررها واستضعفها وفي ضمنها سؤال أورده وهو أنالا نسلم أن الوجوب أمر ثبوتي فيقال في الجواب قوله لا نُسلّم أن الوجوب أمر ثبوتي قلنا يدل عليه أمران وذكر أحدهما ثم قال الثاني أن المعقول من الوجوب استحقاق الوجود والعلم الضروري حاصل فإن استحقاق الوجود وصف ثبوتي كما أن العلم الضروري حاصل فإن حصول الجسم في الجهة أمر ثبوتي بل هاهنا أولى لأن حصول الجسم بالجهة عبارة عن انتساب مخصوص للجسم إلى الجهة والجهة أمر تقديري(3/601)
لا وجود له فإذا كان العلم الضروري حاصلاً هناك مع هذا الإشكال فهاهنا مع عدم ذلك الإشكال أولى وقال أيضًا في نهايته في مسألة الجهة بعينها ما سنذكره عنه في آخر هذه الحجج وهو قوله لو كان الله حاصلاً في الحيز لكان إما أن يكون واجبًا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز كان حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر هذه الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورًا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضًا ولو كانت الأحياز أمورًا وجودية لكان إما أن تُمْكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسمًا فيكون الباري الحال فيه منقسمًا أو لا يكون منقسمًا فيكون ذلك(3/602)
الشيء مختصًّا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إليه أي الحيز الذي حصل الباري فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلَّ ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية(3/603)
وهو ما فوقها وما تحتهاونحو ذلك ومنه ما يكون عدميًّا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو جهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو من العالم أيضًا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلاً على أن كل ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال إن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما يسمى بالحيز أو الجهة يكون موجودًا الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم ولا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون(3/604)
العالم في حيز وليس في مكان وما في العالم في مكان والحيز عندهم هو تقدير المكان بمنزلة ما قبل خلق العالم ليس بزمان ولكنه تقدير الزمان وإذا كان أمرًا مقدورًا ومفروضًا لا وجود له في نفسه بطل ما ذكره لكن يحتاج على الجواب عن وجوهه الثلاث فأما الوجه الأول فإنه احتجاج بقول المنازع له إنه يجب أن يكون الله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات فإن كان قول المخالف حقًّا فقد صح مذهبه الذي تستدل على إبطاله ولم تسمع منه الدلالة على ذلك وإن كان باطلاً لم يدل على أن الحيز أمر وجودي فعلى التقديرين لا تكون هذه الحجة مقبولة لأنها إما أن تكون باطلة أو تكون مستلزمة لصحة قول المنازع فإن قال أنا ألزم المنازع بها قيل له فغاية ما في الباب أن تكون حجة جدلية احتججت فيها بكذب خصمك وهذا لا يكون برهانًا قاطعًا على أن الحيز أمر وجودي ثم يقال لك أنت من أين تعلم أو تفيد الناس الذين يسترشدون منك ولا يتقلدون مذهبًا أن الحيز أمر وجودي فإن(3/605)
كنت تعلم ذلك وتعلمه لقول خصمك لزم صحته وبطل مذهبك وإن لم تحتج بقول خصمك الذي تدفعه عنه بَطُلَتْ هذه الحجة أن تكون طريقًا لك إلى العلم أو إلى التعليم والإرشاد وكان غايتها ذكر تناقض الخصم وللخصم عنها أجوبة لا نحتاج إلى ذكرها هنا وأما قوله في الوجه الثاني أن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة فيقال له إن كانت الإشارة إلى ما فوقنا من العالم وما تحتنا منه فلا ريب أن هذا موجود لكن ليس ذلك هو مسمى الحيز والجهة الذي ينازعونك في أن الله فيه فإنهم لم يقولوا إن الله في جوف العالم وإنما قالوا هو خارج العالم فإن كانت الإشارة إلى ما فوق العالم وماتحته فلا نسلم أن أحدًا يشير إلى ما تحت العالم أصلاً وأما ما فوق العالم فالله هو الذي فوق العالم فالإشارة إلى ماهناك إشارة إليه سبحانه وتعالى ولا نسلم أنه يشار إلى شيء موجود فوق العالم غير الله تعالى فلم تحصل إلى شيء معدوم بحال ولم يشر أحدٌ إلى جهة عدمية بحال بل المشار إليه ليس هو الجهة التي ينازع فيها المنازعون وأما قوله في الوجه الثالث إن الجوهر إذا انتقل من حيز(3/606)
إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال إن كان الانتقال في أجسام العالم الموجودة فهذه أمور وجودية وإن كان فيما ليس كذلك فلا نسلم أن هناك شيئاً يكون متروكًا ومطلوبًا أصلاً بل الأحياز الموجودة قد لا يكون المنتقل فيها طالبًا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب أن يكون كل منتقل ومتحرك طالبًا لحيز وجودي يكون فيه وتاركًا لحيز وجودي انتقل عنه الوجه الرابع أن يقال لا ريب أن الجهة والحيز من الأمور التي فيها إضافة ونسبة فإنه يقال هذا جهة هذا وحيزه والجهة أصلها الوجه الذي يتوجه إليها الشيء كما يقال عِدَة ووعد وزِنَة ووزن وجهة ووجهة والوجهة من ذلك كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] وأما الحيز فإنه فيعل من حازه يحوزه إذا جمعه وضمه وتحيز تفعيل كما أن يحوز يفعل كما قال تعالى وَمَن(3/607)
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [الأنفال 16] فالمقاتل الذي يترك مكانًا وينتقل إلى آخر لطائفة تفيء إلى العدو فاجتمع إليها وانضم إليها فقد تحيز إليها وإذا كان كذلك فالجهة تضاف تارة على المتوجه إليها كما يقال في الإنسان له ست جهات لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال إنها جهاته والمصلي يصلي إلى جهة من الجهات لأنه يتوجه إليها وهنا تكون الجهة ما يتوجه إليها المضاف وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة هذه جهة الكعبة وكما يقول وهو بمكة هذه جهة الشام وهذه جهة اليمن وهذه جهة المشرق وهذه جهة المغرب كما يقال هذه ناحية الشام وهذه ناحية اليمن والمراد هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها أهل الشام وأهل اليمن فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي أنه ما يحوز الشيء ويجمعه ويحيط به ولذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وثوبه ونحو ذلك وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره إنها(3/608)
حيزه فيكون حيزه بعضًا منه وهذا كما أن لفظ الحدود التي تكون للأجسام فإنهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان ومن جهة الشرق ملك فلان ونحو ذلك فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها وقد يقال حدها من جهة القبلة ينتهي إلى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي إلى ملك فلان فحدها هنا آخر المحدود ونهايته وهو متصل ليس منفصلاً عنه وهو أيضًا حيزه وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة 187] والحدود هنا هي نهايات المحرمات وأولها فلا يجوز قربان شيء من المحرم وفي موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة 229] والحدود هنا نهايات الحلال فلا يجوز تعدي الحلال(3/609)
وإذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة فنقول إذا قيل إن الخالق سبحانه في جهة فإما أن يراد في جهة له أو جهة لخلقه فإن قيل في جهة له فإما أن تكون جهة يتوجه منها أو جهة يتوجه إليها وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم ولايتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه ومن قال إن العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق ومن قال إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحًا ومن قال إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه غليها أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب أن هذا عدم محض وأما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته وقد يحوزه غيره فمن قال إن الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلاً في مسمى ذاته فقد كذب فإن كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فإنه من العالم ومن(3/610)
قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها فهنا الحيز ليس شيئًا خارجاً عنه وعلى كل تقدير فمن قال إنه فوق العالم لم يقل إنه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه وإذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك فالاحتجاج على أنه ليس في حيز موجود احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر ذلك المنازع الوجه الخامس قوله الأحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات يقال له الذي اتفق عليه أهل الإثبات أن الله فوق العالم ويمتنع أن لا يكون فوق العالم سواء قدر أنه في التحت أو غير(3/611)
ذلك بل كون الله تعالى هو العلي الأعلى المتعالي فوق العالم أمر واجب ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب ونقيض هذا العلم ممتنع هذا هو الذي اتفق عليه أهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الفطر السليمة المقرة بالصانع وأما ما ذكره من قول القائل يجب أن يكون مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والحياز فهؤلاء يريدون بذلك أنه يجب أن يكون فوقنا ويمتنع أن يكون تحتنا أو عن يميننا أو عن شمائلنا وهم لا يعنون بذلك أنه يكون متصلاً برؤوسنا بل يعنون أنه فوق الخالق فالعبد يتوجه إليه هناك لا يتوجه إليه من تحت رجليه أو عن يمينه أو عن شماله وقد قلنا إن الجهة فيها معنى الإضافة فالعبد يتوجه إلى ربه بقلبه إلى جهة العلو لا إلى جهة السفل واليمين واليسار كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى عن إبليس ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} [الأعراف 17] قال ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم(3/612)
وهم لا يريدون بذلك أنه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت بل ليس هو فيما على رأس العبد من الأجسام ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله فهذه الأجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب أن يكون الله فيه وما أعلم أحدًا قط يقول إنه يجب أن يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد أو تحته فالرب يجب عندهم أن يكون فوق العالم وهي الجهة التي هي فوق ولايجوز أن يكون فوق العالم وغيره بالنسبة إليه سواء(3/613)
وأما أن القوم يثبتون وراء العالم أمورًا وجودية يقولون يجب أن يكون الله في واحد منها دون سائرها فهذا ما علمنا أحدًا قاله وإن قاله أحد تكلم معه بخصوصه ولا يجعل هذا قول أهل العلم والإيمان الذين يقولون إن الله فوق العرش ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة وثابتة لازمة حقيقة فالأولى هي بحسب الحيوان فإن كل حيوان له ست جهات جهة يؤمها هي أمامه وجهة يخلفها وهي خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره وجهة فوقه وجهة تحته وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط فالعلو مافوق العالم والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون(3/614)
فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الإضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقة الوجه السادس أن يقال هَبْ أن وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما أنه يجب أن يكون فوقنا فالاختصاص في الأمور النسبية والإضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم أو لمعنى فيه لا في العالم أو في العالم لا فيه لا لمعنى في أمر وجودي غيرهما وقوله يمتنع أن يكون في سائر الجهات والحياز المعنى فيه سبحانه وهو أنه العلي الأعلى وهو الظاهرالذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل أن وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به أن يكون هو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب أن تكون الجهة وجودية لأن العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فإذا قيل يجب أن يكون فوقهم وأن يكون عاليًا(3/615)
عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن فيما يقتضي أن يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض أن وراء العالم ست جهات وأن العالم كالإنسان الذي له ست جهات لكان إذاقيل يجب أن يكون الله فوقه ولا يكون عن يمينه ولا عن يساره إنما هو إيجاب لنسبة خاصة وإضافة خاصة له إلى العالم لا يقتضي ذلك أن يكون هناك أمور وجودية فضلاً عن أن تكون مختلفة الحقائق الوجه السابع أن وجود كونه فوق العالم أمر مشروط بوجود العالم فإنه قبل خلق العالم لا يقال إنه فوقه ولا إنه ليس فوقه إذ العلو والفوقية هي من الأمور التي فيها نسبة وإضافة وإن كان الناس قد تنازعوا هل علوه وفوقيته واستواؤه على العرش من الصفات الذاتية التي وجبت له بنفس ذاته وإن كان(3/616)
فيه إضافة ظهر حكمها بخلق العالم والعرش كما يقولون في المشيئة والعلم أو هو من الصفات الفعلية وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه أو هو إضافة محضة بينه وبين العرش أم متضمن لأمرين من ذلك أو للأمور الثلاثة فلا ريب أن وجود العلو على العرش الاستواء عليه(3/617)
إنما هو بعد خلقه ولو قدر أن العالم أو العرش خلق في حيز آخر لكان الله سبحانه وتعالى عاليًا عليه ومستويًا عليه حيث خلق كما أنه سبحانه إذا كان مع عبده بعلمه وقدرته أو نصره وتأييده وغير ذلك فحيث كان العبد كان مع الله وإذا كان كذلك لم يكن لبعض الأحياز حقيقة يتميز بها عن حيز آخر لأجلها يستحق أن يكون الله فيه وإنما وجوب اختصاصه هو تابع لوجوب علوه ولاستوائه وعلوه واستواؤه على عرشه ينافي أن لا يكون عاليًا عليه فما يفرض من سفول وتياسر ونحو ذلك مما ينافي العلو كان منتفيًا لأن أحد النقيضين ينفي الآخر لا لصفة ثابتة لأحد الحيزين دون الآخر الوجه الثامن قوله ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق يقال لا نسلم ذلك ولم يذكر على ذلك حجة فالمنع المجرد يكفي هذه الدعوى ثم يقال اختصاص الشيء بوجوب كونه فوق الآخر دون كونه عن يمينه ويساره قد يكون لمعنى في الأعلى أو لمعنى في الأسفل أو لمعنى فيهما وهكذا كل أمر فيه إضافة بين أمرين(3/618)
كالحب والقدرة ونحو ذلك قد يكون لمعنى في المضاف وقد يكون لمعنى في المضاف إليه وقد يكون لمعنى فيهما كالحب والقدرة ونحو ذلك يقتضي معنى في المحب والمحبوب وكذلك القدرة ولذلك يختصان بشيء دون شيء وأما العلم فيقتضي معنى في العالِم لا يقتضي معنى في المعلوم فإن العلم يتعلق بكل شيء لا يختص بموجود دون معدوم ولا بممكن دون ممتنع فالاختصاص فيه إنما هو في العالم لا في المعلوم وكذلك القول ونحوه وأما العلو فقد يكون لمعنى في العالي كصعود الإنسان على السطح فإنه هو الذي تحرك حركة أوجبت علوه والسطح لم يتغير فالرجل يكون تارة فوقه وتارة تحته لتحوله هو دون السطح والطير إذا حاذى الإنسان وكان فوق رأسه ثم نزل حتى صار تحت مكان هو فيه كان الطير فوقه تارة وتحته أخرى لتحول الطير دون تحوله هو وإذا كانت الأمور الإضافية لاتستلزم وجود معنى في غير المضاف والمضاف إليه وإن جاز وجود ذلك لكن نفس المعنى في أحدهما قد يكفي في الصفات الذاتية التي فيها إضافة عارضة لها فكيف يكون في الإضافات المحضة فالعلو سواء كان صفة ثبوتية مستلزمًا للإضافة أو كان فعلاً مستلزمًا للإضافة أو كان فيه الأمران أو كان إضافة محضة يكفي في تحققه وجود معنى في العالي تارة وفي السافل أخرى من غير(3/619)
اختلاف في حقيقة الأحياز يوضح هذا الوجه التاسع أن الأحياز التي لا ريب في وجودها كالهواء والسطوحات ونحوها قد يعلو عليها الحيوان وتعلو عليه أخرى وتكون تارة عن يمينه وتارة عن شماله مع أن حقائقها في جميع هذه الأحوال سواء لم يتجدد لها باختلاف الحال في كونه عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة صفة أصلاً فإذا كانت الأحياز التي عُلِمَ وجودها ولا يزال حكم الجهات يختلف فيها بكونها عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة وهي مع ذلك لا يحدث فيها شيء من التغير فكيف يقال إنه لولا كون الأحياز التي هي الفوق والتحت واليمين واليسار مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة فوق ومما يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن رأس الإنسان ينبغي أن يكون مختصًّا بجهة فوق بالنسبة إلى سائر بدنه ويده اليمنى يجب أن تكون مختصة بجهته اليمنى ويده اليسرى يجب أن تكون مختصة بجهته اليسرى وصدره وبطنه يجب أن بجهة أمامه وظهره يجب أن يختص بجهة خلفه وأسفل قدميه يجب أن يختص بجهة تحته ومع هذا الوجوب المعلوم بالإحساس ليس ذلك لاختلاف حقائق الجهات التي اختصت بها(3/620)
هذه الأعضاء ولا لاختلاف صفاتها بل هذا الاختصاص لا يؤثر في الجهات شيئًا أصلاً وإنما الاختصاص لمعنى في الإنسان نفسه لا لمعنى في الجهات الوجه الحادي عشر أنه إذا قدر أن الحيز والجهة أمر موجود لم نسلم المقدمة الثانية وهو قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه والذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك أن وجود موجود مستغن عن الله ممتنع فإن كل ما سواه مفتقر إليه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وقوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قياس شمول عام عدل الله فيه بأحقر المخلوقات فإن الأجسام الضعيفة من المواد والحيوان كالحجر والمدر والبعوضة ونحوها إذا كانت في مكان أو حيز فلا ريب(3/621)
أنها قد تكون محتاجة إليه وهو مستغن عنها لكن قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر إليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فإنه في ضلال مبين وذلك أن أعظم الأمكنة العرش ولا خلاف بين المسلمين الذين يقولون إنه مستو عليه أو مستقر أو متمكن عليه والذين لا يقولون ذلك أن العرش مفتقر إلى الله والله غني عن العرش ولا يقول أحد ممن يتظاهر بالإسلام أن الله يفتقر إلى العرش أو إلى غير العرش بل هم متفقون على أن الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا مع ما جاء في الآثار من إثبات مكانه تعالى كالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تعالى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني(3/622)
وفي شعر حسان تعالى علوًا فوق عرشٍ إلهنا وكان مكان الله أعلى وأرفعا(3/624)
فقوله إن الحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قضية عامة ضرب بها مثلاً في قياس شمولي ليس معه فيه إلا مجرد تمثيل الخالق بالمخلوق الضعيف الفقير وإن كان من الجنس الحقير وهؤلاء الجهمية دائمًا يشركون بالله ويعدلون به ويضربون له الأمثال بأحقر المخلوقات بل بالمعدومات كما قدمنا التنبيه عليه غير مرة فلما رأوا أن المستوي على الفلك أو الدابة أو السرير يستغني عن مكانه قالوا يجب أن يكون الله أيضًا يستغني عن مكانه تشبيهًا له بهذا المخلوق العاجز الضعيف ولما رأوا أن الحجر والمدر والشجر والأنثى والذكر يستغني عنه حيزه ومكانه قالوا فرب الكائنات مُشَبَّه بهذه المتحيزات في افتقاره إلى ما هو مستغن عنه تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ثم يقال له في الوجه الثاني عشر إن كثيرًا مما سمى مكانًا وحيزًا وجهة للإنسان يكون مفتقرًا إليه بل ولغير الإنسان أيضًا فمن قال إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي(3/625)
الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي كبطانة قميص اللابس كان كثير من الأمكنة محتاجًا إلى الممكن كاحتياج القميص إلى لابسه واستغناء صاحبه عنه وكذلك الحيز قد ذكرنا أنه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته إليها وقديرا دبه الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرًا إلى الإنسان كقميصه وقد يكون مستغنيًا عنه وإن كان مستغنيًا عن الإنسان لكن الإنسان لا يحتاج إلى حيز معين خارج عن ذاته بحال بل وكذلك جميع الموجودات حيزها إما حدودها المحيطة بها ونهاياتها وهي منها فتلك لا توصف بالاستغناء عنها وإما ما يحيط بها منفصلاً عنها فليس في المخلوقات مايحتاج إلى حيز بعينه وأما الجهة فهي لا تكون جهة إلا بالتوجه فهي مفتقرة في كونها جهة إلى المتوجه والمتوجه لا يفتقر إلى جهة بعينها(3/626)
بحال وإذا كانت المخلوقات لا تفتقر إلى حيز موجود وجهة موجودة أو مكان موجود بعينه وإن كان فيها ما يفتقر إلى نوع ذلك على البدل وما يسمى لها مكانًا قد يفتقر إليها وكذلك ما يسمى حيزًا لها متصلاً أو منفصلاً قد يكون مفتقرًا إليها وكذلك الجهة مفتقر إليها في معنى كونها جهة كان دعوى افتقار المتحيزات للحيز مع استغناء الحيز عنه في حق المخلوقات ليس على إطلاقه بل إطلاق ذلك دعوى باطلة فكيف في حق الخالق الغني عن كلما سواه المفتقر إليه كل ما سواه الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في الجهة يقال له الأجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته أفتقول إنه يستحيل عقلاً حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل أن كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما أن العالم حاصل في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلاً قال إن كل جسم يجب أن يكون(3/627)
حاصلاً في حيز وجودي منفصل عنه وإذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في جهة التي قد قدم إنها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفي على من تأمله وإنما الرجل غلط أو خالط في المقدمتين فإنه قد سمع وعلم أن الجسم لا يكون إلا متحيزًا فلابد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا أن الجهة أمر وجودي فركب أن كل جسم يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الإجمال والاشتراك فيأخذ أحدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشترى قد قارن زحل وهذا هو المشترى الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل أو يقول هذه(3/628)
الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم أن الجهة التي نصر أنها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم يوضح ذلك الوجه الرابع عشر وهو أنه قال إن(3/629)
المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز مستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك يقتضي أن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وجهة فيكون محتاجًا إلى الحيز والجهة وقد قرر أن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه فيكون الحيز والجهة مستغنيًا عن الحيز المتوجه وذلك يقتضي أن المتحيزات بأسرها مفتقرة إلى أحيازها وأن أحيازها التي يستحيل عقلاً حصولها في غيرها مستغنية عنها ومن المعلوم لكل عاقل أن تحيز الجسم أمر قائم به محتاج إليه ليس هو مستغنيًا عن الجسم وهذا هو الذي يستحيل عقلاً حصول المتحيز بدونه فإنه يستحيل حصول متحيز بدون تحيز وكل جسم متحيز وحصول المتحيز بدون التحيز محال وهو مثل حصول الجسم أو حصول المقدور بدون تَقَدُّر أو حصول المميز بدون التميز وأما كون المتحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وراء هذا التحيز فالعقل يعلم(3/630)
خلاف ذلك فيعلم أن المتحيز لا يفتقر إلى حيز وجهة غير هذا التحيز الذي قام به فظهر أنه ناقض مايعلم بالعقل خلافه بأن العقل يعلم افتقار المتحيز إلى حيز منفصل عنه بل يفتقر إلى حيز هو نهايته التي تُحيط به فقلب القضية وجعل الحيز المنفصل الذي هو للجهة مستغنيًا عن المتحيز والمتحيز يستحيل عقلاً حصوله بدونه وظهر ببطلان المقدمتين بطلان المقدمة الأولى من الحجة وهو قوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره ونتكلم على الثانية فنقول الوجه الخامس عشر قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره لفظ مجمل قد تقدم الكلام على نظيره غير مرة وهو أن لفظ الغير عند كثير من الصفاتية أو أكثرهم منهم أصحابك هو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو ما جاز وجود أحدهما دون الآخر وعند كثير من نفاة الصفات ومثبتيها ما جاز العلم(3/631)
بأحدهما دون الآخر فما الذي تريد بلفظ الغير في قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره إن أردت به لكان مفتقرًا إلى ما يجوز وجوده دونه فهذا باطل فليس في الموجودات ما يجوز وجوده دون الله وعلى هذا التقدير فيمتنع افتقار الله إلى غيره لامتناع الغير الذي يجوز وجوده دونه كما يمتنع افتقاره إلى مثله لامتناع مثله ويمتنع خوفه من نده لامتناع نده فالفقر والحاجة إلىما يستغنى عنه محال هذا إن أراد وجود ذلك الغير دونه وإن أراد وجود الله دون ذلك الغير فيكون المعنى أنه مفتقر إلى الغير الذي يجوز وجود الله دونه وهذا جمع بين النقيضين فإنه إذا كان هو سبحانه موجودًا دونه لم يكن مفتقرًا إليه وإذا كان مفتقرًا إليه لم يكن سبحانه موجودًا دونه فقول القائل(3/632)
إنه مفتقر إلى الغير الذي يوجد دونه مثل قوله مفتقرًا إلى ما هو سبحانه وتعالى مستغن عنه وذلك مثل قول القائل يفتقر لا يفتقر ويستغني لا يستغني وكذلك إن أراد بالغير ما يجوز مفارقته لله بزمان أو مكان أو وجود فالحيز الذي هو من لوازم وجوده كالصفة الذاتية اللازمة له لا يفارقه في زمان ولا مكان وقد ذكرنا أن الحيز الوجودي يراد به حد الشيء المتحيز الذي يحوزه ويراد به شيء منفصل عنه يحوزه والله ليس هو بل ولا غيره من المخلوقات مفتقرًا إلى حيز وجودي بالمعنى الثاني وأما الحيز الوجودي بالمعنى الأول فهذا لايجوز أن يفارق المتحيز لا في زمان ولا في مكان ولا وجود إلا إذا فرق ذلك المتَحيز وحينئذ فلا يكون هو إياه مع أن الله سبحانه صمد لا يجوز عليه التفرق والانقسام فإن أراد بالغير هذا المعنى كان التقدير لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ما هو لازم لذاته لا يجوز مفارقته له ولا انفصاله عنه وهكذا حكم جميع الصفات الذاتية فيكون المعنى كما لو قيل لو كان له صفة ذاتية لكان مفتقرًا إليها افتقار الموصوف إلى الصفة وهذا من(3/633)
شبه نفاة الصفات التي يبطلها هذا المؤسس نفسه كما تقدم الكلام عليه وهذا أحد الوجوه التي ذكرها في حجة نفاة الصفات في نهايته فقال الثالث أن عالمية الله وقادريته لو كانت لأجل صفات قائمة به لكان الباري محتاجًا إلى تلك الصفات لكن الحاجة على الله محال فبطل القول باتصاف ذاته بالصفات فقوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ذلك مثل هذه سواء إذا فهم أن الحيز الذي يلزم المتحيز هو أمر لازم له ليس شيئًا منفصلاً عنه وأن المتحيز لا يفتقر إلى حيز موجود منفصل عنه بضرورة العقل والحس واتفاق العقلاء وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحجة غير مرة وهي مثل قولهم يستلزم التركيب والكثرة الموجبة لافتقاره إلى أجزائه(3/634)
وقد قال هو قولهم يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات المخصوصة في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه فأين المحال قال وأيضًا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا ويلزمكم أيضًا في الصورة المرتسمة في ذاته من المعقولات ما ألزمتمونا ونحن قد بينا أن هذه الأمور ليست غيرًا له بهذا الاصطلاح فلا يصح أن يقال هو مفتقر إلى غيره وأما إن أراد بالغيرين ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فنقول ثبوت هذه المعاني في حق الله تعالى متفق عليه بين(3/635)
العقلاء معلوم بضرورة العقل فلابد منه في كل موجود فإنه يعلم شيئاً ثم يعلم شيئاً آخر فإن كان ثبوت هذه الأمور مستلزم حاجة الله إلى الغير فهذا اللازم على كل تقدير ولكل العقلاء وحينئذ فلا يكون محذورًا بهذا التفسير فظهر أن قوله لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير إما منع الملازمة أو منع انتفاء اللازم وذلك بسبب اشتراك لفظ الغير بضرورةالعقل واتفاق العقلاء فإن الغير إن عنى به مايجوز مفارقته في وجود أو زمان أو مكان منعت المقدمة الأولى وهو قوله لكان مفتقرًا إلى غيره فإن الحيز الوجودي الذي يلزمه ليس مما تجوز مفارقته له وإن عنى بالغير ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فثبوت هذا في حق الله معلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء وإن كان فيهم من لا يسميه غير فالمقصود هنا(3/636)
المعنى دون الألفاظ فتكون المقدمة الثانية باطلة بضرورة العقل واتفاق العقلاء الوجه السادس عشر يقال له ما تعني قولك لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير فإن الافتقار المعروف عند الإطلاق أن يكونَ الشيء محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد إلى الله وأما الشيئان اللذان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة أو المقدرة وقدرة اللازم له وكالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك فهذه الأمور لا توصف بافتقار أحدهما إلى الآخر دون العكس لكن إذا قيل كل منهما مفتقر إلى الآخر كان بمنزلة قول القائل الشيء مفتقر إلى نفسه والمعنى أن أحدهما لا يوجد إلا مع الآخر كما أن الشيء لا يكون موجودًا إلا بنفسه فإذا كان مخلوقًا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لأحدهما هو الفاعل للآخر وإذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرًا إلى غير ذاته وإنما المعنى أنه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزومًا لا يمكن عدمه وأحد هذه الأمور لازم للآخر لزومًا يمكن معه عدمه(3/637)
وإذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الافتقار هنا فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له أو لو كان له تحيز لازم لكان ملازمًا له لا ينفك عنه وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل كما لو قيل لو كان واجبًا بنفسه لكان مفتقرًا إلى نفسه والمعنى أن نفسه لازمة لنفسه لزمًا لا يمكن عدمه فإنما تغلط الأذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار إلى الغير من المحذور وهؤلاء عمدوا إلى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة وسموا لزوم صفاته له افتقارًا إلى الغير فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الأمر بل لا يستريب في ثبوتها أحد من العقلاء مادام عاقلاً عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معانٍ فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها كان هذا الاشتراك مما أشركوا فيه بين الله وبين خلقه وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله حيث أشركوا بين المعاني الواجبة لله والممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به(3/638)
ما يجب لله وكانوا مشركين معطلين في اللفظ كما كانوا مشركين معطلين في المعاني كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة بمنزلة من سمى رحمان اليمامة الرحمن وجعل يقول للناس أنا كافر بالرحمن يوهمهم أن رحمان اليمامة هو كافر بالرحمن الذي على العرش أو بمنزلة من سمى الأوثان آلهة والإله وجعل يقول للمؤمنين قد عبدت الإله ودعوت الإله وإنما يعني به الوثن أو بمنزلة الله اللات(3/639)
والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهو يعني الكفر بالله فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما أثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك ثم جعل يقول ينزه الله تعالى عن أن يكون مفتقرًا إلى الغير وهو مثل من يسمي نبيه محمدًا مذممًا ثم يقول العنوا مذممًا وهو صلى الله عليه وسلم محمد وليس بمذمم والله سبحانه الغني بما لَه من الأسماء والصفات وليس بمفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه وإن سموه هم مفتقرًا إلى غيره إذا ثبتت له هذه الصفات كما سمى المشركون محمدًا مذممًا لما دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وهذا حال فريق ممن خالف سلطان الله الذي بعث به رسله(3/640)
وسمى سبحانه الأشياء بما تستحقه من الأسماء من أهل الكفر والبدع التي تشتمل على ما هو من الإيمان وما هو من الكفر فإنهم يسمون الأشياء بأسماء تتضمن حمدًا وذمًّا ونفيًا وإثباتًا وتلك الأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وذلك مثل تسمية الكفار النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا وساحرًا وكاهنًا ومجنونًا وذلك لنوع شبهة قد أزاحها بما أظهره من البينات فلما رأوا القرآن كلامًا موزونًا شبهوه بالشعر الموزون ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روح ينزل إليه بها(3/641)
فشبهوه بالكاهن الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مائة كذبة عن روح شيطاني ينزل عليه بها ورأوه يزيل ما في النفوس من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة إلى الصحيح الذي فطر الله النفوس عليه فشبهوه بالساحر الذي يغير الأمر في إدراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا الشيء بخلاف ما هو عليه ويحبوا ما أبغضوه ويبغضوا ما أحبوه ورأوه قد أتى بما يخالف عاداتهم الفاسدة وما يذمونه عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما يعرف في العقل ويأتي ما يذم عليه(3/642)
كذلك يسمي أهل البدع من اتبع سبيله الذي قال الله حكاية عنه قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} [يوسف 108] بأسماء باطلة كتسمية الرافضة لهم ناصبة مع محبتهم أهل البيت وموالاتهم تشبيهًا لهم بمن يبغضهم ويعاديهم لاعتقادهم أن لا ولاية لهم إلا بالبراءة من الصحابة وزعموا أنهم كانوا يعادونهم وكتسمية القدرية لهم مُجْبِرَة مع كونهم يعتقدون أن(3/643)
العبد فاعل حقيقة وله إرادة وقدرة وتشبيهًا بمن يسلب العبد الفعل ويجعله كالجمادات التي لا إرادة لها لما اعتقدوا أن الله خالق كل شيء وهو خالق العبد وصفاته وأفعاله وكذلك تسمية الجهمية لهم مشبهة مع كونهم يعتقدون(3/644)
أن الله ليس كمثله شيء في صفة من صفاته أصلاً تشبيهًا لهم بالممثلة الذين يجعلون الله من جنس المخلوقات لمااعتقدوا أن الله موصوف بصفات الإثبات التي جاءت بها النبوات وأما في الذم فتسمية الكفار أصنامهم الإله وتسميتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وما في ذلك لها من معنى الهيبة والعزة والتقدير وكذلك تسمية أهل البدع لأنفسهم بأسماء لا يستحقونها كما تسمي الخوارج أنفسهم المؤمنين دون بقية أهل القبلة ويسمون دارهم دار الهجرة وكذلك الرافضة تسمي أهلها المؤمنين وأولياء الله دون بقية أهل القبلة وكذلك الجهمية ونحوها يسمون أنفسهم الموحدين ويسمون نفي الصفات توحيد الله(3/645)
وتسمي المعتزلة ذلك توحيدًا وتسمي التكذيب بالقدر عدلاً وتسمي القتال في الفتنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك تسمية الصابئة لعلومهم أو أعمالهم الحكمة أو الحكمة الحقيقية أو المعارف اليقينية مع أن فيها من الجهل والشبه والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال وكذلك تسمية الاتحادية أنفسهم أهل الله وخاصة الله والمحققين وهم من أعظم الناس عداوة لله وأبعد(3/646)
الناس عن التحقيق وما من اسم من هذه الأسماء الباطلة في الحمد والذم إلا ولابد لأصحابه من شبهة يشتبه فيها الشيء بغيره بل قد يفعل المبطلون أعظم من ذلك كتسمية بعض الزنادقة المتفقرة المسجد إِسطبل البطالين وهذا كثير فيمن يسمي الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وتلك كلها أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وإنما فعلوها لنوع من الشبه التي هي قياس فاسد كشبه الجهمية وقاسهم أنه لو كان لله صفات لازمة لكان مفتقرًا إلي غيره فسموه لأجل ما هو به مستحق الحمد والثناء والمجد وهو الغني الصمد سموه لأجل ذلك مفتقرًا إلى الغير وهذا منهم باطل ما أنزل الله به من سلطان الوجه السابع عشر قوله المفتقر في وجوده إلى الغير(3/647)
يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال يقال إذا كان الشيء مفتقرًا إلى شيء آخر مستغن عنه وأنه يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الثاني عدم الأول أو لا وجود للأول إلا بالثاني وما كان كذلك فإنه ممكن لذاته لكن إذا كان الثاني غير مستغن عن الأول بل كان الثاني مفتقرًا إلى الأول بحيث يلزم من عدم الأول عدمه لم يمكن أن يجعل الأول ممكنًا لافتقاره إلى الثاني بأولى من أن يجعل الثاني ممكنًا لافتقاره إلى الأول وحينئذ يجب دخولهما جميعًا في وجوب الوجود إذا ثبت أن كلا منهما حاجته على الآخر كحاجة الآخر إليه فكيف والموصوف هنا المستلزم للصفة وذلك يظهر بالوجه الثامن عشر وهو أنه قد عرف أن الغير هنا لا يعني الغير المنفصل عنه بل ما تغاير في العلم وأن الافتقار المراد به التلازم فيكون المعنى أن الموصوف(3/648)
مستلزم الصفة ومعنى افتقاره إليها أنه لا يكون له حقيقة أو لا يكون على ما هو عليه إلا بها وأنه يلزم من عدمها عدمه لكن تلك الصفة أيضًا يلزم من عدم الموصوف عدمها ولا حقيقة لها ولا وجود إلا بالموصوف وكونها مستلزمة الموصوف وهوافتقارها إلى الموصوف أبلغ من كون الموصوف مستلزمًا لها وإذا كان كذلك كان الموصوف واجبًا للوجود ولم يكن يفتقر إلى شيء منفصل عنه ولكن معنى حاجته استلزامه للصفة التي هي مستلزمة له وهذا حق وهوغير منافٍ لوجوب الوجود بل لا يكون وجود واجب ولا غير واجب إلا كذلك الوجه التاسع عشر أنه لو فرض أن ذاته مستلزمة لشيء منفصل عنه من حيز أو غيره لكان بحيث يلزم من عدم ذلك اللازم لذاته المنفصل عنه عدم الملزوم الذي هو ذاته ثم لم يقل أحد من الخلائق بأن رب العالمين مفتقر لأجل ذلك إلى ما يكون منفصلاً عنه ولا على قول القائل بالتعليل والتوليد الذين منهم خرج التكلم بواجب الوجود فإنهم يقولون إنه علة تامة مستلزم(3/649)
لوجود معلوله الذي هو العالم الذي تولد عنه ومع هذا فهو واجب الوجود ليس بممكن الوجود ولا يفتقر إلى غيره الوجه العشرون قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لأنه يمكن تقديره بالذراع والشبر وما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالمفتقر إليه أولى أن يكون ممكنًا يقال له قد تقدم أن الحيز الوجودي الذي يقال إن ذات الله مستلزمة له ليس هو شيئًا منفصلاً عنه حتى يقال إنه مركب من الأجزاء والأبعاض أم ليس بمركب وهذا الوجه إنما هو إقامة دليل على حيز وجودي منفصل عن الله تعالى مثل العرش والمنازعون له يقولون إن ذات الله ليست مستلزمة لوجود حيز وجودي منفصل عنه وإنما قد يقول من يقول منهم إنه يكون على العرش(3/650)
أو يأتي في ظلل من الغمام أو كان قبل أن يخلق العرش في عماء وهو السحاب الرقيق لكن لم يقولوا إن ذلك لازم له بل هو من الأمور الجائزة عليه فلا يكون مفتقرًا إليه الوجه الحادي والعشرون أنه إذا قال قائل إنه لابد من حيز وجودي غير ذاته كغمام أو غيره أو الخلاء عند من يتخيل أنه موجود فإنه قد يقول لا نسلم أن ما ذكره من تقديره ومساحته يدل على إمكانه فإن هذه هي الأدلة الدالة على إمكان ذوات المقدار وقد تقدم بيان بطلانه وأنه لم يقم على ذلك حجة لما ذكر من أدلته على أن كل متحيز وكل جسم فهو ممكن الوجه الثاني والعشرون أنه إذا قدر أن ذلك ممكن لذاته فإنه لايكون إلا مفتقرًا إلى الله لأن كل ما سواه مفتقر إليه وغايته أن تكون حقيقة الرب مستلزمة له ويكون افتقاره إليه كما يقال من افتقار الموصوف إلى صفته وأكثر ما يقال إنه مفتقر إليه كافتقار العلة إلى معلولها الذي هو مفتقر غليها يعني أن العلة لا تكون(3/651)
موجودة إلا بوجود معلولها ومعلولها هو مفتقر إليها فجعل العلة الموجبة بنفسها مفتقرة على معلولها حاصله أن وجوده لا يكون إلى مع وجوده وهذا لا يوجب أن يكون واجب الوجود ممكنًا الوجه الثالث والعشرون قوله والمفتقر على الممكن بذاته أولى أن يكونَ ممكنًا لذاته فيقال إذا كان معنى الفقر ما يعود إليه حاصل كلامك وأن معناه أن الواجب بنفسه مستلزم لوجود ما هو ممكن بذاته وهو الواجب لذلك الممكن وهو مع حاجته إليه هو الموجب فيكون حقيقة الأمر أن الواجب بنفسه أوجب أو أوجد ما يحتاج إليه وهذا لا يوجب أن يكون محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه ولا أن يكون ممكنًا بل لا يوجب حاجته إلى ما هو غيره لأن ذاته هي الموجبة لكل مايحتاج إليه فلا حاجة به إلى غيره بحال هذا مع تسميتنا هذه المعاني حاجة وافتقارًا على ما زعمته ولكن لو كان محتاجًا إلى ممكن مستغن عنه بوجه من الوجوه كان فيه إمكان أما إذا كان ذلك الأمر محتاجًا إليه من كل وجه غير مستغن عنه فالحاجة إلى مالا يقوم إلا بنفسه كالحاجة إلى نفسه وذلك لا ينافي وجوبه بنفسه بل حقيقة الواجب بنفسه أن لا يستغني عن نفسه ولا يكون إلا بنفسه سميت ذلك فقرًا إلى نفسه أو لم تسمه وهذه الحجة لأمور قد(3/652)
تقدم الكلام عليها فلهذا نختصر الكلام عليها هاهنا الوجه الرابع والعشرون قوله في الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين يقال له هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلاً وأبدّا فليس ذلك عندهم شيئاً خارجاً عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجًا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات كما أنه كذلك في سائر المتحيزات فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك(3/653)
ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات وقد ذكرها هو في نهايته فقال في حجتهم الرابع الصفات القديمة لابد وأن تكون مساوية للذات القديمة في القدم وذلك يقتضي تماثلهما وأجاب عن ذلك بأجوبة صحيحة بين فيها أن الاشتراك في القدم لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة ولا يستحيل أن يكون للذات صفات قديمة لكن هذا الموضع لا يحتاج إلى ذلك فإن احتج على نفي قديم غير الله بإجماع المسلمين فيكون الجواب في الوجه الخامس والعشرين وهو أن المسلمين لم يجمعوا على أنه ليس لله صفة قديمة بل عامة(3/654)
أهل القبلة على إثبات ذلك ولكن أجمعوا على أنه ليس فيما هو خارج عن مسمى الله وهو الأمور المخلوقة شيء قديم فأين هذا من هذا فهذا الإجماع إنما يلزم لو قيل إن هناك حيزًا وجوديًّا خارجًا عن مسمى الله تعالى يختص له أزلا وأبدًا الوجه السادس والعشرون أن احتجاجك في هذا بالإجماع لا يصح فإنك قد حكيت نزاع المسلمين في أن الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة وقررت أن الحيز أمر وجودي فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله وإذا حكيت اختلافهم في ذلك لم يجز أن تحكي إجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين أن يقال هذه الحجة من أولها مبنية على أن الحيز أمر وجودي وبذلك أبطلت المنازع لك في أن الباري متحيز فلا يخلو إما أن يكون الحيز وجوديًّا أم لا فإن كان الحيز وجوديًّا فقد ثبت تنازع الأمة في ثبوت قديم غير الله معه لأن النزاع في تحيزه معلوم مشهور وأنت إنما قصدت الرد على المخالف في ذلك وإن لم يكن(3/655)
الحيز وجوديًّا بطلت الحجة من أصلها وعلى التقديرين لا يصح أن تحتج بالإجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في أن الله متحيز وبنائك الحجة على أن الحيز أمر وجودي بل إن كان ما ذكرته من النزاع نقلاً صحيحًا وما ذكرته من الحجة صحيحة فقد ثبت أن في الأمة من يقول بثبوت قديم غير الله وإن لم يكن صحيحًا بطل الاستدلال من أوله الوجه الثامن والعشرون أن هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الأمة حتى يحتج بمضمون اللفظ ولكن لما علم من مذهب الأمة أن الله خالق كل شيء وأن العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلاً لمذهبهم بالمعنى وإذا كان كذلك لم يكن هذا متناولاً لموارد النزاع بين الأمة الوجه التاسع والعشرون أنه أورد من جهة المنازع أنه لا يعني بكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا أنه مباينٌ عن العالم منفردٌ عنه ممتازٌ عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجودًا آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه فيما مضى أن الحيز لا خلاف بين الناس أنه قد يراد به ما ليس بخارج عن(3/656)
مسمى الذات وأن هؤلاء المنازعين له لا يقولون إن مع الباري موجودًا هو داخل في مسمى نفسه أو موجودًا مستغنيًا عنه فضلاً عن أن يكون الرب مفتقرًا إليه بل كل ما سواه فإنه محتاج إليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم فقال والذي يدل على صحة ما ذكرنا أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصًّا بالحيز والجهة وهذا كلام سديد وهو قياس من باب الأولى ومثل هذا القياس يستعمل في حق الله تعالى وكذلك ورد به الكتاب والسنة واستعمله سلف الأمة وأئمتها كقوله تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الروم 39] وقوله أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات 153](3/657)
وقوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ {59} لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} [النحل 58-60] وقوله وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ {62} [النحل 62] فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات فربهم أحق وأولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم وهذا كما يقول المسلم للنصراني كيف تنزه البتريك عن أن يكون له ولد وأنت تقول إن لله ولدًا وكذلك هنا(3/658)
هو ينزه العالم المتحيز أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود ولا ينزه الرب المعبود إذا كان فوق العرش أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود والخالق أحق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة كل ذلك واجب له فإذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه أولى وأحرى ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح بل قال قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في هذا الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما(3/659)
كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق فيقال له أنت وجميع الخلق تسلمون أن كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم احتياجه إلى حيز موجود مستغن عن العالم فإن هذا لم يقله عاقل فإنه يستلزم التسلسل وإذا كان قد علم بالعقل والاتفاق أن العالم يستغني في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه فخالق العالم أولى أن يكون مستغنيًا عن ذلك ومن قال إنه في تحيزه يكون مفتقرًا إلى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه أن عدله بالمخلوق بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما قوله أيضًا في الجواب قد بينا بالبراهين القاطعة أن الأحياز أشياء موجودة فلا يبقى في(3/660)
صحتها شك فيقال له قد تبين أن هذه من أضعف الشبه مع أنك مبطل لها كما تقدم ثم ما ذكرته في نهايتك في ذلك منقوض عليك في العالم فما كان جوابك فيه كان جواب منازعك هنا فإنك ضربت لله أمثالاً أوجبت فيها أنه محتاج مع وصفك لمن هو دونه بالغنى عما جعلته محتاجًا إليه ويكفيك ضلالاً أنك لو أشركت بالله وجعلته مثل المخلوقات لنجوت من هذا الضلال الذي أوجبت فيه حاجة رب العالمين إلى غيره إذا كان فوق العالم بل هذه الحال التي سلكتها أسوأ من حال المشركين في هذا المقام حيث أغنيت المخلوق عما أحوجت إليه الخالق هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد 4] ومثله في هذه المناظرة كما وقع بين اثنين واحد من المثبتة الذين يُثَبِّتُهم الله بالقول الثابت وآخر من النفاة قال النافي للمثبت إذا قلتم أن الله فوق العالم أو فوق العرش لزم أن يكون محتاجًا إلى العرش أو يكون محمولاً له محتاجًا إليه(3/661)
كما إذا كان أحدنا على السطح فقال له المثبت السماء فوق الأرض وليست محتاجة إليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجًا إليها فإذا كان كثير من الأمور العالية فوق غيرها ليس محتاجًا إليها فكيف يجب أن يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجًا إلى ما هو عال عليه وهو فوقه مع أنه هو خالقه وربه ومليكه وذلك المخلوق في بعض مخلوقاته مفتقر في كل أموره إليه فإذا كان المخلوق إذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب أن يكون محتاجًا إليه فكيف يجب على الرب إذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر إليه أن يكون الله محتاجًا إليه الوجه الثلاثون أنه قال في الاعتراض لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى(3/662)
فقال في الجواب أماقوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو بائنًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله عن الجهة لا يكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل فيقال له هذا الذي ذكرته ليس دليلاً على أن المخالفة في الحقيقة والماهية لا تقتضي الجهة فإن قولك إن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وليس ذلك بالجهة إنما يكون حجة لو ثبت أن الحيز والجهة أمر وجودي فإن الكلام هنا إنما هو في الامتياز والمباينة التي من الأمور الموجودة لا بين الموجود والمعدوم فإن المعدوم ليس شيئاً في الخارج حتى يحتاج إلى التمييز بينه وبين غيره وليس له(3/663)
حقيقة وماهية حتى يميز بينه وبين غيره ولو فرض أنه محتاج إلى التمييز بينه وبين غيره فالكلام هناك وفي المباينة التي بين موجودين وهي المباينة بين الله وبين العالم وإذا كان كذلك كان احتجاجه بالمباينة التي بين الله وبين الجهة على المباينة بين الموجودين يكون بالحقيقة لا بالجهة إنما يصح إذا كانت الجهة أمرًا وجوديًّا وهذا هو محل النزاع الذي نازعه فيه المنازع على أن الجهة المضافة إلى الله تعالى ليست أمرًا موجودًا فإنه لا معنى لكون الباري في الجهة إلا كونه مباينًا للعالم ممتازًا عنه منفردًا وهو لا يقتضي وجود أمر سوى ذات الله فإذا احتج على أن المباينة التي بين الله تعالى وبين العالم إنما هي بالحقيقة ومباينة الشيء بالحقيقة لا يقتضي الجهة كمباينة الرب للجهة كان قد سلم أن الجهة أمر وجودي في هذا الجواب وهذه مصادرة على المطلوب حيث جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه والمنازع يقول لا أسلم أن الجهة أمر موجود حتى يقال إن الله تعالى مباين لشيء موجود بغير جهة فإن النزاع ما وقع إلا في وجودها وهذا أول المسألة فكيف يحتج في وجوده بدليل محتج فيه بوجوده وهذا(3/664)
ظاهرلا يخفى على من تدبره وظهر أنه لم يذكر حجة على أن المخالفة بالحقيقة لا تقتضي الجهة الوجه الحادي والثلاثون أن يقال المعلوم من المباينة والامتياز بالحقيقة والماهية لا يخلو عن الجهة وذلك أنه إما أن يكون بين جوهرين وجسمين وما يقوم بهما وكل منهما مباين للآخر بالجهة وإما أن يكون بين عرضين بجوهر واحد وعين واحدة كطعمه ولونه وريحه وعلمه وقدرته أو بين العين وبين صفاتها وأعراضها كالتمييز بين الجسم وبين طعمه ولونه وريحه وهذان الموضعان لا يخلو الأمران عن الجهة أيضًا فإن الجوهر هو في الحيز بنفسه بخلاف العرض الذي فيه فإنه قائم في الحيز تبعًا لغيره وأما الصفتان والعرضان فهما أيضًا قائمان بمتحيز وإن كان أحدهما لا يتميز عن الآخر بمحله فليس في الأشياء الموجودة التي يعلم تباينها وتمايزها ما تخلو عن الجهة والحيز فإن قيل فأحد العرضين مباين الآخر بحقيقته مع اتفاق محلهما فبقال الوجه الثاني والثلاثون وهو أن كل شيئين قائمين(3/665)
بأنفسهما لا يباين أحدهما الآخر إلا بالجهة وذلك أن الموجودات كلها الواجب والممكن إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره فالقائمات بأنفسها لا تتميز بعضها عن بعض إلا بالجهة وأما القائم بغيره فإنه تبع في الوجود للقائم بنفسه يوضح ذلك أن القائم بغيره هو محتاج إلى محل ومكان وأيضًا فقد يقال الأعراض نوعان أحدهما مالا تشترط له الحياة وهو قسمان أحدهما الأكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فهذه لا تتميز وتتباين إلا بالجهة والحيز وإن كان تبعًا للمحل فلا يفرق بين الحركة والسكون ولا بين الاجتماع والافتراق إلا بالحيز والجهة فإن الحركة انتقال في حيز بعد حيز والسكون دوام في حيز واحد(3/666)
والاجتماع يكون بتلاقي الحيزين والافتراق يكون بتباينهما والثاني الطعوم والألوان والروايح وهذه هي الصفات فهذه الأمور لا تدرك بشيء واحد بل تتميز بحواس مختلفة فالذي يتميز به هذا غير الذي يتميز به هذا فحقائقها لا تظهر إلا بإدراكها وإدراكها من أجناس في أحياز متباينة فامتياز الأحياز التي لإدراكاتها تقوم مقام امتياز أحيازها والقسم الثاني ما تشترط له الحياة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فهذه أيضًا متباينة قد يحصل بين آثارها من تباين المحال ما يقوم مقام تباين محالها وقد يقال هذه الأعراض كلها مفروضة الإضافة إلى الغير وذلك الغيرالذي هي مضافة إليه متباين بجهته فهي متباينة بالإضافة إلى ما تتباين جهته وظهر أنه ليس في الموجودات ما يباين غيره بمجرد حقيقته المجردة عن الجهة(3/667)
من كل وجه بل لابد من شيء يظهر تحصل به الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لا نسلم أنه إذا قيل هذا مباين لهذا وممتاز عنه أو منفرد عنه فإنه لا يراد به إلا أن حقيقته ليست مثل حقيقته بل المراد بذلك أن هذا في ناحية عن هذا وأنه منفصل عنه بحيث يكون حيزه غير حيزه هذا هو المعروف من هذا وأما الاختلاف في الحقيقة فمعناه عدم المماثلة فإن الحقائق إما مختلفة وإما متماثلة ومن المعلوم أنه إذا قيل إن الله مباين للعالم أو ممتاز عنه ومنفرد عنه لم يرد به أن الله ليس مثل العالم وهذا كما قيل لابن مبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذه المباينة لا يراد بها عدم المماثلة بل يراد بها أنه منفصل عنه وتصور ذلك بديهي ظاهر وما يعلم في المواضع التي يستعمل فيها لفظ مباينة الشيء لغيره وامتيازه عنه وانفراده عنه إلا ويكون ذلك مع انفصال أحدهما عن الآخر حتى إذا ضمن ذلك المفاضلة وعدم المماثلة مثل أن يقال هذا متميز عن هذا بكذا وكذا وهذا منفرد عن أقرانه بكذا وكذا ففي هذه المواضع كلها يوجد معنى(3/668)
الانفصال والتمييز بالحيز والجهة ودليل ذلك أنه لا يعرف أن يقال اللون منفرد عن الطعم ومباين له مع أن أحدهما ليس مثل الآخر فعلم أن المخالفة التي مضمونها عدم المماثلة فهي متضمنة الانفصال الوجه الرابع والثلاثون أن يقال المختلفان في الحقيقة هما اللذان لا يتماثلان فالمماثلة ضد المخالفة والاختلاف ضد التماثل وعدم التماثل لابد أن يستلزم صفات حقيقية ثبوتية اختلفا بها وإلا فالعدم المحض لا يوجب امتياز أحدهما عن الآخر فإذن التباين بمعنى الاختلاف في الحقيقة يقتضي أمورًا ثبوتية خالف بهما أحدهما الآخر مخالفة تنفي تماثله وإذا كان المراد بالمباينة ذلك لم يجز العلم بها إلا بعد العلم بأن الشيئين ليسا متماثلين وذلك لا يكون إلا بعد العلم بأمور ثبوتية تنفي مماثلتهما كما يعلم الطعم واللون والريح فيعلم أنها ليست متماثلة والعلم بأن الخالق مباين للمخلوق وأنه ممتاز عنه وأنه منفرد عنه يحصل قيل العلم بان الله لا مثيل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد(3/669)
يحصل العلم بأنه ليس مماثلاً للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم ممتاز عنه منفرد عنه فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم دون هذه علم أنها أيضًا ثابتة وإن كانت تلك أيضًا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون له المباينة بالصفة والكيفية وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا بما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن ها هنا يتبين لنا الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحياز وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين(3/670)
المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما يتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقَدْر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لاسيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله غني عن العالمين كما تقدم ومن هاهنا جعله كثير من الجهمية حالاً في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل هو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته على(3/671)
العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء قد زعمواأنهم نزهوه عن الحيز والجهة فلا يكون مفتقرًا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً {91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95} [مريم 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كلن هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش إنهم جعلوه معدومًا ووصفوه بصفة المعدوم(3/672)
يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولايجب أن يكون موجودًا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذه حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين الوجه السادس والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة الني تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية وإن كانت مباينته(3/673)
لهذين أعظم ممايعلم من مباينة المخلوق للمخلوق إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك الوجه السابع والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهي ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر وهذا فيه رفع الاتحاد وإثبات مخالفة وكذلك اختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة وهو إن كان قد قال إن المباينة يُعنى بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة وقد ذكر أنها في المعنى الأول أظهر فإنها تستلزم الاختلاف في الحقيقة حيث كانت فإن الشيئين المتماثلين لايتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لابد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وان يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر فإن زمان هذا غير زمان الآخر ولهذا يقال المباينة تكون(3/674)
بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة والمقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه فيكون مباينًا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهروه وبطونه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهومباين لها بصفاته سبحانه وتعالى يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيهًا لله عن مماثلة الخلق من نفاتها لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الأعدام متماثلة وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية فكل من كان أعظم إثباتًا لما توجبه أسماء الله وصفاته كان رفعه المماثلة عن الله أعظم وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهة هو الذين جعلوا له أمثالاً وأندادًا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك والله أعلم(3/675)
أما قولنا إنه يمتنع أن يكون غير متناه من جميع الجوانب فيدل عليه وجوه الأول أن وجود بُعدٍ لا نهاية له محال والدليل عليه أن فَرْضَ بُعْدٍ غير متناه يُفضي إلى المحال فوجب أن يكون محالاً وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا إذا فرضنا بعدًا غير متناه وفرضنا بعدًا آخر متناهيًا موازيًا له ثم زال الخط المتناهي من الموازة إلى المسامتة فنقول هذا يقتضي أن يحصل من الخط الأول الذي هو غير متناه نقطة هي أول نقط المسامتة وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتًا للخط الغير متناهي ثم صار مسامتًا له فكانت هذه المسامتة حادثة في(3/677)
أول أوان حدوثها لابد وأن تكون مع نقطة معينة فتكون تلك النقطة هي أول نقطة المسامتة لكن كون الخط غير متناه يمنع من ذلك لأن المسامتة مع النقطة الفوقانية تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية فإذا كان الخط غير متناه فلا نقطة فيه إلا وفوقها نقطة أخرى وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الأولى مع نقطة معينة فثبت أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير متناه نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل وهذا المحال إنما لزم من فَرْضِنَا أن ذلك الخط غير متناه فوجب أن يكون في ذلك محالاً فثبت أن القول بوجود بعد غير متناه محال الوجه الثاني وهو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير(3/678)
متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع الوجه الثالث أنه لو كان غير متناه من جميع الجوانب لوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزاء ذاته وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل وأما القسم الثاني وهو أن نقول إنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب فهو أيضًا باطل لوجهين أحدهما أن البرهان الذي ذكرناه على امتناع بعد غير(3/679)
متناه قائم سواء قيل من كل الجوانب أو من بعض الجوانب الثاني أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الذي فرض أنه متناه إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الجانب الآخر وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي غير متناهٍ والجانب الغير متناه متناهيًا وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى وهو محال وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية فنقول أن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بينا الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلاالشيء الممتد في(3/680)
الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه متناه من كل الجوانب فهذا أيضًا باطل من وجهين أحدهما أن كل ما كلن متناهيًا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكلما كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه الثاني أنه لما كان متناهيًا من جميع الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله وأيضًا فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فلو فرض حيز خال لكان قادرًا على أن يخلق فيه جسمًا وعلى(3/681)
هذا التقدير يكون هذا الجسم فوق الله تعالى وذلك عند الخصم محال فثبت أنه لو كان في جهة لم يخل الأمر عن أحد هذه الأقسام الثلاثة وثبت أن كل واحد منها باطل محال فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة محال فإن قيل ألستم تقولون إنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه شيء غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول فإن كان مرادكم ذلك فقد ارتفع(3/682)
النزاع بيننا وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني فحينئذ يتوجه عليكم ماذكرناه من الدليل ولا ينقلب ذلك علينا لأنا لا نقول إنه غير متناه بهذا التفسير حتى يلزمنا ذلك الإلزام فظهر الفرق وبالله التوفيق يقال هذه الحجة هي من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بِقَدْرِه أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه الحجج من حجج الجهمية قديمًا كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهمًا وأتباعه هم أول من أحدث في الإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا هو داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان وليس بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا له نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات فإن هذه(3/683)
العبارات جميعها وما يشبهها لا تؤثر عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الدين المعروفين ولا يروى بها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا توجد في شيء من كتب الله المنزلة من عنده بل هذه هي من أقوال الجهمية ومن الكلام الذي اتفق السلف على ذمه لما أحدثه من أحدثه فحيث ورد في كلام السلف ذم الجهمية كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك وحيث ورد عنهم ذم الكلام والمتكلمين كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك فإن ذلك لما أحدثه المبتدعون كثر ذم أئمةالدين لهم وكلامهم في ذلك كثير قد صنف فيه مصنفات حتى إن أعيان هذه العبارات وأمثالها ذكرها السلف والأئمة فيما أنكروه على الجهمية وأهل الكلام المحدث وقد قدمنا ما وصفه الإمام أحمد من مذهب جهم حيث قال وتأول القرآن على غير تأويله وكَذَّبَ بأحاديث النبي(3/684)
صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئاً وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولايوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا له غاية ولا(3/685)
منتهي ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو سمع كله هو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بصفتين مختلفتين فليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولاشمال ولاهو خفيف ولا ثقيل ولاله لون ولاله جسم وليس بمعقول وكلما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فالله بخلافه وقال أيضًا الإمام أبوسعيد عثمان بن سعيد في كتابه المعروف الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهم العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال باب الحد والعرش وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية(3/686)
ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لا شيء ليس له حد وغاية ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولاغاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد(3/687)
أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضَا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك يم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك(3/688)
قال فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة(3/689)
دليل على أنها لو لم تؤمن أن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله ثم قال وثنا أحمد بن منيع البغدادي حدثنا(3/690)
أبو معاوية عن شيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن(3/691)
حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تُعِدُّه لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء(3/692)
فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض فقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في(3/693)
السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم قد عرفوه بذلك إذاحَزَبَ الصبي شيء رفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية وقدمنا أيضًا قوله في ضمن رده على الجهمي المنكر لاستواء الله على العرش قال وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغر أو كبر وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش(3/694)
أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر من خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل عليه لله لقطع ثمرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البقاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحتمله العرش عظمًا ولا قوة ولا حملة العرش احتملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه بشدة أسرهم ولكنهم حملوه بقدرته ومشيئته وإرادته وتأييده لولا ذلك ما أطاقوا حمله(3/695)
وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقل على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة وإذا عرفت أصل هذا الكلام فجميع السلف والأئمة الذين بلغهم ذلك أنكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة ثم من كان من السلف أخبر بحال الجهمية مثل الذين كانوا يباشرونهم من السلف والأئمة الذين بالعراق وخراسان إذ(3/696)
ذاك فإنهم كانوا أخبر بحقيقة أمرهم لمجاورتهم لهم فإنهم قد يتكلمون بنقيض ما نفوه وقد يتوقف بعضهم عن إطلاق اللفظ مثل لفظ الحد فإن المشاهير بالإمامة في السنة أثبتوه كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمَّى ابن المبارك وذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب ذم الكلام بإسناد ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق في مسائله عنهما وعن غيرهما قال قلت لإسحاق بن إبراهيم ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وذكر أيضًا ما ذكره ابن أبي(3/697)
حاتم بإسناده أن هشام بن عبيد الله الرازي القاضي صاحب محمد بن الحسن حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب وقال شيخ الإسلام شرح مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق يعني تصنيفه باب أغنى عن تكريره هنا وقال شيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام وأهله في أثناء(3/698)
الطبقة الثامنة وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان هذا مع أن هؤلاء الذين يذكر شيخ الإسلام أقوالهم من أئمة الحديث والفقه والتصوف وغيرهم وقد ذكر عنهم ذم الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم على ما أحدثوه مما يخالف طريقة أهل السنة والحديث وذكر الخلال في كتاب(3/699)
السنة ما تقدم من رواية حرب عن إسحاق بن إبراهيم أن الله عزوجل وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه من ذلك قوله يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] في آيات كلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال وأنا أبوبكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن(3/700)
راهوية قال الله تبارك وتعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي السموات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علمًا وما تسقط من ورقة إلا يعلمهاولاحبة في ظلمات البر والبحر إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولايعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره ثم قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روى علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22](3/701)
قال الخلال وأنا محمد بن علي الوراق ثنا أبوبكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد ابن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا(3/702)
وقال ثنا الحسن بن صالح العطار ثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال(3/703)
كنا عند أبي عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء وقولهم ما معنى قول ابن المبارك وقوله لا أعرفه قد يكون لا أعرف حقيقة مراده لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على أن الله تنتهي إليه الأمور وأنه في السماء ونحو ذلك وقد يكون لا أدري من أين قال ذلك لكن له شواهد وقال الخلال أنا يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد(3/704)
ابن حنبل قيل له والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان قال نعم على عرشه لا يخلو شيء من علمه وقال أخبرني عبد الملك الميموني أنه سأل أبا عبد الله(3/705)
ما تقول فيمن يقول إن الله ليس على العرش قال كلامهم كله يدور على الكفر وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كمايظنه بعض الناس فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة وقد رواه الخلال في كتاب السنة أخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي(3/706)
نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله عز وجل منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو لايدرَك وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله قبل أن يكون شيء والله الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير(3/707)
وذلك أن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان يراد به حقيقة الشيء نفسه ويراد به القول الدال عليه المميز له وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف وأتبع ذلك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحد ولا غاية وهذا التفسير الصحيح للإدراك به أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته ثم قال وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] وهو عالم الغيب والشهادة ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء وقال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى(3/708)
أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث قال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولاكيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولانرد على الله قوله ولايوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء(3/709)
قال وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن(3/710)
بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كَنَفَهُ عليه هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولاحد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطالة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بضير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك(3/711)
الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولايحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي(3/712)
وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عمانهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا(3/713)
الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى وزاد علي بن عيسى عن حنبل قال وسمعت أبا عبد الله يقول ماأحد أشد حدثًا على أهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة ولا أروى لأحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه قال وسمعت أبا عبد الله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم كله ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا حتى سمعت مقالتهم وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أحد أئمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن(3/714)
أنس وهم مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة قال وقد سئل فيما(3/715)
جحدته الجهمية أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلَّت الألسُن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره وردت عظمته العقول فلم تجد مساغًا فرجعت خاسئة وهي حسيرة فإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير فإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يُعرف قدر من لم يبدأ ولايموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قَدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين(3/716)
منه الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرًا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولابصر ولما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] اعرف رحمك الله غنَاك عن تكلف صفة مالم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم يُعْرف قدرما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزجر به عن شيء من معصيته فأما الذي جحد ما وصف الرب تعمقًا وتكلفًا قد(3/717)
استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فَعَمِي عن البيِّن بالخفي بجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظر الله إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينَضرون إلى أن قال وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة(3/718)
الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدًا وقال المسلمون يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون من رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك وقال رسول الله لا تمتلئ النار حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض وقال لثابت بن قيس بن(3/719)
شماس لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة وقال فيما بلغنا إن الله ليضحك من أزلكم وقُنُوطِكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك قال(3/720)
نعم قال لا نَعْدِم من ربٍّ يَضْحكُ خيرًا في أشباه لهذا مما لم نحصه وقال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11](3/721)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقال مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي أُلقي في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولاتتجاوز ما قد حُدّ لك فإن من(3/722)
قوام الدين معرفة المعروف وإنكارالمنكر فما بَسَطَتْ عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذُكِرَ أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصِفَته من ربك ما وصف من نفسه عيبًا ولاتَكلَّفن لما وُصِفَ لك من ذلك قدرًا وما أَنْكَرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربيك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولاتصفه بلسانك اصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تَكَلُّفك معرفة مالم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها فكما أعظمت ماجحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ماوصف الواصفون مما لم يصف منها فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مَرِضَ من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم ولا يكلف صفة قدره(3/723)
ولاتسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا ولا يتكلفون صفة ما لم يسم تعمقًا لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] وهب الله لنا ولكم حكمًا وألحقنا بالصالحين(3/724)
فصل والكلام على هذه الحجة من مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع الثانية أما الأول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وأئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان وأبوسليمان الخطابي البُسْتِيّان قال أبو سليمان الخطابي في الرسالة الناصحة لما تكلم على الصفات ومما يجب أن يعلم من هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي(3/725)
قد ثبتت بصحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في حكمها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن لله مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه اللفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في الرواية كخلاف البينة للبينة إذا تعارضت البينتان سقطتا معَا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أنه يجد ربه بمكانه الأول من الإجابة في(3/726)
الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه في المذنبين من أمته كل ذلك يُشَفّعه ويُشَفِّعه بمسألتهم فيهم قلت هذا في حديث المعراج من رواية شريك ولكن غلط الخطابي في ذلك فاشتبه عليه حديث المعراج بحديث الشفاعة ولكن في حديث الشفاعة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا ذكر ذلك ثلاث مرات وهذا في الصحيح من رواية قتادة عن أنس وأما تلك اللفظة فهي في حديث المعراج من رواية شريك وليس هذا موضع الكلام في ذلك قال الخطابي ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن(3/727)
لله حدًّا وكان أعلى مااحتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك أنعرف الله بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله لاتؤخذ إلا من كتاب الله تعالى أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو سفلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تُدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية عن ابن المبارك قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف الله بجد فقال نعم بجد بالجيم دون الحاء قال وزعم بعضهم أن يقال إن له حدًّا لا كالحدود كما تقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أَحْوجنا أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فيلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب أو في السنة حتى نقول حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي(3/728)
أرأيت إن قال قائل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجئ ذكر الر أس لم يجز القول به قلت وممن أنكر الحد أبو الحارث وكان القاضي أبو يعلى ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به وكذلك لفظ الجهة وقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب(3/729)
والاستواء على العرش فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على العرش قد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث قال والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقال قائل هذا بمثلبة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن(3/730)
العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان قال وإذا ثبت استواؤه ثبت أنه على العرش وأنه في جهة فهل الاستواء من صفات الذات قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات وأنه موصوف بها في القدم وإن لم يكن هناك عرش موجود لتحقق وجود ذلك منه في(3/731)
الثاني لأنهم قد قالوا خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل ولا مخلوق ولا مرزوق لتحقق الفعل من جهته وقد تقول العرب سيف قطوع وخبز مشبع وماء مروٍ وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب وبالألوهية ولا مألوه وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار فإن قيل فقد قال أحمد في رواية حنبل هو على العرش كيف شاء وكما شاء وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة قيل راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه قلت وفي هذا نزاع بين الأصحاب وغيرهم ليس هذا موضعه(3/732)
قال القاضي وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي فقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال القاضي ورأيت بخط أبي إسحاق أنا أبوبكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر عن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين(3/733)
قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد له حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز ولهذا سمي البواب حدادًا لأنه يمنع غيره عن الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص(3/734)
صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا فهو رجوع منه إلى القول بإثبات الحد لكن اختلف في ذلك كلامه فقال هنا ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام والميمنة والميسرة وكان الفرق(3/735)
بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ماحاذاه من الذات وأنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في الميمنة والميسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي ذكره في تفسير كلام أحمد ليس بصواب بل كلام أحمد كما قال أولاً حيث نفاه نفي تحديد الْحَادِّ له وعلمه بحده وحيث أثبته أثبته في نفسه ولفظ الحد يقال على حقيقة المحدود صفة أو قدرًا أو مجموعهما ويقال على العلم والقول الدال على المحدود(3/736)
وأما ما ذكره القاضي من إثبات الحد من نهاية العرش فقط فهذا قد اختلف فيه كلامه وهو قول طائفة من أهل السنة والجمهور على خلافه وهو الصواب والمقصود أن نفاة الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون إنه على العرش يقولون لا نسلم أنه إذا كان هو بنفسه فوق العرش أنه يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم أن يوصف بالانقسام وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره فإنهم يقولون هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق(3/737)
العرش ما هو جسم أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له فلا يكون متناهيًا محدودًا مقسومًا إلا مايكون جسمًا ولا يكون جسمًا إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك قالوا لمنازعيهم من النفاة فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على أنه ليس بجسم وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخيرالبرية أنه فوق العرش كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيًا أو ذاهبًا في الجهات إلى غير غاية وإما أن يكون منقسمًا أو جوهرًا فردًا كل ذلك باطل لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسمًا أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فلا يلزم شيء من هذه اللوازم(3/738)
وقالوا هذه اللوازم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال وباب الربوبية لايجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة الكتاب ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحاثين وإماأن يكون أحدهما بحيث الآخر وإماأن يكون مباينًا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا فنفوا الطريقين جميعًا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسمًا أو لو كان موصوفًا بالحيز والمقدار(3/739)
وقالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو من حكم الحس والوهم فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين وأنهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرًا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضًا منهم وأعظم مخالفة لمايعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضًا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين(3/740)
وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذين احتجوا به على أن الله تعالى على العرش وما احتجوا به في ذلك من الآيات التي يحتج بها على إثبات الحد فقال باب ذكرالاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقد قال عز وجل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وهذه الآيات هي التي استشهد بها(3/741)
الإمام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي(3/742)
وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتهاعلى أن الله متحيز في جهة وأن له حدًا وقد تقدم تمام قول الأشعري قال أيضًا وقد قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على(3/743)
أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ(3/744)
[آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء وقال ومن دعا المسلمين جميعًا إذا هو رَغِبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يا من احتجب بالعرش أو بسبع سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم تستلزم أن يكون جسمًا متحيزًا(3/745)
قال وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن الشبهة وإدخال الشك على من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك أجناسًا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون(3/746)
غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه وتعالى قد يحتجب عن شيء دون شيء وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسمًا وهوقد احتج بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش قال وقال الله عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48](3/747)
قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا جل عمايقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل(3/748)
فاحتجاجه بقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ [الأنعام 62] وقوله وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ [الكهف 48] وقوله نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه فإذًا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما يكون متناهيًا من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضًا بأن يقال ولو كان موجودًا أو قائمًا بنفسه كان متناهيًا أو غير متناهٍ فإن قلت نحن نقول هو موجود في غيرجهة ولا حيز أصلاً وهوغير متناه في ذاته بمعنى أن ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد(3/749)
يقال لك إذا عقل موجود لا نهاية له بهذا التفسير فلأن يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مساحة لانهاية لها فإنه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفِطرَ تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لاداخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لاتقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش وإذا قال قائل هذه الفوقية أوهذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنه لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الإقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الإقرار بأنه ليس ذا مساحة مقدار لاينافي الإقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما(3/750)
يناسب ذاته ومنافاة الإقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيًا وأما المقام الثاني فكلام من لاينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظًا أو معنى أو لايتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين وحيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعل كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضًا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك أو عزموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث وهوأن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيًا من جميع الجوانب كانت(3/751)
حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل مل كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانًا واضحًا ونحن نحيل على ماذكرناه هناك كما أحال هو عليه وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيًا من جميع(3/752)
الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحيازٌ خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرًا على أن يخلق فيها جسمًا فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرًا وجوديًّا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادهما في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرًا وجوديًّا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضًا يدل على أنه ليس فوق(3/753)
الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئًا وكل موجود فإنه يسمى شيئًا فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزًا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهٍ أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثلَهُ عالماً آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعروفة(3/754)
التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والإيجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازٌ خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلاً من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن لله شريكًا من خلقه أو أن له ولدًا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة وأما قوله هو قادرعلى خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أنة يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول و(3/755)
الآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعًا ظهر فيه امتناع أن يكون قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدًا وإن كانوا متحيزين فلا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأماكنها ولهذا لما أراد جهم أن يَطْرُد دليله في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار(3/756)
ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإن كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيًا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم إبطاله لذلك وأيضًا فيقال له أنت لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلاً وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الحياز أشد فوقية فهذا تمسك بإطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضًا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلاً عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع إثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد(3/757)
أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالاً آخر لم تثبته أنت وأيضًا فتلك الأحياز ليست شيئًا أصلاً لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابًا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحًا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الإلزامات المختلفة المآخذ وأيضًا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لاسيما وعندك أن النقص على الله تعالى لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالإجماع لاسيما إن احتج(3/758)
بظاهر قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لاسيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر(3/759)
والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذاالمعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئًا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلاً على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عند المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا إنه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدًا غير متناهٍ وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول إنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن(3/760)
الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكرقول هشام إنه جسم أن له مقدارًا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسَّة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية(3/761)
إنه يدرك بالحواس قال وحُكِي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونُا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضًا أو عميقًا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لايرى إلا اللون قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون(3/762)
ما سواه قال واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه مجسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهن مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه(3/763)
وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تَحُل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناهٍ وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولاً أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضًا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني(3/764)
أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه أنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لانهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم إنه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول إنه فوق العرش وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لانهاية له أن هاتين الفرقتين أنكرتا القول إنه في مكان دون مكان(3/765)
فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس إن لم يبطل قول هؤلاء بالحجة وإلا خصموه فإنه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على إطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهٍ فلزم من ذلك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالإحالة كانت بفرض مسامتته له لا بفرض وجود غير المتناهي لِمَ قلت أن الأمر ليس كذلك وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول إنه غير(3/766)
متناه وإنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلابد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهٍ فإن أقمت دليلاً على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق الباري لأنه إذا وجب عندك تناهي الأبعاد وإن لم تكن أجسامًا وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما ألزمتهم إياه في القسم الثالث وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الإجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولايلزم من الإجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين وأيضًا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والإجماع من أعظم الأدلة إذ صحة الإجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى(3/767)
بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الإجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أداة فيها هذه المقدمة التي قد لاتخطر ببال أكثرهم وقد يقول هؤلاء هَبْ إنْ قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق الباري وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزائه وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فإن أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن(3/768)
طائفتين ممن يقول إنه ليس مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفي الجسم وأيضًا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقل الأشعري عن زهير وأبي معاذ وأيضًا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحًا لا مزيد عليه حتى يجعلوه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجوده عين وجوده وهذا وإن كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلابد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل(3/769)
قولهم أقرب إلى العقل من قوله إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلاً أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم إنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتنجس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من المثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندًّا وعدلاً ومثلاً وسميًّا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولٌ تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بإجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلاً فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبَا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدًا قاله ونقل الأشعري(3/770)
يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش الوجه الثالث أن يقال فَرْضُ بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالاً فإن كان محالاً بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذاكان متناهيًا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلاً عن أن يكون فوق الباري بعد وإذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثًا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على فساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكناً ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وإن كنا لم نعلم به قائلاً فلم تذكر دليلاً على إبطاله ولا استدللت على(3/771)
إبطاله بنص أو إجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع أن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك أما الوجه الأول وهو امتناع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه مع ما تقدم فيه إذا كان متناهيًا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتٍ من الجهة التي لا تتناهى وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطًا لهم فبطل هذا الوجه هنا بطلاناً ظاهرًا وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد(3/772)
والفرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم وأما الوجه الثاني وهو قولك إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إماأن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فإنها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذٍ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأماما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولايجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز(3/773)
الذي بقدره وغير ذلك وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفية فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبًا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل وأيضًا فإن لزم أن يحوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيًا وهوأن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذا وإن لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا وأيضًا فلم تذكر دليلاً على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وإن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على(3/774)
قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك وقولك وأما القسم الثاني وهوالقول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختصة بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب(3/775)
الآخرة في الحقيقة والماهية فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشؤها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضًا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدار صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضًا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافًا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وإن كانت مشتركة في أصل(3/776)
المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجني المتمايزة بالفصول وأيضًا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قيل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل الوجه الخامس أنه أورد اعتراضًا من جهة المنازع بقوله فإن قيل ألستم تقولون إنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على(3/777)
وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولاغاية ولا نهاية أن يكون موجودًا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزل فإنه لا ينتهي ذلك إلى حد إلا ويكون بعده شيء كما أن وجود الباري لا يقدر له حد ووقت إلا وهو موجود قبله وكذلك إذا(3/778)
قدر أجسام وأبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى منها شيء أو يقدر فيها مقطع إلا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع إلا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن منعدم التناهي من العلل وغيرها لتبين فساده هو من هذا الباب فالغرض أن الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدارًا ممتنعٌ وإما تقديرًا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فأما وصف الشيء بأنه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهٍ لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها(3/779)
ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فإن الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولايقال أيضًا للعدم المحض إنه جاهل أو عاجز أويثبت له أنه لا عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيًا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت فَفَرْقٌ بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أوفي الخارج ونفي الصفة التي لا يكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فإذا قيل المعدوم لا يتناهى أو المعدوم غير متناهٍ كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أوغير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة فإذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهٍ بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل إن الله ليس بأصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولايقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء(3/780)
الحسنى له ونفيها فإن أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وإن كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولابعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف لشيء من ذلك لا نفيًا ولا إثباتًا فإن هذا حال المعدوم المحض وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول إن الله غير متناهٍ في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى(3/781)
والأزل الذي لا يتناهى وهو عَمْرُ الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعَمْرُ الله كما حلف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كون غير متناهٍ وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد وهذا يفهم منه أن ذاته غير متناهية فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا الثاني صفة المعدوم فالحاصل أنهم في هذا المقام إماأن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودًا غير متناه في نفسه فإن قالوا إن وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من(3/782)
يقول إن ذات الله لا نهاية لها وإن قالوا إن ذاته لايجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهية لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية إنهم لما قالوا إن الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود لا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائمًا مترددون بين الإشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد إلا الله ولا يمكن أحد أن يعبد إلا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم(3/783)
إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الإشراك ولهذا ذكر علماء الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي إدراك نهايته ونفي الإحاطة به كما قال تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله(3/784)
أكبر وكذلك قوله وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] سواء كان الضمير عائدًا على الله أو على ما بين أيديهم فإن ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره(3/785)
وقد قال سبحانه وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} [الزمر 67] فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوي السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن(3/786)
مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضًا في الآية الأخرى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [الأنعام 91] فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فإنهم لايقدرون الله حق(3/787)
قدره فلا يقبض عندهم أرضًا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فإن الكلام إنما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين وقد قال في الآية الأخرى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] وقال إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {6} [الانشقاق 6] وقال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ {53} [الشورى 53] وإذا كان منتهى المخلوقات غليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهي إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهي إليه أصلاً فإنه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي(3/788)
إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فإنه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لاسيما الاتحادية منهم من يقول إنه في كل مكان كما لا يتصور عندهم أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف إطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلاً إلا إذا كان معدومًا أو كان ذاهبًا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فإن الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع لتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قاله في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية من وجه دون وجه(3/789)
فإن كانت متناهية فكل متناه يستدعي مخصصًا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وإن لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فإن الصفة لابد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها وأيضًا فإن كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناه لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج له على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فإنه لابد من الاعتراف بموجود له خاصية يتميز بها عما سواه إذ وجُودٌ ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فإنها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبًا بذاته أو كان ممكنًا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر(3/790)
فصل قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أولا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكما القول بأنه تعالى حاصل في الجهة محالاً وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام من كونه حاصلاً في الحيز ممتدًا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه حسمًا وإذا ثبت التساوي مطلقًا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن(3/791)
لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئًا موجوداً فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلاً وأبدًا التزموا قديمًا آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الجسام ل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا الرابع هو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها(3/792)
متساوية يكون حكمها واحدًا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين فإن قالوا لما لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم الثاني لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أموراً موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك الثالث هو أنه لو جاز أن تختص ذات الإله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في(3/793)
العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضًا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب إثبات وجوبه وقدمه الرابع أنه لو حصل في حيز معين مع كونه لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال(3/794)
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلاً فيه فنقول إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل يتقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لايكون أزليًّا وإذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عالياً على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجباً وإما جائزاً وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء(3/795)
منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلاً عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يجوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعني بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعني بها ما لا يقتضي موجوداً غيره بل يكون إما أمراً عدميًّا وإما نسبيًّا وإضافيًّا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجباً ومنه ما يكون جائزاً والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه الأول أن يقال ما تعني بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعني بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئاً موجوداً(3/796)
منفصلاً عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمراً موجوداً منفصلاً عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الإحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وإن أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه أما قوله لايجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهوعدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فإن حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يجب أن يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل(3/797)
وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك الجهة لكانت مخالفة لغيرها فتكون موجودًا فيكون مع الله قديم آخر يقال له ثبوت صفة قديمة ليس ممتنعًا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر الحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل موجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئًا منفصلاً عنه بل القديم شيء يكون داخلاً في مسماه ليس خارجًا عنه وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى(3/798)
دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذاك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعانٍ أُخَر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أو له حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسمًا أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف أو حدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك وقوله في الوجه الرابع الأحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز(3/799)
المتساوية التي تدعي فيها التساوي هي ماكانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الحيز الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط المفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم العدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز(3/800)
أمرًا موجودًا منفصلاً عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل هو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليًّا فإن هذا يسلم على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليًّا بل كان الله قبل أن يكون مستويًا على العرش سواء قيل أن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره وأما قوله إذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءًا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن(3/801)
خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ممتنعاً فإن تجدد النسب والإضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بأن هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وأن جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزًا بعد أن لم يكن متحيزًا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزًا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إماأمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءاً عن هذا ثم صار موصوفًا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسمًا وهذا عند قوم ممتنع وعند قوم قد(3/802)
يقلب الله الأعراض أجسامًا وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرًا موجودًا منفصلاً عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه فإن الناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حدوث الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئُهُ وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة(3/803)
العقلية ما يحيل ذلك الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب ويجزم بذلك بناءً على أن نقس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفًا به إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرًا(3/804)
موجودًا منفصلاً عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة إذ هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود موجود غيره كما أنه لما كان في الأزل لا في زمان لا في تقدير الزمان لم يقتضِ ذلك وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعًا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود نفسه وقد يقولون عن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود(3/805)
بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون إن الحيز موجود وقد تقدم(3/806)
الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله إن الأحياز وجودية وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا فهم يجيبون بجوابين أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصًّا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصًّا بغيره(3/807)
الثاني أنهم إذا قالوا بأن بعض الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لا ينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليست محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه الانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضًا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه وأما السؤال الذي أوردهم من جهتهم لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى وجوابه بأنه قبل خلق العالم(3/808)
ما كان إلا الخلاء الصرف وبأنه لو كان الفوقاني متميزًا عن التحتاني لكانت وجودية فإنهم يقولون كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا العدم المحض والخلاء الصرف فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم وكذلك قوله في الثالث لو جاز اختصاص ذات الإله ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية يلزم استغناؤها عن الصانع فيقولون هذا بناء على أن الأحياز أمور وجودية وليس الأمر كذلك بل هي أمور عدمية(3/809)
وقوله في الخامس أنه يكون كالمفلوج الذي لا يمكنه الحركة وهو نقص وهو على الله محال فيقال أنت تقول إن نفي النقص عن الله لا يعلم بالعقل وأنت أيضًا تقول لا يجوز عليه الحركة وقد تقدم الكلام على هذا في آخر حجة من نفي الجسم وهو برهان الحركة وبينا أن ما وصف به قول منازعيه يلزمه مثله أو أكثر الوجه الرابع قول من لا يوجب حصوله في حيز معين خارج عنه وجوديًّا كان أو عدميًّا بل ذلك عنده على سبيل الجواز مطلقاً وهو قول كل من يقول إنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن مستويًا عليه ويقول إنه استوى إلى السماء وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي إلى سائر ما جاءت به النصوص من ذلك وعلى قول هؤلاء لا يجب حصوله في حيز معين وتكون ذاته مستلزمة للحيز المطلق لا لحيز معين وإذا حصل في حيز معين جاز أن يكون حاصلاً(3/810)
فيه ولم يجب وأما قوله إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلابجعل جاعل وتخصيص مخصص وما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له أما اختصاصه بحيز دون حيز فهو الذي يفتقر إلى جعل جاعل وأما أصل التحيز فمن لوازم ذاته كالقدرة والفعل فإن القدرة على كل شيء من لوازم ذاته وأما تخصيص بعض المقدورات فتتبع مشيئته واختياره وعلى هذا فنقول حصوله في حيز معين دون غيره بمشيئته واختياره وذلك لأن هذا هو الفعل والتصرف والحركة كما يقولون إنه ما زال متكلمًا إذا شاء كذلك يقولون ما زال فاعلاً بنفسه إذا شاء وعلى هذا فحصول ذاته في الأزل يكون أزليًّا لأنه من لوازم ذاته لكن تعيين حيز دون حيز هو تابع لمشيئته واختياره وذلك أن الأحياز ليست أمورًا(3/811)
وجودية بل هي أمور عدمية فليس الأمر إلا مجرد كونه يفعل بنفسه ويتصرف وتقدم الفاعل على هذا الفعل بقدم الذات كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم لا يوجب ذلك تقدمًا بالزمان وعلى هذا فيقال الوجه الخامس قولك لو حصل في شيء من الأحياز والجهات لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع الوجوب فيقال أتريد بالوجوب وجوب الحيز المطلق أو وجوب حيز معين فإن أردت الأول فالوجوه الخمسة المذكورة لا تنفي ذلك وإن أردت الثاني فقوله إن هذا يلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا يقال هذا ممنوع قوله ما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه وما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له التقدم في مثل هذا(3/812)
لا يوجب أن يكون بزمان يفصل بين الفعل والفاعل كما تقول حركت يدي فتحرك ثوبي أو تحرك خاتمي ونحو ذلك فحركة اليد متقدمة على حركة الخاتم والكم ومع هذا فزمانهما واحد فكذلك إذا كان هذا التخصيص جائزًا وهو بمشيئته واختياره لم يمنع ذلك أن يكون متقدمًا على فعله تقدمًا بغير الزمان وهذا القدر وإن كان الفلاسفة يقولونه في تقدمه على العالم فهؤلاء لم يقولوه في ذلك بل قالوه في تقدمه على هذا الفعل القائم بنفسه والتحيز المعين وهم يقولون ذلك في سائر ما يضاف إليه من أعيان الأقوال وأعيان الأفعال القائمة بنفسه التي يمكن أن يقول ويفعل غيرها مما يكون بمشيئته واختياره وهذا قول طوائف كثيرة من منازعيه معروف عنهم من أهل الكلام وأهل الحديث والصوفية وغيرهم(3/813)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الرابع
الاستواء - العلو - النزول - الحيز - الجهة
الجسم - الرؤية
حققه
د. محمد العبد العزيز اللاحم(4/1)
فصل قال الرازي البرهان الخامس هو أن الأرض كرة فإذا(4/3)
كان كذلك امتنع كونه تعالى في الحيز والجهة بيان الأول أنه إذا حصل خسوف قمري فإذا سألنا سكان أقصى المشرق عن ابتدائه قالوا إنه حصل في أول الليل وإذا سألنا سكان أقصى المغرب قالوا إنه حصل في آخر الليل فعلمنا أن أول الليل في أقصى المشرق هو بعينه آخر الليل في أقصى المغرب وذلك يوجب كون الأرض كرة وإنما قلنا إن الأرض لما كانت كرة امتنع كون الخالق في شيء من الأحياز وذلك أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان أهل المغرب وعلى العكس فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فثبت أنه يمتنع كونه مختصًّا بالجهة والكلام على هذا أن يقال هذا الذي ذكره مبني على أن الأرض مستديرة والأفلاك مستديرة وهذا القدر قد ينازعه فيه(4/4)
بعض الناس فإن من أهل الكلام من نازعه فيه ودفع كون الأفلاك مستديرة كما فعل بعض من رد عليهم في كتاب الدقائق وغيرهم وكذلك قد يدفع ذلك بعض من ينتسب إلى العلم ولربما حصل هذا من أقوال المنجمين التي تخالف الشرع وكذلك المتكلم قد ينازع في هذا بطرق جدلية وكذا المتفقه قد ينازع في هذا زعماً منه أن هذا مخالف للشريعة وليس مع واحد منها دليل شرعي ولا عقلي يخالف ذلك ولا يمنع كون الأفلاك مستديرة ولا ينقل عن أحد من أئمة الإسلام وعلمائه النزاع في ذلك بل قد ذكر غير واحد من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي الحسيين ابن(4/5)
المنادي أحد العلماء المشاهير ذوي التصانيف الكثيرة من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد ومثل أبي محمد بن حزم ومثل أبي الفرج ابن الجوزي إجماع المسلمين على أن الأفلاك مستديرة وأبو(4/6)
الحسين من أعظم الناس إطلاعاً وكذلك هؤلاء وإذا ذكر هو أو غيره إجماع علماء المسلمين على أن الأفلاك مستديرة كان من نازع بعد هذا الإجماع من متكلم ومتفقه وغيرهما مسبوقاً بالإجماع وما علمت منازعاً في ذلك إلا نقل الإجماع الذي ذكره أبو الحسين بن المنادي وإن كان قد نقل عن بعض السلف نزاع في حركة الأفلاك لكن ما علمت عنهم نزاعاً في استدارتها(4/7)
وقد ذكر العلماء دلالة الكتاب والسنة على أن الأفلاك مستديرة من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها وقد كتبنا في ذلك ما تيسر في غير هذا الموضع مثل قوله تعالى في موضعين من كتابه وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {33} [الأنبياء 33] قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل والفلك في اللغة هو الشيء المستدير ومنه يقال تفلك ثدي الجارية إذا استدار ومنه فلكة المغزل وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن والأعلى لا يكون الأوسط إلا إذا كان(4/8)
الشكل مستديراً بخلاف المربع والمثلث ونحوهما من الأشكال فإنه لا يكون أعلاه أوسطه وفي حديث الأطيط الذي رواه أبو داود وغيره عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال(4/9)
أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال وهلكت الأنعام فاستسقِ الله لنا فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما تقول لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب قال أبو داود وقال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وساق الحديث ولفظ عثمان بن سعيد عن ابن بشار إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وأنه ليئط به(4/10)
أطيط الرحل بالراكب(4/11)
وقد قال سبحانه وتعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة 255] وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش مثل تلك الحلقة في الفلاة والعرش(4/14)
لا يقدر أحد قدره إلا الله وقد روى أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني حرب حدثنا محمد بن مهدي بن مالك ثنا إسماعيل بن(4/15)
عبد الكريم ثنا عبد الصمد بن معقل قال سمعت وهباً فذكر من عظمة الله تعالى قال إن السموات السبع والأرضين السبع والبحار لفي الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن قدميه على الكرسي(4/16)
وقال الخلال سألت إبراهيم الحربي عن حديث وهب ابن منبه إن السموات والأرض لفي الهيكل فقال الهيكل هو الشيء العظيم وأنت إذا دخلت البيعة ورأيت الشيء العظيم يعني عندهم يسمونه الهيكل وإن الهيكل لفي الكرسي وإن الكرسي لفي العرش قال والعرش أعظم من ذلك وروى عثمان بن سعيد حدثنا الحمّاني حدثنا الحكم ابن ظهير عن عاصم عن زر عن عبد الله هو ابن(4/17)
مسعود قال ما السموات والأرض في الكرسي إلا مثل حلقة بأرض فلاة وقال ثنا يحيى الحمّاني ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة في أرض فلاة(4/18)
وقال ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو ابن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ومن الكرسي إلى الماء خمسمائة عام والعرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه(4/19)
وقال ثنا يحيى الحماني وأبو بكر قالا حدثنا وكيع(4/20)
عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله(4/21)
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً والأبنية هي الخيام والفساطيط وفيها استدارة وذكر أنه جعل الأرض مهاداً وأنه بسطها وأخبر أنه جعل الجبال فيها أوتاداً وروى الخلال في كتاب السنة قال(4/22)
أعطاني محمد بن عوف هذا الحديث وقال اروه عني فإنه بسماعي حدثنا أبو المغيرة قال ثنا أبو مهدي قال ثنا أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأرض على ما هي قال(4/23)
الأرضون على الماء وروى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بني آدم فينهاه ربه ولولا ذلك لأغرقهم وهذا كله مما يبين أن الماء(4/24)
محيط بالأرض وأن من شأنه العلو عليها ولكن الله مهَّد الأرض وفرشها وبسطها في الماء وأوتدها بالجبال الراسيات التي ترسيها أن تميد وتضطرب فإن السفينة إذا كانت في البحر لابد لها من شيء يثقلها ويسكنها وإلا مادت واضطربت وليس هذا موضع بسط ذلك وشرحه وما يرد عليه وإنما الغرض أن ما ذكره هذا الرازي من استدارة الفلك لا ننازعه فيه كما قد ينازعه فيه بعض الجهال وكما ينقل هو فإنه تارة يدخل مع المنجمين في الشرك وعبادة الكواكب وتارة ينازعهم في الأمور المعلومة من الحساب وكلاهما خروج عن الحق(4/25)
وقد احتج هنا بالحجة المشهورة عند أهل الحساب الناظرين في هيئة الأفلاك والأرض وهي صورتها وشكلها فإنهم يستدلون على أن الشمس والقمر والكواكب تطلع في مشرق الأرض قبل طلوعها في المغرب وتغرب في مشرق الأرض قبل غروبها في المغرب ولهذا يكون أوائل الليل والنهار في المشرق قبل المغرب وأما أول الشهر فيكون في المغرب فبل المشرق لأن الشهر هو بظهور الهلال والهلال يعظم ظهوره بقدر مباعدته الشمس واحتجاب الشمس ليرى نوره والشمس يتأخر غروبها في المغرب عن غروبها في المشرق فيبعد بقدر ذلك ما بينها وبين الهلال فيعظم نوره وإذا غربت ضعف بسبب البعد الشعاع الذي تحت الهلال فقوي المقتضي للرؤية وضعف المانع يستدلون على ذلك بالخسوف فإنه يمكن الناس أن يرصدوه بالليل في وقت واحد فيعلمون حدوثه عند أهل المشرق قبل حدوثه عند أهل المغرب ويعلمون قدره في أقطار الأرض وليس الاستدلال على ذلك مختصاً بخسوف القمر بل هو ممكن بكسوف الشمس أيضاًَ بل واقتران الكواكب(4/26)
وبكسوف الكواكب أيضاً بل وكل أمر يكون في الفلك في درجة واحدة فإن كل درجة من درج الفلك تطلع على الجانب الشرقي قبل الغربي فإذا كان فيها أمر غريب مثل الكسوف والخسوف والقران ونحو ذلك كان وقته من ليل أو نهار في المشرق قبل وقته بالمغرب مثل أن يكون عند هؤلاء في أوائل النهار وعند هؤلاء في أواخره أو عند هؤلاء في أوائل الليل وعند هؤلاء في أواخره كان بمنزلة خسوف القمر ويمكن الاستدلال أيضاً بغير ذلك من الأدلة المعروفة لكنه لم يستوف الحجة ويظهرها بل كلامه في ذلك كلام الشادي فإن القدر المرئي من الخسوف عند أهل المشرق لا يجب أن يكون هو القدر المرئي من الخسوف عند أهل المغرب حتى يقال إن أهل المشرق والمغرب يرون الخسوف في ساعة واحدة ويكون أول ليل هؤلاء آخر ليل هؤلاء بل قد يخسف القمر عند قوم دون قوم وقد يكون الخسوف عند قوم كلياً لجميع القمر وعند بعضهم جزئياً يخسف بعضه ولكن يشترك أهل المشرق والمغرب إذا اشتركوا فيه في طرفيه فإن الخسوف في القمر يبدأ فيه من جانبه الشرقي وفي الشمس من جانبها الغربي وإذا بدأ الخسوف في القمر من جانبه الشرقي لا يخسف(4/27)
حينئذ عند أهل المغرب وكذلك طلوع الشمس وكسوفها وقد يكون ضد ذلك إذا عرف ذلك فالكلام على هذه الحجة من مقامين كسائر الحجج المذكورة في مع كونه على العرش فإن من يقول إنه فوق العرش ويقول هو مع ذلك ليس بجسم ولا متحيز ولا مركب يمنع ما ذكره من الملازمة كما تقدم ذكره غير(4/28)
مرة سواء فرض أن العرش يكون تحت بعض الناس أو أن السموات تكون تحت بعض الناس أو لم يفرض من وجوه أحدها أن قوله إن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس يقال له كان الواجب إذا احتججت بما ذكرته من أمر الهيئة أن تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني(4/29)
آدم أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت وأن السماء فوق الأرض حيث كانت وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية ومتفقون على جهل من يجعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان جهات ثابتة لازمة لا تتحول وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول فأما الأول وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقة فهي جهتا العلو والسفل فالسماء أبداً في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لا يتبدل فكلما علت الجهة اتسعت وكلما سفلت ضاقت فلهذا كان الأعلى هو الأوسع وكان الأسفل(4/30)
هو الأضيق ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه فقال كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ {18} [المطففين 18] وقال كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {7} [المطففين 7] ولم يقل في سفلين كما لم يقل هناك في وسعين ليبين الضيق والحرج الذي في المكان كما بين سفوله بمقابلته بعليين وبين أيضاً سعة عليين بمقابلة سجين فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار وعلى السفول والضيق الذي للفجار وأما الجهات الست فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والإضافة إلى الحيوان وحركته ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه فإذا تحرك إلى المشرق كان المشرق أمامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شماله وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال وأركانها على الجهات الأربع فالحجر الأسود مستقبل المشرق واليماني مستقبل اليمين والغربي مستقبل الغرب والشامي مستقبل الشمالي وهو محاذٍ أرض الجزيرة(4/31)
كالرقة وحران ونحوهما ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كابي العباس بن القاص وغيره إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق فالإنسان تتبدل جهاته بتبدل حركاته مع أن الجهات في نفسها لم تختلف أصلاً ولم يصر الشرقي منها غربياً ولا الغربي شرقياً وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه وتكون الأرض تحته لأنها تحاذي(4/32)
رجليه كما أن السماء فوق الأرض في نفسها وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر أصلاً بل سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل سافلين وهو سجين لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان لكن لو قدر أن تخرق الأرض ويلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء فيكون المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء ورأسه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه فمن هنا يقال إن السماء تحته والأرض فوقه إذا كان(4/33)
مقلوباً منكوساً فيجتمع من هذا أمران أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه والثاني أن تتبدل الجهة تبدلاً إضافيًا لا حقيقياً كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الإنسان وقلبه على رأسه والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علواً وسفلاً بهذا الاعتبار التقديري الإضافي لكن هذا لا يغير الجهة الحقيقة الثابتة وبهذا الاعتبار سمي في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله فإنه قدر الإدلاء وهو ممتنع فسماه(4/34)
هبوطاً على هذا التقدير كما لو قُلبت رجلا الإنسان ورمي إلى ناحية السماء لكان قائماً على السماء وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عالياً(4/35)
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة وإن كان على مقتضى ما ذكرته تكون هذه الأمور دائماً تحت قوم كما تكون فوق آخرين وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس وهي التحتية التقديرية الإضافية وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضاً عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الإحالة إلى ما هو مثلما في هذا ودونه لم يكن في ذلك محذوراً فإن المقصود أن الله فوق السموات وهذا ثابت على كل تقدير وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي(4/36)
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وأنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطوناً منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون وليس هو لفظ الدون بقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة ولهذا لم يقل وأنت السافل ولهذا لم يجيء هذا(4/37)
الاسم الباطن في قوله وأنت الباطن فليس دونك شيء إلا مقروناً بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره وعلوه فلا يكون شيء فوقه لأن مجموع الاسمين يدلان على الإحاطة والسعة وأنه الظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء دونه ولم يقل أنت السافل ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازاً بل قال ليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ أنه يقال حسبنا الله وكفى سمع الله لمن دعا وليس وراء الله مرمى فلا مرمى وراءه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعاً وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والإضافة التقديرية وإلا ففي الحقيقة هو عالٍ أيضاً من هناك(4/38)
والأشياء كلها تحته وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفض فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضرراً عاماً وإن كان فيه ضرر فالضرر الإضافي بالنسبة إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه فإن الهبوط والتحتية أمر إضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات هذا في قدره وهذا في فعله وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في(4/39)
فعله وكلاهما من وصفه ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعاً وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الإثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص والله يهدينا الصراط(4/40)
المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وبيان ما في الحديث الصحيح من قوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أنه من المعلوم أن فوق ودون من الأسماء التي تسميها النحاة ظروف المكان لدلالة لفظها على المكان اللغوي فأما لفظ الفوق فظاهر وهو بحسب المضاف إليه فكون الشيء فوق لا ينافي أن يكون تحت غيره وانتفاء أن يكون فوقه شيء لا يمنع أن يكون تحته شيء فقوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فنفى أن يكون فوق الله شيء وذلك يقتضي أنه سبحانه وتعالى أكمل شيء ظهوراً والظهور يتضمن العلو فلهذا قال فليس فوقك شيء ولم يقل فليس أظهر منك شيء لأنه لو أراد مجرد الانكشاف والتجلي للناس لنَافَى ذلك وصفه بالبطون لأن كون الشيء ظاهراً بمعنى كونه معلوماً أو مشهوداً ينافي كونه باطناً ولكن الظهور يتضمن معنى العلو ومن شأن العالي أبداً أن يكون ظاهرا متجلياً بخلاف السافل فإن من شأنه أن يكون حفياً لأنه إذا علا تراءى للأبصار فرأته فهو سبحانه مع ظهوره المتضمن علوه فلا شيء فوقه وهو أيضاًَ باطن فلا شيء دونه ولفظ الدون ليس المراد به الدون أي الناقص ولكن لما(4/41)
كان يقال هذا دون هذا أي دونه بمعنى أنه يحصل دونه ويجعل الآخر فوقه صار يفهم من اللفظ هذا بل هذا اللفظ في كتاب الله تعالى في مواضع قال تعالى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً {89} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً {90} [الكهف 89-90] إلى قوله ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً {92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً {93} [الكهف 92-93] فقوله لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً {90} بين أن الستر إذا كان عليهم كالسقوف كان ذلك من دون الشمس فيكون بينهم وبين الشمس وتكون الشمس محجوبة مستورة عنهم بذلك الستر فتكون هي أبطن عنهم من الستر والستر أدنى غليهم وتكون الشمس من ورائه وكذلك قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً {93} الآية فهؤلاء القوم كان السدان من ورائهم إذاً في قولك هذا فوق هذا وهذا دون هذا ثلاثة أسماء اسم مضاف إليه وظرف مضاف إلى هذا الاسم واسم أول متصل بالظرف ومتعلق به ويقال هذا هو مضاف إليه إضافة معنوية كما يقال حروف الجر تضيف معاني الأسماء إلى الأفعال فإذا قيل وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً فالقوم هم المتعلقون(4/42)
بالمكان الذي هو دون السدين والسدان هما المضاف إليهما فكونهما دون السدين هو بالنسبة إلى ذي القرنين الذين وجدهما هناك فإنه وجدهم إليه أدنى وأقرب والسدان أبعد والقرب إليه أحق بالظهور والبيان والبعيد عنه أولى بالاحتجاب والاستتار هذه هي العادة فيما يقرب إلينا ويبعد عنا من الأجسام ولو جاء أحد من جهة السد لقال وجدت هؤلاء دون ذي القرنين فالشيء الذي بين اثنين يقول هذا هو دونك ويقول الآخر هذا دونك وكل منهما صادق كما لو كان بينهما حائط أو نهر أو بحر لقال هؤلاء لأهل تلك الناحية هذا دونكم وكذلك يقول الآخرون هذا دونكم كما أن كل أهل جانب يقولون عن الأخرى هم من وراء هذا الحائط ومن خلفه إذ الجهات أمور نسبية إضافية وكذلك قال تعالى وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ {62} [الرحمن 62] فهاتان دون تلك والوليان فوق هاتين وهاتان أدنى إلينا ولهذا صار في هذا اللفظ معنى القرب والبعد من وجه ومعنى الاحتجاب والاختفاء من وجه فقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء نفى أن يكون شيء دونه كما نفى أن يكون فوقه ولوقدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو البيان إذ هذا شأن الظاهر ولو كان دونه شيء لكان أكمل منه في الدنو والاحتجاب إذ هذا شأن الباطن وهذا يوافق قوله إنكم(4/43)
لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وقوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد(4/44)
وتمام هذا بالوجه الرابع وهو أن يقال إذا كان الباري فوق العالم وقلت إنه يلزم من ذلك أن يكون في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس فلِمَ قلت إن هذا ممتنع وأنت لم تذكر على امتناع ذلاك لا حجة عقلية ولا سمعية ولو قدر أن ذلك نقص فعندك ليس في الأدلة العقلية ما يحيل النقص على الله تعالى مع أنه قد علم بالعقل والشرع أن هذا ليس نقص بل هذا غاية الكمال والإحاطة كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله هذا باطل بالاتفاق بيننا وبين الخصم فيقال في الوجه الخامس مثل هذه الحجة غير مقبولة كما ذكرت ذلك في نهايتك في ترتيب الطرق الضعيفة في أصول الدين وذكرت منها الإلزام وهو الاستدلال بموافقة الخصم في صورة على وجوب موافقته على الأخرى لملازمة بينهما يذكرها(4/45)
المستدل وقلت هذا النوع من الحجة لا يصلح لإفادة اليقين وهذا ظاهر ولا لإفحام الخصم أيضاً وبيانه هو أن للخصم أن يقول إني إنما اعترفت بالحكم في محل الوفاق لعلة غير موجودة في محل النزاع فإن صحت تلك العلة بطل القياس لظهور الفارق وإن بطلت تلك العلة منعت الحكم في محل الوفاق فهذه الحجة دائرة بين منع الحكم في الأصل وبين ظهور الفارق بينه وبين الفرع وهذا بعينه وارد فيما ذكرته هنا فإن الخصم الذي وافقك على أنه ليس في جهة التحت هو يقول إن الله فوق العرش فوق السموات والعرش فوق السموات والسموات فوق الأرض ولا يوصف بالتحت لأنه يلزم من ذلك أن لا يكون فوق العرش وهذا الخصم قد لا يعلم أو لا يسلم أنه ممكن أن يوصف بعض هذه الأجسام بأنها تكون تحت شيء بوجه من الوجوه فنفى أن يكون الله تحت شيء لمنافاته ذلك فهذا الذي أبديته يقولون إنه لا يوجب أن لا يكون تحت شيء من الأشياء بوجه ولا يخلو إما أن تسلم ذلك أو تمنعه فإن منعت ذلك وقلت بل هذا يستلزم أن يكون تحت بعض(4/46)
الأشياء مع كونه فوق العرش منعك المقدمة الجدلية وقالوا لا نسلم أنه حينئذ لا يوصف بما لا ينافي علوه من التحتية الإضافية التقديرية وإن قلت إن هذا لا يوجب تحتية حقيقية ولا إضافية موجودة وإنما يوجب تحتية إضافية تقديرية فهذا لا يضر فإن الحكم المقدر معلق بشرط والحكم المعلق بشرط معدوم بعدمه كما في الحديث لو أدلى أحدكم دلوه لهبط على الله ومن المعلوم أن إدلاء شيء إلى تلك الناحية ممتنع فهبوط شيء على الله ممتنع فكون الله تحت شيء ممتنع وإنما الغرض بهذا التقدير الممتنع بيان إحاطته من جميع الجهات وهذا توكيد لكونه فوق السموات على العرش لا منافٍ لذلك وهذا الكلام مع أنه في غاية الإنصاف في المناظرة ففيه(4/47)
كمال تحقيق الحقائق على ما هي عليه وتبيين تطابق ما علم بالفطرة العقلية الضرورية وبالحساب العقلي الهندسي وما جاءت به الرسل وكمال ما بعث الله به رسله من بيان أسمائه وصفاته وهذا هو شأن الحق أن يتيقن ويتشابه ولايختلف كما يختلف كلام هذا المؤسس وأمثاله الذي هو من عند غير الله فلذلك يكون فيه اختلاف كثير ومما يوضح ذلك أن المنازع له قد علم علمًا يقيناً بالشرع والعقل أن الله فوق العرش فكل قول نافى ذلك هو باطل فنحن نزهناه عن الوصف بالتحتية لأنه ينافي ذلك ولما فيه من النقص(4/48)
فهذا الذي ذكرته من التحتية لبعض الناس فيه جوابان أحدهما أن نمنع كون ذلك تحتية والثاني أن نقول مثل هذه التحتية ليس تمتنع والجواب المركب من الجوابين أن يقال لا يخلو إما أن تكون هذه تحتية حقيقة تنافي علوه وتوجب النقص أو لا تكون فإن لم يكن ذلك بطل ما ذكرته هنا وإن كان كذلك فنحن لا نسلم أنه يمتنع أن يوصف بمثل هذه التحتية وهذا منع على تقدير إما أن تأخذ منا مسلماً أنه لا يوصف بالتحتية بحال وتحتج بذلك على أنه لا يوصف بالعلو أيضاً فهذا باطل يظهر بالوجه السادس وهو أن يقال إنك استدللت بموافقة الخصم لك على أنه لا يوصف بالتحتية على أنه لا يوصف بالفوقية فذكرت أن وصفه بالفوقية أو بغيرها يستلزم أن يكون موصوفاً بالتحتية فإن جميع ما يوصف بالفوقية من الموجودات كالسموات والكواكب وغيرها يجب أن يوصف بهذه التحتية التي ذكرتها لما ذكرته من الحجة ثم قلت والتحتية متفق على انتفائها فيجب نفي ملزومها وهو الوصف بالفوقية فيقال لك إذا كان كل ما وصف بالفوقية فلابد من وصفه بهذا المعنى كان هذا لازماً لكل ما هو فوق وعالٍ ولم يكن ذلك(4/49)
محذوراً فنحن نلتزم هذا المعنى الذي هو لازم لكل ما يوصف بالفوق وهذا خير من أنْ لا يوصف لا بفوقية ولا غيرها فإن ذلك يستلزم عدمه لأن ما لا يكون فوق شيء أصلاً ولا في شيء من جهاته الست ولا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه لا يكون إلا معدوماً فثبوت هذا المعنى الذي ذكرته عن سلم أن فيه تحتية تجامع الفوقية الحقيقية خير من سلب الفوقية وسائر المعاني السلبية المستلزمة لعدمه فإنك نزهته مما ادعيت أنه تحتية لتنفي بذلك ما يستحقه من الفوقية وذلك يستلزم عدمه بالكلية فما في قولك من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه أعظم مما ادعيته في قول مخالفك وإذا قلت له هذه حجة توجب أن مذهبه يستلزم وصفه بالتحتية وهو متفق على نفيها بيننا قال لك ولي أنا حجج أعظم من هذه توجب أن مذهبك يستلزم وصفه بالعدمية التي هي أعظم من التحتية وهي منتفية بالضرورة والاتفاق قال تعالى وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً {33} [الفرقان 33] فمخالفو الرسل ومنهم مخالفو ما جاء به الكتاب والسنة لا يأتون بقياس يردون به بعض ما جاءت به الرسل فيكون(4/50)
قياساً أقاموا به باطلاً إلا جاء الله فيما بعث به الرسل بالحق وبقياس أحسن تفسيراً وكشفاً وإيضاحاً للحق كما أن الحجج الفطرية الضرورية التي تبين أن مذهب المؤسس يستلزم أن يكون الله معدوماً هي مع أنها حق فهي أحسن بياناً وإيضاحاً وتفسيراً للمطلوب من قياسه هذا الذي بين به أن وصفه بالعلو والفوقية يستلزم وصفه بالسفول والتحتية وكذلك قول من يقول هذا يوجب أن يكون فلكاً من الأفلاك فيقال لهم أنتم قد جعلتم لكل فلك عقلاً على حدة والأفلاك بعضها فوق بعض وقلتم إن لكل فلك عقلاً ونفساً حتى ينتهي الأمر إلى العقل الفعال الذي لهذا الفلك(4/51)
القريب منا ومع هذا فلم تجعلوا هذه العقول والنفوس المختصة بفلك فلك من جنس الأفلاك بل زعمتم أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت مع جعلهم لها درجة بعد درجة فكيف ينكرون أن يكون خالق الجميع فوق الجميع ومحيطاً به من جهته المحيطة جميعها ليس هو من جنسها حتى يقال فيه ما يقال في فلك فلك وإن كان بعض متأخري أهل الحديث قد جعله بمنزلة ذلك فهذا خطأ(4/52)
لأن الله ليس كمثله شيء والمخلوقات كلها كما قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدهم فهي في(4/53)
قبضته أقل من أن تكون نسبتها إليه نسبة الفلك إلى ما فيه الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غابت الشمس قال يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه الشمس قال قلت الله ورسوله أعلم قال إنها تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار مع كون سيرها في فلكها من جنس واحد وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة علم أن تنوع النسب والإضافات لا يقدح فيما هو ثابت في نفسه لا مختلف ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره ابن حزم وغيره في حديث النزول حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا(4/54)
حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر فقالوا قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله ونصفه وثلثه بالمغرب قالوا فلو كان النزول هو النزول المعروف للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل إذ لا يزال في الأرض ليل قالوا أو لا يزال نازلا وصاعداً وهو جمع بين الضدين وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله ما يتخيلونه من نزول أحدهم وهذا عين التمثيل ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة(4/55)
كل منهم يراه مخلياً به يتجلى ويناجيه لا يرى أنه متخلياً لغيره ولا مخاطباً لغيره وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فكل من الناس يناجيه والله تعالى يقول لكل منهم ذلك ولا يشغله شأن عن شأن وذلك كما قيل لابن عباس كيف يحاسب الله تعالى الخلق في ساعة واحدة فقال كما يرزقهم(4/56)
في ساعة واحدة ومن مثل مفعولاته التي خلقها بمفعولات غيره فقد وقع تمثّل المجوس القدرية فكيف بمن مثل أفعاله بنفسه أو صفاته بفعل غيره وصفته يقال لهؤلاء أنتم تعلمون أن الشمس جسم واحد وهي متحركة حركة واحدة متناسبة لا تختلف ثم إنها بهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم وغاربة عن آخرين وقريبة من قوم وبعيدة عن آخرين فيكون عند قوم عنها ليل وعند قوم نهار وعند قوم شتاء وعند قوم صيف وعند قوم حر وعمد قوم برد فإذا كانت حركة واحدة يكون عنها ليل ونهار في وقت واحد لطائفتين وشتاء وصيف في وقت واحد لطائفتين فكيف(4/57)
يمتنع على خالق كل شيء الواحد القهار أن يكون نزوله إلى عباده ونداؤه إياهم في ثلث ليلهم وإن كان مختلفاً بالنسبة إليهم وهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج أن ينزل على هؤلاء ثم ينزل على هؤلاء بل في الوقت الواحد الذي يكون ثلثاً عند هؤلاء وفجراً عند هؤلاء يكون نزوله إلى سماء هؤلاء الدنيا وصعوده عن سماء هؤلاء الدنيا فسبحان الله الواحد القهار سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ويقال لهؤلاء كما قيل للرازي وأمثاله هل حكم الحس والخيال والعقل الذي به تعلم الجسمانيات مقبول في الربوبية(4/58)
أو مردود فإن كان مقبولاً بطل قوله كله حيث أثبت حياً عالماً قادراً لا يتحرك ولا يسكن ولا يقرب ولا يبعد ولا يفعل بنفسه فعلاً وزعمت مع ذلك أنه غير عاجز ولا مقيد ولا ممنوع وإن كان مردوداً بطل ما ضربته من الأمثال في رد حقيقة ما أخبر به عنه الصادق المصدوق الذي هو أعلم به منك ومن أمثالك(4/59)
فصل قال الرازي البرهان السادس لو كان تعالى مختصاً بشيء من الأحياز والجهات لكان مساوياً للمتحيزات وهذا محال فذلك محال بيان الملازمة أنه تعالى لو كان مختصاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً لذلك الحيز كونه بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو ولو كان كذلك لكان متحيزاً وقد بينا في الفصل المتقدم أن المتحيزات بأسرها متماثلة في تمام الماهية(4/60)
فثبت أنه تعالى لو كان متحيزاً لكان مثلا لسائر المتحيزات وإنما قلنا إن ذلك محال لأن المثلين يجب تساويهما في جميع اللوازم فلزم إما حدوث الكل وإما قدم الكل وذلك محال فإن قيل حصول الشيء في الحيز وكونه مانعاً لغيره أن يحصل بحيث هو حكم من أحكام الذات ولا يلزم من الاستواء في الأحكام واللوازم الاستواء في الماهية والجواب عنه من وجهين الأول أن المتحيز حصل له أحكام ثلاثة أحدها أنه حاصل في الحيز شاغل له(4/61)
والثاني كونه مانعاً لغيره بأن يحصل بحيث هو والثالث كونه بحال لو ضم إليه أمثاله حصل حجم كبير ومقدار عظيم ولاشك أن كلما يحصل في الحيز فقد حصل له هذه الأمور الثلاثة إلا أن الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لابد وأن يكون لها في نفسها الحجمية والمقدار وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الأحجام ثم إنا قد دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمتنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون ذاتياً وإذا كان كذلك فالمتحيزات في ذواتها متماثلة والاختلاف إنما وقع في الصفات وحينئذ يحصل التقريب المذكور والوجه الثاني أن السؤال الذي ذكرتم إن صح فحينئذ لا يمكنكم القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر(4/62)
وإن اشتركتم في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية وإذا لم يثبت كون الجواهر متماثلة فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وحينئذ لا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء وعلى هذا التقدير لا يمكنكم القطع بحدوث كل الأجسام فيقال هذه الحجة قد تقدم الكلام على موادها غير مرة والكلام عليها من المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول إنه فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم ولا هو متحيز كما ذكرنا أن هذا قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفقهاء ومن تبعهم من أهل الحديث والصوفية وغيرهم وهذا قول(4/63)
ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وغيرهم فعلى هذا(4/64)
لا يلزم من نفي كونه متحيزاً نفي كونه على العرش وقد تقدم ما في ذلك من دعوى الضرورة من الجانبين المقام الثاني من لا ينفي ذلك بل يسلم إثباته أو لا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات والكلام في هذا المقام من وجوه أحدها لا نسلم أنه لوكان مختصّاً بشيء من الأحياز والجهات لكان مساوياً للمتحيزات وما ذكره من الحجة مبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم إبطال ذلك بما لا حاجة إلى إعادته وأن القول بتماثلهما من أضعف الأقوال بل من أعظمها مخالفة للحس والعقل ولما عليه جماهير العقلاء الوجه الثاني قوله لو كان مختصّاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً للحيز كونه بحيث يمنع غيره عن أن يكون بحيث هو(4/65)
يقال قد تقدم أن الحيز قد يراد به ما يحوز الشيء وهي نهاياته وحدوده الداخلة فيه وقد يراد به الشيء الذي يكون منفصلاً عنه وهو محيط به وكلاهما أمر وجودي وليس كونه مختصّاً بالحيز بهذا المعنى أن يكون شاغلاً لحيز بل الحيز هنا إما بعضه وإما ما يلاقيه من خارج وليس في شيء من هذين كونه شاغلاً للحيز وقد يراد بالحيز ما هو تقدير المكان وهذا هو الحيز عند كثير من أهل الكلام الذين يفرقون بين الحيز والمكان والحيز على هذا أمر عدمي كما تقدم تقرير ذلك وقوله إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء وصرف وقوله قبل خلق(4/66)
العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وبينا ذلك ويكفي أن يقال هنا لا نسلم أن الحيز أمر موجود وإذا لم يكن هناك موجود فقوله شاغل لذلك الحيز ليس فيه معنى زائد على كونه موجوداً بنفسه بحيث يشار إليه وقوله لو كان مختصّاً بحيز لكان معنى كونه شاغلاً لذلك الحيز كونه بحيث يمنع غيره لا يستقيم حتى يبين أن الاختصاص بالحيز كونه هو الشغل لذلك الحيز وهو لم يفعل ذلك فإذا قيل الاختصاص بالحيز هو الاختصاص بما يحوزه من الجوانب لم يكن معناه ذلك وإذا قيل هو الاختصاص بتقدير المكان بالمتحيز فالاختصاص بالحيز بهذا المعنى يوجب كونه متحيزاً فلا حاجة إلى ما ذكره من الدليل على كونه متحيزاً وأما كونه منع غيره أن يكون بحيث هو فهذا مبني على تداخل الأجسام وليس هذا داخلاً في حقيقة المتحيز فإن المتحيز يعلم أنه متحيز قبل العلم بكونه بحيث يمنع غيره أن يكون بحيث هو الوجه الثالث قوله الذات الموصوفة بهذه الأحكام الثلاثة لا بد وأن يكون لها في نفسها الحجمية والمقدار(4/67)
وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الأحكام ثم إنا دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمنع أن يكون صفة لشيء آخر بل لابد وأن يكون هو الذات يقال هذا هو الذي أحلت عليه الاحتجاج على تماثل المتحيزات فإيرادك لذلك السؤال ثم كونك تذكر في الجواب من ما قد أحلت عليه تكرير محض بلا فائدة فالواجب إما ذكر الحجة الدالة على التماثل إما ابتداء وإما جواباً وأما ترك هذا السؤال للجواب فإنه لم يحصل به التقريب ثم يقال في الوجه الرابع قد قدمنا أن هذا المشترك وهو(4/68)
المقدار صفة المقدر قائم به لا أنه نفس المقدار وحقيقته قال تعالى وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} [الرعد 8] وقال قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً {3} [الطلاق 3] فجعل المقدار القدر للأشياء ولم يجعل ذلك أعيان الأشياء وذواتها كما قال تعالى وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} [الحجر 21] وبينا أن كل واحد من المشترك والمميز يجوز أن يكونا سواء بالنسبة إلى الذات الموصوفة بهما فليس جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة بأولى من العكس وبينا أنه وإن قيل إنه الذات فليس هو تمام الحقيقة بل الحقيقة مؤلفة مما به الاشتراك وما به الامتياز فالمتحيز وإن كان جنساً كما قيل في الجوهر بالجنس لا يجب أن يكون متماثل الأنواع فإن التماثل يحتاج إلى الاشتراك في جميع الصفات الذاتية وهو قد سلم أن المتحيزات مختلفة في الصفات فيجوز أن يكون كل جسم وإن كان التقدير ذاته(4/69)
فله صفات ذاتية مختصة به كما يقول من يقول من المتكلمين المنطقيين وغيرهم إن الجوهر جنس وتحته أنواع إضافية وتحت كل نوع أنواع إلى النوع الشامل الخاص الذي تتفق أفراده في تمام الماهية الحقيقية وقد تقدم بسط هذا فلا نعيده إذا(4/70)
لم يذكر هو الحجة على ذلك بل أحال على ما تقدم الوجه الخامس قوله إن صح هذا السؤال لم يمكن القطع بتماثل الجواهر لاحتمال أن يقال الجواهر وإن اشتركت في الحصول في الحيز إلا أن هذا اشتراك في حكم من الأحكام والاشتراك في الحكم لا يقتضي الاشتراك في الماهية يقال لك هذا أولاً مبني على ثبوت الجوهر الفرد وهذا فيه من النزاع المشهور ما قد عرف وأنت قد اعترفت بأنك مع الأذكياء(4/71)
المتوقفين عن نفيه وإثباته وإذا لم يعلم وجود جوهر منفرد لم يصح هذا الكلام ثم وإن كان الجوهر الفرد موجوداً فلا ريب أنه ليس مما يحس به حتى يعلم بالحس أن الجوهر مماثل له أو غير مماثل وحينئذ فلا يمكن العلم بكون الجواهر متماثلة بل يقال هي غير متماثلة كما قيل في الأجسام وقد قدمنا تنازع الناس هل الجواهر جنس أو جنسان أو ثلاثة أو خمسة أو أكثر من ذلك مع أن الذين يقولون إنها جنس واحد لا يقولون هي متماثلة كما أن الحيوان عندهم جنس وليس متماثلاً قوله فحينئذ لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب فلا يطرد دليل حدوث الأجسام في تلك الأشياء يقال لا ريب أن المسلك الذي سلكته في حدوث العالم بنيته على هذا الأصل ولكن تأمل ما يذكره من الأدلة في هذه المسألة ونحوها تبين له أن الذي يذكره من(4/72)
جانب المنازعين أقوى من الذي يذكره من جانب المسلمين وعلم بالاضطرار أن اعتقاد حدوث العالم على هذا الدليل ونحوه في غاية الفساد وهذا من أخبث الكلام الذي كان السلف يذمونه ويذمون أصحابه بل مثل هذه الحجج لا تصلح للمسائل الظنية فكيف تصلح لأصول الدين وقواعد الإيمان وأنت تعترف بهذا في مواضع لكن إنما تحتج هنا بذلك تهويلاً على من لا يعرف القضية وتوهم الناس أن هذا يقدح في قاعدة من قواعد الدين وليس الأمر كذلك وإنما تظهر له فساد ما سمعته أنت وأصحابك أدلة الدين وأصولاً له وأنت دائماً تقدح فيها فإن كانت هذه الأدلة هي أصول دين المسلمين فأنت من أعظم الناس هدماً لها في مواضع وإلا فلا يضر القدح فيها(4/73)
ثم يقال كون الجواهر متماثلة أمر غير معلوم قطعاً فإن كان دليل الحدوث مبنيّاً على تماثلها فهو مبني على مقدمة فاسدة أو غير معلومة الوجه السادس قوله لا يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب يقال له الأحياز التي هي تقدير المكان ليست أموراً وجودية وإذا لم تكن أموراً وجودية لم يجز أن يختص بعضها بمعنى يقتضي اختصاص جوهر به وحينئذ فالعلم بكون الجواهر لا يجب اختصاصها بأحياز معينة لا يحتاج أن يبني على تماثلها بل يعلم ذلك بدون العلم بتماثلها كما أن كثيرًا من أهل الكلام الذين أثبتوا جواز الحركة والسكون والاجتماع والافتراق على الجواهر من غير بناء على تماثلها مع أن هذه الجواهر المشهودة في السموات والأرض يشهد انتقالها على أحيازها وهذه كافية في إثبات العلم بالصانع لمن سلك هذه الطريق وقد تسلك هنا طرق أخرى ليس هذا موضعها الوجه السابع قوله وحينئذ لا يطرد دليل حدوث(4/74)
الأجسام في تلك الأشياء يقال له هب أن دليلك لم يطرد لكن من أين قلت إن سائر أدلة الناس تحتاج إلى ذلك ثم غاية ما في هذا أن يكون بعض الأجسام غير معلوم الحدوث بهذا الدليل فإن كان هؤلاء ممن لا يقول بأن الله جسم فيمكنه العلم بحدوث سائر الأجسام بأدلة أخرى ولو بالسمع وإن كانوا ممن يقولون بأنه جسم فلا ريب أن الأجسام عندهم ليست كلها محدثة كما أن الذوات ليست كلها محدثة والموصوفات ليست كلها محدثة لاسيما وأنت تقول عن كل من قال إنه متحيز وأنه في جهة لزمه القول بأنه جسم منقسم بل تقول لكل من قال إنه فوق العرش لزمه أن يقول بأنه جسم فإذا كان المنازعون لك القائلون بأنه على العرش يلزمهم كلهم القول بأنه جسم فكيف تحتج عليهم بأن هذا يستلزم أن لا يقطع بحدوث كل الأجسام وهذا عندك حقيقة المذهب فهل تحتج على إبطال المذهب بنفس حكاية المذهب مع ظهور القول بالنزاع فيه(4/75)
فصل قال الرازي البرهان السابع أنه تعالى لو كان مختصّاً بالجهة والحيز لكان عظيماً لأنه ليس في العقلاء من يقول إنه مختص بجهة ومع ذلك فإنه في الحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ بل كل من قال إنه مختص بالجهة والحيز قال إنه عظيم في الذات وإذا كان كذلك فنقول الجانب الذي منه يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي منه يحاذي يسار العرش أو غيره والأول باطل لأنه إذا عقل ذلك فلِمَ لا يعقل أن يقال إن يمين العرش عين يسار العرش حتى يقال العرش على عظمته مثل الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ وذلك لا يقوله عاقل والثاني باطل لأن على هذا التقدير تكون ذات الله مركبة من الأجزاء ثم تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية والأول محال لأن على هذا التقدير تكون بعض تلك الأجزاء(4/76)
المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق على الله وهو محال والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرأ عن التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات ولولا حصول الوحدات لما عقل اجتماعهما إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً ويساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه(4/77)
غير مركب وهذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم لزم القطع بأن ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح ذلك التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله وهو محال فثبت أن القول بكونه في جهة من الجهات يفضي إلى هذه المحالات فيكون القول به محالاً فيقال هذه الحجة هي حجة على نفي كونه جسماً فكان ذكره في الفصل الأول على نفي كونه جسماً أجود من ذكرها هنا ولكن ذكرها هنا لتكون حجة على من قال إنه على العرش وذكر فيها قول من يقول إنه عظيم وليس بجسم فإن النزاع في هذا مشهور لو صرح به لاحتاج إلى كلام آخر وإذا ثبت أنه ليس على العرش أمكن أن ينفي عنه الجسم فيقول لو كان جسمًا لجاز أن يكون على العرش مع أن هذا فيه نزاع بين مثبتة الجسم(4/78)
كما تقدم ذكره فإن النزاع في كونه على العرش بين مثبتة الجسم وبين نفاته أيضاً فالقائلون بأنه جسم منهم من يقول هو فوق العرش ومنهم من يقول هو في كل مكان بذاته أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وكذلك القائلون بأنه ليس بجسم منهم من يقول إنه على العرش ومنهم من يقول في كل مكان متناهٍ أو غير متناهٍ ومنهم من يقول غير داخل في العالم ولا خارجه فالأقوال أربعة في اختصاصه بما فوق العرش أنه فوق العرش وهو جسم وفوق العرش وليس بجسم وإن كان الخواص من أهل السنة لا يثبتون الجسم ولا ينفونه وأنه ليس فوق العرش وليس(4/79)
بجسم وأنه ليس فوق العرش وهو جسم وإذا ظهر ما في هذه الحجة فالكلام فيها في المقامين المتقدمين أحدهما قول من يقول إنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو يقول هوجسم وليس بمنقسم ولا مركب وقد تقدم ذكر ذلك وأما المقام الثاني فالكلام فيه من وجوه أحدها قولك والجانب الذي يحاذي يمين العرش إما أن يكون هو الجانب الذي يحاذي يساره أو غيره يقال لا نسلم الحصر بلا لا هو هو ولا هو غيره أو يقال لا نقول إنه هو ولا نقول إنه غيره فإن كثيرًا من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم(4/80)
من الكلابية والأشعرية وطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية منهم من يقول أقول هي هو ولا أقول هي غيره ولا أقول لا هي هو ولا هي غيره وتوجيه الكلام أنه إما أن يريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بمكان أو زمان أو وجود أو يريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فإن أراد بالغيرين الأول لم يسلم أن هذا الجانب هو(4/81)
ذاك الجانب ولا هو غيره إلا إذا بيَّن جواز أحدهما دون الآخر وهو يحتج بهذا الامتياز على جواز التفرق فيكون هذا دورًا باطلاً لأنه لا يثبت أنهما غيران بهذا التفسير حتى يثبت جواز انفصالهما ولا يثبت جواز انفصالهما حتى يثبت أنهما غيران وذلك دور وإن قيل في جوانب الأجسام المخلوقة إن هذا غير هذا فذلك لجواز وجود أحدهما دون الآخر والله سبحانه وتعالى صمد لا يجوز عليه التفرق والانفصال كما تقدم بيانه وأن هذا الاسم يقتضي الاجتماع والقوة ويمنع التفرق والانفصال وإذا كانت الصمدية واجبة له كان الاجتماع واجباً له والافتراق ممتنعاً على ذاته وقد تقدم في ذلك كلام موجز ومن قال الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود فإنه قد يقول إن الصفات مثل العلم والقدرة والحياة ليست كل صفة هي الأخرى ولا هي غيرها لأن محل الصفات واحد وأما الحدود فقد يقولون إن هذا الجانب فارق ذلك(4/82)
الجانب في المكان وإن كان لا يفارقه في الزمان والوجود فقد يقال إن هذا ليس بافتراق في المكان وهذه منازعات لفظية اصطلاحية وأيضاً فإن المغايرة بين الصفة والموصوف وبين البعض والكل أبعد من المغايرة بين صفة وصفة وبعض وبعض ولهذا يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو العشرة ولا غيرها وأن يد الإنسان ليست هي الإنسان ولا غيره وما يقولون إن الواحد من العشرة ليس هو الواحد الآخر ولا غيره وأن يد الإنسان ليست هي رجله لا غيرها بل هي غيرها لجواز وجود أحدهما دون الآخر بخلاف وجود الجملة دون أجزائها فإنه ممتنع وهذا فيما يجوز عليه التفرق من الأجسام المخلوقة وأما الخالق سبحانه فلا يجوز عليه التفرق فلا يقولون إن هذا الجانب منه غير هذا الجانب فيمنعون المقدمة الأولى وإن قال أريد بالغير ما هو أعم من هذا وهو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر أو ما أمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر كما قال من قال من السلف لمن سأله عن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] ألست ترى السماء قال بلى قال(4/83)
فكلها ترى قال لا قال فالله أعظم فيقال له وإذا كان يمين الرب غير يساره بهذا التفسير فقولك تكون ذات الله مركبة من الأجزاء أتعني به ورود المتركب عليها بمعنى أن مركباً ركبها كما قال فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {8} [الانفطار 8] أو أنها كانت متفرقة فتركبت أم تعني أن اليمين متميزة عن اليسار وهو التركيب في الاصطلاح الخاص كما تقدم بيانه(4/84)
فإن أراد الأول لم يلزم ذلك وهو ظاهر فإن الأجسام المخلوقة أكثرها ليس بمركب بهذا الاعتبار فكيف يجب أن يقال إن الخالق مركب بهذا الاعتبار وهذا مما لا نزاع فيه وهو يسلم أنه لا يلزم من التصريح بأنه جسم هذا التركيب إذ عدم لزومه ظاهر وأما إن أراد بالتركيب الامتياز مثل امتياز اليمين عن شماله قيل له هذا التركيب لا نسلم أنه يستلزم الأجزاء فإن هذا مبني على إثبات الجزء الذي لا ينقسم والنزاع فيه مشهور وقد قررت أن الأذكياء توقفوا في ذلك وإذا لم يثبت أن الأجسام المخلوقة فيها أجزاء بالفعل امتنع أن يجب ذلك في الخالق(4/85)
وأيضًا فالقائلون بثبوت الأجزاء يعلمون أن الجسم البسيط لم يكن مركباً من الأجزاء بمعنى أنها كونت ثم ركب منها فيكون قوله مركباً من الأجزاء امتياز شيء من شيء وغايته أن يقال امتياز بعض عن بعض كما ورد عن طائفة من السلف التكلم بلفظ البعض فقوله بعد ذلك إما أن تكون متماثلة في الماهية أو مختلفة والأول محال لأنه على هذا التقدير يكون بعض تلك الأجزاء المتماثلة متباعدة وبعضها متلاقية والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فيلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا متباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا متلاقيين يقال التماثل في الماهية لا يوجب أن يكون أحدهما عين الآخر ولا أن يساويه في الأحكام اللازمة للتعيين وما يتبع ذلك وبيان ذلك أنه إن قيل المتماثلان يجوز على عين كل منهما(4/86)
ما يجوز على عين الآخر فليس في العالم شيئان متماثلان بهذا الاعتبار فإن عامة ما يقدر من المتماثلين مثل الحبتين من الحنطة والهبائين ونحو ذلك قد علم أن عين هذا ليست عين هذا وأن الحيز الذي لهذه العين ليس عين الحيز الذي للعين الأخرى ولا الأعراض التي قامت بها هي عين تلك الأعراض وأن ما امتازت به أحدهما عن الأخرى من عينها وصفتها وحيزها لا يجوز أن يكون للأخرى حيز يكون لتلك فإن هذا يستلزم أن يصير عين هذه عين تلك وحيزها حيزها وصفتها صفتها بعينها وذلك يرفع تعددهما ويوجب اتحادهما(4/87)
ومن المعلوم أن التماثل يوجب التعدد فإن المتماثلين ليسا شيئاً واحداً بل هما عدد فإذا كان التماثل يوجب التعدد فلو اقتضى اتحاد عينهما لكان التماثل يوجب الاتحاد ويوجب التعدد وذلك يقتضي الجمع بين النقيضين فإن العدد إثبات ما زاد على الواحد والاتحاد نفي ما زاد على الواحد والجمع بين النفي والإثبات جمع بين النقيضين فعلم أن إثبات كون عين هذا المثل هو عين ذلك المثل أو كونه في حيزه وصفته ينافي التماثل وهذا ظاهر وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجسم الواحد الذي يقال له إن له أبعاضاً وأجزاءً كالجوانب والوسط إذا فرض في غاية البساطة التي توجب تماثل أبعاضه وأجزائه كالنار البسيطة والهواء البسيط والفلك البسيط وما هو أعظم بساطة من ذلك لابد أن يتميز(4/88)
جوانبه عن وسطه لابد أن يتميز جانب عن جانب ولو بالحيز والصفة وأنه مع مماثلته للجانب الآخر لا يستلزم أن يكون هذا في حيز ذاك وذاك في حيز هذا وعين صفة هذا عين صفة الآخر كما لا يستلزم أن يكون عينه عين الآخر إذ لابد من امتياز أحدهما عن الآخر بعينه وصفته وحيزه وهذا يخصه دون الآخر والامتياز الذي يوجبه التعدد لا يرفعه التماثل فلو جوزنا أن يصير لكل منهما للآخر من أعيان الصفات والأحياز لزم زوال التعدد(4/89)
وإذا كان لا بد من هذا الامتياز مع التماثل فما هو لازم للشيئين المتغايرين مع تماثلهما ومع اختلافهما من امتياز أحدهما على الآخر بعين ذاته وعين صفاته التي منها التحيز لا يجب أن يشاركه الآخر فيها لأن ذاك يرفع المغايرة وإذا كان كذلك لم يجب في كل جسم مخلوق وإن كان بسيطاً أن يكون طرفه في موضع وسطه ووسطه في موضع طرفه وما لهذا من الصفة المعينة والحيز المعين لهذا وما لهذا لهذا لاسيما إذا لم تكن تلك الأبعاض المتماثلة منفصلة ولا يتميز بعضها عن بعض بالمباينة وإنما هوشيء واحد متصل وأيضا فإذا كانت أبعاضه متماثلة فجواز تفرق المتباعدين وتباعد المتفرقين مشروط بجواز التفرق عليه وإلا فإذا قدر جسم بسيط لا يجوز تفريقه وأبعاضه متماثلة لم يجز أن يقال في هذا إنه يجوز على المتباعدين أن يصيرا متلاقيين وعلى المتلاقيين أن يصيرا متباعدين فإن جواز ذلك مشروط بجواز الافتراق وأيضاً فإذا كانا متماثلين ومن حقيقة أحدهما امتناع المفارقة(4/90)
عليه لزم أن يكون من حقيقة الآخر امتناع المفارقة عليه فيكون تماثلهما مانعاً من جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين فإن أحدهما إذا فارق ملاقيه ثبت جواز المفارقة عليه وذلك يمنع أن يكون مثلاً لما لا يجوز المفارقة عليه وأيضا فالمتماثلان في الحقيقة والصفة إذا كانت مقاديرها متفاوتة لم يجب أن يساوي أحدهما الآخر فيما هو من حكم المقدار كالدينار الصغير مع الدينار الكبير ومما يوضح ذلك أن هذا الافتراق يغير حقيقة الشيء كما يغير ويبدل صفته فإن النار والهواء إذا تبدلت صفة النارية والهوائية فيه خرج عن أن يكون ناراً وهواءً أو أن تكون الأجزاء النارية ناراً وهواءً وكذلك متى تفرق المجتمع الذي حقيقته باجتماعه متى تفرق وتمزق خرج عن حقيقته لجميع المركبات مثل بدن الإنسان إذا قطع قطعاً صغاراً جداً بل كثير من الأجسام تتبدل حقيقته بالتفريق كما تتبدل بالتحويل وإن كان في نفسه بسيطاً وفي الجملة فأصل هذا الكلام أنه فرض تماثلاً وقال فيه يلزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فيقال له التماثل الذي سلمناه لم يدخل فيه ما يستلزم جواز التفريق أو جواز حلول كل بعض محل الآخر ولا يدخل هذا في مسمى(4/91)
التماثل المفروض وإن قلت بل هو داخل في مسمى التماثل الذي فرضته كان النزاع لفظياً وعاد الكلام إلى القسم الثاني فيقال لك لا يكون مماثله بهذا الاعتبار الذي ذكرته كما قد يقال ابتداءً لا يجب أن تكون الأبعاض متماثلة بل يجوز أن تكون غير متماثلة فيقول هؤلاء في القدر ما قاله الباقون في الوصف ويقولون أبعاض المقدار كآحاد الصفات وإذا كان حاملاً لصفات ليست متماثلة كان أيضاً جامعاً لأبعاض ليست متماثلة فما الدليل على بطلان ذلك ونفي ذلك مما ذكره الأئمة من قول الجهمية حيث قالوا عنهم إنهم قالوا لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم مع ما في الكتاب والسنة وفي اتفاق سلف الأمة وأئمتها من وصفه باليدين والوجه بل وغير ذلك من الصفات التي تقتضي أن لها حقائق لا تسد هذه مسد هذه ولا يسد العلم مسد القدرة فكذلك الوجه واليد لا يسد أحدهما مسد الآخر(4/92)
قوله والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات يقال هب أنه تحلل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد مبرءاً عن هذا التركيب لكن لا يجب أن تكون تلك الأجزاء متماثلة في الصفة والحقيقة وإن كانت جواهر منفردة بل قد يقال إنها متساوية في المقدار بمعنى أنها غير قابلة الانقسام وليست مستوية في الصفة والحقيقة بل حقيقة كل جزء من تلك الأجزاء مخالف لحقيقة الآخر وهذا فيه أن الجواهر المنفردة تكون مستوية في القدر غير مستوية في الحقيقة وهذا قول كثير من الناس أو أكثرهم بل أكثر العالمين على أن الجواهر ليست متماثلة في الحقيقة بل مع تنازعهم في الجوهر هل هو جنس أو جنسان أو ثلاثة أو أكثر من ذلك فإن عامتهم متفقون على أن الجنس الواحد ليس متماثلاً بل هو متنوع إلى أنواع مختلفة فإذا كان القائلون بأنها جنس واحد(4/93)
لا يقولون بتماثلها فالقائلون بأنها أجناس كثيرة مختلفة أبعد عن القول بتماثلها وقد تقدم حكاية النزاع في ذلك كما حكاه الأشعري وغيره إذا ظهر هذا فقوله بعد ذلك إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه غير مركب وهذا خلف وإذا ثبت أن يمينه مثل يساره وثبت أن المثلين لابد وأن يشتركا في جميع اللوازم لزم القطع بأن ممسوس يمينه يصح أن يصير ممسوس يساره وبالعكس ومتى صح هذا فقد صح التفرق والانحلال عن تلك الأجزاء فحينئذ يعود الأمر إلى جواز الاجتماع والافتراق على ذات الله تعالى وهو محال يقال له عن هذا جوابان هب أنك قد فرضته جزءاً بسيطاً لا تركيب فيه بحال ومثل هذا يقال له فيه إنه لابد أن يماس بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر فإن هذا يقتضي أن فيه شيئين يميناً ويساراً وهذا يوجب تركيبه وقد فرضته غير مركب فهذا جمع بين النقيضين يوضح ذلك أن مماسته بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً هي من(4/94)
حجج نفاة الجوهر الفرد فإنهم احتجوا بذلك على جواز انقسام ذلك فقد تقدم ذكر ذلك في كلامك وذكرت أن هذا الكلام حجتهم وإذا كان هذا حجة على نفي الجوهر الفرد لم يصح الاستدلال به مع القول بثبوت الجوهر الفرد وهو الجزء البسيط الذي لا تركيب فيه بحال بل يقال لك من رأس قولك كل جسم مركب من أجزاء مختلفة في الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لا يخلو إما أن تقول بثبوت الجوهر الفرد الذي لا تركيب فيه أو تقول بأنه ما من شيء من المتحيزات إلا وفيه تركيب يقبل لأجله الانقسام فإن قلت بالأول لم يصح أن تقول لابد وأن يماس بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر فإن هذا قول بانقسامه وتركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منهما مبرءاً عن التركيب بل يقال هذا أبداً فيه من التركيب ما يقبل لأجله الانقسام في الكم والكيف لكن هذا الجواب يصح إذا أراد بالأجزاء البسيطة الجوهر الفرد وأما إن أراد البسيطة عن ذلك التركيب وإن كانت مركبة من(4/95)
أجزاء متشابهة فنذكر الجواب الثاني فيقال هب أن كل جزء من تلك الأجزاء يصح أن يكون ممسوس يمينه وممسوس يساره وبالعكس لكن لمَ قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء يصح أن يماس بيمينه ويساره ما يصح أن يماسه الجزء الآخر بيمينه ويساره وذلك لأن تلك الأجزاء إذا كانت مختلفة في الحقيقة مع تساويها في المقدار لم تكن مستوية في الحقيقة والصفة فلا يجب أن يكون حكم كل واحد منها حكم الآخر وإن كان حكم جانب كل واحد حكم الجانب الآخر لاسيما والذي يجب أن ينتهي إليه تحليل المركب من أجزاء مختلفة الحقائق إنما هي المبرأة عن ذلك التركيب إلى أجزاء بسيطة وإن كانت أجساماً بسيطة لا يجب أن تنتهي إلى الجوهر الفرد والأجزاء البسيطة تكون مختلفة الحقائق كما هو التقدير أنه مركب من أجزاء مختلفة الحقائق وقد تقدم أنه إذا سلم لك وجود الجوهر الفرد الذي ينتهي إليه تحليل التركيب لم يسلم لك أن الجواهر مستوية في الحقيقة وهذا أمر يشهد له الحس فإن أجزاء الماء وإن تفرقت وتصاغرت ليست في الحقيقة مثل أجزاء التراب ولا أجزاء الذهب وإن تصاغرت مثل أجزاء الفضة وإن كانت هذه الأجزاء(4/96)
الصغار ليست هي الجواهر المنفردة بل تلك أصغر منها فإما أن يستدل بما شهد في المحسوسات على ما لم يعلم منها وبقياس غائبها عن الإدراك على شاهدها فهذا من أوضح القياس وأثبته وهو قياس الأجزاء المتساوية في الحقيقة بعضها على بعض في حكم تلك الحقيقة فإن تفاوتها بالصغر والكبر لا يوجب اختلاف حقيقتها وصفتها وإما أن لا يقال إن ذلك الجزء الذي لا ينقسم لا يعلم حكمه أما أن يقال إن الأمور المختلفة في الحقيقة يجب أن تكون أجزاؤها المساوية لها في الحقيقة متماثلة في الحقيقة فهذا مما يعلم ببديهة العقل بطلانه وهذا المستدل قد فرض أجزاء مختلفة في الحقيقة وقال لابد أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء صغار لا تنقسم فيقال هب أن الأمر كذلك إلا أن أجزاء الأجسام المختلفة في الحقيقة لا يقال يجب أن تكون متماثلة بل إذا قيل يجب أن تكون مختلفة لأن بعض الجسم مساوٍ لكله في الحقيقة كان هذا الكلام أصح وأولى بالقبول من أن يقال يجب أن تكون أجزاء الأجسام المختلفة متماثلة في الحقيقة ولهذا كان من قال إن الأجسام متماثلة قال إن الجواهر متماثلة ومن قال إنها مختلفة قال إن الجواهر مختلفة إما أن يقال إن الجواهر متماثلة في الحقيقة ولكن(4/97)
مجرد ضم بعضها إلى بعض حتى زادت بعد الجمع منها اختلفت في الحقيقة أو يقال إنها كانت متماثلة في الحقيقة فبتفريقها اختلفت في الحقيقة الوجه الثاني أن يقال لا ريب أن مضمون هذه الحجة أنه لو كان على العرش لكان جسماً عظيماً وإذا كان جسماً وجب جواز التفرق عليه وقد تقدم أن القائلين بأنه على العرش منهم من يمنع المقدمة الأولى ومنهم من يمنع الثانية ثم يقال قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه الصمد وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم إن الصمد هو الذي لا جوف له وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه أنه لا يتفرق واللغة تدل على ذلك فإن هذا اللفظ وهو لفظ الصمد يقتضي الجمع والضم كما يقال صمدت المال إذا جمعته وقد قال من قال من حذاق أهل الكلام وغيرهم إن(4/98)
هذا تفسير المجسمة لأن الأجسام نوعان أجوف ومصمت كالعظام منها أجوف ومنها مصمت فالحجر ونحوه مصمت قالوا وهذا يقتضي أنه جسم مصمت لا جوف له وهذا يدل على أن صمديته تنافي جواز التفرق والانحلال عليه فلا يخلو إما أن تكون هذه الآية قد دلت على ذلك أو لم تدل عليه فإن كانت دلت على ذلك وعلى أنه مصمت لا جوف له يمتنع عليه التفرق بطل قولك إن كل جسم يصح عليه التفرق والانحلال وإن لم تكن دلت على ذلك فأنت لم تذكر دليلاً عقلياً على امتناع التفرق عليه ولا نصًّا ولا إجماعاً وإذا كان كذلك لم تكن حجتك تامة فإن هذه إحدى مقدمات الدليل فإذا لم يكن مدلولاً عليها لم يكن المذكور دليلاً وإذا لم يكن دليلاً لم يصح نفي كونه جسماً بهذا الدليل فإن قال أنا أثبت امتناع التفريق عليه بالإجماع أو موافقة الخصم قيل له الذي يوافقك على دليل وافقك على أنه مجتمع يمتنع عليه الافتراق ولم يوافقك على أنه لا يوصف باجتماع ولا افتراق وحينئذ فهو يقول أنا ما علمت امتناع الافتراق عليه إلا بوجوب اجتماعه كما أني لم أعلم امتناع(4/99)
الموت عليه إلا لوجوب حياته ولم أعلم امتناع الجهل والعجز عليه إلا لوجوب علمه وقدرته ولم أعلم امتناع العدم عليه إلا لوجوب وجوده فإن نازعني منازع فيما أثبته وقال ليس بمجتمع أو ليس بعالم أو ليس بحي ولا قادر أو ليس بموجود وطلب مني أن أوافقه على أنه لا يجوز عليه الافتراق والعدم والموت والجهل والعجز ونحو ذلك كان قد طلب مني موافقته على امتناع أحد الضدين دون ثبوت الآخر الذي هو من صفات الكمال أو الذي ليس هو من صفات النقص أو الذي ليس هو عندي من صفات النقص وكان حينئذ من جنس الملاحدة الذين يطلبون أن أوافقهم على أنه ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل مع منازعتهم لنا في أنه حي عالم قادر ومن طلب الموافقة على ثبوت الشيء بدون لازمه ليحتج بذلك على نفي اللازم لم يكن علينا أن نوافقه بل لم يكن لنا أن نوافقه فإن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فإذا وافقناه على ثبوت الملزوم كنا في الحقيقة موافقين له على نفي الملزوم الذي قد وافقناه في الظاهر على ثبوته وإذا كانت الموافقة على ثبوت الشيء تقتضي نفيه لم تجز الموافقة عليه فإذا قال الملحد أنتم توافقون على أنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز وأنا لا أوافقك على أنه حي عالم قادر وغرضه أن يستدل بنفي هذه الصفات على انتفائها وانتفاء أضدادها بأن يقول كونه حيًّا عالماً قادراً وميتاً جاهلاً عاجزاً يقتضي أنه(4/100)
موصوف بالحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز وهذه أعراض والموصوف بالأعراض يجب أن يكون ممكناً أو يكون جسماً متحيزاً وذلك يقتضي حدوثه وهو محال لم يكن علينا أن نوافقه على ثبوت هذا السلب المستلزم لثبوت كونه حياً عالماً قادراً مع منعه لذلك فإن تحقق هذا السلب بدون هذا الإثبات محال وليس علينا أن نوافقه على شيء يتوسل به إلى القول الباطل بل ليس لنا ذلك إذا كان يتوسل به إلى إبطال حق علمناه فإن هذه الموافقة مثل مصالحة الكفار على ما فيه فساد الإسلام وهذا لا يجوز وهذا كما يذكر عن أبي الهذيل العلاف أنه قال دخلت دار النظر وفيها يهودي قد ناظر قوماً من المتكلمين في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم ألستم توافقوني على أن موسى رسول الله فقالوا بلى قال وأنا أخالفكم على أن محمداً رسول الله والمتفق على نبوته خير من المختلف في نبوته أو نحو هذا(4/101)
الكلام قال فقلت تعالَ ناظرني قال قد انقطع شيوخك معي فقلت ناظرني فأعاد حجته فقلت له من موسى الذي وافقتك على نبوته أموسى بن عمران الذي أنزل الله عليه التوراة التي فيها خبر محمد صلى الله عليه وسلم وموسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذ الله عليه الميثاق ليؤمن نبه ولينصرنه وأخذ الميثاق على قومه ليؤمن نبه ولينصرنه قال أبو الهذيل أو نحو هذا الكلام أم موسى الذي قال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض وذكر أن شريعته لا تنسخ أبداً أما الأول فإني أوافقك على نبوته ونبوته مستلزمة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثاني فلا أؤمن به ولا أوافقك على نبوته ومثل هذا كثير في المناظرة وقد ذكر هذا المؤسس أبو عبد الله الرازي في نهايته أنه لا يجوز الاحتجاج بهذه الإلزامات كما تقدم بيانه وهو(4/102)
الاحتجاج بموافقته على مقدمة لمأخذ إن سلّمت ذلك المأخذ بطل الاحتجاج بالمقدمة وإن لم تسلم المأخذ منعت المقدمة وهكذا الأمر هنا فإن المنازع الذي يسلم لك أنه لا يجوز الافتراق والانحلال عليه إنما سلم لك ذلك لأنه صمد يجب أن يكون سيداً مجتمعاً ويمتنع أن يكون متفرقاً فإن كان هذا المأخذ صحيحاً بطل احتجاجك بذلك على امتناع كونه مجتمعاً وإن كان هذا المأخذ فاسداً لم يكن قد سلم لك امتناع الافتراق عليه فلا ينفعك هذا التسليم لا في النظر ولا في المناظرة وكان له أن يقول أنا لا أسلم لك امتناع الافتراق عليه لوجوب كونه صمداً والصمد يوجب الاجتماع وإن فرض أنه لا يقتضي الاجتماع فهو لا ينفي الافتراق أو لا ينفي الاجتماع والافتراق جميعاً فإن أحداً من الناس لايمكنه أن يدعي أن هذا الاسم يدل على نفي الاجتماع والافتراق جميعاً أو على نفي الافتراق وحده إلا بناءً على أن المجتمع يفتقر إلى أجزائه أو نحو ذلك مما تقدم الكلام عليه وأما القياس فلم يذكر حجة على امتناع الافتراق عليه فظهر أن هذا الذي ذكره ليس بحجة أصلاً وهذا يتقرر بالوجه الثالث وهو أن يقال لاريب أن الله سبحانه مقدس منزه عن جواز الافتراق والتمزق عليه سبحانه لكن إقرار الفطر بذلك ليس بأعظم من إقرارها بتنزهه عن العدم والتلاشي بل(4/103)
علم القلوب بوجوب وجوده وامتناع عدمه أعظم من إقرارها بامتناع تفرقه وانحلاله وهي لما يستلزم عدمه أعظم نفياً منها لما يقال إنه يستلزم تفرقه وانحلاله وإذا كان كذلك فقد استقر في الفطر أن القول بكونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا يشار إليه ولا يمكن الإحساس به أدل على عدمه من دلالة كونه مجتمعاً على جواز التفرق عليه فإن الأول عند عامة الناس بديهي فطري وأما الثاني فلا تمكن معرفته إلا بدقيق النظر إن كان صحيحاً فإن كان كذلك فالمتناظران في هذه المسألة يقول النافي فيها للمثبت كون ما نفيته من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا كذا ولا كذا يستلزم عدمه إنما هو من حكم الوهم والخيال وأما كون وجوده فوق العرش يستلزم جواز الانحلال عليه فمعلوم بالقياس العقلي البرهاني والمثبت(4/104)
يقول أما لزوم ما ذكرته للعدم فمعلوم بالفطرة الضرورية العقلية وأما لزوم ما ذكرته أنا للانحلال فإنما هو شبهات مركبة من ألفاظ مشتركة وحينئذ فإن تحاكما إلى فطر العالم السليمة قضت للمثبت على النافي لأن إقرار الفطر بما يقول المثبت معلوم وإقرارها بما يقوله النافي غير معلوم وإن تحاكما إلى المقاييس العقلية فيقال قول هذا الرازي وأمثاله المتقدم في مقدمته إن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها ذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجاً آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات إما أن يكون هذا الكلام حقًّا وإما أن يكون باطلاً فإن كان حقًّا بطلت هذه الحجة وأمثالها مما بناه على الجوهر الفرد نقياً وإثباتاً وعلى كون الأجسام توصف(4/105)
بالاجتماع والافتراق وأن الجواهر والأجسام متماثلة أو مختلفة لأن هذه الأمور كلها جسمانيات فالعقل الذي به ينظر في هذه الأمور لا يجوز أن ينظر به في الإلهيات وهذا المؤسس وأمثاله من هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة إنما يتكلمون في التجسيم نفياً وإثباتاً بالنظر الذي نظروا به في الجسمانيات المخلوقة فيكون كلامهم كله في ذلك باطلاً ولهذا اعترف أساطين الفلاسفة أن كلامهم لا يفيد في الإلهيات العلم واليقين وإنما ينظر فيها بالأولى والأحرى والأخلق وإن كان هذا الكلام باطلاً لم يصح أن يبطل به ما استقر في الفطر استقراراً ضروريًّا من أن رب العالمين فوق العالم وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وهذا الكلام في غاية الإنصاف فإن هؤلاء القوم يريدون أن(4/106)
يبطلوا ما استقر في الفطر بما لا يصح إلا بما استقر في الفطر وربما هو دونه فإن كان ما استقر حقًّا لم يكن لهم دفعه وإن كان باطلاً لم يكن لهم الاحتجاج به على إبطال ما استقر في الفطر فإن هذا يكون قدحاً في الأصل بإثبات الفرع والقدح في الأصل قدح في الفرع وهذه عادة القوم المخالفين للفطرة والشرعة ولهذا كلامهم كله كما قيل حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور ومما يوضح هذا أن عامة هذه الحجج التي احتج بها على نفي كونه جسماً ونفي كونه على العرش مثل تماثل الأجسام وتماثل الجواهر ومثل كون الجسم المتناهي يقبل الزيادة والنقصان ويكون ممكناً ومثل كون الجسم مركباً إما تركيب الصفات وإما تركيب المقادير مثل كون الصفة الواحدة لاتقوم بالجسم مثل كون الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ومثل كون تحيز الجسم أمراً وجوديًّا أو أمرًا عدمياً ومثل كون الجسم أو البعد لابد وأن يكون متناهياً أو غير متناهٍ ومثل كون علو بعض الأجسام يستلزم أن يكون تحت قوم ومثل أن الجسم يجوز عليه الافتراق والانحلال ومثلما يأتي من كون الجهة(4/107)
أعلى من الشيء بل جميع ما يتكلمون به في هذا الباب من لفظ المتحيز والتحيز والجهة والجسم والجوهر والاجتماع والافتراق والحركة والسكون سواء تكلموا به في صفات الباري نفياً وإثباتاً أو تكلموا به في المخلوقات وصفاتها نفياً وإثباتاً أو في أدلة حدوثها وإمكانها أو غير ذلك كل هذه الأمور إنما هو كلام في الجسم وأحكام الجسم وما يتبع ذلك فإن كان هذا الكلام والعقل الذي يعرف به مثل هذا الكلام غير مقبول في العلم الإلهي بطل جميع ما ذكره الفلاسفة والمتكلمون جميعاً مما يتعلق بهذا وإذا بطل لم يصح أن ينفوا بمثل هذا الكلام لما علم بالفطرة ولا ما دلت عليه الشرعة وهذا من أعظم المقاصد وحينئذ فلا يصح قولهم إنه ليس بجسم ولا متحيز ولا في جهة وأنه ليس فوق العالم يشار إليه(4/108)
وإن كان مثل الكلام والعقل الذي به ينظر في الأجسام وصفاته مقبولاً في العلم الإلهي بطلت مقدمته كلها وكان من أعظم العلوم في العقل أن الباري فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه بل يمتنع أن يكون شيء من الموجودات كذلك كما تقدم وهذا بيِّن ولله الحمد والمنة وأما أن يخالفوا ما فطر الله عليه عباده وما أنزل به كتبه وأرسل به رسله بمقاييس لا تدل لهم إلا بمقدمات كثيرة مركبة لابد فيها من الاستدلال بما هو في الفطرة دون ما دفعوه أو مثله مع ما فيها من الألفاظ المشتركة وغيرها فهذا لا يفعله إلا جاهل أو ظالم أو من جمع الأمرين بل هو من أعظم العالمين جهلاً وظلماً لكونه تكلم في الله وأسمائه وآياته بمثل هذا العقل الفاسد وكان من أعظم المطففين في أصول الدين فإذا كان المطففون في الأموال قد قال الله تعالى فيهم وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6} [المطففين 1-6] وقد جاء في الحديث الصلاة مكيال فمن وفَّى وُفِّي له ومن طفّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين فكيف في أصول الدين بل في أعظم(4/109)
أبواب أصول الدين وهو الكلام في رب العالمين وأسمائه وصفاته يكون فيه هذا التطفيف والإخسار العظيم فيبطلون ما فطر الله عباده عليه وأنزل به كتبه بمقاييسهم ويمنعون غيرهم أن يحتج بها عليهم وهي عليهم أدل منها لهم وهذا من أعظم الجهل والظلم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من عباده وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً يقرر هذا أن الكلام في الشيء نفياً وإثباتاً مسبوق بتصوره فليس للإنسان أن ينفي شيئاً عن شيء أو يثبته له إلا بعد تصوره تصوراً يمكن معه النفي والإثبات فإذا قال القائل عن موجود إنه جسم أو هو جوهر أو متحيز أو في جهة أو فوق العالم أو غير ذلك أو قال ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا فوق العالم أو قال إن له علماً وقدرة وحياة أو قال ليس له علم ولا قدرة ولا حياة فكل واحد(4/110)
من هذين لابد أن يتصور ما نفاه وما أثبته فمن أثبت لله سبحانه وتعالى أمراً من الصفات فإنما أثبته بعد أن فهم نظير ذلك من الموجودات وأثبت به القدر المطلق مع وصفه له بخاصة تمتنع فيها الشركة ومن نفى عن الله شيئاً من هذه الأمور فإنما نفى ما علم نظيره في الموجودات ونفى عن الله أن يكون له مثل ما للمخلوق من ذلك لم ينفِ ما يختص به الرب مما لم يعلم نظيره فإن هذا لم يتصوره حتى يحكم عليه بالنفي فالنافي لا ينفي شيئاً قط إلا ما له نظير فيما أدركه لأن نفس المنفي ما علمه أصلاً لأن النفي المحض لا يعلم بنفسه فإن النفس لا تباشر المعدوم حتى تشعر به وإنما تباشر الموجود وتقيس له نظيراً فينفي ذلك النظير عما هو منتفٍ عنه مثل نفيها لجبل ياقوت وبحر زئبق ونحو ذلك بعد أن علمت البحر والزئبق والجبل والياقوت ثم قدرت معلوماً مؤلفاً من شيئين نظيرهما(4/111)
موجود ثم نفته وكذلك النفي عن الله من الشركاء والأولاد والنوم وغير ذلك يعلم وجوده في العالم ثم يقدر نظير هذا الموجود في حق الله تعالى في الذهن وينفي عن الله تعالى فأما نفيه قبل العلم به من جهة القياس فممتنع فإنه لا يكون معلوماً ولا يعلم بالمعدوم إلا بنوع قياس فإذاً كل نافٍ فلابد له من القياس على ما في الموجودات الجسمانية وأما المثبت فإنه وإن احتاج إلى نوع قياس فإنه يثبت معه الفارق الذي يقطع المماثلة بالأمور المخلوقة فهو وإن كان جامعاً فمعه فارق أقوى من جامعه بخلاف الثاني فإن عمدته على الجامع وهو القدر المشترك الذي ينفيه وإذا ظهر ذلك فيقال لأرسطو الذي ذكر عنه هذا(4/112)
المؤسس الذي قال من أراد النظر في العلم الإلهي فليحدث لنفسه فطرة أخرى وقد قرره المؤسس بأن الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل مكنها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجاً آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلى معرفة الجسمانيات أنت يا معلم هؤلاء الصابئة الفلاسفة المبتدعين لما تكلمت(4/113)
في أقسام العلم بالمقولات العشر وهي الجوهر وأعراضه التسعة الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع وأن يفعل وأن ينفعل والملك فهذا وإن كان(4/114)
كلاماً في الوجود المطلق الذي قد يقولون إنه العلم الأعلى وهو الناظر في الوجود ولواحقه من حيث هو وجود ومنه العلم الإلهي ويجعلون العلم الإلهي يعم هذا كله فهذا نزاع بينكم فهذه المقولات العشر إذا أثبتها للعقول والنفوس ونفس الإنسان ونفيتها عنها أو نفيت شيئاً منها أو نفيتها عن واجب الوجود أو أثبتها أو شيئاً منها له أتحكم في هذا النفي والإثبات بالفطرة التي علمت بها هذه الأمور أم بفطرة أخرى فإن قال بفطرة أخرى كان هذا اعترافاً بأن الفطرة التي(4/117)
يحكم فيها على الشيء بنفيه وإثباته غير الفطرة التي يتصور بها الشيء فتكون فطرة التصديق غير فطرة التصور ومن المعلوم أن الحاكم بالتصديق العالم به الناطق به إن لم يكن هو العالم بالتصور المدرك له الناطق به كان حكمه باطلاً فيلزم أن يكون جميع ما ذكروه في العلم الإلهي باطلاً لكون الحاكم بالتصديق فيه ليس هو المتصور وإن قلتم بل بالفطرة التي عرفت بها هذه الأمور يحكم بنفيها أو إثباتها بطلت تلك القعقعة التي تشبه قعقعة الشنان التي يقعقع بها للصبيان ليخوفوا بما لا حقيقة له عند الإنسان وعلم أن ما خالفتم به الفطرة والشرعة فكله هذيان بل من الإفك والبهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا {1} قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً {3} وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً {4} مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً {5} [الكهف 1-5] وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ(4/118)
إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {103} [الأنعام 100-103] وليس هذا موضع استقصاء الكلام في هذا وإنما الغرض التنبيه على تناقض هؤلاء وإبطال حججهم وحينئذ يقال في الوجه الرابع قوله إنه إذا كان على العرش وكان عظيماً فلابد أن يكون له جانبان جانب عن يمين العرش وجانب عن يساره ويكون أحدهما غير الآخر العلم بهذا إما أن يكون من العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال أو(4/119)
لا يكون فإن كان من هذا القسم وهو مقبول قبل نظيره وما هو أولى منه فتبطل هذه الحجة لأن هذا العقل يحكم بأن الموجود لابد أن يكون داخل العالم أو خارجه وإن لم يكن مقبولاً بطلت هذه الحجة وإن قيل إن هذا ليس من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال وهو قد حكم بأن الموجود العظيم الذي فوق غيره لابد أن يكون جسماً يتميز منه جانب عن جانب بأن يقال إن الحكم بأن الموجود إما أن يكون داخل العالم أو خارجه وأنه يمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه أولى بأن لا يكون من حكم العقل الجسماني ومقتضى الحس والخيال لأن الحكم الأول فيه تصريح بأنه جسم فإن كان الحكم بأن الشيء جسم ليس من مقتضى العقل الجسماني ومقتضى الحس فالحكم بما لم يصرح فيه بالجسم بل حكم فيه على الوجود مطلقاً أولى بذلك ولهذا يكون مثل هذا الحكم من العلم الأعلى عندهم ومن العلم الإلهي وأما الأول ففيه(4/120)
نوع من العلم الطبيعي الجسماني قطعاً الوجه الخامس أنه إذا كان جسماً فأنت قد ذكرت في نهايتك النزاع بين الناس في الجسم هل هو في نفسه واحد أو منقسم بعد اتفاقهم على قبولية الانقسام وهي مسألة الجوهر الفرد فقلت في مسائل المعاد المسألة الأولى في الجزء الذي لا يتجزأ لاشك في أن الأجسام التي شاهدناها قابلة للانقسامات والانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لا تكون فيخرج من هذا التقسيم أربعة(4/121)
أقسام أولها أن الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون متناهياً ورابعها أن لا تكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناهٍ قال والأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني هو مذهب النظام والثالث هو مذهب بعض المتأخرين وهذا(4/122)
الذي أشار إليه هو الشهرستاني والرابع وهو مذهب الفلاسفة قال فتلخص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه(4/123)
قابلاً للانقسام هل يعقل أن يكون واحداً وثانيها أنه بتقدير أن يكون هل يعقل أنه يكون قابلاً للانقسامات الغير المتناهية قال فنحن نتكلم في كل واحد من القسمين ثم نذكر بعده شبه النفاة ونتكلم عليها قال والمعتمد في أن ما يكون قابلاً للانقسام لابد أن يكون منقسماً هو أن وحدة الجسم إما أن يكون غير كونه جسماً أو جزءاً داخلاً فيه أو أمراً خارجاً عنه فإن كان الأول أو الثاني لزم أن يكون تفريق الجسم إعداماً له وذلك محال وإن كان الثالث كانت الوحدة صفة قائمة بالجسم والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعيناً متميزاً عن غيره ولا يعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره فيلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفاً على كون الجسم واحداً ثم الكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وهو محال وبتقدير إمكانه فلابد أن(4/124)
ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة أصلاً وذلك هو المطلوب فهذا الدليل الذي ذكره على امتناع أن يكون شيء من الأجسام واحداً أو على امتناع أن يكون شيء من الموجودات واحداً ومعلوم أن ذلك خلاف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين بل إجماع العقلاء قال الله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] والقول بأن هذا واحد عن(4/125)
الإنسان الواحد والحيوان الواحد والشجرة الواحدة والدرهم الواحد من أشهر الأمور عند العامة والخاصة ومن أعرف الأمور عند بني آدم وهو من أوائل العلوم البديهية الحسية عندهم وهو علم العدد وأن الواحد نصف الاثنين فلو لم يكن في الأجسام ما يوصف بأنه واحد والناس لم يشهدوا الأجسام مع أن العلم بأن الواحد المطلق نصف الاثنين موقوف على أن الواحد في الخارج نصف الاثنين إذ العلوم الكلية الذهنية مسبوقة بالعلوم المعينة الوجودية فلو لم يكن في الأجسام ما هو واحد امتنع حكم الذهن بان الواحد نصف الاثنين وهذا من أوائل العلوم البديهية التي يضرب بها المثل في النظر والمناظرة فيكون احتجاجه على أن الجسم لا يكون(4/126)
واحداً في مقابلة ذلك فيكون من أفسد حجج السوفسطائية لقدحها في أظهر الأمور الحسية البديهية ثم يقال هذه الحجة تستلزم أن لا يكون الله واحداً ولا يكون الجوهر الفرد واحداً إلا به ثم يقال في وحدة ذلك مثل ما قلته في وحدة الجسم وذلك يستلزم أن تكون الوحدة بالذات وبالجوهر الفرد متوقفاً على كونه واحداً فالكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأولى وذلك يستلزم التسلسل وهو محال وإذا كانت هذه الحجة تستلزم هذا الكفر فهي تستلزم أيضاً(4/127)
نقيض المطلوب لأن المقصود بنفي وحدة الجسم إثبات تركيبه من الأجزاء المفردة التي كل منها واحداً فإذا نفيت وحدة الجوهر الفرد استلزمت إبطاله وإذا بطل الجوهر الفرد امتنع كون الجسم مركباً من الجواهر المنفردة فيلزم أن يكون واحداً فصارت هذه الحجة المذكورة لنفي وحدة الجسم مستلزمة لوحدته ونافية لوحدة الجوهر الفرد أيضاً وكل هذا تناقض واعجب من هذا ثم من العجب قولك بعد أن ثبت أن الوحدة تستلزم التسلسل وهو محال ثم قلت وبتقدير إمكانه فلابد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإذا كانت الوحدة مستلزمة للتسلسل المحال فكيف يكون تقدير إمكانه مبيناً لك جواز اتصاف شيء بالوحدة من غير توسط وحدة أخرى وكذلك من العجب قولك فلابد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة وهو المطلوب فليس هذا هو المطلوب لأن هذا الذي قدرته مع قولك إنه محال يفيد أن الذات توصف بالوحدة من غير أن تتوقف هذه الوحدة على وحدة أخرى للذات وهذا لم ينازعك فيه أحد ولا ينفي وحدة الجسم فإن(4/128)
وحدة الجسم ليست موقوفة على وحدة أخرى تقوم بالجسم غاية ما في هذا الباب أن وحدة الجسم معها وحدات أخر تقوم بالجوهر إذا أفردت وهذه الوحدة ليست شرطاً في ثبوت الأولى ولا هي سابقة عليها ولا تلك متوقفة عليها ولا هي وحدة الجسم التي وصفت بها الأولى والتسلسل الذي ذكرته إنما يمنع أن تكون وحدة الشيء متوقفة على وحدة أخرى لذلك الشيء وليس الأمر كذلك هنا لكن مع وحدة الجسم وحدة كل موصوف بالوحدة من الأجسام والجواهر وغير ذلك والموصوف بأنه واحد إذا كان مستلزماً إمكان أن ينقسم إلى ما يوصف بأنه واحد لم يكن وحدة موقوفة على وحدة أخرى تقوم به فليتدبر اللبيب كيف ذكر الحجة التي مضمونها نفي كل وحدة في العالم وإحالتها ثم أخذ ثبوت الوحدة مسلماً وادعى أن ثبوت الوحدة بلا واسطة ينفي وحدة الجسم وكلاهما عجب نفي الوحدة مطلقاً ودعوى أن الوحدة بلا واسطة وحدة أخرى تنفي وحدة الجسم ثم يقال عن هذه الشبهة الفاسدة الباردة تعين الواحد جسماً كان أو غيره وتميزه عن غيره لا يخلو إما أن تكون هي وحدته أو لا تكون فإن لم يكن هو وحدة الجسم بطل قولك لا نعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره فبطلت الحجة وإن كان هو وحدته بطل قولك لا تحصل فيه(4/129)
الوحدة إلا إذا كان متعيناً متميزاً عن غيره تعني قبل ذلك وحينئذ فقد بطلت الحجة أيضاً فسواء كانت الوحدة هي التعين والتميز أو كانت غيره لم يلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفاً على وحدة أخرى وهذا ظاهر وسواء كانت الوحدة أمراً وجوديّاً أو عدمياً فليس المقصود هنا بسط الكلام على هذا وإنما الغرض من التنبيه على أن ما يستدل به على أن الجسم فيه انقسام وتركيب وكثرة وأنه ليس بواحد من أفسد الحجج فإنه قد بنى على هذا الأصل الفاسد كثيراً من تجهمه وتعطيله الذي جحد فيه حقيقة أسماء الله وصفاته وما هو عليه في ذاته أما كون الجسم قابلاً للانقسامات التي لا تناهى أو غير قابل فهذا ليس لنا فيه هنا غرض وهو احتج على نفي ذلك بالحركة وأنها موجودة في الحاضر وإلا لم تكن موجودة في(4/130)
الماضي والمستقبل وأن وجودها الحاضر لا ينقسم وإلا لكان الحاضر ماضياً ومستقبلاً وإذا لم تنقسم الحركة إلى غير نهاية لم تنقسم المسافة التي تكون الحركة عليها فلا يكون في الجسم الذي هو مسافة انقسام لا يتناهى وعارض ذلك بعشرة أوجه مثل تميز اليمين عن الشمال وانقسام الجزء الموضوع على جزأين وغير ذلك من الوجوه ثم قال في الجواب وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في(4/131)
أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضاً نختار الوقف فإذن لا حاجة إلى الجواب فهذا قوله(4/132)
في الانقسام الممكن هو متوقف فيه وقوله ونقول في نفي وحدة الجسم وثبوت الانقسام الحاصل قد ظهر فساده لكل أحد وإذا كان الأمر كذلك فقوله لو كان على العرش لكان منقسماً مركباً أو لكان جسماً لكان منقسماً مركباً أو لو كان العرش لكان عظيماً ولكان منقسماً مركباً إلى الأجزاء قد تبين فساده وظهر أن قوله إذا كان عظيماً فلابد أن يكون أحد جانبيه غير الآخر ويكون على هذا التقدير ذات الله مركبة من الجزاء كلام باطل لم يقرر تركيباً موجوداً في الأجسام المشاهدة ولا أن فيها أجزاءً موجودة بل ادعى فيها ما يضحك عليه الصبيان وأما قبولها للتجزئة إلى غير غاية فقد توقف فيه فأكثر ما يبقى معه أن الجسم وإن كان واحداً لكنه يقبل التجزئة إلى حد(4/133)
محدود وهذا قول الشهرستاني مع أنه يستخف بهذا القول أحياناً وقد اضطر إلى موافقته لكن هذا أكثر ما فيه أنه يمكن في الجسم من حيث الجملة أن ينقسم بمعنى أن ذات الجسم من حيث هو جسم لا تكون مانعة من الانقسام وهذا حق فإن من الأجسام ما ينقسم حقيقة فلو كان حقيقة الجسم مانعة من الانقسام لم يصح الانقسام على شيء من الأجسام لكن هذا لا يثبت له قبول كل جسم للانقسام فضلاً أن يكون العلي العظيم الكبير المتعال الذي هو على عرشه العظيم مركباً من الأجزاء كما ادعاه فإنه إذا كان الجسم واحداً وقبول القسمة لم يثبت إلا لبعض الأجسام لم يلزم أن يكون رب العالمين منقسماً ولا قابلاً للقسمة فلا يكون مركباً من الأجزاء لا الأجزاء الموجودة ولا الأجزاء المقدرة الممكنة ثم إذا كانوا في الأجسام المشهودة قد اضطربوا أو تحيروا في تركيبها وانقسامها وعدوا ذلك من محارات العقول كيف يصح منهم الحكم على رب العالمين بمثل هذه الأمور نفياً وإثباتاً وهذا بيِّنٌ ولا حول ولا قوة إلا بالله(4/134)
الوجه السادس أن يقال هب أنه يلزم أن يكون فيه أجزاء وأبعاض بمعنى أن فيه ما يميز منه شيء عن شيء كما أن الفلك يتميز منه شيء من شيء وجانب من جانب وهذا هو المعنى بالتركيب من الأجزاء فهذا يكون بمنزلة الصفات القائمة من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وسائر الصفات فقولك في تلك الأمور التي سميتها أجزاءً إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك مثله في الصفات التي سمتها نفاة الصفات كابن سينا وغيره أجزاءً ويقولون واجب الوجود ليس فيه أجزاء لا أجزاء حد ولا أجزاء كم وإن كانت(4/135)
هذه تسمية باطلة كما قد قررناه في غير هذا الموضع فتسميته أيضاً تشبهها كما قد قررناه والنزاع هنا ليس في اللفظ بل في المعنى فيقال لك في تلك الصفات إن كانت متماثلة وجب أن تقوم كل صفة مقام الأخرى فيقوم العلم مقام القدرة والحياة مقام الكلام وهذا باطل وإن كانت مختلفة فكل صفة تشارك الأخرى في كونها صفة وتفارقها في خصوصيتها وما به الاشتراك غير ما به الافتراق فتكون كل صفة مركبة من جزأين جزء به الاشتراك وجزء به الامتياز ثم كل واحد من ذينك الجزأين يشارك غيره في جزء ويفارقه في جزء وهلم جرا فالقول في تركب كل مركب من جزأين وتركب كل جزء من جزأين يعم ما يقال إنه مركب تركيب المقدار والكم وما هو مركب تركيب الصفة والكيفية فإن أوجب أحد التركيبين(4/136)
الانحلال إلى ما لا تركيب فيه أوجبه الآخر وإلا فلا وحينئذ فيعارض ما ذكرته في تركيب المقدار مثله سواء فيقال لك إن لم يوجب التركيب والانحلال إلى ما لا تركب فيه لم يجب ذلك في الموضعين فبطلت الحجة وإن أوجب ذلك بانحلال المقدار إلى جزء لا تركب فيه فانحلال الصفة إلى جزء هو صفة لا تركب فيها وإذا قيل في أجزاء المقدار إنها متماثلة وإلا كانت مركبة قيل في أجزاء الكيفية إنها متماثلة وإلا كانت مركبة وإذا قيل إن تماثلها يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر قيل إن تماثل تلك يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر وحينئذ فيجب أن يوصف العلم بما توصف به القدرة وتوصف الحياة بما يوصف به الكلام ويسد كل منهما مسد الآخر وهذا مع أنه محال فذلك يستلزم جواز الاكتفاء بصفة عن سائر الصفات وذلك يستلزم عدم وجوب هذه الصفات للذات وهذا أبلغ مما ألزمه في المقدار من جواز انحلال الذات وتفرقها فإن عدم كيفيات الموجود أو الجسم أبلغ في عدمه(4/137)
وتلاشيه من تفرق أجزائه ولهذا كثير من الأجسام يفترق ثم يجتمع كما يتفرق الماء ثم يجتمع وأما إذا بطلت كيفيته مثل بطلان المائية والنارية فإنه يكون فاسداً مستحيلاً وهذا وإن كان إلزاماً لمن يثبت الصفات فهو لازم لكل أحد أيضاً فإنه لابد من إثبات وجود ووجوب ونحو ذلك أي معنى أثبت جعل فيه نظير هذا التركيب وهذا لازم لابن سينا ونحوه من الملاحدة أيضاً فإنه يقال في الوجود والوجوب إن الموجود يشارك غيره من الموجودات في مسمى الوجود ويفارقها في خصوصه والوجوب بالذات يشارك الوجوب بالغير في مسمى الوجوب ويفارقه في كونه بالذات وكذلك يقال في العاقل والمعقول والعقل والعناية وكونه فاعلاً أو مبدأ أو(4/138)
علة أو غير ذلك إذ لا بد لكل من أثبت موجوداً من أن يثبت وجوداً واجباً ويلزمه فيه هذه اللوازم وقد بينا هذا فيما تقدم وابن سينا كان من الملاحدة وكان أبوه من دعاتهم(4/139)
وذكر هو أنه بسبب ذلك اشتغل فيما اشتغل به من علوم الفلاسفة الصابئة الأوائل فإن أصول الملاحدة مبنية على ما أخذوه من هؤلاء الصابئة وما أخذوه من المجوس وهؤلاء الصابئة المبتدعون يقولون إن العالم متولد عن الله والمجوس يجعلون له شريكاً في خلقه فالطائفتان كما قال تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام 100] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء 111] وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فإن المجوس تجعل إبليس وهو أصل الظلمة هو شريك النور في التخليق فيجعلون الجن شركاءه وليس هذا موضع بسط هذا ولكن ننبه على أن كتاب الله لما كان دعوة لجميع الخلق ففيه تفصيل كل شيء وهو(4/140)
الحاكم بين جميع الناس فيما اختلفوا فيه ولهذا أراد النصير الطوسي ونحوه من ملاحدة المسلمين واليهود على أن يضعوا للدولة الكافرة المشركة الجاهلة دولة هولاكو عقيدة واتفقوا على أن تكون عقيدة ابن سينا ولهذا كانت الملاحدة تميل إلى هؤلاء المشركين كثيراً وكان ملكهم هولاكو يقرب الملاحدة ويستعين بهم على المسلمين لما عرف مباينتهم في الباطل للإسلام وأهله مع منافقتهم لهم(4/141)
في الظاهر الوجه السابع قوله إن تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية يقال قد تبين أن ما ذكرته لا يستلزم أن تكون هنا أجزاء موجودة وغاية ما يلزم ما ذكرته تمييز شيء عن شيء وجانب عن جانب والذي يكون كذلك يقال في صفاته ما يقال فإذا قيل إنه مع أنه واحد فهو ذو أبعاض يتميز منه شيء من شيء فكذلك يقال في صفاته القائمة به وفي حيزه وفيما يلاقيه ففي الجملة متى فرض تميز شيء منه عن شيء وقيل إن ذلك أبعاض ولكل بعض خاصة تميز بها ثم يقال وساء كان هناك أجزاء وأبعاض موجودة يتميز بعضها عن بعض أو لم يكن فإذا قيل كل بعض إما أن يماثل الآخر أو لا يماثله قيل إن أردت بالمماثلة أن يقوم مقامه فيما يختص بعينه فلا يكون في العالم شيئان متماثلان وإن أردت بالتماثل أن يقوم مقامه فيما يكون لنوعه لا لعينه قال لك المنازع إنها متماثلة وإذا قال ذلك لم يجز أن تقول فيصح أن يكون الملاقي مباعداً والمباعد ملاقياً لأن ذلك الملاقي في صفات عينه مجاورته(4/142)
لما جاوره وحيزه المعين وتلك الصفة لا يقوم فيها غيره مقامه وإن كان مثله كما تقدم فلا يلزم من كونهما متماثلين أن يصير الملاقي مباعداً والمباعد ملاقياً وقولنا المثلان يصح على كل منهما ما صح على الآخر إنما هو فيما ليس من خصائص العين والملاقاة والمباعدة من خصائص العين فإن الملاقي إذا صار مباعداً خرج عن حيزه المعين وعن أن يكون ملاقياً لما كان ملاقياً له ووجب أن يصير ملاقياً لغيره وكذلك المباعد وحينئذ فتختلف صفات عينه بالتفريق فلا يكون ذلك لازماً لكونهما مثلين فلا يلزم من التماثل ذلك الوجه الثامن أن يقال هذه التي سميتها أجزاءً سواء كانت أجزاءً مقدرة أو هي متميزة تميزاً حقيقيّاً لا يخلو إما أن تريد بكل واحد منها الجزء الذي لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد أو ما هو اكبر من ذلك فإن أردت بالأجزاء الجواهر المنفردة وقد قلت إما أن تكون متماثلة الماهية أو مختلفة فيقال لك هب أنها مختلفة في الماهية ما الذي يلزم قولك والقسم الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء مختلفة في الماهية فنقول كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل(4/143)
تركيبه إلى أجزاء ويكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب يقال لك هذا باطل على هذا التقدير لأن كل واحد من تلك الأجزاء المختلفة الماهية إذا كان جزءاً لا ينقسم وهو الجوهر الفرد امتنع حينئذ أن يكون مركباً وأن يتحلل إلى أجزاء أخر فإنه لا تركيب فيه بحال أكثر ما يمكنك أن تقول فيه ما قلته في الأجزاء التي يتحلل إليها من لزوم مماسته بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يقال لك هذا أولاً باطل في الجزء الذي لا ينقسم وقولك لكن يمينه مثل يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً وقد فرضناه غير مركب كلام متناقض ينقض بعضه بعضاً فإنه إذا كان له يمين ويسار كان مركباً وقولك يمينه مثل يساره والمثلان غيران يقتضي أن فيه غيرين وهذا تركيب أيضاً وتماثل جانبيه لا يخرجه عن أن يكون مركباً فقولك وقد فرضناه غير مركب تناقض وكذلك قولك ودعواك أنه تماثل يمينه يساره وإلا لكان هو نفسه مركباً يقتضي أنه مع تماثل جانبيه يكون غير(4/144)
مركب ومع عدم تماثلهما يكون مركباً وليس الأمر كذلك بلا نزاع وأيضاً فإنه على هذا التقدير الأجزاء المختلفة في الحقيقة وإذا كانت مختلفة في الحقيقة لم يلزم أن يجوز على كل واحد منها ما جاز على الآخر بل يمتنع تساويهما فيما يجب ويجوز ويمتنع فلو وجب أن يقوم كل منهما مقام الآخر لكانت متماثلة والتقدير أنها مختلفة هذا تناقض فعلم أنه يمتنع مع كون الأجزاء غير منقسمة وهي مختلفة في الحقيقة أن يقوم بعضها مقام البعض وحينئذ فيبطل لزوم تفرقها بل يقال إذا كان تفرقها يوجب قيام بعضها مقام بعض امتنع تفرقها مع كونها مختلفة لأن الحقائق المختلفة يمتنع أن يقوم بعضها مقام بعض هذا إن أراد بالأجزاء الجواهر المنفردة وهو المفهوم من إطلاق تفرقها وإن أراد بالأجزاء الأجزاء الكبار قيل الوجه التاسع وهو أن المعنى أنه مركب من أجزاء كبار بحيث يلزم إذا كانت مختلفة أن يكون الجزء منها ينحل إلى أجزاء لا تنقسم وقد قلت إما أن تكون متماثلة أو مختلفة فيقال لك نقدر أنها متماثلة وهي وإن كانت متماثلة في الصفة(4/145)
فلها قدر في نفسها ليست أجزاء منفردة إذ التقدير كذلك وإذا كانت كذلك لم يلزم أن يكون الطرف منها وسطاً لأن الطرف يكون غير منقسم وغير المنقسم لا يسد مسد الجزء الكبير الذي قد ينقسم وإذا لم يكن كذلك لم يلزم جواز تباعد المتلاقيين وتلاقي المتباعدين لتباين مقاديرهما وأشكالهما وأن الذي يقوم مقام غيره لابد أن يكون مساوياً له في الصفة والقدر جميعاً لاسيما وعلى هذا التقدير فيمكن أن يكون بعضها أكبر من بعض لأنه أكثر ما يلزم أن يكون كل جزء منها يمكن انقسامه ليصح الحكم عليها بالتحليل إلى الذي لا ينقسم حتى يتوجه كلامه في القسم الثاني وإذا لم يجب إلا ذلك لم يلزم تساويها في المقدار وإذا لم يلزم تساويها في المقدار لم يجب أن يقوم بعضها مقام بعض فلا يلزم جواز التفرق والانحلال فحاصله أن هذه الأجزاء إن قدرها منقسمة جاز اختلاف مقاديرها وأحكامها قلم يلزم قيام بعضها مقام بعض وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من لزوم التفرق والانحلال الوجه العاشر أن يقال الذات التي هي واجبة الوجود بنفسها وصفاتها لازمة لها لا يجوز أن توصف بما توصف به الذات الممكنة الجائزة وذلك لأن الأجسام المخلوقة لها أبعاض وصفات فيجوز أن الله يفرق بين أبعاضها ويجوز أن يزيل صفاتها عنها كما يجوز أن يعدمها والله سبحانه وتعالى(4/146)
لا يجوز عليه العدم ولا يجوز أن تفارقه صفاته الذاتية فبتقدير أن يكون على العرش وهو عظيم يتميز منه جانب عن جانب يكون ما هو داخل في مسمى اسمه من الأمور اللازمة التي لا يجوز أن تفارق ذاته ويكون ما هو موصوف به من الاجتماع والاتصال أمراً واجباً لذاته لأنه الصمد كما تقدم وهذا ظاهر وإن كان واجباً فبتقدير تماثل الأبعاض مع هذا لا يستلزم جواز التفرق لأن وجوب الاجتماع والاتصال يوجب أن يكون مكان كل واحد وحيزه داخلاً في عينه الحاصلة والمثلان لا يجب أن يوصف أحدهما بما يوصف به خصوص عينه ولأن الموجب للاجتماع والاتصال ما تستحقه الذات من وجوب وجودها بصفاته اللازمة وإذا كان كذلك فصار المتلاقيان متباعدين والمتباعدان متلاقيين بغير اجتماع الذات واتصالها عما كان عليه فلم يقم أحدهما مقام الآخر ولا يسد مسده فلا يكونان مثلين وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال هب أن الأجزاء متماثلة فقولك والمثلان يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر فعلى هذا يلزم القطع بأنه يصح على المتلاقيين أن يصيرا مباعدين وعلى المتباعدين أن يصيرا(4/147)
متلاقيين وذلك يقتضي جواز الاجتماع والافتراق وإنما يكون كذلك لو كانا بعد تغيرهما بالتباعد والتلاقي يبقى تماثلهما وليس كذلك بل إذا تفرق أجزاء الذات المجتمعة تغيرت الأجزاء ولم تبق بعد الافتراق كما كانت حال الاجتماع وهذا مشهود في الأجرام المخلوقة فإن اجتماع بعضها ببعض يوجب لها من القوة وغيرها من الصفات ما لا يوجد عند الافتراق حتى إن من أحكامها وأحكام الذات التي هي أبعاضها ما لا يصح إلا عند الاجتماع والتفرق يبطل ذلك وإذا كانت بالتفرق تخرج عما كانت عليه حين الاجتماع لم يلزم من تماثلهما جواز تفرقها لأن التفرق يخرجها عن المماثلة فيكون التقدير إذا كانت متماثلة وجب أن تصير غير متماثلة يقرر هذا بالوجه الثاني عشر وهو أن كل جسم مؤلف هو يشتمل على جواهر منفردة كما ذكر وهي متماثلة كما ذكر والمثلان يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر فيقال لا يخلو إذا تفرقت هذه الأجزاء أن تكون حين افتراقها كما كانت حين اجتماعها أو لا تكون فإذا كانت كذلك لزم أن يكون كل جسم في العالم إذا افترقت أجزاؤه إلى الجوهر المنفرد أن يكون حال تلك الجواهر حينما كانت متصلة وهي تلك الذات كحالها حين تفرقها وفساد هذا معلوم بالحس والبديهة فإن(4/148)
الجسم ليس هو إلا تلك الجواهر وتركيبها فإذا فرض أن حالها مع زوال التركيب كحالها مع التركيب وجب أن تكون موصوفة حال افتراقها بما كانت موصوفة به حال اجتماعها وهذا معلوم الفساد بالحس والبديهة لأن عامة الأجسام إذا تفرقت أجزاؤها بطل عامة صفاتها وأحكامها وإذا كانت حين افتراقها بخلاف ما كانت حين اجتماعها لم يلزم من تماثلها جواز افتراقها لأن ذلك يقتضي اختلاف حالها وليس الشيء إلى مثله بأقرب منه إلى نفسه فإذا كان الشيء إذا خالف غيره بشيء لم يجب أن يكون مثله فالشيء الواحد إذا وجب بانتقاله من حيز إلى حيز اختلاف حقيقته أن لا يجب ذلك فيه بطريق الأولى وحينئذ فيقال الوجه الثالث عشر وهو أن تماثلهما يوجب اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع عليها والواحد منها يمتنع عليه أن يفارق عينه لأن ذلك يقتضي استحالته وتغيير حقيقته والواجب الوجود لا يجوز عليه ما يفضي إلى استحالته وتغيير حقيقته فإذاً مع تماثلهما يجب اشتراكها في امتناع استحالتها وتغيير حقيقتها وذلك يقتضي تماثلها في امتناع الافتراق عليها لأن الافتراق يبطل حقيقتها وهذا يظهر بالوجه الرابع عشر وهو أن صفات الجسم(4/149)
المخلوق وأعراضه يجوز أن يفرقها الله تعالى فإن اقتضى ذلك استحالته وتغير حقيقته لأن الله تعالى قادر على ذلك ف محذور فيه وأما صفات الرب كحياته وعلمه وقدرته فلا يجوز أن تفارق ذاته لأن ذلك يلزم استحال الرب وتغير حقيقته وذلك محال فزوال صفاته الذاتية محال ولا يلزم إذا كان غيره من الموجودات يجوز أن تفارقه صفاته أن يقال في حق الله تعالى يجوز أن تفارقه صفاته وكذلك إذا كان غيره من ذوات الأقدار يجوز أن تتفرق أبعاضه لأن ذلك يقتضي تغير حقيقته وهو محال وإذا قيل الأبعاض متماثلة كان هذا مما يوجب اشتراكها فيما يمتنع عليها من العدم وتغير الحقيقة كما أن الصفات مشتركة في ذلك وإن كانت غير متماثلة فالأبعاض المتماثلة أولى بالاشتراك في ذلك الوجه الخامس عشر أن يقال قولك إما تكون متماثلة الماهية أو مختلفة الماهية تقسيم غير حاصر لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير ونحن لا نسلم أن الواحد منها يقال إنه عين الآخر حتى يقال إنه مثله أو خلافه ولا يقال هو هو كما يقوله كثير من الصفاتية أو أكثرهم في العلم والقدرة والحياة إن أحدها وإن(4/150)
لم يكن عين الآخر فلا يقال إنه غيره ولا أنه مثله ولا خلافه لأن التماثل والاختلاف فرع التغاير فإن الغيرين إما أن يكونا مثلين أو خلافين والخلافان إما أن يكونا ضدين أو خلافين غير ضدين وإذا كان كذلك فالمتغايران ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر ولا ينقض هذا بالخالق والمخلوق فإن الله يجوز وجوده بدون المخلوق وصفات الحق لا يجوز وجود بعضها دون بعض فلا تكون متغايرة ولا توصف بتماثل ولا اختلاف الوجه السادس عشر هب أن يقال إنها غير متماثلة بل هي مختلفة أو بعضها مختلف وبعضها غير مختلف حيث وردت النصوص بأسماء تقتضي حقائق غير متماثلة كقوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقول النبي صلى الله عليه وسلم المقسطون(4/151)
على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وقوله يقبض السموات بيمينه والأرض بيده الأخرى وفي رواية(4/152)
في الصحيح والأرض بشماله إلى سائر ما ورد في هذا الباب مما يطول وصفه فإما أن يجب تحللها إلى أجزاء متماثلة أو لا يجب فإن وجب ذلك جاز على كل شيئين مختلفين أن يصيرا متماثلين بل وجب منهما أن يكونا متماثلين فإنه إذا وجب تحللهما إلى الأجزاء المتماثلة التي يجوز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر فقد وجب أن يجوز على أجزاء كل واحد ما جاز على الآخر ومن الجائز على أجزاء كل واحد التباعد والتلاقي كما ذكره فيجب فيه جواز تفرق أجزائه وجواز أن يسد كل واحد منهما مسد الآخر وذلك يستلزم أن يجوز على كل مختلفين أن يكونا متماثلين فقد اشتركا في أنه يجوز أن يجب ويمتنع ويجوز على أحدهما ما جاز على الآخر فإذا اشتركا في جواز ذلك لزم من ذلك محالات منها أن يشتركا في جواز الممتنع والجائز لا يكون ممتنعاً بل هو نقيضه فيكونا قد اشتركا في جواز النقيضين عليهما(4/153)
وأيضاً فإنه إذا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر ووجب ما يجب له وامتنع عليه ما يمتنع عليه ولو بواسطة يتماثلان فيها لزم أن يكونا متماثلين وذلك يقتضي أن يكون كل مختلفين متماثلين وهذا قلب للحقائق وتبديلها وهو من أعظم السفسطة وهذا على أصله لازم من وجه آخر فإن عنده جميع الأجسام متماثلة فإذن ليس في الأشياء التي لها أجزاء أشياء مختلفة بحال فقوله تلك الأجزاء إما أن تكون متماثلة أو مختلفة إنما هو تقدير وإلا فعلى أصله لا تكون إلا متماثلة ليس في الأجسام عنده ما هو غير متماثل وإن كان في هذا من السفسطة ومكابرة الحس والعقل ما فيه مع مخالفة نصوص القرآن التي تثبت عدم تماثل الأجسام كقوله تعالى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ {38} [محمد 38] ونحو ذلك مما تقدم ذكره وإن لم يجب تحللها إلى أجزاء غير منقسمة بطل ما ذكرته الوجه السابع عشر أن يقال قولك كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فإنه لابد أن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء لا تركب فيها يصح أن يمس كل منهما بيمينه ما يمسه(4/154)
بيساره لا يخلو إما أن يدخل رب العالمين في هذه القضية على تقدير كونه على العرش أو لا يدخله فإن لم يدخله لم يكن هذا حجة ولم يكن في هذا الكلام فائدة وإن أدخله في هذا القياس الشمولي فقد ضرب لله مثلاً بكل جسم حقير وغير حقير حين مثَّله بالبعوضة ونحوه مما فيه أجزاء مختلفة وهذا فيه إشراك بالله تعالى وعدل لله وجعل أنداد له وجعل سمي له وكل ذلك ممتنع على الله تعالى ولا يقال هذا إنما هو إشراك به وتمثيل على هذا التقدير لأنه يقال بطلان هذا التقدير يكون ممكناً إمكاناً ذهنيّاً فيجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر فلا يجوز أن يُجعل لله شريكٌ على تقدير يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر قبل أن يعلم انتفاؤه وإذا علم انتفاؤه لم يكن هذا موجباً للعلم بانتفائه لكن قد يقال هذا دليل ثانٍ فيقال هذا التقدير عند منازعيك حق لأن القرآن والعقل قد دل على أن الله فوق العرش فإذا كنت قد جعلت لله أنداداً وأمثالاً وسميّاً على هذا التقدير الذي ثبت بالكتاب والعقل فقد ثبت بالكتاب والعقل أنك جعلت لله عدلاً وسميّاً ومثلاً أيضاً فيقال لك في(4/155)
الوجه الثامن عشر من أين لك إذا كان الله فوق العرش وقلت كونه يجب أن يكون جسماً فيه حقائق غير متماثلة أن يكون مساوياً لجميع الأجسام المؤلفة من أجزاء مختلفة ليس العلم بهذا إلا محض قياس الله تعالى على خلقه وتمثيله بهم وهو باطل وتقرير ذلك بالوجه التاسع عشر وهو أن يقال ما تنازع فيه الناس من الصفات نفياً وإثباتاً هل يسوغ لمن يثبته أن يمثل الله بما ثبت له من تلك الصفات من جميع المخلوقات أم لا يسوغ ذلك فإن ساغ ذلك ساغ أن يقال لو كان عالماً لكان بمنزلة جميع العلماء ولو كان حيّاً لكان بمنزلة جميع الأحياء بل يقال هذا فيما لا نزاع فيه مثل أن يقال لو كان موجوداً لكان بمنزلة سائر الموجودات بل يقال لو كان في الوجود موجود واجب لكان بمنزلة سائر الموجودات ومعلوم أن هذا باطل بالبديهة والحس فبطل إذا كان جسماًَ فيه حقائق أن يكون كسائر الأجسام المختلفة الأجزاء فإن قلت الفرق بينهما أن الأجسام متماثلة بخلاف العالمين والقادرين والموجودات قيل هذا باطل كما تقدم ثم إنه غير نافع لأن غاية هذا التقدير الذي نتكلم عليه أن(4/156)
تكون فيه أجزاء مختلفة الماهية وإذا كانت أجزاء الجسم مختلفة الماهية فهي مخالفة لغيره من الأجسام بطريق الأولى والأحرى وإذا كان الكلام على تقدير أن لا تكون الأجسام أجزاؤها متماثلة لم يجز أن تحتج على هذا التقدير بما يستلزم تماثل الأجسام لأنه يكون جمعاً بين النقيضين فظهر أنه إذا قيل هذا التقدير فكل جسم مركب من أجزاء مختلفة لم تعلم هذه القضية الكلية إلا بمحض تمثيل الله بخلقه المستلزم أن يمثل إذا سمي باسم أو وصف بوصف بكل مسمى أو موصوف بذلك الاسم والصفة وأن يكون مثله في حقيقته وفساد هذا معلوم بالبديهة والحس وهو من أعظم وأغلظ الكفر ولهذا كانت الأمثال المستعملة في جانب الربوبية في الكتاب والسنة وكلام العلماء هي من باب الأولى وهو أن ينزه بعض خلقه عن بعض كالشريك والبنات والفقر فيقال الله أحق بهذا التنزيه عن ذلك أو يوصف بعض خلقه بصفة كمال كالعلم والقدرة والكلام فيقال الله أحق بذلك وهذه طريقة الأنبياء وأتباعهم أما إدخال الله وغيره من المخلوقات تحت قضية كلية تتضمن قياس(4/157)
شمول وكل قياس شمول متضمن لقياس تمثيل فإن هذا(4/158)
لا يجوز لا لما يثبت من الصفات ولا لما ينفي الوجه العشرون يقال لك لا نسلم أن كل جسم مركب من أجزاء مختلفة الماهية فلابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء مبرأة عن التركيب يصح أن يماس كل واحد ما يماسه الآخر فإن اعتصمت في هذا بقياس الغائب على الشاهد ذكرت لك الفوارق من وجوب وجود احدهما وقدمه وغناه وغير ذلك دون الآخر كما يفعل في سائر الأقيسة الفاسدة وليس معك حجة على هذا العموم سوى ما يحتاج فيه إلى القياس وهذا يظهر بالوجه الحادي والعشرين وهو أن يقال ما تعني بتحليل تركيبه إلى أجزاء أتعني به أنه لابد أن يتفرق أو يقبل التفرق إلى تلك الأجزاء فهذا ممنوع وهو محل النزاع فكيف تحتج بالشيء على نفسه فتصادر على المطلوب أم تعني بالتحليل اشتماله على الأجزاء كاشتمال الأصل على هذا الجزء وغيره فلا يخلو إما أن يريد بالجزء المبرأ عن التركيب أن يكون بسيطاً عن ذلك التركيب وإن كان أجزاءً متشابهة أو يريد به(4/159)
أنه لا تركيب فيه بحال فإن أردت هذا فيكون مضمون الكلام أنه لابد وأن يكون فيه الجوهر الفرد وأنت قد وافقت أذكياء العالم على التوقف في إثبات الجوهر الفرد وإن كان ثبوته غير معلوم لك لم يجز أن تدعي في جسم من الأجسام المختلفة وجوب اشتماله على الأجزاء التي لا تركب فضلاً عن أن تدعي ذلك في رب العالمين وأيضاً فإنك قد ذكرت بعد هذا أن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد أن يماس كل واحد بيمينه شيئاً وبيساره شيئاً آخر لكن يمينه مثل يساره وهذا تصريح منك بأنه يقبل القسمة وأنه يشتمل على شيئين متماثلين وهذا ينفي الجوهر الفرد فقوله لابد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء يكون كل واحد منها مبرءاً عن هذا التركيب لأن التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات مع قوله إذا ثبت هذا فنقول إن كل واحد من تلك الأجزاء البسيطة لابد وأن يماس كل واحد منها بيمينه شيئاً غير ما يماسه بيساره إثبات التركيب في البسيط المبرأ عن التركيب وهو الجوهر الفرد فيكون لازمه بين إثبات الجوهر(4/160)
ونفيه وذلك تلازم بين النقيضين وإن أراد المبرأ من التركيب من الأجزاء المختلفة وبالبسيط بما ليس فيه ذلك التركيب وذلك لا يستلزم أن يكون كل جزء جوهراً فرداً بل يكون كل من تلك الأجزاء بسيطا بحيث يكون في البسيط أجزاء مختلفة وهذا هو اقرب إلى إرادته فيقال لك تلك الأجزاء البسيطة هي في أنفسها مختلفة الحقائق كما ذكرت وإذا كانت مختلفة الحقائق لم يمتنع أن تشترك فيما يجب ويجوز ويمتنع وإذا امتنع أن تشترك في ذلك لم يلزم أن يماس أحدهما ما يماس الآخر وإذا فرض أن جوانب أحدهما متساوية إما لاستدارتها وإما لتساوي يمينها ويسارها لكن إن ما يجب أن يمس بيمينه ما يمس بيساره إذا كان ذلك الممسوس يجوز أن ينتقل عن يمين هذا على يساره وينتقل عن مماسة ما كان يماسه إذا كان عن يمين هذا إلى مماسة ما يماسه إذا صار عن يساره فإنه مع مماسته لهذا لابد أن يماس غيره وذلك إنما يصح أن لو كان يمين الأول ويساره من الآخر متماثلة والتقدير أن الأجزاء مختلفة في الحقائق فلا يلزم وإن كان كل منها بسيطاً متشابه الأجزاء إنما يباين جوهراً منها ما باين غيره إذ هذا غير معلوم إلا إذا كانت متماثلة والتقدير أنها(4/161)
مختلفة فوجب القطع بأن ما كان عن يمين أحدهما لا يلزم جواز كونه عن يساره نقيض ما ذكره فإنه إنما ذكر تساوي جانبي الممسوس لا الوسط وأغفل اختلاف جانبي المماسين وأن هذا المنتقل لابد أن يزيل واحداً عن حيزه وأن يماس حيزاً يخالف في الحقيقة الحيز الذي كان يماسه وهذا بيِّنٌ ولا حول ولا قوة إلا بالله(4/162)
فصل قال الرازي البرهان الثامن لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري وذلك لأنه بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو فلا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية على العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عالياً لا لذاته لكن تبعًا لكونه حاصلاً في تلك الجهة العالية على العالم وإذا كان كذلك فحينئذ يلزم أن يكون الباري ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وذلك محال فثبت أنه يمتنع أن يكون علوه على العالم بالجهة والحيز وذلك هو المطلوب والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال ومن الذي قال إن علو الباري على العالم شيء موجود منفصل عنه أو بشيء منفصل عنه مطلقاً هذا(4/163)
لا يقوله المنازع ولا يحتاج أن يقوله بل عندهم أن ذات رب العالمين فوق العالم وأنه سبحانه وتعالى العلي الأعلى المتعال بذاته لا يحتاج علوه إلى شيء غيره أصلاً ولا يكون علوه بشيء منفصل عنه وما علمت أحداً من هؤلاء يقول إنه يحتاج في علوه إلى شيء منفصل عنه وقول القائل إنه على العالم بالجهة والحيز لا يقتضي وجود شيء غير نفسه وغير العالم فإن الجهة من الأمور الإضافية كما تقدم والحيز يراد به ما هو داخل في مسمى اسمه وليس شيئاً خارجاً عنه ويراد به تقدير المكان وليس ذلك شيئاً وجوديًّا بل لا حقيقة له بحال إلا أنه مقدر مفروض كما يقدر الزمان قبل العالم وإنما يقصدون بهذه العبارة أنه بذاته فوق العالم ليست فوقيته مجرد القدرة كما تقوله الجهمية وإذا كان كذلك فليس هناك شيء هو أعلى من الله تعالى أو شيء يحتاج الله إليه في علوه بل الأمر عندهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الظاهر فليس فوقك شيء وقد تقدم(4/164)
الكلام على هذا غير مرة اعتراف هذا بأن الجهة والحيز ليس أمراً وجوديًّا وأنه ليس وراء العالم إلا العدم المحض فكيف يقال إن علو العدم المحض أكمل من علو الباري والعدم المحض لا حقيقة له بحال ولا وجود بل أحقر حقير في العالم وأسفل سافل هو خير منه ولا يوصف لا بعلو في الحيز ولا بسفول ولا شيء من ذلك الوجه الثاني قوله إنه بتقدير أن يحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم وتلك الجهة لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له قد قررت فيما تقدم أن العالم كري الشكل وإذا كان كذلك لم يكن له يمين ولا يسار بل ليس له إلا جهة المحدب وهو المحيط والباري خارج العالم فيمتنع أن يكون الباري إلا فوق العالم(4/165)
فقولك بعد هذا إذا كان عن يمين العالم أو يساره أسقط من قولك إذا كان داخل العالم فإن العالم له داخل وأما يمين أو يسار فليس له وفرض وجود موجود داخل العالم ممكن وفرض وجود موجود عن يمينه ويساره غير ممكن كما قررته الوجه الثالث هب أن سطوح العالم سميته يميناً أو يساراً مع كونه مستديراً بالنسبة والإضافة لكن سطوح العالم مستوية في العلو فليس شيء أعلى مما تقدره يميناً أو يساراً وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن فجعل الأعلى هو الأوسط وذكرنا أن هذا لا يتأتى إلا في الجسم المستدير لأنه يمكن أن يجعل وسطه أعلاه وكذلك ما يفرض متيامناً فيه أو متياسراً هو أيضاً يكون أعلاه وإن لم يكن وسطه فقوله بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم كلام باطل قد قرره هو وكما اتفق عليه أهل الحساب بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرشه على سمواته مثل القبة وقد قدمنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع من الحساب العقلي على أن الأفلاك(4/166)
مستديرة فبطل ما ذكره الوجه الرابع هب أنه يمكن فرض متيامناً عن العالم أو متياسراً وأنه لا يكون حينئذ فوق العالم فقد لا يسلم المنازع أن هذا الفرض يمكن في حق الله تعالى لأنه العلي الأعلى الذي يستحق العلو لذاته ولا يلزم من جواز انخفاض غيره عن بعض الموجودات جواز انخفاضه هو وإذا كان هذا الفرض غير معلوم الجواز أو هو ممتنع في حق الله تعالى لم يكن ما يلزم عليه لازماً لأن التقدير الممتنع يلزمه حكم ممتنع كما لو فرض أنه معدوم أو أنه غير عالم أو أن العالم فوقه أو أنه محتاج إلى خلقه وغير ذلك الوجه الخامس أن هذا الفرض هب أنه ممكن أو يقدر تقديراً فلِمَ قيل إن ما يكون متيامناً عن العالم أو متياسراً ولو كان غير الله يكون فوقه شيء قوله لأن تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال هذا تخليط فقولك الجهة التي في جهة العلو يقتضي شيئين أحدهما في الآخر وقولك لا يمكن فرض وجودها يقتضي أنها شيء موجود وقولك خالية عن العالم يقتضي أن فوق العالم شيء غير الله وهو موجود موصوف في العلو وهذا باطل بل كفر بإجماع المسلمين فإن الله خالق كل شيء(4/167)
والعالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فلو كان فوقه شيء موجود غير الله لكان ثَمّ موجود غير الله لم يخلقه الله بل هو مستغنٍ عن الله لا سيما وقد جعلت الله محتاجًا إليه وهذا لا يقوله عاقل فضلاً عن أن يقوله مسلم وقد تقدم الكلام على هذا بأبسط من هذا لما ذكر أن الله يحتاج إلى حيز في الأدلة العقلية ولما ذكر أن الحيز منها في الأدلة السمعية وفي غير ذلك الوجه السادس أنا قد قررنا غير مرة أنه ليس فوق العالمين إلا رب العالمين وليس هناك غيره ولا شيء يشاركه في العلو غيره بوجه من الوجوه فضلاً عن أن يكون هناك ما هو عالٍ عليه فقوله الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو يقال له لا جهة هناك إلا الله فهو الذي يشار إليه موجوداً والإشارة إلى موجود غيره هناك ممتنعة فإن كنت تعتقد أن هناك موجوداً يشار إليه فأبطل ما تعتقده وإلا فالناس لا يعتقدون هذا ومنازعة الإنسان فيما لا يعتقده تضييع زمان ونوع من الكذب والبهتان الوجه السابع قولك إن الحاصل في الجهة يكون عالياً(4/168)
لا لذاته لكن تبعاً لكونه حاصلاً في تلك الجهة العالية على العالم ممنوع بل باطل لأنه استحق العلو بذاته لا لأمر منفصل عنه كما استحق الأزلية بنفسه لا لأمر منفصل عنه فقول القائل إن علوه تبع لعلو الجهة كقوله إنه قديم لقدم الزمان وكلٌ من الخيالات الفاسدة بل هو الأول بنفسه الذي ليس قبله شيء وهو الآخر بنفسه الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر بنفسه الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن بنفسه الذي ليس دونه شيء الوجه الثامن هب أن الجهة في العلو أو الدهر في القدم شيء موجود تبع له فوجوده تبع لوجود الحق لا أن علو الحق وقدمه تبع له فإن ذلك يكون داخلاً في مسمى نفسه كما يقال إن الحيز هو جوانب المتحيز فإن كون الدهر هو عبارة عن قدمه فقدمه وحيزه داخل في مسماه وصفة من صفاته فلا يكون هو سبحانه تبعًا لصفاته ولو قدر شيئاً خارجاً عن صفاته لكان وجوده تابعاً لوجود الحق وكان الحق(4/169)
هو الموجب له فكيف يكون عالياً لا لذاته لكن تبعاً لكونه حاصلاً في تلك الجهة وهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والعادلون به علوًّا كبيراً فإن كلام هذا وأمثاله عدل بالله وإشراك به وجعل أنداد له وضرب أمثال له حيث جعل علوه وفوقيته على العالم بمنزلة علو الملك على سريره أو هو في هواء سطحه الذي قد سفل الرجل عنه فيكون دونه ويكون ذاك باقياً على علوه وجعل علوه محتاجاً إلى ما يعلوه به كما يحتاج الإنسان إلى السطح أو السرير فكلامه في علو الله تعالى يوجب أنه جعله مثل هذا العلو يجمع من التمثيل لله والعدل به ابتداءً ومن جحد علوه المستلزم لجحود ذاته انتهاءً ولهذا كان السلف والأئمة يصفون هؤلاء بالأمرين بأنهم ممثلون عادلون بالله(4/170)
وبأنهم معطلون جاحدون لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الذي قاله السلف والأئمة يلزمهم لزوماً لا محيد عنه وقد يظهر هذا تارة وكثيراً ما يظهر الأمران ولا ريب أنهم إنما عدلوا به في هذه المعاني لينفوها عنه ظانين أن هذا تنزيه لله وتقديس لم يقصدوا أن يثبتوا له مثلاً ولكن قدر المثل لينفوه لكن لزمهم التمثيل من وجهين أحدهما أنهم سووا بين الله وبين غيره في هذه المقاييس الشمولية المنطقية وهي الأمثال التي ضربوا له فجعلوه فرداً من أقراد تلك الأمور العامة وحكموا عليه بمثل ما حكموا به على سائر الأفراد حيث قالوا كل ما كان فوق غيره فلابد أن يكون كذا أو كل ما كان كذا فلابد أن يكون كذا وأيضا فإنهم مثلوه بغيره على ذلك التقدير وهو لا يكون مثلاً لغيره لا تحقيقاً ولا تقديراً من التقادير التي يقع فيها شبهة ونزاع على ذلك التقدير فـ علم أن له من الخصوص ما يقطع مماثلته لغيره الوجه الثاني أن هذه المعاني التي ينفونها هي ثابتة في نفس الأمر معلومة بالكتاب والسنة وبالفطرة والعقل وبالقياس أيضاً فإذا مثلوه فيها بالمخلوقات فقد صرحوا بجعل الأنداد(4/171)
له الأمثال والأسماء ثم إنهم عطلوا فجحدوا الحقائق التي هي ثابتة للرب وعطلوا ما في الكتاب والسنة والإجماع من بيان ذلك والدلالة عليه وعطلوا ما في القلوب من المعرفة الفطرية والقياسية فصاروا معطلين للحقيقة الخارجية والعلوم الثابتة بالنبوات المعروفة بالقلوب فعطلوا الشرع والعقل جميعاً مع دعواهم العقليات كما عطلوا التوحيد مع دعواهم أنهم هم الموحدون الوجه التاسع أن يقال قد قلت لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو الجهة أكمل من علو الباري ولم تذكر على ذلك حجة إلا قولك لأنه بتقدير أن تحصل ذات الله في يمين العالم أو يساره لم يكن موصوفاً بالعلو على العالم أما تلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن هذا العلو فثبت أن تلك الجهة عالية عن العالم لذاتها وثبت أن الحاصل في تلك الجهة يكون عالياً لا لذاته لا تبعاً لكونه حاصلاً في الجهة(4/172)
فيقال لك أنت قد قدرت تقديراً أن الباري عن يمين العالم أو عن يساره ولم تذكر دليلاً على امتناع ذلك في الجهة وكل واحدة من هاتين الدعوتين ممنوعة فلا نسلم لك إمكان هذا التقدير في حق الباري ولا امتناعه في الجهة أو لا أسلم لك مجموع إمكان هذا وامتناع هذا بل قد يشتركان في الإمكان أو الامتناع فهذا المنع له ثلاث موجبات أحدها إمكانهما جميعاً والثاني امتناعهما جميعاً والثالث إمكان تيامن الجهة وتياسرها وامتناع تيامن الباري وتياسره فلم تذكر حجة تنفي واحداً من هذه الوجوه ونحن نذكر توجيه هذه الأجوبة فنقول الوجه العاشر أن الجهة والحيز إما أن تكون وجودية أو عدمية فإن كانت عدمية لم يجز أن توصف بعلو على العالم ولا سفول ولا يقال إن علو الباري تبع لها ولا أنه محتاج إليها ولا شيء من هذه الأمور فبطلت الحجة وإن كان الحيز والجهة أمراً وجوديًّا فمن المعلوم أنه إذا قدر تيامن الرب وتياسره فتقدير تيامن ذلك الشيء الموجود المسمى بالحيز والجهة أولى بالتيامن والتياسر فإن ذلك إن كان من صفات الرب الداخلة في مسمى اسمه فهي تبع له وإن كان(4/173)
شيئاً منفصلاً كالعماء أو العرش أو ما يقدر فإن تقدير التحول على هذا أولى من تقديره على الله فإن انتقال هذا وتحوله أولى بالجواز من انتقال الله تعالى وتحوله ولهذا لم ينازع في هذا المسلمون الذين ينازعون في جواز الحركة والانتقال على الله بل يجوزون ذلك على العرش وغيره وينازعون في جوازه على الله فظهر أن تقدير تيامن الحيز والجهة وتياسره أولى من(4/174)
تقدير ذلك في الرب وإذا كان كذلك فقوله إنه بتقدير أن يحصل ذات الرب في يمين العالم أو يساره لا يكون موصوفاً بالعلو وتلك الجهة التي في جهة العلو لا يمكن فرضها خالية عن العلو باطل قطعاً بل إن كانت شيئاً يحتمل الصفات بوصف العلو ويكون في الجهة فإن خلوه عن صفة العلو أولى من خلو الله عن صفة العلو على كل تقدير وإن كان شيئاً لم يحتمل هذه الصفة ولا يكون في جهة فهذا عدم لا يقال فيه إنه عالٍ عن العالم فضلاً عن أن يقال إن علوه لذاته وعلو الباري تبع له الوجه الحادي عشر أن كثيراً من المسلمين من الصفاتية الذين يقولون إن الرب فوق العالم وفوق العرش يقولون إنه لا يجوز عليه الحركة والانتقال ولا يتصور أن يتيامن أو يتياسر فضلاً عن أن يكون خالياً عن صفة العلو فيكون ما قدرته في حق الباري ممتنعاً بل أصحابك الذين يقولون إنه فوق العرش يقولون بذلك وإذا كان هذا التقدير ممتنعاً عندهم(4/175)
كان أدنى أحواله أن يكون كما ادعيته من علو الجهة أنها عالية لذاتها لا يمكن فرضها خالية عن هذا العلو فكيف وقد تقدم بيان أن الأمر ليس كذلك وإذا كان على أسوأ التقديرين يكون كل منهما مما يمنع زواله فيكون علو كل منهما لذاته فلا يكون علو الجهة أكمل من علو الله ولا يكون مستكملاً بها بل إن امتنع عليه الحركة والزوال امتنع تحوله عن العلو فإذا كنت في هذا المقام لو أشركت بالله فجعلت الجهة له عدلاً وشبهاً في مشاركتها له في العلو الذاتي لكان هذا الإشراك خيراً من أن يفضل علو الجهة على علوه ويجعل علوها بنفسها وعلوه بها يتبين أن الذي قلته أقبح من هذا الشرك ومن جعل الأنداد لله كما أن جحود فرعون الذي وافقتموه على أنه ليس فوق السموات رب العالمين إله موسى جحود لرب العالمين ولأنه في السماء كان أعظم من شرك المشركين الذين كانوا يقرون بذلك ويعبدون معه آلهة آخرى كحصين الخزاعي لما كان مشركاً وأمثاله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم كم تعبد اليوم(4/176)
إلهاً قال سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء فلا ريب أن شرك هذا أخف من جحود فرعون مع أن هذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فهو يعتقد أن الإله الذي في السماء أعظم من تلك(4/177)
الآلهة فأنتم لم ترضوا أن تجعلوا علو الله أكمل من علو غيره ولا جعلتموه مثل علوه بل جعلتم علو الغير أكمل من علوه وهو يحتاج إلى ذلك الغير الذي هو مستغنٍ عنه وكل هذا إفك وبهتان على رب العالمين الوجه الثاني عشر أن المسلمين الذين يجوزون عليه النزول والمجيء والإتيان والحركة قد يوافقون الأولين في أنه لا يكون إلا عالياً حتى يقولوا إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش ويقولون وصفه بهذه الصفات لا ينافي علوه فهؤلاء أيضاً يوجبون له العلو ويقولون إنه عالٍ بذاته ويمتنع أن يكون غير عالٍ وإن جوزوا عليه الحركة والانتقال وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لا نسلم إمكان خروج الله عن صفة العلو(4/178)
بوجه من الوجوه حتى يقدر له تيامن أو تياسر يخرجه عن يكون موصوفاً بالعلو بل هذا ممتنع عندهم فإذا كان كذلك كان قولهم مثل قول إخوانهم المتقدمين في توجيه المنع فيقولون لا نسلم أن علو الجهة يكون أكمل من علوه وأنه محتاج إليها هذا لوكانت الجهة أمراً يمكن وصفه بالعلو بحيث يحتمل أن يكون في ذاته عالياً وإلا فإذا لم يكن كذلك بطل أصل الكلام الوجه الثالث عشر أن يقال هب أنه سلم لك أنه قد يتيامن أو يتياسر بحيث لا يكون موصوفاً بالعلو لكن لا يسلم أن الجهة التي توصف بالعلو لا يمكن فرض وجودها خالية عن العلو فإن الذي يحتمل صفة العلو لا يكون إلا موجوداً إذا المعدوم لا يحتمل الصفات ولا يقال إنه في جهة العلو ولا في جهة السفل ولا في شيء من الجهات وإذا كان موجوداً كان تقدير خروجه عن صفة العلو أولى من تقدير كون الله ليس موصوفاً بالعلو على كل وجه من الوجوه فإن التحول والانتقال وجوازه على المخلوق أولى من جوازه على الخالق الوجه الرابع عشر أن كونه موصوفاً بعلو ذاته على العالم إما أن يكون واجباً له أو لا يكون فإن كان واجباً له فأنتم معاشر الجهمية من أعظم الناس سلباً لهذا الواجب عنه(4/179)
وتقولون إن علوه إنما هو بالقدرة فقط فإن الذي يقول إنه تارة يكون عالياً بذاته على العالم وتارة يكون غير عالٍ بل إما متيامناً متياسراً أو غير ذلك مع كونه عالياً بالقدرة التي أثبتموها في الحالين هو أعظم وصفاً لله بصفة الكمال منكم حيث أثبت له العلو الذي أثبتموه وزاد عليكم بأن أثبت له من العلو الذي هو كمال ما لم تثبتوه أنتم ثم هو مع هذا إذا وصفه وزاد عليكم بأن أثبت له من الذي هو كمال ما لم تثبتوه أنتم ثم هو مع هذا إذا وصفه بما يقتضي أن يكون علو الجهة أكمل منه مثل تجويز عدم العلو عليه بعض الأوقات هو أحسن حالاً منكم فليس لكم أن تبطلوا قوله بتصحيح قولكم فإن كان علو ذاته على العالم ليس بصفة الكمال لم يصح أن يقال علو الجهة أكمل من علوه لأن التفضيل في الكمال يقتضي الاشتراك(4/180)
فيه فإذا كان كل واحد من علو ذاته على العالم ومن علو الجهة على العالم ليس هو صفة كمال لم يكن أحدهما أكمل من الآخر فبطلت هذه الحجة وظهر أن هذه الحجة باطلة على التقديرين ولله الحمد الوجه الخامس عشر أن يقال أنتم تقولون ليس علوه إلا علو القدرة فإذا قدر أنه جعل نفسه متيامناً عن العالم أو متياسراً بل جعل نفسه في غمام بل جعل نفسه تحت العرش ونحو ذلك مما فيه علو شيء فوقه مع كونه مقتدراً على ذلك وعلى كل شيء ومقتدراً على تغيير كل شيء وتحويله وجعل العالي سافلاً وجعل السافل عالياً لم يخرج بذلك عما يستحقه من صفة العلو عندكم وخروجه عن العلو بالجهة لا ينافي الكمال عندكم فلا يكون في ذلك نقص بحال حتى يكون مستكملاً وغير مستكمل ولو قيل إنه في الجهة أو قيل إنه واجب أن يكون في الجهة أو واجب أن يكون متحيزاً فإن الذي قد يقول هذا قد لا يقول إن ذلك صفة كمال بل هو جائز عليه كما يجوز ما يجوز من أفعاله وكما تجوز رؤيته وذلك ليس بنقص فأنتم موافقون على أن كونه غير عالٍ بالجهة ليس بصفة نقص فالذي يقول إنه عال إذا قال لكم سواء في حقه علا على العالم أو لم يعل وسواء كان في الجهة أو لم يكن هو في(4/181)
الحالين غير موصوف بصفة نقص بل هو موصوف بالقدرة على هذا كله فإن هذا القائل أثبت له من صفة القدرة التي هي العلو عندكم أعظم مما أثبتموه ولم يثبت له نقصاً بحال وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون علوه بالجهة لا كمالاً ولا نقصاً إذا كانت قدرته كاملة على التقديرين وهو العلو عندكم وإذا كان كذلك لم يكن ما هو أعلى منه لو كان موجوداً أكمل منه ولم يكن هو مستكملاً بذلك الغير لأن ذلك فرع كون ذلك كمالاً وهذا قد وافقتموه على أنه ليس بكمال وهو قد وافقكم على ما هو كمال وأثبته أكمل مما أثبتموه فلا يلزم من قال إنه على العرش أن يكون غيره أكمل منه ولا أنه مستكمل بغيره الوجه السادس عشر أن يقال هب أن العلو بالجهة كمال فأنتم تقولون إن العلو بالقدرة أكمل منه فإذا وافقكم موافق على هذا وقال علو القدرة أكمل من علو بالجهة وكل شيء موجود سواء كان حيزاً أو جهة أو شيئاً غير ذلك فإن الله قادر عليه مدبر له قاهر له فإذا قدر أنه تيامن أو تياسر أو نزل حتى يجعل شيئاً أعلى منه بالجهة فهو أعلى من ذلك الشيء بالقدرة والربوبية والتدبير وهو الذي جعله في تلك الجهة بمشيئته واختياره وذلك الشيء مفتقر إلى الله عز وجل والله غني عنه وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون أكمل من الله في العلو ولا أن يكون الرب مستكملاً به وأن الرب خرج عن صفة العلو(4/182)
مع لزومها لذلك بل الرب موصوف بالعلو الحقيقي عندكم على ذلك والقهر له والتدبير وذلك موصوف بأنه تحت حكم الله وأمره فإذا شاء الرب أن يرفع جهته مع كونه مدبراً له لم يلزم أن يكون هذا نقصاً على الأصول التي سلمتموها كما يضربون به المثل فيقولون إن الملك هو أعلى من رعيته وإذا كان مكان بعض رعيته فوق مكانه ولهذا يقال لمجلسه المجلس العالي والسامي وإن كان مجالس بعض رعيته أعلى حيزاً منه فإذا كان الأمر كذلك فقولك لو كان علو الباري على العالم بالحيز والجهة لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري أتريد به أن علوه ليس إلا بالجهة فقط ليس هو قادراً على العالم مدبراً له أم تريد أن علوه بالجهة مع ما له من العلو بالقدرة فإن أردت الأولى فهو أعظم الكفر وأبطل الباطل ولا يقوله مسلم ولا عاقل يقر بالصانع بل المؤمنون متفقون على أن الله قادر على العالم وليس العالم قادراً عليه فإذا ضموا إلى ذلك أنه عال بالجهة والحيز وفرض أن من العالم ما علا عليه بعض الأعيان بالجهة فقط بل لو علا عليه دائماً بالجهة فقط مع علو الرب عليه بالقدرة لكان علو الرب أكمل من علو ذلك فكيف إذا كان الرب هو الذي دبره وهو الذي علاه(4/183)
وبمشيئته وأمره يكون جميع شئونه الوجه السابع عشر قولك يلزم أن يكون الباري ناقصاً بذاته مستكملا بغيره إنما يصح إذا كان الحيز والجهة غيراً له وذلك إنما يصح لو كان الحيز والجهة أمراً منفصلاً عنه فأما إذا كان الحيز هو حده ونهايته فالجهة كونه بحيث يشار إليه لم يكن هناك غيراً له عند الصفاتية الذين يقولون ليست صفاته غيره ومن سمى هذا غيراً كان قوله مستكملاً بغيره كقوله مستكملاً بعلمه وقدرته وحياته وذلك مثل قوله مستكملاً بنفسه وهذا ليس بممتنع بل هو واجب كالكلام في كماله كالكلام في وجوده وقد تقدم الكلام في قول القائل هو واجب بنفسه وما يدخل في ذلك من صفاته وأنه لا يكون موجوداً إلا بما تستحقه ذاته من صفاته بل لا يكون موجود قط إلا كذلك ففرض عدم ذلك جحد لجميع الموجودات وتكلمنا على لفظ الغير والحيز والافتقار ونحو ذلك وكذلك القول في(4/184)
قول القائل هو مستكمل بغيره إذا فسر ذلك الغير بما هو من صفاته اللازمة لم يكن ذلك ضارًّا بل أمر واجب فإن الكمال لا يكون بأمور وجودية لا يكون بالأمور العدمية وهو سبحانه كامل بتلك الأمور الوجودية التي حقيقته وذاته عليها الوجه الثامن عشر أن ذلك الغير الذي جعلته مستكملاً به أو غير غني عن الله أم غير مفتقر إلى الله إن قلت إنه غني عن الله فليس في الوجود شيء غني عن الله بل جميع الكائنات مفتقرة إليه وإن قلت بل هو المفتقر إلى الله كان معنى قولك إنه يكون مستكملاً بما هو مفتقر إليه والأمر المفتقر إليه إما أن يكون من لوازم ذاته وإما أن يكون كائناً بمشيئته واختياره فيعود الأمر إلى أنه مستكمل بذاته ومشيئته التي هي من لوازم ذاته فيكون ذلك الاستكمال بذاته كما تقدم وحينئذ فلا يصح قولك ناقص لذاته ومستكمل بغيره لأن ذاته مستلزمة لذلك الكمال فلا يتصور نقصها الوجه التاسع عشر أنك زعمت في نهايتك أن امتناع النقص على الله لم يعلم بالعقل وإنما ثبت امتناع النقص عليه إذا أثبته بالإجماع وقد تقدم بعض حكاية ألفاظه في ذلك وقال في مسألة السمع والبصر لما احتج أصحابه بأن ضد ذلك(4/185)
نقص وقال في الأسولة على الحجة ولئن سلمنا أن ضد السمع والبصر نقص فلما قلتم إن النقص على الله محال قال واعلم أن أجود ما قيل في بيان هذه المقدمة بالإجماع وعلى هذا تصير الدلالة السمعية لأن الذي يدل على كون الإجماع حجة إما الآيات وإما الأخبار وإذا كان الأمر كذلك كان المستمسك في الابتداء بالآيات الدالة على كونه سميعاً بصيراً أولى من ذكر هذه الطريقة الطويلة والإجماع لم ينعقد على أمور معينة بل كل مسلم ينزه الله عما يعتقده نقصاً وإذا كان هذا فالجهة فيها نزاع عظيم بين الناس وأكثر المسلمين بل أكثر العالمين بل سلف الأمة وأئمتها يقولون بأن الله تعالى فوق العالم وعلى العرش فإن كان هذا نقصاً لم يكن قد انعقد الإجماع على نفيه وأنت قد زعمت أن العقل ينفي عنه النقص فلا يكون معك حجة على نفي هذا الذي سميته نقصاً لا من عقل ولا من سمع ولا يصح قولك وذلك محال هذا لو كان هذا الذي سميته نقصاً مستمراً(4/186)
فكيف إذا كان فيه استكمال بالغير فإنه من المعلوم أن الناقص المستكمل بغيره خير من الناقص الذي ليس مستكملاً لا بنفسه ولا بغيره وبهذا الوجه وأمثاله يتبين أن هؤلاء الجهمية مع ما هم عليه من التعطيل الذي زخرفوه بثوب التنزيه فإنهم لا ينزهون الله تعالى عما يجب تنزيهه عنه من النقايص والعيوب بل يصفونه بالفقر والحاجة وبغير ذلك من الصفات كما بيناه في غير هذا الموضع ويعترف أئمة كلامهم أن العقل لا يقتضي تنزيه الله عن النقص وإنما يأخذون مقدمات سلمها لهم المسلِّمون فيحتجون بها على المسلِّمين في إبطال دينهم وهذا شأن المنافقين الذين يجادلون بكتاب الله تعالى كما في الحديث موقوفا على عمر ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلين وكما في حديث عبد الملك بن عمير عن ابن أبي ليلى(4/187)
عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تفتح عليكم ورواه أن أبي حاتم والنجاد وغيرهما من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق(4/188)
بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم وهذا مشهور من حديث كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قيل وما هي يا رسول الله قال زلة العالم وحكم جائر وهوى متبع وروي من حابر وحديث الأئمة والمضلين محفوظ وأصله في الصحيح فروى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أخوف ما أخاف على أمتي بعدي الأئمة المضلون(4/189)
ويروى من حديث أبي الدرداء وشداد ابن أوس وأما اللفظ الذي ذكرناه فهو محفوظ عن عمر بن الخطاب من حديث ابن المبارك ووكيع وغيرهما عن مالك بن(4/190)
مِغوَل سمعت أبا حصين يذكر عن زياد بن حدير قال قال عمر بن الخطاب يهدم الإسلام زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وفي مسند الإمام أحمد ثنا يزيد بن هارون ثنا ديلم بن غزوانا لعبدي ثنا ميمون(4/191)
الكردي عن أبي عثمان النهدي قال إني لجالس تحت منبر عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال في خطبته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان وفي رواية أخرى يتكلم(4/192)
بالحكمة ويعمل بالفجور ورواه من حديث مالك بن دينار عن ميمون ولفظه حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم ورووا عن عمر بن الخطاب أنه قال أخوف ما أخاف على هذه الأمة الذين يتأولون القرآن على غير تأويله(4/193)
ومن المشهور عن عمر أنه قال إذا جادلكم أهل البدع بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أهل السنن أعلم بكتاب الله تعالى منهم فإن المنافق لا يعتقد وجوب اتباع الكتاب والسنة واتباع الإجماع إذ ليس في باطن الأمر متدين باتباع النص والإجماع بل يأخذ من النص والإجماع ما يحتج به(4/194)
على المؤمنين في تنفيق نفاقه وترويج غشه وتلبيسه وإذا كان كذلك فما يرفع الله به الدرجات كما رفع درجات إبراهيم ويوسف عليهما السلام أن يحتج عليهم بالحجج الدافعة لهم وأن يكيدوا كيداً حسناً لدفع كيدهم وعدوانهم على الإيمان وأهله فلا يمكنون من القدح في الإيمان بما يسلمه لهم المؤمنون بل إذا عارضوا ما يقوله المؤمنون من الحق بحجج يسلم لهم المؤمنون بعض مقدماتها بين لهم أن تلك الحجج عليهم لا لهم أو أنها على فساد قولهم وفعلهم أدل منها على ما عارضوه من الحق بل لو كان المتنازعان مبطلين كأهل الكتاب والمشركين إذا تجادلوا أو تقاتلوا كان المشروع نصر أهل الكتاب على المشركين بالقدر الذي يوافقهم عليه المؤمنون إذا لم يكن في ذلك مفسدة تقاوم هذه المصلحة فإن ذلك من الحق الذي يفرح به المؤمنون كما قال تعالى الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} [الروم 1-5] فإنها نزلت كما استفاض في التفسير والمغازي والحديث في اقتتال الروم النصارى والفرس(4/195)
المجوس كانت المجوس قد غلبت النصارى على أرض الشام وغيرها فغلبت الروم وفرح بذلك مشركو قريش لأن المجوس إليهم أقرب من النصارى لأن كليهما لا كتاب له واغتم لذلك المؤمنون لأن النصارى إليهم أقرب لأنهم أهل كتاب فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره لنبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سوف تغلب فارس بعد ذلك في بضع سنين وخاطرهم أبو بكر على هذا قبل تحريم ذلك وظهرت الروم على فارس بعد ذلك فهؤلاء الجهمية قد سلم لهم المؤمنون أن الله غني عن كل ما سواه فإنه سبحانه مقدس عن كلا نقص وأنه أحد لا مثل له والجهمية في الحقيقة لا يعتقدون فيه هذا المعنى ولا هذا التنزيه ولا هذه الوحدانية بل يثبتون له أمثالاً ويصفونه بالحاجة وما تستلزم الحاجة ولا ينزهونه عن النقائص والعيوب وقد يصرحون بذلك تارة وتارة بأنه ليس على ذلك دليل عقلي فالاتحادية منهم كصاحب(4/196)
الفصوص وغيره يصرحون بأنه موصوف بكل ما يوصف به كل موجود من عيب ونقص وغير ذلك وهؤلاء المتكلمون منهم كالرازي يصرحون بأن العقل لا ينفي عنه النقائص وبذلك يظهر أن تسميته لما عطله من الصفات تقديساً كتسمية(4/197)
الملاحدة تعطيلهم تقديساً وقد علموا أن المسلمين يقولون إنه منزه عن النقص فأخذوا هذا اللفظ يجحدون به ما يستحق من صفات الحمد زاعمين أن ذلك نقص كما زعم أن علوه على العرش نقص أو مستلزم للنقص كما زعم أنه مستلزم للحاجة وأنه مستلزم لعدم الوحدانية فتبين لهم صورة الحال وهو أن هذه الأمور التي يوافق المسلمون على نفيها وإن كنتم لا تقيمون على نفيها حجة عقلية هي على فساد قولكم أدل منها على فساد قول من ينازعكم من أهل الإثبات وإن كان مخطئاً في بعض ما يقوله إذا كان خطؤه أقل من خطئكم وهو مع ضلاله عن بعض الهدى أقرب إليه منكم وإذا كان الأمر كذلك قيل لك أولاً فهؤلاءالذين يزعمون أنهم ينفون عن الله النقص بكونه على العرش قد بينا أنهم يصفونه بالنقص إما تصريحاً وإما لزوماً ويصرحون بأن العقل لا ينفي النقص عن الله كانوا لم ينفوا ذلك إلا بالإجماع فلم يجمع المسلمون على قولهم فلا يكون معهم حجة على نفي كونه على العرش لو كان فيه ما زعموه من النقص(4/198)
والاستكمال بالغير فكيف والنقص إنما هو لازم على قولهم كما قد بين ذلك غير مرة وقيل لك ثانياً هب أن هذا متناقض لكن إذا كانوا قد جمعوا في قولهم من إثبات كونه على العرش وبين نفي كونه جسماً فإما أن يكون إثبات هذا ونفي هذا متناقضاً أو لا يكون فإن لم يكن متناقضاً صح قولهم وبطل قولك في نفي الجهة فإذا كان هذا متناقضاً لم يكن إلزامهم لوازم أحد النقيضين بأولى من إلزامهم النقيض الآخر فإن حقيقة هذا عند من يقول إنهم تناقضوا أنهم قد قالوا هو فوق العرش ليس فوق العرش وهو جسم وهو ليس بجسم ومثل هذا إما أن يجعل لهم قولين فيكون لهم قول بأنه فوق العرش ولوازمه وهو أنه جسم وقول بأنه ليس بجسم ولوازمه وهو أنه ليس فوق العرش أو يذكر قولهم المتناقض على جهته ولا يلزمون لوازم النفي دون لوازم الإثبات ولا لوازم الإثبات دون لوازم(4/199)
النفي بل يثبت اللازم كما أثبت الملزوم وإن قيل إن فيها تناقضاً وإذا كان كذلك لم يجز أن يلزموا بلوازم نفي الجسم المستلزمة نفي لوازم كونه على العرش فلا يلزموا بأن يكون متحيزاً أو غير متحيز فإن ذلك لا يلزمهم ما داموا جامعين بين النفي والإثبات وهذا بين ولهذا لا يزال هؤلاء وأمثالهم يميلون إلى النفاة من وجه وإلى المثبتة من وجه وقيل لك ثالثاً هب أن هؤلاء متناقضون في إثبات موجود ليس بجسم فوق العالم فقولك بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تناقضاً فإن قولك موجود يقضي ثبوت أحد الأمرين فإذا نفيتهما فقد نفيت لازم الوجود المعلوم بالفطرة الضرورية لاسيما وقد علم بالضرورة الفطرية أن الله فوق العالم وأن ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه فإنه لا يكون إلا معدوماً وقالوا لك رابعاً لا نسلم أن هذا تناقض بل قد علمناه بالضرورة الفطرية والضرورة الدينية والأدلة السمعية والعقلية أنه فوق العرش وعلمنا بما وافقتنا عليه من الأدلة العقلية وما(4/200)
تذكر في موافقتنا من الأدلة الشرعية أنه ليس بجسم وموجب الأدلة الصحيحة لا تتناقض وإذا لم تتناقض فإذا قدرنا فوق العالم ما ليس بجسم لم يمكن أن يكون في حيز كما تكون الأجسام وحينئذ ما تذكره من اللوازم في هذه الحجة وفي نظائرها من الحجج مثل لزوم كونه منقسماً أو جوهراً فرداً وكونه في حيز أو أكثر من حيز ممنوعة(4/201)
فصل وقد ذكر في نهايته على نفي الجهة حجة أخرى فنذكرها وإن كانت موادها داخلة فيما ذكرناه ليكمل ما ذكره في ذلك فقال المسألة الثانية في أنه ليس في الجهة قال وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسماً هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفى الجسمية أنّا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله(4/202)
ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات على سبيل التبعية فقد سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات ومتى ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالجهة والحيز وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الجهة والحيز يقال هذا الذي ذكره يمكن الجواب عنه بأن يقال لا يحصل في الجهة إلا الحيز أو ما قام به أو يقال لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال إلا الجسم أو لا يحصل في الجهة على سبيل الاستقلال أو التبعية إلا الجسم أو ما قام به وأي هذه(4/203)
العبارات قيل لم يكن ما ذكره دليلاً على إمكان أن يكون في الجهة قائم بنفسه غير الجسم ونحن نذكر حجته قال فنقول الباري تعالى لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد والأول باطل لأن الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الحيز الثاني أو غيره والأول باطل وإلا لكان الشيء الواحد حاصلاً دفعة واحدة في حيزين وهو محال ولو عقل ذلك فليعقل مثله في الجسم حتى يحصل الجسم الواحد دفعة واحدة في حيزين وأنه محال والثاني أيضاً محال أما أولاً فلأنه يلزم منه انقسام ذاته وهو محال على ما مر وأما ثانياً فلأن اختصاص كل جزء منه بحيزه إما أن يكون واجباً أو جائزاً والقسمان باطلان على ما سيأتي وأما إن قيل بأنه في حيز واحد فهو باطل لوجهين الأول بأنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه والثاني فلأن حصوله في ذلك الحيز إما أن يكون واجباً أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز(4/204)
لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أموراً وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضاً ولو كانت الأحياز أموراً وجودية لكان إما يمكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسماً فيكون الباري الحال فيه منقسماً أو لا يكون منقسماً فيكون ذلك الشيء مختصاً بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إلى الحيز الذي حصل الباري تعالى فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري تعالى لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه فإذاً لا يكون الباري في الجهة وهو المطلوب وأما إن لم يكن حصول الباري واجباً فاختصاصه بها لابد وأن يكون لفاعل مختار سواء إن كان بواسطة معنى أو لا بواسطة معنى وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فاختصاص الباري بالحيز محدث فهو إذاً في الأزل ما كان حاصلاً في الحيز والشيء الذي لا يكون كذلك استحال أن يصير محتاجاً إلى الحيز فثبت أن الباري يمتنع(4/205)
أن يكون في الأحياز والجهات قال ويمكن أن يعتمد في هذه المسألة أيضاً على أنه لو كان في الجهة لكان منقسماً لأن الجانب الذي منه يلينا غير الجانب الذي لا يلينا وذلك يوجب انقسام ذاته لكنا بينا أن الانقسام عليه تعالى محال فحصوله في الجهة والحيز أيضاً محال قال وهذا الكلام إنما يدفع القول بنفي الجزء الذي لا يتجزأ ولم يذكر في نهايته على نفي الجهة إلا هذا الكلام وقد تقدم ما ذكره على نفي الجسم وهذه الحجة هي مثل الحجة الرابعة التي ذكرها في تأسيسه لكن فيها حشواً وزيادة مستغنى عنها لا حاجة إليها وهؤلاء القوم من أعظم الناس إتياناً بحشو القول الكثير الذي تقل فائدته أو تعلم مضرته كما يروى فيهم عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أنا ضمين وذمتي(4/206)
رهينة لا يهيج على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على الهدى سنخ أصل وإن أبغض الناس إلى الله تعالى رجل قمش علماً حتى إذا ارتوى من ماء آجن وامتلأ من غير طائل سماه أشباهه من الناس عالماً فإن نزلت به إحدى الشبهات هيأ له حشو الرأي من قيله فلا هو سكت عما(4/207)
لا يعلم فيسلم ولا تكلم بما يعلم فيغنم تصرخ منه الدماء وتبكي منه الفروج الحرام ومن أحق الناس بهذا هؤلاء المتكلمون في أصول الدين بغير كتاب الله وسنة رسوله ويوقعون بين الأمة العداوة والبغضاء بما لا أصل له حتى قد يكفرون من خالفهم ويبيحون قتلهم وقتالهم كما يفعل أهل الأهواء من الخوارج(4/208)
والرافضة والجهمية والمعتزلة كما فعله هذا المؤسس في كتابه هذا وأمثاله حيث كفر الذين خالفوه وهم أحق بالإيمان بالله ورسوله منه بدرجات لا تحصى ولا حول ولا قوة إلا بالله ولهذا كان التكفير لمن يخالفهم من أهل السنة والجماعة من شعار المارقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما استفاض عنه من الأحاديث الصحيحة في صفة الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وفي رواية يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل(4/209)
الأوثان وهؤلاء الذين يدعون الإيمان لأنفسهم دون أهل السنة والجماعة من المسلمين كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة لهم نصيب من قوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وبعضهم مع بعض كما قال الله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {113} [البقرة 113] فهم كما قال الإمام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون(4/210)
للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب قد جمعوا وصفي الاختلاف الذي ذمه الله في كتابه فإنه ذم الذين خالفوا الأنبياء والذين اختلفوا على الأنبياء فآمن كل منهم ببعض وكفر ببعض قال في الأولين جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253} [البقرة 253] وقال في الثاني قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} [البقرة 176] وقال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} [آل عمران 105] وقال إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ [الأنعام 159] وقال وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119} [هود 118-119] وهؤلاء الجهمية معروفون بمفارقة السنة والجماعة وتكفير من خالفهم واستحلال دمه كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج لكن قولهم في الله أقبح من قول الخوارج وإن كان للخوارج من المباينة للجماعة والمقاتلة لهم ما ليس لهم مع أن أهل المقالات ذكروا أن قول الخوارج في الصفات هو قول الجهمية والمعتزلة هذا ذكره الأشعري وغيره من المعتزلة وهذا(4/211)
والله أعلم يكون قول من تأخر من الخوارج إلى أن حدث التجهم في أول المائة الثانية وأما الخوارج الذين كانوا في زمن الصحابة وكبار التابعين فأولئك لم يكن قد ظهر في زمنهم التجهم أصلاً ولا عرف في الأمة إذ ذاك من كان ينكر الصفات أو ينكر أن يكون على العرش أو يقول إن القرآن مخلوق أو ينكر رؤية الله تعالى ونحو ذلك مما ابتدعته الجهمية من هذه الأمة وقد تكلمنا على هذه الحجة في غير هذا الموضع بما فيه كفاية ونذكر ما يليق بهذا الموضع وذلك من وجوه أحدها أن قوله لو كان حصوله في جهة لكان إما أن يكون في أكثر من حيز واحد أو لا يكون إلا في حيز واحد(4/212)
يقال له أما الذين يقولون إنه فوق العرش وليس بجسم وهو أئمة أصحابك والكلابية وطوائف كثيرة من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وقد ذكر الأشعري أنه قول أهل السنة وأصحاب الحديث فيمنعون التلازم ويقولون لا نسلم أنه إذا كان في جهة بمعنى أنه نفسه فوق العرش لكان إما أن يكون في حيز واحد أو في أكثر من حيز فإن هذا التلازم إنما فيما إذا كان الذي فوق العالم جسماً أما إذا وافقتمونا على أنه ليس بجسم فإن التقدير يكون إذا كان فوق العالم ما ليس بجسم أو إذا كان في الجهة ما ليس بجسم فإنه إما أن يكون في حيز واحد أو أكثر ومعلوم أن ما ليس بجسم لا يكون في الحيز الاصطلاحي لا في واحد ولا في أكثر وهذا ظاهر واضح فإن قلت هذا متناقض فإنه إذا كان فوق العالم أو في الجهة وجب أن يكون جسماً قيل لك أولاً قد صدرت الكلام في هذه المسألة بأنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالحيز وإذا سلمت لهم لم يكن لك أن تنازعهم فيه فإن هذا رأس المسألة فيكون التقدير باتفاق منك ومنهم أن(4/213)
ما ليس بجسم إذا كان في الجهة بمعنى أنه يكون فوق العالم هل يكون في حيز واحد أو في حيزين يعني الحيز الاصطلاحي وهم يقولون إنه لا يكون في الحيز الاصطلاحي مع كونه فوق العالم ومع كونه في الجهة وهي جهة العلو الوجه الثاني أن يقال قولك في حيز واحد أو في أكثر من حيز يقتضي تعدد الأحياز وذلك ممنوع فإن الأحياز إما أن تكون وجودية أو عدمية وهي ليست وجودية كما قررته في هذه الحجة وفي غيرها وإذا كانت عدمية فالعدم المحض لا يتعدد ولا يقال فيه إما أن يكون واحداً أو اثنين فامتنع أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين ويتقوى هذا بالوجه الثالث وهو أن الحيز إما أن يكون وجودياً أو عدمياً فإن كان وجودياً جاز اختصاصه بأمر وجودي على سبيل الوجوب كاختصاصه بصفاته الواجبة له(4/214)
الوجودية وحينئذ فيبطل ما ذكره في الحجة من امتناع كونه في الحيز واجباً أو جائزاً وإن كان الحيز عدمياً لم يصح أن يقال إما أن يكون في حيز واحد أو في حيزين وهذا يقتضي بطلان أحد طريقيه اللذين ذكرهما في هذه الحجة أحدهما إما أن يكون في حيز أو حيزين والثاني امتناع كونه واجباً أو جائزاً يوضح هذا الوجه الرابع وهو أن أحياز المتحيز الوجودية اللازمة له هي حدوده ونهايته والعدمية هي ما يقال إنه تقدير المكان فإن أراد بالحيز الأمر الوجودي منعت الحجة التي منع فيها أن يكون له حيز واجب وإن أراد به الأمر العدمي منع انقسامه إلى واحد وكثير فإن قيل الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يتحدد ويتعدد باتحاد الحال وتعدده فإذا كان الحال فيه جوهراً واحداً كان واحدا وإن كان جواهر متعددة كان متعدداً قيل الجواب عن هذا هو الوجه الخامس وهو أن هذه المسألة قد صدّرها بالكلام في الحيز مع من يقول إنه ليس بجسم ومع هذا فإنه يكون مختصاً بالجهة وقد قال هو لما ذكر الحجة إذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يلزم من نفي كون الشيء جسماً نفي اختصاصه بالجهة والحيز(4/215)
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون الحيز مستلزماً لكون الحال فيه جسماً أو جوهراً فرداً أو لا يستلزم ذلك فإن كان الحيز مستلزماً لذلك لم يكن المختص بالحيز إلا جسماً أو جوهراً فرداً وحينئذ فيلزم من نفي كونه جسماً وكونه جوهراً فرداً أن لا يكون متحيزاً كما قد بفعله المؤسس وغيره أحياناً وهو خلاف الفرض فإن الفرض نفي الحيز والجهة بدون البناء على نفي الجسمية خلافاً لمن يقول ليس بجسم ولكنه في الحيز والجهة فإذا كان هذا الدليل لا يتم إلا بنفي الجسمية بطل هذا الدليل من أصله ومتى كان الحيز مستلزماً للجسم أو للجوهر الفرد لزم من نفي اللازم وهو الجسم والجوهر الفرد نفي الملزوم وهو الحيز وإن كان الحيز ليس مستلزماً للجسم والجوهر الفرد لم يلزم أن يكون الحال فيه جسماً ولا جوهراً فرداً وحينئذ فلا يلزم أن يقال ينقسم بانقسام الحال فيه إن كان جوهراً فرداً كان الحيز واحداً وإن كان جسماً كان أو أكثر من واحد فإن الحال فيه على هذا التقدير لا يكون جسماً ولا جوهراً فرداً وإن كان كذلك ظهر أن تقسيمه الحيز إلى واحد أكثر من واحد غير لازم على هذا التقدير ولا يصح الدليل على التقدير الأول وذلك يظهر بطلانه على التقديرين الوجه السادس أن يقال هب أنه لم يسلم أن الحيز مستلزم لكون الحال فيه جسماً ولم يسلم أن نفي الجسم لا يستلزم نفي(4/216)
الحيز لكن يقال انقسام الحيز إلى واحد أو أكثر من واحد إما أن لا يعلم إلا بأن يعلم أن محله جسم أو جوهر أو يعلم قبل العلم بحاله محله فإن لم يعلم اتحاده وتعدده إلا بالحال فيه لم يلزم إذا قيل إن الله في حيز أن يكون الحيز منقسماً إلى واحد وعدد حتى يثبت أنه يجب أن يكون الله جسماً أو جوهراً فرداً فيكون العلم بانقسام الحيز إلى واحد وعدد متوقفاً على العلم بأن الباري تعالى يجب أن يكون على هذا التقدير جسما أو جوهراً فرداً وهو لم يبين ذلك وإذا تبين ذلك كان نفي الجسم كافياً له في نفي كونه متحيزاً فلم يحتج حينئذ إلى تقسيم الحيز إلى واحد أو أكثر من ذلك فظهر أن هذا الذي ذكره لم يذكر عليه حجة ولو ذكر عليه حجة لم يحتج إلى ذكره وعلى التقديرين فلا يصلح ذكره لا مع الحجة ولا بدون الحجة على هذا التقدير وإن كان العلم بانقسامه إلى واحد أو عدد يعلم بدون أن يعلم أن محله جوهر أو جسم فليذكر ذلك أو لم يذكره فيتوجه المنع ثم إنه لا يصلح أن تحتج على ذلك إلا بكون الحيز ينقسم بانقسام الحال فيه والحال فيه لا يكون إلا جوهراً أو جسماً لأن التقدير أن انقسامه لا يتوقف العلم به على هذه الحجة الوجه السابع أن يقال وصف الشيء بأنه واحد وبأنه أكثر من واحد إما أن يستلزم كونه موجوداً أو لا يستلزم كونه موجوداً فإن استلزم كونه موجوداً لزم من هذا التقسيم أن يكون وجودياً وأنت قد ذكرت في تمام الحجة أنه ليس بوجودي وإن كان الوصف بأن وجودي وإن كان الوصف بأنه واحد وبأكثر من(4/217)
واحد لا يستلزم أنه موجود بطل ما ذكره فيما تقدم حكايته عنه من أن الجسم منقسم ليس بواحد فإنه بنى ذلك على أن الوحدة صفة قائمة بالجسم قال والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلا إذا كان المحل متعيناً متميزاً عن غيره فإنه إذا ثبت أن كون الموصوف واحداً أو أكثر لا يستلزم ان يكون موجوداً لم يلزم أن تكون الوحدة والكثرة صفة وجودية فإن المعدوم لا يوصف بالصفة الوجودية فإذا لم يجب أن تكون الوحدة وجودية لم يجب أن تقوم بالجسم ولا أن يكون عرضاً فلا يمتنع أن يكون الجسم واحداً وإذا كان الجسم واحداً مع عظمته ولم يكن فيه كثرة وجودية لم يصح أن يستدل بحلوله في الحيز على انقسام الحيز وتعدده وحينئذ فإذا لم يلزم من حلول الجسم في الحيز أن يكون الحيز متعدداً منقسماً في نفسه لم يلزم من حلول الرب في الحيز أن يكون منقسماً وجاز حلوله في الحيز الذي لا يقال إنه أكثر من واحد ولا يكون أقل القليل ولا يكون جوهراً فردًا وبالجملة فإذا لم يكن الجسم مشتملاً على كثرة مع كونه في الحيز فالباري أولى أن يكون كذلك وحيزه أولى بذلك وهو يبطل ما ذكره الوجه الثامن أن يقال الحيز في نفسه ليس إلا واحداً(4/218)
وليس هو في نفسه منقسماً ولا متكثراً وإذا كان كذلك لم يصح أن يكون الحال فيه إما أن يحل في حيز واحد أو في أحياز متعددة فإن هذا مقتضى أن الحيز فيه كثرة وهذا ممنوع وتوجيه ذلك أن الناس قد تنازعوا في الجسم هل هو واحد في نفسه أو هو متكثر فيه انقسامات حاصلة على قول كما تقدم حكايته وتقدم أن المؤسس لم يذكر على انقسامه وعدمه وحدته حجة وإذا كان الأمر كذلك مع أن الجسم يقبل الانقسام بلا نزاع فالحيز الذي لا يعقل فيه وجود الانقسام أولى أن لا يكون فيه كثرة ولا انقسام وهذا ظاهر بل يقال في الوجه التاسع إن انقسام الحيز في نفسه قبل حلول شيء فيه ممتنع قطعاً سواء قيل إن الجسم واحد أو منقسم في نفسه وذلك لأن الحيز هنا ليس المراد به شيئاً موجوداً كما قد قرره وإنما هو تقدير المكان وهذا هو مسمى الحيز في اصطلاح كثير من المتكلمين وإذا كان كذلك فمن الممتنع أن يتميز بعضه عن بعض قبل حلول ما يتقد ربه وهذا معلوم بالحس والضرورة العقلية ولا يقول قائل إن ذلك يتميز بالإشارة فإن الإشارة إلى العدم محال وإنما يشار إلى موجود وإذا كان الحيز لا يتعدد ولا ينقسم قبل حلول الحال(4/219)
فيه كان تعدده تابعاً لتعدد الحال فيه فإن لم يثبت كون الحال فيه جسماً منقسماً لم يكن منقسماً وإذا كان المنازع له يقول إن الحال فيه ليس هو جسماً أو هو جسم وليس بمنقسم في نفسه بطل انقسام الحيز ومن المعلوم أن القائلين بأنه متحيز يقولون هذا تارة وهذا تارة كما تقدم ذكر ذلك عنهم ومن قال إنه منقسم بمعنى يتميز بعضه عن بعض فجوابهم ما يقال في الوجه العاشر أن يقال الحيز الواحد هو ما يحل فيه الجوهر الفرد كما فسرته فيما بعد فإن الحال فيه يكون أقل القليل ويتعالى الله عن ذلك وإذا كان كذلك كان ثبوته مبنياً على ثبوت الجوهر الفرد وأنت قد اعترفت أنك وأذكياء الطوائف متوقفون فيه لتعارض الأدلة فيه وإذا لم يعلم ثبوت الجوهرالفرد لم يعلم ثبوت حيز واحد بهذا الصغر وإذا لم يعلم ذلك بطل العلم بأن الحيز إما واحداً بهذا التفسير وإما أكثر من واحد(4/220)
الوجه الحادي عشر أن يقال لك ما مرادك بالحيز الواحد وبأي شيء يتميز الحيز الواحد عما هو أكثر منه فإن أردت به ما يحله الجوهر الفرد لم يثبت توحد الحيز حتى يثبت الجوهر الفرد ويثبت حلوله فيه ومن المعلوم أن الجوهر الفرد لو كان ثابتاً في نفس الأمر فليس هو مما يحس به حتى يعلم حلوله في الحيز أو عدم حلوله بل أكثر ما يقال إنه داخل الجسم في حيز قد علمنا أن الجواهر التي خلقت فيه أيضاً لكن هذا لا يفيد تميز الحيز الواحد عن غيره ولا العلم به وإذا كان الحيز الواحد الذي أردته لا يتميز ولا يعلم به كان العلم بحلول الشيء فيه أو عدم حلوله باطلاً لأن العلم بحلول الشيء في محله فرع تصور المحل فإذا كان المحل لا يعلم توحده ولا يتميز كان الحكم بثبوت الحلول فيه أو عدمه حكماً باطلاً فيكون الدليل باطلاً الوجه الثاني عشر أن يقول لك المنازع إما أن تريد بالحيز الواحد ما يحل فيه الجوهر الفرد أو ما هو أكبر منه فإن أردت الأول فحلول الرب فيه محال كما ذكرته وكان المنازع يقول لك يحل في أكثر من واحد بهذا التفسير(4/221)
وأما قولك الحاصل في أحد الحيزين إما أن يكون هو الحاصل في الآخر أو غيره يقال لك لا هو هو ولا هو غيره أو لا يقال هو هو ولا هو غيره كما تقدم تقرير ذلك على اصل كثير من متكلمي الصفاتية أو أكثرهم غير مرة بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما دون الآخر أو ما جاز مفارقته له في مكان أو زمان أو وجود فحينئذ لا يرد ما ذكرته على كونه هو هو وكونه غيره وإن أردت بالواحد ما هو أكبر من محل الجوهر الفرد لم يكن الحال مستلزماً لأن يكون أقل القليل وقد بطل حجة الصغير وسيأتي الكلام على الوجوب والجواز الوجه الثالث عشر أن يقال هذه الحجة مشتملة على حجتين إحداهما حجة الانقسام أو الصغر وهي تعم الأقسام والثانية ما يخص قسماً قسماً مع ذلك ونحن نتكلم على الحجتين جميعاً فإحداهما حجة الانقسام والتركيب والأخرى هي من جنس حجة تماثل الأجسام وهاتان الحجتان هي جماع ما يذكره النفاة في هذا الباب فإنه يعود إلى ما يذكره من التركيب وإلى ما يذكره من التمثيل وقد تقدم فيما يمتنع من ذلك وما لا يمتنع وبينا أن سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ(4/222)
أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَد ُ {2} [الإخلاص 1-2] تنزهه عن الممتنع من هذين فاسمه الأحد منع التشبيه الممتنع عليه واسمه الصمد منع الانقسام والتركيب الممتنع عليه ولكن هؤلاء النفاة غلوا في ذلك وتعدوا حدود الله فيه فزادوا على الحق من الباطل شيئاً كثيراً كما أن من المثبتة من غلا في الإثبات وتعدى حدود الله حتى زاد على إثبات الحق زيادات باطلة والله يهدينا الصراط المستقيم وليس هذا موضع الشرح والبسط لما تضمنته هذه السورة العظيمة من أصول التوحيد والإيمان فإنها كثيرة عظيمة إذ الأحدية والصمدية ينتظمان أصول التوحيد والإيمان والدين فأسماء الله وصفاته من دينه إذ دينه الحق يتبع ما هو عليه سبحانه في نفسه ولما كان الدين عند الله هو الإسلام والإسلام هو الاستسلام لله وحده وله ضدان الإشراك والاستكبار فالمستكبر استكبر عن الإسلام له والمشرك استسلم لغيره وإن كان قد استسلم له فمعنى الأحد يوجب الإخلاص لله المنافي للشرك ومعنى الصمد يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار فإن الصمد يتضمن صمود كل شيء إليه وفقره إليه وأيضاً فدين الله واحد لا تفرق فيه والصمد يناسب اجتماعه فالله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد ودينه واحد(4/223)
وعباده المؤمنون مجتمعون يعتصمون بحبله غير مفترقين واسمه الأحد يقتضي التوحيد والصمد يقتضي الاجتماع وعدم التفرق فإن الصمد فيه معنى الاجتماع وعدم التفريق والتوحيد أبداً قرين الاجتماع لأن الاجتماع فيه الوحدة والتفرق لابد فيه من التثنية والتعدد كما أن الإشراك مقرون بالتفرق قال(4/224)
تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30-32] ولهذا كان شعار الطائفة الناجية هو السنة والجماعة دون البدعة والفرقة فإن أصل السنة توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وأصل البدع الإشراك بالله شركاً أصغر أو أكبر وهؤلاء الملبسون يقولون لا ينقسم أو لا يتجزأ أو لا يتبعض ونحو ذلك ولو لم يريدوا إلا ما هو حق لكانوا محسنين لكن حقيقة قولهم إنه ليس هناك شيء يتصور أن يكون مجتمعاً فضلاً أن يكون متفرقاً ولا شيء موجود يتميز عن غيره فضلاً عن أن يكون منقسماً فأخذوا لفظ التفرق والانقسام فوضعوه على غير المعاني المعروفة ونفوا به ما يستلزم نفي الحقيقة بالكلية كما فعل غيرهم في نفي العلم والقدرة ونحوهما أو نفي الأسماء كالحي والعليم والقدير ونحو ذلك فنفي الصفات يستلزم نفي الأسماء كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع(4/225)
والمقصود هنا الكلام على هاتين الحجتين الانقسام والحيز بحسب ما ذكره في نهايته وإن كان قد تقدم الكلام عليها فنقول قوله إذا كان في أكثر من حيز لزم انقسامه لا نسلم أنه يستلزم انقسامه ولا نسلم أيضاً أن الحيز ينقسم حتى يكون ما فيه منقسماً ولو كان هو منقسماً لم نسلم أن كل ما كان في المنقسم يجب أن يكون منقسماً الوجه الرابع عشر أنه قد تقدم غير مرة أن هذا الانقسام أكثر ما يراد به امتياز بعضه عن بعض وبينا أن هذا مثل امتياز الصفات وبينا أن هذا مما يجب أن يقر به كل أحد في كل موجود وأن نفي هذا يستلزم جحد الموجودات جميعها الواجب والممكن وبينا أن ما يذكر في ذلك من الافتقار(4/226)
والغير والحيز فهي ألفاظ مجملة مشتركة مشتبهة يراد بها حق وباطل فيجب أن ينفي ما فيها من الباطل دون الحق الذي يريده بعض الناس بهذه الألفاظ وقد تقدم بسط ذلك بما يغني عن إعادته وهو أحال على ما تقدم فأحلنا أيضاً عليه الوجه الخامس عشر أن المنازع يقول له هب أنه في حيز واحد فلم قلت إن ذلك محال قولك إنه يكون أقل القليل ويتعالى الله عنه يقال لا نسلم أن ما هو حيز واحد لا يتسع إلا مقدار الجوهر الفرد بل يكون واحداً وهو عظيم وهذا في الحيز أولى منه في الجسم فإذا كان قد قال(4/227)
طوائف إن الجسم يكون عظيماً ويكون واحداً فالحيز أولى وأيضاً فمن قال إنه فوق العرش وهو عظيم وليس بجسم أو هو جسم وليس بمركب فإنه يقول بثبوت حيز واحد عظيم الوجه السادس عشر أن المنازع يقول الجوهر الفرد لا يخلو إما أن يكون ثابتاً أو لا يكون فإن كان ثابتاً لم تكن قد ذكرت دليلاً عقلياً على نفي كونه بقدره كما اعترفت بذلك فيما تقدم في نهايتك في المسلك الثاني على نفي الجسم أن المنازع إذا أصر على المطالبة بالدليل على أنه حال كونه بقدر الجوهر فطريق دفعه أن يتمسك بالوجوه التي يستدل بها على نفي الجزء الذي لا يتجزأ حتى تنقطع المطالبة وإذا(4/228)
لم يكن لك طريق إلا هذا فهذا الطريق باطلة إذا قدر ثبوت الجوهر الفرد فإنه بتقدير ثبوته تكون الوجوه التي احتج بها على نفيه باطلة وإذا لم يكن الجوهر الفرد ثابتاً لم يجز أن يقال إن الحال في الجزء الواحد هو أقل القليل بل لم يكن للحيز الواحد إذا فسر بذلك وجود أصلاً وإذا كان كذلك فعلى التقديرين لا تكون قد ذكرت حجة على أنه لا يكون في الحيز الواحد وإنما تعتصم في مثل ذلك بالإجماع إجماع العقلاء وإجماع المسلمين داخل في ذلك فيقال لك هؤلاء المنازعون يقولـ ون إنه عظيم في نفسه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير وأعلى من كل عال قد وسع كرسيه السموات السبع والأرضين السبع ويقولون لك وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم أو كما قال فهذا مستند ثان نفي كونه بقدر الجوهر الفرد فإن سلمت ذلك لم يكن لك(4/229)
أن تقول ليس فوق العرش ولا هو في نفسه كبير وعظيم ولم يكن ما سلمتموه يستلزم أن لا يكون فوق العرش وإن قيل إنه في حيز واحد أو جهة واحدة وإن لم تسلم ذلك بل زعمت أنما فوق السموات رب ولا هناك إله أصلاً وأن محمداً لم يعرج به إلى الله تعالى بل صعد إلى علو العالم فقط وأن رب العالمين ليس داخل العالم ولا خارجه قالوا لك نحن نقول إن من وصفه بهذا فقد جعله معدوماً والمعدوم أحقر من الجوهر الفرد وإذا كان كذلك لم نسلم لك ما دمت مصراً على هذا النفي أنه أحقر من الجوهر الفرد فإن ذلك يستلزم تسليم النقيضين فنكون قد سلمنا أنه معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وذلك باطل وإذا لم نسلم له على هذا التقدير أنه أحقر من الجوهر الفرد لم يكن له أن يحتج بالإجماع كما تقدم نظير هذا وتقدم ما قرره في أول نهايته أن الاحتجاج بمثل هذا الإجماع الذي يختلف فيه المأخذ لا يصح نظراً ولا مناظرة فإن المناظر ليس له أن يحتج بموافقة موافق بناء ً على مأخذ لا يعتقد صحته والمناظر يجيبه خصمه بأنك إن وافقتني على المأخذ وإلا منعتك الحكم على هذا التقدير لأنه عندي تقدير غير واقع فلا يكون له حجة بحال ولو احتج بها في الفطرة في(4/230)
إعظام الله أن يكون كذلك قيل له هذه الفطرة التي فيها أن الله تعالى فوق العالم وهي تحيل أن يقال إنه ليس فوق العالم ولا داخله ولا خارجه كما تحيل أن يقال هو بقدر الجوهر الفرد فإن كان ما في الفطرة من هذا حقاً فكذلك الآخر وحينئذ فلا يبقى معه حجة على نفي كونه بقدر الجوهر الفرد لا عقلية ولا سمعية لأن السمع إما نص وإما إجماع والسمعيات التي وصف الله فيها نفسه بأنه علي وعظيم وكبير معناها عندهم القدرة والقهر لا يعنون بها عظم قدره في نفسه فلا ينافي ما زعموه صغر المقدار لاسيما مع ما يعتمدونه من القول بأن الملك العظيم والآدمي العظيم يكون بقدر الجوهر الفرد لأن الحياة ولازمها لا تحل إلا في قدر ذلك كما تقدم وإذا لم يكن لهم على ذلك حجة بطلت هذه الحجج التي ذكرها وظهر عجزهم عن تنزيه الله عن صغر القدر كما عجزوا عن تنزيه الله تعالى أن يكون فيه نقص فلا يقدرون أن ينزهوه على أصولهم العقلية عن نقص ولا عن صغر الوجه السابع عشر قوله في الحجة الثانية حصوله في ذلك الحيز إما واجب وإما جائز يقال إن أريد بالحيز ما(4/231)
هو داخل في مسمى اسمه مثل ما يدخل في صفاته في مسمى اسمه ومثل ما يدخل حدود الشيء ونهايته في مسمى اسمه فيقال حصوله فيه واجب ويكون وجودياً والكلام في قوله يكون منقسماً قد تقدم غير مرة بأن الانقسام لفظ مجمل تختلف فيه الاصطلاحات فهو منفي بالمعنى الذي لا يلزم من هذا والمعنى الذي يلزم لا محذور فيه بل هو واجب لكل موجود الوجه الثامن عشر قول من يقول لا يجوز عليه الحركة والانتقال فإنه يقول حصوله في الحيز المعين يكون واجبًا وأما قوله لو كان كذلك لكانت حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة غيره فيكون وجودياً يقول لا نسلم وذلك لأن الاختصاص لا يجب أن يكون لمعنى في الحيز بل يجوز أن(4/232)
يكون لمعنى في الرب وهو ما توافقهم عليه من امتناع الحركة والانتقال وعدم ذلك ليس بنقص عندك ولا عندهم كما تقدم وتقدم أن ما ألزمتهم من كونه يكون كالزمن هو لك ألزم أيضاً فأنت وهو مشتركون في ذلك وهو بك ألصق منه بهم الوجه التاسع عشر أن يقال هب أن وجودي وحقيقته مخالفة لحقيقة غيره وأنه يمكن الإشارة الحسية إليه فقولك إنه إن كان منقسماً كان الباري فيه الحال منقسماً يمنعون الملازمة كما تقدم ويقولون في الانقسام بما تقدم من الجواب المفصل الوجه العشرون قولك أو لا يكون منقسماً فيكون مختصاً بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل يقال هب أن هذا الحيز أمر وجودي فلم لا يجوز أن يكون حيز هو عدمي والتسلسل إنما يلزم أن لو كان لكل حيز وجودي حيز وجودي الوجه الحادي والعشرون قولك وإن لم تمكن الإشارة(4/233)
الحسية إلى الحيز الذي حصل فيه الباري وجب استحالة الإشارة إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا تمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه فإذاً لا يكون الباري في الجهة يقال لك الضروري بأن ما لا يشار إلى جهته لا يشار إليه ليس بأعظم من أن ما لا يشار إليه لا يشار إلى جهته ثم كثير من الناس وأنت من هؤلاء في كثير من المواضع يقولون ذلك مثل العلم الضروري بأن ما يشار إليه وإلى جهته لا يكون إلا جسماً وكثير من الناس بل أكثرهم يقولون إن ذلك مثل العلم الضروري بأن ما لا يشار إليه ولا إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوماً بل المقرون بأن هذا علم ضروري أعظم من المقرين بذلك وإذا كان كذلك فإن نازعتهم في هذا العلم الضروري لم يكن عليهم أن يسلموا لك ذلك العلم الضروري الذي يلزمهم بتسليمه نفي هذا العلم الضروري لأن تسليم العلم الضروري الذي يستلزم نفي علم ضروري تسليم لتنافي العلمين الضروريين وذلك باطل فلا يجب تسليم الباطل وإن لم(4/234)
تنازعهم في هذا العلم الضروري لم يكن ما ذكرته حجة عليهم فإنه إذا سلم أنه فوق العالم وأنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه حصل المطلوب الوجه الثاني والعشرون قولك وإن لم يكن حصوله في الجهة واجباً فاختصاصه بها لابد أن يكون لفاعل مختار فاختصاص الباري به محدث فهو في الأزل ما كان في الحيز والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلاً في الحيز وفي نسخة محتاجا إلى الحيز فيقال لك إذا كان الحيز أمراً وجودياً كالعرش والغمام كان اختصاص الله بكونه فوق العرش تابعاً لخلقه العرش وذلك حاصل بمشيئته واختياره وهو محدث وهو إن لم يكن في الأزل على العرش لكن لم قلت إذا لم يكن في الأزل على العرش أنه يستحيل أن يصير بعد ذلك على العرش هذا لم تذكر عليه دليلاً وأما إن كان المدعي أنه يستحيل أن يصير محتاجاً إلى الحيز فهذا حق لكن كونه فوق العرش لا يوجب(4/235)
احتياجه إلى شيء بل هو الحامل بقدرته للعرش ولكل شيء الوجه الثالث والعشرون أن يقال العلو على العرش للناس فيه قولان مشهوران أحدهما أنه نسبة وإضافة بينه وبين العرش من غير فعل محدث يقوم بذات الرب وهؤلاء قد يقولون الاستواء من صفات الذات وعلى هذا التقدير فتجديده بخلق العرش كتجديد سائر النسب والإضافات وذلك جائز باتفاق العقلاء كتجدد المعية والثاني أنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه كما دل على ذلك القرآن والذي قال هذا يقول في استوائه إلى السماء ونزوله ومجيئه وإتيانه ونحو ذلك مثلما يقول في الاستواء وأن ذلك من أفعال ذات الله تعالى وهؤلاء هم جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية(4/236)
وغيرهم وعامة كلام السلف يدل على هذا وهذا متصل بمسألة حلول الحوادث به وهو قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفي حلول الحوادث به وذكر أن الطوائف جميعهم يلزمهم القول به وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يستوي عليه بعد أن لم يكن مستوياً وإذا كان على القولين لا يمتنع أن يصير فوق العرش وإن لم يكن في الأزل عرش يكون الله فوقه بطل ما ادعاه من أنه إذا كان اختصاص الباري بالحيز محدثاً فهو إذاً في الأزل ما كان حاصلاً في الحيز والشيء الذي يكون كذلك استحال أن يصير(4/237)
حاصلاً في الحيز فإن ذلك لا يستحيل على الوجه الذي بيناه وأما إن كان قد قال استحال أن يصير محتاجاً إلى الحيز فهذا حق لكن تجدد الأمور الجائزة لا يقتضي أنه محتاج إليها الوجه الرابع والعشرون أنه يقال قولك في أصل هذه الحجة الثانية حصوله في الحيز إما أن يكون واجباً أو غير واجب يقال لك أتريد بالحيز نوع الحيز أم تريد الحيز المعين فإن اللام تكون للجنس وتكون للحيز المعين فإن أردت به النوع لم يصح ما ذكرته في القسم الأول وهو قولك لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز لكانت حقيقته مخالفة لحقيقة غيره لأن الحيز على هذا التقدير هو النوع ولا يختص بشيء دون شيء كما أن القائل إذا قال لو كان الجسم مختصاً بالحيز لم يرد به حيزاً بعينه بل يريد به أنه مختص بأنه لا يكون إلا متحيزاً فيمتنع أن يكون غير متحيز وإن أردت به الحيز المعين لم يصح ما ذكرته في القسم الثاني وهو إنما كان كذلك ما كان في الأزل حاصلاً في(4/238)
الحيز المعين والذي يكون كذلك يستحيل أن يصير حاصلاً في الحيز وذلك أن الحيز تقدير المكان ليس أمراً موجوداً فلم قلت إنه إذا لم يكن في الأزل في حيز معين امتنع أن يكون بعد ذلك في حيز معين فإن هذا مبني على مسألة حلول الحوادث وقد تقدم القول فيه الوجه الخامس والعشرون أن قولك والشيء الذي يكون كذلك استحال أن يصير حاصلاً في الحيز يمنعه المنازع ويقول لا نسلم أن كل اختصاص بحيز معين وهو تقدير المكان يكون محدثاً وأنه يمتنع أن يصير في حيز لم يكن فيه بل الحي القادر سبحانه يختص بما يشاء من الأحياز ولا يلزم من ذلك اختصاصه بحيز معين ولا يلزم من ذلك أن أصل التحيز محدث بل هو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء من الأجسام ولا يكون الجسم مخلوقاً في حيز ولا يختص بحيز بل له أن ينقله من حيز إلى حيز وهؤلاء يقولون حياته وقدرته توجب ذلك ونفي إمكان(4/239)
ذلك يقتضي نفي حياته وقدرته كما تقدم حكاية قولهم ويقولون اختصاصه بحيز دون حيز هو نسبة وإضافة إلى ذلك الحيز والأمور الإضافية لا يمنع تجددها ولا زوال المتقدم منها باتفاق العقلاء فإن الحيز العدمي الذي هو تقدير المكان يجري فيه القولان في العرش ونحوه فمن قال الاستواء عليه مجرد نسبة أمكن أن يقول ذلك هنا ومن قال إن فيه حركة قال بذلك هنا الوجه السادس والعشرون قولك حصوله في الحيز إما أن يكون واجباً وإما أن يكون غير واجب يقول لك المنازع قولاً مفصلاً الاختصاص بأصل الحيز واجب أما تعين حيز دون حيز فهو ممكن ليس بواجب وذلك لأن الحيز في الاصطلاح المشهور للمتكلمين هو تقدير المكان وهم يقولون إن كل متحيز يستلزم نوع التحيز وأما الحيز المعين فيجوز أن ينتقل عنه المتحيز كما لو شاء الله تحويل العالم من حيز إلى حيز ثم لهم هنا قولان(4/240)
أحدهما أن اختصاصه بذلك الحيز المعين مجرد نسبة وإضافة وإذا كان تجدد النسب والإضافات له وزوالها من الأمور الموجودة جائز باتفاق العقلاء فحدوث هذه النسب وزوالها عما هو تقدير المكان بطريق الأولى والأحرى الثاني أن يقال أكثر ما في ذلك الحركة وهذا جائز كما تقدم في قولهم استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي ونحو ذلك(4/241)
فصل قال الرازي الفصل الخامس في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصاً بالحيز والجهة الشبهة الأولى لهم أنهم قالوا العالم موجود والباري موجود وكل موجودين فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بجهة من الجهات الست ولما لم يكن الباري محايثاً للعالم وجب كونه تعالى مبايناً عن العالم بجهة من الجهات الست وإذا ثبت ذلك وجب كونه تعالى مختصاً بجهة الفوق(4/242)
أما قولهم إن كل موجودين فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بجهة فلهم فيه طريقان الطريق الأولى ادعاء البديهة إلا أنه سبق الكلام على هذه الطريقة في أول الكتاب الطريق الثاني أنهم يستدلون عليه وهو الطريق الذي اختاره ابن الهيصم في المناظرة التي حكاها عن نفسه مع ابن فورك قال الرازي أنا أذكر محصل تلك الكلمات على(4/243)
الترتيب الصحيح من أحسن وجه يمكن تقرير تلك الشبهة به وهو أن يقال لا شك أن كل موجودين في الشاهد فإن أحدهما لابد وأن يكون محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة وكون كل موجودين في الشاهد كذلك إما أن يكون لخصوص كونه جوهراً أو لخصوص كونه عرضاً أو لأمر مشترك بين الجوهر والعرض وذلك المشترك إما الحدوث وإما الوجود والكل باطل سوى الوجود فوجب أن تكون العلة لذلك الحكم هو الوجود والباري تعالى موجود فوجب الجزم بأنه تعالى إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة قال واعلم أن هذا الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات نحن نذكرها وتلك الوجوه التي يمكن ذكرها في تقرير تلك المقدمات أما المقدمة الأولى وهي قولنا إن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه(4/244)
بالجهة لابد له من علة والدليل عليه هو أن المعدومات لا يصح فيها هذا الحكم وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم فلولا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه هذا الحكم بأمر من الأمور وإلا لما كان هذا الامتياز واقعاً وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن هذا الحكم لا يمكن تعليله بخصوص كونه جوهراً ولا بخصوص كونه عرضاً فالدليل عليه أن المقتضي لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهراً لصدق على الجوهر أن ينقسم إلى ما يكون محايثاً لغيره وإلى ما يكون مبايناً عنه ومعلوم أن ذلك محال لأن الجوهر يمتنع أن يكون محايثاً لغيره وبهذا الطريق تبين أن المقتضي لهذا الحكم ليس كونه عرضاً لامتناع أن يكون العرض مبايناً لغيره بالجهة المقدمة الثالثة في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ويدل عليه وجوه الأول أن الحدوث عبارة عن وجود سبقه عدم والعدم غير داخل في العلة وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق(4/245)
إلا الوجود والثاني وهو الذي عوّل عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه وبين ابن فورك فقال لو كلن هذا الحكم معللاً بالحدوث لكان الجاهل بكون السماء حادثة جاهلاً بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات التي في العالم إما أن تكون محايثة لها أو مباينة عنها بالجهة لأن المقتضي للحكم إذا كان أمراً معيناً فالجاهل بذلك المقتضي يجب أن يكون جاهلاً بذلك الحكم ألا ترى الوجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم والمحدث لا جرم كان اعتقاد أنه غير موجود مانعاً من التقسيم بالقدم والحدوث فلما كان التقسيم إلى الأسود والأبيض معلقاً بكونه كان ملوناً كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعاً من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض ولما رأينا الدهري الذي يعتقد قدم السموات(4/246)
والأرض لا يمنعه ذلك من اعتقاد أن السموات والأرضين إما أن تكون محايثة وإما أن تكون مباينة بالجهة علمنا أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث الوجه الثالث في بيان أن المقتضي هذا الحكم ليس هو الحدوث وقد ذكره ابن الهيصم أيضاً في تلك المناظرة وتقريره أن كونه محدثاً وصف يعلم بالاستدلال وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثاً أو مبايناً بالجهة حكم معلوم بالضرورة والوصف المعلوم الثبوت بالاستدلال لا يجوز أن يكون أصلاً للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة فثبت بهذه(4/247)
الوجوه أن المقتضي لهذا الحكم ليس هو الحدوث المقدمة الرابعة وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود والباري موجود وكان المقتضي لكونه تعالى إما محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة حاصلاً في حقه فكان هذا الحكم حاصلاً هناك واعلم أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد والغائب وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائداً على حقيقته فإنه ما لم يثبت هذا الأصل لم يحصل المقصود فهذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير هذه الشبهة ومن نظر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها علم أن التفاوت بينهما كبير قال والجواب أن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو(4/248)
مبايناً عنه بالجهة وهذه المقدمة ممنوعة وبيانه من وجوه الأول أن جمهور الفلاسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني ولا مبايناً عنه بالجهة وذلك لأنهم يثبتون العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة(4/249)
ويثبتون الهيولي ويزعمون أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة(4/250)
ولا حالة في المتحيز فلا يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ولا مباينة عنه بالجهة وما لم يبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد إما أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه الثاني أن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة لا في محل ويثبتون فناءً لا في محل وتلك الأشياء لا يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم بالجهة فما لم يبطلوا ذلك لا تتم دعواهم الثالث أنا نقيم الدليل على أن الإضافات أعراض موجودات في الأعيان ثم نبين أنها تمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة وذلك يبطل كلامهم وإنما قلنا إن(4/251)
الإضافات أعراض موجودات في الأعيان وذلك لأن المعقول من كون الإنسان أباً لغيره مغاير لذاته المخصوصة بدليل أنه يمكن أن يعقل ذاته مع الذهول عن كونه أباً وابناً والمعلوم غير ما هو غير معلوم وأيضاً فإنه يمكن ثبوت ذاته منفكة عن الأبوة والبنوة مثل عيسى عليه السلام فإنه ما كان أباً لأحد ولا ابناً لأحد من الذكور والثابت غير ما هو غير ثابت فكونه أباً وابناً مغايراً لذاته المخصوصة ثم هذا المغاير إما أن يكون وصفاً سلبياً أو ثبوتياً والأول باطل لأن عدم الأبوة هو الوصف السلبي والأبوة رافعة له ورافع العدم الوجود فثبت أن(4/252)
الأبوة وصف وجودي مغاير لذات الأب إذا ثبت هذا فنقول إنه مستحيل أن يقال الأبوة محايثة لذات الأب وإلا لزم أن يقال إنه قائم بنصف الأب نصف الأبوة وبثلثه ثلث الأبوة ومعلوم أن ذلك باطل ومحال أن يقال إنها مباينة عن ذات الأب مباينة بالجهة والحيز وإلا لزم كون الأبوة جوهراً قائماً بذاته مبايناً عن ذات الأب بالجهة وذلك أيضاً محال فثبت بهذا الدليل وجود موجود لا يمكن أن يقال إنه محايث للعالم ولا أن يقال مباين عنه بالجهة وإذا ثبت هذا بطل قولهم السؤال الثاني سلمنا أن كل موجودين في الشاهد فلابد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة لكن كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا إما أن يكون وإما أن لا يكون إشارة إلى كونه قابلاً للانقسام إليهما لكن قبول القسمة حكم عدمي والعدم لا يعلل وإنما قلنا إن قبول القسمة حكم عدمي لأن أصل القبول حكم عدمي فوجب أن يكون قبول القسمة حكماً عدمياً وإنما قلنا إن أصل القبول حكم عدمي لأنه لو كان أمراً ثابتاً لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه(4/253)
بكونه قابلاً والذات قابلة للصفة القائمة بهاق يكون قبول ذلك القبول زائداً عليه ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه لما كان أصل القبول عدمياً كان قبول القسمة أيضاً كذلك لأن القبول للقسمة قبول مخصوص فتلك الخصوصية إن كانت صفة موجودة لزم قيام الوجود بالعدم وهو محال وإن كانت عدمية لزم القطع بأن قبول القسمة عدمي وإذا ثبت أنه حكم عدمي امتنع تعليله لأن العدم نفي محض فكان التأثير فيه محالاً فثبت أن قبول القسمة لا يمكن تعليله السؤال الثالث هب أنه من الأحكام الوجودية فلم لا يجوز أن يكون معللاً بخصوص كونه جوهراً أو بخصوص كونه عرضاً قوله لأن كونه جوهرياً يمنع من المحايثة وكونه عرضاً بمنع من المباينة بالجهة وما كان علة لقبول الانقسام إلى قسمين يمنع كونه مانعاً من أحد القسمين قلنا ما الذي تريدون بقولكم الوجود في الشاهد ينقسم إلى المحايث وإلى المباين بالجهة إن أردتم أن الوجود في الشاهد قسمان(4/254)
أحدهما أن يكون محايثاً لغيره بالجهة وهو العرض والثاني أن يكون مبايناً لغيره بالجهة وهو الجوهر وهذا مسلم لكنه في الحقيقة إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين فإن عندنا وجوب كونه محايثاً لغيره معلل بكونه عرضاً ووجوب كون القسم الثاني مبايناً عن غيره بالجهة معلل بكونه جوهراً فبطل قولكم إن خصوص كونه عرضاً وجوهراً لا يصلحان لعلة هذا الحكم وإن أردتم به أن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين حكم واحد وأنه ثابت في جميع الموجودات التي في الشاهد فهو باطل لأن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين لم يثبت في شيء من الموجودات التي في الشاهد فضلاً عن أن يثبت في جميعها لأن كل موجود في الشاهد فهم إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهراً امتنع أن يكون محايثاً لغيره بالجهة فلم يكن قابلاً لهذا الانقسام فثبت بما ذكرنا أن الذي قالوه مغالطة والحاصل أن هذا المستدل أوهم أن(4/255)
قوله الموجود في الشاهد إما أن يكون محايثاً لغيره أو يكون مبايناً عنه بالجهة إشارة إلى حكم واحد ثم بنى عليه أنه لا يمكن أن يعلل هذا الحكم بخصوص كونه جوهراً لا بخصوص كونه عرضاً ونحن بينا أنه إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين السؤال الرابع سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهراً ولا بخصوص كونه عرضاً فلم قلتم إنه لابد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود وما الدليل على هذا الحصر أقصى ما في الباب أن يقال سبرنا وبحثنا فلم نجد قسماً آخر إلا أنا بينا في الكتب المطولة أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة غير محصورة بين النفي والإثبات(4/256)
السؤال الخامس سلمنا أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود لكن لا نسلم قولكم أنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود بيانه من وجهين أحدهما أن من المحتمل أن يقال المقتضي لقولنا إن الشيء إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه هو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه وذلك لأن كل شيئين تصح الإشارة الحسية إليهما فإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر وذلك كما في اللون والمتلون وهذا هو المحايثة وإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر وهذا هو المباينة بالجهة فثبت أن المقتضي لقبول هذه القسمة هو كون الشيء مشاراً إليه بحسب الحس وعلى هذا التقدير ما لم يقيموا الدلالة على أنه تعالى مشار إليه بحسب الحس لا يمكن أن يقال إنه يجب أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة لكن كونه تعالى مشاراً إليه بحسب الحس وهو مما وقع النزاع فيه وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة(4/257)
المطلوب وذلك يفضي إلى الدور وهو باطل الثاني لاشك أن ما سوى الله تعالى إما أن يكون محايثاً لغيره أو مبايناً عن غيره بالجهة ولا شك أن الله تعالى مخالف لهذين القسمين بحقيقته المخصوصة إذ لو لم يكن مخالفاً لهما بحقيقته المخصوصة لكان مثلاً للجواهر والأعراض ويلزم منه كونه تعالى محدثاً كما أن الأعراض والجواهر محدثة وذلك محال وإذا ثبت هذا فنقول إن الجواهر والأعراض يشتركان في الأمر الذي وقعت به المخالفة(4/258)
بينهما وبين ذات الباري فلم لا يجوز أن يكون المقتضي لقبول الانقسام إلى المحايث وإلى المباين هو ذلك الأمر وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال لأنه لا مشترك بين الجواهر والأعراض إلا الحدوث السؤال السادس سلمنا الحصر فلِمَ لا يجوز أن يكون المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث قوله أولاً الحدوث ماهية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فإنه يصدق عليه كونه قابلاً للعدم والوجود وأيضاً كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين معناه كونه قابلاً للانقسام إلى هذين القسمين فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وإن كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم أما قوله ثانياً لو كان المقتضي لهذا الحكم هو الحدوث لكان الجهل بحدوث الشيء يوجب الجهل بهذا الحكم قلنا الكلام عليه من وجهين الأول لِمَ قلتم إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر ألا ترى أن جهل الإنسان بأسباب المرض والصحة وجهل نفاة الأعراض بالمعاني الموجبة لتغير أحوال الأجسام لا يوجب جهلهم بتلك التغيرات وجهل الدهري بكونه تعالى قادراً على الخلق والتكوين لا يوجب(4/259)
جهله بوجود هذا العالم الثاني لوكان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول لكان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول وعلى هذا التقدير لو كان المقتضي لكون الموجودين في الشاهد إما متحايثين أو متباينين بالجهة هو الوجود لزم أن من علم كون الشيء موجوداً أن يعلم وجوب كونه محايثاً للعالم أو مبايناً له لكن الجمهور الأعظم وهم أهل التوحيد يعتقدون أنه تعالى موجود ولا يعلمون أنه تعالى لابد وأن يكون إما محايثاً للعالم أو مبايناً له فوجب على هذا المساق أن لا يكون المقتضي لهذا الحكم هو كونه موجوداً وهذا السؤال قد أورده الأستاذ ابن فورك من أصحابنا على ابن الهيصم ولم يقدر أن يذكر عنه جواباً سوى أن قال يمتنع أن يحصل العلم بالأثر مع الجهل بالمؤثر وطال كلامه في تقرير هذا الفرق ولم يظهر منه شيء معلوم يمكن حكايته قوله ثالثاً كونه محدثاً وصف استدلالي وكونه إما(4/260)
محايثاً أو مبايناً أمر معلوم بالبديهة والوصف الاستدلالي لا يجوز أن يكون علة للحكم المعلوم بالبديهة قلنا ممنوع فإنا بينا أن المؤثر في كثير من الأشياء استدلالي والأثر بديهي السؤال السابع سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم ليس هو الحدوث وأنه هو الوجود لكن لِمَ قلتم إنه يلزم حصوله في حق الله تعالى وبيانه أن المطلوب إنما يلزم لوكان الوجود أمراً واحداً في الشاهد والغائب أما إذا لم يكن الأمر كذلك بل كان وقوع لفظ الوجود على الشاهد والغائب ليس إلا بالإشراك اللفظي كان هذا الدليل ساقطاً بالكلية ثم إن الكرامية لا يمكنهم أن يقولوا بأن الوجود في(4/261)
الغائب الشاهد واحد إذ لو كان كذلك لزمهم إما القول بكون الباري تعالى مثلاً للمحدثات من جميع الوجوه أو القول بأن وجوده زائد على ماهيته والقوم لا يقولون بهذا الكلام السؤال الثامن سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن الوجود هو العلة لهذا الحكم لكن هاهنا دليل آخر يمنع منه وهو أن المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزم في الجوهر وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض وأنه محال ولزم أيضاً في العرض وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض ومعلوم أن ذلك محال فإن قالوا إن كل جوهر وعرض فإنه يصح كونه منقسماً إلى هذين القسمين نظراً إلى كونه موجوداً وإنما يمتنع ذلك الانقسام نظراً إلى مانع منفك وهو خصوصية ماهيته قلنا هذا اعتراف بأنه لا يلزم من كونه الوجود علة لصحة أمر من الأمور أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفاً بالوجود لاحتمال أن(4/262)
تكون ماهيته المخصوصة مانعة من ذلك الحكم وإذا كان كذلك فلِمَ لا يجوز أن يقال الوجود وإن اقتضى كون الشيء إما محايثاً لغيره أو مبايناً عنه إلا أن خصوصية ذاته تعالى كانت مانعة من هذا الحكم فلِمَ يلزم من كونه تعالى موجوداً كونه بحيث يكون إما محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة السؤال التاسع أن ما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة مع أن النتيجة اللازمة عنه باطلة قطعاً وذلك يدل على أن هذا الدليل منقوض وبيانه من وجوه الأول أن كل ما سوى الله فهو محدث فتكون صحة الحدوث حكماً مشتركاً بينهما فنقول هذه الصحة حكم مشترك فلابد لها من علة مشتركة والمشترك إما الحدوث أو الوجود ولا يمكن أن يكون المقتضي لصحة الحدوث هو الحدوث لأن صحة الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة والسابق بالرتبة على الشيء لا يمكن تعليله بالمتأخر عن الشيء فثبت أن صحة الحدوث غير معللة بالحدوث فوجب كونها معللة بالوجود والله تعالى موجود فوجب أن يثبت في حقه صحة الحدوث وهو محال الثاني أن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم أو قائم(4/263)
بالحجم ثم يذكر التقسيم إلى آخره حتى يكون الباري تعالى إما حجماً أو قائماً بالحجم والقوم لا يقولون به الثالث أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان ثم يذكر التقسيم المتقدم حتى يظهر أن هذا الحكم معلل بالوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يصح على الباري كونه محايثاً للعالم أو مبايناً عنه في أي جهة كان من الجوانب التي للعالم وذلك يقتضي أن لا يكون اختصاص الله بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذات الله تعالى من الفوق إلى السفل وكل ذلك عند القوم محال الرابع أن كل موجودين في الشاهد فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة والمباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو يكون مركباً من الجواهر وكون كل(4/264)
موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد وأن يكون معللاً بالوجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه تعالى عندهم ليس بغرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف مركب من الأجزاء والأبعاض الخامس أن كل موجود يفرض مع العالم فهو إما أن يكون مساوياً للعالم أو زائداً عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار وانقسام الوجود في الشاهد إلى هذه الأقسام الثلاثة حكم لابد له من علة ولا علة إلا بالوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة قال واعلم أنا إنما طولنا في الكلام على هذه الشبهة لأن القوم يعولون عليها ويظنون أنها حجة قاهرة ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها أوردنا عليها هذه الأسولة(4/265)
القاهرة والاعتراضات القادحة ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه التحقيقات والتدقيقات سبباً لمزيد الأجر والثواب بمنه وفضله اهـ قلت والكلام على هذا مع العلم بأن المقصود ذكر القول الفصل والحكم العادل فيما يذكره النفاة من الحجج والجواب عما ذكره من جهة منازعيه ليس المقصود استيفاء حجج المثبتة بل إذا تبين أن هذا الذي هو الإمام المطلق في المتأخرين من هؤلاء النفاة المتكلمين والفلاسفة وعرف فرط معاداته لهؤلاء المثبتة الذين ذكرهم وذكر حججهم مع ما هم عليه من ضعف الحجج وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف ومع ما فيهم من الانحراف ثم تبين ظهور حججهم العقلية التي ذكرها مع السمعية على ما استوفاه من حجج النفاة العقلية والسمعية مع استعانته بكل من هو من النفاة حتى المشركين الصابئين مثل أرسطو وأبي معشر وشيعتهما من الفلاسفة(4/266)
والمنجمين والمعتزلة وغيرهم ومع أنه لم يبق ممكناً فيما فيه شبهة حجة عرف من الحق ما يهدي به الله من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد ذكر أن لهم طريقين على أن كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له أحدهما ادعاء البديهة وقد ذكر أنه سبق الكلام في ذلك فأحال على ما تقدم وقد قدمنا القول على ما ذكره هناك في مقدمة كتابه مما يبين الحق لمن له أدنى نظر ولاحول ولا قوة إلا بالله وما ذكره هنا من حكاية كلام ابن الهيصم في مناظرته لابن فورك لم يبلغنا على الوجه المفصل لكن ذكر بعض المصنفين من النفاة أيضاً أنهما تناظرا بحضرة ولي السلطان محمود بن(4/267)
سبكتكين وكان من أحسن ملوك أهل المشرق إسلاما ً وعقلاً وديناً وجهاداً وملكاً في آخر المائة الرابعة وكانت ملوك في خلافة القادر وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين الذين كانوا إذ ذاك بمصر وفد بنوا القاهرة وغيرها ولهم دعاة من أقاصي الأرض بالمشرق وغيره وكان والد ابن(4/268)
سينا منهم وقال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في علوم الأوائل وكان بعض المشرق وكثير من جنده يميل إليهم وفي ذلك الوقت صنف الناس الكتب في كشف أسرارهم وهتك أستارهم مثل الكتاب الذي صنفه القاضي أبو بكر(4/270)
الباقلاني وغيره وقد صنف مثل ذلك وبعضه كتب أخر وإنماالمقصود التنبيه على ما يتعلق بما نحن فيه وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة وقمع أهل البدع فكتب الاعتقاد القادري المنسوب إليه وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصاب وهو من أجل المشايخ(4/271)
وأعلمهم وله لسان صدق عظيم وأمر القادر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيرهم وقام الشيخ أبوحامد الأسفراييني إمام الشافعية والشيخ أبو عبد الله بن حامد إمام الحنابلة على(4/272)
ابن الباقلاني بسبب ما ينسب إليه من بدعة الأشعري وجبت أمور بلغتنا مجملة غير مفصلة وصنف ابن الباقلاني كتابه المعروف في الرد على من ينسب إلى الأشعري خلاف قوله واعتمد السلطان محمود بن سبكتكين في مملكته نحو هذا وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر فلعنت الجهمية والرافضة والحرورية والمعتزلة والقدرية ولعنت أيضاً الأشعرية حتى جرى بسبب ذلك نزاع وفتنة بين الشافعية(4/273)
والحنفية وغيرهم قوم يقولون هم من أهل البدع فيلعنون وقوم يقولون ليسوا من أهل البدع فلا يلعنون وجرت لابن فورك محنة بأصبهان وجرت له مناظرة مع ابن الهيصم بحضرة هذا السلطان محمود وكان يحب الإسلام والسنة مستنصراً بالإسلام عارفاً به غزا المشركين من أهل الهند وفتح الهند وروي أنه قتل عشرة آلاف زنديق فكان مما حكاه ميمون النسفي الحنفي في(4/274)
كتابه وهو من نفاة العلو أن السلطان فهم كلام الطائفتين وفهم ما ذكرته المثبتة من أن أقوال النفاة توجب تعطيله وأنهم قالوا لو أردنا أن نصف المعدوم لم نصفه إلا بهذه الصفة بأنه لا داخل العالم ولا خارجه أو كلاماً هذا معناه وابن فورك عجز عن جواب هذا حتى كتب فيه على أبي إسحاق الأسفراييني وأن الأسفراييني لم يجب أيضاً بما يدفع به ذلك(4/275)
إلا أن قال يلزم من الإثبات أن يكون جسماً أو نحو هذا مع أن المعروف عن أبي بكر بن فورك هو ما عليه الأشعري وأئمة أصحابه من إثبات أن الله فوق العرش كما ذكر ذلك في غير موضع من كتبه وحكاه عن الأشعري وابن كلاب وارتضاه وذكر البيهقي عنه في كتاب الصفات أنه قال استوى بمعنى علا وقال في قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16](4/276)
أي من فوق السماء واحتج البيهقي لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة لقد حكمت فيهم(4/277)
بحكم الله الذي حكم به فوق سبع سموات وبقول ابن عباس إن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك(4/278)
وأبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له(4/279)
الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء وذكر أقوالاً متعددة قول الطبري أبي جعفر محمد بن جرير صاحب التفسير وأبي محمد بن أبي زيد والقاضي(4/280)
عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه قال وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه أعني القاضي أبي بكر والقاضي عبد الوهاب نصاً وهو أنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه بذاته قال وأطلقوا القول في بعض الأماكن فوق عرشه قال أبو بكر الحضرمي وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة(4/281)
قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل له وقاله الأستاذ ابن فورك في شرح أوائل الأدلة وهو قول أبي عمربن عبد البر(4/282)
والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر(4/283)
قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقاة ونقل أبو بكر بن فورك في كتاب مقالة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته الأشعري وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وأبان ما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك ثم سرد ابن فورك المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام الأشعري بعينها وما قيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك كما تقدم ثم قال في آخرها فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم(4/284)
ما علمت بينهم في ذلك نزاعاً وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرناه فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره أبو القاسم بن عساكر في تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري بعد أن قال فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة فاسمع ما ذكره في الإبانة فإنه قال الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وذكر تمام الخطبة إلى أن قال فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا(4/285)
قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل نضّر الله وجهه قائلون ولمن خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدّم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الأشعري في الإبانة ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه قال الحافظ ابن عساكر قال أبو الحسن في كتابه الذي سماه العمد في الرؤية ألفناً كتابأ كبيراً في الصفات تكلمنا(4/286)
فيه على أصناف المعتزلة والجهمية في فنون كثيرة من الصفات في إثبات الوجه لله واليدين وفي استوائه على العرش ولشهرة هذا من مذهب الأشعري قال أبوالحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] اعلم أن الله سبحانه وتعالى في السماء فوق كل شيء على عرشه بمعنى أنه عالٍ عليه ومعنى الاستواء الاعتلاء كما تقول العرب استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته واستوى الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي فالقديم جل جلاله عالٍ على عرشه قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] وقوله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ(4/287)
[فاطر 10] وقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] قال وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب استوى بشر على العراق استولى عليها وقال إن العرش يكون الملك(4/288)
فيقال ما أنكرت أن يكون عرش الله جسماً خلقه وأمر ملائكته بحمله قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] وأمية يقول مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريراً قال ومما يدل على أن الاستواء هاهنا ليس بالاستيلاء لأنه لو كان كذلك لم ينبغ أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه إذ هو مستول على العرش وعلى سائر خلقه وليس للعرش مزية على ما وصفته فبان بذلك فساد قوله ثم يقال له أيضاً إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي من قول العرب استوى فلان على كذا أي استولى إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكناً فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد(4/289)
أن لم يكن متمكناً لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء ثم قال حدثنا أبو عبد الله نفطويه ثنا أبوسليمان قال كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال ما معنى(4/290)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال هو على عرشه كما اخبر فقال ليس هو كذلك إنما معناه استولى قال ابن الأعرابي اسكت ما يدريك ما هذا العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل استولى عليه والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر(4/291)
قال أبو الحسن بن مهدي الطبري فإن قيل فما تقولون في قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة 2] بمعنى على الأرض وقال وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] أي على جذوع النخل فكذلك قوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء قال فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ [الأنعام 3] قيل له إن بعض القراء يجعل الوقف في السَّمَاوَاتِ ثم يبتدي وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وكيفما كان فلو أن قائلاً قال فلان بالشام والعراق ملك لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما قال فإن قيل ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قيل له كون(4/292)
الشيء مع الشيء على وجوه منها بالنصر ومنها بالصحبة ومنها بالمماسة ومنها بالعلم فمعنى هذا عندنا أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم قال قال البلخي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] قلنا تأويل ذلك أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما كان حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها(4/293)
وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات المعاش وأنها قرارهم ومنها خلقوا أو لأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في السماء بما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستوٍ عليه فإذا كان ابن فورك وسائر أئمة الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز وجل نفسه فوق العرش وهم جميعاً متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك وهم جميعاً متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفيه مثل قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقوله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ [آل عمران 55] وقوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] ومثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك وقد تنازع ابن فورك وأصحابه مع ابن الهيصم وأصحابه فإما(4/294)
أن يكون نزاعهم لفظياً أو معنوياً فإن كان لفظياً لم يكن ذلك منافياً لاتفاقهم من جهة المعنى وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهياً عنها في الشريعة وإن كان النزاع معنوياً فهو أيضاً قسمان أحدهما اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئاً لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئاً لا يثبته هؤلاء فهذا أيضاً ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق فإذا كان أحدهما يثبت حقاً والآخر ينفي باطلاً كان على كل منهما أن يوافق الآخر وإذا اختلفا كانا جميعاً مذمومين وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} [البقرة 176] وقال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران 105] وأمثال ذلك وإن كانا قد تنازعاً حقيقياً هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر فهذا بعد اتفاقهم على إثبات أنه فوق العرش فوق العالم ومخالفتهم جميعاً للمعتزلة الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس إنما يكون بأن يقول المثبت كونه فوق(4/295)
العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزاً أو أن يكون منقسماً ونحو ذلك ويقول الثاني كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسماً وهذا الثاني قول الأشعرية فالخلاف بينهم وبين الأشعرية أنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسماً أو لا يستلزم ذلك فإن كان هذا هو الخلاف المحقق بين ابن فورك وأصحابه وبين ابن الهيصم وأصحابه فإما أن يكون الصواب مع ابن فورك أو مع ابن الهيصم فإن كان الصواب مع ابن فورك ثبت حينئذ أنه إذا كان على العرش لم يستلزم ذلك أن يكون جسماً ولا يكون مركباً ولا منقسماً ولا غير ذلك وإذا صح هذا بطل ما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من أن كونه فوق العرش يستلزم التجسيم وحينئذ فيبطل جميع ما ذكره من الحجج في هذا الكتاب على إبطال كونه على العرش وإذا أقر بأنه فوق العرش فهو أعظم المقصود وحينئذ يكون كلامه من جنس الأشعرية الأكابر(4/296)
المتقدمين وإن كان الصواب مع ابن الهيصم وهو أن كونه فوق العرش يستلزم أن يكون جسماً وهذا هو الذي يقوله هذا المؤسس وأمثاله من الأشعرية المتأخرين وهو الذي يقوله المعتزلة والفلاسفة والجهمية وأمثالهم فيكون هذا المؤسس وهؤلاء كلهم متفقون على أن الصواب في المناظرة كان لابن الهيصم دون ابن فورك ومعلوم أن أهل الإثبات الذين يقولون هو على العرش ولا يتكلمون في الجسم بنفي ولا إثبات لا ينفون هذا الكلام أيضاً وإن خالفهم بعضهم لفظاً فيها ولا ينازع في ذلك نزاعاً معنوياً فيكون جماهير الخلائق من مثبتة الصفات ونفاتها مع ابن الهيصم فقد ظهر بما ذكره أن تصويب ابن فورك ومتقدمي الأشعرية يقتضي تخطئة الرازي ومتأخري الأشعرية الذين خالفوا متقدميهم في قولهم إن الله ليس على العرش وأن تصويب ابن الهيصم وتخطئة ابن فورك هو أولى بتخطئة هؤلاء المتأخرين النفاة لكونه على العرش وإذا كان كذلك ثبت خطأ هذا الرازي وذويه سواء كان المصيب هو ابن فورك أو هو ابن الهيصم وثبت اتفاق الطائفتين المتقدمتين من الأشعرية(4/297)
والكرامية على خطا هؤلاء المتأخرين من الأشعرية الموافقين للمعتزلة في نفي أن يكون الله فوق العرش وهذا هو المقصود الأكبر فيما ذكرناه وأيضاً فهذا الرازي وذووه يقولون هم وغيرهم إن العلم بأن كونه على العرش يستلزم أن يكون متحيزا أو أن يكون جسماً علم ضروري وإذا كان كذلك كانوا مقرين بأن الكرامية أصوب من شيوخهم المتقدمين وأن ذلك معلوم بالاضطرار وإذا كان كذلك ثبت أن قول الكرامية هو الصواب دون قولهم وقول شيوخهم المتقدمين وذلك أيضاً يستلزم أن يكون الله فوق العرش وهذا يبين أن ما تنازع فيه متقدمو الأشعرية ومتأخروهم ثبت به خطأ إحدى الطائفتين منهم ولم يثبت خطأ الكرامية في قولهم إن الله فوق العرش فإنه إن كان الصواب مع متقدميهم فهم والكرامية متفقون على أن الله فوق العرش وإن كانت الكرامية مخطئة على هذا التقدير في قولهم هو جسم فهذا لا يضر وإن كان الصواب مع متأخريهم أن كونه على العرش يستلزم التجسيم فهم والمتقدمون من الأشعرية متفقون على أن الله تعالى فوق العرش فيكون التجسيم حينئذ لازماً للطائفتين جميعاً فلا تكون إحداهما مصيبة والأخرى مخطئة وإذا ثبت خطأ إحدى طائفتي الأشعرية تيقنا بالاتفاق أن(4/298)
الصواب مع إما مثبتو العلو وإما الملازمون بين العلو والجسم ولم يثبت خطا الكرامية المنازعين لهم في قولهم إنه على العرش لا على قول الأولين المثبتين العلو ولا على قول الآخرين الملازمين بين العلو والجسم ظهر أن الكرامية المنازعين الأشعرية في مسالة العلو والجسم أقرب إلى الصواب منهم فإن من ظهر خطؤه على كل تقدير أولى بالخطأ ممن لم يظهر خطؤه في المسألة الواحدة وهي المقصودة الكبرى على التقديرين جميعاً وخطؤه في المسألة الأخرى وهي مسألة الجسم إنما يظهر على إحدى التقديرين فقط وهذا بين ظاهر فإن الأشعرية قد ثبت لزوم الخطأ لهم بالضرورة إما لأوليهم وإما لآخريهم إذا كان النزاع معنوياً تضاداً كما تقدم وأما الكرامية فهم في مسألة كونه على العرش لم يظهر خطؤهم على التقديرين جميعاً وفي مسألة الجسم إنما يكونون مخطئين على قول الأولين فقط إذ الآخرون من الأشعرية يوافقونهم على أن العلو يستلزم التجسيم وظهر بذلك أن كل ما تنازع فيه هؤلاء لم يظهر فيه نفي أن يكون الله على العرش وذلك لأن هذا هو الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القائل سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف 9] الآية ودين الحق الذي بعث به رسوله ظاهر على كل تقدير(4/299)
وأيضاً فإن هذا معلوم بالفطرة والبديهة وقد ظهر بذلك أن متقدمي الأشعرية وأئمتهم هم أولى بالحق والصواب من متأخريهم وإن كان فو قولهم ما يذكر أنه خطأ فالخطأ الذي مع المستأخرين أعظم وأكثر وهذا لأن الكلام الذي فيه بدعة كلما كان أقرب إلى الفطرة والشرعة كان أقرب إلى الهدى ودين الحق وكلما بعدت البدعة عن ذلك تغلظت وهذا مما يبين أن فطر الناس وبدائههم ممن ليس به هوى ولا تقليد سواء كان في الأمراء أو الملوك أو غيرهم فإنهم يعرفون بفطرتهم وبديهة عقولهم أن ما ذكره من أنه لا داخل العالم ولا خارجه إنما هو صفة المعدوم وأن الموجودين لابد أن يكون أحدهما قائماً بالآخر محايثاً له أي يكون حيث هو يكون أو يكون مبايناً له منفصلاً عنه في جهة غير جهته وما زال أئمة السنة يذكرون هذا مثل ما ذكره عبد العزيز الكناني صاحب الشافعى صاحب الحيدة المشهور بالرد(4/300)
على الجهمية والقدرية وغيرهم قال في رده على الجهمية باب قول الجهمي في قول الله عز وجل الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] زعمت الجهمية أنما قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} إنما المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها باب البيان لذلك يقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستولٍ عليه فإذا قال لا قيل له فمن زعم ذلك فهو كافر ويقال له يلزمك أن تقول إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله أخبر أنه خلق العرش بل خلق السموات والأرض قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] فأخبر(4/301)
أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ثم قال الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر 7] وقوله عز وجل ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت 11] وقوله عز وجل ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [البقرة 29] فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه إذا كان استوى على معناه عندك استولى فإنما استولى بزعمه في ذلك الوقت لا قبل قال وقد روى عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقبلوا البشرى يا بنى تميم قالوا قد بشرتنا فأعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء وروي عن أبي(4/302)
رزين العقيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من مسألته أنه قال يا رسول الله أين كان الله قبل أن يخلق السموات والأرض قال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء(4/303)
قال فقال الجهمي أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما تقول العرب استوى فلان على السرير فيكون السرير حوى فلاناً وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا باب من البيان لذلك يقال له أما قولك كيف استوى فإن الله لا يجري عليه كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف كذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد(4/305)
حواه كما تقول العرب فلان في البيت والماء في الحب فالبيت قد حوى فلاناً والحب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضاً أن تقول إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً قال فلما شنعت مقالته قال أقول بأن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع(4/306)
الشيء خارجاً عن الشيء ولا مبايناً للشيء باب البيان لذلك يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً لأنه لو كان شيئاً داخلاً فمن القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجاً عنه فلما لم يكن في ذلك شيئاً استحال أن يكون كالشيء أو خارجاً عن الشيء فوصفت لعمري ملتبساً لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل إما عمداً وإما خطأ فإن الإنسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظماً ينتصر به فكيف إذا كان مبغضاً(4/307)
لذلك والله اعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم ومانقله هذا عنه لكن نحن نتكلم على ما وجدناه مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الإيمان وغيرها كما في الأشعرية أيضاً بدعة لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة ولا ريب أن أئمة الأشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبد الله بن(4/308)
مجاهد وصاحبه القاضي أبي بكر وأبي علي بن شاذان ونحوهم لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر ابن فورك ونحوه بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياء ولهذا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وكلام أبي سعيد بن كلاب الذي ذكره أبو بكر ابن فورك فيما جمعه من كلامهما وبيان مذهبهما أشياء تخالف(4/309)
ما انتصر له ابن فورك في مواضع وهذه الحجة القياسية التي ذكرها عن ابن الهيصم هي(4/310)
مأخوذة من حجة أهل الإثبات في مسألة رؤية الله وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوماً وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الإثبات في مسألة العلو تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك وتارة يثبتون ذلك بالقياس فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما ولا مشترك إلا الوجود والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره ولذلك عدل طائفة من اتباعه كالقاضي(4/311)
أبي لكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته وذِكْرُ ما فيها من القوادح التي تظهر معها وَهّاهَا وإذا علم ذلك فينبغي أن يعلم الأمران أحدهما أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في مسألة العلو بدعوة الضرورة تارة وبالقياس الذي احتج به ابن الهيصم وغيره تارة أصح من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية بدعوى الضرورة تارة وبالقياس أخرى كما قد ذكرنا فيما قبل أن العلم بأن الله تعالى فوق خلقه أعرف في الفطرة وأشهر في الشريعة وأعظم استقراراً عند سلف الأمة وأئمتها من العلم بأنه يرى وأن الجهمية كانوا يكتمون إنكار ذلك ويتظاهرون بإنكار الرؤية ونحوها ليتوسلوا بما يظهرونه من إنكار الرؤية والقول بخلق القرآن على ما يكتمونه من إنكار وجود الله فوق العرش وكان أئمة السلف يعلمون ذلك منهم فيعرفونهم في لحن القول ويستدلون بما(4/312)
أظهروه على ما أسروه لعلمهم بأصل كلامهم وأنهم إنما أنكروا رؤيته وأنكروا أنه يتكلم حقيقة لأن رؤيته وكلامه مستلزم لوجوده فوق العالم فإذا سلموا الكلام والرؤية وغيرهما لزمهم تسليم أنه فوق العرش إذا أنكروا ذلك ووافقهم عليه من وافقهم توسلوا بذلك لإنكار علوه على العرش وغير ذلك إذ يقال لو كان على العرش لجازت رؤيته ولكان متكلماً وما لا يجوز أن يرى يمتنع أن يكون فوق العرش فلما كانت مسألة العلو هي في نفسها أعظم وأدلتها أقوى وأكثر والمقرون بها أكثر وأكثر من السلف والأئمة والعامة كانت الطريقة التي يسلكها أهل الإثبات فيها أقوى من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية وبيان ذلك أن اعتراف الفطر بأن الله فوق العالم أعظم من اعترافها بأنه يرى ودلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ذلك أعظم من دلالة هذه الأصول على رؤية الله تعالى واعتراف القلوب بأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوماً أعظم من اعترافها بأن ما لا يمكن رؤيته لا يكون إلا معدوماً وما في القلوب من البديهة والضرروة إلى الأول أعظم مما فيها من الضرورة والبديهة إلى الثاني كذلك اعترافها بديهة وضرورة بأن كل موجودين لابد أن يكونا متباينين(4/313)
أو متحايثين أعظم من اعترافها بأن كل موجود فلابد وأن تمكن رؤيته وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الطريقة القياسية التي سلكها ابن الهيصم ونحوه في مسألة العلو أقوى من الطريقة التي سلكها الأشعري ونحوه وابن الهيصم أيضاً في عين مسألة الرؤية وكلاهما سلك طريقة ينصر بها الإثبات الذي جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وكل ما ذكره الرازي من القوادح في هذه الطريقة التي سلكها ابن الهيصم فإنما هي قدح في الأصول العقلية التي سلكها أئمة الأشعرية وغيرهم فهدمه وهدم ابن فورك ونحوه بما ذكروه لأصول أصحابهم وأئمتهم أعظم من هدمهم للأصول التي تذكرها الكرامية وغيرهم في مسألة العرش وهذا بيِّنٌ يعرفه من شدى شيئاً من النظر في هذه المواضع ومن عرف ما اعتمده(4/314)
من الأصول في مسألة الرؤية وعلم ما اعتمده هؤلاء في مسألة العرش الأمر الثاني أنا نذكر أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه أتباع الأشعري مثل الشهرستاني والرازي وغيرهما بل لم يفهموا قعرها ولم يقدروا الأشعري قدره بل قدروا مقدار كلامه وحججه وكان هو أعظم منهم قدراً وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بوناً عظيماً وإذا ظهر أن طريقهم في الرؤية أقوى مما يظنه هؤلاء كان ذلك تنبيهاً على أن طريقة ابن الهيصم في العلو أولى أن تكون أقوى منها وأن يكون القدح فيها دون القدح في تلك ثم نبين إن شاء الله تعالى بالكلام المفصل أن عامة ما ذكره الرازي من(4/315)
القدح فيها قدح باطل ولا حول ولا قوة إلا بالله والله هو المسئول أن يوفقنا للكلم الطيب والعمل الصالح وهو الذي يقوله وإن كان فيه حكم بين هؤلاء الذين يخوضون أحياناً بكلام مذموم عند السلف لكن قد ذكرنا غير مرة أن من حكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه كما في السنن عن عائشة قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأن من كان منهم أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته ووجب تقديمه في ذلك الأمر على ما كان أبعد عن الحق والسنة منه قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى 15] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ [النساء 135] وقال في حق أهل الكتاب وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة 42] وقال فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة 48] فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة بل الحكم بين من فيه فجور ومن فيه بدعة بالعدل ووضعهم مراتبهم وترجيح هذا من الوجه(4/316)
الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق أمر واجب ومن عدل عن ذلك ظاناً أنه ينبغي الإعراض عن الجميع بالكلية فهو جاهل ظالم وقد يكون أعظم بدعة وفجوراً من بعضهم قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة بعد أن احتج بحجج كثيرة جيدة على إثبات الرؤية من الكتاب والسنة والإجماع ومقصوده الأكبر في الإبانة ذكر الحجج السمعية دون القياسية المبنية على الكلام في الجواهر والأعراض فإنه يختصرها فقال بعد ذلك ومما يدل على جواز رؤية الله بالأبصار أنه ليس موجوداً إلا وجايز أن يريناه وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم فلما كان الله موجوداً مثبتاً كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل وإنما أراد من نفي الرؤية لله عز وجل بالأبصار التعطيل فلما لم يمكنهم ذلك صراحاً أظهروا ما يؤول إلى التعطيل وجحدوا الله تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً قال ومما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء وإذا كان للأشياء رائياً وليس يجوز أن يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائياً فجائز أن يرينا(4/317)
نفسه وذلك أنه من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئاً فما كان الله تعالى عالماً بالأشياء كان عالماً بنفسه فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء فلما كان الله رائياً للأشياء كان رائياً لنفسه وإذا كان رائياً لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالماً بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال الله عز وجل إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر أنه سمع كلامهما ويراهما ومن زعم أن الله لا يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل عالماً ولا قادراً ولا رائياً لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى قلت وهذا المعنى الذي ذكره الأشعري من أن الموجود يقدر الله على أن يريناه وأن المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته فنفي الرؤية يستلزم نفي الوجود هو مأخوذ من كلام السلف والأئمة كما ذكره حنبل عن الإمام أحمد ورواه الخلال عن(4/318)
في كتاب السنة قال القوم يرجعون إلى التعطيل في كونهم ينكرون الرؤية وذلك أن الله على كل شيء قدير وهذا لفظ عام لا تخصيص فيه فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يكون داخلاً في العموم مثل أن يقول القائل هل يقدر أن يعدم نفسه أو يخلق مثله فإن القدرة تستلزم وجود القادر وعدمه ينافي وجوده فكأنه قيل هل يكون موجوداً معدوماً وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجوداً معدوماً فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه فيجب أن يكون الشيء موجوداً معدوماً قبل وجوده مفتقراً مربوباً فإذا قدر أنه مثل الخالق تعالى لزم أن يكون واجباً قديماً لم يزل موجوداً غنياً رباً ويكون الخالق فقيراً ممكناً معدوماً مفتقراً مربوباً فيكون الشيء الواحد قديماً محدثاً فقيراً مستغنياً واجباً ممكناً موجوداً معدوماً رباً مربوباً وهذا متناقض لا حقيقة له وليس بشيء أصلاً فلا يدخل في العموم وأمثال ذلك أما خلق قوة في العباد يقدرون به على رؤيته فإن ذلك يقتضي كمال قدرته وما من موجود قائم بنفسه إلا والله قادر على أن يرينا إياه بل قد يقال ذلك في كل موجود سواء قام بنفسه أو قام بغيره(4/319)
وهنا طريقة أخرى وهي أن نقول كل موجود فالله قادر على أن يجعلنا نحسه بأحد الحواس الخمس وما لا يكون مكناً إحساسه بإحدى الحواس الخمس فإنه معدوم وهذه الطريقة مما بين الأئمة أن جهماً يقول إن الله معدوم لما زعم أنه لا يحس بشيء من الحواس لأن الموجود لابد أن يمكن إحساسه بإحدى الحواس كما ذكر الإمام أحمد أصل قوم جهم قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا(4/320)
عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك وكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت رائحة قال لا قالوا فوجدت له حساً قال لا قالوا له فوجدت له مجساً قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هي روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحاً قال نعم فقال هل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حساً أو مجساً قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه من القرآن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ(4/321)
اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل إضلاله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث به رسوله كان كافراً وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشراً كثيراً واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان(4/322)
ولا يكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وذكر تمام كلامه وقد كتبناه قبل هذا إلى أن قال فعند ذلك تبين لناس أنهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية وذكر تمام الكلام والمقصود أنه بين أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس هو أصل كلامه الذي لزم به التعطيل وأنه لا يثبت شيئاً لأن ما يكون كذلك لا يكون شيئاً وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه وإنما يشكون هل يكون ذلك أو لا يكون كما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم هل تضارون في رؤية الشمس وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة فإنما كانوا شاكين هل يرون ربهم لم يكونوا شاكين هل يقدر على أن يريهم نفسه وكذلك في المعاد يعلمون أنهم عاجزون عن رؤيته كما أنهم عاجزون عن أن(4/323)
يقدروا بسمعهم وببصرهم على أكثر مما هم قادرون عليه كما يعجزون عن رؤية الأشياء البعيدة والأشياء اللطيفة مع علمهم أن الله قادر أن يريهم ذلك وكذلك من قبلهم من الأمم ولهذا سأل موسى ربه الرؤية وسأل قومه أن يروا الله جهرة كما سألوا سائر الآيات فإنهم وإن كانوا مذمومين على مسألة الآيات فليسوا مذمومين على علمهم بأن الله قادر عليها كما قد يسأل الرجل ما لا يصلح وهو من الاعتداء في الدعاء مثل أن يسأل منازل الأنبياء ونحو ذلك فإن الله قادر على ذلك ولكن مسألة هذا عدوان ولهذا لا يوجد أحداً من الأمم السليمة الفطرة قال إن رؤية الله ممتنعة عليه يعني أنه لا يجوز أن يكون مرئياً بحال وليس في مقدوره أن يري أحداً نفسه بل هم إذا نفوا الرؤية كان لعظمته من جهة القدر أو الوصف مثل قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 33] أي لا تحيط به ومثل قوله صلى الله عليه وسلم نور أنّى أراه وقال رأيت(4/324)
نوراً وهذا في المخلوقات فالخالق أعظم فإن السماء ينتفي عنها إدراك البصر لسعتها والشمس لبرهانها وشعاعها الذي يعشي البصر فيكون ذلك لعجز البصر عن وصف المرئي وقدره أما أن يقال إن موجوداً عظيماً يمتنع في نفسه أن يكون مرئياً كما يمتنع ذلك في المعدوم فهذا خلاف ما فطر الله عليه عباده بل حيث كان الوجود أكمل كان أحق بأن يجوز أن يرى ويشهد لكن بشرط قوى الرائي وكماله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وفي رواية كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب فقوله لا تضامون(4/325)
ولا تضارون نفي أن يلحقهم ضيم أو ضير كما يلحقهم في الدنيا في رؤية الشيء إما لظهوره كالشمس أو لخفائه كالهلال وأما المعدوم فالإحساس به برؤية أو غيرها يقتضي أن يكون موجوداً معدوماً فإن كان معدوماً يقتضي أنه ليس في الخارج فرؤيته في الخارج يقتضي أنه في الخارج فيقتضي الجمع بين النقيضين الوجود والعدم وهذا باطل ممتنع لا حقيقة له أصلاً فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يقال إن الله عليه قدير فإنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا ليس بشيء أصلاً نعم صورة المعدوم الثابتة في العلم قد تنازع الناس في(4/326)
جواز رؤيتها وتنازعوا كذلك في جواز رؤية الله للمعدومات لثبوتها في علمه والنزاع فيها مشهور وأما الحجة القياسية المشهورة في هذا الباب التي احتج بها الأشعري وغيره فإن هذا الرازي قد ذكرها في نهايته وأورد عليها اعتراضات كثيرة تهدمها وكذلك من قبله كالشهرستاني وغيره ولم يقفوا على غورها ولا أعطوها حقها وليس هذا موضع بسطها لكن ننبه عليها فإنا قد قدمنا فيما تقدم أن الأمثال المضروبة إذا كانت من باب الأولى جاز استعمالها في حق الله تعالى كما ورد به القرآن والسنة(4/327)
واستعملها السلف والأئمة كما يقال إذا كان العبد ينزه نفسه عن شريك أو أنثى فتنزيه ربه أولى وإذا كان العبد عالماً قادراً فالله أولى وكذلك هذه فإن حاصلها أنه إذا جاز رؤية الموجود المحدث الممكن فرؤية الموجود الواجب القديم أولى وإذا كان المخلوق الناقص في وجوده يجوز أن يرى ويحس به فالرب الكامل في وجوده أحق بأن يرى فإن كون الشيء بحيث يرى كمال في حقه لا نقص لأن كونه لا يرى ولا يحس به لا يثبت في الشاهد إلا للمعدوم فكل صفة لم نعلمها تثبت إلا لمعدوم لا تكون صفة كمال بخلاف الصفات التي تثبت للموجود دون المعدوم فإنها لا تكون صفة نقص إلا بالنسبة إلى وجود آخر هو أكمل منها وكل صفة لا تثبت للمعدوم ولا يختص بها الناقص فإنها لا تكون إلا صفة كمال وهذه الطريقة في المسألة يتبين بها أن جواز الرؤية من صفات الكمال التي هو الباري أحق بها من المخلوقات ونظيرها في مسألة العلو أن علة الشيء بنفسه على غيره صفة كمال كما أن قدرته عليه صفة كمال وإذا كامن كذلك فالله أحق بهذه الصفة من جميع ما يوصف بها غيره فيجب أن يكون عالياً بنفسه وكذلك تميزه بذاته عن غيره هي صفة(4/328)
لا يوصف بها المعدوم ولا تختص بالناقصات فتكون صفة كمال فيجب اتصاف الله بها وذلك يوجب مباينته للعالم لكن قد علمنا أنا لم نكتب هنا ما يحتج به أهل الإثبات ولكن تكلمنا على ما ذكره الرازي ولوازمه فبينا أن هذه الحجة القياسية المذكورة في الرؤية مضمونها أنا إنما نرى الأشياء لكونها موجودة والله سبحانه وتعالى موجود بل هو أكمل في الوجود فيجب أن تكون رؤيته جائزة وتلخيصها أن يقال لا ريب أنا نرى الموجودات من الجواهر والأعراض كالألوان والمقادير مثل الطول والقصر ونحوهما دون المعدومات واختصاص الرؤية الموجود دون المعدوم يقتضي أن المقتضي لجواز الرؤية مختص الوجود ومعنى هذا أنه لا يجوز أن يكون الموجود والمعدوم في الرؤية سواء إذ لو كانا متماثلين في ذلك لم يجز اختلافهما في رؤية أحدهما دون الآخر فليس المراد بقولنا إن علة الرؤية أو المقتضي لها مختص بالوجود إثبات علة أو سبب زائد على حقيقة الموجود مقتضٍ لصحة رؤيته كما توهمه من قال في الأحكام ما يعلل منها وما لا يعلل فيجوز أن تكون الرؤية من الأحكام التي لا تعلل بل المراد أن كون أحد الجنسين تصح رؤيته دون الآخر يقتضي اختلافهما في ذلك وعدم تماثلهما(4/329)
سواء كان سبب هذا الاختلاف نفس ذات الموجود أو صفة له أو غير ذلك وهذا لا ينازع فيه من فهمه وإذا كان المقتضي بجواز الرؤية مختصاً بالموجود فإما أن يكون قدراً مشتركاً بين المرئيات من الجواهر والأعراض أو أمراً مختصاً ببعضها لكن الثاني باطل فإن الحكم المشترك يجب أن يكون سببه مشتركاً لأنه لو كان سببه مختصاً كان الحكم موجوداً مع وجوده وموجوداً مع عدمه فلا يكون الحكم متوقفاً عليه بل يكون ذلك الوصف عديم التأثير فيه لا أثر له في وجوده إذ هو موجود مع عدمه كوجوده مع وجوده وهذا بين وقد نبهنا عليه فيما تقدم في تمال العلل والمعلولات وتكلمنا على النقض وعدم التأثير وبينا الفرق بين العلة التامة التي لا تتبعض وغير التامة وعلى هذا فرؤية كل(4/330)
شيء خاص من نوع أو شخص يشارك رؤية غيره في مطلق الرؤية ويفارقها في خصوص رؤية ذلك النوع أو الشخص كما أن المرئي يشارك غيره في كونه موجوداً مرئياً ويفارقها بخصوص نوعه وشخصه فيكون الحكم المطلق المشترك وهومطلق الرؤية معلقاً بالقدر المشترك بين المرئيات والحكم الخاص وهو الرؤية الخاصة معلقاً بالقدر المختص في كل نوع وشخص على حدته وبهذا التحقيق يندفع ما يقال هناك إن الرؤية قد تكون معلقة بخصوص المرئي مثل أن تكون رؤية الجواهر والأعراض معلقة تخص الأعراض فإنه إذا فهم أن الرؤية جنس تحتها أنواع كالمرئيات وأن العام المطلق يضاف إلى العام المطلق والخاص المقيد يضاف إلى الخاص المقيد اندفع هذا وغيره ويزول ما ينقض العلة ويبين عدم تأثيرها وإذا كان كذلك وأن المقتضي لها مشترك فالمشترك بين(4/331)
المرئيات من العيان القائمة بأنفسها والصفات القائمة بغيرها إما الوجود ولوازمه وإما غير ذلك والذي هو غير ذلك هو أخص من الوجود وما كان غير ذلك فلابد أن يستلزم العدم سواء قيل هو الحدوث أو غير ذلك مثل بعض لوازم الحدث لأن المشترك إذا لم يكن هو الوجود ولا شيئاً من لوازمه التي يلزم من عدمها عدم الوجود كان أخص من الوجود بحيث يكون وجود خاص لئلا يلزم من عدم هذا الوجود الخاص عدم الوجود بالكلية إذ كل ما هو مساوٍ للوجود في العموم أو هو أعم منه كالمعلوم والمذكور يلزم من نفيه نفي الوجود وهو من لوازم الوجود والكلام هنا في القسم الثاني الذي ليس الوجود ولا شيئاً من لوازمه ولم نقل ولا شيئاً من ملازمه وهذا الوجود الخاص الذي يقدر أنه سبب الرؤية لا يجوز أن يكون هو الوجوب الواجب فإنا تكلمنا في رؤية المشهودات المخلوقة مع أن علة الرؤية إذا كان هو الوجود الواجب كان ذلك أبلغ في جواز رؤية الله تعالى فإنه سبحانه هو الوجود الواجب لكن ليس الأمر كذلك(4/332)
وإذا كان الأمر كذلك فهذا المقتضي للرؤية على هذا التقدير الذي هو أخص من الوجود إما أن يكون ما يدخل فيه الوجود الواجب أو لا يكون فإن كان المقتضي لجواز الرؤية مايتناول الوجود الواجب ثبت أن المقتضي لجواز الرؤية أمر مشترك بين الوجود الواجب وبين غيره من المرئيات وهذا هو المطلوب وإن كان المقتضي الأخص لا يدخل فيه الوجود الواجب وجب أن يكون مختصاً بما عدا الوجود وهذا سواء كان هو الإمكان أو الحدوث أو ما هو أخص من الإمكان والحدوث مثل التحيز أو المقابلة عند من يقول ذلك هو المقتضي للرؤية وهو منتفٍ في حق الله أو المشروط بالثمانية التي يذكرها المعتزلة أو غير ذلك وكل هذه الأمور إذا قيل بانتفائها عن(4/333)
واجب الوجود واختصاصها بالمخلوق فإنها مستلزمة للعدم وأقل ما يكون لقبول العدم فإن كل ما لا يدخل في الوجود الواجب فهو قابل للعدم بل هو معدوم تارة وموجود أخرى وإذا كان كذلك ظهر أن المقتضي للرؤية إذا لم يكن هو الوجود أو لوازمه كان مستلزماً للعدم وإن شئت لقبول العدم وبهذا التقسيم الدائر بين النفي والإثبات انقطع ما يورد هنا من السؤالات وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المقتضي لرؤية المرئيات أمراً يشترط فيه العدم أو قبوله لأن كونه معدوماً أو قابلاً للعدم لا يكون مقتضياً لأمر وجودي فالرؤية أمر وجودي والأمر الوجودي لا تكون علته أمراً عدمياً والعلم بهذا بديهي لمن تصوره لكن قد يكون الأمر العدمي مستلزماً لوجود مثل عدم الموانع المستلزمة لكمال العلة بوجود شروطها التي هي أجزاء العلة التامة فيضاف الحكم إلى ذلك العدم ويكون ذلك إضافة إلى علة ناقصة والعلة الناقصة تكون جزءاً وشرطاً من العلة(4/334)
التامة والعدم وإن كان في الظاهر جزءاً من العلة التامة فلابد أن يستلزم أمراً وجودياً وإلا فيمتنع أن يكون العدم علة للوجود أو جزءاً من علة الحقيقة بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المقتضي للرؤية التي هي أمر موجود أمراً يستلزم العدم أو قبول العدم لأنه يكون العدم أو قبول العدم جزءاً من علة الأمر الموجود وهذا باطل فإن قيل هذا أو قبوله إنما كان علة للأمر الموجود لأنه يستلزم أمراً وجودياً كان ذلك الوجود هو جزء العلة في الحقيقة فلا يكون علة الرؤية إلا الوجود أو لوازم الوجود لا يكون ما يستلزم العدم أو قبوله وإذا لم تكن العلة ما يستلزم العدم أو قبوله بطل أن يكون علة الرؤية الحدوث أو شيئاً يختص بالمحدثات أو ببعضها أو الإمكان أو وصفاً يختص بالممكنات أو ببعضها ووج أن يكون قدراً مشتركاً بين القديم والمحدث بين الواجب والممكن بل أن يكون القديم الواجب أحق به فإنه إن كان هو الوجود فظاهر وإن كان شيئاً من لوازم الوجود فذلك الوصف متى انتفى انتفى الوجود فلا يكون ثابتاً إلا بثبوت الوجود ومن المعلوم أن الوجود وجميع لوازم الوجود مشتركة بين الواجب والممكن والقديم والمحدث وإذا كان كذلك ثبت أن المقتضي للرؤية أمر ثابت في حق الله تعالى القديم الواجب(4/335)
الوجود فتكون رؤية الله جائزة بل تكون أحق بجواز الرؤية لأن وجوده أكمل من وجود غيره ومن فهم هذه الحجة على هذا الوجه ظهر له أنها برهانية وأمكنه دفع تلك السؤالات الكثيرة التي تورد إذا ذكرت على هذا النظم ولولا أن هذا ليس موضع ذلك وإلا كنا نفعل ذلك مفصلاً لكن فالجواب عما أورده على هذه الحجة في احتجاج ابن الهيصم بها في مسألة العلو فظهر أصل الجواب في مسألة الرؤية وقد ظهر أن حجة ابن الهيصم لم يقررها هو تقريرا ًجيداً فإذا أردت تلخيص هذه الحجة فقل الرؤية مختصة بالموجود دون المعدوم وهذا الاختصاص إما أن يكون للموجود أو لما يساويه في العموم والخصوص أو لما هو أعم منه أو لما هو أخص منه فإن جازت لموجود أو لما(4/336)
يساويه أو لما هو أعم منه جازت رؤية كل موجود لثبوت الوجود أو ما يساويه أو ما هو أعم منه لكل موجود وإن اكن لما هو أخص من الوجود فإذا كان لما يندرج في الواجب جاز رؤيته أيضاً لوجود نقيضها وهو الوصف الذي يوجد للواجب وغيره وإن كان لا يندرج فيه الواجب فما سوى الواجب فهو محدث عند أهل الملل قد كان معدوماً وهو قابل للعدم بلا نزاع فيكون المقتضي للرؤية لابد أن يشترط فيه العدم أو قبوله ولا يجوز ذلك لأن الأمور الوجودية لا يشترك في علتها العدم ولا قبول العدم وطرد هذه الحجة يوجب ثبوت كل أمر وجودي ويقال على هذا جميع لنقائص التي يجب تنزيهه تعالى عنها فإنما هو لاستلزامها العدم وأما الوجود من حيث هو وجود فهو كمال فلا يجوز نفيه عنه وهذه الطريق توافق قول من يقول الكمال وهو الوجود وتوابعه وهو الخير والشر عدم الوجود وعدم كماله وبها يمكن أن نثبت جميع الصفات كالسمع والبصر والكلام فإنها وجود ليس فيها عدم والنقائص التي هي ضد هذه فيها العدم وهو عدم هذه الأمور وكلام السلف والأئمة موافق لهذه الطريقة حيث كانوا ينزهونه عن النقائص التي يشبه فيها المعدوم أو الموات العادم(4/337)
لصفات الكمال وهذا موافق ما قدمناه قبل هذا من أن ما كان صفة للعدم لم يجز أن يوصف الله به وإنما يوصف من السلوب بما كان مستلزماً للوجود إذ العدم المحض ليس فيه ثناء وحمد وصفات الله فيها الثناء والحمد وهذا يطابق أن الموجود من حيث هو فيه الثناء والحمد والحمد لله رب العالمين ونكتة هذه الحجة أن كل حكم ثبت لمحض الوجود فالوجود الواجب أولى به من الممكن وكذلك من الأمثال المضروبة وهي الأقيسة العقلية ولله المثل الأعلى أن كل كمال ثبت لموجود فالواجب أولى به من الممكن وكل كمال يوجد في المربوب فالرب أولى به من العبد وهذا مما سلكه الفلاسفة لكن يعبرون بمعنى التولد فيقولون كل كمال(4/338)
ثبت للمعلول فإنه من أثر العلة والعلة أولى به من المعلول وهذه أقيسة عقلية وأمثال مضروبة ولله المثل الأعلى تستعمل في عامة الأمور الإلهية كما ورد الكتاب والسنة بنحو ذلك كما قد بيناه في غير هذا الموضع وقولنا في هذه الحجة كل حكم ثبت لمحض الوجود يخرج الأحكام التي تتضمن العدم مثل الأكل والشرب فإن ذلك يستلزم كون الآكل والشارب أجوف بحيث يحصل الغذاء الذي هو أجسام في محل خال لاسيما إذا كان قد خرج غيره بالتحلل ويكون بدل المتحلل فيكون متضمناً خروج شيء من الجسم وذلك نقص منه وهو صفة عدمية ووجود أجزاء فيه وذلك يستلزم خالياً وهو نقص فيه وهو صفة عدمية وهذا(4/339)
ينافي الصمدية فإن الصمد هو الذي لا جوف له فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره من جنس الفضلات التي تخرج من الإنسان فإن دخول جسم فيه أو خروج جسم منه يتضمن النقص المستلزم لأمر عدمي وهذا ينافي الصمدية وليس هو من الأحكام الثابتة لمحض الوجود بل من الأحكام المتضمنة وجوداً أو عدماً فلا جرم لم يكن سبب ذلك وصفاً يتناول الواجب والممكن بل وصف يختص بالممكن المحدث وهوالحاجة والافتقار في الطعام لإخلاف بدل ما يتحلل من البدن وفي الإنزال لدفع الضرر الحاصل بسبب المني بمنزلة إخراج الدم عند الحاجة فوجود جسم فيه يضاده ويضاره عجز وفقر من خصائص المخلوق وحاجته إلى جسم خارج منه يتم به وجوده فقر وحاجة من خصائص المخلوق ولهذا كان أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون ولا يبولون ولا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يمنون وإنما يتحلل الطعام عنهم برشح كرشح المسك(4/340)
لأن تلك الفضلات مضادة للبدن مؤذية له وليس في الجنة أذى وأما الأكل والشرب فإنما هو استكمال بعد نقص وهذا من لوازم المخلوقات وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ولهذا قال سبحانه مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [المائدة 75] فأكل الطعام ينافي الصمدية ويوجب الفقر والحاجة المنافي للربوبية من وجوه متعددة وهكذا سائر الأحكام التي تعرض لبعض الموجودات والرب منزه عنها مثل السنة والنوم هما من الحكام المتضمنة أمراً عدمياً فليس هو من أحكام الوجود المحض ولهذا كان أهل الجنة مع كونهم موجودين لا ينامون فإن النوم أخو الموت وهو يتضمن أمراً عدمياً وكذلك العجز والجهل(4/341)
والصمم والعمى وسائر ما ينافي صفات الكمال وإن وصف به بعض الموجودات فإنه متضمن أمراً عدمياً وهذا معنى النقص فإن النقص يتضمن أمرًا عدمياً وكل مل تضمن عدماً محضاً فإن الله لا يوصف به فإنه يقتضي العدم المحض إذ هو الوجود الواجب وإنما يوصف بالصفات السلبية المتضمنة أمراً وجودياً وأما طرد هذه الحجة في الإدراكات الأربعة هي السمع واللمس والشم والذوق فإنه وإن كان طردها طائفة من الصفاتية كالأشعري وأئمة أصحابه فلا يحتاج إلى ذلك عند التأمل بل يفصل الأمر فيه وإذا فصل تفصيلاً يقتضيه العقل الصريح كان ذلك موافقاً لما جاءت به الآثار وعليه أئمة الحديث وذلك أن السمع لم يتعلق بالجوهر والأعراض كالرؤية وإنما يتعلق بنوع من الأعراض وهو الأصوات مثلاً فإذا لم يكن متعلقاً بشيء قائم بنفسه كيف يمكن طرده في كل موجود قائم بنفسه حتى يقال إنه يمكن سمعه أما اللمس فإنه يتعلق بالجواهر والأعراض وهو الذي أورده من جهة الإلزام فلزم لزوماً واضحاً لكن قاسوا عليه بقية(4/342)
الإدراكات فلا جرم جاءت الأحاديث بثبوت المماسة كما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم يده وغير ذلك من مسائل الصفات وإن كان قد نفاه طوائف من أهل الكلام والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وليس هذا موضع الكلام فيه وإنما الغرض التنبيه على مجامع هذه الحجة وأما الذوق فهو مس خاص وكذلك الشم مس خاص فإن الهواء وهو جسم يدخل إلى المنخرين إلى الزائدة التي في الدماغ بخلاف السمع والبصر فإنه ليس فيهما مماسة المرئي والمسموع ولهذا كانت أصول الإحساس ثلاثة السمع والبصر والمس قال تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ [فصلت 22] ولما كان اللمس جنساً تحته أنواع مختلفة في الحيوان وليس طريقاً عاماً إلى حصول العلم الكلي المجرد في القلب(4/343)
بل نفس الإحساس وما يتبعه من ملاءمة ومنافرة فيه خصوص في سببه ومقصوده بخلاف السمع والبصر فإنهما طريقان إلى حصول العلم فيهما العلم الكلي في القلب والبصر يحصل به العلم بنفس الحقائق الموجودة والسمع يحصل به العلم بما يقال من أسمائها وصفاتها كان السمع والبصر في كتاب الله مخصوصين بالذكر دون غيرهما من الإحساس فيقال أما قوله في الوجه الأول مدارها على أن كل موجودين في الشاهد فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة قوله وهذه المقدمة ممنوعة فنقول منع هذه من أعظم السفسطة فإن الشاهد ما نشهده بحواسنا الظاهرة أو الظاهرة والباطنة وليس فيما نشهده شيء إلا محايث لغيره وهي الصفات التي هي الأعراض أو مجانب له بالجهة وهي الأعيان القائمة بنفسها وهي الجواهر فمن منع أن يكون المشهود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين فقد منع أن تنقسم المشهودات إلى الجواهر والأعراض ومعلوم أن هذا خلاف اتفاق الخلائق من الأولين والآخرين وخلاف ما يعلم بالضرورة والحس فإن الشيء المشهود إما قائم بنفسه وهو مباين لغيره وإما قائم بغيره وهو محايث له(4/344)
وأما الوجوه التي ذكرها فعنها أجوبة أحدها أن الاستدلال على ذلك غير مقبول أنه قدح في أظهر الحسيات الضروريات الثاني أن هذا المؤسس وسائر طوائف أهل الحق متفقون على بطلانها وهو من أعظم الناس إبطالاً لما ذكره الفلاسفة في وجود جواهر غير محايثة لغيرها ولما ذكره المعتزلة من وجود أعراض غير محايثة لغيرها بل ما زال الناس يذكرون أن هذا من أعظم المحالات المتناقضة التي أثبتتها المعتزلة حيث أثبتوا إرادات وكراهات لا في محل وأن قولهم هذا يوجب عليهم وجود بقية الأعراض لا في محل وينقض عامة أصولهم الوجه الثالث أن يقال ما ذكروه من الحجة على أن الموجودين لابد وأن يكونا متباينين أو متحايثين هو حجة على(4/345)
هؤلاء وغيرهم فيكون التزام بطلان هذه الأقوال طرد الدليل والمستدل إذا استدل بدليل يبطل مذهب منازعيه في الصورة التي تنازعا فيها وفي غيره مما لم يذكره لم يكن للمنازع أن ينقض دليله بمجرد مذهبه في صورة النزاع ولا يجب على المستدل أن يخص كل صورة بدليل خاص إذا كان العام يتناول الجميع وبهذا يظهر خطؤه في قوله ما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد فإما أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه وكذلك قوله ما لم تبطلوا قول المعتزلة بثبوت إرادات وكراهات وفناء لا في محل فإن الدليل الذي ذكروه على أن كل موجودين لابد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو يكون بحيث هو سواء كان هو الضرورة أو الحجة القياسية حجة على هؤلاء وعلى غيرهم فلا يكون مجرد دعوى هؤلاء أو دعوى غيرهم معارضة لما ذكر من الدليل لكن إن أقاموا حجة على جوهر غير مباين لغيره أو ثبوت عرض غير محايث لغيره كان ذلك الدليل معارضاً لكن هذا لم يذكر والجواب عنه إذا ذكر هو جواب المؤسس وسائر بني آدم وذلك يظهر بالوجه الرابع وهو أن قوله إن جمهور(4/346)
الفلاسفة يثبتون هذه الأشياء ويصفونها بما ذكر بل هذا تثبته طائفة من الفلاسفة وهم المشاؤون أتباع أرسطو ومن وافقهم وهؤلاء هم الذين سلك سبيلهم الفارابي وابن سبنا وهذا المؤسس من كتب ابن سينا يأخذ مذاهب الفلاسفة(4/347)
وكثيراً ما يقول اتفق الفلاسفة ولا يكون عنده إلا ما ذكر ابن سينا وليس ما يذكره ابن سينا قول جميع الفلاسفة بل الفلاسفة أعظم تفرقاً وأكثر طوائف من أن يحصر قولهم كلام ابن سينا أو غيره وقد حكى من صنف في المقالات من المسلمين مثل أبي الحسن الأشعري والنوبختي والباقلاني وغيرهم من مقالات الفلاسفة أضعاف أضعاف ما يذكره ابن سينا وهذا المؤسس وكذلك حكايته عن جمهور المعتزلة إثبات إرادات وكراهات وفناء لا في محل وهذا إنما هو قول بعض البصريين وهم أبو علي وأبو هاشم ونحوهما وليس هؤلاء جمهور المعتزلة بل لهم في الإرادة والكراهة وفي الفناء أقوال(4/348)
كثيرة معروفة هذا واحد منها أما الوجه الثالث الذي ذكره على وجود موجودات في الأعيان وهي الإضافات وأنه يمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة فهذا يعلم فساده بالضرورة والحس واتفاق العقلاء فلا يستحق الجواب فإن بعض الناس قد تنازع في الأمور التي لم يشهدها كالعقول والإرادات أما هذه الأعيان المشهودة فإنه لم يقل عاقل أنه يوجد فيها أمور لا مباينة للغير ولا محايثة له فإذا كان على هذا الوجه لم يستحق الجواب لكنا نبين وجه جهله لتتم الفائدة فنقول الأبوة هي كون الإنسان تولد منه نظيره والبنوة كونه يولد من نظيره أو ما يشبه هذا فإن الولادة داخلة في مسمى الأبوة والبنوة وكون الشيء ولده غيره أو ولد غيره وصف محسوس قائم بالوالد والولد وفي الحقيقة هو صفة ثبوتية فيها إضافة وأما العمومة والخؤولة ففيها ولادتان ولادة الأب للشخص وولادة جده لعمه وبنوة العم فيها ولادة ثالثة وهي ولادة العم لابنه فتفرع النسب يكون متعدد الولادة وقد يكون إحدى الولادات(4/349)
موجوداً لكن يتوقف الوصف على الأخرى كما يتوقف الأمر في العمومة والخؤولة على نحو ذلك ومن هنا يظن الظان أنها إضافة محضة والتحقيق أن أحد الوصفين وجد قل الآخر ومن المعلوم أن كونه ولد وانفصل عن أبيه وأمه ليس هو سبباً يتبعض حتى يقال ثلث ولادة وربع ولادة أعني إذا خرج جميعه وإذا لم تكن منقسمة لم تكن الأبوة والبنوة منقسمة حتى يقال ثلث الأبوة أو ثلث البنوة كما لا يقال نصف الحيوانية والإنسانية والناطقية ونحو ذلك فظهر أن الأبوة التي هي وجودية محايثة لذات الرب كغيرها وكيف لا يكون ذاك والأبوة من أعظم الصفات القائمة بالأب المغيرة له تغيراً مشهوداً بالحس لما يوجد فيه من محبة الولد والحنو عليه والعطف عليه وأمثال ذلك مما لا يوجبه سائر الصفات فهي بأن تكون قائمة به أولى من غيرها وأما السؤال الثاني وهو قوله كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا إما أن يكون وإما أن لا يكون إشارة إلى كونه قابلاً للإنقسام إليها وقبول القسمة حكم عدمي فلا يكون معللاً فعنه أجوبة(4/350)
أحدها أن المراد بذلك أن الموجود يلزمه أحد الوصفين أي أن كل موجودين فإنه يلزم أحدهما أن يكون محايثاً للآخر أو مبايناً عنه فلزوم أحد الوصفين للوجود وقيامه به وكونه لا يفارقه هو المعني بقولهم إما أن يكون محايثاً أو يكون مبايناً وهذه القضية التي يسمونها مانعة الخلو مع كونها مانعة الجمع أي أن الموجود لا يخلو عن أحد هذين الأمرين والخلو عن الصفات أمر عدمي فنقيضه يكون وجودياً فثبوت أحد هذين الوصفين للموجود أمر وجودي ليس المراد بهذا التقسيم أن الموجودين ينقسمان إلى ما يكون محايثاً وما يكون مبايناً فإن العرضين القائمين بمحل كل منهما محايثاً للآخر ليس مجانباً له والجوهران كل منهما مجانب للآخر ليس محايثاً له فهذا ليس من باب تقسيم الكلي إلى جزئياته وإنما هو(4/351)
من باب التقسيم المانع من الجمع بين للقسمين والخلو منهما وبهذا يظهر غلطه في السؤال الثالث أيضاً وإذا كان هذا التقسيم ليس هو القسمة إلى أمرين كتقسيم الكلي والكل وإنما هو بيان لزوم لأحد القسمين ونفي خلو المحلين عنهما جميعاً بطل قوله هذا إشارة إلى كونه قابلاً للإنقسام إليهما بل هذا إشارة إلى لزوم أحدهما الوجه الثاني قوله قبول القسمة حكم عدمي يقال لا نسلم ولا نسلم أن أصل القبول حكم عدمي بل كون الوجود قابلاً لشيء نقيضه عدم كونه ليس بقابل له والقبول رافع لهذا العدم ورافع العدم وجود وهذه الحجة هي التي احتج بها على أن الأبوة وجودية فإن صحت صح أن القبول وجودي وإن بطل ذلك في القبول بطل في الأبوة أيضاً الوجه الثالث قوله لو كان أمراً ثابتاً لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه بكونه قابلاً والذات قابلة(4/352)
للصفة القائمة بها فيكون قبول ذلك القبول زائداً عليه ويلزم التسلسل يقال قبول الانقسام ونحوه من الصفات كون ذلك ممكناً في نفس الذات وإمكان الشيء لا يحتاج إلى إمكان آخر وهذه الصفة لازمة للذات ليست الذات قابلتها بمعنى أنه يمكن وجودها ويمكن عدمها بل كونها قابلة أمر لازم لها واجب لها وهذا القبول يراد به عدم الامتناع بمعنى الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب والأولى بمعنى الإمكان الخاص فإذا كان أحد القبولين هو الإمكان الخاص والآخر هو العام وهو بمعنى الوجوب كان ذلك بمعنى الوجوب ووجوب الصفة للموصوف ليس فيه تسلسل وإنما جاء الغلط من لفظ الاشتراك والقبول الوجه الرابع هب أن القبول أمر عدمي فقوله يمتنع تعليله قيل المراد بالتعليل هنا التلازم ليس المراد به أن يكون أحد الأمرين غنياً عن الآخر موجباً له وبهذا الاعتبار يصح أن يكون كل من الأمرين لازماً ملزوماً(4/353)
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة أن التقسيم لزوم لا قبول ولو كان قبولاً لم يكن عدمياً ولو كان عدمياً فمعناه أن الموجود لابد له من أن يكون مع غيره من الموجودات إما محايثاً له وإما مبايناً له وهذا لازم لكون الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكل قائم بنفسه فهو مباين للقائم بنفسه وكل قائم بغيره فهو محايث لذلك الغير ولما شاركه في القيام بذلك الغير وأما السؤال الثالث فقوله ما الذي تريدون بقولكم الموجود في الشاهد منقسم إلى المحايث والمباين فعنه جوابان أحدهما أن يقال له لم يقولوا هكذا وإنما قالوا الموجودان لابد وأن يكون كل منهما مبايناً للآخر أو محايثاً له والموجود بنفسه مع الموجود الآخر إما مبايناً له أو محايثاً له لم يقولوا إن الموجودات تنقسم إلى قسمين أحدهما مباين والآخر محايث وفرق بين كون الموجود بالنسبة إلى غيره يلزمه أحد الأمرين وبين كون الموجود ينقسم إلى الأمرين وإذا كان كذلك فلزم أحد الأمرين حكم واحد ليس هو حكمين(4/354)
مختلفين والفرق ظاهر بين أن يكون الموجود ينقسم إلى قائم لنفسه مباين لغيره وهو الجوهر وهو قائم بغيره محايث له وهو العرض وبين أن يقال كل موجود مع غيره فلابد أن يكون مبايناً له أو محايثاً له أو يقال الموجود من حيث هو موجود يلزمه أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره فإن هذا حكم واحد لموجود وذاك حكمان مختلفان فهذا الواحد هو ما به الاشتراك وهو مورد التقسيم وذانك الاثنان هما ما به الامتياز وهو ما به يمتاز أحد القسمين عن الآخر بالحكم الواحد المشترك وهو لزوم أحدهما والانقسام إليهما يلزم الوجود المشترك والحكم المختص يلزم القسم الخاص فخصوص كونه قائماً بنفسه حكم النوع الخاص وهو الجوهر وخصوص كونه قائماً بغيره حكم النوع الآخر الخاص وهو العرض ولا ريب أن خصوص كونه جوهراً وعرضاً يصلحان لما يختص بالجوهر والعرض وأما لزوم أحد الحكمين لكل موجودين أو كل موجود وكون الموجود والموجودين لا يخلو عن أحد هذين الوصفين فهذا الحكم المشترك بينهما لا يصلح تعليله بخصوص الجوهر وخصوص العرض وهذا ليس هو أن الموجود في الشاهد منقسم إلى هذين القسمين فليس هو قسمة الكل إلى أجزائه فظهر أن الذي قالوه ليس بغلط ولكن هو(4/355)
غلط غالًط وهذا مثل أن يقال الموجود لابد أن يكون إما قديماً أو محدثاً وإما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً فإن هذا يختص بالموجود فالمعدوم لا يكون قديماً ولا محدثاً ولا خالقاً ولا مخلوقاً فلزوم أحد القسمين حكم مشترك بينهما والموجود من حيث هو مشترك بينهما الجواب الثاني أن يقال هي أنهم قالوا الموجود في الشاهد ينقسم إلى المحايث والمباين فإن انقسام الشيء إلى قسمين حكم واحد ولكن ما يخص أحد القسمين حكم يخالف الآخر فهب أن وجوب المباينة معلل بكونه جوهراً ووجوب المحايثة معلل بكونه عرضاً لكن القدر المشترك وهو لزوم الانقسام وقبوله ووجوب الانقسام إلى جوهر وإلى عرض حكم مشترك بينهما وهذا الحكم المشترك يجب تعليله بالقدر دون الحكم المختص لأن وجوب الانقسام ولزومه وقبوله وكونه بحيث ينقسم إلى قسمين هو مورد التقسيم ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فيجب تعليله بالمشترك فالمقسوم هو الموجود من حيث هو لا وجود الجوهر خاصة ولا وجود(4/356)
العرض خاصة والموجود وإن لم يكن في الخارج إلا متميزاً فهذه قسمة الكلي إلى جزئياته فهذا حاله بخلاف الكلي الموجود في الخارج كالإنسان مثلاً إذا قسم إلى أجزائه من الرأس واليد ونحو ذلك وأما قوله في السؤال الرابع لِمَ قلتم أنه لابد من تعليله إما بالوجود وإما بالحدوث وما الدليل على الحصر فإنه يمكن أن يقال هنا ثلاثة أشياء أحدها أن يقال البحث التام والسبر التام والاستقراء(4/357)
التام قد يفيد اليقين تارة كما يفيد الظن القوي أخرى وهذا مما يقال في مواضع وقول القائل الشهادة على النفي غير معلومة ليس بصحيح بل النفي قد يعلم تارة كما يعلم الإثبات الثاني أن يقال هذا يفيد الاعتقاد القوي والظن الغالب وهذا فيه إنصاف وعدل وهو خير من دعوى البراهين القطعية التي تظهر عند التحقيق أنها شبهات وخيالات فاسدة ومن قال لا يجوز أن يحتج في هذا الباب إلا بالقطعي الذي لا يحتمل النقيض قيل له أولاً أنت أول من خالف هذا فأنت دائماً تحتج بما لا يفيد الظن الغالب فضلاً عن اليقين وقيل له ثانياً لا نسلم بل الواجب على كل إنسان أن يأتي بما هو الحق فإن كان عنده علم قاطع قال به والمسائل التي تنازع بنو آدم فيها لأن يحصل للإنسان فيها ظن غالب خير من أن يكون في الحيرة والجهالة أو يكون في التقليد أو الحجج الفاسدة كما هو الواقع كثيراً وسنتكلم إن شاء الله على هذا في الكلام على(4/358)
الأحاديث وقيل له ثالثاً هذا إذا انضم إلى غيره حصل من مجموعهما اليقين وإن لم يكن اليقين حاصلاً بأحدهما كغير ذلك منم الأدلة السمعية والعقلية الثالث أن هذا يمكن تقريره بالتقسيم الدائر بين النفي والإثبات كما قررناه في مسألة الرؤية وهو أن يقال المشترك بينهما إما أن يكون هو الوجود أو ما هو من لوازمه أو لا الوجود ولا شيئاً من لوازمه وما ليس الوجود ولا شيئاً من لوازمه يكون أخص من الوجود لأن ما هو مساوٍ له في العموم والخصوص وما هو أعم منه لازم له وأما الأخص منه كالحدوث والإمكان فليس بلازم له لأن الوجود قد لا يكون مكناً ولا محدثاً بخلاف الأعم مثل جواز كونه مذكوراً ومعلوماً فإن ذلك يلزم من انتفائه انتفاء كونه موجوداً لأنه أعم منه وإن شئت قلت إما أن يكون هو الوجود أو ما يساويه في العموم والخصوص أو أعم منه أو أخص فإذا كان أخص منه فإما أن يتناول الوجود الواجب أو لا يتناوله فإن تناوله فهو في ذلك كالوجود وإن لم يتناوله فإنه مستلزم الحدوث فإن كل(4/359)
ما لا يدخل في مسمى واجب الوجود فهو محدث فثبت أن العلة إما أن تكون هي الحدوث أو ما يشترط فيه الحدوث مثل ما هو أخص من الحدوث وإما أن يكون هو الوجود أو ما يتناول واجب الوجود وهذا التقسيم دائر بين النفي والإثبات وإليه يرجع حقيقة قولهم إما الوجود وإما الحدوث وهذا التحرير يظهر الجواب عن السؤال الخامس وهو قوله لا نسلم أنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث أو الوجود بيانه من وجهين الأول أنه من المحتمل أن يقال المقتضي لقولنا إن الشيء إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً عنه بالجهة وهو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية لأن كل شيئين صح الإشارة إليهما فإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر أو غيره فيقال له كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه إما أن يكون مطابقاً للوجود في العموم والخصوص بحيث يقال(4/360)
الموجود لابد أن تصح الإشارة الحسية أصلاً أو تبعاً وأن كل موجودين فلابد أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر أو غيره أو يكون أخص منه فإن كان مطابقاً له حصل المقصود وكذلك إذا كان أعلم منه بطريق الأولى لأنه حينئذ تكون الحجة دليلاً على شيئين على صحة الإشارة الحسية إليه وعلى كونه مبايناً للعالم وإن كانت صحة الإشارة إليه أخص من الوجود بحيث تصح الإشارة الحسية إلى بعض الموجودات دون بعض فإن كان واجب الوجود داخلاً في ذلك صحة الحجة أيضاً وإن لم يكن داخلاً في ذلك كانت صحة الإشارة مستلزماً للحدوث فيكون التعليل بصحة الإشارة الحسية تعليلاً بما يستلزم الحدوث كما سنبينه إن شاء الله وأما قوله في الوجه الثاني إن الجواهر والأعراض مشتركان في الأمر الذي به وقعت المخالفة بينهما وبين الباري فلم لا يجوز أن يكون هذا هو المقتضي لقبول الانقسام إلى المباين والمحايث وحينئذ يبطل قوله لا مشترك بينهما إلا الحدوث(4/361)
يقال هذه المخالفة لذات الباري المشتركة بينهما هي مستلزمة للحدوث فإنها من خصائصها لا توجد في الباري وما يختص المحدث مستلزم للحدوث وإذا كان كذلك كان حكمه حكم الحدوث فإن قولهم هو الوجود أو الحدوث كل وصف يستلزم الحدوث فحكمه كحكمه في ذلك وكل وصف لازم للوجود بحيث يلزم من عدمه عدم الوجود هو كالوجود فإن رفع التعليل به يقتضي رفع التعليل بالوجود كما تقدم بيانه قوله في السؤال السادس لِمَ لا يجوز أن يكون المقتضي لهذا الحكم الحدوث قوله الحدوث ماهية مركبة من العدم والوجود قلنا كل محدث فإنه يصدق عليه كونه قابلاً للعدم والوجود وأيضاً كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين معناه كونه قابلاً للانقسام إلى القسمين فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في الموضعين كذلك وإن كانت عدمية فكذلك ولا يبعد تعليل عدم بعدم يقال أما الحدوث أو ما يستلزم الحدوث فلا يجوز أن يكون هو علة للأمر الوجودي لأن ذلك مستلزم للعدم وما يستلزم العدم لا يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي فلا يعلل(4/362)
الأمر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات إلا بأمر وجودي يختص بالموجودات وكذلك لو أريد بالتعليل الملازمة ف5إن الأمر الوجودي لا يكون مستلزماً للأمر المستلزم للعدم لأنه يوجب أن يكون العدم مستلزماً الوجود والعدم لا يكون مستلزماً للوجود فلا تكون الرؤية ولا صحة المحايثة والمبانية مستلزماً لما يتضمن العدم سواء كان هو الحدوث أو ما يستلزم الحدوث إذ كل منهما مستلزم للعدم والوجود لا مستلزم للعدم إلا بطريق استلزامه لوجود يمنع غيره فيكون العدم ضد الوجود أما أن يكون وجود جنس الأمر الوجودي معلقاً بوجود يشترط فيه أن يكون معدوماً فلا قوله كل محدث يصدق عليه كونه قابلاً للوجود والعدم وكذلك كون الشيء منقسماً إلى المحايث والمباين إلى آخره يقال له هذا غلط من وجوه أحدها أن المحدث الذي تجوز رؤيته هو الموجود دون المعدوم فإن المعدوم لا يجوز رؤيته ولا يجوز تعليل رؤية الوجود المنقسم إلى محايث ومباين بأنه محدث منقسم إلى موجود ومعدوم فإن المحدث الذي يدخل فيه المعدوم لا يرى(4/363)
بحال فهو أعم مما يرى والعلة لا تكون أعم من المعلول وأيضاً فالمحدث الذي يصدق عليه أنه قابل للوجود والعدم إنما هو الحقيقة الذهنية التي لا وجود لها في الخارج فهي تقل أن تكون موجودة وأن تكون معدومة وأما الوجود فلا يقبل ذلك الثاني أنه ليس قبول الحقيقة لأن تكون موجودة ومعدومة مثل قبولها لأن تكون محايثة لغيرها أو مباينة له لأن ذلك القبول لا يقوم بشيء موجود بل هو حكم ذهني وأما هذا الثاني فهو صفة لأمر موجود فإن المحايثة والمباينة صفة لأمر موجود وليس كل واحد من الوجود والعدم صفة لموجود الثالث أن الشيء الذي يقبل الوجود والعدم هو شيء بعينه يقبل الوجود تارة والعدم تارة ليس المحدث ينقسم إلى موجود ومعدوم وأما المحايثة والمباينة فليستا صفتين متعاقبتين على حقيقة واحدة بل الحقيقة الموجودة المطلقة تنقسم إلى محايث موصوفاً بالمباينة وإلى مباين ليس موصوفاً بالمحايثة فليس هذا نظير ذلك الرابع أنا قد بينا أن الحكم الواحد هو لزوم أحدهما للوجود وهذا حكم واحد وجودي ولا يقال إن أحد الأمرين(4/364)
من الوجود والعدم يلزم المحدث بل المحدث بعد حدوثه لا يكون إلا موجوداً وقبل وجوده لم يكن إلا معدوماً وإن أريد به الحقيقة أنه يلزمها أحد الأمرين فيقال هو يلزمها إما الوجود وإما العدم ولزوم أحد الأمرين واحد وجود والثاني عدم لا يكون وجودياً بخلاف لزوم أحد أمرين وجوديين المباينة والمحايثة فإن لزوم أحد هذين يكون وجودياً الخامس أن الصواب المتفق عليه بين أهل السنة وعقلاء الخلق أن العدم ليس بشيء في الخارج وإنما كان له وجود في العلم وإذا كان كذلك فالمحدث تارة يكون شيئاً وتارة لا يكون شيئاً فلا يكون كونه شيئاً وكونه ليس بشيء علة لكونه محايثاً أو مبايناً فإن هذين يختصان بما هو شيء وما هو شيء لا يكون علة ما يستلزم في أحد حاليه أن لا يكون شيئاً أو لا يكون علة انقسام حالية إلى أن يكون شيئاً تارة وغير شيء أخرى وأما ما أورده على قوله إن الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول من معارضة ذلك بأن يقال العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيقال عنه جوابان أحدهما القول بموجب ذلك فإن كل ذي فطرة سليمة لم يتقلد مذهباً يصده ويغير فطرته إذا علم أن الشيء موجود علم أنه إما أن يكون محايثاً لغيره وإما أن يكون مبايناً له كما يعلمون(4/365)
أن القائم بنفسه لا يكون إلا داخل العالم أو خارجه وإذا قيل له موجود ولا داخل العالم ولا خارجه أو قيل له شيئان موجودان ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا هو بحيث هو وفهم ذلك أنكرته فطرته وقوله الجمهور الأعظم وهم أهل التوحيد يعلمون أن الباري جل وعلا موجود ولا يعلمون أنه لابد وأن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً له قلنا ليس الأمر كذلك بل النفاة مغمورون في جانب أهل التوحيد أيضاً فيكون بالنسبة إلى جماهير بني آدم من المسلمين وغيرهم وجمهورهم تقلد هذا القول عن بعض حتى تغيرت فطرته ليس في هؤلاء أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا فيهم إلا من هو مجروح من المسلمين ببدعة وإن كان متأولاً فيها ومغفوراً له خطؤه أو فيه ما هو أكثر من البدعة وهو الغالب على أئمة هذا القول من نوع ردة عن الإسلام ونفاق فيه وغير ذلك وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنهم من أضل الخلق وأجهلهم فلا يضرهم خلافهم في ذلك الوجه الثاني أن يقال العلم أمر وجودي وأما عدم العلم(4/366)
فوصف عدمي والأمر الوجودي يتوقف على السبب التام بخلاف العدمي فإنه يكفي فيه عدم السبب أو نقصه وإذا كان كذلك فليس مجرد علم الإنسان بالدليل علة كان أو غيرها يوجب علمه بالمدلول معلولاً كان أو غيره إن لم يستحضر في ذهنه دلالة الدليل على المدلول ويتفطن لما فيه من الدلالة وهذا كما أن خلقاً يسمعون كلام الله وهو الدليل الهادي ويشهدون آيات الله بالليل والنهار وهم عنها معرضون لعدم التفكير والتدبر أما إذا علم الرجل الحكم فلابد له من سبب يوجب العلم في قلبه وكون الشيء إما محايثاً وإما مبايناً وإما قديماً وإما محدثاً ونحو ذلك وإنما هو الوصف المعقول وهو لزوم أحد الوصفين للموجود وكون الموجود ينقسم إلى هذين فإن الموجود المطلق وجوده ذهني(4/367)
وكذلك الانقسام إلى قسمين هو حكم عقلي وكذلك لزوم أحد الوصفين لا بعينه حكم عقلي ليس بحسي فإذا كان هذا الحكم يحكم به العقل بمجرد علمه وجود الشيء المحايث والمباين قبل علمه بكونه محدثاً علم أن العلم بهذا الانقسام العقلي لا يتوقف على الحكم بالحدوث بل يعلم بمجرد العلم بكونه موجوداً فلو كان المقتضي له ليس هو الوجود بل هو الحدوث أو ما يشترط فيه الحدوث كان الحكم بذلك يدون العلم بمقتضيه وملزومه حكماً بالذهن بلا حجة فإنه إنما يستدل على الشيء بعلته أو معلوله أو يستدل بأحد المعلولين على الآخر فإذا كانت جميع وجوه الأدلة منتفية انتفى العلم فإذا كان العلم بهذا الانقسام موجوداً بدون هذه الوجوه علم أنها ليس أدلة فلا تكون داخلة في التعليل وكذلك قوله الأمر المعلوم بالبديهة لا يجوز أن يكون علة وصف استدلالي إنما هو العلة التي توجب العلم بالحكم ولكن يجوز أن يكون المؤثر فيما أدركه الحس ما لم(4/368)
يذكره الحس ولكن هذا الانقسام ليس من الأمور الحسية بل من الأحكام العقلية والعقل لا يحصر شيئاً قبل الإحاطة بأفراده ولا تلازم بين شيئين قبل العلم بوجه الملازمة فإن لم يكن الوجود هو المقتضي لهذا الحصر والتقسيم لهذه الملازمة لم يجز حكم الذهن بذلك حتى يعلم دليلاً يدله على هذا الحصر والتقسيم وهذه الملازمة ولا يجوز أن يكون الحكم بديهياً ودليله نظرياً استدلالياً ومن يدبر عقله علم أنه يحكم بهذا التقسيم وهذا اللزوم بمجرد العلم بالوجود قبل العلم بالحدوث وغيره فإن لم يكن الوجود مقتضياً له لم يكن له أن يحكم إلا بما أحسه وهذان هذا مباين لهذا وهذا محايث له أما أن يحكم حكماً عاماً على جميع الموجودات إما أن يكون محايثاً وإما أن يكون مبايناً قبل علمه بتساويهما في ذلك فهو حكم بلا أصل وهذا الكلام يحتاج إلى تقرير أن العلة الخارجة هي العلة الذهنية وإلا فيمكن النزاع في ذلك وإما قوله في السؤال السابع لو كان الوجود واحداً في الشاهد والغائب ليس إلا بالاشتراك اللفظي وهذا لا يمكن إلا بأن يكون الباري مثلاً للمحدثات أو يكون الوجود زائداً(4/369)
على الماهية والمخالفون لا يقولون بواحد منهما فيقال مثل هذا الكلام تكرر في تصانيف هذا الرجل وهو غلط عظيم في أظهر الأمور وأول الأمور المعقولة من العلم الكلي وهو وجود الحق ووجود الخلق ولهذا يغلط به من نقل مذاهب الناس فإن مذهب عامة الناس بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية والكرامية وغيرهم أن الوجود ليس مقولاً بالاشتراك اللفظي فقط وكذلك سائر أسماء الله التي سمي بها وقد يكون لخلقه اسم كذلك مثل الحي والعليم والقدير فإن(4/370)
هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط بل بالتواطؤ وهي أيضاً مشككة فإن معانيها في حق الله تعالى أولى وهي حقيقة فيهما ومع ذلك فلا يقولون إن كما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره ولا أنه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مثلاً لخلقه ولا يقولون أيضاً إن له أو لغيره في الخارج وجوداً غير حقيقتهم الموجودة في الخارج بل اللفظ يدل على قدر مشترك إذ أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدهما وهو لا يستعمل كذلك في أسماء الله فقط ولا هو موضوعاً في اللغة كذلك وإنما يذكر كذلك في مواضع تجرد عن الخصائص كما تجرد في المناظرة لأمور يحتاج إليها فيقدر تجريده عن الخصائص تقديراً كما يقدر أشياء لم توجد وهو حينئذ دال على قدر مشترك بين المسلمين ولكن ذلك المشترك ليس مجموع حقيقة كل منهما الموجودة في الخارج فإن لفظ الموجود إذا جرد يدل على الموجود المطلق لم يكن الوجود المطلق حقيقة إلا في الذهن وأما(4/371)
الوجود الخارجي فوجود كل موجود معين مميز عن الآخر مختص به وذلك كـ الجسم المطلق والحيوان المطلق والإنسان المطلق وقد تقدم غير مرة أن حقيقة ذلك أن هذه الحيوانية الخارجية المعينة تشبه هذه الحيوانية وهذه الإنسانية الخارجية تشيه هذه الإنسانية فبينهما مشابهة من هذا الوجه وإن كانت بينهما مخالفة من وجوه أخرى وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود ففيه إثبات أصل الوجود والثبوت والكون لكل منهما وأن ما لهذا يشبه ما لهذا من هذا الوجه وهذا المعنى الذي اشتركا فيه واشتبها في غاية البعد عن حقيقة كل منهما كما أن حقيقة كل منهما يكون في غاية البعد عن حقيقة الآخر فوجود أحدهما في الخارج هو عين حقيقته فإذا قيل إن سائر الحقائق والماهيات تشاركها في مسمى الحقيقة والماهية أو تشبهها في ذلك كان هذا(4/372)
الشبه البعيد في غاية البعد عن الحقيقتين ولكن الأمور العظيمة الاختلاف بالحقيقة قد تشتبه في أمر ما وهو الذي اشتركت فيه وأعم هذه الأمور هذا الوجود الثابت والكون فمن كان نظره في هذا نظره في أبعد الأشياء عن حقيقة الرب وكثير من هؤلاء يعتقد أنه قد أدرك حقيقته أو أنه لا حقيقة له إلا ذلك وهؤلاء من أعظم الخلق تمثيلاً لربهم بكل شيء وقد جعلوا كل شيء نداً له وكفواً حيث جعلوا حقيقته هي الوجود المطلق وذلك يثبت لكل موجود فهم أعظم الخلق إشراكاً بالله ومن هنا قال الاتحادية منهم إنه وجود كل شيء وأنه وجود الموجودات كلها ونحو ذلك مما هو من أعظم الإشراك والتعطيل وأصل هذا أن الاشتراك أو الاشتباه في أمر ما لمسمى الوجود أو الحي أو غير ذلك لا يقتضي التماثل بوجه من الوجوه بل يقتضي نوع اشتباه وقد يكون بعيداً عن التماثل وهذا الرازي يظن كثيراً أن الاشتراك في شيء هو التماثل فيحكم على(4/373)
المشتبهين في شيء بحكم المتماثلين ثم إنه في موضع آخر يناقض ذلك حتى يجعل الأمور المتماثلة في الحكم لا تتماثل في العلة والأمور المتماثلة في العلة لا تتماثل في الحكم إذ هو متناقض في عامة كلامه ثم إن هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة وسائر الملاحدة من القرامطة وغيرهم الذين يقولون حقيقته هي(4/374)
الوجود المحض أو المطلق أو نحو ذلك يزعمون أنهم أبعد الخلق عن التشبيه وأنهم هم الموحدون المحققون للتوحيد حتى ينفوا الصفات والأسماء نفياً منهم زعموا الشبيه وهم أعظم الخلق تشبيهاً وتمثيلاً وإشراكاً وجعلوا أنداداً لله مع ما هم عليه من التعطيل وأبعد الخلق عن أن يوحدوا الله تعالى بوحدانيته التي انفرد بها عن سائر مخلوقاته فإنهم جعلوا حقيقته الوجود المطلق فهذا القدر ثابت لكل موجودة فقد جعلوا حقيقته ما هو ثابت لكل شيء فقد جعلوا حقيقة الله تشركه فيها البعوضة والنملة بل الكلب والخنزير وقد يصرحون بأن وجود الكلب والخنزير عين وجوده وهذا من أغلظ الإشراك والكفر برب العالمين وهو تعطيل الله إذ لا وجود للوجود المطلق إلا في المعين فإذا لم تثبت له حقيقة موجودة مختصة به منفصلة عن الموجودات لزم(4/375)
تعطيله ثم إن حقيقته التي اختص بها وامتاز بها عن خلقه لا يثبتونها وبها وجبت له الوحدانية والوجود من حيث هو وجود كالثبوت والكون وكونه حقاً وهذا القدر ثابت لكل ما خلقه وسَوّاه وهو سبحانه رب كل موجود سِوَاه وخالقه وباريه ليس كمثله شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهذا الموضع قد أوسعنا القول فيه في مواضع غير هذا وهو منشأ الاشتراك والضلال في طوائف من الفلاسفة والاتحادية وسائر الملاحدة الذين يعمهم معنى الجهمية وإن كان لبعضهم عن بعض في ذلك مزية ومنشأ هذا من القياس الفاسد والتمثيل برب العالمين والتسوية بينه وبين غيره كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] وأصل الإشراك الذي هو من القياس الفاسد هو من إبليس أول من قاس قياساً(4/376)
فاسداً وهو إمام المشركين وقائدهم ولا ينجو منه إلا المخلصون الذين أثبتوا لله ما يختص به من الصفات والعبادات كما قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {83} [ص 82-83] وقال تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ {100} [النحل 99-100] وهذا باب واسع ليس هذا موضعه وذلك أنهم يجردون أسماء هذا وصفاته وأسماء هذا وصفاته فيسوون بينهما ويجردون القدر المشترك بينهما فيثبتونه حقيقة خارجة وقد يجعلون هذا الذي جردوه هم بأذهانهم فقدروه في أنفسهم هو الحقيقة الموجودة في الخارج كقولهم هو في كل مكان بذاته وقولهم هو نفس ووجود(4/377)
الموجودات وهو الوجود المطلق ونحو ذلك وأما السؤال الثامن فقوله في المعارضة إن المقتضي لقبول الانقسام في الجوهر والعرض لو كان هو الوجود لزم في الجوهر وحده أن يقبل الانقسام إلى الجوهر والعرض وكذلك في العرض وهو فيقال هذا غلط ظاهر ومغالطة قبيحة وذلك أن هذا الموجود إما أن يراد به الموجود المعين الخارجي فيكون المعنى أن يلزمه أحد الحكمين إما المحايثة وإما المباينة لا يقال فيها إنه منقسم إليهما وعلى هذا فالجوهر الموجود يلزمه أحدهما والعرض الموجود يلزمه أحدهما وإما أن يراد به الوجود المطلق الكلي الذي هو مورد التقسيم إلى الأقسام فهذا إذا قيل إنه ينقسم إلى محايث ومباين فهو كقولنا ينقسم إلى جوهر وعرض ولا يلزم من قبول القسمة أن يكون أحد قسميه القسمة التي يقبلها هو بل هذا جمع بين النقيضين وأما قوله في السؤال التاسع إن هذا الدليل قائم في صور كثيرة مع أن النتيجة اللازمة عنه باطلة وهذا يدل على أنه منقوض وبيانه من وجوه(4/378)
الأول أن كل ما سوى الله محدث فتكون صحة الحدوث حكماً مشتركاً فلابد لها من علة مشتركة والمشترك الحدوث أو الوجود والحدوث لا يكون علة صحة نفسه فوجب كونها معللة بالوجود فيلزم أن يكون الله محدثاً فيقال صحة الحدوث ليست من أحكام الأمور الوجودية بل من أحكام الأمور التي يمكن وجودها سواء كانت موجودة أو لم تكن بخلاف المحايثة والمباينة فإنها مختصة بالوجود دون العدم وأما صحة الحدوث فهي مشتركة بين الوجود الممكن وبين كل معدوم ممكن فبينها وبين لزوم المحايثة أو المباينة عموم وخصوص إذ صحة الحدوث يعم المعدوم الممكن بخلاف لزوم المحايثة والمباينة وبخلاف الرؤية وأما لزوم المحايثة أو المباينة والرؤية فلا يعلم انتفاؤه عن الله بخلاف صحة الحدوث فإنه يعلم بالضرورة انتفاؤه في حق الله تعالى وإذا كان كذلك فيجب أن تكون علة صحة الحدوث ما يطابقه في العموم وذلك ليس هو الحدوث فإنه أخص منه إذ ليس كل ما صح حدوثه كان محدثاً ولا الوجود فإنه ليس كل موجود يصح حدوثه والمطابق له هو الإمكان الخاص فصحة الحدوث معللة بعلة مشتركة وهو الإمكان الخاص وهذه علة(4/379)
مطردة منعكسة كتعليل الموجود بالرؤية وبلزوم المحايثة والمباينة وقوله في الوجه الثاني إن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم أو قائم بالحجم ثم نذكر التقسيم إلى آخره حتى يلزم أن يكون الباري إما حجماً أو قائماً بالحجم والقوم لا يقولون به فعنه جوابان أحدهما أن المعنى بالحجم في اللغة الظاهرة هو الشيء الكثيف المتحد كالحجر والتراب خلاف الهواء فإنه لا يسمى في اللغة المشهورة حجماً فإن كان مقصوده هذا فليس كل موجود في الشاهد إما حجماً أو قائماً بالحجم وإن أراد به أن كل موجود في الشاهد قائم بنفسه أو قائم بالقائم في نفسه فهذا مطرد في الغائب وأن حال كل موجود في الشاهد فهو إما جسم وإما عرض أو إما جوهر وإما عرض ويذكر التقسيم إلى آخره فيقال له لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص ليس نفيهما عن الله من الشريعة كما أنه ليس إثباتهما من(4/380)
الشريعة بل سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها كما أنكروا التكلم بإثباتها أو أكثر وعدوا ذلك بدعة فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين اللذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في إجماع ولا أثر إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ إذ الحجج التي يستدل فيها باللفظ لابد أن يكون لفظها منقولاً عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة أو الإجماع فكيف باللفظ الذي لا ينقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة وأما المعاني المرادة بهذين اللفظين فلابد من تفسيرها فإن الناس متنازعون فيما يريدون بهذه الألفاظ من المعاني ومتنازعون في لزوم تلك المعاني لبعض وغير ذلك وإذ كان كذلك فإن فسر مفسر معنى الجوهر والعرض بما لم يعلم انتفاؤه في حق الله تعالى كان ذلك طرد الدليل فلا ينتقض به ولا ينتقض الدليل حتى يبين أن هذا التقسيم يمكن في بعض المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى ولم يفعل ذلك وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن قوله وهم لا يقولون به قياس إلزامي وقد تقدم أنه قد قال إن هذا الدليل ليس بحجة لا في النظر ولا في المناظرة وذلك أن هذا الدليل إن كان مستلزماً ثبوت مسمى الجسم والعرض كان حجة عليهم في هذا(4/381)
الموضع كما هو حجة على أولئك في المواضع الأُخَر فإذا ذكروا فرقاً فإن كان ذلك الفرق صحيحاً لم يصح النقض بالجسم والعرض وإن لم يكن الفرق صحيحاً لم يكن نفيهم لمسمى الجسم والعرض صحيحاً على التقديرين فلا يلزم بطلان هذه الحجة الوجه الثالث وأما قوله في الوجه الثالث إن كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان وساق التقسيم إلى آخره حتى يلزم كونه محايثاً للعالم أو مبايناً عنه في أي جهة كان وذلك يقتضي أن لا يختص بجهة فوق بل يلزم صحة الحركة على ذاته من الفوق إلى السفل وكل ذلك عند القوم محال فعنه أجوبة أحدها أنه ليس كل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه في أي جهة كان بل من الأجسام الموجودة ما يمتنع من بقاء حقيقته أن يكون من الآخر إلا في جهة معينة كما أن رأس الإنسان يمتنع أن يكون إلا فوق وبطن قدمه يمتنع أن يكون إلا في أسفله ولو غير ذلك خرج عن حقيقته وكذلك العرش يمتنع أن يكون في أسفل سافلين وأسفل سافلين يمتنع أن يكون فوق العرش(4/382)
الثاني أن يقال ما تعني بقولك فلابد وأن يكون محايثاً له أو مبايناً عنه في أي جهة كان أتعني أن العقل يشهد أنه لابد من وجوب المباينة ولو بأي جهة كان أو تعني أنه لابد مع وجوب المباينة من جواز المباينة من جميع الجهات فهذان معنيان متغايران فإن وجوب مطلق المباينة من غير تعيين جهة غير وجوب المباينة ووجوب جوازها بكل جهة فإن عني أن كل موجودين فإنه ولابد أن يتحايثا أو يباين أحدهما الآخر وأنه لابد مع ذلك أن يجوز مباينته من جميع الجهات فهذا القدر ليس معلوماً بالبديهة ولا بالحس وكثير من الناس ينازع في كثير من ذلك وبالجملة ليس هذا هو العلم البديهي الذي يعلم في المشهودات فإنا لا نعلم أن كل ما هو قائم بنفسه يجوز أن يكون في جميع الجهات من كل قائم بنفسه هذا لا يعلم بالبديهة بحال وإذا لم يكن معلوماً بالبديهة لم يجب أن يعلل بعلة تعم الوجود حتى نعلم ثبوته وحينئذ فمن الناس من يقول ليس هذا ثابتاًً لجميع المخلوقات ومنهم من يثبته للمخلوق دون الخالق وإذا كان الأمر كذلك فإن المنازع يقول قد قام الدليل على أن هذا ليس ثابتاً لجميع الموجودات وليس هو مما علم بالبديهة أنه يشترك فيه جميع(4/383)
المشهودات فلا يكون نظير حجتنا إذا علم اختصاصه ببعض الموجودات فإنه يعلل بما يختص به الوجه الرابع أن الاستدلال بما يجب لكل موجودين والواجب لكل موجودين أن يكونا متباينين أو متحايثين أما كون أحدهما يصح أن يكون مبايناً للآخر من جميع جهاته فهذا ليس هو الواجب لكل موجودين والحجة كانت فيما يلزم الموجود من المحايثة أو المباينة واللازم له أصل المباينة أما المباينة من جميع الجهات فليس ذلك بلازم وإن كان جائزاً بل يجوز أن يجعل الله بعض الأشياء لا تباين إلا بجهة معينة الخامس أن يقال ليس للعالم إلا جهتان وهي العلو والسفل فأما العلو فهو مختص بالله تعالى وأما أسفل سافلين فذلك سجين وهو المركز الذي لا يسع إلا الجوهرالفرد(4/384)
وكل قائم بنفسه فإنه يصح أن يكون مبايناً عنه بجميع الجهات لأن كل ما سواه يصح أن يكون فوقه وإن كان كذلك فيقال بموجب المعارضة وهو أن الله تعالى يجوز أن يكون مبايناً للعالم من جميع جهاته لأن جميع جهاته لأن جميع جهاته هي العلو ليس له جهة أخرى فظهر القول بموجب الحجة ألا ترى أن سطح العرش مباين للعالم كذلك السادس أن قوله ذلك يستلزم صحة الحركة عليه من الفوق إلى السفل وهم لا يقولون بذلك فنقول هذا قياس إلزامي وفي صحة الحركة نزاع مشهور(4/385)
وهم يدعون ثبوت الفارق فإن صح ما يدعونه من الفارق وإلا كانت هذه الحجة حجة عليهم في المسألتين جميعاً ولا يتعضل ذلك كما تقدم نظيره وأما قوله في الرابع إن كل موجودين في الشاهد فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً عنه بالجهة والمباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو مركباً من الجواهر وكون كل موجود في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد أن يكون معللاً بالوجود فوجب أن يكون الباري على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم ينكرون ذلك لأنه عندهم ليس بعرض ولا بجوهر ولا بجسم مؤتلف من الأجزاء والأبعاض فيقال له أما تسمية صفاته عرضاً فإن منهم من سمى صفاته أعراضاً مع أن النزاع في ذلك لفظي وذلك أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين ينفون الصفات لما رأوا أن الصفات تقوم بالأجسام وهي الأعراض أيضاً وبها أو ببعضها احتجوا(4/386)
على حدوث الموصوف الذي قامت به وقالوا به وقالوا إنها لا تقوم إلا بمتحيز ولا تقوم إلا بمحدث نفوها عن الله تعالى وقالوا من أثبتها فقد قالوا إنه يقوم به الأعراض وهي لا تقوم إلا بمتحيز فيكون متحيزاً محدثاً فسلك معهم مثبتة الصفات ثلاثة مسالك أحدها قول من يقول له صفات لكن ليست أعراضاً أو لا تسمى أعراضاً لأن العرض ما يعرض لمحله ويزول عنه وصفاته لازمة لذاته ليست زائلة عنها وهذا مما قوى عند هؤلاء أن يقولوا الأعراض لا تبقى زمانين أصلاً ليكون هذا فرقاً بين صفات الله تعالى وصفات المخلوقين من تسمية صفات المخلوقات أعراضاً دون صفات الخالق وبهذا وأمثاله انتحلوا دعوى السنة في قولهم الأعراض لا تبقى زمانين لأن هذا(4/387)
مما وكدوا به في اعتقادهم مذهب أهل السنة في ثبوت صفات الله تعالى وهذه طريقة الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم والمسلك الثاني طريقة من لا ينازعهم في تسمية صفات الله تعالى أعراضاً كما لا ينازعهم في تسمية من قامت به من الصفات جسماً ولا يقول أيضاً بأن الأعراض لا تبقى بل الأعراض التي في الحس باقية هي باقية كالألوان وغيرها بخلاف ما ليس باقياً كالحركة وهؤلاء يقولون هب أن الأعراض قامت به وهب أنه جسم فليس يلزم من ذلك محذور وهذا قول طوائف من الصفاتية من الكرامية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم والمسلك الثاني أن لا يقولوا صفاته أعراض ولا يقولوا ليست أعراضاً كما لا يقولون إنه جسم ولا أنه ليس بجسم لأن ذلك كله بدعة مذموم عند سلف الأمة وأئمتها ولأن النزاع في ذلك إن كان في معنى وجب إثبات المعنى الحق دون المعنى الباطل فيسأل النفاة المثبتة ما أرادوا بذلك فإن أثبتوا حقاً وباطلاً أقر الحق دون الباطل وكذلك النفاة إن نفوا حقاً(4/388)
وباطلاً نفى الباطل دون الحق ومن أثبت حقاً أو نفى باطلاً أقر ومن أثبت باطلاً أو نفى حقاً منع وإن كان النزاع في اللفظ فما يوصف به الباري نفياً وإثباتاً من الأسماء والصفات فالمتبع فيه الشريعة فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا من الإثبات ولا من النفي والله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه أحد صمد ونزه نفسه عن الوالد والولد والشريك والكفو والسمي والحاجة والنوم وغير ذلك مما دل عليه القرآن ولم يذكر هو ولا رسوله ولا أهل العلم والإيمان به أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا أن صفاته ليست بعرض ولا قائمة بالغير ولا نحو ذلك وكذلك في الإثبات له الأسماء الحسنى التي يدعى بها وليس في تلك الأسماء أنه جسم ولا جوهر ونحو ذلك ولا أن صفاته تسمى أعراضاً ونحو ذلك فلم يكن واحد من هذين مشروعاً على الإطلاق ولا هو أيضاً منهياً عنه على الإطلاق بل إذا أثبت الرجل معنى حقاً ونفى معنى باطلاً واحتاج إلى التعبير عن ذلك بعبارة لأجل إفهام المخاطب لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك لم يكن ذلك منهياً عنه لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه وهذا جائز بل مستحب أحياناً بل واجب أحياناً وإن لم يكن ذلك مشروعاً على الإطلاق كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين(4/389)
باصطلاحهم الخاص إذا كانت المعاني التي تبين لهم هي معاني القرآن والسنة تشبه قراءة القرآن بغير العربية وهذه الترجمة تجوز لإفهام المخاطب بلا نزاع بين العلماء وأما قراءة الرجل لنفسه فهذا لايجوز عند عامة أهل العلم لا في الصلاة ولا في خارج الصلاة وجوَّزه بعضهم مطلقاً لكن لمن لم يحسن العربية لكن المخاطبة ليست كإقراء القرآن لكن تشبه ذكره والثناء عليه والدعاء له بما لم يوِّقت الشارع فيه شيئاً بعينه ولهذا يكره أيضاً عند كثير من العلماء أو أكثرهم تغيير العربية إلا للحاجة ومنهم من لم يكرهه إذا تبيين ذلك فجوابه من وجوه أحدها أن هذا الوجه الذي ذكره هو من الوجوه(4/390)
الإلزامية وهذه ليست بحجه لا للناظر ولا للمناظر كما تقدم غير مرة وذلك أن هذه الحجة إما أن توجب أن كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام أو لا توجبه فإن لم توجبه فلا يضر وإن أوجب ذلك ولم يذكر الفارق فرقاً بين الموضعين وإلا كانت حجة عليهم في الموضعين وكان له أن يقول أنا إنما أثبت الجسم والجوهر والعرض لكذا وكذا فإن كان هذا فرقاً صحيحا بطل الإلزام وإن لم يكن فرقاً صحيحاً تاماً امتنع الحكم إذ ليس في ذلك نص ولا إجماع عام الوجه الثاني أن يقال كون الموجود في الشاهد جوهراً فرداً أو ليس بجوهر فرد ليس ذلك بمشهود ولا معلوم بحس ولا ضرورة كالعلم بأن الموجود في الشاهد إما مباين وإما محايث بل في ذلك نزاع عظيم بين المتكلمين وهذا المؤسس هو من المتوقفين في إثبات الجوهر الفرد وقد حكى التوقف فيه عمن حكاه من أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وإذا لم يكن هذا معلوماً بالحس والاضطرار لم يكن نظير تلك الحجة(4/391)
الوجه الثالث أن من ينكر الجوهر الفرد من أهل الكلام والفلسفة أو من توقف فيه يمنع الانقسام إلى هذه الثلاثة وهؤلاء طوائف كثيرون الوجه الرابع أن قوله إن المباين بالجهة لابد وأن يكون جوهراً فرداً أو يكون مركباً من الجواهر وكون كل موجودين في الشاهد على أحد هذه الأقسام الثلاثة أعني كونه عرضاً أو جوهراً فرداً أو جسماً مؤتلفاً لابد وأن يكون معللاً بالوجود يقال له ليس كون الأشياء القائمة بأنفسها في الشاهد مركبة من الجواهر وإنها إما جوهر فرد وإما جسم مؤتلف مما يعلم لا بحس ولا بضرورة كما يعلم أن الموجود إما أن يقوم بنفسه وإما أن يقوم بغيره بل في ذلك نزاع عظيم بين الناس نفياً وإثباتاً ووقفاً وإذا كان كذلك لم يكن نظيراً له الوجه الخامس أن من يقول الجسم واحد في نفسه ليس مركباً من الجواهر من أهل الكلام والفلسفة سواء قالوا ينقسم إلى جزء لا يقبل القسمة أو قالوا يقبل القسمة إلى ما لا يتناهى ينازعون في هذا الانقسام ويقولون لا نسلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا مركباً من الأجزاء أو جوهراً فرداً وهؤلاء طوائف كثيرة(4/392)
الوجه السادس أن يقال قد مر الكلام على معنى القسمة والتركيب وأن حاصله يعود إلى تميز شيء من شيء كامتياز صفة من صفة وأن ذلك مما يجب الاعتراف به في حق كل موجود فإنه يمتنع أن يكون شيء من الموجودات بدون ذلك وإن كان كذلك لم يكن ما يلزم الوجود مما سموه انقساماً وتركيباً محالاً فإذا أوجبت الحجة القول به قيل به الوجه السابع أن يقال إن عنيت بكونه عرضاً أنه صفة قائمة بالموصوف ويكون منقسماً أي فيه نوع تميز فهذا يلتزمه أهل الإثبات للعلو وإن عنيت بكونه عرضاً أنه يعرض ثم يزول وبكونه منقسماً مركباً أنه يقبل التفرق والاجتماع بعد التفرق فيقال هذا وصف له بعدم بعد الوجود وبوجود بعد عدم وإذا كان هذا كذلك لم يمتنع أن يكون الموجب لذلك متضمناً للعدم فإن الممتنع تعليل الأمر الوجودي كالرؤية ولزوم أحد الوصفين الموجودين بما فيه عدم أما الوصف المشتمل على عدم فلا يمتنع تعليله بالوصف المشتمل على عدم يوضح ذلك الوجه الثامن وهو أن العرض ... الذي يختص به المخلوق جوهر عند من يقول بذلك ويفرق بين صفة الخالق وصفة المخلوق مما يمتنع بقاؤه ويجب عدم بعد وجوده وأقل ما في ذلك أنه يجوز عدمه بعد وجوده والجسم المخلوق إما(4/393)
أن يكون متفرقاً في نفسه منقسما قسمة حقيقة بحيث يكون بعضه منفصلاً عن بعض وإما أن يكون قابلاً لذلك وعلى التقديرين فلا يكون هذا الحكم صفة للموجود من حيث هو موجود فإن الموجود من حيث هو موجود لا يكون واجب العدم ولا واجب التفرق والانفصال وإذا كان كذلك كان نفس هذا الوصف المذكور يوجب أن يخص ما يجوز عليه العدم والتفرق الوجه التاسع أن وجوب العدم أو التفرق لا يجوز تعليله بالوجود فإن الوجود نفسه لا يوجب التفرق والعدم فإن العدم ينافى الوجود والشيء لا يكون موجباً لما ينافيه وكذلك التفرق هو نوع من عدم الكمال فإن الاجتماع صفة كمال وقوة والافتراق ينقص تلك القوة والكمال وكذلك يسمى الشيء جميلاً والجمال مشتق من الإجمال الذي هو الجمع والضم ولهذا يقال كل ألم في العالم فأصله من تفرق واجتماع فكون الشيء موجوداً أو مقصوداً بحيث يحصل به الفرح والسرور لا يناسب تفرقه واختلاله وإنما يناسب اجتماعه وإكماله ولهذا كان الاسم الصمد فيه معنى الاجتماع المنافي للتفرق وفيه اجتماع الخلق إليه بحيث يكون هو المقصود لهم في العبادة في الدعاء والعبد لابد له من قصد يقصده والشيء(4/394)
إنما يقصد لنفسه أو لغيره والله هو المقصود المعبود لنفسه وهو المدعو المسئول الذي يسأل منه كل شيء وإذا كان كذلك تبين أن هذا الحكم لا يجوز تعليله بالوجود المطلق ولا بما يشتمل على الوجود الواجب وأما قوله في الوجه الخامس إن كل موجود يفرض مع العالم فهو إما أن يكون مساوياً للعالم أو زائداً عليه في المقدار أو أنقص منه في المقدار فانقسام الموجود في الشاهد إلى هذه الأقسام الثلاثة للأربعة كذا حكم لابد له من علة ولا علة إلا الوجود والباري تعالى موجود فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه الأقسام الثلاثة والقوم لا يقولون به فثبت بما ذكرنا أن هذه الشبهة منقوضة فيقال له عن هذه أيضاً وجوه أحدها أن هذه أيضاً حجة إلزامية لا حقيقية فالذي ينفي هذه الأقسام عن الباري إما أن يذكروا فرقاً صحيحاً أو لا يذكروه فإن ذكروه بطل إلزامهم بذلك في حجة المباينة والمحايثة وإن لم يذكروا فرقاً صحيحاً كان ذلك حجة عليهم(4/395)
في الموضوعين كما تقدم نظيره وحينئذ فلا يكون هذا حجة لا في نظر ولا في مناظرة فإن هذا ليس متفقاً على نفيه بل أكثر أهل الإثبات يلتزم أحد الأقسام الوجه الثاني أن يقال هذا التقسيم باطل فإن كل ما نشهده فهو جزء من العالم سواء كان قائماً بنفسه أو بغيره فكيف يقال فيما هو بعض العالم إما أن يكون مساوياً للعالم أو أزيد منه أو أنقص منه ومن المعلوم أنه لا يكون إلا أنقص منه وإذا كان لا يصح أن يكون مساوياً له ولا أزيد وبهذا يظهر أن هذا ليس نظير الحجة فإن تلك مضمونها أن كل موجود يلزمه أحد الأمرين إما المحايثة لغيره وإما المباينة له والوجود ينقسم إلى قسمين محايث ومباين ولا يمكن أن يقال الموجود المشهود يلزمه أحد هذه الأقسام إنما يلزمه واحد منها معين وهو النقص الوجه الثالث أن هذا الذي ذكره إنما هو فيما يقدر وجوده ويفرض مع العالم ومعلوم أن ما يقدر وجوده ويفرض لا يعلم حكمه بالحس ولا بالبديهة كما يعلم حكم الموجود المشهود المحسوس مع الموجود المشهود المحسوس فإن تلك الحجة مبناها على ما علم بالحس والضرورة ثم النظر هل ذلك معلل بما يتناول الوجود الواجب أو بما يخص غيره وأما الموجودات المقدرة فحكمها لا يعلم بحس ولا ضرورة وإنما(4/396)
يعلم بالقياس على ماعلم وجوده الوجه الرابع أن هذا إذا كان في الوجود المقدر مع العالم فذلك الموجود إما أن يكون هو الله أو غيره فإن كان غيره فقد علم أنه معدوم لأن كل مايقدر وجوده سوى الله فهو من العالم فلا يمكن تقدير موجود غير الله خارج عن مجموع خلقه وإن كان المراد بهذا الموجود هو الله كان المعنى أن الله لا يخلو إما أن يكون أكبر من العالم أو أصغر أو بقدره وإذا كان هذا هو المعنى المقدر فاحتجاجه بهذا على أن الباري موصوف بأحد هذه الأقسام هو استدلال بالشيء على نفسه فالدليل هو غير المدلول ويكون التقدير أن الرب الموجود مع العالم إما أن يكون مساوياً له أو أكبر أو أصغر وإذا كان كذلك فهو إما أن يكون مساوياً أو أكبر أو أصغر ومعلوم أن هذا باطل فضلاً أن يكون نظير الحجة وقد ظهر بما نبهنا عليه في الكلام على هذه الحجة أن قوله ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها أوردنا عليه هذه الأسئلة القاهرة والاعتراضات القادحة ليس الأمر كما قاله فإن الحجة لم يستوف تقريرها كما يجب وليس ما ذكره من الاعتراض كما زعم هذا مع أنا لم نستوف الكلام في تقريرها ولا في الأجوبة على أسولته لأن المقصود حكاية ما ذكره هو من الحجة وذكر ما ينبه على الحكم العادل بينه وبين خصومه(4/397)
فصل قال الرازي الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى ف الجهة قالوا ثبت أن تعالى تجوز رؤيته ولرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو مواجهة شيء هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصاً بجهة قال والجواب اعلم أن المعتزلة والكرامية توافقوا على أن كل مرئي لابد وأن يكون في جهة إلا أن المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئياً والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب أن يكون في الجهة وأصحابنا نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإن مختص بالجهة بل لا نزاع في أن الأمر في الشاهد كذلك فلِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصاً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس مختص بالجهة وثبت أن الباري جل وتعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه تعالى مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد(4/398)
وجب أن يكون في الغائب كذلك فإذا كان هذا الوجه حاصلاً في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه في الجهة بكونه مرئياً ثم إثبات أن كل ما كان مرئياً فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان وأما إن قلنا إن قولنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلاً تصير هذه المقدمة يقينية وأيضاً فكما أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا إذا كان مقابلاً أو في حكم المقابل للرائي فكذلك لا نعقل مرئياً إلا إذا كان صغيراً أو كبيراً أو ممتداً في الجهات أو مؤتلفاً من الأجزاء وهم يقولون إنه تعالى يرى لا صغيراً ولا كبيراً ولا ممتداً في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلاً للرائي إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك والكلام على ما ذكره من وجوه(4/399)
أحدها أن ما ذكره عن المعتزلة والكرامية ليس هو قولهم فقط بل قول عامة طوائف بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين وهو قول جماهير مثبتي الصفات ونفاتها ولا يعرف القول بإثبات الرؤية مع نفي كون الله تعالى فوق العالم إلا عن هذه الشرذمة وهم بعض أتباع الأشعري ومن وافقهم وليس ذلك قول أئمتهم كما يقول هؤلاء وإن كانوا هم وغيرهم يقولون إن في كلام أئمتهم تناقضاً أو اختلافاً فقد قدمنا أن تناقض من كان إلى الإثبات أقرب هو أقل من تناقض من كان إلى النفي أقرب وقد قدمنا أن العلم بأنه فوق العالم أعظم من العلم بأنه يرى فعلم ذلك بالعقل أعظم في الطريقة البديهية والقياسية وعلم ذلك بالسمع أعظم لما في الكتاب والسنة من الدلالات الكثيرة التي لا يحيها إلا الله تعالى على أن الله فوق ولهذا تجد هؤلاء الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منفقين لأهل السنة والإثبات يفسرون الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية فهم ينصبون الخلاف فيها مع المعتزلة ونحوهم ويتظاهرون بالرد عليهم(4/400)
وموافقة أهل السنة والجماعة في إثبات الرؤية وعند التحقيق فهم موافقون للمعتزلة إنما يثبتون من ذلك نحو ما أثبته المعتزلة من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية أو يقول قريباً منه ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي فعلم أن هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة وإن كان ظاهرهم ظاهر أهل الإثبات كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة أمرهم أمر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية وإن تظاهروا بالرد عليهم والملاحدة حقيقة أمرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية هذا لعمري عند التحقيق وأما عوام الطوائف وإن كان فيهم فضيلة وتميز فقد يجمعون بين المتناقضات تقليداً وظناً ولذا لا يكونون جاحدين وكافرين مطلقاً لأنهم يثبتون من وجه وينفون من وجه فيجمعون بين النفي والإثبات قال الأشعري في الإبانة باب الرد على الجهمية(4/401)
نفيهم علم الله وقدرته قال الله تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النسا 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت 47 فاطر 11] وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه فقال سبحانه فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ [هود 14] وقال سبحانه وتعالى وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة 255] وذكر تعالى القوة فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقال سبحانه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] وقال الله تعالى وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال وزعمت الجهمية والدرية أن الله عز وجل لا علم له ولا حياة ولا سمع ولا بصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهارهم ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح(4/402)
بذلك فأتوا معناه وقالت إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن نثبت له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وهؤلاء الذين ذكر قولهم قالوا ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء شر من الملاحدة الذين تقدم ذكرهم وحكاية الرازي قولهم الذين يقولون لا نقول موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل فإن أولئك امتنعوا من التسمية بالضدين لم ينفوا أن يكون هو تعالى في نفسه موصوفاً بأحدهما فهؤلاء الذين نفوا ذلك أعظم من أولئك وقد أخبر أن قول المعتزلة مأخوذ من هؤلاء وكذلك قال في كتاب المقالات لما قال وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات فقال الحمد لله لذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات الله رب العالمين وقالوا إنه جل ثناؤه وتقدست(4/403)
أسماؤه لا صفات له وأنه علم له ولا قدرة له ولا حياة له وسمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي يوصف لنفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم يزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير(4/404)
حكيم جليل في حقيقة القياس قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافاً تَشَتَّتَت فيه أهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم اهـ ثم ذكر بينهم نزاعاً كثيراً يس هذا موضعه وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد باباً في ذكر(4/405)
هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري ولما نظر المبرزون من علماء الأمة إلا على التعطيل البحت وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء وما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فراراً من الإثبات وذهاباً عن التحقيق وأن ولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص(4/406)
ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئاً لأشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة له ولا لا صفة خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصاماً به من بالسيف واجتناباً به منه وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعائبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام(4/407)
فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة ثقلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغاً يكون ألواح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم تحدوا بذلك المساع وليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسي لحاء السنة وعقد الجهمية وينحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالاً من اليهود لأن الله سبحانه أثبت الصفة ونفى العيب واليهود(4/408)
أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالتهم في عيسى وأمه فيقولون لا يكون في المخلوق غير المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك أولئك قالوا قبح الله مقالهم إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل لجارية معاوية بن الحكم رضي الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا ندري أين هو ولا يوصف بمكان فليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا(4/409)
الجهة والحد وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاماً وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ويوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النفس وأريد به التفسير وهذا صوت القاري أما ترى أن منه حسناً غير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازاً به حتى قال رأس من رؤوسهم أو يكون قرآن من(4/410)
لبد وقال الآخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات(4/411)
وأولئك قالوا لا صفة وهؤلاء يقولون وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين كعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداران هما يتراءيان ويد كيد المنة والعطية والأصابع كقولهم خراسان بين أصبعي الأمير والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي أنا أملك أمره وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك والرضى والاستواء والاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله شبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر فردوا الأصل ولم يثبتوا شيئاً ولم يبقوا موجوداً ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة وأرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد غياباً عنها وأعيا ذهاباً منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند(4/412)
سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة 64] وإنما قالوها هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتابه بالعبرانية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة وقالوا ما هو بعدما مات بمبلغ فلا يلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم(4/413)
على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب وفي الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم وإن كانوا يموهونها وورّوا عنها واستوحشوا من تصريحها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفَّروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفَّروا السلف وقالت طائفة منهم الفرض لا يتكرر فأبطلت الشرائع(4/414)
وسموا الإثبات تشبيهاً فعابوا القرآن وضللوا الرسول فلا تكاد ترى منهم رجلاً ورعاً ولا للشريعة معظماً ولا للقرآن محترماً ولا للحديث موقراً وسلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره ولا تتبع أخباره ولا يناضل عن سننه ولا هو راغب في أسوته يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثاً واحداً تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلاً من العلم تنفر لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك وألبسوا ظلمة الهوى وسلبوا هبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب قال وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي وقد سمعت محمداً العمري النسابة أبا المعالي(4/415)
يقول سمعت أبا الفضل الحارثي القاضي بسرخس يقول سمعت زاهراً بن أحمد يقول أشهد لما مات أبو الحسن الأشعري متحيراً بسبب مسألة تكافؤ الأدلة فلا جزى الله امرءاً أناط مخاريقه بمذهب الإمام المطلبي رحمه الله تعالى وكان من أبر خلق الله قلباً وأصونهم سمتاً وأهداهم هدياً وأعمقهم علماً وأقلهم تعمقاً وأوقرهم للدين وأبعدهم من التنطع وأنصحهم لخلق الله جزاه خيراً قال فرأيت قوماً منهم يجتهدون في قراءة القرآن وحفظ حروفه والإكثار من ختمه ثم اعتقاده فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج وذكر بإسناده من حديث سفيان الثوري(4/416)
عن الصلت بن بهرام عن المنذر بن هوذة عن خرشة ابن الحر أن حذيفة بن اليمان قال إنا آمنا ولم نقرأ وسيجيء قوم يقرؤون القرآن ولا يؤمنون وبإسناده من حديث زيد بن أبي أنيسة عن القاسم بن(4/417)
عوف قال سمعت ابن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وبإسناده من حديث إسماعيل ب مهاجر عن أبيه عن ابن عمر قال إنا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحيهم وما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك وكان القرآن قد ثقل عليهم رزقوا علماً به وعملاً(4/418)
وأن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون شيئاً منه قلت ومثل ذلك معروف عن جندب بن عبد الله البجلي أنه قال أوتينا الإيمان قبل أن نقرأ القرآن ثم أوتينا القرآن فازددنا إيماناً وإنكم تأتون القرآن قبل الإيمان فتوسل أحدكم(4/419)
وهذا الرازي لما ذكر مسألة الرؤية في نهايته وذكر فيها حجج النفاة والمثبتة كان ما ذكره من حجج النفاة العقلية والسمعية أظهر مما ذكره من حجج المثبتة وهذه عادته في كثير من مناظرته يحتج بالباطل من السفسطة وفروعها بما لا يحتج بمثله للحق وقال في مسألة الرؤية بعد أن ذكر مسالكها العقلية فظهر من مجموع ما ذكرناه أن الأدلة العقلية ليست قوية في هذه المسألة قال واعلم أيضاً أالتحقيق في هذه المسألة أن الخلاف فيها يقرب أن يكون لفظياً وسنبينه إن شاء الله تعالى الوجه الثاني أن هذا الرجل قد اعترف هو ومن يوافقه أن الرؤية التي دل عليها الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة بل الإدراك المنفي عن الله في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] يدل على أن الله تعالى في الجهة وذلك يقتضي دلالة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على شيئين على رؤية الله تعالى وعلى أنه في الجهة وذكر اعتراف فضلاء المعتزلة بأن النبيين كانوا يعتقدون ذلك(4/420)
أما الأول فإنه لما ذكر الحجج السمعية التي للمعتزلة على نفي الرؤية قال وهذه الشبه أربع الأولى وهي الأقوى التمسك بقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ قال واعلم أن هذه الآية تارة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يُرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة وتارة على استحالة كوننا رائين له أما الوجه الأول فإنما يتم بإثبات أمور أربعة أحدها أن إدراك البصر هو الرؤية قال ويدل عليه أمران أحدهما أنه لا فرق في اللغة بين أن رأيت فلاناً ببصري وبين أن يقال أدركته ببصري كما لا فرق بين أن يقال أدركته بأذني وسمعته بأذني وثانيهما أن أهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية وذلك يدل على أن العرب يستعملوا إدراك البصر بمعنى الرؤية(4/421)
وروي عن عائشة لما بلغها أن كعباً قال إن محمداً رأى ربه أنكرت ذلك وقالت ثلاث من حدثك بهن فقد كذب من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله قال تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال وروي عن ابن عباس مثل ذلك ثم قال في الجواب عن هذا لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن نفس الرؤية بيانه هو أن الإدراك غير موضوع بالحقيقة للرؤية أصلاً لكنه مستعمل في رؤية الشيء المحدود بطريق المجاز ومتى كان كذلك لم يلزم من الآية هاهنا نفي الرؤية وإنما قلنا إن(4/422)
الإدراك غير موضوع للرؤية حقيقة لأن لفظ الإدراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن يكون حقيقة في الرؤية وإنما قلنا إن الإدراك غير حقيقة في الرؤية لأنها حقيقة في اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما في قوله تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} [الشعراء 61] أو في الزمان كما يقال أدرك قتادة الحسن أو في صفة وحالة كما يقال أدرك الكلام وأدركت الثمرة إذا نضجت وأيضاً فإنه يقال أدركت ببصري حرارة الليل وإن كانت الحرارة لا ترى فعلمنا أن الإدراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن لا يكون حقيقة في الرؤية لئلا يؤدي إلى الاشتراك الذي هو خلاف الأصل وإنما قلنا إن الإدراك لا يستعمل مجازاً إلا في رؤية الشيء المتناهي لوجهين أحدهما أنا لما أبصرنا الشيء المتناهي فكان البصر على بعده من ذلك المرئي يتناوله ولم يتناوله غيره فجرى ذلك مجرى من قطع المسافة إلى شيء حتى بلغه ووصل إليه فلما توهم في هذا النوع من الإبصار معنى اللحوق سمي إدراكاً فأما إدراكنا لشيء الذي لا يكون في جهة أصلاً فإنه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا جرم(4/423)
لا يسمى إدراكاً الثاني أن الاسم إنما يوضع لما يكون معلوماً للواضع والعرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود أما عند الخصم فلأن الرؤية لا على هذا الوجه مستحيلة وأما عندنا فإنه وإن أمكن ألا يكون كذلك لكنه ما كان معلوماً للعرب ولا متصوراً لهم وإذا ثبت ذلك ثبت أنهم لم يستعملوا الإدراك إلا لرؤية الشيء الذي في جهة فثبت بما ذكرناه أن الإدراك لو أفاد الرؤية لأفاد رؤية الشيء المتناهي وهذا هو المراد من قول قدماء الأصحاب الإدراك هو الإحاطة بالمرئي وإذا ثبت أن الإدراك لا يفيد إ رؤية مخصوصة لم يلزم من نفي الإدراك نفي مطلق الرؤية لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم وأما قوله العرب لا تفرق بين الرؤية وبين الإدراك(4/424)
قلنا إن ادعيتم ذلك في مطلق الرؤية فهو ممنوع ودليله ما مضى وإن ادعيتم ذلك في رؤية مخصوصة فهو مسلم ولا يضرنا قوله أهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية فدل على أن إدراك البصر هو الرؤية قلنا وقد نقل أيضاً أن كثيراً من السلف فهموا الرؤية من قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] مع أن النظر عندكم ليس هو الرؤية وكذلك هاهنا قلت فقد أخبر أن العرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود وأن رؤية ما ليس في الجهة لم يكن معلوماً لهم ولا متصور لهم وإذا كان كذلك وقد ثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته وقال أيضاً إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب وكما ترون القمر صحواً ليس دونه سحاب وثبت اتفاق سلف الأمة على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة وقد أخبر أن العرب المخاطبين بهذا(4/425)
الكلام لم يكونوا يتصورون من ذلك إلا رؤية ما كان في الجهة وأن ما سوى ذلك لم يكن معلوماً ولا متصوراً لهم من لفظ الرؤية ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل الإجماع من الصحابة والتابعين أخبروا الخلق بأنهم يرون ربهم ولم يقولوا برؤية في غير جهة ولا ما يؤدي هذا المعنى بل قال كما ترون الشمس والقمر فمثل رؤيته بالرؤية لما هو في جهة علم بالاضطرار أن الرؤية التي تدل عليها نصوص الرسول وإجماع السابقين هي الرؤية التي كان الناس يعرفونها وهي لما يكون في الجهة وهذا بين وأيضاً فقد أخبر أن ما لا يكون في جهة تسمى رؤيته إدراكاً وأن لفظ الإدراك إذا أريد به الرؤية فهي رؤية مخصوصة وهي رؤية المتناهي الذي يكون في جهة فأما الشيء الذي لا يكون في جهة فلا تسمى رؤيته إدراكاً وإذا كان كذلك فيكون قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أي متناهياً لا تحيط به ولا تدركه متناهياً محدوداً وهذا الذي ذكره جيد وإن كان لم يستوف حجته فإن أئمة السلف بهذا فسروا الآية وما ذكرته المعتزلة عن ابن عباس أنه تأول الآية على نفي الرؤية كذب على ابن عباس بل قد ثبت عنه بالتواتر أنه كان يثبت رؤية(4/426)
الله وفسر قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ بأنها لا تحيط وضرب المثل بالسماء فقال ألست ترى السماء فقال بلى فقال أكلها ترى فقال لا قال فالله أعظم وإذا كان كذلك فمعلوم أن الله نفى إدراك الأبصار له ولم ينف إدراكه هو لنفسه ولم ينف مطلق الرؤية فلو كان هو في نفسه بحيث تمتنع رؤيته مطلقاً ليس الممتنع الإحاطة دون الرؤية التي ليست بإحاطة لم ينف هذا الخاص وهو الإدراك من الأبصار دون إدراكه هو ودون رؤية الأبصار لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام بل يقتضي جواز الخاص أو إبهامه لأن المدح بنفي الخاص مع كونه منتفياً لا يحسن كما لا يحسن أن يقال لا يقدر بنو آدم على إفناء جميعه أو لا يقدرون على إفناء ذاته وصفاته فإن هذا غير مقدور لا لبني آدم ولا لغيرهم بل هو ممتنع في نفسه وكذلك لا يقال الآدميون لا يقدرون على إعدامه أو إماتته أو على سلب قدرته وعلمه ونحو هذا لأن هذه الأمور ممتنعة في(4/427)
نفسها لا يختص بنو آدم بنفي الاقتدار عليها بل تخصيصهم بذلك يوهم أنه هو يقدر على ذلك وهذا كلام باطل فإن هذا ليس بشيء أصلاً حتى تكون رؤية الله عند النفاة هي من باب الممتنعات مثل عدمه وموته وإحداثه ونحو ذلك ولو كان كذلك لم يحسن نفي هذا عن أبصار العباد كما لا يحسن مدحه بأن العباد لا يعدمونه ولا يميتونه بل تخصيصهم بنفي إدراك أبصارهم له يقتضي أنه هو يدرك نفسه وإذا كان كذلك فإن لفظ الإدراك يقتضي الرؤية الخاصة لمن يكون في جهة علم أن الآية دلت على أنه كذلك وأما ما ذكره عن فضلاء المعتزلة فإنه أورد سؤال أبي الحسين البصري وأتباعه وهو أن موسى عليه السلام يجوز أن يكون عالماً باستحالة الرؤية وقال في الجواب قوله لِمَ لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام كان جاهلاً باستحالة الرؤية عليه قلنا لوجوه ثلاثة الأول الإجماع على أن علم الأنبياء بالله وصفاته أتم من علم غيرهم بذلك ف يشك أحد أن دعوى الإجماع في ذلك أظهر من دعوى إجماع الصحابة على العمل بالقياس وأخبار(4/428)
الآحاد فإذا خصنا هذه الأصول بالإجماع فلأن يتمسك بالإجماع هاهنا أولى الثاني أن قبل ظهور أبي الحسين لم ينسب أحد من الأئمة موسى عليه السلام إلى الجهل بل الناس كانوا بين المعترف بصحة الرؤية وبين المنكر لها متأولين لهذه الرؤية إما على سؤال رؤية الآية أو على أنه عليه السلام سأل الرؤية لقومه وإذا كان كذلك كان أبو الحسين مسبوقاً بهذا الإجماع فيكون سؤاله مردوداً الثالث وهو أن أبا الحسين يدعي العلم الضروري بأن المرئي يجب أن يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية والعلم الضروري حاصل بأن ما كان مقابلاً للجسم فهو مختص بجهة وتحيز فهذان العلمان الضروريان إن كانا حاصلين لموسى عليه السلام فيلزم من اعتقاد صحة رؤية الله اعتقاده لكونه جسماً متحيزاً قال وذلك ما لا يجوز بالاتفاق على الأنبياء عليهم السلام لأن تجويزه يمنع من العلم بحكمته عند أبي الحسين وإذا لم يحصل عنده العلمان الضروريان كان ذلك قادحاً في كونه عليه الصلاة والسلام عاقلاً وذلك لا يقوله عاقل فضلا عن(4/429)
المسلم اهـ قلت فهذا الذي ذكره عن أبي الحسين وأتباعه وهم فضلاء المعتزلة قد تضمن أن موسى عليه السلام سأل الله أن يراه بالبصر وهم يقولون يعلم العاقل بالضرورة أن المرئي لا يكون إ في جهة ويعلم العاقل بالضرورة أنه لا يكون في الجهة إلا الجسم المتحيز وذلك يقتضي أن موسى عندهم كان يعتقد أن الله في جهة وأنه جسم وأما قول هذا بالاتفاق لا يجوز أي بالاتفاق بينه وبين الشيخ أبي الحسين لكن هذا الاتفاق ليس بحجة بالإجماع الوجه الثالث أن كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله بجهة من الرائي أمر ثبت بالنصوص المتواترة ففي الصحيحين وغيرهما الحديث المشهور عن الزهري قال أنا سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد(4/430)
الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أنا الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تمارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك وذكر الحديث بطوله قال أبو سعيد أشهد لحفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا هو في الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن(4/431)
يسار عن أبي سعيد قال قلنا يا رسول اله هل نرى ربنا قال هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان صحواً قلنا لا يا رسول الله قال فهل تضارون من رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحواً قلنا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما وساق الحديث بطوله وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال ناس يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة قال فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة ليست في سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب قالوا لا قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤية أحدهما وذكر الحديث بطوله فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه إخبارهم أنه يرونه في جهة منهم من وجوه(4/432)
أحدها أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه ولا يعرفونه فضلاً عن أن يكون اللفظ يدل عليه كما قد اعترف هو بذلك فيما تقدم وهو أيضاً فإنك لست تجد أحداً من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلاً عن أن يتصور أنه يرى فضلاً عن أن يكون اسم الرؤية المشهورة في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة الوجه الثاني أنه قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً وكما ترون القمر صحواً فشبه هم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك تشبيهاً للمرئي بالمرئي ومن المعلوم أنه إذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب أن يرى في جهة من الرائي كما أن رؤية الشمس والقمر كذلك فإنه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة أما بعد أن يستفسرهم عن رؤية الشمس صحواً ورؤية البدر صحواً ويقو إنكم ترون ربكم كذلك فهذا لا يمكن أن يتأول على الرؤية التي يزعمونها فإن هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازاً(4/433)
الوجه الثالث أنه قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر ليس دونه سحاب فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات إذا لم يكن ثَمَّ حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول إنه يرى في غير جهة يمتنع عنده أن يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم إذ الحجاب لا يكون إلا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الإدراك في العين والنبي صلى الله عليه وسلم مثَّل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين إذا لم يكن دونها حجاب الوجه الرابع أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر لا يضامون ونفي الضير والضيم أن ما يكون لإمكان لحوقه للرائي ومعلوم أن ما يسمونه رؤية وهو رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا في شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه الرائي ويكون فوقه فإنه قد يلحقه فيه ضيم وضير إما بالازدحام عليه أو كلال البصر لخفائه كالهلال وإما لجلائه كالشمس والقمر ومثل هذا الحديث المشهور حديث قيس بن أبي حازم(4/434)
عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر قال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقرأ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وهذا لفظ البخاري في بعض طرقه وفيه زيادة لفظ عياناً وإلا فبقية ألفاظ الحديث مستفيضة في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين من حديث يحيى بن سعيد وثنا سعيد بن أبي عروبة ثنا(4/435)
قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فذكر الحديث إلى أن قالوا ائتوا محمداً عبداً قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما يشاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه الله ثم أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي عز وجل وقعت أو خررت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال لي ارفع رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني فذكر الحديث(4/436)
فكون الرائي وهو النبي صلى الله عليه وسلم يراه والرائي في مكان ولا يراه والرائي في مكان آخر ويعود إلى ذلك المكان دليل على أن المرئي يرى والرائي في مكان ولا يرى إذا كان الرائي في مكان آخر وهذا الاختصاص لا يكون إلا بما يكون بجهة من الرائي بخلاف ما يسمونه رؤية فإنها من جنس العلم اختصاص لها بكون الرائي في مكان دون مكان وأيضاً ففي الصحيحين عن أبي عمران الجوني عن أبي(4/437)
بكر بن عبد الله بن قيس وهو ابن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأخبر أنهم لا يمنعهم من النظر إلا ما على وجهه رداء الكبرياء ومن يقول إنه يرى لا في جهة عنده ليس المانع إلا كون الرؤية لم تخلق في عينه لا يتصور عنده أن يحجب الرائي شيء منفصل عنه أصلاً سواء فسر رداء الكبرياء بصفة من صفات الرب أو بحجاب منفصل عن الرب فعلى التقديرين لا يتصور عند هؤلاء أن يكون ذلك مانعاً من الرؤية ولا يمنع من رؤية الله عندهم إ ما يكون في نفس الرائي وكذلك قوله في جنة عدن سواء كانت ظرفاً له أو للرداء فعلى التقديرين(4/438)
يخالف مذهب هؤلاء وأيضاً ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه قال فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم ما هو فيه ثم قرأ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] فأخبر أنه(4/439)
يكشف الحجاب فينظرون إليه ومن يقول يرى لا في جهة لا يقول إن بينه وبين الخلق حجاباً ولا يتصور أن يحتجب عن الخلق وأن يكشف الحجاب وقد صرحوا بذلك كله قالوا لأن ذلك كله من صفة الجسم المتحيز فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك علم أنه يرى في الجهة وليست الرؤية التي أخبر بها ما يزعمونه من الأمر الذي لا يعقل ينافقون فيه أهل الإيمان وعن شعبة بن يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس(4/440)
عن أبي رزين قال قلت يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة قال نعم قال وما آية ذلك في خلقه قال أليس كلكم ينظر إلى القمر ليلة البدر وإنما هو خلق من خلق الله الله أعظم وأجل وفي رواية حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع ابن حدس عن عمه أبي رزين قال قلت يا رسول الله كلنا نرى الله يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخلياً قلت بلى قال والله أعظم وذلك آيته في خلقه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ولفظ أبي داود قلت يا رسول الله كلنا يرى ربه وفي رواية له مخلياً به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر وفي رواية له ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال والله أعظم قال الخلال سمعت أبا(4/441)
سعيد المصيصي الفقيه قال قال أبو صفوان رأيت(4/442)
المتوكل في النوم وبين يديه نار مؤججة عظيمة فقلت يا أمير المؤمنين لمن هذه النار فقال هذه لابني المنتصر لأنه قتلني وتدري لِمَ قتلني لأني حدثته أن الله يرى في الآخرة قال أبو سعيد فقال إبراهيم الحربي هذه رؤيا حق وذلك أن المتوكل كتب حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع ابن حدس بيده عن عبد الأعلى وقال لا أكتبه إلا بيدي فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يرى يوم القيامة لما سأله وسأله عن آية ذلك في خلقه والآية العلامة والدلالة وهو ما يعلم به ويدل على جواز ذلك فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل بطريق القياس(4/443)
التنبيه والأولى وقد قدمنا غير مرة أن مثل هذا القياس في قياس الغائب على الشاهد هو مما ورد في الكتاب والسنة فقال أليس كلكم يرى القمر مخلياً به ليلة البدر قال فالله أعظم وأجل وقال إنما هو خلق من خلق الله وذلك آيته في خلقه وإثباته صلى الله عليه وسلم جواز الرؤية لجميع الخلق في وقت واحد وكل منهم يكون مخلياً به بالقياس على رؤية القمر مع قوله والله أعظم وأجل دليل واضح على أن الناس يرونه مواجهة عياناً يكون بجهة منهم وأنه إذا أمكن في بعض مخلوقاته أنه يراه الناس في وقت واحد كلهم يكون مخلياً به فالله أولى أن يمكن ذلك فيه فإنه أعظم وأجل الوجه الرابع أن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة مثل ما روى اللالكائي عن علي بن(4/444)
أبي طالب أنه قال إن من تمام دخول الجنة والنظر إلى الله في جنته وعن عبد الله بن مسعود أنه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال والله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول ما غرك بي يا ابن آدم ثلاث مرات ماذا أجبت المرسلين ثلاثاً كيف علمت فيما علمت وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يعلم الناس سنتهم ودينهم قال فشخصت أبصارهم أو قال حرفوها عنه قال فما حرف أبصاركم عني قالوا الهلال أيها الأمير قال فذاك أشخاص أبصاركم عني قالوا نعم قال فكيف إذا رأيتم الله جهرة(4/445)
وعن معاذ بن جبل قال يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي أين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة(4/446)
وروى اللالكائي عن ابن وهب قال سمعت مالك بن أنس يقول الناظرون ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم وعن أشهب قال وسئل مالك عن قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] أينظر الله عز وجل قال نعم فقلت إن أقواماً يقولون ينظر ما عنده قال بل ينظر إليه نظراً وقد قال موسى قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن(4/447)
تَرَانِي [الأعراف 143] وقال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وعن مالك أنه قيل له إنهم يزعمون أن الله لا يرى فقال السيف السيف وقد تقدم كلام ابن الماجشون واحتجاجه أيضاً على الرؤية بحجابه للكفار وعن الأوزاعي أنه قال إني لأرجو أن يحجب الله جهماً(4/448)
وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه وعن الوليد بن مسلم قال سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث(4/449)
التي فيها الرؤية فقالوا أمِرّوها بلا كيف وعن الربيع قال حضرت الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} قال الشافعي فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان هذا دليلاً عن أنهم يرونه في الرضا قال لربيع قلت يا أبا عبد الله وبه تقول قال نعم وبه أدين الله لو لم يؤمن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله وعن عبد الله بن المبارك قال ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه ثم قرأ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ {16} ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ {17} [المطففين 15-17] قال بالرؤية(4/450)
وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له وأئمتنا رحمهم الله كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد(4/451)
وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئاً من ذلك فهو منهم بريء وهم منه برآء(4/452)
وروى الخلال في كتاب السنة قال حدثنا أبو بكر المروذي قال سألت أبا عبد الله عن أحاديث الرؤية فصححها وقال قد تلقتها العلماء بالقبول لنسلم الخبر كما جاء وعن حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله يقول أدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير(4/453)
منكرين لذلك ولا مرتابين وقال حنبل قال أبو عبد الله قال الله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فكلم الله موسى من وراء حجاب وقال رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قال الله تعالى لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله تعالى أن موسى عليه السلام يراه في الآخرة وقال عز وجل كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] ولا يكون حجاب إلا لرؤية فأخبر الله أن من شاء الله ومن أراد يراه والكفار لا يرونه فقال حنبل في موضع آخر القوم يرجعون إلى التعطيل في(4/454)
قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبد الله يقول قال الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] قال أحاديث تروى في النظر حديث جرير عن عبد الله وغيره تنظرون إلى ربكم أحاديث صحاح وقال لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] وهي النظر إلى الله عز وجل ثم قال أبو عبد الله نؤمن بها ونعلم أنها حق يعني أحاديث الرؤية ونؤمن أن الله يرى نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب وسمعت أبا عبد الله يقول قالت الجهمية إن الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يرى لقوله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وقال الله تبارك وتعالى لموسى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله أنه يرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقال كلكم(4/455)
يخلو به ربه وإن الله يضع كنفه على عبده فيسأله ما عملت هذه الأحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة وعن الله تبارك وتعالى أنه يرى في الآخرة وهذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يرى في القيامة وقول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42} [مريم 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} [طه 7] وقال إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال أبو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/456)
واخترع مقالة من نفسه وتأول برأيه فقد خسر خسراناً مبيناً وسمعت أبا عبد الله يقول من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله أمره فيستتاب فإن تاب وإلا قتل الوجه الخامس أن أئمة هذا الرازي كالأشعري وغيره هو أيضاً ممن يثبت الرؤية والاحتجاب وأن الله فوق العرش قال الأشعري في مسألة العرش فقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقال سبحانه ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى {10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى {11} أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى {12} إلى قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18} [النجم 8-18] وقال تعالى يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إليه إلى السماء ومن دعاء المسلمين جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش ومن خلفهم لا والذي احتجب بسبع(4/457)
سموات قال الحافظ أبو العباس وهذا مأخوذ من قوله إن الله خلق سبع سموات ثم اختار العليا فسكنها وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع آية أن يقول ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرفع الشك والحيرة من أن يقول ما كلن جنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل(4/458)
رسولاً ويترك أجناساً لم يعمهم بالآية فيدل ما ذكرناه على أنه خص البشر دون غيرهم وقال عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] قال كل ذلك يدل على أن الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه جل وعز عما يقول الظالمون علواً كبيراً جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل يريدون بذلك التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور 35] فسمى نفسه نوراً والنور عند الأمة لا يخلو من أحد معنيين إما أن يكون نوراً يسمع أو نوراً يرى فمن(4/459)
زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئاً في نفيه رؤية ربه وتكذيبه لكتابه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم قال وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال فكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإن الله ما بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك قال وروت العلماء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله حتى يسأله عن ثلاث(4/460)
وروت العلماء أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سواء فقال يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله فقالت في السماء وأومأت بيده إلى فوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك أعتقها فإنها مؤمنة قال وهذا يدل على أن الله على عرشه فوق السماء(4/461)
فهذا كله من كلام الأشعري مثل احتجاجه بما ذكره عن المسلمين جميعاً من قولهم إن الله احتجب بسمع سموات على أنه فوق العرش وهو إنما احتجب عن أن يراه خلقه لم يحتجب عن أن يراهم هو فعلم أن هذا يحجب العباد عن رؤيته وهذا يقتضي أنهم يرونه برفع هذه الحجب وذلك يقتضي أنهم يرونه في الجهة فإن من يثبت رؤيته في غير جهة من الرائي لا يقول بجواز الحجب المنفصلة أيضاً كما تقدم وكذلك احتجابه بقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الشورى 51] وأن الآية دلت على أن الله يحجب بعض المخلوقات دون بعض فعلم أنه لا يحتجب عن بعضهم واحتجاجه بذلك على أن الله فوق العرش يقتضي أن يحتجب عمن يراه ببعض مخلوقاته وهذا يستلزم أنه لا يرى إلا في جهة من الرائي وكذلك احتجاجه في مسألة العلو بأن الله نور وأن ذلك يقتضي أنه يرى ويقتضي أن رؤيته توجب علوه وكلام الأشعري في مسألة الرؤية والعلو يقتضي تلازمهما وهذا هو الذي ذكره هذا المؤسس عن الكرامية الوجه السادس أن هذا المؤسس ذكر في نهايته في مسألة الرؤية ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية وذكر أن أعظم حججهم العقلية حجتان(4/462)
أحدهما حجة الموانع قالوا لو صح منا رؤية الله في حال من الحالات لصح أن نراه الآن ولو صح أن نراه الآن لوجب أن نراه الآن لكنه لم يجب أن نراه الآن فلا يصح أن نراه في حال من الأحوال وإنما قلنا إنه لو صح أن نراه في حال من الأحوال لصح أن نراه الآن لأن كونه بحال يصح أن يرى حكم يثبت له إما لذاته وإما لبعض مل يلزم ذاته وعلى التقديرين فإنه يلزم من استمرار ذاته استمرار هذه الصحة وإنما قلنا إنه لو صح أن نراه الآن لوجب أن نراه الآن لأن الحاسة إن كانت صحيحة والمرئي يكون حاضراً ولا يكون على القرب القريب وعلى البعد البعيد ولا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية أو لا تكون الحجب حائلة فإنه يجب حصول الرؤية إذ لو لم يجب(4/463)
حصولها عند حصول هذه الأمور لجاز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة ونحن لا ندركها وذلك محال على ما سبق بيانه في مسألة الإدراك فإذا ثبت ذلك فهذه الشرائط لا يمكن اعتبارها في حق الله تعالى لأنها لا تعقل إلا في حق الأجسام أو ما يقوم بها وإذا لم يمكن اعتبار هذه الشرائط في حق الله لرؤيته وجب أن يكون مجرد سلامة الحس وكونه تعالى بحيث يصح رؤيته كافياً في حصول رؤيته فلزم أن تدوم رؤية أصحاب الحواس لله تعالى وذلك باطل بالضرورة فثبت أن القول بأن الله تعالى يصح أن يرى يفضي إلى الباطل وما يفضي إلى الباطل يكون باطلاً ثم قال في الجواب عما تمسكوا به أولاً أن نقول إن مدار هذه الشبهة على أن هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضراً والشرائط تكون حاصلة فإنه يجب حصوله هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى أن ذلك غير واجب بأدلة(4/464)
عقلية قاطعة لا يرتاب العاقل فيها وأجبنا عن شكوكهم بأجوبة يقينية لا حاجة بنا إلى إعادتها وإذا كان كذلك سقطت هذه الشبهة وهذا الذي أحال عليه قد ذكره في مسألة السمع والبصر وهي مسألة الإدراك فذكر الفصل الأول في حقيقته ثم قال الفصل الثاني في كيفية حصول هذه المدركية زعمت المعتزلية أنه مهما كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضراً ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيراً جداً ولا لطيفاً ولا يكون بين الرائي ولمرئي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فعند اجتماع هذه الشرائط يجب حصول الإدراك وعندنا أن ذلك غير واجب وهو مذهب أبي الهذيل من المعتزلة ثم ذكر لهم حجتين ثم قال وأما المخالفون فلهم في هذه المسألة مقامان(4/465)
تارة بدعوى الضرورة وتارة بدعوى الاستدلال أما الأول فتارة يدعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد الاختبار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وبسط كلامهم في ذلك ثم قال والجواب أن نقول إما أن تدعي الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور أو بعدمه عند عدمها والأول لا نزاع فيه والثاني فيه كل النزاع فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تغييرها عن مجاريها فهذا الجواب الذي ذكره يقتضي أنه وافق على أن العلم الضروري حاصل بوجود الرؤية عند وجود هذه الشرائط وهذا هو أول المسألة فإنه حكى عن المعتزلة أنه متى تجتمع هذه الشرائط يجب حصول الإدراك قال وعندنا أن ذلك غير واجب فإذا سلم أن العلم الضروري بحصول الإدراك عند حصول هذه الأمور لا نزاع فيه كان قد وافق على ما ذكر فيه(4/466)
النزاع وإذا كان كذلك ظهر أن ما ذكره من الجواب في مسألة الرؤية وهو قوله إن مدار هذه الشبهة على أن هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضراً فإنه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى أن ذلك غير واجب فيما مضى قد وافق فيه على وجوب الرؤية عند وجود الشروط لكن لم يوافق على وجوب عدمها عند عدم الشروط وإذا لم يذكر جواباً عن حجتهم إلا هذا وهذا ليس بجواب صحيح بقيت حجتهم على حالها وإذا كان كذلك لم يصح نفيه لما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية الوجه السابع أنه ذكر الحجة الثانية لنفاة الرؤية وهي حجة المقابلة فقال وهي أن الواحد منا لا يرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله تعالى أن يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئياً لنا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من المعلوم الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها(4/467)
ثم قال والجواب عما تمسكوا به ثانياً عن وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن لمقابلة ليست شرطاً لرؤيتنا هذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام والثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فَلِمَ قلتم إنها تكون شرطاً في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه الأشياء فلا يلزم من اشتراط نوع من جنس اشتراط نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين لله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي فأحال على ما تقدم وهو لم يذكر هناك إلا مسلكين الأول أنا نرى الجسم الكبير من البعد صغيراً وذلك(4/468)
يقتضي أنا نرى بعضه دون بعض ومن المعلوم بالضرورة أن الشرائط المذكورة كما أنها حاصلة بالنسبة إلى الأجزاء التي هي مرئية فكذلك هي حاصلة بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية ولما كان المرئي من الأشياء المجتمعة لهذه الشروط بعض الأجزاء دون بعض علمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط غير واجب والمسلك الثاني لو وجب حصول الإدراك عند حصول هذه الشروط لوجب رؤية الجوهر الفرد وذوات الهباء لكن الثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله بيان الأول أنا إذا رأينا جسماً كبيراً فلابد وأن نرى جزءاً صغيراً إذ لو لم نرَ جزءاً صغيراً لم نرَ المجموع الذي هو مجموع تلك الأجزاء ثم رؤية الجزء لا تتوقف على رؤية غيره لئلا يلزم الدور فيجب أن تصح رؤيتنا للجوهر الفرد فهاتان الحجتان إن كانتا باطلتين ف كلام وإن كانتا صحيحتين فهما يدلان على أن الرؤية لا تجب عند وجود(4/469)
الشروط الثمانية وهو قد سلم في الجواب وجوب الرؤية عند وجود الشروط ف تدل هاتان الحجتان على أن الرؤية لا تمتنع عند عدم بعض الشروط الثمانية وإذا لم يذكر دليلاً على عدم هذا الاشتراط أصلاً بقي ما ذكره منازعوه من العلم الضروري والاستدلال بأن المرئي لابد أن يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي سليماً عن المعارض فيجب القول بموجبه وهذا بين واضح ولهذا لما كانت مناظرته لنفاة الرؤية هذه المناظرة الضعيفة كان كلامهم فيها أرجح من كلامه وهذه عادته يعجز عن مناظرة أهل الباطل ويأخذ ما يحتجون به فيحتج به على أهل الحق فلا ينصف أهل الحق ويتبعهم ولا يرد أهل الباطل ويدفعهم وإنما فيه جدال وحجاج لبَّس فيه الحق بالباطل مع هؤلاء وهؤلاء وإذا كان الأمر كذلك لم يكن له الجواب عما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية كما تقدم الوجه الثامن أن يقال ما ذكره المعتزلة من شروط الرؤية(4/470)
وموانعها بعضها حق وبعضه باطل وهؤلاء الذين وافقوهم على نفي العلو وإثبات الرؤية يكابرونهم في الحق كما يدفعون باطلهم ولهذا كان كلا الطائفتين تقول الحق والباطل وإذا كان مثبتة الرؤية مع نفي العلو أقرب إلى الحق من نفاة الرؤية ونفاة العلو وذلك أن كونهم لم يشترطوا في الحاسة إلا مجرد سلامتها ليس بسديد فإن الحواس تختلف بالقوة والضعف فقد يكون بصر أحدَّ من بصر وسمع أقوى من سمع وشم أقوى من شم وذوق أقوى من ذوق وهذا موجود في البهائم وفي الآدميين ولهذا يرى أحدهم من الأشياء الدقيقة اللطيفة ما لا يراه الآخر ويرى من الأمور البعيدة ما يراه الآخر ويرى من النور والشعاع والبياض ما لا يراه الآخر وذلك قد يسمع من الأصوات البعيدة والأصوات القريبة ما لا يمكن الآخر أن يسمعه وإذا كان الأمر كذلك فقوة إدراك العباد وحركاتهم في الآخرة يجعلها الله أعظم من قوى إدراكهم وحركاتهم في الدنيا وهذا ظاهر بين(4/471)
وقولهم لا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيراً لطيفاً هذا إنما اشترط لعجز البصر عن إدراك ما يكون كذلك لأن ذلك ممتنع في نفسه وإلا فيمكن أن يقوى البصر العبد حتى يرى القريب والبعيد واللطيف وليس هذا ممتنعاً في ذاته يبين ذلك أن القرب والبعد والصغر والكبر من الأمور الإضافية قد يكون صغيراً بالنسبة إلى بصر هذا الرائي ما ليس بصغير بالنسبة إلى بصر غيره وكذلك في القرب والبعد وكذلك قولهم أن لا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة فإن رؤية ما وراء الحجاب ليس بممتنع في نفسه بل لعجز البصر عنه فإن الله يرى كل شيء ولا تحجبه السموات والأرض وسائر الحجب وكذلك قولهم أن يكون مقابلاً للرائي فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي(4/472)
لكن هذا يدل على أنه لا يشترط في الرؤية أن يكون المرئي أمامه لكن لا يدل على أنه لا يشترط أن يكون بجهة منه فإنما خلفه بجهة منه الوجه التاسع أنه قال هنا إن أصحابه نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإنه يختص بالجهة بل لا نزاع أن الأمر في الشاهد كذلك فَلِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون الغائب كذلك وهذا تسليم لكون الواحد منا لا يرى إلا ما يكون في الجهة فمنازعته لذلك من هذا الباب ودعواه أن ذلك ليس بشرط في رؤية الأشياء المرئية مخالف لما ذكره من تسليم أصحابه وذلك خلاف ما ذكره من أنه لا يشترط شيء من هذه الشروط في رؤية الأشياء المرئية(4/473)
الوجه العاشر أن قوله لِمَ قلتم إن كل ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية يقال له المنازع يقول إنها بديهية قوله فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصاً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه قد ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت أن الباري قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك وهذا لا يقوله عاقل والفرق ظاهر بين دعوى الضرورة والبديهة في الشيء المعين الخاص والشيء العام الكلي فإذا قال القائل العلم الضروري بأن كل مرئي في الشاهد والغائب لابد أن يكون بجهة من الرائي أو العلم الضروري حصل بأن الغائب كالشاهد في هذا الأمر الخاص لم يستلزم هذا أن يقول إن العلم الضروري حاصل بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك والمقدمة المذكورة هي قوله كل(4/474)
مرئي فلابد وأن يكون في الجهة وهذا قالوه قولاً عاماً مطلقاً لم يثبتوه بقياس الغائب على الشاهد حتى يصوغوه الصوغ الذي ذكره ويدخل فيه تلك القضية العامة الكاذبة الوجه الحادي عشر أن ما ذكره إن كان حجة كان حجة ثانية على المطلوب فإنه من الممكن أن يستدل بكونه قائماً بالنفس على كونه مختصاً بالجهة ويحتج بكونه مرئياً على كونه مختصاً بالجهة ويحتج بكونه موجوداً على أنه إما أن يكون مبايناً لغيره أو محايثاً له وتعدد الأدلة على المطلوب الواحد ليس بممتنع الوجه الثاني عشر أن ما ذكره من الحجة قد يقال فيه نحن نعلم بالاضطرار أنه كل ما يقوم بنفسه فإنه لابد أن يكون مختصاً بجهة بحيث يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يختص الكلام بالشاهد ثم يقاس عليه الغائب بل العلم الضروري حاصل بذلك مطلقاً كما تقدم ذكره الوجه الثالث عشر أن ذلك إذا قررنا بالدليل قرر تقريراً يفيد بأن يقال ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وهذا مما فارق به الموجود المعدوم فالموجب لذلك إما كونه موجوداً قائماً بنفسه أو ما يندرج فيه الموجود الواجب لنفسه أو ما يختص بالممكن أو المحدث ويساق الكلام إلى(4/475)
آخره كما ذكر في حجة المباينة والمحايثة لا يقول عاقل إن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك ولكن ذكر الحجة على هذا الوجه القبيح الذي يظهر بطلانه لما في ذلك من التنفير والتقبيح لقول منازعيه وهذه ليست حال أهل العلم والعدل بل حال الجاهل أو الظالم الوجه الرابع عشر قوله فإذا كان هذا الوجه حاصلاً في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه في الجهة بكونه مرئياً ثم إثبات أن كل ما كان مرئياً فهو مختص بالجهة تطويلاً من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان يقال لو أن ما ذكرته من جهة القيام بالنفس صحيح لم يكن إثبات الجهة بطريق الرؤية تطويلاً من غير فائدة بل هو إثبات لها بطريق آخر غير الأولى فإن الاستدلال على كون الشيء في الجهة بكونه قائماً بنفسه غير الاستدلال على ذلك بكونه مرئياً مشهوداً وإذا كان هذا دليلين متغايرين لم يجز أن يكون ذكر أحدهما متضمناً للآخر ولا أن يكون ذكر الآخر تطويلاً أقصى ما يقال إن العلم بالمقدمتين التي في الدليلين يستفاد من وجه واحد وهو الضرورة أو قياس الغائب على(4/476)
الشاهد إما مطلقاً كما ذكره أو قياساً صحيحاً ملخصاً بالتقسيم الحاصر الجامع بين النفي والإثبات أو بغيره كما يسلكه أهل الإثبات وإذا كان الدليل على مقدمة في دليل كالدليل على مقدمة في دليل آخر لم يوجب أن يكون أحد الدليلين متضمناً للآخر ويكون ذكر الآخر تطويلاً بلا فائدة الوجه الخامس عشر قوله وأما إن قلنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلاً لا تصير هذه المقدمة يقينية فهذا كم صحيح لكن كان ينبغي له إذا كان ذاكراً لحجج منازعيه أن يذكر ما يستدل به الناس على ذلك فتركه لذلك تقصير وخيانة في المناظرة ونحن لم نلتزم الكلام في تقرير هذه المسائل ابتداءً وإنما تكلمنا على ما ذكروه من حججه وحجج منازعيه الوجه السادس عشر قوله وأيضاً فكما أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا إذا كان مقابلاً أو في حكم المقابل لرائي فكذلك لا نعقل مرئياً إلا إذا كان صغيراً أو كبيراً أو ممتداً في الجهات مؤتلفاً من الأجزاء وهم يقولون إنه تعالى يرى لا صغيراً(4/477)
ولا كبيراً ولا ممتداً في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أن يقال إن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلاً إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك فيقال له هذا إلزام جدلي وليس بحجة في المناظرة ولا النظر كما تقدم فإنه يقال لابد وأن يكون في الجهة ما ذكرته في صورة الإلزام إن كانت مساواته لصورة النزاع فما ذكروه في صورة النزاع حجة في الموضعين وغايته أن يكونوا أخطأوا في صورة الإلزام وهي صورة النقض والمعارضة والإلزام صحيحاً ويقول لك المناظر الفرق بين صورة النقض وصورة النزاع كيت وكيت فإن صح الفرق بطل النقض وإن بطل الفرق منعت(4/478)
الحكم في صورة النقض إذ ليس ذلك مجمعاً عليه بين الأمة الوجه السابع عشر أنهم يقولون نقول إنه لا يرى إلا كبيراً عظيماً لا نقول إنه يرى لا صغيراً ولا كبيراً بل نقول إنه يرى عظيماً كبيراً جليلاً كما سمى ووصف نفسه بذلك في الكتاب والسنة ومن لم يقل ذلك من المنازعين كان ما ذكره حجة عليه وأما قوله ممتداً في الجهات مؤتلفاً من الأجزاء فلا نسلم أنا لا نعقل مرئياً في الشاهد إلا مؤتلفاً من الأجزاء فإن المرئيات مثل الشمس والقمر ونحو ذلك هو شيء واحد لا نعلم لا بحس ولا ضرورة أنها مركبة من الأجزاء المفردة وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس أن هذا التركيب ليس معلوماً بالحس ولا بالضرورة بل هي من أدق مسائل النزاع بين الخلق الوجه الثامن عشر أن يقال ما تريد بقولك ممتد مؤتلف أتريد أنه مركب من الأجزاء وأنه يجوز تفريقه فليس كلما نشاهده كذلك أم تريد به أن منه شيئاً ليس هو الشيء الآخر فنحن نقول كل ما يرى في الشاهد والغائب لابد وأن يكون كذلك الوجه التاسع عشر أن يقال لا يعقل مرئي إلا موصوفاً بما هو المرئي المشهود موصوف به من صفات الوجود التي(4/479)
استحق بها جواز رؤيته أو ما أبلغ في الوجود واستحقاق الرؤية منه فإذا كنا نرى الموجود الذي يجوز عدمه فما لا يجوز عدمه أولى فإذا كنا نرى ما هو في جهة وهو مجتمع يجوز تفريقه وتقسيمه فالمجتمع الذي لا يجوز تفريقه وتقسيمه أولى بالرؤية لكن لا يمكن أن نقول إذا رأينا ما هو بجهة مرئياً أن يكون ما ليس في الجهة أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وإذا رأينا ما هو مجتمع فيما ليس بمجتمع ولا متفرق أولى بالرؤية وقد ذكرنا غير مرة أن الأقيسة والأمثال المضروبة في باب الإلهيات إذا كانت من باب التنبيه والأولى في النفي والإثبات فهي من جنس ما ورد به الكتاب والسنة(4/480)
فصل ثم قال الرازي الشبهة الرابعة تمسكوا برفع الأيدي إلى السماء قالوا وهذا شيء يفعله جميع أرباب النحل فدل على أنه تقرر في عقول جميع الخلق أن إلههم فوق ثم قال الجواب إن هذا معارض بما تقرر في عقول جميع الخلق أنهم عند تعظيم خالق العالم يضعون جباههم على الأرض ولمَّا لم يدل هذا على كون خالق العالم في الأرض لم يدل على ما ذكروه على أنه في السماء وأيضاً فالخلق إنما يقدمون على رفع الأيدي إلى السماء لوجوه أخر وراء اعتقادهم أن خالق العالم في السماء فالأول أن أعظم الأشياء نفعاً للخلق ظهور الأنوار وأنها إنما تظهر من جانب السموات والثاني أن مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس وليس ذلك الاستنشاق إلا من الهواء والهواء ليس موجوداً إلا فوق الأرض فلهذا السبب كان ما فوق الأرض أشرف ما تحت الأرض(4/481)
الثالث أن نزول الغيث من جهة الفوق ولما كانت هذه الأشياء التي هي منافع الخلق إنما تنزل من جانب السموات لا جرم كان ذلك الجانب عندهم أشرف وتعلق الخاطر بالأشرف أقوى من تعلقه بالأخس فهذا هو السبب في رفع الأيدي إلى السماء وأيضاً فإنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل القبلة قبلة لصلاتنا وأيضاً أنه تعالى جعل الملائكة وسائط في مصالح هذا العالم قال الله تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} [النازعات 5] وقال فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً {4} [الذاريات 4] وأجمعوا على أن جبريل عليه السلام ملك الوحي والتنزيل والنبوة وميكائيل ملك الأرزاق وملك الموت ملك الوفاة وكذلك القول في سائر الأمور وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد أن يكون الغرض من رفع الأيدي إلى السماء رفع الأيدي إلى الملائكة وهذه الحجة ذكرها في نهايته فقال وثالثها التمسك(4/482)
بالاتفاق من الأمم المختلفة الآراء على الإشارة إلى فوق عند الدعاء وطلب الإجابة من الله وأن ذلك يدل على علمهم بالضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أين ربك قال فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة وقال والجواب عما تمسكوا به ثالثاً من الإشارة إلى فوق سببه الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك فإنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسماً فكما أن من لم يشاهد إلا إنساناً أسود فحين يمثل في نفسه إنساناً يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير ومن لم يسمع من اللغات إلا العربية فحين يمثل في نفسه معنى إنما سبق إلى نفسه التعبير عن ذلك المعنى بلفظ العرب وكذلك سبق إلى الوهم أن من يدعو حياً عالماً قادراً على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين ويتبع ذلك أنه في مكان ولأن العلو أشرف لأن الأنوار فيه ولأن الرأس لما كان أشرف الأعضاء كان ما يليه أشرف الجهات فيسبق إلى فهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو فلسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة(4/483)
إلى السماء ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر أن سبب ذلك هو الإلف فلا يكون صواباً وأما حديث الأمة فهو من الآحاد ثم لو صح لكان سببه ما ذكرناه من الإلف اهـ والكلام على ما ذكره من وجوه الأول أن الاستدلال برفع الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء على أن الله فوق هو حجة أهل الإثبات المثبتين للصفات من السلف والخلف ليس ذلك مختصاً بالكرامية بل من أشهر المحتجين به أئمة أصحابه الأشعري وذووه وقال أبو الحسن الأشعري فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] وقال سبحانه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه [السجدة 5](4/484)
وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه وتعالى أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش وإنما أراد العرش الذي هو على السموات ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعاً وأنه فيهن جميعاً قال ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض وهذا الاحتجاج منه بإجماع المسلمين على رفع أيديهم في الدعاء على أن الله فوق السموات لأنهم إنما يرفعونها إليه نفسه لا إلى غيره من المخلوقات وقال صاحبه أبو الحسن علي بن مهدي الطبري قال البلخي فإن قيل لنا ما معنى رفع أيدينا إلى السماء وقوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] قلنا تأويل ذلك أن أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء وجاز أن يقال أعمالنا ترفع إلى الله لما(4/485)
كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء قال الطبري قيل له إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق منها وأن لحفظة مساكنهم فيها جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرارهم ومنها خلقوا ولأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في رفعها إلى السماء ما وصفه وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قصدين إليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد وفي الإبانة فإن قال قائل فهل تقولون إنه في كل مكان(4/486)
قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك 16] وقال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان واحتيج أن يرغب إليه نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وهذا تصريح بأن الأيدي إنما ترفع إلى الله نفسه وأنه يجب أن يصح رفعها إليه حيث كان وأنه إنما اختص رفعها بجهة العلو لأن الله هناك إذ لو لم تجب صحة رفعها إلى جهته(4/487)
لم يجب إذا كان في كل مكان أن يصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وأيماننا وشمائلنا فإن ذلك إنما يلزم إذا لزم أن يشار إليه حيث كان وذا الذي قاله أبلغ من جواز الإشارة إيه فإنه أوجب أن يصح الإشارة والرغبة إلى غير جهة الفوق لو كان فيها وهذه الحجة إنما تصح إذا كانت الإشارة بالأيدي إلى فوق إشارة إليه نفسه إذ لو لم يكن كذلك لقال له منازعه فعندك الإشارة بالدعاء ليست إليه وإذا كان كذلك لم تكن الإشارة إليه واجبة بحال وإنما هو لمعنى يختص بجهة فوق غير كون الله تعالى هناك وإن كنت موفقي على هذا يلزم إذا كان في كل مكان أن يشار في الدعاء إلى سائر الجهة كالسفل واليمين واليسار لأن عندك الإشارة بالأيدي ليست إليه وإنما هي لأمر يختص بالجهة العالية غير الله وهذا من احتجاج الأولين والآخرين قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب(4/488)
مختلف الحديث له نحن نقول في قوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] أنه معهم يعلم ما هم عليه كما تقول لرجل وجهته إلى بلد شاسع احذر التقصير فإني معك تريد أنه لا يخفى عليَّ تقصيرك وكيف يسوغ لأحد أن يقول إنه سبحانه وتعالى بكل مكان على الحلول فيه مع قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} ومع قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وكيف يصعد إليه شيء وهو معه وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله هو العلي وهو الأعلى وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه والأمم كلها عربها وعجمها يقولون إن الله في السماء ما تركت على فطرها وفي الإنجيل أن المسيح قال للحواريين إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم انظروا(4/489)
إلى طير السماء فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن وأبوكم الذي في السماء هو يرزقهن ومثل هذا في الشواهد كثير وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب لتوحيد باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطر المسلمين علمائهم وجهالهم وأحرارهم(4/490)
ومماليكهم وذكرانهم وإناثهم بالغيهم وأطفالهم كل من دعا الله عز وجل فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله تعالى إلى الأعلى لا إلى الأسفل وقال أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين وهو في أصول الدين القول في أنه مستو على العرش هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل إليه دليل من غير هذا الوجه وقد نطق الكتاب به في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز ود قال أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله وسئل عن قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وذكر المواضع التي في القرآن من ذكر(4/491)
العرش وقوله أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ وقال أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الملك 17] وقال تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} [المعارج 4] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وقال حكاية عن فرعون أنه قال يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر 36-37] فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها لذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلاً فدل ما تلوناه من هذه الآيات على أن الله في السماء ومستو على العرش ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا الاختصاص معنى ولا فيه فائدة قال وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم أن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء(4/492)
وذلك لاستضافة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى قال واعترض من خالف هذا بقوله وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ [الأنعام 3] وبقوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {84} [الزخرف 84] وبقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] ونحو هذا من آي القرآن وهذا لا يقدح في الآي التي تلوناها قبل ولا يخالفها والخبر عن حال الشيء وصفته من جهة غير الخبر عن نفس الشيء وذاته وإنما هذا كقول القائل فلان في السوق معروف وفي البلاد وجائز أن يكون فلان في بيته وقت هذا الكلام غائباً عن السوق وعن البلاد وإنما المعنى في هذه الآي إثبات علمه وقدرته في السماء والأرض وهو في الآي المتقدم إخبار عن الذات والاستواء على العرش حسب من غير قران لذلك بصلة أو تعليق له بشيء آخر فأحد الكلامين قائم بنفسه والكلام الآخر إنما سيق لغيره وتعدى إلى ما سواه وهو يجمع قضيتين اثنتين والكلام الأول قضية واحدة قال وزعم بعضهم أن معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء ونزع فيه(4/493)
ببيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ولو كان معنى الاستواء هاهنا الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل شيء من الأشياء وبكل قطر وبقعة من السموات والأرض وما تحت الثرى فما معنى تخصيصه العرش بالذكر ثم إن الاستيلاء يتحقق معناه عند المنع عن الشيء فإذا وقع الظفر قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده وكذلك لو كان بكل مكان كما زعموا لم يكن بتخصيصه العرش بالذكر فائدة فثبت أنه ليس المعنى إلا ما أشار إليه التوقيف فإن قيل إن إضافة العرش إليه كإضافة البيت إليه وهو ل يجعله ليسكنه فكذلك لم يجع العرش للكينونة والاستواء عليه قيل إن العرش لا يشبه البيت فيما ذكرتموه وذلك لأن البيوت تتخذ غرفاً وعادة لتكون وقاية من الحر أو البرد وما أشبههما من وجوه الأذى والله متعالٍ عن هذه الصفات والعرش والسرير إنما يتخذ ليتمجد ويستكبر بهما فقياسكم لجمع بين الاثنين قياس فساد(4/494)
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطا التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث العباس قال فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه قال وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن(4/495)
منده الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف فقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجاً منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن لجنة مسكنه وبأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في(4/496)
نفسها فدل على أنه في مكان الوجه الثاني أن الإشارة إلى فوق إلى الله في الدعاء وغير الدعاء باليد والأصبع أو العين أو الرأس أو غير ذلك من الإشارات الحسية قد تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق عليه المسلمون وغير المسلمين قال تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة 144] وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يوقفه على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في مهوى فيهوي أربعين خريفاً رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه بمعناه وعن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء عجمية فقال يا رسول الله علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله(4/497)
فأشارت إلى السماء بأصبعها بالسبابة فقال لها من أنا فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال أعتقها رواه أحمد في مسنده والبرقي في مسنده أيضاً ورواه ابن خزيمة في التوحيد وقد اشترط فيه ألا يحتج فيه إلا بحديث صحيح وإسناده عن يزيد بن هارون أخبرنا المسعودي عن عون بن عبد الله عن(4/498)
أخيه عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة مثله وقال بجارية سوداء لا تفصح فقال إن علي رقبة مؤمنة وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربك فأشارت بيدها إلى السماء ثم قال من أنا فقالت بيدها ما بين السماء والأرض تعني رسول الله والباقي مثله ورواه أيضاً من حديث أبي داود الطيالسي عن المسعودي بهذا الإسناد كمثله وقال أيضاً بجارية عجماء لا تفصح وقال أعتقها وقال فقال المسعودي مرة أعتقها فإنها مؤمنة وقد روي نحو هذا المعنى عن عبيد الله بن عبد الله الزهري مسنداً عن أبي هريرة(4/499)
ومرسلاً ورواه الإمام أحمد وابن خزيمة أيضاً من حديث معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله إن علي ربة مؤمنة فإن كنت ترى أن هذه مؤمنة فأعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدين أن لا إله إلا الله فقالت نعم قال أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت نعم قال أعتقها ورواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال خزيمة لست أنكر أن يكون خبر معمر ثابتاً صحيحاً لست بمنكر لمثل عبيد الله بن عبد الله أن يروي خبراً عن أبي هريرة عن رجل من الأنصار لو كان متن الخبر متناً(4/500)
واحداً فكيف وهو متنان وهما في علمي حديثان لا حديث واحد حديث عون بن عبد الله في الامتحان إنما أجابت السوداء بالإشارة لا بالنطق وفي خبر الزهري أجابت السوداء بنطق نعم بعد الاستفهام لما قال لها أتشهدين أن لا إله إلا الله في الخبر أنها قالت نعم وكذلك عند الاستفهام قال لها أتشهدين أني رسول الله قالت نعم نطقاً بالكلام ولإشارة باليد ليست النطق بالكلام وفي خبر الزهري زيادة الامتحان بالبعث بعد الموت لما استفهمها أتؤمنين بالبعث بعد الموت وهذا الذي قاله ابن خزيمة يحققه أن هذا الحديث رواه القاضي أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة له من(4/501)
حديث محمد بن عمرو وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ولهذا يقال إنه حديث حسن صحيح ومثله ما روى أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب قال ورواه بعضهم ولم يرفعه وهذا لا يضر(4/502)
لأنه إذا كان موقوفاً على سلمان فمثل هذا الكلام لا يقال إلا توقيفًا وقد أخبر في هذا الحديث أن العبد يشير بيديه ويرفعهما إلى الله سبحانه وكذلك الحديث الذي في المسند والترمذي عن الفضل بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثم تقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل ذلك فهو خداج فأخبر فيه أنه يقنع يديه أي يرفعهما وأنه(4/503)
يرفعهما إلى ربه وفي الحديث المشهور الذي في صحيح مسلم عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن جابر في صفة حجة الوداع وهو الحديث الطويل المشهور أكثر حديث روي في حجة الوداع قال فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في(4/505)
بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصتم به كتاب الله وأنتم وتُسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد بأنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاَ ثم ركب حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث فأشار بأصبعه السبابة وحدها إلى فوق بإبلاغ الإشارة اللهم اشهد ثلاث مرات يجمع بين الإشارة(4/506)
الحسية المرئية والعبارة الحسية المسموعة وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر وقال يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا هذا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مراراً ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال ابن عباس والذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقد أخبرنا هنا أنه رفع رأسه وقال اللهم اشهد وعن سعد بن أبي وقاص قال مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعي فقال أحِّد أحِّد وأشار بالسبابة رواه الإمام أحمد(4/507)
وأبو داود والنسائي وأخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة نحوه وقال حديث حسن غريب قالوا ومعناه أشِّر بواحدة فإن الذي تدعوه(4/508)
واحد وهذا نص بَيِّن في أن الإشارة إلى الله حيث قال له أحد أحد أي أحد الإشارة فاجعلها بأصبع واحدة فلو كانت الإشارة إلى غير الله لم يختلف الأمر بين أن يكون بواحدة أو أكثر فعلم أن الإشارة لما كانت إلى الله وهو إله واحد أمره أن يشير إ بأصبع واحدة لا باثنين وكذلك استفاضت السنن بأنه يشار بالأصبع الواحدة في الدعاء في الصلاة وعلى المنابر يوم الجمعة وفي غير ذلك فعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفه أصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها وفي رواية كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى(4/509)
رواهما أحمد ومسلم والنسائي وروى الثاني أبو داود أيضاً وعن عبد الله بن الزبير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبة فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه وأشار بعض الرواة بالسبابة رواه أحمد ومسلم وأبو داود(4/510)
وعن ابن الزبير أيضاً قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته رواه أحمد وأبوداود والنسائي وعن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وفي رواية يقول هكذا وحلق الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة رواه أحمد وأبو داود والنسائي(4/511)
وابن ماجة وعن مالك بن نمير الخزاعي عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى رافعاً أصبعه السبابة قد حناها شيئاً رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة(4/512)
وعن حصين بن عبد الرحمن قال رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة فقال عمارة قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب إذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وفي سنن [ي داود عن ابن عباس(4/513)
قال المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة والابتهال أن تمد يديك جميعاً وفي رواية والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه رواه أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فهو في الحديث أكثر من أن يبلغه الإحصاء وأما حديث أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى(4/514)
بياض إبطيه رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد مثل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده وغيرهم وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء رواه أبو داود ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان(4/515)
يستسقي هكذا يعني ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه فهذا هو رفعهما إلى فوق رأسه وهو الابتهال المذكور في حديث ابن عباس ومن صوره هذا الرفع إلى فوق الرأس أن تصير كفاه من جهة السماء إذ لا يمكن مع استيفاء الرفع أن تكون بطونهما من نحو السماء الوجه الثالث أنه قد نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى فوق أمراً بالخشوع الذي أثنى الله على أهله حيث قال قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} [المؤمنون 1-2] وقال وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} [البقرة 45] والخشوع يكون مع تخفيض البصر كما قال تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ {43} [القلم 42-43] وقال تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون َ {43} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {44} [المعارج 43-44] وقال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ {6} خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ {7} مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ {8} [القمر 6-8] كما(4/516)
وصف الأصوات بالخشوع في قوله يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه 108] وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهُنَّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم رواه البخاري وأكثر أهل السنن وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم رواه مسلم وغيره(4/517)
ولو كان الله ليس فوق بل هو في السفل كما هو في الفوق لا لاختصاص أحد الجهتين به لم يكن رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع بل كان يكون بمنزلة خفضها الوجه الرابع إن الذين يرفعون أيديهم وأبصارهم وغير ذلك إلى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبعاً لحركة قلوبهم إلى فوق وهذا أمر يجدونه كلهم في قلوبهم وجداً ضرورياً إلا من غيرت فطرته باعتقاد يصرفه عن ذلك وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ أبي جعفر الهمذاني أنه حضر مجلس(4/518)
أبي المعالي فذكر العرش وقال كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام إليه الشيخ أبو جعفر فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة قال فضرب أبو المعالي على رأسه وقال حيرني الهمذاني فأخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله أنه يجد في قلبه حركة ضرورية إلى العلو إذا قال يا الله وهذا يقتضي أنه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق وقصده والتوجه إليه إلى فوق الوجه الخامس أن الناس مع اختلاف عقائدهم وأديانهم(4/519)
يشيرون إلى السماء عند الدعاء لله تعالى والرغبة إليه وكلما عظمت رغبتهم واشتد إلحاحهم قوي رفعهم إشارتهم وهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه الرغبة والإلحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته فيه أعظم منه في غيره وهذا يفعلونه إذا دعوا الله مخلصين له الدين عندما يكونون مضطرين إلى الله عند الرغبة والرهبة مثل ركوب البحر وغيره وفي تلك الحال يكونون قاصدين الله قصداً قوياً بل لا يقصدون غيره ويقرنون بقصد قلوبهم وتوجهها إشارتهم بعيونهم ووجوههم وأيديهم إلى فوق ومعلوم أن الإشارة تتبع قصد المشير وإرادته فإذا لم يكونوا قاصدين إلا الله ولا مريدين إلا إياه لم تكن الإشارة إلا إلى ما قصدوه وسألوه فإنه في تلك الحال لا يكون في قلوبهم إلا شيئان لمسئول والمسئول منه ومعلوم أن الإشارة باليد وغيرها ليست إلى الشيء المسئول المطلوب من الله ولا يخطر بقلوبهم أن هذه الإشارة إلى ذلك ولا ادعاه المنازع في ذلك في أكثر الأوقات ولا يكون فوق فلم يبق ما تكون الإشارة إليه إلا المدعو المقصود وإلا كانت الإشارة إلى ما لم يقصده الداعي ولم يشعر به وهذا ممتنع وهذا واضح لمن تدبره الوجه السادس أنهم يقولون بألسنتهم ارفعوا أيديكم إلى الله ونحو ذلك من العبارات وهذا إخبار عن أنفسهم أنهم(4/520)
يقصدون الإشارة إل الله ورفع الأيدي إليه وإذا كان هذا الخبر لم يتواطؤوا عليه ولم يجمعهم عليه أحد كان اتفاقهم في الخبر عما في نفوسهم كاتفاقهم في سائر الأخبار التي تجري مجرى هذا من الأمور الحسية الضرورية وغير ذلك الوجه السابع أن هذا الرفع يستدل به من وجوه أحدها أن العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه أمراً ضرورياً إذا دعا الله دعاء المضطر أنه يقصد بقلبه الله الذي هو عالٍ وهو فوق الثاني أنه يجد حركة عينيه ويديه بالإشارة إلى فوق تتبع إشارة قلبه إلى فوق وهو يجد ذلك أيضاً ضرورة الثالث أن الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة الرابع أنهم يقولون بألسنتهم إنا نرفع أيدينا إلى الله ويخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون في قلوبهم اضطرارً إلى قصد العلو فالحجة تارة بما يجده الإنسان من العلم الضروري في نفسه وتارة بما يخبر به الناس عن أنفسهم من العلم الضروري وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة فإنه إذا كان إجماع المسلمين وحدهم لا يكون إلا حقاً فإجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون أولى أن لا يكون إلا حقاً وبهذه المجامع يظهر(4/521)
الجواب عما تذكر الجهمية وجماعه شيئان أحدهما أن يكون الناس مخطئين في هذا الرفع لاعتقادهم أن الله فوق وليس هو فوق وهذا جوابه في نهايته الثاني أن يكون الرفع إلى بعض المخلوقات إما الملائكة أو الجهة الشريفة أو العرش الذي هو القبلة ومن تدبر ما بيناه علم امتناع هذين الوجهين ونحن نفصل ذلك الوجه الثامن قوله إن الرفع إلى فوق لأن الجهة العالية أشرف من السافلة بظهور الأنوار منها وأن الهواءالذي هو مادة النفس منها وأن النظر إليها مضمونه أن ما يحتاج إليه الآدميون من الرزق الذي هو الماء والهواء ومن النور يأتي من الجهة العالية فكانت أشرف فيقال له أولاً لا ريب أن حاجتهم إلى الأرض وما فيها أكثر فإن عليها قرارهم ومنها تخرج أرزاقهم التي هي النبات وفيها الحيوان وهي كما قال الله تعالى فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {25} [الأعراف 25] ولهذا كان نظر أبصارهم إلى الأرض وما فيها أكثر من نظرهم إلى السماء وما(4/522)
فيها فعلم أن النظر الذي يكون لأجل الحاجة إلى المنظور إليه لتعلق القلب به هو إلى الأرض أكثر منه إلى السماء ويقال له ثانياً الاحتجاج إنما هو برفع أيديهم وأبصارهم حين الدعاء لله وحده شريك له فأما دعوى غير الله فإنما يرفعون أيديهم إن رفعوها إلى جهة ذلك المدعو وأما في غير قصد الله ودعائه وذكره فإنهم يلتزمون الإشارة إلى السماء بل إنما يشير أحدهم إن أشار إلى شيء معين مثل الشمس والقمر وغير ذلك وإذا كان الأمر كذلك كان ما ذكره من الإشارة إلى الجهة لشرفها من أبطل الباطل فإن ذلك إنما يتوجه لو كان المذكور هو إشارتهم إلى فوق مطلقاً وهذا خلاف الواقع بل إنما يشيرون الإشارة المذكورة إذا دعوا الله مخلصين له الدين وأين هذا من هذا ويقال له ثالثاً قد تقدم أنهم يعلمون ويخبرون أنهم إنما يشيرون إلى الله إلى محض الجهة الوجه التاسع قوله إن الإشارة قد تكون إلى الملائكة التي هي مدبرة أمر العباد يقال له أولاً إشارة الإنسان إلى الشيء مشروطة بشعوره به وقصد الإشارة إليه فإن لم يشعر به ولم يقصد الإشارة إليه محال أن يشير إليه والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم(4/523)
الملائكة في تلك الحال فضلاً عن أن يقصدوا الإشارة إليها وكل منهم يعلم من نفسه ويسمع من غيره بل ويعلم منه بغير سمع أنه لم يقصد الإشارة إلى الملائكة وإذا كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يشيروا إلى الملائكة ولا إلى محض الجهة كان حمل إشارتهم على هذا مع علمهم أنهم لم يقصدوا ذلك مثل من يحمل سجود المسلمين في أوقات صلواتهم على أنهم يسجدون للكواكب والملائكة بل الإشارة في الدعاء إلى الله أبلغ وذلك أن السجود في الظاهر مشترك بين من يسجد لله ويسجد لغيره وأما الذي يقول بلسانه إنه يدعو الله وهو مع ذلك يشير مع دعائه فالظن به أنه أشار إلى غير الله أقبح من الظن بالمسلمين أنهم يسجدون لغير الله وقال له ثانياً الإشارة إلى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له إشراك بالله بل دعاء الملائكة ومسألتهم إشراك بالله فكيف بالإشارة إليهم حين دعاء الله وحده لا شريك له وقيل له ثالثاً الاحتجاج ليس بمطلق الإشارة إلى فوق بل الإشارة عند دعاء الله وحده لا شريك له ومن المعلوم أنه لا يجوز في تلك الحال رفع الأيدي إلى الملائكة فكيف يحمل حال الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله المخلصين على أنهم رفعوا أيديهم إلى غير الله حين مسألتهم لله وحده وقيل له رابعاً لا يجوز لأحد أن يرفع يديه داعياً لا إلى الملائكة ولا إلى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية(4/524)
ومن جوز رفع الأيدي عند الدعاء إلى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله قال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} [الجن 18-20] وقال تعالى قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ [الأنعام 71] الآية وقال تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام 108] وقال وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان 68] الآية وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {11} يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ {12} [الحج 11-12] وقال تعالى فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وقال تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ [المؤمنون 117] وقال تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً [آل عمران 80] ولهذا كانت الإشارة إليه من تمام دعائه وذلك من تحقيق كونه الصمد الذي يصمد العباد إليه فإنه قصده بالباطن والظاهر والقلب وسائر الجسد أكمل من قصده بالقلب فقط فيكون الإشارة إليه من تمام كونه صمداً ويكون اسم الصمد مستلزماً لذلك فكونه موجوداً يوجب المباينة التي تقتضي(4/525)
الإشارة إليه وكونه صمداً مقصوداً يقتضي الدعاء المتضمن الإشارة إليه والإشارة إلى غيره بالدعاء إشراك به وإخراج له عن أن يكون أحداً فظهر أن هؤلاء الجهمية منكرون لحقيقة كونه أحداً صمداً وأنهم جاحدون لحقيقة دعائه مسوغين للإشراك به فإن أهل السنة هم الموحدون له والمكملون لحقيقة الإقرار بأنه الأحد الصمد وهذا ظاهر ولله الحمد وبين هذا أن هؤلاء الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله ولا يؤمنون أن الله على كل شيء قدير لاسيما من يقول منهم إنه موجب بالذات لا يمكنه أن يغير شيئاً ولا يحدثه فالدعاء عندهم إنما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم وإذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله أن يفعل شيئاً ولا يحدث شيئاً ولا يطلبون منه شيئاً ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها والعلم الضروري حاصل(4/526)
بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره فإذا كان دعاء العباد عندهم لا معنى له إلا أنهم يفعلون بأنفسهم لم يكونوا دعين لله قط ومن لم يكن داعياً لله فإنه لا يشير إليه عند الدعاء بل ذلك عبث بل قوله يا الله افعل كذا عبث وهذا حقيقة مذهب القوم إبطال ما بعثت به الرسل من أنواع الأدعية وإبطال ما فطر الله عليه عباده من ذلك وهؤلاء هم أصل التجهم والتعطيل فمن وافقهم في شيء من ذلك كان من الجاحدين لأن يكون الله هو الموجود المقصود المدعو المعبود ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك إلا من يكون منهم جاهلاً بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة فإنه يكون فيه إيمان ونفاق فأما إذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار ويجادلون في ذلك لكن عند الاضطرار هم كما قال الله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ {32} إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {33} أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 32-35] لاسيما على أشهر القراءتين وهي قراءة(4/527)
النصب في قوله وَيَعْلَمَ فإن ذلك من باب قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن ومثل هذا في الإعراب قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا(4/528)
يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} [آل عمران 142] ومعنى آية الشورى أنه سبحانه إن شاء أسكن فيظللن رواكد على ظهره وإن شاء أوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا وهذا كله في جواب إِن يَشَأْ أي وإن يشأ يهلكهن بذنوبهم ويعفُ أيضاً عن كثير منها ويجتمع مع ذلك علم المجادلين في آياتنا بأنهم ما لهم من محيص فهو إن شاء جمع بين أن يهلك بعضاً ويعفو عن بعض وبين علم المجادلين في آياته حينئذ أنه ما لهم من محيص الوجه العاشر قوله وأيضاً أنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل الكعبة قبلة لصلاتنا يقال له هذا باطل معلوم بالاضطرار بطلانه عقلاً وديناً وذلك يظهر بوجوه أحدها أن المسلمين مجمعون على أن القبلة التي يشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة وكما يستحب لكل ذاكر لله وداع أن يستقبل القبلة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء وكذلك هي التي يشرع استقبالها بتوجيه الميت إليها وتوجيه النسائك والذبائح إليها وهي التي ينهى عن استقبالها بالبول والغائط فليس للمسلمين بل ولا لغيرهم قبلتان أصلاً في العبادات التي هي من جنسين(4/529)
كالصلاة والنسك فضلاً عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصل ببعض فإن الصلاة فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها والدعاء نفسه هو الصلاة قد سماه الله في كتابه صلاة حيث قال وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة 103] وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم وإن أبي أتاه بصدقة فقال اللهم صلِّ على آل أبي أوفى وقد قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً {56} وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها في جميعها إنما يعلمهم الدعاء الله بصلاة الله وبركاته كما قال قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على(4/530)
إبراهيم وعلى أل إبراهيم إنك حميد مجيد وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع بحيث تكلمنا على مسمى الصلاة في اللغة الذي هو الدعاء وأن الصلاة المشروعة هي دعاء كلها فإن الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته وتارة لمسألته أمراً منه وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده تارة لذاته وتارة لأمر يطلبه منه والصلاة تتضمن هذين النوعين عبادة الله والثناء عليه والسؤال له وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النوعين في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله سبحانه وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {3} قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال العبد مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} قال الله مجدني عبدي أو قال فوض إليَّ عبدي فإذا قال اعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد اهدِنَا الصِّرَاطَ(4/531)
المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ {7} قال الله فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ومسمى الصلاة في اللغة قد قالوا إنه مسمى الدعاء والدعاء نوعان كما تقدم والنصف الذي للرب جل وعلا هو الثناء عليه والمقصود بذلك نفسه سبحانه وتعالى فهو بذلك معبود مقصود مدعو لنفسه والنصف الآخر الذي للعبد هو السؤال والطلب منه وهو بذلك يقصد لذلك الأمر ويسأل ويطلب منه وهو الصمد في الأمرين لا يصح لغيره لا هذا الصمد ولا هذا الصمد وهو أيضاً أحد في هذين لا يصلح لغيره أن يكون هو المعبود ولا أن يكون هو المتوكل عليه المستعان به المسئول منه فهو الأحد الصمد في النصف الذي له كقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وهو الأحد الصمد في النصف الذي للعبد كقوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} ولهذا قال من قال من السلف إن الله سبحانه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في الأربعة وجميع معاني الأربعة في القرآن وجميع معاني القرآن في المفصل وجميع معاني المفصل في أم القرآن وجمع معاني أم القرآن في قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ(4/532)
نَسْتَعِينُ {5} وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع في غير هذا الكتاب وبينا تعلق العبادة بالإلهية فإن الإله هو المعبود وتعلق الاستعانة بربوبيته فإن رب العباد الذي يربيهم وذلك يتضمن أنه الخالق لكل م فيهم ومنهم والإلهية هي العلة الغائية ولربوبية هي العلة الفاعلية والغائية هي المقصودة وهي علة فاعلية للعلة الفاعلية ولهذا قدم قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ على قوله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} وتوحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية فإنه من لم يعبد إلا الله يندرج في ذلك أنه لم يقر بربوبية غيره بخلاف توحيد الربوبية فإنه قد أقر به عامة المشركين في توحيد الإلهية كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] ذكر البخاري(4/533)
في صحيحه عن عكرمة وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وقد أخبر عنهم بذلك في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {90} مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {92} [المؤمنون 84-92] فأخبر عن هؤلاء الذين نزه نفسه عن إشراكهم وأخبر أنهم كاذبون في عدولهم عن الحق الذي جاء به ورد عليهم أنه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ أنه إذا سألهم لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وإذا سألتهم مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وإذا سألتهم مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فالأول إقرارهم بأن الأرض وما فيها لله والثاني إقرارهم بأن السموات السبع والعرش العظيم لله(4/534)
والثالث إقرارهم بأن ملكوت جميع الأشياء بيده وأنه الذي يمنع المخلوق وينصره فيجيره من الضرر والأذى فيجير على من يشاء ولا يجير عليه أحد فإذا أراد بأحد ضرراً لم يمنعه مانع وإذا رفع الضرر عن أحد لم يستطع أحد أن يضره وفي كون ملكوت كل شيء بيده بيان أنه هو المدبر النافع له فهو الذي يأتي بالمنفعة وهو الذي يدفع المضرة كما قال في الآية الأخرى قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر 38] وكما قال في الآية الأخرى وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] وإذا كانوا مقرين بهذا فهذا إقرار منهم بعموم ربوبيته وتدبيره لكل شيء وهو أعظم من إقرار القدرية والصابئة والمتفلسفة الطبيعية ونحوهم ممن يجعل الرب لبعض الكائنات شيئاً غير(4/535)
الله وهو مع هذا قد أخبر أنهم مشركون ونزه نفسه عن شركهم لكونهم عبدوا معه غيره لا لكونهم اعتقدوا أن للعالمين رباً معه وكذلك قوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ [النمل 59-60] إلى آخر الآيات يستفهم فيها كلها استفهام إنكار هل يفعل هذه الأمور أحد من الآلهة التي يعبدون من دون الله فإن قوله أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل 60] اسم واحد وقع صفة لإله يس هو جملة واحدة كما ظنه طائفة من المفسرين واعتقدوا أن المعنى مع الله إله فإن القوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى وقد ذكر ذلك في السورة بقولهءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} فلا يفيد استفهامهم عما هم معترفون به وأيضاً فإن جوابهم المستفهم عنه لا يكون إلا مفرداً لا يكون جملة فإذا قيل من فعل هذا فإنه يقال فلان أم فلان لا يذكر جملة بل لو كان ذلك لم ينتظم الكلام ولكن المقصود(4/536)
أن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل هي التي فعلت هذه الأمور أم الله وحده فعلها فإن القوم كانوا مقرين بأن الله وحده هو الفاعل لهذه الأمور وهذا شأن استفهام الإنكار فإنه يتضمن نفي المستفهم عنه والإنكار على من أثبته والقوم كانوا معترفين بذلك لكن كانوا مع ذلك مشركين به الآلهة التي يعلمون أنها لم تفعل ذلك فأنكروا عليهم ذلك وزجروا عنه ومثل هذا في القرآن كثير ومن عرف هذا عرف الشرك الذي ذمه الله في كتبه وأرسل رسله جميعاً بالنهي عنه كما قال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] والعبادة تتضمن كمال المحبة وكمال الخضوع قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة 165] فهذه السورة يعني الفاتحة التي قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن وأنه لم ينز في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها وقد ذكر فيها جماع الكتب الإلهية بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} ومما يشبهها قوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10}(4/537)
وقوله فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود 123] وقوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وهذان هما نوعا الدعاء كما تقدم وهما جميعاً مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غير أحد بالنوعين شرك كما قال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً {18} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} [الجن 18-20] وقال تعالى فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وقال تعالى قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان 77] وقال وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ {101} [هود 101] فغير الله لا يجوز أن يكون مستعاناً به متوكلاً عليه لأنه لا يستقل بفعل شيء أصلاً فليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وما ثم علة تامة إلا مشيئة الله فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكذلك لا يجوز أن يكون غيره معبوداً مقصوداً لذاته أصلاً فإن ذلك لا يصلح له ولهذا كان الشرك غالباً على بني آدم كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] فيكون أحدهم عبداً لغيرالله متألهاً له مما يحبه ويجله ويكرمه ويخافه ويرجوه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة إن أعطي رضي وإن(4/538)
منع سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه وقد قدمنا أن كلا النوعين يوجب اختصاص الرب سبحانه وتعالى بأنه الأحد وبأنه الصمد فإن كونه أحداً يوجب أن لا يشرك به في العبادة والاستعانة فلا يدعى غيره والاسم الصمد جاء معرفاً ليبين أنه هو الصمد الذي يستحق أن يصمد إليه بكلا نوعي الصمد وهذان الاسمان لم يذكرا في القرآن إلا في هذه السورة التي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنها تعدل ثلث القرآن ثم ما روي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فشق ذلك عليهم وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله(4/539)
قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} ثلث القرآن رواه البخاري وروي عنه أيضاً عن قتادة بن النعمان أن رجلا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} يرددها لا يزيد عليها فلما أصبح أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن فلاناً بات الليلة يقرأ في السحر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} يرددها ر يزيد عليها كأن الرجل يتقالّها فقال النبي صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن وروى مسلم عن أبي هريرة قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1}(4/540)
حتى ختمها وروى مسلم أيضاً عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} تعد ثلث القرآن وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فكن يختم ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سلوه لأيٍّ يصنع ذلك فسألوه فقال إنها صفة الرحمن وجل فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه رواه البخاري ومسلم وقد قال من قال من العلماء هي ثلث القرآن لأن القرآن ثلاثة أقسام قسم توحيد وقسم قصص وقسم أمر ونهي وهذه فيها التوحيد وهذا الذي قاله إنما يتم إذا كانت(4/541)
جامعة للتوحيد والأمر كذلك فإن هذين الاسمين يستلزمان سائر أسماء الله الحسنى وما فيها من التوحيد كله قولاً وعملاً والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذين الاسمين فقال الله الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن وذلك أن كونه أحداً وكونه الصمد يتضمن أنه الذي يقصده كل شيء لذاته ولما يطلب منه وأنه مستغنٍ بنفسه عن كل شيء وأنه بحيث لا يجوز عليه التفرق والفناء وأنه لا نظير له في شيء من صفاته ونحو ذلك مما ينافي الصمدية وهذا يوجب أن يكون حياً عالماً قديراً ملكاً قدوساً سلاماً مهيمناً عزيزاً جباراً متكبراً إذا تبين ذلك فالدعاء الذي ذكره الرازي هنا هو أحد نوعي الدعاء وهو دعاء المسألة والطلب منه قال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة 186] وهذا في الكلام نظير الذكر الذي هو ثناء وتحميد لله تعالى ولهذا يقال في الفاتحة نصفها ثناء ونصفها دعاء ومن المعلوم أن استقبال القبلة في هذا كاستقبالها في الذكر(4/542)
أو أوكد والقبلة التي تستقبل بهذا الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في أثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعاً تاماً فعن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه فدعا وستسقى واستقبل القبلة رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه(4/543)
وغيرهم فأخبر أنه استقبل القبلة التي هي قبلة الصلاة في أثناء دعاء الاستسقاء وإذا كانت قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة بعينها كان قول الجهمي إن العرش والسماء قبلة للدعاء قول مخالف لإجماع المسلمين ولما علم بالاضطرار من دين الإسلام فيكون من أبطل الباطل الوجه الثاني في ذلك وهو الحادي عشر أن توجه الخلائق بقلوبهم وأيديهم وأبصارهم إلى السماء حين الدعاء أمر فطري ضروري عقلي لا يختص به أهل الملل والشرائع بل يفعله المشركون وغيرهم ممن لا يعرف العرش ويسمع به(4/544)
ولا يعلم أن فوق السماء لله عرشاً فلو كان الرفع إنما هو إلى العرش فقط الذي هو قبلة لم يقصد ذلك الرفع إلا من علم أن هناك عرشاً كما لا يقصد التوجه إلى القبلة إلا من علم أن الكعبة التي يستقبلها المسلمون هناك لأن القصد والإرادة لا يكون إلا بعد الشعور بالمقصود فمن لم يشعر أن هناك عرشاً امتنع أن يقصد الرفع إلى العرش وهذا تحقيق ما تقدم من أن العلو لله علم بالفطرة والعقل وأما استواؤه على العرش فإنما علم بالسمع الوجه الثالث في ذلك وهو الثاني عشر أن يقال كون العرش أو السماء قبلة للدعاء لا يثبت بغير الشرع فإن اختصاص بعض الجهات والأمكنة بأنه يستقبل دون غيرها هو أمر شرعي(4/545)
ولهذا افترقت أهل الملل كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] فلو كان الله قد جعل العرش أو السماء قبلة للدعاء كان في الشريعة ما يبين ذلك ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة ولا شيء من الآثار عن سلف الأمة ولا أئمتها ولا في الآثار عن الأنبياء المتقدمين كموسى وعيسى وغيرهما من المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين أن العرش أو السماء قبلة للدعاء فعلم أن دعوى ذلك من أعظم الفرية على الله وأن هذا من جملة افتراء الجهمية ونحوهم على الله وعلى رسله ودينه الوجه الرابع وهو الثالث عشر أن القبلة أمر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل كما قال تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {144} وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ {145} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إلى قوله وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً [البقرة 144-148] فأخبر سبحانه أن لكل أمة وجهة يستقبلونها(4/546)
وولى محمداً قبلة يرضاها فأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد أن كان قد أمره أن يصلي إلى بيت المقدس هو وأمته فصلى إلى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة بضعة عشر شهراً وصلى إليها قبل مقدمه المدينة وقد روي أنه كان بمكة يجعل الكعبة بينه وبين المسجد الأقصى وإذا كانت القبلة أمراً يقبل النسخ والتبديل وهو مختلف في أمر الملل فيجب على هذا التقدير إذا كان العرش أو السماء قد جعل قبلة للدعاء أن يجوز تغيير ذلك وتبديله حتى يجوز أن يدعى اله إلى نحو الأرض ويجوز أن يدعوه الإنسان من الجهات الست ويمد يده وعينيه إلى سائر جهاته وأن يكون ذلك قبلة لبعض الداعين دون بعض وهذا مع أنه قد ذكر غير(4/547)
واحد إجماع المسلمين على تخطئة قائله وفاعله فالعلم بذلك اضطراري فإن بني آدم مفطورون على أن لا يتوجهوا بقلوبهم وأيديهم إلى غير الجهة العالية ولا يقصدوا الله من تحت أقدامهم ويمدوا أيديهم إلى تلك الجهة السافلة ولا إلى غير الجهة العالية الوجه الخامس وهو الرابع عشر أن الله تعالى قد قال وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة 115] فأخبر أن العبد حيث استقبل فقد استقبل قبلة الله ليبين أنه حيث أمر العبد بالاستقبال والتولية فقد استقبل وولي قبلة الله ووجهته ولهذا ذكروا أن هذه الآية فيما لا يتعين فيه استقبال الكعبة كالمتطوع الراكب في السفر فإنه يصلي حيث توجهت به راحلته والعاجز الذي لا يعلم جهة الكعبة أو لا يقدر على استقبال(4/548)
الكعبة فإنه يصلي بحسب إمكانه إلى أي جهة أمكن وذكروا أيضاً أنه نسخ ما تضمنته من تسويغ الاستقبال بيت المقدس كما كان ذلك قبل النسخ وإذا كان هذا في القبلة المعروفة للصلوات التي يجب فيها استقبال قبلة معينة في الفريضة وفي التطوع في المقام فينبغي أن يكون في قبلة الدعاء أولى وأحرى فإن الدعاء لا يجب فيه استقبال قبلة معينة بإجماع المسلمين ولا يجب أن يستقبل القبلة المعروفة ولا أن يرفع يديه لا عند من يقول إن السماء والعرش قبلة الدعاء ولا عند من لا يقول بذلك وإذا كان هذا لازماً اقتضى جواز الإشارة في الدعاء إلى غير فوق فيجب أن تجوز الإشارة بالأيدي حين الدعاء إلى الأرض والتيامن والتياسر وقد تقدم قول من حكى إجماع المسلمين على خلاف ذلك وعلى تخطئة من يجوز(4/549)
ذلك كالقاضي أبي بكر وأيضاً فمن المعلوم بالفطرة الضرورية أن أحداً لا يقصد ذلك ولا يريده فعلم بطلان ما زعموه من كون العرش أو السماء قبلة الدعاء الوجه السادس وهو الوجه الخامس عشر أن القبلة ما يستقبله الإنسان بوجهه وكذلك يسمى وجهة ووجهاً وجهة لاستقبال الإنسان له بوجهه وتوجهه إليه كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا والاستقبال ضد الاستدبار فالقبلة ما يستقبله الإنسان ولا يستدبره فأما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتفاق لا يسمى قبلة لأن الإنسان لم يستقبله كما لا يستدبر الجهة التي تقابله ومن استقبل شيئاً فقد استدبر ما يقابلها ومعلوم أن الداعي لا يكون مستقبلاً للسماء ومستدبراً للأرض بل يكون مستقبلاً لبعض الجهات إما القبلة أو غيرها مستدبراً لما يقابلها كالمصلي فظهر أن جعل ذلك قبلة باطل في العقل واللغة والشرع بطلاناً ظاهراً لكل أحد الوجه السابع وهو السادس عشر أن القبلة أمر يحتاج إلى توقيف وسماع وليس في الفطرة والعقل ما يخص مكاناً دون مكان باستقباله في الصلاة والدعاء أو غير ذلك فلو كان(4/550)
الداعون إنما يقصدون برفع أيديهم وأبصارهم وغير ذلك استقبال بعض المخلوقات مثل العرش أو السماء وغير ذلك من غير أن يكون الرفع إلى الخالق تعالى لم يفعلوا ذلك إلا عن توقيف وسماع ومن المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم عليه أحد ولا تلقوه عن أحد الوجه الثامن وهو السابع عشر أن القبلة لا يجد الناس في أنفسهم معنى يطلب تعيينها ولا فرقاً بين قبلة وقبلة ولهذا لما أمر المسلمون باستقبال المسجد الأقصى ثم أمروا باستقبال المسجد الحرام كان هذا جميعه عندهم سائغاً لا يجد المؤمنون في أنفسهم حرجاً من ذلك ولا تفريقاً بينه فلو كان الرفع والتوجه إلى جهة السماء لكونه قبلة لكان ذلك عند الناس مؤمنهم وغير مؤمنهم منزلة التيامن والتياسر والسفل والقفا ومن المعلوم أنهم يجدون في أنفسهم طلباً ضرورياً لما فوق فهذه المعرفة والطلب الضروري الذي يجدونه بطلب العلو دون السفل يمنع أن يكون لونه قبلة وضعية بل ذلك يقتضي أن المطلوب المدعو هناك كما يجدونه أيضاً في أنفسهم ويقرون به بألسنتهم الوجه التاسع وهو الوجه الثامن عشر أنه قد اعترف في(4/551)
نهايته بأن الناس إنما يرفعون إلى الله وأعرض عن هذه الأجوبة الثلاثة التي ذكرها هنا وهو أن الرفع للجهة التي تتعلق بها منافعهم من الأنوار والأرزاق أو لمن فيها من الملائكة أو لكون العرش قبلة الدعاء وذلك أنه قد علم علماً يقينياً أن الخلائق إنما يقصدون بالرفع الرفع إلى الله لكن تكلم في المقدمة الثانية وهو أن ذلك يدل على علمهم الضروري بأن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة بما تقدم ذكره ونحن نتكلم عليه الوجه التاسع عشر أن الإشارة مع العبارة هي لمن ذكر في العبارة سواء كان ذلك في الجمل الخبرية أو الجمل الطلبية وسواء في ذلك إشارة بلفظ هذا أو نحوه من ألفاظ الإشارة وألفاظ الدعاء والنداء وذلك أن المتكلم إذا قال فعل هذا الرجل أو هذا الرجل ينطلق أو أكرم هذا الرجل ونحو ذلك فإن العبارة وهي لفظ هذا يطابق ما يشير إليه المتكلم ولهذا سمى النحاة هذه أسماء الإشارة وهذه الألفاظ بنفسها لا تعيِّن المراد إلا بإشارة المتكلم إلى المراد بها ولهذا من سمع هذا وذاك وهؤلاء وأولئك لم يعرف إلى أي شيء أشار المتكلم لم يفهم المراد بذلك فالدلالة على العين هي بمجموع(4/552)
اللفظ وبالإشارة إذ هذه الألفاظ ليست موضوعة لشيء بعينه وإنما هي موضوعة لجنس ما يشار إليه وأما تعيين المشار إليه فيكون بالإشارة مع اللفظ كم أن أداة أل التعريف موضوعة لما هو معروف من الأسماء أما كون الشيء معروفاً فذاك يجب أن يكون معروفاً بغير اللام إما بعلم متقدم أو ذكر متقدم وكذلك المعرف بالنداء فإن النداء والدعاء من أسباب التعريف فالمنادي المعرفة يكون مضموماً وإن كان نكرة كان منصوباً فإذا نادى المنادي رجلاً مطلقاً قال يا رجلاً كقول الأعمى يا رجلاً خذ بيدي ومن نادى رجلاً بعينه قال يا رجل كقول موسى عليه السلام ثوبي حجر ثوبي حجر وهذا المنادى المعين يشير إليه الداعي المنادي فيقصده بعينه بخلاف المطلق الذي يدل عليه لفظ النكرة وكقوله رجلاً خذ بيدي فإنه هنا لم يشر إلى شيء بعينه فهذا التعريف بالنداء إنما هو يتعين في الباطن بقصد الداعي وفي الظاهر بإشارته(4/553)
والمنادى الداعي ونحوه من ذوي الطلب والاستدعاء أو المخبر المحدث قد يشير إشارة ظاهرة إلى المنادى وغيره من المقصودين إما لتعريف المخاطبين إذا لم يعرفوا المعين إلا بذلك مثل من ينادي رجلاً بعينه في رجال فيقول يا رجل أو يا هذا أو يا زيد ويكون هناك جماعة اسمهم زيد ولا بد أن يشير إليه إما بتوجيه وجهه نحوه أو بعينه أو برأسه أو يده أو غير ذلك وتارة يشير توكيداً وتحقيقاً لخطابه إذا كان متميزاً بالاسم ولا يجوز أن يدعو أحداً وتكون الإشارة إلى غير من دعا فلا يجوز أن يقول يا زيد ويشير إلى غير من قصده أو يا هذا ويشير إلى غير من قصده فإذا قال الداعي اللهم وأشار برأسه أو عينه أو وجهه أو يده أو أصبعه لم تكن إشارته إلا إلى الله الذي دعاه وناداه وناجاه لا إلى غيره إذ المدعو المنادى من شأن الداعي أن يشير إليه وليس هنا من يشير إليه الداعي بقوله اللهم أو يا الله ونحو ذلك إلا الله فهو الذي يشير إليه بباطنه وظاهره وإشارته إليه بباطنه وظاهره هي قصده وصمده ذلك من معنى كونه صمداً أي يصمد العباد له وإليه ببواطنهم وظواهرهم وهو من معنى كونه مقصوداً مدعواً معبوداً وهو من كمعنى إلهيته فيدعونه ويقصدونه ببواطنهم وظواهرهم فكما لا يجوز أن يكون القصد بالقلب إذا قالوا يا الله لغيره بل المقصود(4/554)
بالباطن فكذلك هو أيضاً المقصود بالظاهر إذا قالوا يا الله وأشاروا بظواهرهم بحركة ظاهرة بالإشارة إليه والتوجه نحوه وقصده كحركة بواطنهم بالإشارة إليه والتوجه نحوه وقصده لكن الظاهر تبع للباطن ومكمل له فمن دفع هذه الإشارة فهو كدفع الإشارة إليه بالقلب وذلك دفع لقصده الدافع لدعائه المتضمن لدفع عبادته ولكونه صمداً فهؤلاء المعطلة حقيقة قولهم منع أن يكون صمداً مدعواً معبوداً مقصوداً كما أن حقيقة قولهم منع أن يكون في نفسه حقاً صمداً موجوداً فقولهم مستلزم لعدم نفسه وتعطيله ولعدم معرفته وعبادته وقصده وإن كانوا من وجه آخر يقرون بوجوده وعبادته ودعائه وقصده إذ ليسوا معطلين مطلقاً بل جامعون بين الإقرار والإنكار والإثبات والنفي ولهذا كان أهل المعرفة بالله متفقين على أنه لا يتم معرفة عبد بربه ويتم قصده له وتوجهه إليه ودعاه له إلا بإقراره بأنه فوق العالم وأنه بإقراره بذلك تثبت الإلهية في قلبه ويصير له رب يعبده ويقصده وبدون ذلك يبقى قلبه مستقراً مطمئناً إلى إله يعبده ويقصده بل يبقى عنده من الريب والاضطراب ما يجده من جرب قلبه في هذه الأسباب كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه(4/555)
ضرورة تطلب العلو ولا تلتفت يمنة ولا يسرة وكذلك المخاطب له بمثل قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} هو مثل الداعي بقوله اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم َ {6} فإن الخطاب كله سواء سواء كان بالأسماء المضمرة منفصلها ومتصلها مرفوعها ومنصوبها ومخفوضها كقوله أنت ربي وأنا أعبدك وقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوه أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وقوله خلقتني ورزقتني وقوله نستعينك ونستهديك ونستغفرك(4/556)
الوجه العشرون أن كون الرب إلهاً معبوداً يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة وذلك أن العبادة تتضمن قصد المعبود وإرادته وتوجه القلب إليه وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه في جميع مراداته ومقصوداته ومطلوباته ومحبوباته التي قصدها وأحبها وطلبها دون قصده وحبه وطلبه للآلهة كما قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة 165] والإنسان يحس من نفسه أنه إذا قصد شيئاً أو أحبه غير نفسه فلابد وأن يكون بجهة منه وأنه إذا قيل له اقصد أو اطلب أو اعبد أو أحب من لا يكون بجهة منك ولا هو فيك ولا فوقك ولا تحتك ولا أمامك ولا وراءك ولا عن يمينك ولا عن شمالك كان هذا أمراً بالممتنع لذاته ليس هو أمراً بممكن لا يطيقه والممتنع لذاته يمتنع الأمر الشرعي به باتفاق المسلمين ويكون حقيقة الأمر اعبد من يمتنع أن يعبد واقصد من يمتنع أن يقصد وادع من يمتنع أن يُدعى ووجه وجهك إلى من يمتنع التوجه إليه وهذا أمر بالجمع بين النقيضين(4/557)
وقد ذكرنا نظير هذا غير مرة وبينا أن قول الجهمية يستلزم الجمع بين النقيضين وأن يكون موجوداً معدوماً معبوداً غير معبود مأموراً بعبادته منهياً عنها فحقيقته أمر بعبادة العدم المحض والنفي الصرف وترك عبادة الله سبحانه وهذا رأس الكفر وأصله وهو لازم لهم لزوماً لا محيد عنه وإذا كان فيه إيمان لا يقصد ذلك لكن الذي ابتدع هذا النفي ابتداءً وهو عالم بلوازمه كان من أعظم المنافقين الزنادقة المعطلين للصانع ولعبادته ودعائه ولهذا تجد هذا السلب إنما يقع كثيراً من متكلمي الجهمية الذين ليس فيهم عبادة لله ولا إنابة إليه وتوجه إليه وإن صلوا صلوا بقلوب غافلة وإن دعوه دعوه بقلوب لاهية لا تحقق قصد المعبود المدعو فإنها متى صدقت في العبادة والدعاء اضطرت إلى قصد موجود يكون بجهة منها فتنتقل حينئذ إلى حال عباد الجهمية فتجعله في كل مكان أو الوجود المطلق ويتوجه بقلبه إلى الجهات الست فبينما هو كان في نفيه عن الجهات الست صار مثبتاً له في الجهات الست وهذا حال(4/558)
الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق وهذا الإثبات العام المطلق وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته وكل من جرب نفسه وامتحنها من المؤمنين علم من نفسه علماً يقينياً ضرورياً يجده من نفسه كما يجد حبه وبغضه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه أنه متى صدق في عبادة الله ودعائه والتوجه إليه بقلبه لزم أن يقصده بجهة منه فإن كان على فطرته التي فطر عليها أو ممن هو مع ذلك مؤمن بما جاءت به الرسل قصد الجهة العالية وإن كان ممن غيرت فطرته قصد الجهات كلها وقصد ك موجود فلهذا قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لأبي المعالي ما قال عارف قط يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب الجهة العالية لا تلتفت يمنة ولا يسرة فتبين أن قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} بل وقوله اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} لا يصدق في قول ذلك إلا من يقر أن الله فوقه ومن لم يقر بذلك يكون فيه نفاق عنده قصد بلا مقصود وعبادة بلا معبود حقيقي وإن كان مثبتاً له من بعض الوجوه لكن قلبه لا يكون مطمئناً إلى إله يعبده ويوضح ذلك أن عبادة القلب وقصده وتوجهه حركة منه(4/559)
وحركة الإنسان بل كل جسم لا يكون إلا في جهة وإلى جهة إذ الحركة مستلزمة للجهة وتقدير كمتحرك بلا جهة كتقدير حركة بلا متحرك وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء لكن غلاة المتفلسفة قد يزعمون أن القلب والروح ليسا جسماً وأنه لا داخل البدن ولا خارجه ولا داخل العالم ولا خارجه وهذا معلوم فساده بالحس والعقل والسمع كما قد بيناه في غير هذا الموضع وغلاة المتكلمين يزعمون أن الروح إنما هو عرض من أعراض البدن ليست شيئاً يفارق البدن ويقوم بنفسه وهذا أيضاً فاسد في الشرع والعقل كما بيناه في غير هذا الموضع وإذا عرف فساد القولين علم أن الروح التي فينا جسم يتحرك ثم نقول القلب الذي هو مضغة يحس الإنسان من نفسه بصعوده وارتفاعه إلى فوق عند اضطراره إلى الله تعالى الوجه الحادي والعشرون قوله في نهايته الإشارة إلى فوق سببها الإلف والعادة وجريان الناس على ذلك وقد ذكر مستند هذه العادة أنه مستند فاسد(4/560)
يقال هذه المقدمة تقرر بوجوه أحدها أن ذلك يستلزم علماً ضرورياً بأن مدعوهم فوق كما تقدم من أنهم يجدون هذا العلم الفطري الضروري وأنهم يخبرون بألسنتهم أنهم يجدونه وأن أفعالهم وأقوالهم تدل على أنهم يجدونه وهذا العلم يلزم نفوسهم لزوماً لا يمكنهم الانفكاك عنه أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة وأن الجسم لا يجتمع في مكانين وذلك أن ذلك علم مجرد ليسول مضطرين إليه بل قد لا يخطر ذلك ببال أحدهم وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه هم مضطرون إلى موجبه ومقتضاه وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود الذي هو فوق فهم مضطرون إلى العلم وإلى العمل الذي يتبع هذا العلم وهو السؤال والطلب وإن كان فيهم من يكون عند ظنه الاستغناء يحمله الاستكبار على الإعراض عن هذا العلم والاعتراف والطلب والإرادة والدعاء أو يحمله عليه اعتقاد فاسد أو عادة فاسدة فهذا لا يخرجه عن أن يكون ضرورياً فإن هذا من أعظم السفسطة التي يدعو إليها أهل التقليد للآباء وطلب العلو والفساد(4/561)
في الأرض ومن المعلوم أنه مع قوة الصارف المعارض للداعي لا يكون حاله كحال الداعي الذي لم يعارضه صارف وما ذكر من مبادئ العلم الحسابي والطبيعي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين ونحو ذلك ليس الداعي إلى هذا العلم قوياً في النفوس ولا الصارف عنه قوياً في النفس ولهذا تجد عامة من يصير هذا العلم قائماً بنفسه من عنده نوع نظر وبحث فيما يتعلق بذلك وتجد الحاجة لمثل هذا النوع فساد خاص في عقله أو غرض حاء منه وأما العلم الإلهي فهو أجل وأشرف فإنه ضروري لبني آدم علماً وإرادة فُطروا على ذلك فوجود هذا العلم والإرادة الضروريتين في أنفسهم أكثر وأكثر من وجود ذلك والمعارض لهذا لابد وأن يكون قوياً إما اعتقاد فاسد كاعتقاد الجهمية المتأولين الذين لم يكابروا العقل وليس لهم غرض في خلاف الدين وإما إرادة فاسدة قوية كإرادة فرعون وقومه الذين قال الله(4/562)
فيهم وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14} [النمل 14] وقال له موسى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء 102] وهذه الإرادة الفاسدة هي الهوى الذي يصد عن معرفة الحق وهو مرض في القلب يمنع ما فطر عليه من صحة الإدراك والحركة كما يمنع مرض العين ما فطرت عليه من صحة الإدراك والحركة وكذلك المرض في سائر الأعضاء فهؤلاء الذين يجدون في أنفسهم علماً ضرورياً وقصداً ضرورياً لمن هو فوق العالم قد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد إحساسهم بالباطن كما يفسد الإحساس الظاهر مثل المرة التي تفسد الذوق والحول والعشى الذي يفسد البصر وغير ذلك ولهذا إنما يكون الاعتبار في هذا بذوي الفطر السليمة من(4/563)
الفساد والإحالة فإن قيل قد تكرر ما ذكرتموه من كون الناس مضطرين إلى الإقرار بأن صانع العالم فوق ولا ريب أن هذا قد قاله طوائف كثيرة من أهل الكلام والحديث والفقه والتصوف وهو من أشهر حججهم وأدلتهم عند خاصتهم وعامتهم لكن هذا مستلزم أن يكون الإقرار بالصانع فطرياً ضرورياً فإنه إذا كان الإقرار بعلوه فطرياً ضرورياً فالإقرار به نفسه أولى أن يكون فطرياً ضرورياَ لأن العلم بالموصوف لا يجوز أن يتأخر عن العلم بالصفة ولعلم بالقضية المرادية لا يجوز أن يتأخر عن العلم بمفردها فإذا كان العلم بمضمون قولنا هو فرق علماً ضرورياً فالعلم به وبمعنى فوق أولى أن يكون ضرورياً وليس الأمر كذلك فإن الإقرار بالصانع إنما هو معلوم بالنظر والاستدلال كما هو مشهور عند العلماء النظار ولهذا تنازعوا في أول الواجبات هل العلم نفسه أو النظر المفضي إليه على قولين(4/564)
وإن كان النزاع قد يقال إنه لفظي لكون العلم واجباً لنفسه والنظر واجباً وجوب الوسائل التي تجب لغيرها وهذا نزاع مشهور في عامة الطوائف وهو قولان لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم(4/565)
يل له من الناس من قد يقول في مثل هذا إن العلم بالتصديق والقضية المؤلفة إذا كان بديهياً ضرورياً فقد يكون كذلك لكون تصور المفردين بديهياً وهذا هو البديهي تصوراً وتصديقاً وقد يكون تصور المفردين كسبياً نظرياً ولكن بعد حصول تصورهما يكون العلم بنسبة أحدهما إلى الآخر بديهياً ضرورياً لا يفتقر إلى وسط بينهما يكون دليلاً على المطلوب وإذا كان كذلك لم يجب إذا كان العلم بأنه فوق بديهي ضروري أن يكون العلم بمعناه وبمعنى فوق بديهياً ضرورياً لكن هذا القول لم يجب به لأن القائلين بأن العلم بهذا بديهي ضروري قالوا إنه فطري لبني آدم بدون نظر قياسي يكون سابقاً على هذا العلم فهم جعلوه من باب الفطري الضروري البديهي المطلق(4/566)
ولأن البديهي للتصديق دون التصور إنما يقف على ما يحصل له تصور المفردين لا يقف على ما يحص به وجود المفردين في الخارج فهب أن العلم بمسمى اسم الله فطري لكن العلم بوجوده هو أيضاً علم بتصديق كالعلم بعلوه ولأن دعوى كون التصور مطلوباً يعلم بالحدود باطل كما بيناه في غير هذا الموضع وبينا أن الحدود لا تفيد إلا لتمييز بين المحدود وغيره لا تفيد المستمع تصور ما لم يتصوره بدونها وأن التصورات لو لم تعلم إلا بالحدود لأفضى إلى الدور ولأن الحاد يجب أن يتصور المحدود قبل أن يحده وأن الحد من باب الأقوال والعبارة والقول لا يفيد المستمع إن لم يكن متصوراً لمفردات الكم قبل ذلك بنفسها أو بنظيرها إذ العلم بالمعنى الذي قصده(4/567)
المخاطب يفتقر إلى العلم بأن اللفظ دال على المعنى موضوع له والعلم بكون اللفظ موضوعاً للمعنى يقف على العلم بالمعنى وباللفظ فلا يجوز أن يكون تصور ذلك المعنى مستفاداً من اللفظ الذي لا يدل إلا بعد أن يعلم المعنى وأن اللفظ موضوع له ودال عليه ولأن المعرف للمفرد بالقول إما أن يعرفه بلفظ مفرد مطابق له وهو الاسم أو يعرفه بذكر صفة مخصوصة به ولفظ تلك الصفة بمنزلة الاسم في العموم والخصوص كالناطق والإنسان وإما أن يعرفه بذكر الخاص بعد العام فتصور العام وشموله لتلك الأفراد مسبوق بتصور تلك الأفراد فلو كان تصور تلك الأفراد مستفاداً من العام لزم الدور إذ علم المتكلم والمستمع بأن الإنسان حيوان مسبوق بتصور الإنسان والحيوان إذ لا يعلم أن الإنسان حيوان إلا من يعلم الإنسان ولا يعلم أن الحيوان جسم إلا من يعلم الحيوان والجسم فلو كانت معرفة الإنسان لا تستفاد إلا بعد معرفة الحيوان ومعرفة الحيوان لا تعلم إلا بعد معرفة مفرداته التي يوصف بها لزم الدور وذلك أن الأجناس الكلية ولا وجود لهل كلية إلا في(4/568)
الأذهان والذهن إنما يجردها إذا أحس بها معينة موجودة مشخصة في الخارج لكن يقال إنه قد ينتزعها من بعض الأعيان مثل أن يتصور الحيوان من جهة معرفته بالفرس ولا يتصور كون الإنسان هو أيضاً كذلك فيقال له ذلك المعنى الذي يوصف به الفرس بكون نظيره للأمر الذي يحد لك وهو الإنسان لكن هذا أيضاً يلزم الدور فإنه ليس علم الإنسان بانطباق بعض الأنواع بأنه حيوان أولى من العلم باتصاف النوع الآخر به وأهل هذه الحدود لا يقولون المحدود هو نوع الإنسان دون الفرس ولا بالعكس بل الحدود لهذه الأنواع كلها سواء بل علم الإنسان عندهم بنفسه وبنوعه وبصفاته هي عنده أسبق وأظهر من علمه بصفات غيره من الأنواع وبالجملة فليس هذا موضع هذا وإنما المقصود هنا أنا لا نجيب بذلك الجواب بل نقول هب أن العلم بأنه فوق إذا كان فطرياً ضرورياً كان العلم بوجود نفسه أن يكون فطرياً ضرورياً أولى فأي محذور في ذلك قوله المشهور عند النظار أن العلم بالصانع إنما يحصل(4/569)
بالنظر والاستدلال وهو ترتيب الأقيسة العقلية يقال له ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم وقالوا بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال بل قد يقولون يمتنع أن يحصل بالقياس والنظر وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والعامة وغيرهم(4/570)
بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا تقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة وهذه مسألة عظيمة ليس هذا موضع بسطها وقد بسطناها في غير هذا الموضع وبينا أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال بل يحصل بديهة وضرورة ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث وبالإمكان على الواجب ولهذا يوجد(4/571)
له عند كل أمة اسم يسمونه والتسمية مسبوقة بالتصور فلا يسمي أحد إلا ما عرفه ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجوده ويكون قبوله لذلك كقبوله لأسماء سائر ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل وأشرف ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعها ومع هذا فالطرق النظرية تفيد العلم والمعرفة ولا منافاة بين كون الشيء يعلم بالبديهة والضرورة ويكون عليه أدلة وهي نوعان أحدهما الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن والآية هي دليل عليه بعينه لا تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب وهو آية له ودليل عليه وشاهد بوجوده بعينه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره الثاني ضرب الأمثال والقياس وهو نوعان أحدهما(4/572)
قياس الأولى والأحرى فهذا أيضاً مما يذكره الله في القرآن لكن عامة ما يستعمل هذا في صفاته كإثبات وحدانيته في إلهيته وقدرته ونحو ذلك والثاني الأقيسة المطلقة أقيسة الشمول المنطقية وأقيسة التمثيل وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من(4/573)
المتفلسفة ومتكلمي أهل الملل وهي أضعف الطرق وأقلها فائدة وطريقة المتكلمين أجود فإنهم يثبتون بها أن للعالم محدثاً وأما المتفلسفة فما يثبتون إلا وجوداً واجباً ليس فيه أنه صانع للعالم ولا باريه ثم إن كلاً من الصنفين لا بد أن يستعمل طريقته قضية كلية مثل قول أولئك العالم محدث أو العالم فيه حوادث من جواهر وصفات وغير ذلك(4/574)
وكل محدث فلابد له من محدث فإن هذه قضية كلية وهي مع كونها معلومة بالبديهة والضرورة فقد يثبتها كثير من المعتزلة بقياس التمثيل وهو القياس على محدثات الآدمي من الدور والبنيان ومن المعلوم أن علم الإنسان بأن كل محدَث لابد له من محدِث هو علم يندرج فيه أن هذا المحدث لابد له من محدث وهذا المحدث لابد له من محدث ومن المعلوم أن علمه بهذه الأفراد المعينة أسبق إلى حسه وعقله من علمه بهذه القضية الكلية العامة كما في نظائر ذلك كما أن علمه هذا الإنسان يحس ويلتذ ويتألم قبل علمه بأن كل إنسان يحس ويلتذ ويتألم إذ الأمور الموجودة الحسية يكون العلم بها قبل أن يعقل قضية عامة كلية وإذا كان كذلك فعلم الإنسان بأن هذا المحدث الذي علم حدوثه كما يشهده من الحوادث أو يعلم حدوثه بدليل أو قياس علمه بأن هذا المحدث لابد له من محدث لا يحتاج إلى أن يعلم قبل ذلك أن كل محدث فلابد له من محدث فلا يحتاج من العلم بالمحدث إلى هذه القضية الكلية(4/575)
والقياس المشتمل عليها وإن كان ذلك أيضاً من جملة الأقيسة والأمثال المضروبة التي يثبت بها ذلك لكن ينبغي أن يكون على وجه الأولى بأن يقال إذا كان هذا المحدث الصغير لابد له من محدث فهذا المحدث الكبير أولى وأيضاً فنحن لم نشهد محدثاً تاماً مطلقاً إذ لا محدث تام على الحقيقة إلا الله سبحانه فظنوا من ظن من المعتزلة أنه إنما يعرف أن المحدث لا يفتقر إلى محدث إلا بالقياس على إحداث الآدميين غلط وذلك أن حكم الأصل أضعف من حكم الفرع فإن الإنسان وإن زعموا أنه يحدث تصرفاته فلا ريب أنه يفتقر فيما يبنيه وينسجه على آلة خارجة عن قدرته فليس هو نظير حكم الفرع أقوى وأحق وكذلك قول القائل إن الممكن لا يترجح أحدج طرفيه على الآخر إلا بمرجح قضية كلية مضمونها أن جميع الممكنات(4/576)
وهي التي لا تستحق بنفسها الوجود ولا يمتنع عليها العدم فلا تكون موجودة إلا بمرجح لكن العلم بها ليس بأسبق ولا بأظهر من العلم بأفرادها فإن الإنسان متى تصور أن الشيء الفلاني لا يستحق الوجود في نفسه ولا يمتنع عدمه علم أن ذلك الشيء الفلاني لا يوجد بنفسه بل نفس تصور الممكن يوجب هذا العلم فإنه إذا قيل الشيء يجوز وجوده ولا يكون وجوده بنفسه أو لا يجب وجوده بنفسه كان نفس هذا التصور يقتضي أن وجوده من غيره والشأن إنما هو في تعيين الأمور التي هي ممكنة وهذا قد يعلم بالحدوث المشهود أو المستدل عليه فتكون طريقتهم تابعة لطريقة الأولين وأما علم ذلك بغير هذه الطريق ففيها من الخفاء والنزاع ما ليس هذا موضعه(4/577)
ولهذا كثر في هؤلاء من يجحد الصانع مع إقراره بوجود واجب ثم مع ذلك فأولئك إنما يستفيدون بطريقهم العلم بالقدر المشترك بينه وبين سائر المحدثين إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك فيكونون قد علموا من إحداثه ما علموه من إحداث سائر الحيوانات حتى البعوضة ومعلوم أن هذا علم قليل نزر بما يستحقه الرب ولم يعلموا من إحداث ربهم إلا ما أشركوا به فيه جميع الحيوانات فيكونون أبعد عن معرفة الله تعالى من المشركين الذين قال الله فيهم وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] ونحن نعلم أن المحدث تعظم قدرته وفعله بـ الأمر المحدث كما يعلم أن باني الدار وناسج الثوب العظيم أعظم من باني الدار الصغيرة وناسج الثوب الصغير لكن القضية الكلية التي ذكروها تفيد أنه أعظم من سائر المحدثين بقدر عظمة العالم على جميع مصنوعات أولئك وهذا بعض ما يستحقه الرب من التعظيم وعدم المماثلة لكن نفس الإحداث أيضاً فيه من التفاوت أعظم من هذا التفاوت فما أحدثه الرب وإن كان أعظم فنفس إحداثه أيضاً وهو ليس من(4/578)
جنس إحداث المخلوقين وما ذكروه من القياس لا يفيد هذا إلا بدليل آخر إذ القضية الكلية لا تدل إلا على القدر المشترك ثم قياسهم يدل على ذاتٍ ما موصوفة بهذا الإحداث ففي الجملة ليس في هذا القياس علم بخصوص الربوبية ولهذا كان ما ورد به القرآن من كونه رب العالمين وخالق كل شيء ونحو ذلك له من الربوبية على هذا ما لم يتسع هذا الموضع لذكره إذ غيره ليس رباً مطلقاً ولا خالقاً أيضاً فكان ما أثبته له من فعل العالم أثبته على الوجه المختص به لم يثبته باسم لا يفيد إلا القدر المشترك كما فعله هؤلاء الذين قاسوا إحداثه على إحداثهم وأما الآخرون فإنما يستفيدون الإقرار بوجود واجب الوجود بـ قدر مشترك بينه وبين سائر الموجودات فكان معلوم هؤلاء أبعد عن معرفة الله وما يخصه من معلوم أولئك إذ كونه محدثاً فيه تعرض لربوبيته وفعله وإن كانوا قدأشركوا بينه وبين الحيوانات وأما هؤلاء فإنهم أشركوا بينه وبين سائر الموجودات بإثبات وجوده ثم تمييزه بكون وجوده واجباً كتمييز أولئك بأنه محدث العالم(4/579)
ولا ريب أن تمييز هؤلاء أجود فإن كونه محدث العالم مستلزم غناه ووجوده بنفسه وأما العلم بمجرد كونه موجوداً بنفسه فلا يفيد العلم بأنه صانع العالم ولا بأنه رب السموات والأرض ولا يفيد أيضاً العلم بمغايرته لشيء من الموجودات التي لم يعلم حدوثها إذ كون وجوده واجباً لا ينفي بنفسه أن تكون بعض الذوات ليست محدثة ثم إذا قرروا أن الأجسام كلها ممكنة أو أن السموات والأرض كلها ممكنة وواجب الوجود غيرها أو قرروا أن واجب الوجود لا يكون اثنين لم يستفيدوا بذلك إلا مجرد أن الوجود المشترك بينه وبين غيره وجد بنفسه ولم يحتج إلى فاعل فيكونون قد مثلوه بسائر الموجودات ولكن فرقوا بينه وبينها بالغنى عن الغير فقط وهذا الوصف قد يزعمون أنه عدمي وقد يزعمون أنه إضافي وعلى هذين التقديرين فلا يكونون أثبتوا لرب العالمين إلا ما أثبتوه لسائر الموجودات وهذا يجمع كل شرك في العالمين وإن زعموا أنه ثبوتي نقضوا ما أثبتوه لوحدة واجب الوجود(4/580)
بحيث أثبتوا لواجب الوجود أمرين ثبوتيين وهذا باب واسع يطول الكلام فيه فظهر أن أقيستهم قد يستغني عنها كما قد يتفطن بها بعض الناس لما كان ذاهلاً عنه لكن مع إمكان أن يتفطن بدونها ومع ذلك فلا تفيد المعرفة الضرورية التي تحصل بالفطرة أو بالآيات أو بقياس الأولى فضلاً عن أن تفيد المعرفة التي تحصل بعد ذلك بالشرعة لكن تفيد نوعاً من المعرفة القاصرة وتبطل ما يقابل ذلك من النكرة والجهل والكفر فتثبت شيئاً من الإقرار بالصانع وتمنع شيئاً من الإنكار له وأما أن ما تفيده الآيات المشهودة والمسموعة وما في ضمن ذلك من الأمثال المضروبة التي مبناها على الأولوية فلا وقد نقلوا عن أساطين الفلاسفة القدماء أنهم قالوا العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين وإنما نتكلم بالأولى والأخلق والأحرى وحملوا ذلك على أنهم أرادوا أنه ليس فيه إلا الظن(4/581)
الغالب فإن كانوا أرادوا هذا فناهيك بهذا الإفلاس من معرفة الله تعالى ولكن يحتمل أنهم أرادوا أن اليقين الذي يستفاد بالمقاييس الشمولية والتمثيلية المستعملة في الموجودات لا توجد في حق الله تعالى ولكن هؤلاء أحق وأولى وأحرى بما يثبت من صفات الكمال وبما ينفي من صفات النقص ومعلوم أن ذلك الرجحان والفضل غير معلوم قدره ووصفه بالقياس فحيئنذ لا لنا سبيل إلى اليقين بالحقيقة التي دل عليها القياس العقلي فهذا إن أرادوه فهو جيد لهم ومن قال ذلك فقد قال الحق وأعطى النظر القياسي حقه إذ لا يمكن به معرفة الربوبية غير هذا وهو معرفة مجملة وغير مفصلة وبكل حال فقد لا يحتاج إلى هذه المقاييس وهذه الطرق النظرية بل استغنى عنها بالفطرة البديهية الضرورية عاماً وخاصاً وبالآيات المشهودة والمسموعة وعلم جماهير الخلق من هذا الباب وهو أثبت وأرسخ من علم أولئك فإن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلون والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلاً عمن كان من ذوي الألباب(4/582)
والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس كما أن الشعاع آية على الشمس وليس ذلك بقياس الشمس عل غيرها من المؤثرات وبقياس الشعاع على غيره من الآثار بل عند الناس علم فطري بالحس والعقل أن نفس الشعاع مستلزم للشمس على وجه لا يشرك الشمس في ذلك غيرها وما من مخلوق إلا وهو نفسه آية على خالقه على وجه لا يشركه فيه غيره كما قيل وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد لكن الكلام في هذا يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على أن ما ذكره أهل الإثبات من إقرار العباد بفطرهم أن ربهم فوقهم إذا كان مستلزماً لإقرارهم بربهم بفطرهم وأن الإقرار به فطري فليس في لزوم ذلك شيء من الاستبعاد إذ على القول بذلك جماهير أصناف العباد وإنما يستبعد ذلك من غيَّر مبتدعةُ المتكلمين فطرته وسلكوا به في مسالكهم الحرجة الضيقة وأوهموا أنهم هم العارفون بالحجة والدليل دون الأولين والآخرين من كل صنف وجيل وهذا كما تزعمه القرامطة الباطنية أنهم خلاصة أهل المعرفة(4/583)
والتحقيق دون من لم يسلك هذا الطريق ويزعم الاتحادية أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله دون سائر عباد الله ويزعم الرافضة أنهم هم أولياء الله المتقون فدعاوى هؤلاء المتكلمين والجهمية ودعاوى الرافضة والاتحادية والقرامطة والباطنية هي من دعاوى شر البرية فالحمد لله الذي هدانا بالإسلام ومَنّ علينا(4/584)
بالقرآن وأرسل إلينا رسولاً من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين والله سبحانه فطر عباده على شيئين إقرار قلوبهم به علماً وعلى محبته والخضوع له عملاً وعبادة واستعانة فهم مفطورون على العلم به والعمل له وهو الإسلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وفي رواية على هذه الفطرة وفي الصحيحين عن الزهري وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم 30] وأخرجاه من حديث(4/585)
همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يولد يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتجون الإبل هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت صغيراً قال الله أعلم بما كانوا عاملين وروى البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال نصلي على كل مولود يتوفى وإن كان لغية من(4/586)
أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخاً ولا نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط فإن أبا هريرة كان يحدث النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها أخرجه البخاري من هذا الوجه وإن(4/587)
كان منقطعاً لما فيه من كلام الزهري الذي فيه تفسير الحديث بأنه على فطرة الإسلام والبخاري قد أخرجه متصلاً من حديث يونس عن الزهري عن ابي هريرة كما تقدم وأخرجه مسلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وفي آخره ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وأخرجه مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه فقال رجل يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك قال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي رواية ابن نمير عن(4/588)
الأعمش ما من مولود بولد إلا وهو على الملة وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه لفظ ابن أبي شيبة عنه ولفظ أبي كريب عن أبي معاوية ليس من مولود ولد إلا على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ورواه مسلم من حديث الدراوردي عن العلاء بن(4/589)
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها واعلم أن المتكلمين يحكون هذا القول عمن يذكرونه من أهل الحديث وأهل الكلام لكن يزعمون أن الأكثرين على(4/590)
قولهم بأن الإقرار بالصانع نظري ونقلهم ذلك بحسب ما يحكونه كما نقل هذا الرازي عن أكثر أهل التوحيد إنكار أن يكون الله فوق العرش ونقل عن أكثر المسلمين إنكار النفس وأنه لا يعاد إلا البدن بل ذكر من نقل إجماع الصحابة على(4/591)
أن الله ينفي جميع الأجسام ولم يجزم بنفي ذلك وأمثال هذه النقول التي ينقلونها بحسب ما عندهم وأعجب من ذلك أن كثيراً منهم يظن أن هذا مما لا اختلاف فيه بل القول بأن معرفة الله التي هي الإقرار بالصانع لا تحصل إلا بالنظر أمر متفق عليه بين النظار فإذا ذكر له أن في ذلك خلافاً بين أهل الكلام بعضهم مع بعض تعجب من ذلك وذلك لأن من سلك طريقة من هذه الطرائق لا يكاد يعرق غيرها فلهذا تجد في كتب أهل الكلام مما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروف ولبستهم فتن رُبِّيَ فيها الصغير وهرم فيها الكبير وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل ولهذا أنا أنقل من مقالات كبارهم حكاية الخلاف في ذلك ليستأنس بذلك من يعتمد على نقلهم وإن كان في ذلك النقل من(4/592)
التحريف ما فيه كما ذكره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في بيان ما يدرك عقلاً وما لا يدرك عقلاً قال قال أهل الحق العلم والعقل واحد واختلاف الناس في العقول لكثرة العلوم وقلتها إذا كمل عقل الإنسان وسلم من الآفة أمكنه الاستدلال بما وجد من الأفعال على حدوث العالم إذ في مجرد العقول أدلة عليه وعلى افتقاره إلى محدث أحدثه وفيها أدلة على قدم محدثه وأوصافه التي تدل عليها أفعاله وما يجوز منه(4/593)
ويستحيل عليه ونفي ما يدل على حدوثه عنه وجواز وصفه بالقدرة عليه وغير ذلك من المسائل التي لا تتعلق بحقيقة يسوغ الرد فيه فإن لصانع العالم أن يبعث الرسل ويأمر الخلق بالشرائع تعبداً وله أن لا يبعثهم ولا يكلفهم استغناءً وليس في العقول بمجردها أدلة على تغيير الشرائع وإيجاد العبادات وكيفية العقود قال وعلى ذلك أهل القبلة إلا في قولهم إن له سبحانه أن لا يبعث الرسل فإنه تحيله القدرية أو بعضهم على تفصيل له رمزنا إليه كما تقدم قال فزعمت طائفة من مقلدي أصحاب الحديث وفرقة من نظارهم وجماعة من المعتزلة أن المعرفة بالمحدث وحاجته إلى المحدث من طريق الضرورة وورود الرسول بإيجاب الإقرار وبيان الشرائع وقال جمهور أهل الحق إن المعرفة من طريق الدلالة قالوا وفي العقل دليل على أنه لا يجب على العاقل الاستدلال عليه ولا يجب شكر الخالق قبل(4/594)
الشرع ولا يجب ترك الظلم من جهة الصانع على معنى أنه يستحق منه العقوبة أو اللوم قال وزعمت القدرية أن الاستدلال على حدوث العالم وقدم صانعه وأوصافه والشكر لهم بعد معرفته وترك الظلم من جهته واجب عليه بمجرد عقله ووردت الرسل بتأكيد ما فيه أي ما في عقله إيجابه وربما يكون ورود الشرع لطفاً لبعضهم لكون الإيمان عنده اهـ وذكر تمام كلامه قلت وقد ظهر بذلك أن مراده بأهل الحق هم أصحابه(4/595)
وكذلك عادة أبي المعالي إذا قال قال أهل الحث فهم أصحابه وهذا مما يقوله كثير من الناس في خطابه وهو من باب إخبار الرجل عن اعتقاده إذ كل أحد يمكنه أن يقول عن طائفته ذلك يعرفهم بهذا التعريف والغرض أن ما ذكره من أن المعرفة من طريق الدلالة ذكره عن جمهورهم لا عن جمهور المسلمين وأما قوله ابتداءً على هذا أكثر أهل القبلة فإنه يعني به عن المتكلمين الذين هم عنده علماء أهل القبلة كأصحابه والمعتزلة ونحوهم وإن لم يحمل على ذلك وإلا كان كذباً صريحاً فإن هذا الكلام الذي ذكره لا يقدر هو ولا غيره أن ينقله لا بلفظه ولا بمعناه عن إمام من أئمة المسلمين لا أئمة العلم ولا أئمة العبادة ولا عن أحد من سلف الأمة ولا عن أحد له في الأمة لسان صدق عام بل كلام هؤلاء كله صريح في(4/596)
إنكار ما أوجبه هؤلاء وجعلوه طريقة المعرفة حتى الأشعري نفسه قد ذكر إجماع السلف على ذلك كما في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب كما قد حكينا لفظه عند احتجاج(4/597)
المنازع بالحركة ونحوها كما تقدم نقول الوجه الثاني في تقرير المقدمة المذكورة أن يقال إجماع المسلمين حجة فكيف بإجماع جميع الأمم من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم فمن اعتقد أن الأمم المختلفة الملل والأجناس إذا اجتمعت على مثل هذا الأمر من غير أن يجمعها عليه جامع خاص تكون مخطئة فلا ريب أنه مع أنه قد قدح في إجماع المسلمين مصاب في عقله كما هو مصاب في دينه حيث جوز أن يكون الأولون والآخرون مخطئين وهو المصيب وصار هذا بمنزلة أن يخبر جميع الناس بأنهم رأوا الهلال ويقول بعض الناس إن حسهم غلط ولا هلال هناك أو يخبر جميع الناس برؤية شيء من الكواكب أو سماع شيء من الأصوات أو ذوق شيء من المطعومات ويطعن طاعن فيما يخبر به أصناف الأمم من ذلك فإن هذا من(4/598)
أعظم السفسطة وفساد العقل الوجه الثالث أن من المجمعين على ذلك الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنه قد تواتر عنهم رفع الأيدي في الدعاء فإن كان مستند ذلك عادة فاسدة أصلها اعتقاد فاسد كان الأنبياء قد وافقوا الناس على الدين الفاسد والاعتقاد الفاسد في الله تعالى وهذا من أعظم الكفر الوجه الرابع أن القدح في هذا يستلزم القدح في جميع العلوم والمعارف فإنه إذا جوز أن يكون الناس كلهم مخطئين فيما يجدونه في قلوبهم من هذه المعرفة والقصد الضروريين كان القدح في سائر العلوم الضرورية أولى وحينئذ فيبطل جميع ما يقوله المتكلمون من القدح في هذا والانتصار لضده إذ غايتهم أن يبنوا ذلك على مقدمات ضرورية الوجه الثاني والعشرون أن يقال لا نسلم أن سبب إشارة الناس إلى فوق هو ما ذكره ولم يذكر على ذلك حجة بل ادعاه دعوى مجردة فقال سبب ذلك الإلف والعادة فإنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسماً فيسبق إلى الوهم أن من يدعو عالماً قادراً حياً على ما يشاهد عليه الأحياء(4/599)
القادرين ويتبع ذلك أنه في مكان ولأن العلو أشرف فيسبق إلى وهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو فبسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة إلى السماء ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر أن سبب ذلك الإلف ولا يكون صواباً اهـ فيقال له هذا الذي قلته مجرد دعوى لم تذكر عليه حجة وما ذكرته من التمثيل بالأسود والعربية إنما غايته تجويز أن يكون للإنسان اعتقاد غير مطابق سببه ذلك فِلمَ قلت إن هذا من ذاك وهذا بمنزلة أن يقال هؤلاء غلطوا في وجدهم طعم هذه الفاكهة مراً لأن الممرور يجد طعم الحلو مراً أو غلطوا في رؤيتهم لهذين الشخصين لأن الأحول يرى الواحد اثنين فيقال له هب أن الحس يغلط لفساد يعرض له فلِمَ قلت إن حس هؤلاء مع كثرتهم قد غلط لفساد عرض له وأعجب من ذلك قوله فظهر أن سبب ذلك الإلف ولم يظهر شيئاً من ذلك إلا أنه ظهر أنه ادعى ذلك وظهور كونه ادعاه غير ظهور صحة دعواه(4/600)
الوجه الثالث والعشرون أن يقال هب أن سبب ذلك الإلف والعادة التي تلقاها الأخلاف عن الأسلاف لكن العادة التي تعم بني آدم مع تباين حالهم وأديانهم واختلاف علومهم وإراداتهم لا تكون إلا عادة صحيحة كما اعتادوه من الأمور الطبيعية والخلقية فإنهم جميعهم يعتادون الأكل والشرب والنكاح واللباس وكل هذه العادات صحيحة مبنية على علوم صحيحة ولها منافع صحيحة كذلك اعتيادهم مدح الصدق والعدل والعلم ومحبته وتحسينه وذم الكذب والظلم والجهل وبغضه وتقبيحه هذه عادة صحيحة حسنة باتفاق الخلائق لا ينازع في ذلك من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ولا من ينفيه إذ هم جميعاً متفقون على أن اعتقاد محبة هذا وحمده وبغض هذا وذمه عادة صحيحة ليست فاسدة ولا مبنية على اعتقاد فاسد سواء كان ذلك لانتفاعهم بذلك في الدنيا أو لغير ذلك(4/601)
فظهر أن ما أضعف به الحجة أفادها به قوة إذ العادات العامة لجميع الأمم من أعظم العادات وأصحها وبنو آدم لا يأتون من جهة ما اتفقوا عليه فإنهم لا يتفقون إلا على حق وإنما يأتون من جهة تفرقهم واختلافهم كما قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ [هود 118-119] ولهذا كانوا مفطورين على الإقرار بالصانع والدين له فهذا الذي اجتمعوا عليه حق ولكن تفرقوا في الشرك فكل قوم لهم رأي وهوى يخالفون به الآخرين قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30-32] ولهذا وصف الله نبيه وأمته بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والمعروف الذي تطلبه القلوب وتريده بقطرتها إذا علمته والمنكر الذي تبغضه وتكرهه إذا علمته فإذا كان بنو آدم متفقين على هذه العادة التي مضمونها الرفع إلى الله حين الدعاء وكان ذلك يتضمن قصدهم للإله الذي هناك كان هذا من أعرف المعروف عند جميع بني آدم(4/602)
الوجه الرابع والعشرون أن يقال هذا العمل يتضمن ثلاثة أشياء الرفع الذي في الإشارة الحسية الظاهرة والقصد والإرادة التي في القلب التي يقصد بها الصمد العلى والاعتقاد الذي هو أصل القصد الذي هو أصل العمل فإن كل عمل اختياري لابد فيه من إرادة وشعور وأنت تزعم أن الثلاثة فاسدة وأن هذا العمل التابع للإرادة سبب الإرادة فيه هو تخييل غير مطابق فيقال لك لو كان الأمر كذلك لكان النهي عن ذلك من أعظم الواجبات في الدين إذ ذاك من أعظم المنكرات لتضمنه اعتقاداً فاسداً في حق الله تعالى ودعاءً فاسداً متعلقاً به وعبادة غير صالحة له ومن المعلوم أن الله قد بعث الأولين والآخرين من النبيين مبشرين ومنذرين ولم ينه أحد من الأنبياء والمرسلين لبني آدم عن شيء من ذلك لا عن هذا الرفع ولا عن هذا القصد ولا عن هذا الاعتقاد بل كان الأنبياء موافقين لهم على هذا العمل وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف وذلك يبطل كونه مبنياً على اعتقاد فاسد في حق الله تعالى مستلزماً له ودالاً عليه فإن(4/603)
كل ما كان متفرعاً من الاعتقاد الفاسد أو كان مستلزماً له مثل أن يكون دليلاً عليه فإنه يجب النهي عنه فإن العقائد الفاسدة والمقاصد الفاسدة في حق الله تعالى تجب إزالتها وإزالة فروعها وأصولها التي توجبها وإذا كان كذلك فالجهمية تنهي عن هذا الاعتقاد وهذه الإرادة فهم ناهون عن معرفة الله تعالى وعبادته وليس هذا مختصاً بهذا الموضع بل هم كذلك إذ أصل قولهم هو قول المشركين المنكرين لملة إبراهيم ولهذا كان أولهم الجعد بن درهم الذي ضحى به أمير المشرق يوم النحر وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ثم(4/604)
نزل فذبحه وشكره العلماء على ذلك وكان هذا في زمن التابعين وذلك أن الله بعث الرسل تدعو الخلق إلى عبادته الجامعة لمعرفته بأسمائه وصفاته وآياته ولمحبته والإنابة إليه وإخلاص الدين له حتى يكون الدين كله لله والجهمية تصد القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته بحسب تجهمهم إذ هم بين المستقل والمستكثر ولا تجد أحداً فيه شعبة من التجهم إلا وفيه من نقص التوحيد والإيمان بحسب ذلك ولهذا كانت المعتزلة من أبعد الناس عن طريقة أولياء الله المتقين العارفين بطريق الله علماً السالكين فيه عملاً وحالاً وقصداً الوجه الخامس والعشرون أن يقال هب أن سببه هذه(4/605)
العادة هل سببها علم صحيح واعتقاد مطابق أو سببها تخيل فاسد أما الأول فهو حجة في المسألة وأما الثاني فممنوع وهو لم يذكر على ذلك حجة إلا قوله إنهم ما شاهدوا عالماً قادراً حياً إلا جسما إلا أنهم قاسوا العالم القادر الحي الغائب على ما شاهدوه من العلماء والأحياء القادرين فصاروا بمنزلة من لم ير من الناس إلا الأسود ولم يسمع إلا العربية فإذا مثل في نفسه إنساناً أو لغة لم يسبق إلى نفسه إلا الأسود والعربية ومعلوم أن هذا قياس فاسد وذلك أن من لم ير إنساناً إلا أسود ولم يسمع لغة إلا العربية إنما يسبق إلى نفسه الأسود إذا مثل إنساناً يخاطبه وإنما يسبق إلى نفسه العربية إذا مثل في نفسه التعبير لأن الذي مثله في نفسه من جنس الذي شاهده والتخيل يتبع الإحساس وكان الذي تخيله من جنس الذي أحسه لمل علم أن جنسهما واحد والباري سبحانه وتعالى ليس هو عندهم ولا عند غيرهم من جنس الآدميين حتى تكون نسبته إلى ما شاهدوه من الحياء العالمين القادرين نسبة ما لم ير من الآدميين إلى من رئي بل هؤلاء الذين يدعون الله برفع الأيدي إلى فوق عامتهم لم يخطر بقلبهم أن الله من جنس الآدميين مشارك لهم في الحقيقة حتى يكون لحماً ودماً ونحو ذلك بل هؤلاء كلهم ينزهون الله تعالى عن ذلك ولا يعرف في عامة المقرين بالصانع من قال بشيء من ذلك إلا ما ذكره الأرباب(4/606)
المقالات عن شرذمة من المشبهة ومع هذا فلابد أن يجعل هؤلاء له من المقدار والصفات ما يفرقون بينه وبين الآدميين فعلم أن هذا الذي احتج به باطل الوجه السادس والعشرون أن يقال هذا قد أخبر عن بني آدم الأولين والآخرين الذين يدعون الله برفع أيديهم إليه وتوجه قلوبهم إلى جهته العالية أنهم مثلوه بما شاهدوه من الحياء العالمين القادرين كما يمثل أحدهم ما لم يره من هذا الجنس بما رآه ومن المعلوم أن هذا الضلال الذي ذكره عن بني آدم هو الضال فيه في الأصل المشبه به والفرع الذي قاسه عليه وذلك أن قوله كما أن من لم يشاهد إنساناً إلا أسود فحين يمثل في نفسه إنساناً يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير يقال له هذا على القسمين أحدهما أن لا يعلم وجود إنسان إلا أسود والثاني أن يكون وإن لم يشاهد الأسود قد علم الخبر(4/607)
أو غيره أن في الأناسي من هو ابيض وكذلك إذ مثل إنساناً يخاطبه قد مثل إنساناً مطلقاً لا يقدره من أحد الصنفين وقد يمثل مخاطبة إنسان من الصنف الأبيض أو يخاطبه إنسان من الصنف السود فيقال له هذا المثل الذي ضربته إنما يسلم لك فيمن لا يعلم وجود إنسان غير أبيض فإنه إذا مثل مخاطبه إنسان إنما يكون مثله بمبلغ علمه فإذا لم يكن عالماً بوجود أبيض لم يتمثل مخاطبه أبيض بل قد يتمثل مخاطبه إنسان مطلق ولا يخطر بقلبه لونه وقد يخطر بقلبه لونه فلا يكون إلا ما علمه من ألوان الناس وهو السواد إما إذا علم وجود البيض من الناس ومثل في نفسه أنه يخاطبهم وإن كان لم يرهم بعد كما لو قيل لملك السودان قد قدم عليك رسل البيض وهم بيض فهنا إذا زور في نفسه ما يخاطبه به لم يمثل أنه يخاطب أسود وكذلك لو علم وجود الصنفين وقدر مخاطبة إنسان مطلق لم يتمثل لونه بل قد يصنف الكتب ويقف الوقوف وقد يكتب ذلك بالعربية وقد لا يكون رأى غير البيض ومع هذه فلا يتمثل حين المخاطبة المطلقة لون المخاطبين ولهذا يندرج في خطابه البيض والسود واللفظ يطابق المعنى وهو ما عناه وقصده فكلامه ولو لم يقصد إلا البيض مثلاً لم يتناول لفظه(4/608)
لغيرهم وليس الأمر كذلك بإجماع الناس وأما التمثيل باللغة فليس هو من أمثلة هذه المسالة وذلك أن من لم يسمع غير العربية لا يقدر أن يتكلم بغيرها ولا يتمثل في عبارات نفسه لغة غيرها فلا يكون التعبير بغير العربية متمثلاً في نفسه لا سابقاً ولا لاحقاً ولو علم أن للناس لغة غير العربية أو سمعها ولم يحفظها لم يقدر بذلك على التعبير بها ولا على تمثيلها فاللغات بمنزلة ما يعلمه الإنسان من الصناعات والأعمال كالخياطة والنجارة والحراثة إذا لم يكن يحسنها الإنسان إلا على صفة لم يتمثل في نفسه إذا رآها أن يعلمها إلا الصفة التي يحسنها فأين ما يقدره الإنسان ويصوره في نفسه من مراده ومقصوده الذي يفعله بقدرته من الألفاظ والحركات من الأمور الخارجة عن قدرته وإرادته فعلم أن هذا ليس من هذا الباب وأما الأول فإنه يشبهه لكن الحكم المذكور فيه ليس على إطلاقه وإنما هو في حق من لا يعلم وجود إنسان إلا أسود ويقصد خطاب اسود وإذا كان الأمر كذلك ظهر فساد ما ذكره من المثالين الوجه السابع والعشرون أن يقال لو كان ما ذكرته في(4/609)
المشبه به لم يكن ما ذكرته من المشبه نظيراً له فإن الخلق الذين يدعون الله ويقرون بأنه حي قادر عالم إنما يدعون من يعتقدون أنه رب العالمين الذي يقدر على ما لا يقدر عليه بنو آدم مثل إنزال المطر وإنبات النبات وتسكين الريح إذا هاجت في البحر وغير ذلك مما يطلب من الله فقد علموا أن الحي العالم القادر الذي هو رب العالمين الذي هو يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً ساقه لبلد ميت وأنزل به الماء فخرج به من كل الثمرات ليس من جنس ما يعهدونه من بني آدم بل المطلوب منه ما لا يقدر عليه هؤلاء وأيضاً فكثير منهم قد لا يتصور أن كلا منهما حي قادر عالم ولا يتمثل في نفسه قدراً مشتركاً بينهما فكيف يجوز أن يحكي عن بني آدم من الأولين والآخرين أنهم قاسوا الله على ما شاهدوه من الآدميين الوجه الثامن والعشرون أنك لو سألت من سألته من الداعين لربهم هل اعتقدت بقلبك أن الله من جنس ما شاهدته في الآدميين الذين هم أحياء قادرون عالمون لقال لك من سألته هذا شيء لم يخطر بقلبي ولكان نفرته عن هذا وإنكاره على من يقول هذا أو يعتقده أعظم من نفرته عمن يجعل الملائكة من جنس الذباب والعصافير وبالجملة فبنو آدم يعلمون من(4/610)
أنفسهم أنهم لم يكن دفعهم لهذا الاعتقاد المتضمن تمثيل الله بالبشر وأنه من جنسهم فدعمو ذلك عليهم وافترائه عليهم الوجه التاسع والعشرون أن يقال هؤلاء دائماً يسمعون ذكر الملائكة والجن وهم أحياء عالمون قادرون ومع هذا فقد علموا أنهم يتصورون بصور الآدميين كما تمثل جبريل لمريم بشراً سوياً وكما تمثل إبليس في صورة سراقة بن جعشم ومع هذا لما أخبروا بأن جبريل عليه السلام له ستمائة(4/611)
جناح وسمعوا قول الله في الملائكة أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [فاطر 1] لم يكن فيهم من يعتقد أن الملائكة والجن من جنس الآدميين مطلقاً لما استشعروه من نوع فرق وقد علم ما بين الله وبين البشر من عدم المماثلة أعظم مما بين البشر والملائكة فكيف يقال إن رفع أيديهم إنما كان لاعتقادهم أن الله من جنس ما يشاهدونه من الأحياء القادرين وهب أن ذلك قد يخطر بقلب الواحد والاثنين منهم فكيف يجعل هذا الاعتقاد شاملاً لبني آدم الذين يرفعون أيديهم إلى الله عز وجل من الأولين والآخرين وأن الآخرين أخذوه عن الأولين وشاركوهم في التخيل الوجه الثلاثون أن يقال سبق إلى الوهم أن من يدعو حياً عالماً قادراً على ما يشاهد عليه الأحياء القادرين أتريد بذلك أنه يسبق إلى وهمه أنه مثله مطلقاً بحيث يجوز عليه ما يجوز عليه ويمتنع عليه ويجب له ما يجب له أو أنه يشابهه من بعض الوجوه أما الأول فأنت وسائر العلماء يعلمون أن هذا(4/612)
لم يقله أحد قط وقد ذكرت ذلك في كتبك واعترفت بأن أحداً من العقلاء لم يقل بالمماثلة هكذا وإذا كان هذا لم يقله أحد لم يجز أن يجعل هذا اعتقاد الداعين الذين يرفعون أيديهم إلى الله مع العلم بأنه لم يقله أحد من المشبهة ولا من غيرهم وأما إن كان مقصوده أنهم يثبتون المشابهة من بعض الوجوه فهذا حق وقد ذكر هو في نهايته إجماع المسلمين على ثبوت المشابهة من بعض الوجوه فإن ذلك مما لا يمكن النزاع فيه كما حكيناه عنه فيما تقدم وحينئذ فيكون ما عليه بنو آدم من الاعتقاد الذي هو مستند رفع أيديهم إلى الله حين الدعاء اعتقاداً صحيحاً في الأصل ليس بفاسد لكن قد علم أن الناس هنا في طرفي نقيض منهم من يغلو في الإثبات حتى يثبت مماثلة الله لخلقه في بعض الأمور ومنهم من يغلو في التعطيل حتى لا يمثله إلا بالمعوم والموات لكن الاعتقاد الذي يدعوهم إلى رفع أيديهم لا يجب أن يكون من التمثيل الباطل إذ لا يختص أهله بالرفع إلى الله وإذا كان كذلك لم يكن مستند الناس كلهم في الرفع إلى الله باطلاً وإذا لم يكن مستندهم كلهم باطلاً بل كان مستند بعضهم حقاً ثبت أن الله ترفع إليه الأيدي وأن فاعل ذلك يكون اعتقاده صحيحاً(4/613)
وذلك يقتضي صحة الإشارة الحسية إليه إلى فوق وهو المطلوب الوجه الحادي والثلاثون أن يقال مضمون ما ذكرته أن الناس لما لم يشاهدوا حياً عالماً قادراً إلا جسماً سبق إلى اعتقادهم أنهم إذا دعوا حياً قادراً عالماً كان جسماً ويتبع ذلك أنه في مكان والعلو اشرف من غيره فيسبق إلى فهم الداعي أن من اعتقد عظمته إذا كان في جهة أن يكون في جهة العلو وحاصل هذا أن المم المختلفة من الأولين والآخرين المجمعين على رفع أيديهم إلى الله في الدعاء إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم أن الله جسم ووجه هذا الاعتقاد أنهم لم يشهدوا حياً عالماً قادراً إلا جسماً فاعتقدوا فيمن يدعونه ذلك وأثبتوا له المكان إذ الجسم لابد له من حيز وخصوه بالعلو لأنه أشرف فمضمون هذا ذكر مستند العباد في رفع الأيدي فيقال له لا يخلو إما أن يكون هذا مستندهم أو لا يكون فإن لم يكن هذا مستندهم بطل هذا الجواب وصحة الحجة وثبت أنهم إنما رفعوا أيديهم إلى الله لعلمهم الضروري بان الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة وإن كان هذا مستنداً لهم كان قد حكى اتفاق الأمم الذين يرفعون أيديهم في الدعاء على أن الله جسم إذ لم يشهدوا موجوداً إلا جسماً وحينئذ فهذا أبلغ في الحجة عليه فإن الأمم المتفقين(4/614)
على رفع الأيدي إذا كانوا يعتقدون أن الله جسم كان هذا من أبلغ حجج القائلين بالجسم لأن هؤلاء الذين يرفعون أيديهم فيهم الأنبياء وفيهم هذه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة فصار ما جعله جواباً حجة عليه الوجه الثاني والثلاثون أن يقال هب أن ما ذكرته هو مستندهم فلم تذكر حجة على بطلان هذا أكثر مما قلت فظهر أن سبب هذا الإلف فلا يكون صواباً ومعلوم أن مجرد اعتياد الأمم كلهم للشيء إن لم يدل على أنه حق فلا يدل على أنه باطل فليس في كونهم ألفوا ذلك واعتادوه ما يدل على أنه ليس بصواب حتى تقول فظهر أن سبب ذلك الإلف فلا يكون صواباً الوجه الثالث والثلاثون أنك قد ذكرت أن مستند هذا الإلف هو اعتقاد الدعاة أن الحي العليم القادر لا يكون إلا جسماً ومعلوم أن هذا بلفظه قول طوائف كثيرة من أهل الكلام من الشيعة والكرامية وغيرهم وأما بمعناه فالمؤسس وغيره يقول إن هذا قول من قال إن الله فوق العرش أو أنه يشار إليه(4/615)
في الدعاء ومعلوم أن القول بكون الله فوق العرش أو أنه يشار إليه بالأيدي في الدعاء قول سلف الأمة وأئمتها وعامتها وإذا كان هؤلاء كلهم يقولون بالمعنى الذي سميته تجسيماً لم يضر القول بذلك ولم يجز رده إلا بحجة وأنت لم تذكر في جواب هذه الحجة ما يصلح أن يكون جواباً وقد قدمنا في الوجه الذي قبل هذا أن الإشارة إلى الله فيه الدعاء إن استلزم اعتقاد الداعي أن الله جسم فقد ثبت أن هذا قول من قوله حجة إلا بطلت حكايته وأما هنا فإن كون الحي القادر لا يكون إلا بائناً عن غيره وهو معنى كونه جسماً عنده وهذا المعنى ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وإن تنوعت ألفاظهم فيه فكلها متوافقة متطابقة وبالجملة فلا يمكنه أن ينازع أن هذا قول خلق كثير من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام فلا بد من دليل إبطاله فإن قال دليل إبطاله ما ذكره من نفي كون الله جسماً قيل قدمنا ما يتبين معه فساد تلك الأدلة ثم يقال هذا لا يصلح أن يكون جواباً لما تذكره وهو الوجه الرابع والثلاثون يقال له هذا الذي ذكرته مضمونه الدعاة الرافعي أيديهم لاعتقادهم أن الله جسم حيث لم يشهدوا مدعواً حياً عالما قادراً إلا جسماً ومعلوم أن الدعاة الرافعي أيديهم لو لم يكن فيهم من قوله حجة وخلاف قوله كفر(4/616)
فلا نزاع في أنهم جماهير بني آدم من الأولين والآخرين وفيهم من العلماء والعباد من لايحصيه إلا رب العباد فلو لم يكن هذا دليلاً من أعظم الأدلة على أن الله جسم بمقتضى ما قررته لكان هذا مما يجب الجواب عن حجة قائله فإن مخالفة جماهير بني آدم ليست هينة ولا يصلح أن يكون ما ذكرته من الحجة على نفي الجسم جواباً لأن هذا الدليل الذي ذكرته عنهم يقتضي أنهم احتجوا على كونه جسماً بما ذكرته عنهم وهذه معارضة لما ذكرته فإن لم تبين فساد هذه المعارضة لم يكن بطلان حجتك لحجتهم بأولى من العكس وأنت لم تذكر حجة على فساد حجتهم بحال فإن قيل هذه الحجة مبناها على قياس الغائب على الشاهد وهو باطل قيل قياس الغائب على الشاهد باتفاق الأمم ينقسم إلى حق وباطل فإن لم تبين أن هذا من الباطل لم يصلح رده بمجرد ذلك الوجه الخامس والثلاثون أن تقرير ما ذكرته من مستندهم مثل تقرير المسلك القياسي في العلو وهو أن يقال لم نشهد موجوداً قائماً ينفسه إلا جسماً أو لم نشهد حياً عالماً قادراً إلا جسماً فاختصاص القائم بنفسه أو الحي بكونه جسماً(4/617)
دون أن يكون عرضاً أو يكون لا جسماً ولا عرضاً إما أن يكون لكونه موجوداً قائماً بنفسه أو لما يندرج فيه واجب الوجود أما لما يختص الممكن المحدث فإن كان الأول والثاني وجب في كل موجود قائم بنفسه أن يكون جسماً وحينئذ فتصح حجتهم والثاني باطل لأنه يوجب تعليل الأمر الوجودي وهو القائم بالنفس أو كون القائم بنفسه حياً عالماً قادراً بما فيه أمر عدمي والعدم لا يصلح أن يكون علة للوجود وقد تقدم الكلام على هذه الحجة وأنه لم يقدح فيها بقادح وإذا كان كذلك كان قد ذكر لهم حجة توجب أنه فوق وأنه جسم غير ما ذكروه من العلم الضروري وإن لم يقدح في ذلك بشيء وذكر أن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف واتفقوا عليه وتسمية ذلك تخيلاً لا يوجب فساده إن لم يبين أنه خيال فاسد فظهر أن ما ذكره تقرير لقولهم بالقياس العقلي والأثر النبوي والإجماع الشرعي مع ما ذكروه من الضرورة العقلية وأنه زاد في التقرير على كونه فوق أنه مع ذلك جسم ولا ريب أن هذا قوله وقول أكثر الناس من النفاة والمثبتة فإنهم يقولون إن كونه فوق العرش يستلزم المعنى الذي يسميه المتكلمون جسماً ويسميه أهل الحديث حداً(4/618)
الوجه السادس والثلاثون أن العلوم الكلية والعقلية لبني آدم جميعها من هذا الباب فإن الإنسان يشهد بحسه الباطن والظاهر أموراً معينة جزئية على صفات ثم يعقل بما يجعله الله في عقله من العبرة والقياس أن الأعيان التي لم يشهدها هي(4/619)
كالأعيان المشهودة في تلك الصفات وعلم عقله بالتماثل والاختلاف كإحساسه بالأعيان فقد يكون علماً قطعياً وقد يكون ظناً غالباً وقد يكون صواباً وقد يكون خطأً وكل من الحس والعقل يعرض له الغلط لأسباب والناس متنازعون أي الإدراكين أكمل إدراك الحس أو العقل وأيهما الذي يرجح(4/620)
على الآخر وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية إلا بتوسط قياس واعتبار حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين وأن الضدين لا يجتمعان هو في ذلك كله قد أدرك بحسه ذلك في بعض الأجسام والأجساد والألوان المتضادة وعقل أن من ما لم يحسه مثل ما أحسه في ذلك وأن الحكم لا يفترق واحد وواحد وجسم وجسم ولون ولون وضد وضد يحكم بذلك حكماً عاماً كلياً وإذا كان كذلك لم يكن له حجة عقلية في العلم الإلهي أصلاً إلا ولابد فيها من قضية كلية والقضية الكلية لابد فيها من قياس الغائب على الشاهد فإن كان هذا باطلاً بطل جميع كلامهم بالأدلة العقلية في العلم الإلهي وحينئذ فيبطل ما ذكروه في نفس الجسم وغيره فلا يكون لهم جواب عما احتج به المنازع وإن لم يكن باطلاً لم يكن له إبطال هذه الحجة بما ذكره من أن مضمونها قياس الغائب على الشاهد فحاصله أنه إن(4/621)
كان ما يسلكونه من الطرق الكلامية العقلية في الإلهيات طرقاً صحيحة فهذه الطريق منها فتكون حجة عليهم وإن لم تكن صحيحة لم تكن حجة لهم كما لا تكون عليهم فلا يكون كلامهم حقاً دون كلام خصومهم ولا يكون ما دفع به الضرورة التي ذكرها منازعوهم حقاً الوجه السابع والثلاثون أن المنازعين لهم يحتجون بالدلائل السمعية الكثيرة وبما يذكرونه من الضرورة العقلية وبما ذكروه من الأقيسة العقلية فإن كانت الأقيسة العقلية فإن كانت الأقيسة العقلية صحيحة كما تقدم ذكرها مقبولة في هذا الباب لم يجز رد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية إلا بما يبين فساد القياس الخاص الذي أورده لا بمجرد كونه قياساً للغائب على الشاهد وإن كانت مردودة كان ما يذكره النفاة كله مردوداً وحينئذ فتبقى الأدلة السمعية سليمة عن معارض عقلي فيبطل ما يذكرونه من كونها عارضت القواطع العقلية وحينئذ يمتنع تأويلها ويجب اعتقاد مضمونها ويكون ما ذكروه من الضرورة العقلية لا دليل على فسادها وهذا بينٌ لمن تدبره ومبناه على العدل والإنصاف وقد قدمناه فيما مضى التنبيه على هذا وأن مبنى كلامهم في(4/622)
الإلهيات غنما هو القياس على ما وجدوه في المشهودات لا طريق لهم غير ذلك أصلاً الوجه الثامن والثلاثون أن القول بأن الله ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك ليس هو قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له أصل في شيء من كتب الله المنزلة ولا آثار أنبيائه بل متواتر عن السلف والأئمة إنكار هذا الكلام وتبديع أهله كما قال أبوالعباس بن سريج توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وذلك أن التوحيد الذي بعث الله به رسله هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وذلك يتضمن التوحيد بالقول والاعتقاد وبالإرادة والقصد وأما الخوض في(4/623)
الأعراض والأجسام كما خاض فيه المتكلمون كقولهم ليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك فأول من ابتدعه في الإسلام الجهمية وأتباعهم من المعتزلة لا يعرف في هذه الأمة حدوث القول في الله بأنه ليس بجسم ولا جوهر ونحو ذلك من جهة هؤلاء وكذلك الاستدلال على حدوث العالم بطريق الجسم والعرض إنما ابتدعها في الإسلام هؤلاء وهذا أصل علم الكلام الذي أطبق على ذمه أئمة الإسلام من الأولين والآخرين ولما ابتدع هؤلاء القول بأنه ليس بجسم ولا جوهر عارضهم الطائفة الأخرى من الشيعة وغيرهم فقالوا بل هو جسم والسلف والأئمة لم يثبتوا هذه الأسماء لله ولا نفوها عنه لما في كلٍّ من الإثبات والنفي من الابتداع في الدين من إجمال واشتراك ويثبت به باطل وينفي به حق مع أن السلف والأئمة لم يختلفوا أن نفاة الجسم أعظم ضلالاً وابتداعاً من مثبتيه بل الأئمة والسلف تواتر عنهم من ذم الجهمية ما لا يحصيه إلا الله ولهم أيضًا كلام في ذم المشبهة لكن أقل من ذم الجهمية بكثير وأما لفظ الجسم فلا يحفظ عن أحد منهم ذمه وإنكاره كما لا يحفظ عنه مدحه وإقراره ولكن المحفوظ عنهم من الألفاظ الإثبات فقول نفاة الجسم إنها هي التجسيم ويعدون أعلام الدين وأئمة الدين من المجسمين(4/624)
والمشبهين كما هو موجود في كتب مقالاتهم كما يعدون منهم مالكاً وأصحابه وحماد بن سلمة وأضرابه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأمثال هؤلاء الأئمة ولما تكلم بنفي الجسم أبو الهذيل إمام المعتزلة وأتباعه وتكلم بإثباته هشام بن الحكم وأشياعه قال هؤلاء الجسم هو الموجود وهو القائم بنفسه ولا يعني بالجسم إلا القائم بنفسه ولا يعقل قائم بنفسه إلا الجسم وقالوا دعوى(4/625)
وجود قائم بنفسه ليس بجسم كدعوى قائم بنفسه لا تقوم به صفة فإن المعتزلة يقولون إن الباري تعالى قائم بنفسه وأنه يكون يمتنع أن يكون محلاً للصفات والحوادث قالوا وهذان مثل دعوى قائم بنفسه لا يباين غيره ولا يتميز عنه قالوا وإثبات موجود قائم بنفسه ليس هو جسماً ولا يقوم به صفة مثل إثبات قائم بنفسه ليس حياً ولا ميتاً ولا عالماً ولا جاهلاً ولا قادراً ولا عاجزاً كما يقوله من يقوله من الملاحدة والفلاسفة وهذا كله جحد لما يعلم بضرورة العقل ومخالفة للبديهة والحس وما زال والأئمة يصفون الجهمية بأنها مخالفة للعقول وأن العقل يعلم أنهم يصفون العدم لا الوجود ولهذا عندهم نفاة التجسيم من المجسمة لموافقتهم لهم في أصل الإثبات وإن خالفوهم في بعض التفاصيل وإذا كان كذلك فهذا الذي جعله مستنداً للداعين من الأولين والآخرين أنه هو الرجوع إلى القياس العقلي وهو(4/626)
قياس ما غاب عنهم من الموجود على ما شاهدوه لا ينافي ما ذكروه من أن ذلك يقتضي علمهم الضروري بأن الذي يدعى ويسأل هو في جهة فوق لأن العلوم الضرورية الكلية لا بد فيها من قياس كما تقدم وهم كما قد يقولون يعلم بالضرورة أن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه فإنه معدوم ويقول من يفهم معنى الجسم على اصطلاح المتكلمين يعلم بالضرورة أنه لا يكون موجود قائم بنفسه إلا ما سميتموه الجسم ويقولون كل من رجع إلى فطرته وفهم معنى ذلك ولم يصده عن موجب الفطرة ظن التقليد أو أقيسة فاسدة وهوى من تعصب للمذهب المألوف فإنه يعلم ذلك ويثبتون ذلك أيضاً بالمقاييس العقلية التي هي أقوى من مقاييس النفاة وإذا كان كذلك فنفي التجسيم لا يمكن أن يكون بنص ولا إجماع بل ولا بأثر عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وليس مع نفاته إلا مجرد ما يذكرونه من الأقيسة العقلية فإذا كان رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء مستلزماً لاعتقاد الدعاة التجسيم وهم يثبتون ذلك بالأقيسة العقلية أيضاً كان جانبهم أرجح لو لم يجيبوا عن حجج النفاة فكيف إذا أجابوا عنها وإذا بينوا أن نقيض قولهم مستلزم للتعطيل لتعطيل وجود الباري ذاته وصفاته وتعطيل معرفته وعبادته ودعائه(4/627)
الوجه التاسع والثلاثون أن يقال ليس قول القائل رفع الأيدي إلى السماء مستلزم التجسيم بأعظم مما يقال لكل من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات فإن الملاحدة من المتفلسفة واتباعهم الذين يجمعون بين النقيضين فيقولون لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت أو يقولون لا يقال موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت يزعمون أن هذه الأسماء لا تقال إلا لما هو جسم ونفاة الصفات من العلم والقدرة وغيرها يقولون إن هذه الصفات لا تقوم إلا بجسم ومنكرو الرؤية والقائلون بخلق القرآن يقولون لا يمكن أن يرى إلا جسم ولا يقوم الكلام إلا بجسم وهم يبينون ذلك أعظم من بيان هذا المؤسس أن الرافعين لأيديهم في الدعاء مستندهم اعتقاد أن المدعو جسم وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون ما ذكره النفاة لزوم التجسيم لهؤلاء المثبتة حقاً أو باطلاً فإن كان ذلك حقاً كان التجسيم حقاً إذ الإثبات للأسماء والصفات حق معلوم بالضرورة العقلية وبالنصوص السمعية وقول النفاة مستلزم للجمع بين النقيضين ولغير ذلك من السفسطة وإن كان ما يذكره هؤلاء النفاة من لزوم التجسيم باطلاً فانتفاء هذا اللازم في حق الداعين أولى وأوكد الوجه الأربعون أن يقول ومن المعلوم أن هذا الباب كثيراً ما يقال فيه إن الناس يتناقضون فيه فيثبت أحدهما شيئاً من وجود واجب أو اسم أو صفة وينفي لوازمه أو ينفي الجسم(4/628)
ونحوه ويثبت ملازمه ولا ريب أن باب الإثبات حجته العقلية الضرورية والنظرية أعظم من حجج النفي فإن النفاة ليس معهم حجج ضرورية وليس نعهم قياس عقلي إلا ومع أولئك ما هو أقوى وأكثر هذا إذا لم يعرف الإنسان القدح في مقاييسهم وإلا فمن عرف القدح فيها تبين له أن حاصلها تهويل لا تحصيل وأما الحجج السمعية فهي مع المثبتة أضعافاً مضاعفة وليس مع النفاة ما يفيد ظناً وإذا كان كذلك فالذي تسميه النفاة تجسيماً إذا كان لازماً أمكن المثبتة أن تلتزمه ويكون مقرره الأدلة العقلية والسمعية وأما النفاة فلا يمكنهم النفي إلا إذا تركوا العقل والسمع وهذه حال أهل النار الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} [الملك 10] وإذا لم يكن لازماً لم يحتج إلى إثباته وإن دفع الشك في لزومه وكان في تناقض المثبت مع نفي الجسم قولان فلا ريب أن تناقض المثبت أقل بكثير من تناقض النافي ومتابعته الأدلة السمعية والعقلية أكثر وتقريره للفطرة والشرعة أظهر وإذا كان ما في جانبه من الخطأ أقل لم يجز أن يرجع إلى من خطؤه أكثر بل على ذلك أن يوافقه على ما معه من الصواب ثم إن رجعا جميعا إلى تمام الصواب وإلا كان استكثارهما من الصواب أولى وأوجب من استكثار الخطأ(4/629)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الخامس
الجهة - المكان والمحل - المعية - الفوقية - المباينة
الجسم - الجنب - اليدين - النور
حققه
د. سليمان الغفيص(5/1)
فصل وقد ذكر أبو عبد الله الرازي في نهاية العقول له لمثبتي الجهة حججاً أخرى فنذكر هنا أيضاً ما ذكره من الجانبين في الكتابين فقال واحتج مُثبِتو الجهة بأمور أربعة أولها أنا نعلم بالضرورة أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد أن يكونا متباينين ونعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن(5/3)
أحد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة أو بالزمان أو بالمكان وإذا ثبت ذلك فنقول التباين بين الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أن يكون بالحقيقة أو بالزمان أو بهما فقط لأن الجوهر يباين العرض الحالّ فيه بالحقيقة والزمان(5/4)
وكذلك العرضان الحالان في محل واحد قد تباينا تباينًا بالحقيقة والزمان مع أنا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر وما حلّ فيه وبين العرضين الحالين في المحل الواحد إذْ لا بد من زيادة تباينٍ على هذين القسمين ولا ثالث يُعقَل إلا التباين بالمكان فوجب أن يكون التباين بين الباري تعالى وبين العالم بالمكان وذلك يقتضي كون الباري تعالى في الجهة ثم قال والجواب عما تمسكوا به أولاًُ أن الحل مباين للحالِّ في الحقيقة والزمان ولكنَّ أحدهما حالٌّ في الآخر والآخر محل له ويشتركان أيضاً في الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له وبينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فلما كان(5/5)
كذلك كان الاختلاف بين الباري وبين العالم أتَمَّ من الاختلاف بين الحال وبين المحل فإذا ادَّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع قلت وهذه الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم من بعض الوجوه والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الذي ذكره من الجواب تقرير لحجة المنازع وتوكيدٌ لها ليس بجواب عنها ومثل هذا يفعله هذا وأمثاله في مواضع قال تعالى أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ {18} [الزخرف 18] قالوا هي المرأة لا تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها وهؤلاء فيهم التخنُّث بمشابهتهم(5/6)
المشركين الذين قال الله إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {117} [النساء 117] ما شابهوا به النساء وكذلك أن حجة المنازع مبنيةٌ على مقدمات إحداهن أن الله مباينٌ العالم والثانية أن المباينة ليست إلا بالحقيقة أو الزمان أو المكان والثالثة أن مباينته للعالم أعظم من أن يكون بمجرد الحقيقة أو الزمان وإذا ثبت هذه المقدمات لزم أن يكون مباينًا له بالمكان ويظهر ذلك بنظم ذلك في قياسين أحدهما أن يقال الباري مباين للعالم وكل مباين لغيره فلا بدّ وان يكون مباينًا بالحقيقة أو الزمان أو المكان فينتج أن الباري سبحانه لابد أن يكون مباينًا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان ثم يقال ومباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان وكل مباينة ليست بمجرد الحقيقة والزمان فلا بد أن تكون بالمكان فينتج أنه لا بد من المباينة بالمكان(5/7)
إذا تبين نظم الدليل فقولهم الباري مباين للعالم لا منازعة فيه وقد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة في كل موجودين قائمين بأنفسهما ولم ينازعهم في ذلك وقولهم كل مباين لغيره فلابد وأن تكون مباينته بأحد الوجوه الثلاثة قد ذكروا أن ذلك معلوم بالضرورة قالوا ويعلم بالضرورة أن التباين بين الشيئين لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة التباين بالحقيقة أو بالزمان أو بالمكان وقد سلَّم لهم ذلك ولم ينازعهم فيه فأثبتوا بذلك أن الباري لابد أن يكون مباينًا للعالم بالحقيقة أو الزمان أو المكان وأما القياس الثاني قولهم مباينته ليست بمجرد الحقيقة والزمان وأثبتوا ذلك بأن قالوا المباينة بالحقيقة وبالزمان تكون بين الحال والمحل وبين الحالين في المحل مع أَنَّا نعلم بالضرورة أن بين الباري وبين العالم من التباين ما ليس بين المحل والحالٍِّ فيه وبين الحالِّين في المحل والمحل هو الجوهر والحال فيه هو العرض وإذا كان التباين الذي بينه وبين العالم زائدًا على تباين هذين وهذان متباينان بالحقيقة(5/8)
وبالزمان لم يكن التباين بينه وبين العالم بمجرد الحقيقة والزمان فإنه إذا كانت مباينته للعالم أعظم من مباينة المباين لغيره بالحقيقة والزمان لم تكن من جنسها وهذا بيِّنٌ فإنه إذا كانت حقيقته المباينة بمجرد الحقيقة والزمان لم يمتنع أن يكون أحدهما حالاًّ في الآخر أو يكونا جميعًا حالين في محل واحد وهذا قد تقوله الحلولية من الجهمية فإن القائل إذا قال الباري مباين للعالم وهو مع هذا حالٌّ فيه أو مَحَلٌّ له ومباينته له أنه قبله وبأن حقيقته تخالف حقيقته كما يباين الجوهر ُ العرضَ والعرضُ الجوهرَ ولم تكن المباينة بالحقيقة والزمان مانعة من هذه المحايثة فإذا كانت المحايثة منتفية لم يكن بدٌّ(5/9)
من إثبات مباينة تنفي هذه المحايثة والمباينة بالحقيقة والزمان لا تنفي المحايثة ولهذا لما زعم الجهمية أنه ليس مباينًا بالمكان اضطربوا بعد ذلك فقال جمهور علمائهم لا هو محايث للعالم ولا هو خارج عنه(5/10)
وقال كثير من عامتهم وعبادهم وعلمائهم بل هو محايث فإنه إذا ارتفعت المباينة بالمكان لم تَبقَ إلا المحايثة ولا ريب أن قول هؤلاء أقرب إلى المعقول لكنه أقرب إلى العقل ابتداءً حيث جعلوه موجودًا محايثًا للعالم لكنه أعظم تناقضًا وجهلاً من وجه آخر فإن مانفَوا أن يكون على العرش هو أعظم نفيًا لكونه محايثًا للعالم ولأن في كونه في نفس المخلوقات من الكفر والضلال ما فيه شناعة تزيد على النفي المطلق الذي لا يفهم بحال وأيضًا فالأدلة الدالة على أنه فوق العالم وأنه مباين للعالم تمنع المحايثة أيضًا والمقصود هنا أنهم إذا لم يثبتوا إلا المباينة بالحقيقة أو بالزمان لم يكن العلم بهذه المباينة مانعًا من جواز المحايثة عليه لأن العرض والجوهر بينهما تباينٌ بالحقيقة وبالزمان مع(5/11)
تحايثهما وهذا قد اتفقوا على نفيه وقد ذكروا أنهم يعلمون بالاضطرار أن بين الباري تعالى وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر والعرض الحالِّ فيه وهذا بيِّنٌ إذْ لولا زيادة التباين لجاز أن يكون العالم كالعرض في الخالق والخالق جواهر قائمة بنفسها أو يكون الخالق كالعرض القائم بالجوهر ومعلوم أن هذا أشدُّ استحالة باتفاق العقلاء فإن الباري قائم بنفسه وهو المقيم لكل قائم فضلاً عن أن يكون كالعرض في الجوهر والعالم جواهر قائمة بأنفسها فثبت بذلك أن مباينتهُ للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان وإذا ثبت ذلك فالمقدِّمَة الثانية وهو أن المتباينين اللذين ليس تباينهما بمجرد الحقيقة والزمان فلابد أن يكونا متباينين بالمكان وقد تقدمت وتقدم ما ذكر وسُلِّم فيها من العلم الضروري إذا تبين ما ذكره من حجتهم فقلُه في الجواب إن المحل مباين للحالّ في الحقيقة والزمان ولكن أحدهما حال في الآخر والآخر محل له ويشتركان أيضًا في الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر كلامٌ صحيح لكن مضمونهما أنهما مع التباين بالحقيقة والزمان متحايثان مشتركان في الحَيِّز وفي أمورٍ(5/12)
أخرى وهي الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر وهذا الكلام أنهما مع هذا التباين متحايثان مشتركان ومجتمعان في أمور أخرى فتكون المباينة بينهما دون المباينة بين العالم والباري وهكذا قال القوم إنا نعلم بالضرورة أن بين الباري سبحانه وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر الذي هو المحل وبين ما حلّ فيه فما ذكره تقرير لذلك وقوله وأما الباري كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة قلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري تعالى وبين العالم أَتَمَّ من الاختلاف بين الحالّ والمحل فيقال له هذا توكيد لما قالوه لأنهم ذكروا أن مباينة الباري تعالى أتَمُّ فإنه غير محايث إذْ ليس هو حالاًّ في العالم ولا محلاًّ له بخلاف الجوهر والعرض وأما عدم المشاركة في الحدوث فيعود إلى المباينة بالزمان فإن القديم قبل المحدث وإلى المباينة بالحقيقة فإن حقيقة القديم مخالفة لحقيقة المحدث وأما عدم المشاركة(5/13)
في الإمكان والحاجة إلى المؤثر فيعود إلى المباينة بالحقيقة فإن الواجبَ بنفسه الغني عن غيره حقيقتهُ مخالفةٌ لحقيقة الممكن في نفسه المفتقر إلى غيره فهذا الذي ذكرهُ مضمونُه أن مباينة الباري أتَمُّ من مباينة الجوهر للعرض لأنه مع المخالفة بالحقيقة وبالزمان غير محايث وهكذا قال القوم إن مباينة العالم أزيد من مباينة الجوهر للعرض فهذا الكلام تقرير لمقدمة من مقدمات دليلهم وقوله بعد ذلك فإذا ادَّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال أولاً ليس هذا جوابًا للقوم فإنك لم تمنعهم شيئًا من مقدمات دليلهم ولا عارضتهم ولكن ذكرت كلامًا أجنبيًّا وذكرت أنهم ينازعونك في المباينة بالمكان ولا ريب أنهم ينازعونك في ذلك لكن قد أقاموا حجة ولم تمنع شيئًا من مقدماتها ولكن حكيت مذهبك وحكاية المذهب ليست جوابًا لمن احتج على بطلانه ثم يقال لم يدَّعُوا ثبوت التباين من غير هذه الوجوه لكن قالوا هذا التباين الذي ثبت بعدم المحايثة وهو أحد الوجوه يستلزم أن يكون بالمكان أو قالوا إن التباين الثابت بهذه(5/14)
الوجوه لا يجوز أن يكون بمجرد الحقيقة أو الزمان فتعيَّن أن يكون بالمكان إذْ لم يبق فسمٌ ثالث وأيضًا فلا ريب أن التباين حاصل بغير هذه الوجوه فإنه قد قرر في هذا الموضع ما هو القول الحق وهو أن حقيقة الله غير معلومة للبشر وأنه مخالف لخلقه بحقيقته الخاصة وليست هي ما علمه الناس قِدَمَهُ ووجُوبَهُ وغناهُ فهو أيضًا مباين للعالم بحقيقته الخاصة الخارجة عما ذكره والتحقيق أنه مباين للعالم بأمور كثيرةٍ لا يحصيها العباد غير ما ذكره ولا ينظر إلى من ينازع من أهل العلم في أخص(5/15)
وصف الله الذي به يُمَيَّز هل هو القدرة على الخلق أو هو الاستغناء أو القدم أو أنه ذاته المخصوصة بل كل ما ثبت للرب تعالى من الأسماء والصفات يختص به مثل إنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه أرحم الراحمين وأنه خير الناصرين وأنه إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون وكل هذه الأمور وغيرها من أخص وصفه ليست له صفة يماثله غيره فيها بوجهٍ من الوجوه بل كل صفة لهُ فإنها تختص به وتوجب امتيازه بها عن خلقه ولكن ليس هذا موضعَ ذكر ذلك فإن مباينة الله لخلقه بالحقيقة مما(5/16)
لا نزاع فيه وكذلك تقدمه على خلقه وإنما المقصود أنه مباينٌ مباينة زائدة على المباينة بالحقيقة وعلى المباينة بالزمان والمخالفة بينه وبين الخلق أتَمُّ من الاختلاف بين الحالِّ وبين المحل وهو قرّر ذلك مع أن هذين يتباينان بالحقيقة كما تقدم وإذا كانوا القوم بينوا إنما ذكره من التباين يستلزم التباين بالمكان والزمان لأن هذه يشاركه فيها المحلٍ والحالّ فيه وهذه المباينة لا تمنع أن يكون أحدهما حالاًّ في الآخر فلابد من المباينة بشيء غير ذلك وليس غير ذلك إلا المباينة بالمكان وبالزمان فإذا كانت المباينة بينه وبين خلقه ليست مجرد الحقيقة والزمان وكان قد قرر هذا التباين كان ما ذكره توكيدًا لحجتهم والوجه الثاني أن قوله وأن الباري كما خالف العالم(5/17)
في الحقيقة وفي الزمان وليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الإمكان والحدوث والحاجة فيقال له قولك ليس بحالّ ولا محل سلبٌ محضٌ والأمور السلبية لا تتباين بها الحقائق ولا تختلف ولا تتماثل إلاَّ أن تكون مستلزمة لأمور وجودية لأن المتماثلين ما قام بأحدهما من الأمور الوجودية مثل ما قام بالآخر والخلافين اختص أحدهما بأمور وجودية خالف بها الآخر إذْ عُدِمَ ما به التماثل والاختلافُ مستلزمٌ لعدم التماثل والاختلاف فعدم كونه حالاًّ أو محلاًّ لمْ يستلزم أمرًا وجوديًّا تحصل به مخالفة وقد علم أنه لا يستلزم الاختلاف في الحقيقة وفي الزمان لأن المتماثلين في الحقيقة والزمان قد لا يكون أحدهما حالاًّ في الآخر ولا محلاًّ له كالجسمين المتماثلين(5/18)
وأيضًا فهو قد ذكر أن هذا من المباينة الزائدة على المباينة بالحقيقة والزمان والأمر كذلك وإذا كان كذلك وعدم كونه حالًّ أو محلاًّ هو عدم المحايثة والمباينة فعدم المحايثة مع المباينة بالحقيقة والزمان إذا كان مستلزمًا لأمر وجودي لم يكن إلا المباينة بالجهة وهذا يتقرر بوجهين أحدهما أنه لم تبق مباينة وجودية بعد المباينة بالحقيقة والزمان إلا المباينة بالمكان كما تقدم والثاني أن عدم المحايثة يستلزم المباينة إذْ لا يعقل إلا متحايثان أو متباينان كما تقدم قبل هذا الوجه الثالث قوله فإذا ادّعيتم ثبوت التباين بينهما من غير هذه الوجوه حتى تقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان فهو محل النزاع يقال له هم قالوا التباين بالوجوه الزائدة على الحقيقة والزمان لا تكون إلا بالمكان وقد قرَّروا ذلك لم يقولوا بالتباين من غير هذه الوجوه حتى يقولوا يجب أن يكون ذلك التباين بالمكان بل قولهم إنّ هذا التباين الذي سلّمهُ هو زائد على الحقيقة والزمان وهو مستلزم التباين بالمكان وإذا لم يكن(5/19)
لهم حاجة إلى ثبوت التباين من غير هذه الوجوه التي سلمها تبيَّن أن هذا الجواب فاسد الوجه الرابع أن يقال التباين بين الله سبحانه وتعالى وبين العالم هو بأكثر مما ذكرتَه فإنه مباين للعالم بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وبأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك من الصفات ومباين للعالم بقرته وعظمته وعلوه وكبريائه وهذه الأمور ليست مباينة بالزمان فإما أنْ يقول هي من التباين بالحقيقة أو لا يقول فإن قال هي من التباين بالحقيقة فيبطل ما ذكره من كون تلك المباينات زائدة على التباين بالحقيقة وإن لم يقل هي من التباين بالحقيقة فقد ثبت تباين زائد على ما ذكره فأحد الأمرين لازم إما زيادة التباين على ما ذكره أو انحصار ما ذكره غير المحايثة في الحقيقة والزمان وقد علم أن التباين يبن الباري والعالم أزيد من التباين بالحقيقة والمحل وزعم أنها بهذه الأمور دون غيرها وقد تبين أن هذه الأمور هي كغيرها فلا يكون ما ذكره من الجواب عن الجواب عن تلك الحجة صحيحًا(5/20)
والوجه الخامس أن قوله وأما الباري تعالى كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالاًّ فيه لا محلاًّ له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري وبين العالم أتم من الاختلاف بين الحالّ وبين المحل يقال له أما عدم المشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة فمرجعُها إلى ثبوت الوجوب وإلى القدم وذلك لا يخرج عن المخالفة بالحقيقة أو الزمان كما تقدم وأما كونه ليس حالاًّ فيه ولا محلاًّ له فيقال له إن أردت بهذا أنه مباين عنه بالجهة والمكان فهو المطلوب وإن أردت بذلك أنه ليس حالاًّ ولا محلاًّ ولا مباينًا بالجهة فهذا غير معقول ولا متصوَّر فإما أن يقول إنه معقول والمنازع مكابر فهم يحلفون بالأيمان المغلظة أن هذا غير معقول لهم وهم أمم عظيمة وفيهم من الصدق والديانة ما يمنع إقدامهم على الكذب ولقد خاطبتُ بهذا طوائف مع ذكائِهم وصحة فطرتهم فلم يكن فيهم من يتصور ذلك أو يعقله وإن ادّعيت أنه معقول لطائفة دون طائفة فهذا لا يستقيم عندك لاشتراك الناس في المعقولات وإن قيل إن ذلك لاختصاص بعضهم زيادة ذكاء أو فطنة(5/21)
فمعلوم أَنَّ هذا لا يختص به أهل هذا القول دون ذاك بل الاستقراء يدل على أن المنازعين له أكملُ عقولاً وأَحَدُّ أذهانًا وأوضحُ إدراكًا وأقَلُّ تناقضًا وأقل ما يمكن أن تقابل دعواه بمثلها الوجه السادس أن يقال هَبْ أن هذا معقول وأنه ممكن إمكانًا ذهنيًّا فما الدليل على أنه ليس بحالّ في محل ولا محايثًا للعالم إذا قلت إنه ليس بخارج العالم فإن المنازع لك يقول نفيُ كونهِ محايثًا للعالم إنما علم بأنه مباين للعالم بالجهة فإذا قُدِّر أنه غير مباين للعالم إلا بالحقيقة والزمان دون الجهة فهذا القدر لا يمنع أن يكون حالاًّ في العالم أو محلاًّ له كالجوهر مع عرضه فإن تباينهما بالحقيقة والزمان لا يمنع ذلك من تحايثهما فلابد لك من دليل يبين عدم محايثة العالم إذا ثبت مباينته بالجهة وأنت لم تذكر على ذلك حجة حتى يتم ما ذكرته(5/22)
من المباينة فإن قلت المنازع يُسَلِّم لي ذلك فهو إنما يُسَلِّم عدم المحايثة التي هي المباينة بالجهة فأَمَّا نفي المحايثة من غير مباينة بالجهة فهذا عند المنازع غير معقول ولا هو حقًّا عنده فهو لا يُسَلِّمُ لك عدم المحايثة على هذا التقدير ولم تذكر عليها حجة فلا يكون ما ذكرتَه من المباينة ثابتًا بحجة ولا تسليم فلا يصح في النظر ولا المناظرة الوجه السابع أن يقال هذا الموضع من أصعب المواضع على الجهمية فإنهم لما نَفَوا مباينته للعالم بالجهة ذهبَ بعضهم إلى عدم محايثته أيضًا كما ذكره هذا وهو المشهور من قول(5/23)
متكلميهم وذهب بعضهم إلى محايثته للعالم وأنه بكل مكان وهو قول كثير من عبادهم وبعض متكلميهم فتعارض كل طائفة بقول الأخرى فإن قال مثبتو المحايثة للعالم لا أَعقلُ موجودًا لا داخل العالم أو خارجه وليس بخارجه فيكون داخله وهذا معنى حجة طائفة من الجهمية الاتحادية ونحوهم يقال له إذا لم تعقل موجودًا إلا كذلك دلَّ على أنه إمّا خارج العالم وإمّا داخله لا يتعين أن يكون داخله وكونه ليس بخارج العالم إنما ثبت بهذه الحجة ونحوها فإذا كنت طاعنًا فيها كطعن أهل الإثبات بطل أصل قولك ولم يكن لك بعد هذا أن تنفي كونه خارج العالم وأمّا نافي المحايثة للعالم مثل الرازي ونحوه فقد احتجوا على كونه ليس بحالٍّ في محل بما ذكره الرازي في نهايته فقال المسألة الثالثة في أنه لا يمكن أن يكون حالا في محل ولنا فيه مسالك ثلاثة الأول لو حل في محل لكان إما أن يحلّ في أكثر من حيز واحد أو يحل في حيز(5/24)
واحد وساق الحجة مختصرة ومضمونها أن الأول يستلزم أن يكون منقسمًا أو يكون الواحد في حيزين والثاني يستلزم أن يكون بقدر الجوهر الفرد وقد تقدم الكلام على هذه الحجة بعينها في نفي التحيز المسلك الثاني لوحَلَّ في جسم فإمّا أن يقال إنّهُ أبدًا كان حالاًّ فيه فيلزم إمَّا قِدَمَ المحل أو حدوثه تعالى وهما باطلان أو يقال حلَّ بعد أن لم يكن حالاًّ فيه وحينئذٍ إما أن يكون واجبًا فذاك الوجوب وإما أن(5/25)
يكون للمحل أو للحال أو الثالث والأول باطل لأن الأجسام متساوية في الماهية وجميع اللوازم على ما مرَّ فلو اقتضى شيء منها حلولِ الله فيه لاقتضى الآخر مثل ذلك فيلزم أن يحل الباري في كلها فيلزم إمّا انقسام ذاته أو حلول الواحد في أكثر من محل وأنهما محلان والثاني باطل أيضًا لأن اقتضاءِهُ للحلول إنْ لم يكن بشرط حدوث المحل كان حالاًّ في المحل قبل حدوث المحل وهذا محال وإن كان بشرط حدوثه فعند حدوث الجواهر الكثيرة لم يكن بأن يحل في واحدٍ منها أولى بأن يحل في غيره فيعاد المحال المذكور والثالث أيضًا باطل لأن ذلك الثالث إن كان(5/26)
لازمًا للحالّ أو المحل عادت المحالات وإن لم يكن لازمًا لها فهو إمّا موجب وإمّا مختار والموجب لابد وأن يكون لا جسمًا ولا جسمانيًّا وإلاَّ فليس اختصاصه بهذا الاقتضاء أولى من الاختصاص بسائر الأجسام بل يكون الجسم الذي(5/27)
هو محل أولى بذلك ويعود المحال وإن لم يكن ذلك الموجب جسمًا ولا جسمانيًّا فليس بأن يقتضي حلول الله في بعض الجواهر أولى من أن يقتضي حلوله في غيره فيلزم أن يحل في كل الجواهر فيعود المحال وأما إن كان مختارًا فذلك المختار لابد وأن يفعل فعلاً وإلاّ لما افترق الحالُّ بين ما قبل الحلول وبين ما بعده وذلك الفعل لابد وأن يكون هو الحلول أو ما يقتضي الحلول لكن حلول الشيء في غيره ليس أمرًا وجوديًّا حتى يصح أن يجعل أثرًا للفاعل أو موجبًا لأن حلول الشيء في الشيء لو كان صفة موجودة لكانت تلك الصفة أيضًا حالة في الشيء الذي صار حالاًّ فيه فيكون حلول الحلول زائدًا عليه ولزم التسلسل(5/28)
فثبت أن القول بحلول الله في غيره يفضي إلى أقسام عدة فيكون القول به فاسدًا فليس في النسخة ذكر القسم الآخر وهو أن يكون جائزًا فلا أدري هل سقط من النسخة أم من التصنيف ولكنما ذكره يدل على نظيره وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام وقد تقدم بيان فساده من وجوه كثيرة ومبنية على امتناع ما سماه انقسامًا وقد تقدم أيضًا بيان فساده وقوله عند حدوث الجواهر الكبيرة لم يكن بأن يحلَّ في واحدٍ منها أولى من أن يحل في غيره فهذا مبني على تماثل الأجسام وقد تقدم وبتقدير تماثلها فهو مبني على أن الرَّبَّ لا يخصّ أحد المثلين بشيء لمجرد مشيئته وهذا خلاف أصله وأيضًا فإن تخصيص بعض الأجسام ببعض الصفات أمر موجود فإن كان هذا قبل عدم تماثلها وإن كان(5/29)
التخصيص بعد التماثل فقد ثبت جواز تخصيص أحد المثلين بما يحل فيه وعلى التقديرين يبطل ما ذكره من القسم الثاني وكذلك ما ذكره في القسم الثالث من أنه ليس اقتضاء المقتضي الثالث للحلول في بعض بأولى من الحلول في بعض يَرِدُ عليه هذه الوجوه الثلاثة وما ذكره من التخصيص باختيار المختار من أن المختار لابد وأنْ يفعل فعلاً والحلول ليس بأمر وجودي فهو أبطل من غيره فإن هذا لو صح لم يمتنع عليه في الحلول في غيره فإنه لا يمتنع عليه أن يكون بينه وبين المخلوقات تعلقات غير وجودية وأيضًا لو صح ذلك لكان التحيُّز والعلو على العرش(5/30)
ونحو ذلك أمورًا عدمية وبطل نفي ذلك عنه لأن وصفه بالسلوب متفق عليه بين العالمين وأيضًا فلو كان كذلك أمرًا عدميًّا لكان نقيضه وجوديًّا لم يصح أن يكون صفة للمعدوم ومن المعلوم أن المعدوم يوصف بأنه ليس حالاًّ في غيره وليس غيره حالاًّ فيه وذلك يمنع أن يكون سبب الحلول وجوديًّا ويقتضي أن الحلول وجودي وأما قوله لو كان وجوديًّا لكانت الصفة حالة في الشيء ولكان للحلول حلول وهو يقتضي التسلسل فيقال الأول هو حلول الشيء القائم بنفسه بغيره والثاني حلول الصفة بالموصوف فهذا من باب حلول الأجسام في محالها وهذا من باب حلول الأعراض في الأجسام وأحد النوعين مخالف للآخر وذلك لا يقتضي أن يكون لحلول الصفة بالموصوف حلول فيها لأن العرض لا يقوم بالعرض(5/31)
ثم قال المسلك الثالث وهو أنه تعالى إن كان محتاجًا إلى ذلك المحل كان ممكنًا لذاته ولكان ذلك المحل غنيًّا عنه فكان واجبًا لذاته أو لشيء آخر غيره فيلزم وجود موجودين واجبي الوجود وهو محال وإن لم يكن محتاجًا إلى ذلك المحل كان غنيّاً عنه والغنى بذاته عن المحل يستحيل أن يعرض له(5/32)
ما يحوجهُ إلى المحل لأن العَرَضيات لا تزيل الصفات الذاتية قال وفي هذا المسلك مباحث وهو أعم من المسلكين السالفين لأنهما ينفيان حلول الله في الجسم وهذا المسلك ينفي حلوله في المحل سواء كان ذلك المحل جسمًا أو غير جسم قلت وهذا المسلك إن دلَّ فإنما يدل على أنه لا يحل في محل على طريق الحاجة إليه وأما الحلول على غير طريق الحاجة فلا ينفيه هذا المسلك فكيف وليس بمستقيم فإنَّ قوله ولكان ذلك المحل غنيًّا عنه ليس بلازم إذ الممكن لن يكون وجودهُ مستلزمًا لمحل يكون ذلك المحل محتاجًا إليه وواجبًا به لا بنفسه فلا يكون فيما يسميه حاجة إلى ذلك المحل ما ينافي وجوبه بنفسه لأن الحاجة هنا معناها الملازمة كما يقوله في صفاته اللازمة وأيضًا فهو قد قدح في الحجة المانعة من وجود واجبين وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطًا وأن لهذا الكلام(5/33)
ثلاثة أوجه أحدها أن يكون ذلك المحل داخلاً في صفات الرب كما تقدم بيان ذلك في لفظ الحيّز إذ أريد به نهاية المتحيز لكن قد يقال لفظ المحل أخص من الحيز والنزاع في كونه في المحل لا يعني به هذا الثاني أنه يراد بالمحل ما أراده هو بالحيّز المنفصل عنه وقد زعم هو في موضع أنه وجودي والتحقيق أنه عدمي الوجه الثالث أنه لو قدّر أنه وجودي فالمقصود هنا أنَّ استلزام ذاته لذلك المحل لا ينافي وجوبه لذاته ولا يقتضي أنه ممكن مفتقِر إليه فإن المتفلسفة القائلين بان ذاته تستلزمُ لوجودِ العالم يعلمون أن ذلك لا ينافي وجوب وجوده بنفسه فهذا أولى وإن كان انتفاءُ هذا المحل معلومًا بأدلة أخرى عقلية أو سمعية لكن المقصود بيان أنما ذكره ليس بدليل وإذا تبين أنهم ليس لهم حجة صحيحة تنفي حلوله في المحل إذا قالوا ليس مباينًا للعالم بالجهة كان قولهم حينئذٍ ليس هو حالًّ في العالم ولا العالم محلاًّ له إذا لم يقولوا بكونه مباينًا للعالم قولاً بلا علم ولا حجة فلا يكون مقبولاً(5/34)
وكذلك يقتضي أنهم لا يثبتون له من المباينة قدرًا زائدًا على المباينة بالحقيقة والزمان وأن كل من قال أنه ليس بخارج العالم لم يثبت مباينة زائدة على المباينة التي يشاركها فيها المحل والحالّ فيه وهذا معلوم الفساد بالضرورة كما تقدم الوجه الثامن أن إخوانهم الجهمية الموافقين لهم على نفي كونه خارج العالم إذا قالوا لهم هو في كل مكان وحالٌّ فيه كل مكان لم يمكنهم نفي ذلك عنه بهذه الحجج كما تقدم وأولئك إذا قالوا هو في كل مكان لم يمكنهم الاحتجاج على ذلك بما نَفَى كونه خارج العالم وكان قول طائفة من الطائفتين مانعًا من صحة قول الآخرين وذلك يقتضي بطلان قول الطائفتين وبطلانهما جميعًا يوجب أن يكون خَارجَ العالم وإيضاح ذلك أن من يقول هو في كل مكان يجعله مقدرًا محدودًا قدر العالم فجميع ما يحتج به على نفي كونه فوق العرش ينفي أن يكون بكل مكان بطريق الأولى والأحرى لأن في هذا القول من وصفه بالصفات الممتنعة عليه وتجويز النقائص عليه وقبوله للزيادة والنقصان وغير ذلك ما ليس في كونه خارج العالم ومن قال إنه ليس داخل العالم ولا خارجه إما أن يثبت مباينتهُ للعالم بقدرٍ زائدٍ على المباينة بالحقيقة(5/35)
والزمان أو لا يثبته فإن أثبت المباينة الزائدة وَجَبَ أن يكون مباينًا للمكان وإن لم يثبتها لم يمكنه نفي حلوله في العالم مع مباينته بالحقيقة والزمان إذ لا يكون له حجة على نفي حلوله في العالم كما تقدم وهذا باطل ومَا استلزمَ الباطل فهو باطل وإن قال هو داخل العالم وهو خارجه أيضًا كما يقوله بعض الناس فإنه يَرِدُ عليه كل ما يُورَدُ على من قال هو خارج العالم سواء قال هو جسمٌ مع ذلك أو ليس بجسمٍ فقد تبين أن من قال إن الله ليس خارج العالم يلزمه أن لا يكون الله مباينًا للعالم منفصلاً عنه وهذا اطل عند المنازع ونحوه ومن التزمهُ وقال بالحلول كان ما يلزمه من الفساد والتناقص أكثر ممَّا يلزمه خصمه فيكون قول من أبطل الباطل وإبطال قول هؤلاء زيادة زدناها إذ هو لم يتعرض لذلك هنا وإنما أفرد له مسألة ولهذا كان الأئمة كابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق(5/36)
ابن إبراهيم وغيرهم يقولون إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ويقولون بحدٍّ لأن نفي المباينة لخلقه يستلزم حلولَهُ فيهم واتحادَهُ بهم(5/37)
وأما نفي المباينة ونفي المحايثة فإنه جمع بين النقيضين من جنس كلام الملاحدة الذين يقولون ليس بعالم ولا جاهل ولا فادر ولا عاجز إذ كلام هؤلاء النفاة كله من وادٍ واحدٍ هو الإلحاد في أسماء الله وآياته بالقرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه وبالسفسطة في العقليات بدعوى عدم النقيضين أو(5/38)
دعوى اجتماعهما لكن فيهم من يلحد في أمور يقر الآخر بإثباتها وإلا فَيَنْفي علوه على العرش فقول القائل ليس داخل العالم ولا خارجه هو مثل نفي علمه وقدرته بقول القائل لا عالم ولا جاهل ولا عاجز كل هذا من بابٍ واحدٍ ومن لم يثبت أنه عالم قادر لزمه أن يكون جاهلاً عاجزًا كما أن من لم يثبت أنه فوق العالم لزمه أن يكون حالاًّ في العالم وكونه حالاًّ في العالم هو من صفات النقص كوصفه بعدم العلم والقدرة الوجه التاسع أن الجهمية بعد اشتراكهم في أن الله ليس فوق العرش وأنه ليس خارج العالم اختلفوا فقالوا مايمكن أن يخطر بالبال من الأقوال والممكن أن يقال إمّا أن يكون في كل مكان أو هو جسمٌ بقدر العالم أو هو جسم فاضل عن العالم متناهٍ أو هو في كل مكان وليس بجسم أو يقال إنه في كل مكان بذاته وهو مع ذلك فوق العرش وليس بجسم أو يقال ليس لمساحته نهاية ولا غاية وهو ذاهب في الجهات الست وليس بجسم أو يقال هو مع ذلك جسمٌ أو يقال ليس داخل العالم ولا خارجه وهذه الأقوال قد ذكرها أرباب المقالات كما تقدم ذلك(5/39)
وإذا كان كذلك فهؤلاء الذين يقولون هو في كل مكان بذاته وليس مع ذلك خارج العالم أو هو مع ذلك خارج العالم ببعدٍ متناهٍ أو أنه لا نهاية له سواء قالوا هو جسم أو قالوا ليس بجسم أو قالوا ليس داخل العالم ولا خارجه فهذه الأقوال السبعة يقابل بعضها بعضًا كما تراه وهم كما قال الإمام أحمد مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب وهم مع ذلك لابد أن يقولوا هو مخالف للعالم في حقيقته ليست حقيقته مثل حقيقة العالم كما تقدم وأنه متقدم عليه أيضًا فهم يثبتون المباينة بالحقيقة والزمان وأما المباينة بالجهة فلا يثبتها أحدٌ منهم لكن منهم(5/40)
من ينفي المحايثة ومنهم من لا ينفيها بل يثبت المحايثة للعالم فمَن نفى المحايثة للعالم لزمه أن يثبت المباينة بالجهة وإلاّ جَمَعَ بين النقيضين ولم يمكن أن ينفي المحايثة مع نفي المباينة بالجهة كما تقدم ومن أثبت المحايثة لم يجعله مباينًا للعالم بالجهة بل غايته أن يجعل مباينته للعالم بالحقيقة والزمان وهذه المباينة تَثْبُتُ للجوهر مع عرضه ونحن نعلم بالاضطرار أن مباينة الله للمخلوق أعظم من مباينة المخلوق بعضه لبعض ومن مباينة الجوهر للعرض فكل من هؤلاء لابد أن يجحد الضرورة العقلية الوجه العاشر أن هؤلاء جميعًا فَرُّوا بزعمهم من التشبيه ومن المعلوم أن هذا فيه من تشبيههم إيّاه بكل شيء من الجواهر والأجسام بل ومن المعدومات ما ليس في قول أهل الفطرة والشرعة فإن نفي المباينة والمحايثة صفة للمعدوم والقول بالمحايثة تمثيل له بكل جوهر فإن أحدهما محايث للآخر مع مباينته له الحقيقة والزمان على أن فيهم من يجعل الأشياء حالّة فيه ومنهم من يجعله حالاًّ فيها فيكون هؤلاء مثَّلوه بالجواهر وهؤلاء مثلوه بالأعراض(5/41)
الوجه الحادي عشر أنه قد ثبت بالشرع والعقل أن الله سبحانه ليس كمثله شيء وأن حقيقته لا تماثلها حقيقة وذلك أنه لو كان له مثْلٌ والمِثْلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر لوَجَبَ للمخلوق ما يجب له من الوجوب والقدم والخلق وسائر خصائص الربوبية ولجاز عليه ما يجوز على المخلوق من العدم والحاجة والحدوث وسائر صفات النقص ولامتنع على المخلوق ما يمتنع عليه من العدم ونحو ذلك وذلك يستلزم أن يكون الشيء موجودًا معدومًا قديمًا محدثًا خالقًا مخلوقًا واجبًا ممكنًا إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن عَدَمَ مماثلته لشيء من المخلوقات أعظم من عدم مماثلة المخلوق للمخلوق إذْ المخلوقات تشترك في كثير مما يجوز ويجب ويمتنع عليها(5/42)
وإذا كان عدمه مماثلته للعالم أعظم فالمباينة والمخالفة ونحوها تتبع عدم المماثلة فكلما كان الشيء عن مماثلة الشيء أبعد كانت مباينته له ومخالفته له أعظم وذلك يوجب أن تكون مباينته له أعظم من مباينته كل جوهر وكل عرض لكل جوهرٍ ولكل عرض فإذا لم يكن مباينًا إلا بالحقيقة والزمان لم يكن كذلك فعلم أن ذلك باطل الوجه الثاني عشر أن يقال لو كان لا يباين العالم إلا بالحقيقة والزمان وهذه المباينة يشاركه فيها الجواهر وما يقوم بها من الأعراض لم يكن لمباينته للعالم قدر زائد على مباينة الجوهر للعرض وإذا انتفت المباينة الزائدة ثبتت المماثلة والمشابهة في المباينة فإن الشيئين إذا كان كل منهما لا يباين ما يباينه إلا بالحقيقة والزمان كان نسبة كل منهما إلى ما يباينه كنسبة الآخر إلى ما يباينه فتكون نسبته إلى العالم كنسبة كل من الجواهر والأعراض المخلوقة إلى الآخر أكثر ما يقال إن حقيقته أكثر مباينة لحقيقة غيره من الجوهر للعرض والعرض للعرض كما أن تقدمه للعالم أعظم من تقدم بعض العالم لبعض لكن بكل حال إذا كانت مباينته من جنس المباينة بالحقيقة والزمان لم يخرج عما يجوز على هذا(5/43)
الجنس كما أنه موجودًا وقائمًا بنفسه لم يخرج عما يجوز على جنس الموجود والقائم بنفسه فإذا كان المَوْجود والقائم بنفسه لا يكون إلا واجبًا أو ممكنًا ولا يكون إلا قديمًا أو محدثًا لم يُخرج عن أحد القسمين وإذا كان التباين بالحقيقة أو الزمان لا يخرج عن أن يكون محلاًّ لحالٍّ يقوم به أو حالاًّ في محل والحالُّ مفتقر إلى محله والمحل لا يوجد بدون وجود الحالِّ فيه إذ العرض مفتقر إلى الجوهر والجوهر مستلزم للعرض وقد يقال هو محتاج إليه أيضًا لزِمَ إذا جُعل حالاًّ في العالم أن يكون مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه لا يقوم وجوده إلا بالعالم مع أن العالم قائم بنفسه بدونه وهذا يقتضي أن يكون العالم غنيًّا عن الله تعالى والله مفتقر إليه وأن يكون هو إلى العالم أحوج من العالم إليه أو أن يكون كل منهما محتاجًا إلى الآخر وهذا قد صرح به الاتحادية كصاحب الفصوص وقال(5/44)
بأن العالم والحق كل منهما محتاج إلى الآخر ونحو ذلك مما قد ذكرناه في غير هذا الموضع ويقول إن أعيان العالم هي ثابتة في العدم مستغنية عن الحق وأن وجود الحق ظهر فيها وهذا من جنس حلوله في تلك الأعيان لكن هما متحدان لا يتميز الحالّ عن المحل ولهذا يقول بنوعِ الحلول وبنوعٍ من الاتحاد وهو في ذلك متناقض كتناقض النصارى في(5/45)
الحلول والاتحاد الخاص بالمسيح وذلك لأنه يجعل الثبوت غير الوجود كما يقوله من يقول المعدوم شيء وهذا باطل وإن كان محققو هؤلاء لا يرضون بالحلول الذي يقتضي اثنين حالاًّ ومحلاًّ بل عندهم ما ثم إلا وجود واحد ومنهم من يقول هو الوجود المطلق وإن كان المطلق لا وجود له في الخارج إلا معينًا مخصَّصًا فيكون هو وجود المخلوقات بعينه ومنهم من يصرح بذلك فيقول هو عين الموجودات لا يفرق بين ثبوت ووجود ولا بين مطلق ومعين فهؤلاء يجعلونه نفس المخلوقات فالحلول والاتحاد المطلق يشبه الحلول والاتحاد المعين وكما أن النصارى في المسيح منهم من يقول الّلاهوت والنّاسوت جوهر واحد وصفة واحدة كاليعقوبية القائلين(5/46)
بأن الّلاهوت والنّاسوت اتحدا كاتحاد الماء واللبن وبأن نفس المصلوب المُسَمَّر هو خالق العالم ومنهم من يقول بالحلول كحلول الماء في الظرف كالنسطورية القائلين بأنهما جوهران وطبيعتان وأقنومان ومنهم من يقول بالحلول من وجهٍ وبالاتحاد من وجه كالملكانية الذين يقولون كالنار في الحديدة فهؤلاء الذين يقولون بالحلول والاتحاد المطلق في المخلوقات جميعها من الجهمية قولهم ذلك شر من مقالة النصارى في الاتحاد فإن قولهم من جنس قول المشركين والمعطلين وهم شر حالٍ من النصارى وذلك من وجهين(5/47)
أحدهما أن النصارى قالوا بالاتحاد والحلول في شخصٍ واحدٍ وهؤلاء قالوا إنه في العالم كُلِّه حتى ذكروا عن صاحب الفصوص أنه قال النصارى ما كفروا إلا لأنهم خصصوا وقال ذلك التلمساني وغيره من شيوخهم وقد صرح في غير موضع بأن المشركين عباد الأوثان إنما أخطأوا من حيث عبادة بعض الأشياء دون البعض والمحقق عندهم من يعبد كل شيء ويرى كل شيء عابدًا للحق ومعبودًا له وكل من عبد شيئًا غير الله عنده فما عبد إلا الله وهذا يجمع كل شرك في العالم مع قوله إن الشريك هو الله كما زعمت النصارى أن الله هو المسيح ابن مريم ولهذا كثيرًا ما يصرح شيوخ الجهمية بأن الله في العالم كالزبد في اللبن وهذا قول اليعقوبية في المسيح وقد قالوا في مجموع الوجود ما يقوله النصارى في المسيح الوجه الثاني أنَّ النصارى يقولون بأنَّ الاتحاد والحلول فعل من أفعال الرب وأن اللاهوت اتحد بالناسوت مرة وانفصل عنه أخرى وهؤلاء عندهم ما يتصور أن يتميز وجود الحق عن المخلوقات ولا يباينها ولا ينفصل عنها وهؤلاء الاتحادية(5/48)
هم أكفر وأضل ممن يقول إن الله تعالى بذاته في كل مكان ونحو ذلك من المقالات الشنيعة المتقدمة ولكنْ هم مشاركون لهم في أصل المقالة وزائدون عليهم في الضلالة والمقصود هنا التنبيه على أن أولئك الجهمية الذين لا يثبتون المباينة يضطرون إلى أن يجعلوا الرب مفتقرًا إلى العالم إذا جعلوه حالاًّ فيه مع استغناء العالم عنه وإن جعلوه محلاًّ لهُ مع أن ذاته لا تباين ذات العالم بل تحايثه كما هو قولهم فإنهم يقولون بأنه لا وجود للرب إلا بوجود العالم ولا يمكن وجود الرب بدون وجود العالم كما لا يمكن وجود المحل الذي هو الجوهر أو الهَيولى بدون ما يحل فيه من الأعراض أو الصورة فيكون العالم مقومًا لوجود الرب والرب محتاج إليه أيضًا وهو أعظم من قدم جميع العالم الوجه الثالث عشر أن هؤلاء الجهمية يقولون إنه لا تَحُلُّهّ الصفات ولا تقوم به فإنه إذا قامت به الصفات والأعراض كان(5/49)
محتاجًا إليها وكانت مقاومة له ومنافية لوحدته ووجوب وجوده وقدمه فإذا قال منهم طائفة بأن المخلوقات كلها تحلّهُ وتقوم به كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلال في الاختلاف والتناقض أعظم من أن يوصف وكذلك قالوا إنه لا يكون فوق العرش لئلا يكون حالاًّ بغيره وقائمًا بغيره وكائنًا في كل مكان ونحو ذلك مع أنه متميز عن العرش منفصل عنه فإذا قالوا إنه حالٌّ في المخلوقات مختلط بالقاذورات كان هذا مع ما فيه من الكفر والضلالات من أعظم المتناقضات والمقصود أنَّ هؤلاء الجهمية لا يفرون من شيء من الحق لما يظنونه شبهة إلا وقعوا في أضعاف مضاعفة من الباطل التي يلزمها ذلك المحذور عندهم فهم دائمًا متناقضون فإن كل من نفى عن الله أن يكون فوق العرش لابد أن يحتج بحجة تقتضي السلب والنفي فهو مع قوله بالمحايثة أو قوله بالمباينة بلا محايثة يكون مثبتًا لكل ما سَلَبَهُ ولأَضعافهِ أو يلزمه ذلك فلم يستفيدوا إلا التناقض في المقال وجَحَدوا الخالق وهذا من أعظم الضلال ونفس تناقض القولين يقتضي فساده فكيف بما زاد على ذلك فإنهم إذا قالوا الوجود الواجب لا يكون إلا واحدًا ليس هو(5/50)
صفة ولا قدرة ونحو ذلك مما أصل قولهم يقتضيه فكل ما يقولونه بعد ذلك من كونه بكل مكان أو كونه داخل العالم وخارجه أو كونه هو الوجود القائم بالكائنات ونحو ذلك مما يناقض هذا فإن المحايث لجواهر العالم وأعراضه يجب أن يوصف بما توصف به الجواهر والأعراض من التركيب والانقسام وغير ذلك وإنْ لم يوصف بذلك مع قولهم بالمحايثة له كان هذا مع فساده في ضرورة العقل ناقضًا لجميع أصولهم فإنهم إذا جعلوا ذاتين متحايثتين وجعلوا إحداهما منقسمة ومركبة وغير ذلك دون الأخرى وجعلوا الواحد الذي لا تركيب فيه محايثًا لكل تركيب كان هذا مفسدًا لكل حجة لهم وقولهم إنه غير محايث له مع قولهم إنّهُ لا يُباينه إلا بالحقيقة والزمان جمع بين النقيضين حيث جعلوا مباينته غير زائدة على مباينة المحل للحالِّ فيه وقالوا مع ذلك إنه غير مباين بغير هذه المباينة كما تقدم ولولا أن هذا الموضع ليس هو موضع الرد على من يقول هو بذاته في كل مكان إذ المؤسسُ وذووهُ لا يقولون هذا لَكُنَّا نُوَسِّعُ المقال فيه وإنما المقصود هنا قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه وإن كان القولان جميعًا خارجين(5/51)
من مشكاةٍ واحدة وهي التعطيل لكونه فوق العرش فإنهم لما جَحدوا هذا الحق الذي فطر عليه عباده وبعث به رسله وأنزل به كتبه واجتمع عليه المؤمنون به تفرقوا بعد ذلك وفساد أحد القولين مستلزم لفساد أصل القول الآخر وكل من القولين يناقض الآخر وكل منهما لا يمكنه إفساد قول خصمه مع مقامه على قوله فيلزم إما القول بباطل خصمه وإما الرجوع إلى الحق ومتى أبطل قول خصمه إبطالاً محققًا لزم إبطال قوله وأدلة إبطال قول الحلولية والاتحادية الذين يقولون(5/52)
إنه في كل مكان ونحو ذلك كثيرة ليس هذا موضعها وكل آية في القرآن تبين أن لله ما في السموات والأرض وما بينهما ونحو ذلك فإنها تبطل هذا القول فإنَّ السموات والأرض وما بينهما وما فيهما إذا كان الجميع له وملكه ومخلوقه امتنع أن يكون شيء من ذلك ذاته فإن المملوك ليس هو المالك والمربوب ليس هو الرب والمخلوق ليس هو الخالق ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع لا يفرقون بينهما حتى إنه يمتنع عندهم أنه يكون الله رب العالمين كما يمتنع أن يكون ربَ نفسه إذْ ليس العالمون شيئًا خارجًا عن نفسه عندهم وقد قدمنا فيما مضى طرفًا من كلام السلف والأئمة في الرد على هؤلاء مثل الأثر المشهور عن ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه لا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض وقول(5/53)
الإمام أحمد هكذا هو عندنا وروي عن ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية حدثنا الحسن بن علي بن مهران حدثنا بشار بن موسى الخفّاف قال جاء بشر بن الوليد(5/54)
إلى أبي يوسف فقال له تنهاني عن الكلام وبشر المَرِيْسِي وعلي الأحول وفلان يتكلمون فقال وما يقولون قال يقولون الله في كل مكان فبعث أبو يوسف وقال عليَّ بهم فأتوا إليه وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول والشيخ يعني الآخر فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال لو أنّ فيك موضع أدب لأوجعتك فأمر به إلى الحبس وضرب غليًّا الأحول وطوَّف به وقال أيضًا حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي(5/55)
سمعت أبي يقول حُبس رجل في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام بن عبيد الله الرازي ليمتحنه فقال له أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوهُ فإنه لم يتب بعد وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق لما روى حديث ابن عباس ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور فهو فوق ذلك قال من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث إن الله سبحانه فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة(5/56)
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك فقال أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا(5/57)
وقال عثمان بن سعيد الدارمي قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال أيضًا قال أهل السنة إن الله بكماله فوق عرشه يعلم ويسمع من فوق العرش لا يخفي عليه خافية من خلقه لا يحجبهم عنه شيء وقال عثمان ين محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش له ذكروا أن الجهمية يقولون ليس بين الله وبين خلقه حجاب(5/58)
أي يحجبهم عن أن يَرَوه وأنكروا العرش وأن يكون الله فوقه وقالوا إنه في كل مكان إلى أن قال فسرت العلماء وهو معكم يعني بعلمه ثم تواترت الأخبار أن الله خلق العرش فاستوى عليه بذاته فهو فوق العرش بذاته مُتَخَلِّصًا من خلقه بائنًا منهم وقال عمرو بن عثمان المكي رفيق الجنيد في كتاب(5/59)
آداب المريدين والتعرف لأحوال العباد في باب ما يجيء به الشيطان للتائبين من الوسوسة وأما الوجه الثالث الذي يأتي به للتائبين إذا هم امتنعوا عليه واعتصموا بالله فإنه يوسوس لهم في أمر الخالق ليفسد عليهم أصول التوحيد وذكر كلامًا طويلا إلى أن قال هذا من أعظم ما يوسوس به في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل وأن يدخل عليه مقاييس عظمة الرب بقدر عقولهم فهلكوا إن قبلوا وتتضعضع أركانهم إن لم يلجؤوا بذلك إلى العلم وتحقيق المعرفة لله عز وجل من حيث أخبر عن نفسه ووصف به نفسه وما وصفه به رسوله إلى أن قال فهو تعالى القائل أنا لله لا الشجرة الجائي بعد أن لم يكن جائيًا لا أمره المستوي على عرشه بعظمته وجلاله دون كل مكان الذي كلم موسى تكليمًا وأراهُ من آياته عظيمًا فسمع موسى كلام الله الوارث لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته وقدرته خلق آدم بيديه وذكر أشياءً أخر(5/60)
وقال زكريا بن يحيى الساجي إمام البصرة في زمانه وعنه أخذ الأشعري كثيرًا مما أخذه من مذاهب أهل السنة والحديث والفقه قال القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناههم أن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وقال نظيره أبو بكر بن محمد بن إسحاق بن(5/61)
خزيمة رحمه الله مَنء لم يقر بأن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فإنه يُستَتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وأُلقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة وقال أبو عبد الله ابن بطة في الإبانة الكبرى أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه(5/62)
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في الاعتقاد الذي جمعه طريقتنا طريقة السلف المتَّبِعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه أن الله سبحانه لم يزل عالمًا بعلم بصيرًا ببصر سميعًا بسمع متكلمًا بكلامٍ ثم أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامُه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًّا ومحفوظًا ومسموعًا ومكتوبًا وملفوظًا وكلامُ الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة واللفظية من الجهمية وأن مضن قَصَدَ القرآن بوجهٍ من الوجوه(5/63)
يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وأن الجهمي عندهم كافر إلى أن قال وأن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وان الله بائنٌ من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه من دون أرضه وذكر سائر اعتقاد السلف وإجماعهم على ذلك وقال يحيى بن عمار السجستاني في رسالته وفيه(5/64)
لا نقول كما قالت الجهمية أنه مداخل الأمكنة وممازج لكل شيء ور يُعلم أين هو بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] هذا الذي قلناه إن الأمكنة غير خالية من علمه وقدرته وأنه مدرك لها بسمعه وبصره وهو بذاته على العرش سبحانه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال معمر بن زياد شيخ الصوفية في عصر أبي نعيم(5/65)
ويحيى بن عمار أحببتُ أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر أشياء في الوصية إلى أن قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه مستوٍ على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأوَّل فهو مبتدع ضال وقال أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتاب الرسالة في السنة له ويعتقد أصحاب(5/66)
الحديث ويشهدون أن الله فوق سمواته على عرشه كما نطق به كتابه وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سمواته وقال أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد له في باب القول في الاستواء قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان 59] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الفرقان 61] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] أراد فوق السماء كما قال وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] يعني على جذوع النخل وقال فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة 2] يعني على الأرض وكل ما علا فهو سماء والعرش على السموات فمعنى الآية أأمنتم من(5/67)
على العرش كما صرح به سائر الآيات وقال فيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية بأن الله بذاته في كل مكان وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ إنما أراد بعلمه لا بذاته وقال أبو عمر بن عبد البر لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر(5/68)
بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكرهُ عليهم مسلم وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقَّب شيخ الإسلام في كتاب الصفات له باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنًا من خلقه من الكتاب والسنة فذكر رحمه الله دلالات ذلك من الكتاب والسنة إلى أن قال ففي أخبار شتى أن الله تعالى فوق السماء السابعة على العرش بنفسه وهو ينظر كيف يعملون وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان وهذا باب واسع لا يحصيه إلا الله تعالى فإن الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم(5/69)
إلا الله وما من أحد من هؤلاء المذكورين إلا وشهرته في الإسلام بالعلم والدين أعظم من أن يتسع لها هذا الموضع وإن كان بعضهم أفضل من بعض وفي شيء دون شيء وما زالَ علماء السلف يثبتون المباينة ويردُّون قول الجهمية بنفيها مع أن نفيها بالحقيقة أو الزمان لا ينكرهُ أحد وإنما ينكرون المباينة بالجهة ثم هم مضطربون في ثبوت المحايثة وعدمها كما تقدم وإثبات المحايثة أقرب إلى الفطر ابتداءً من نفي المباينة والمحايثة ولهذا كان هذا هو الذي تتظاهر به الجهمية وإنْ كان منهم من يتأَوَّلُ قوله إنه في كل مكان بمعنى علمه وقدرته لكن منهم من يقول إن ذاته في كل مكان وهو قول طوائف من علمائهم وعُبَّادهم حتى قالوا إنه نفس وجود الأمكنة ومعلوم أن في هذا من الفساد أمورًا كثيرة من وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب وما هو منزَّه عنه وقد التزم ذلك جميعه من التزمه من هؤلاء كالاتحادية وقالوا إن من كماله أن يكون هو الموصوف بكل مدح وذم ولعن وشتم وهو الناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وأمثال ذلك مما هو من أعظم الكفرِ والسَبِّ والشتم والإلحاد والمحادةِ لرب العالمين فكان السلف(5/70)
يحتجون على الجهمية بما يلزم قولهم من كونه مخالطًا للأجسام المذمومة من النجاسات والشياطين وقد أخذ هذه الحجة عنهم من اتبعهم في ذلك من متكلمة الصفاتية ونحوهم كما ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في غير موضع من كتبه قال فإنْ قال قائل فهل تقولون إن الله في كل مكان قيل له معاذ الله بل مستوٍ على العرش كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10](5/71)
وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] وذكر آيات أخر إلى أن قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولَوَجَبَ أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان ولَصَحَّ أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وشمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله فذكر بعد ما ذكر من النصوص ثلاث حججٍ قياسيةٍ عقليةٍ(5/72)
أحدها أن ذلك يستلزم أن يكون في الأمكنة والأجسام القبيحة المذمومة كالحشوش وأن يكون في جوف الإنسان وفمه وهذا مما يعلم الإنسان بفطرته وبديهة عقله أن الله سبحانه منزه عنه يعلم بضرورة حسه وعقله أن الله ليس في جوفه وان ذاته لا تصلح أن تلاصق النجاسات والأجواف بل ملائكته عليهم السلام مثل جبريل ونحوه قد نزَّههم أن يدخلوا بيتًا فيه كلب أو جنب وإنَّما يحضر الحشوش الشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه الحُشُوشَ محْتَضَرَةٌ(5/73)
والحجة الثانية أنه كان يجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا زِيد فيها بالخلق وينقص بنقصانها إذا نقص منها وهذا على قول من يقول منهم إنه في كل مكان لا يفضل عن العالم فإن الأمكنة إذا زادت زاد وإذا نقصت نقص بالضرورة والحجة الثالثة أن ذلك يوجب دعاءَهُ والرغبةَ إليه إلى جهة السفل واليمين والشمال وذلك مخالف لإجماع المسلمين لأن الرغبة هي إليه نفسه حيث كان فإذا كان في الأرض كما هو فوق العرش كانت الرغبة إليه هنا كالرغبة إليه هناك والأشعري قبله قد احتج في كتاب الإبانة المشهور بهذا التنزيه فاحتج بانزيهه عن أن يكون مستويًا على الأقذار على(5/74)
منع أن يكون الاستواء هو الاستيلاء واحتج على نفي كونه في كل مكان بتنزيهه عن أن يكون في النجاسات وقال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء على العرش إلى معنى القدرة ولو كان هذا كما قالوه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى لأن الله عز وجل قادر على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم فالله قادر عليه فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء لكان الله مستويًا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأنتان والأقذار لأن الله سبحانه وتعالى قادر على الأشياء كلها(5/75)
ولما لم نجد أحدًا من المسلمين يقول إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها وَوَجَبَ أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء قال وزعمت المعتزلة والجهمية والحرورية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أن يكون في بطن مريم وفي الحشوش تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًّا ويقال لهم إذا لم يكن الله مستويًا على العرش بمعنى يختص به العرش دون غيره كما قال ذلك نقلة الآثار وكان الله في كل مكان فهو سبحانه تحت الأرض والأرض فوقه والسماء فوق الأرض وفي هذا ما يلزمهم أن الله تحت التحت والأشياء فوقه وهو عز وجل فوق الفوق والأشياء كلها تحته وهذا يوجب أنه فوق ما تحته وتحت ما فوقه وهو المحال الفاسد المتناقض تعالى الله ربنا جَلَّ جلالَهُ عن ذلك(5/76)
علوًّا كبيرًا فاحتج أبو الحسن بما يعلم بالاضطرار أنه ليس في الأجواف والحشوش وخص بطن مريم بالذكر لأن ذلك مشاركة للنصارى الذين يقولون إنَّ الله حَلَّ في بطن مريم لما تَدرَّعَ اللاّهوت بالنَّاسوت مع أن هذا حين يَقولُهُ علماءُ النصارى لعامتهم تنكره فطرتهم وتدفعه عقولهم لما يجدون في أنفسهم من العلم الضروري بنفي ذلك فإنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على القطرة فأبواهُ يهوِّدانه وينصِّرانه ويُمَجِّسانه فالنصارى مولودون على الفطرة التي تنكر ذلك ولكن الدين الذي وجدوا عليه آباءهم هو الذي أوجَبَ تغيير فطرتهم وهذه حال هؤلاء الجهمية أجمعين فما منهم من أحد إلا حين يذكر(5/77)
قول الجهمية تنكره فطرته وترده ضرورة عقله لكنْ يَتَّبع سادته وكبراءَه في خلاف طاعة الرسول حتى يغيروا فطرته لأجل المذهب الذي وَجَدَ عليه أباهُ وأمَّهُ أو من يجري مجرى ذلك من سيدٍ مالكٍ أو معلمٍ أو نحو ذلك وهم أعني متكلمة الصفاتية أخذوا ما أخذوه من هذه الحجج عن السلف والأئمة وإن كان في كلام السلف والأئمة مالم يَهْتَدِ إليه هؤلاء من التحقيق قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية ومما أنكرت الجهمية الضُّلاَّل أن الله سبحانه على العرش قلنا لِمَ أنكرتم أن الله سبحانه على العرش وقد قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] قالوا هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش(5/78)
فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان وتَلَوْا من القرآن وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] فقلنا عَرَفَ المسلمون أماكنَ ليس فيها من عِظَمِ الرَّبَِ شيء فقلنا أحشاءكم وأجوافَكم وأجوافَ الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عِظَمِ الرب سبحانه وتعالى شيء فهذا الذي ذكره الإمام أحمد مُتضمِّن إجماع المسلمين ويتضمن أن ذلك من المعروف في فِطرتهم التي فُطروا عليها وقوله من عِظَمِ الرَّبِّ كلمةٌ سَديدَة فإنَّ اسمَهُ العظيم يدل على العِظَمِ الذي هو قدره كما بيناه في غير هذا الموضع وذَكَرَ الأحشاش والأجواف لأنَّ علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه إذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من البشر فكيف من يدعيه في البشر كلهم وكذلك ما ذَكَرَهُ من أجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة فإنَّ هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه أن يكون فيها أو ملاصقًا لها أو مماسًّا(5/79)
وتخصيص هذه الأجسام القذرة والأجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه فإن الإمام أحمد ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة وهو المنهج العقلي المستقيم فيستعملون في هذا الباب قياسَ الأولى والأحرى والتنبيه في باب النفي والإثبات فما وجب إثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرَّبُّ أولى بذلك وما وَجَبَ تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق وبهذا جاء القرآن في مثل قوله ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ [الروم 28] وفي مثل قوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً [الزخرف 17] وغير ذلك فإنه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك لأنه نقص وعيب عندهم فإذا كانوا لا يرضَون بهذا الوصف ومثل السوء فكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء بل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوءِ ولله المثلُ الأعلى ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا مثل السوء ولهذا شبَّه الله من ذمه(5/80)
بالحمار تارةً وبالكلب أخرى والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تُسمى أقيسة منطقية وبراهينَ عقلية ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب وهو ما يتضمن نفيًا وإثباتًا بطريق الأولى لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء لا في نفي ولا في إثبات بل ما(5/81)
كان من الإثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره فإنه لا يكون إلا حقًّا متضمنًا مدحًا وثناءً وكمالاً والله أحق به ليس هو فيه مماثلاً لغيره وما كان من النفي الذي يُنْفَى عن الله وعن غيره فإنه لا يكون إلا نفي عيب ونقص والله سبحانه أحق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق فهذهِ الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوق تحت قياس شمولي أو تمثيلٍ يتساويان فيه فهذا من الشرك والعدل بالله وهو من الظلم وهو ضرب الأمثال لله وهو من القياس والكلام الذي ذمَّه السلف وعابوه ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف أنه لا يتكلم في أصول الدين أو لا يتكلم في باب الصفات بالقياس(5/82)
العقلي قط وان ذلك بدعة وهو من الكلام الذي ذمه السلف وكان هذا مما اطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله إما عجزًا أو جهلاً وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين وقال لهم الأولون رَدُّكُم أيضًا علينا بدعة فإن السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم وصار أولئك يقولون عن هؤلاء إنهم ينكرون العقليات وأنهم لا يقولون بالمعقول واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصابئين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولاً يقيسون فيه الحق تارة والباطل أخرى وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان أوجبَ تفرقًا واختلافًا بين الأمة ليس هذا موضعه ودين الإسلام هو الوَسَطُ وهو الحق والعدل وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولاً ولما ينبغي عقله وعلمه ومُنزَّه عن الجهل والضلال والعجز وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلكَ الاستدلال بالفطرة والأقيسةِ العقلية الصحيحة المتضمنة للأَوْلَى(5/83)
وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه وهذا مما علم بالاضطرار من دين(5/84)
الإسلام وهي فُطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيهُ الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له ويتنزه عن النجاسة كان تنزيهُ الرب وتقديسهُ عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحقُّ بالتنزيه عن كل ما يُنزّه عنه غيره وأيضًا فالمعبود أعظم من العابد وهذا معلوم في بدائِهِ العقول لا سيما وهو سبحانه القدوسُ السلامُ والقدوسُ مأخوذ من التقديس وهو التطهير ومنه سُمِّيَ القدوس قدوسًا والجهمية تدعي أنها تقدسهُ بنفي الصفات ويسمون كلامهم(5/85)
تأسيس التقديس ومنهم من يقول بمخالطته للنجاسات والباقون يلتزمون ذلك فهم منجِّسون لا مقدسون
ومِن أنكرِ الأمور في بدائِهِ العقول أن يكون العابد واجبًا عليه التنزيه عن النجاسات التي تخرج منه مع أن المعبود مختلط بها ملاصق لها وإذا كان العلم بأن الرب سبحانه أحق بالتنزيه والتعظيم من العبد والمعبود أحق بذلك من العابد كان هذا القياس وأمثاله من أظهر الأقيسة في بديهة العقول بل قد قال تعالى لخليله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} [الحج 26] فإذا أمر عبده بتطهير بيته الذي يُطافُ به ويصلِّي فيه وإليه ويعكف عنده من النجاسة أَلَمْ يكن هو أحق بالطيب والطهارة والنزاهة من بيته وبدن عبده وثيابه ولهذا كان هؤلاء الاتحادية والحلولية يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة ويصرحون بذلك وهؤلاء من أعظم الناس(5/86)
كفرًا وشتمًا لله وسبًّا لله وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وحصل بما ذكره الأئمة أن هؤلاء الجهمية هم أصل قولهم الذي به يُمَوِّهون على الناس إنما هو التنزيه ويسمون أنفسهم المُنَزِّهون وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله وأقرب الناس إلى تنجيس تقديسه وهذا يظهر بوجوهٍ كثيرةٍ لكن المذكور هنا كونهم يقولون إنه في كل مكان من الأمكنة النجسة القذرة فَأَيُّ تنزيهٍ وتقديسٍ يكون مع جعلهم له في النجاسات والقاذورات والكِلاَبِ والخنازير بل وتصريحهم بذلك حتى حدثني من شَهِدَ أحذقَ محقِّقيهم التلمساني وآخر من(5/87)
طواغيتهم وقد اجتاز بكلب جربٍ ميتٍ فقال ذلك للتلمساني وهذا الكلب أيضًا ذلك فقال أوَ ثَمَّ شيء خارج عن الذات وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية كابن عربي الطائي صاحب الفصوص وغيره وابن سبعين وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني وسعيد(5/88)
الفرغاني إنما يَدَّعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث وإنما هو شهود الحقائق وكشفها ويقولون ثبت عندنا في الكشف ما يناقض(5/89)
صريح العقل ويقولون لمن يُسْلِكُونهُ لابد أن يجمع بين النقيضين وأن يخالف العقل والنقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ويقولون لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات فإنَّ الوجود واحد لكنْ هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ومن شعر هذا التلمساني قبحه الله يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني والوجدُ أصدقُ نهَّاءٍ وأمَّارٍ فإن أُطِعْك وأعصى الوجد عدمت عمي عن العيان إلى أوهام أخبار وعينُ ما أنت تدعوني إليه إذا حقَّقته تره المنهيَّ يا جاري يقول أنت تدعوني إلى أن أعبد الله ولا أعبد غيره وما ثم غيره بل هو الذي تظنه غيرًا وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع(5/90)
أصل ذلك أن علم الإنسان كله إنما يحصل بطريق الإحساس والمشاهدة الباطنة والظاهرة أو بطريق القياس والاعتبار أو بطريق السمع والخبر والكلام كما قال تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36} [الإسراء 36] والعبد الصادق يحصل له من المشاهدة الباطنة ما ينكشف به أمور كانت مغطاةً عنه ويفهم من كلام الله ورسوله والسلف معانيَ يشهدها لم يكن قبل ذلك يشهدها بل يظهر له قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت 53] أي أو لم يكفِ بشهادته وعلمه التي أخبرهم عنها في كتابه وهؤلاء المنافقون المرتدون الزنادقة ومن وقع في بعض ضلالاتهم من الغالطين الضالين هم في الشهود الذي يحصل لهم ويجعلونَهُ من جنس شهود المؤمنين مثل ما هم في المخاطبة التي تقع لهم ويجعلونها من جنس مخاطبة المؤمنين التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد كان في الأمم محدثون فإنْ يكن في أمتي أحدٌ فعمر وقد رواه البخاري في صحيحه من(5/91)
حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري ورواه زكريا ابن أبي زائدة عن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون قال(5/92)
أبو مسعود الدمشقي الصواب من حديث إبراهيم بن سعد عن أبي هريرة كما ذكره البخاري وأما حديث ابن عجلان عن يعد فإنه يقول فيه عن عائشة كذلك رواه عن الناس ولا أعلم أحدًا تابع ابن وهب عن إبراهيم بن سعد في قوله عن عائشة(5/93)
والمخاطبة التي تقع لهؤلاء المنافقين والغالطين والمتشبهين بالمؤمنين هي من الشياطين التي تنزل على أمثالهم من كل أفَّاكٍ أثيم ومن حديث النفس ولهذا يكثرون من الشعر والكهانة التي يقترن بأهلها الشياطين كثيرًا قالوا لابن عمر ولابن عباس إن المختار يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} [الشعراء 221] وقالوا للآخر إنه يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام 121] فلهم وحي وتنزيل ولكن من الشياطين كما تنزل على أشباههم من السحرة والكهان وبينهم قدرٌ مشترك في كثيرٍ من الأمور(5/94)
وأما المشاهدة فإن أحدهم يشهد بباطنه الوجود المطلق الساري في الكون كله الذي لا يختص بشيء دون شيء وهذا شهود صحيح لكن ضلوا في ظنهم أن ذلك هو رب العالمين وأن ما وراءَ السموات والأرض شيءٌ آخر حيث يقولون ما فوق العرش رب ولا فوق العالم إله ويقول أحدهم لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله فكانوا في هذا الشهود والذوق والوجود كما ذكرته لمن خاطبته من أهل المعرفة والتحقيق في بيان الشبهة التي ضل بها هؤلاء ما كثرة ما فيهم من العبادة والصدق في ذلك العلم والفضيلة فقلت هم بمنزلة من شاهد شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس وليس وراء الشعاع شيء آخر أصلاً وجحد أن(5/95)
يكون في الوجود شمس غير ما شهده من الشعاع وهذا مثل بعيد وإلا فالله سبحانه وتعالى أجلُّ وأعلى وأعظم وأكبر من جميع المخلوقات أن يكون نسبته إليها كنسبة الشمس إلى شعاعها ولكن هذا كما تقدم من باب قياس الأولى فإنه إذا كان من شهد شعاع الشمس ووجدَهُ فظن أنها عينُ الشمس وحقيقتها من أعظم الجاهلين الضالين فالذي شهد وجود المخلوقات فاعتقد أن عين وجود رب العالمين هو الأرض والسموات أعظم جهلاً وضلالاً وهؤلاء لم يكن ضلالهم فيما علموه وشهدوه من وجود المخلوقات ولكن في نفي ما لم يشهدوه وأنكروه من وجود رب السموات ثم ضلوا فظنوا وجود المخلوق هو وجود خالق الكائنات فوافقوا فرعون في ذلك النفي وامتازوا عنه بهذا الإثبات وهذا حال عامة الكفار وأهل البدع إنما ضلالهم في التكذيب بما لم يعرفوه من الحق لا بما علموه من الحق لكن يضمُّون إلى ذلك التكذيب ظنونًا كاذبة تنشأ عن الهوى يصدقون لأجلها بالباطل وذِكْرُ الأئمة في الرد على الجهمية ما عَلِمَهُ المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم وتنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضًا مع ما ذكروه من تنُّزهه عن الأنجاس(5/96)
لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله فكلما كان المعلوم مما يحسه الإنسان ويعقله بديهة كان أعلم به لا سيما مع تكرر إحساسه به وعقله له وأيضًا فنبهوا بذلك على ما ذكره الله تعالى من كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وأنّ الله تعالى حل في بطن مريم فإن هذا تكفير لكل من قال في بشرٍ إنه الله بطريق الأولى فمن قال في الوجود كله ذلك أكفر وأكفر ولهذا اجتمع جماعة عظيمة بدمشق في سماع فأنشد فيه القوّال شعرًا لابن إسرائيل وكان شاعرًا من شعراء الفقراء في شعره إيمان وكفر وهدى وضلال وفي شعره كثير من كلام الاتحادية لكن التلمساني وابن الفارض أحذق في الاتحاد منه فأنشد القوّال له وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذايق وكامن هناك شيخ يعرف بالشيخ نجم الدين بن الحكيم صحب الشيخ إسماعيل الكوراني فأنكر ذلك وتلا قوله تعالى(5/97)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة 72] والتفت إلى القوّال وقال له قل وما أنت عينُ الكون بل أنت غيرهُ ويشهد هذا الأمر من هو صادق وهي واقعة مشهورة حدثني بها غير واحد ممن شهدها ولقد أحسن هذا الشيخ التالي لهذه الآية في الرد على هذا الشعر الذي هو من أقوال الملاحدة والاتحادية وأيضًا نبهوا بذلك على ضلال من يقول إنه الله أو أن الله فيه من أهل الاتحاد والحلول الخاص فإن المسلمين يعلمون بضرورة حسهم وعقلهم أن الله ليس في أجوافهم ولا أحشائهم ثم احتج الإمام أحمد بالنصوص فقال وقد أخبرنا الله أنه في السماء فقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الملك 16-17] الآية وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ [الأنبياء 19] وقال يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {50} [النحل 50] وقال ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 3-4] وقال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام(5/98)
61] وقال وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {255} [البقرة 255] وقال فهذا خبرُ الله أخبرنا أنه في السماء ثم احتج بحجة أخرى من الأقيسة العقلية قال ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا قال الله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء 145] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ {29} [فصلت 29] وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءَهُ في أسفل سافلين وذلك مستقرٌ في فطر العباد حتى أن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالربُّ تعالى أحق أن ينزهَ ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفًا بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه بل هو العلي الأعلى بكل وجه ولهذا يروى عن بشر المريسي أنه كان يقول في سجوده سبحان ربي(5/99)
الأسفل وكذلك بلغني عن طائفة من أهل زماننا أن منهم من يقول إن يونس عرج به إلى بطن الحوت كما عرج بمحمد إلى السماء وأنه قال لا تفضلوني على يونس وأراد هذا المعنى وقد بينا كذب هذا الحديث وبطلان التفسير في غير هذا الموضع(5/100)
وهذه الحجة التي احتج بها الأئمة أجود من حجة التناقض التي احتج بها أبو الحسن فإنه يرد على تلك الأسولة ما لم يرد على هذه حيث يمكن أن يقال هو يجمع بين ما يتناقض(5/101)
في حق غيره كما قيل لأبي سعيد الخراز بماذا عرفت ربك قال بالجمع بين النقيضين ثم تلا قوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {3} وأما هذا القياس قياس الأول ووجوب تنزيه الرب عن كل نقص ينزه عنه غيره ويذم به سواه فهذا فطري ضروري متفق عليه ثم ذكر أحمد حجة أخرى عقلية قياسية قال وقلنا لهم أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان ومكان الشياطين مكانهم مكان فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد(5/102)
وهذا التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الأحياء نظيرُ التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات ولهذا نهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش وأعطان الإبل ونحو ذلك وإن كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء بل أرواث الإبل طاهرة بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه ذكر أن الكلب(5/103)
يقطع الصلاة وخصَّه في الحديث الصحيح بالأسود وقال إنه شيطان لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود فقال الأسود شيطان وفي الصحيح عنه أنه قال إن الشيطان تفلت علي البارحة فأراد أن يقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فذعته ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة المار بين يدي المصلي وقال إن معه القرين فأما مرور(5/104)
الإنسي فقد قال ابن مسعود إنه يذهب بنصف اجر الصلاة وأما شيطان الجن فقد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم إنه يقطع الصلاة إذا علم ذلك كما بقطعها الكلب الأسود البهيم الذي هو شيطان الدواب(5/105)
وأيضًا فالشيطان ملعون رجيم كما قال تعالى وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {117} لَّعَنَهُ اللهُ [النساء 117-118] وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الشياطين ترجم بالشهب لئلا تسترق السمع من الملائكة فقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6} وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ {7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ {8} دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {10} [الصافات 6-10] وقد أمر الله عباده بالاستعاذة من الشيطان فقد قال لكبيرهم في السماء اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} [الأعراف 18] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض عباد الله وهو عمر بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك وقد أخبر الله في كتابه عن هرب الشيطان من(5/106)
الملائكة حيث قال وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48} [الأنفال 48] فإذا كان ملعونًا مبعدًا مطرودًا عن أن يجتمع بملائكة الله أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم وتنزه الله وتقديسه عن قرب الشياطين أولى فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءًا وكان تعالى في كل مكان كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه دع الملائكة وهذا مما يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس من جميع هذه الأعيان(5/107)
المخلوقة ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء ثم أجاب الإمام أحمد عن حجتهم فقال وأما معنى قوله تبارك وتعالى وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] يقول هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش وقد أحاط بعلمه ما دون العرش ولا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان وكذلك قوله تعالى لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] ثم ذكر الإمام أحمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من باب الأولى قال ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شيء كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله سبحانه له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه(5/108)
من غير أن يكون في شيء من خلقه قلت وقد تقدم أن كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق فالخالق أحق به وأولى فضرب أحمد رحمه الله مثلاً وذكر قياسًا وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثًا له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعًا في حقه وذكر أحمد في ضمن هذا القياس لقول الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى بالمثل الأعلى إذ القياس الأولى والأحرى هو من المثل الأعلى وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال ففي هذا الكلام الذي ذكره واستدلاله بهذه الآية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس فإن العبد إذا كان هذا الكمال ثابتًا له فالله الذي له المثل الأعلى أحق بذلك ثم ذكر قياسًا آخر فقال وخصلة أخرى لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار فالله سبحانه له المثل الأعلى قد(5/109)
أحاط بجميع ما خلق وقد علم كيف هو وما هو من غير أن يكون في جوف شيء مما خلق وهذا أيضًا قياس عقلي من قياس الأولى قرر به إمكان العلم بدون المخالطة فذكر أن العبد إذا صنع مصنوعًا كدار بناها فإنه يعلم مقدارها وعدد بيوتها مع كونه ليس هو فيها لكونه هو بناها فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها وإن لم يكن فيها محايثًا لها وهذا من بين الأدلة العقلية وهذان القياسان أحدهما لإحاطته بخلقه إذ الخلق جميعًا في قبضته وهو محيط بهم وببصره والثاني لعلمه بهم لأنه هو الخالق كما قال سبحانه أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {14} [الملك 14] وهؤلاء الجهمية نفاة الصفات كثيرًا ما يجمعون بين نفي علوه وكونه فوق العالم وبين الريب في علمه فكثيرًا منهم مستريب في علمه لا سيما من تفلسف منهم فتارة يقولون لا علم له وتارة يقولون لا يعلم إلا نفسه وتارة(5/110)
يقولون إنما يعلم غيره على وجه كلي ولهم من الاضطراب في مسألة العلم ماهو نظير اضطرابه في علوه وفوقيته وكان ما ذكره الله في كتابه وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الجمع بين هذين ردًّا لضلال هؤلاء في الأمرين كما قال تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4} [الحديد 4] وهؤلاء جاحدون أو مستريبون بأنه فوق العرش وبأنه معنا أينما كنا ومن هؤلاء طوائف موجودون وإن كان لهم من الفضيلة والذكاء ما تميزوا به على من لم يشركهم في ذلك ولهم من السمعة والرياسة مالهم ففيهم من الجهل والنفاق هذا وغيره ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الإمام أحمد ومما تأول الجهمية من قول الله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ الآية قالوا إن الله عز وجل معنا وفينا فقلنا لِمَ قطعتم الخبر من أوله إن الله يقول أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ يعني أن الله(5/111)
بعلمه رابعهم وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعني بعلمه فيهم أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {7} [المجادلة 7] يفتح الخبر بعلمه ويختم الخبر بعلمه ثم ذكر حجتين عقليتين على مباينته فقال ويقال للجهمي إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له هل يغفر الله لكم فيما بينكم وبين خلقه فإن قال نعم فقد زعم أن الله بائن من خلقه وأن خلقه دونه وإن قال لا كفر وذلك أن من أثبت أن شيئًا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينًا فإن المباينة والبين من اشتقاق واحد وإذا كان شيء بين شيئين فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض وهذا الوسط من هذا وهو ما بينه وبين هذا وهو مباينه ومباين المباينين أولى أن يكون مباينًا وقد ذكر في كتابه أنه يحجب بعض خلقه عنه فقال تعالى(5/112)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الشورى 51] وقال كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] واختصاص بعض خلقه بالحجاب يمنع أن يكون الجميع محجوبين وإذا كان البعض محجوبًا والبعض ليس محجوبًا امتنع أن يكون فيهم كلهم لأن نسبتهم إليه حينئذٍ تكون نسبة واحدة ووجب أن يكون بينه وبين بعضهم حجابًا وذلك يقتضي المباينة كما تقدم ومثل هذا قوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقوله وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48] وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] فلفظ إليه وعنده وعليه بحيث يكون بعض الخلق مردودًا إليه وبعضهم موقوفًا عليه ومعروضًا عليه وبعضهم ناكسو رؤوسهم عنده يقتضي أن الخلق ليسوا كلهم كذلك وأنهم قبل ذلك لم يكونوا كذلك وأنهم مباينون له منفصلون عنه وأنه بحيث يكون شيء عنده ويرد شيء إليه ويعرض ولو كانت ذاته مختلطة بذواتهم لامتنع ذلك وهذا يقتضي مباينته وامتيازه واختصاصه بجهة وحدٍّ وبطلان قول من يقول إن ذاته مختلطة بذواتهم أو يجعل الموجودات(5/113)
لا تختلف نسبتها إليه بل ما فوق السماء كما تحتها وعلى قول هذا يمتنع لقاؤه والعروج إليه والرد إليه والوقوف عليه والعرض عليه وأمثال ذلك مما دلَّ عليه القرآن وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا يجعلون ما جعل له في هذه الآيات إنما هو لبعض المخلوقات إما ثوابه وإما عقابه وإما غير ذلك أو يجعلون ذلك عبارة عن حصول العلم به وأمثال ذلك من التأويلات التي هي من جنس تأويل القرامطة قال الإمام أحمد وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس كان الله ولا شيء فسيقول نعم فقل له حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل لابد له من واحد منها(5/114)
إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أنه خلق الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه في كل مكان وحُشٍّ قذر رديء وإن قال خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة وهذه الحجة التي ذكرها الإمام أحمد مبناها على أنه لا لا يخلو عن المباينة للخلق والمحايثة لهم وهذا كما أنه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم فإن الجهمية كثيرًا ما يضطرون إلى تسليم ذلك ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم ومما ينكره الناس عليهم(5/115)
وإذا كان كذلك فالإمام أحمد بنى الحجة على أن الله تعالى وحده كان متميزًا عن الخلق وهذه مخاطبة للمسلمين وسائر أهل الملل الذين يقرون بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنها محدثة بعد أن لم تكن فإن الأمر إذا كان كذلك فمن أثبت محايثته للخلق أثبت محايثةً بعد أن لم تكن محايثة بخلاف ما لو لم يُقّر بذلك فإنه لا يثبت انفراده ومباينته أصلاً وهذا لا ريب أنه أعظم كفرًا وجحودًا للخالق كما تفعله الاتحادية من هؤلاء فإن هؤلاء كثيرًا إما أن يكون متفلسفة لكن المتفلسفة الضالون يقولون بقدم العالم إما معلولاً عن علة واجبة كما يقوله أرسطو وذووه وإما غير معلول كما يقوله غيرهم وهؤلاء ضموا إلى ذلك أنه هو العالم أو في العالم وأولئك الجهمية الذين ناظرهم الإمام أحمد وأمثاله كانوا أقرب إلى العقل والدين فإنهم لم يكونوا يقولون هو عين الموجودات ولا يقولون إنه لم يزل محايثًا لها ولا كانوا يظهرون أنه ليس بمباين للعالم ولا محايث له بل يقولون بنفي الاختصاص بالعرش بقولهم إنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان وإذا كان وحده ثم خلق الخلق فإما أن يقولوا إنه محلّ للخلق أو يقولوا إنه حلّ في الخلق أو(5/116)
يقولوا إنه ليس بحالٍّ ولا محلّ فهذه القسمة حاصرة كما ذكره أحمد أنه لابد من قولٍ من هذه الأقوال الثلاثة فإن جعلوه محلاًّ للمخلوقات فقد جعلوا إبليس والشيطان والنجاسات مما يبعد عن الله ملعون مطرود جعلوه في جوف الله وذلك كفر وإن جعلوه حالاًّ فيها فقد جعلوه حالاًّ في كل مكان يتنزه عن مقاربته وملاصقته والقرب منه وذلك أيضًا كفر كما تقدم وفرَّق الإمام أحمد في كونه محلاًّ وكونه حالاًّ بين الخبيث والحي وبين الخبيث الموات الجامد فذكر في القسم الأول الخبيثَ الحي وهم الشياطين وفي الثاني الخبيث الجامد وهو النجس الرديء لأنه في هذا القسم يكون التقدير أن المخلوق أمكنة له ومحل والمكان المحل من شأنه أن لا يكون من الحيوانات فألزمهم المكان من الأجسام النجسة الخبيثة القذرة وفي القسم الأول ذكر أنه هو المحل والمكان فذكر المتمكن في المكان الحال فيه والعادة أن الحيوانات تكون في الأمكنة فالحيوان يتحرك في المكان وإليه ليس المكان هو يتحرك إلى الحيوان ويجيء إليه وإذا انتفى هذان القسمان(5/117)
بقي القسم الثالث وهو أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم وهو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة وعموم الخلائق من كل ذي فطرة سليمة ثم قال الإمام أحمد بيان ما ذكر الله في القرآن وَهُوَ مَعَكُمْ وهذا على وجوه قول الله تعالى لموسى إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه 46] يقول في الدفع عنكما وقال تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة 40] يعني في الدفع عنا وقال وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249} [البقرة 49] يعني في النصرة لهم على عدوهم وقوله وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد 35] وفي النصرة لكم على عدوكم وقال سبحانه وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء 108] يقول بعلمه فيهم وقوله كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62} [الشعراء 62] يقول في(5/118)
العون على فرعون قال فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادَّعى على الله عز وجل أنه مع خلقه قال هو في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة موَّه عليهم فقلنا له إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء قال بلى قلنا فأين يكون ربنا قال يكون في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا فقلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو في العرش وما كان من الله في الجنة فهم في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبيَّن للناس كذبهم على الله عز وجل(5/119)
فذكر الإمام أحمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين فذكر قول الجهمية أنه في كل شيء غير مماس للأشياء ولا مباين لها وهذا قول الجهمية الذين ينفون مباينته ثم يبقون مع ذلك مماسته فيقولون هو في كل مكان والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقة وإن قالوا إنهم يثبتون مباينته بالحقيقة والزمان فإن أولئك أيضًا وإن نفوا المباينة فإنهم يثبتونها بالحقيقة والزمان فكلا الطائفتين يقولون إنهم يثبتون مباينته لكن ينفون أن يكون خارج العالم وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة فالأولون يقولون كما تقول الجماعة إنه إذا لم يكن مباينًا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثًا له خلافًا للطائفة الأخرى ثم تقول بما تقول به الأخرى وما ليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان فيلزم أن يكون محايثًا له والآخرون يقولون إذا كان محايثًا للعالم كان مماسًّا له كما تقول الجماعة خلافًا لتلك الطائفة ثم يقولون مع الجماعة وما ليس بمماس(5/120)
للعالم فيلزم أن لا يكون فيه وما لا يكون مباينًا له بغير الحقيقة والزمان فلا يكون خارجًا عنه واحمد رحمه الله ذكر ما يعلم بضرورة العقل من أنه إذا كان فيه وليس مباين فإنه لابد أن يكون مماسًّا له فإنه لا يعقل كون الشيء في الشيء إلا مماسًّا له لا مباينًا عنه فإنه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان ذكر أنه لابد من المماسة أو المباينة على هذا التقدير وهو تقدير المحايثة فإن أولئك لم يكونوا ينكرون دخوله العالم وإنما ينكرون خروجه وذكر دعوى الجهمية بنفي هذين النقيضين قال فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس قال لا قال فكيف يكون في كل شيء غير مماس يقول أحمد إن هذا لا يُعقل فكيف يكون ذلك وذكر أن الخصم لم يحسن الجواب عن ذلك فإنه لا يمكنه أن يذكر ما يعقل كونه في كل شيء وهو مع ذلك غير مماس فلما كان هذا غير معقول لجأ الخصم إلى أن قال بلا كيف قال أحمد رحمه الله فخدع الجهال بهذه الكلمة مَوَّه عليهم(5/121)
فبيَّن أحمد أن هذه الكلمة إنما يقبلها الجهال فينخدعون بها لأنهم يعتقدون أن ما ذكره هذا ممكن وإن لم نعلم نحن كيفيته وإنما كانوا جهالاً لأنهم خالفوا العقل والشرع وقبلوا ما لا يقبله العقل واعتقدوا هذا من جنس ما أخبر به الشارع من الصفات التي لا نعلم نحن كيفيتها والفرق بينهما من وجهين أحدهما أن الله ورسوله عالم صادق فيما أخبر به عن نفسه وهو أعلم من عباده فإذا أخبرنا بأمر فقد علمنا صدقه في ذلك وعلمنا مما أخبرنا به ما أفهمناه وما لم نعلم كيفيته من ذلك لا يضرنا عدم علمنا به بعد أن نعلم صدق المخبر وأما هؤلاء فإنما يدعون ما يقولونه بالعقل لا يثبتونه بالشرع فإذا كان العقل الذي به يعتصمون لا يقبل ما يقولونه ولا يثبته بل ينفيه كان ما يقولون باطلاً ولم يكن لهم به علم وكانوا أسوأ حالاً ممن استشهد بشاهد فكذَّبه أو نزع بآية ليحتج بها وكانت حجة عليه إذ كان مفزعهم العقل والعقل عليهم لا لهم وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو كما ذكرناه على كلام هذا المؤسس ونحوه من أنهم يدعمون العقل ما لا يقبله العقل بل يرده كدعواهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كما قال إخوانهم بوجود موجود في العالم لا مباين العالم ول مماس(5/122)
له ثم إن صنف المؤسس وهذا الصنف الآخر كل منهما يقول بأن الإلهيات تثبت على خلاف ما يعلمه الناس وتثبت بلا كيفية ويدعون ذلك فيما يثبتونه بالعقل والعقل نفسه لا يقبل ما يقولونه بل يرده بضرورته وفطرته فضلاً عن قياسه ونظره الوجه الثاني أن الشارع لم يخبر بما يعلم بالعقل بطلانه ولا بما يحيله العقل حتى يكون نظيرًا لهذا وهؤلاء ادَّعَوا ما يرده العقل ويحيله فلهذا كان ما لأخبر به الشارع يقال له والكيف مجهول ويقال فيه بلا كيف لعدم امتناعه في العقل وهؤلاء الجهمية ادعوا محالاً في العقل فلم يقبل منهم بلا كيف ولهذا قال الإمام أحمد إنه خدع الجهال بهذه الكلمة موَّه عليهم حيث لم يثبتوا الفرق بين خبر الشارع وبين كلام هؤلاء الضُّلاَّل ولم يثبتوا الفرق بين ما يقبله العقل ويرده وهذا الذي ذكره أحمد عنهم من قولهم هو فيه غير مباين ولا مماس وقول الآخرين الذين منهم المؤسس لا داخله ولا خارجه قد علم بالفطرة الضرورية أنه خروج عن النقيضين(5/123)
كما علم مثل ذلك في قول سائر الجهمية من الملاحدة والباطنية ونحوهم حيث قالوا هو لا حيٌّ ولا ميت ولا عاجز ولا قادر ولا عالم ولا جاهل وكلام هؤلاء كلهم من جنس واحد يتضمن الخروج عن النقيضين ويتضمن تعطيل ما يستحقه الباري وحقيقته وتعطيل ذاته بالكلية وتعطيل معرفته وذكره وعبادته بحسب ما نعوه من ذلك فإن قيل ما ذكره الإمام أحمد وقدَّرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارضٌ بما يذكره طوائف من أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم القائلون بأنه فوق العرش فإنهم يقولون هو فوق العرش غير مباين ولا مماس فما الفرق بين الموضعين قيل هؤلاء الذين يقولون هذا إنما يقولونه لأنهم يقولون إنه فوق العرش وليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون بل(5/124)
هو مماس للعرش ومنهم من يقول هو مباين له ولأصحاب أحمد ونحوهم من أهل الحديث والفقه والتصوف في هذه المسألة ثلاثة أقوال منهم من يثبت المماسة كما جاءت بها الآثار ثم من هؤلاء من يقول إنما أثبت إدراك اللمس من غير مماسة للمخلوق بل أثبت الإدراكات الخمسة له وهذا قول أكثر الأشعرية والقاضي أبي يعلى وغيره فلهم(5/125)
في المسألة قولان كما تقدم بيانه وعلى هذا فلا يرد السؤال ومنهم من أصحاب أحمد وغيره من ينفي المماسة ومنهم من يقول لا أثبتها ولا أنفيها فلا أقول هو مماس مباين ولا غير مماس ولا مباين وهذه المباينة التي تقابل المماسة أخصُّ من المباينة التي تقابل المحايثة فإن هذه العامة متفق عليها عند أهل الإثبات وهي تكون للجسم مع الجسم وللجسم مع العرض وأما التي تقابل المماسة فإنها لا تكون له مع العرض والعرض يحايث الجسم فلا يباينه المباينة العامة وأما الخاصة فلا يقال فيها مباينة ولا مماسة وإذا كان أحمد قد ذكر امتناع خلوه عن المباينة الخاصة والمماسة فامتناعُ خُلوِّه عن المباينة العامة والمحايثة أولى فإن المباينة الخاصة والمماسة نوعان للمباينة(5/126)
العامة فإذا امتنع رفع النوع فامتناع رفع الجنس أولى وليس هذا موضع الكلام في هذه الأقوال ولكن نذكر جوابًا عامًّا فنقول كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر وإجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظرًا أنه خارج العالم فلا يخلو مع ذلك إما أن يلزم أن يكون مماسًّا أو مباينًا أو لا يلزم فإن لزم أحدهما كان ذلك لازمًا للحق ولازمُ الحق حق وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بُعدِ الأشياء عنه ولكونها ملعونة مطرودة لم نثبته لاستحالة المماسة عليه وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه كما روي في مس آدم وغيره وهذا جواب جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام وإن لم يلزم من كونه فوق العرش أن يكون مماسًّا أو مباينًا فقد اندفع السؤال فهذا الجواب هنا قاطع من غير حاجة إلى تغيير القول الصحيح في هذا المقام وبين من قاله إنه فوق العرش ليس(5/127)
بمباين له ولا مماس كما يقوله من الكلابية والأشعرية من يقوله من اتبعهم من أهل الفقه والحديث والتصوف والحنبلية وغيرهم إن كان قولهم حقًّا فلا كلام وإن كان باطلاً فليس ظهور بطلانه موجود قائم بنفسه مع وجود قائم بنفسه أنه فيه ليس بمماس ولا مباين له وأنه ليس هو فيه ولا هو خارجًا عنه ثم ذكر أحمد الحجة الثانية فقال فقلنا لهم إذا كان يوم القيامة أليس إنما الجنة أو النار والعرش والهواء إلى آخره فبيَّن أن موجب قولهم أن يكون بعضه على العرش وبعضه في الجنة وبعضه في النار وبعضه في الهواء لأن هذه هي الأمكنة التي ادَّعَوا أن الله فيها فيتبعَّض ويتجزأ بتيعُّض الأمكنة وتجزُّئها وذكر أنه عند ذلك تبين للناس كذبهم على الله لأن(5/128)
الناس في الدنيا قد آمنوا بالغيب وبأمور أخرى لم يروها في الدنيا وسوف يرونها في الآخرة فإذا ظهر لهم أن هؤلاء يقولون إنه يكون في الآخرة كما كان في الدنيا متفرقًا متجزئًا لم يمكن أن يراه أحد ولا أن يحايث أحدًا ولا أن يختص أولياؤه بالقرب منه دون أعدائه بل يكون في النار مع أعدائه كما هو في الجنة مع أوليائه فظهر بذلك من كذبهم على الله ما لم يظهر بما ذكروه في أمر الدنيا وقال عبد العزيز الكناني في رده على الجهمية بعد أن بيَّن أنه على العرش وأجاب عما احتجوا به ثم قال ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله عز وجل محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب فلان في(5/129)
البيت والماء في الحِبِّ والبيت قد حوى فلانًا والحِبُّ قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا إن الله حلّ في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد وكفروا بذلك وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم وأنتم تقولون إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضًا أن تقول إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًّا فبما شنعت مقالته قال أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء مع الشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئًا لأنه إذا كان شيئًا ماخلا من القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجًا فلما لم يكن في قولك شيء استحال أن يكون كالشيء في الشيء(5/130)
أو خارجًا عن الشيء فوصفته لعمري ملتبسًا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل(5/131)
فصل ثم ذكر الرازي الحجة الثانية لمثبتي الجهة فقال وثانيها أنه كما لا يُعقَل موجود خاليًا عن القدم أو الحدوث فكذلك لا يُعقَل موجود ليس في العالم ولا خارج العالم ولا فوق العالم ولا أسفل العالم ولا قُدَّام العالم ولا خلف العالم ولا يمين العالم ولا شمال العالم ولو جاز إثبات موجود غير موصوف بهذه الأوصاف جاز إثبات موجود غير موصوف لا بالقدم ولا بالحدوث وذلك سفسطة وهذه الحجة تشبه ما ذكره في التأسيس من كون المنازعين له يقولون إن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه معلوم بالضرورة العقلية امتناعه(5/132)
ثم قال والجواب عما تمسكوا به ثانيًا من أن ذلك غير معقول فهو ممنوع لأن صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فقياسُ أحدهما على الآخر بعيد قال وأيضًا فالعقل يأبى إثبات موجود في جهة لا يمكن أن ينسب إلى موجود في جهة أخرى بأنه يساويه أو أنه أصغر منه أو أعظم منه وأنتم تمنعون من أن يقال الباري تعالى(5/133)
مساوٍ للعرش أو أعظم أو أصغر منه فإن التزموا ذلك لزمهم انقسام ذاته قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن كون الموجود إما داخل العالم وإما خارجه مثل كونه إما قديمًا وإما حديثًا إما خالقًا وإما مخلوقًا وإما قائمًا بنفسه وإما قائمًا بغيره وإما واجبًا وإما ممكنًا وهذا معلوم بالفطرة الضرورية ولهذا لم يكن ينازع في ذلك الجهمية الذين خاطبهم الأئمة كما ذكر الإمام أحمد في احتجاجه عليهم أنه إذا كان وحده ثم خلق العالم فإما أن يكون خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه ولم يكن القسم الثالث وهو أن يقال خلقه لا في نفسه ولا خارجًا عن نفسه لأن هذا معلوم انتفاؤه بضرورة(5/134)
العقل ولا نازعه في ذلك الجهمية الذين قالوا في العالم غير مماس ولا مباين وإن دعوى أولئك قد يسلِّم الرازي وأمثاله أنها معلومة بالفساد وبضرورة العقل فدعواهُ أظهرُ فسادًا في ضرورة العقل كما تقدم التنبيه عليه إذ العرض في الجوهر ليس بمماس له ولا مباين له ولا يوجد جوهر ولا عرض إلا هو مباين للآخر أو محايث له فكلٌّ من طائفتي الجهمية يوافق الجماعة على أن قول الأخرى مخالف لضرورة العقل وحقيقة الأمر أن قول الطائفتين جميعًا مخالف لضرورة العقل وقو هؤلاء الموجود المباين للعالم ليس بداخل العالم ولا خارجه أو قولهم الموجود ليس بداخل العالم ولا خارجه مثل قول إخوانهم أنه في العالم ليس بمباين للعالم ولا مماس له فإذا كان قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة فكذلك قولهم وإلا فلا فرق بل قولهم أظهر فسادًا كما تقدم إذ قد عرف وجود ليس بمماس لموجود ولا مباين له ولم يعرف موجود ليس بمباين لوجود آخر ولا محايث له وكذلك قول الملاحدة أنه موجود ليس بحي ولا ميت ولا هو عالم ولا جاهل ولا هو قادر ولا عاجز ونحو ذلك فهذه الأمور معلوم فسادها بضرورة(5/135)
العقل ودعوى وجود موجود خارج عن هذين القسمين مخالف لفطرة العقل الضرورية وهو من أعظم السفسطة فلا تقبل من أحد دعوى ذلك ومتى سمع ذلك وجب أن تسمع نظائره من السفسطة الوجه الثاني أنه يجب الفرق بين الأقسام الممكنة في الوجود الخارجي وبين التقديرات الذهنية التي لا يُشتَرط فيها مطابقة للأمور الخارجية فإن الذهن يقدر الأمور الممتنعة مع امتناع وجودها في الخارج ويقدر الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا وليس هو كذلك في الخارج فباب التقديرات الذهنية أوسع من باب الأقسام الممكنة الخارجية وذلك أن الذهن تقديره بحسب ما يفرضه من الأقسام فيمكنه أن يقول الشيء إما أن يكون موجودًا وإما أن يكون معدومًا وإما أن يكون لا موجودًا ولا معدومًا والشيء إما أن يكون مجهولاً أو معلومًا أو لا معلومًا ولا مجهولاً وإما أن يكون واجبًا أو ممتنعًا أو جائزًا أو لا واجبًا ولا ممتنعًا ولا جائزًا ويمكنه أن يقول الموجود إما أن يكون قديمًا أو محدثًا أو لا قديمًا(5/136)
ولا محدثًا وإما أن يكون خالقًا أو مخلوقًا أو لا خالقًا ولا مخلوقًا والموجودان وإما أن يكون أحدهما مقارن للآخر ولا سابقًا ولا متأخرًا أو يقول إما أن يكون مقارنًا أو منفكًا أو لا مقارنًا ولا منفكًا وإما أن يكون مباينًا للآخر أو محايثًا له أو لا مباينًا له ولا محايثًا له والموجودان والقائمان بأنفسهما إما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر أو خارجه أو لا داخل الآخر ولا خارجه وإما أن يكون متحيزًا أو حالاّ في المتحيز أو لا متحيزًا ولا حالاّ في المتحيز وإما أن يكون حيًّا أو ميتًا أو لا حيًّا ولا ميتًا وإما أن يكون عالمًا أو جاهلاً أو لا عالمًا ولا جاهلاً وإما أن يكون قادرًا أو عاجزًا أو لا قادرًا ولا عاجزًا وذلك كما تقول الموجود إما أن يكون واجبًا أو جائزًا أو ممتنعًا أو الموجود إما أن يكون ثابتًا أو منتفيًا أو لا ثابتًا ولا منتفيًا فيكون الذهن يقدر هذه التقديرات لا يقتضي جواز وجودها في الخارج بل مع ذلك يعلم أن بعض هذه الأقسام ممتنع في الخارج كما يعلم امتناع أن يكون الموجود ممتنعًا أو أن يكون الموجود منتفيًا أو نحو ذلك وكما يعلم عدم خروج الموجود عن القسمين الحاصرين مثل علم العقل بامتناع أن يكون الموجود لا خالقًا ولا مخلوقًا أو(5/137)
لا قديمًا ولا محدثًا أو لا واجبًا ولا ممكنًا والعلم بامتناع أن يكون الموجودان لا متقاربين ولا منفكين ولا متباينين ولا متحايثين فقول القائل هذا الموجود لا داخل هذا ولا خارجه كقوله ليس مقارنًا له ولا منفكًا عنه بتقدم أو تأخر أو يقال هذان الموجودان ليس واحد منهما مقارنًا للآخر ولا قبله أو ولا بعده إذا ظهر ذلك فقولُه صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فقياس أحدهما بالآخر بعيد يقال له ليس هذا بموازنة عادلة لأن قوله الموجود إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون إما أن يريد بالحيز أمرًا وجوديًّا منفصلاً عن المتحيز أو لا يريد بالحيز شيئًا وجوديًّا منفصلاً عن المتحيز فإن أراد الأول كان ذلك نظير قول القائل الموجود إما أن يكون في الزمان أو لا يكون إذا أراد بالزمان(5/138)
تقدير حركات الفلك ومايجري مجرى ذلك في الأمور الوجودية فإن كلا هذين القسمين مضمونُه أنّ الموجود إما أن يكون في مكان وجودي أو زمان وجودي منفصل عنه أو لا يكون وهذا تقسيم صحيح فإن كل موجود لو احتاج إلى مكان وجودي وزمان وجودي منفصل عنه لكان ذلك المكان الموجود والزمان الموجود يحتاج إلى مكان آخر موجود منفصل عنه وزمان آخر موجود منفصل عنه وذلك يقتضي التسلسل إذا أُرِيدَ به غير الأول وإن أريد به الأول فإن أريد به العلة أفضى إلى الدور وإلا فليس ذلك محالاً إذا جُعِل كل منهما زمانًا للآخر أو سُمِّي حيزًا له وأما إن أراد بالحيز ما ليس بشيء وجودي منفصل عن المتحيز إما أمر عدمي أو شيء قام بالمتحيز أو نوع إضافة ونحو ذلك مما لابد للقائم بنفسه منه أو لابد للجسم منه فهذا(5/139)
نظير ما يعني بالدهر إذا أريد بالدهر نحو ذلك من أمر عدمي أو بعض صفات الحي أو أمر إضافي أو نحو ذلك فإنه كما يقال إن الحيز تقدير المكان فإنه يقال الدهر تقدير الزمان وكما يقدر الذهن فيهما العالم أحيازًا عدمية هي تقدير الأمكنة فإنه يقدر قبل العالم دهورًا عدمية هي تقدير الأزمنة وهذا هو الذي يجعله بعض الفلاسفة أمرًا وجوديًّا كما يُذكَر ذلك عن أفلاطون ويحكون أنه يُثبِت المادة والمدة والخلا والمثل الأفلاطونية(5/140)
وأرسطو صاحبه وجمهور العقلاء يعلمون أن هذه إنما هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان بل العقلاء يعلمون أن ما بيَّنه أرسطو وأتباعه من الهيولى المطلقة إنما هي أيضًا في الأذهان لا في الأعيان بل وكذلك ما يثبتونه من العقول المحرفات وإذا كان كذلك فتقسيم الوجود إلى ما يكون حاصلاً في(5/141)
الحيز وما لا يكون نظيره تقسيم الوجود إلى ما يكون حاصلاً في الذهن وما لا يكون ومعلوم أن هذا تقسيم ذهني لا خارجي وإلا فكل موجود في الخارج فهو في الذهن ومعلوم بهذا التفسير فكذلك كل موجود في الخارج فهو في الحيز بهذا التفسير وليس من الموجودات شيء يمتنع عليه أن يقال هو في أمر عدمي وإن سمي ذلك العدمي حيزًا أو دهرًا ولا في الموجودات ما يمتنع أن يضاف إليه أو ينتسب إليه شيء بل إذا كان لا موجود إلا ويمكن أن يقارنه ما يقدر فيه الزمان فلا موجود إلا ويقارنه ما يقدر فيه المكان وأما خلو الشيء عن ثبوت الأزلية ولا ثبوتها فنظيرُه خلو الشيء عن ثبوت الفوقية ولا ثبوتها فقول القائل إما أن يكون للشيء أول أو يكون مسبوقًا بغيره أو لا يكون فإن كان له أول فهو العالم والمحدث وإن لم يكن له أول فهو الرب القديم نظيره قول القائل إما أن يكون للشيء فوق بمعنى أنه علاه غيره أو لا يكون فإن علاه غيره فهو العالم وإن لم يَعْلُهُ غيره فهو الرب الأعلى سبحانه وتعالى ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء(5/142)
وأنت الباطن فليس دونك شيء وكذلك إذا فسر المُحْدَثُ بالذي كان بعد أن لم يكن أو بالمسبوق بعدم نفسه وقيل يكون مسبوقًا بتقدير زمان فإنه يفسر الأسفل بالذي يمكن لأن يعلوه غيره ويقال هو مخصوص بعلم ما يمكن بتقدير موجود فيه وإذا قيل الأول القديم هو الذي لم يزل موجودًا وهو الذي لم يسبقه شيء فتفسير الظاهر بأنه العلي الأعلى وهو الذي لا يعلوه شيء وإذا قيل إن الباري لم يسبقه عدم يصلح لتقدير الزمان قيل إنه لا يعلوه عدم يصلح لتقدير المكان فكما لا يمكن أن يكون شيء قبله لا يمكن أن يكون شيء فوقه بل هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء(5/143)
وقد تكلمنا بنحوٍ من ذلك في أول هذا الحكم العادل بينه وبين منازعه الذي خلَّصنا فيه ما التبس من الحق بالباطل في تأسيسه ولكنا تكلمنا هنا على ما ذكره في نهايته وقد ظهر بما ذكرناه أنه عمد إلى تقدير المكان والزمان فذكر في أحدهما المقارنة له وذكر تقسيم الموجود إلى المقارن له وغير المقارن وذكر في الآخر الذي في القسمين جميعًا المقارنة له لكن فتتميمها إلى المقارن المطلق والمقيد وليست هذه موازنة عادلة ومقايسة صحيحة وتمثيلاً مطابقًا في الموضعين بل هذا من الأقيسة الفاسدة الجائرة الظالمة بل يجب أن يوزن ونسبة كل واحد بنظيره وحينئذ فيكون في كل من الصنفين نوعان فيجيء المجموع أربعة كما ذكرناه الوجه الثالث أنه ينبغي أن يعرف أن الأمثال والمقاييس تُضرب للشيء تارة لخفاء حكمه وظهوره بالتمثيل سواء كان التمثيل لتصوُّره أو للتصديق به وتارة يكون هو في نفسه مع سلامة الفطرة جليًّا بديهيًّا ظاهرًا ولكن في القلب ظن أو هوى يصرفه عن معرفة نفسه فضرب المثل الذي لا يعارض(5/144)
الحق فيه لا ظن ولا هوى فيدركه القلب ويعلم أن هذا مثل ذلك بالضرورة فينقاد إلى الحق لزوال المانع فالغرض أن الأمثال تضرب تارة لتحقيق المقتضى وتارة لدفع المانع ويكون المقصود بها العلم تصورًا أو تصديقًا ويكون المقصود بها أيضًا اتباع العلم والعمل بموجبه أيضًا وهذا كما أن الملكين لما نزلا على داود فقالا فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ {22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ {23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ الآية [ص 22 - 24] فلما حكم داود تبيَّن أن هذا مثل مضروب له وعلم حال نفسه ومعلوم أن الأدلة العلمية على قضية كلية يحصل بها التصورات العلمية على هذه القضية لكن هذه لم يكن فيها مانع يخاف أن يعوقه عن معرفة الحق واتباعه فكان التمثيل بما يؤمن فيه المانع محصلاً للمقصود وما نحن فيه من تمثيل المكان وتقديره بالزمان وتقديره هو من هذا الباب فإن مورد النزاع قد حصل فيه للمنازع من الاعتقاد ما قد يصرف عن تصور المطلوب وإلا فالأمران بديهيان فطريان ضروريان في الحقيقة وإذا كان كذلك فنحن نتكلم على ما ضرب من المثل(5/145)
فيقول له المنازع لا أعقل موجودًا مع غيره خاليًا عن التقدم عليه والحدوث وهذا هو المثل الذي ضربه والأصل الذي مثل به وهو خلو الموجود عن هذين النعتين جميعًا اللذين لابد للموجود من أحدهما فإن الذي سبقه غير محدث والذي سبق غيره أو سبق كل شيء قديم يـ قال وكذلك مسألتنا لا أعقل موجودًا مع غيره خاليًا عن العلو والسفول خاليًا عن الدخول في غيره والخروج عنه فهو أيضًا ذكر خلو الموجود مع غيره عن هذين النعتين وكل من هذين النعتين ينقسم إليهما الموجود له والموصوف به نسبة وإضافة إلى النعت الآخر وموصوفه فللقدم والقديم نسبة وإضافة إلى المحدث والحدث وبالعكس وكذلك العلو والعلي نسبة وإضافة إلى السفل والسافل فالقديم متقدم على المحدث فلا شيء أقدم منه والمحدث ما تقدمه القديم أو ما تقدم عدمه أي كان بعد أن لم يكن كائنًا فكان قبله تقدير زمان يقدر وجوده فيه ولم يكن فيه موجودًا بل الموجود في غيره والعلي عالٍ على السافل وهو العلى فلا شيء أعلى منه والسافل ما علاه العلي وما علاه عدم أي كان يجب أن يكون ما لم يكن(5/146)
فيه أو كان فوقه حيز وهو تقدير مكان يقدر وجوده فيه ولم يكن فيه موجودًا بل الموجود فيه غيره وهذه موازنة صحيحة وأنت ذكرت في الجواب أن صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون ولكن يأبى خلو الشيء عن ثبوت الأزلية وعدمها وكونه حاصلاً في الحيز أو ليس فيه وفي غيره والخروج منه قسمان للمتحيز على ما يقوله فهو كما لو قيل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الدهر وإلى ما لا يكون فكان الواجب أن تذكر نفس الصورة التي ادعى منازعك العلم الضروري بها إما بلفظها أو بلفظ آخر ثم تعرضها على العقل هل يقبلها أو يردها وهو قد قال العقل لا يحكم حكمًا بديهيًّا عن الموجود مع غيره إما أن يكون داخلاً فيه أو خارجًا عنه غير داخل فيه ويحكم بأن الموجود مع غيره إما أن يكون محدثًا معه أو متقدمًا عليه غير محدث وهو لا يذكر هذه الصورة للاحتجاج بها أو أن الحكم فيها أقوى بل نفس ما ذكره معلوم بفطرة العقل وضرورته كما أن الثاني كذلك وليس العلم بالأول مستفادًا من العلم بالثاني ولا بالعكس بل كل منهما معلوم(5/147)
بنفسه والعقل بفطرته وبديهته يعلم أن الموجودين إما أن يكون أحدهما داخل الآخر أو خارجه وإما أن يكون فوقه أو لا يكون فوقه وإما أن يكون محايثًا له مجامعًا له في حيزه بل مباينًا لحيزه وكل هذه العلوم مستقرة في الفطرة وقول القائل العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون متحيزًا أو إلى ما لا يكون ليس نظيرًا لذلك لا في اللفظ ولا في المعنى فلا يدفع ما علم من ذلك بالبديهة وحينئذ فلا حاجة إلى القياس والتمثيل ويعرف ذلك بالوجه الرابع وهو أن يقال قول القائل لا أعقل موجودًا خاليًا عن القدم والحدوث أو لا أعقل موجودًا لا داخل الموجود الآخر ولا خارجه ولا مباينًا له ولا محايثًا له ليس معناه أني لا أعلم ذلك ولا أعرفه أو أني أعجز عن عقله ومعرفته فإن كون الإنسان لا يعلم الشيء ويعقله أو لا يقدر على عقله وعلمه لا يدلُّ على عدمه ولا على امتناعه إذ في الموجودات التي لا يعلمها كثير من بني آدم ولا يقدرون على علمها ما لا يحصيه إلا الله وإنما مراد القائل بقوله هذا غير معقول أي لا يتصور أن يكون معقولاً ومعلومًا وجوده أي يمتنع أن يعقل وجوده أو يعلم وجوده وما امتنع العقل أو العلم بوجوده كان ممتنعًا في نفسه وهذا كقوله تعالى قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ [يونس 18] أي بما لا يكون فإنه لو(5/148)
كان لعلمه وهكذا ما عقل الإنسان وعلم امتناعه في نفسه وأنه لا يمكن وجوده يقال فيه أنه غير معقول وأن هذا لا يُعقل وإن كان هذا اللفظ يقال على المعنى الأول فاللفظ إذا كان فيه اشتراك قد يغلط الناس في فهمهم فـ لا يعرف المعنى وإذا علم أن هؤلاء المنازعين قالوا إنا نعقل عقلاً ضروريًّا فطريًّا أو نعلم علمًا ضروريًّا فطريًّا امتناعَ وجود موجودين ليس أحدهما داخل الآخر ولا خارجه ونعلم أن من أثبت موجودًا لا داخل العالم ولا خارجه فإنه أثبت ما لا يتصور أن يعلم وجوده وما لا يكون وجوده بل هذا بمنزلة جعلِه لا موجودًا ولا معدومًا ولا قديمًا ولا محدثًا ولا عالمًا ولا غير عالم ولا قادرًا ولا غير قادر والموجود يمتنع أن يخلو عن هذين النقيضين فمن أثبتهما أو نفاهما يكون قد وصف الموجود بصفة الممتنع وجوده فضلاً عن أن يكون معدومًا فيكون قد أثبت واجب الوجود وجعله ممتنع الوجود فيكون قد جمع في كلامه بين إثبات واجب الوجود بين وجوده وبين عدمه وهذه صفة هؤلاء الملاحدة من الجهمية وأشياعهم هم منافقون مذبذبون بين الإقرار بالصانع واجب الوجود وبين إنكاره وإحالة وجوده لا جحدوه بالكلية ولا أقروه بالكلية(5/149)
وصفوه بما يقتضي أنه واجب الوجود ووصفوه بما يقتضي أنه ممتنع الوجود ثم قد يكون هذا في كلامهم اغلب وقد يكون هذا أغلب وحينئذ فيكون الكفر الصريح على بعضهم أغلب وهو حال الملاحدة النفاة للنقيضين جميعًا فإن جحود هؤلاء وجعلهم له ممتنعًا أضعاف إقرارهم بوجوب وجوده وقد يكون الإثبات أغلب وهو حال من أقر بعامة أسمائه وصفاته وإنما جحد منها شيئًا يسيرًا كما يوجد في بعض الصفاتية كثيرًا وهؤلاء يؤمنون ببعض أسناء الله تعالى ويكفرون ببعض ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ولهذا تنازع الناس في إيمانهم وكفرهم بما ليس هذا موضعه ولا ريب أن فيهم الجاهل المتأول الذي لا يجوز أن يُحكم عليه بحكم الكفار وأن قوله من قول الكفار كما أن فيهم المنافق الزنديق الذي لا ريب في نفاقه وكفره وإذا كان منازعك قد قال إنا نعلم ونعقل بالفطرة امتناع وجود ما ذكرته من وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فقولُك صريح العقل لا يأبى تقسيم الموجود إلى متحيز وغير متحيز ليس فيه جواب عن هذا القول أصلاً فإنك(5/150)
لم تقل إن صريح العقل يقبل وجود موجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه فإنك لو قلت هذا كان رجوعًا إلى قولك الأول وكان ذلك مقابلة لدعوى العلم الضروري بالامتناع بدعوى العلم الضروري بالإمكان وإذا وصل الأمر إلى أن يقول أحد المناظرين أنا أعلم بالضرورة امتناع هذا ويقول الآخر أنا أعلم بالضرورة إمكانه لم يكن الفصل بينهما إلا من وجوهً أخرى كما بيَّناه في غير هذا الموضع ومع هذا فلا يكون أحدهما قد قطع الآخر فإذا كنت لو ادعيت العلم الضروري بإمكان لم يكن له وحينئذٍ يكون كلٌّ منهما متكافئًا فكيف إذا لم تذكر ذلك بل ادّعيت العلم بشيء آخر غير محل النزاع الذي ادعى المنازع العلم الضروري به ومن المعلوم أن أحدًا من الخلق لا يمكنه أن يدعي الضرورة بإمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل غايته أن يذكر علمًا نظريًّا وأن(5/151)
يزعم أن ما عند المنازع ليس علمًا ضروريًّا وأن لا يقول أنا أعلم بالضرورة امتناع هذا فغايته أن ينفي العلم الضروري الذي إنْ اضطر إليه بعض الناس لم يضطر إليه آخرون لم يكن هذا دافعًا لما عند أولئك لأنه إنْ جوّز اختصاص بعض الناس بالعلوم الضرورية كما يختصون العلوم النظرية كما يختصون بالعلم بالأخبار المتواترة والمخبريات وعلم الأشياء الدقيقة وهذا أصح القولين فلا يضرهم عدم علم غيرهم وإن قيل بل يجب اشتراك الناس في كل العلوم الضرورية كما تقوله طائفة من أهل الكلام فإذا قال هؤلاء نحن مضطرون إلى العلم وقال هؤلاء لم نضطر إليه لم يكن قبول قول أحدهما أولى من الآخر إلا بموجب منفصل وعلى هذا التقدير فلا يندفع ما ذكره المنازع من العلم الضروري بنفي ذلك عن محل النزاع لو فعله المنازع فكيف إذا لم يذكر ذلك إلا في ضرورة أخرى يقرّر هذا الوجه الخامس وهو أن هذه الصورة التي ادعى أن العقل الصريح لا يأباها إمّا أن تكون مستلزمة لإمكان ما أحاله المنازع أو لا تكون مستلزمة لإمكانه فإن لم تكن مستلزمة لم يكن جوابًا أصلاً وإن كانت مستلزمة كانت غايته أنه قدح فيما(5/152)
ذكره المنازع من العلم الضروري بحجة نظرية لأنه يقول العقل يجوِّز هذا وتجويز هذا يستلزم تجويز ذاك والقدح في الضروريات بالنظريات غير مقبول لأن الضروريات أصل النظريات فلو جاز القدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحًا في أصل النظريات والقدح في أصل الشيء قدح فيه نفسه فيكون القدح في الضروريات بالنظريات يتضمن القدح في الضروريات والنظريات وإذا كان على هذا التقدير لا تصح الضروريات ولا النظريات لم يكن هذا علمًا ولا كلامًا صحيحًا فلا يقدح به في شيء وهذا من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وهو كما قيل حُجَجٌ تهافت كالزُّجاج تَخَالُهَا حقًّا وكُلٌ كاسرٌ مكسورٌ وإذا كان القدح في الضروريات بالنظريات مستلزمًا ألاَّ يكون واحدٌ منهما علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق كان كلام القادح(5/153)
ليس علمًا ولا يثبت أنه حق وصدق فلا يكون مقبولاً فثبت أنه على التقديرين لا يقبل ما ذكره وليس هو علمًا ولا ثبت أنه حق وصدق فبقي ما قاله المنازع على حاله غير مقدوح فيه الوجه السادس أن هذه الصورة التي قد ذكر أن العقل الصريح لا يأباها وهو أنه لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما لا يكون فيقال له تعني بقولك إن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم أتريد أن العقل الصريح لا يعلم امتناع هذا في الحيز أو أن العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج فإن قال العقل الصريح يعلم إمكان هذا في الخارج كان معنى ذلك أن العقل الصريح يعلم أنه يمكن في الخارج وجود موجود متحيز ووجود موجود غير متحيز كما يعلم وجود موجود متحيز وقائم بالمتحيز ووجود الجسم وصفاته والعقل الصريح هنا إنما يُراد به العلم الضروري وإلا لم يحصل المقصود ومعلوم أنه لم يَدَّع ولا ذكر عن أحد من ذويه أنهم ادعوا أنهم يعلمون علمًا ضروريًّا وأن عقلهم الصريح يحكم بإمكان وجود موجود في الخارج ليس بمتحيز ولا قام بالمتحيز إذا فُسِّر المتحيز بالمباين لغيره بالجهة بل هؤلاء إنما يثبتون إمكان ذلك كما يثبتون وجوده بالأدلة النظرية ولو أمكنهم دعوى العلم الضروري بذلك كانوا يدعون العلم(5/154)
الضروري بإمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ثم لو قُدِّر أنه ادعى ذلك مدعٍ لم يكن دعواه دافعة لما ادعاه أولئك بل يكون الحكم لغيرهما وحينئذ فعليهم جميعًا أن يسلِّموا الحمم لكتب الله المنزلة وأنبيائه المرسلة ولا نزاع بين الخلائق أن دلالة الكتب الإلهية والآثار النبوية على أنه سبحانه فوق العالم أعظم من دلالتها على نفي كيفيته وكَمِّيتهِ وذلك يقتضي رجحان ذلك لو فرض أن لهؤلاء في السمع دليلاً فكيف وجميع علمائهم وعلماء الأولين والآخرين يعلمون أن السمع ليس فيه دلالة تدل لا نصًّا ولا ظاهرًا على أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق العالم وفيه من الأدلة التي هي نصوص وظواهر على أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم ما لا يحصيه إلا رب العباد ولما علم الله أن بني آدم يصل الأمر بينهم في المناظرات إلى هذا الحد وكانوا يدعون وجدا وعلمًا ضروريًّا إما صادقين في ذلك وهم غالطون لا يعرفون وجه غلطهم وإما كاذبين في ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وأمرهم أن يحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه ولهذا لا يقطع النزاع عن بني آدم إلا بالنبي والرسول وحاجتهم إلى ذلك ضرورية قال الله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] وقال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ(5/155)
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وهذا كله إذا ادعى مدعٍ العلمَ الضروري العقلي بنقيض ما ادَّعاه أولئك فكيف ولم يذكر أن أحدًا ادعاه ولا يدعيه إلا من خالف أصحابه ودخل في السفسطة الصريحة والجحود والبهتان ولا ريب أن باب الكذب والافتراء ليس مسدودًا فيمكن أن يحمل بعض الناس اعتقاده وظنه أو هواه وغرضه أو كليهما على ادعاء ذلك وإن قال معنى قولي إن العقل الصريح لا يأباها أي لا يعلم امتناعها فهذا إذا علم لم يضر المنازع فإن المنازع إذا قال أنا أعلم بالضرورة امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وأنت لم تعلم امتناع صورة تستلزم إمكان ذلك لم يكن عدم العلم بامتناع ما يوجب إمكان ذلك قادحًا في العلم بامتناعه فإنا إذا علمنا أن الشيء ممتنع وكان إمكان غيره مستلزمًا لإمكانه وذلك اللزوم لا يعلم امتناعه لم يكن عدم علمنا بامتناع مستلزم الإمكان مثبتًا للإمكان هذا ولا مانعًا من العلم بالامتناع وقد تقدم أنه لو قال لا أعلم امتناع ذلك لم يكن هذا جوابًا فكيف إذا قال بما يثبت به الإمكان أني أعلم امتناع هذا التقسيم لم يكن عدم العلم بامتناعه موجبًا عدم العلم بامتناع ذلك الخلو عن القسمين إذ أحدهما ليس هو الآخر وإن كان(5/156)
بينهما تلازمًا الوجه السابع أن يقال لا نسلّم أن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم إذا بين معناه وزال عنه الاشتباه وذلك أن الحيز يراد به الأمر الوجودي المنفصل عن المتحيز ويراد به ما لا ينفصل عن المتحيز ولا يستلزم وجود غيره فإن تحيز العالم وغيره من الأجسام لا يستلزم وجود شيء غيره وبالجملة فالمتحيز إن أريد ما يستلزم وجود شيء غيره لم ننازع فيما ذكره من التقسيم فإن العقل يعلم أن الموجود قد يكون في حيز منفصل عنه وقد لا يكون ولكن هذا لا يضر فإن المنازع إنما ادعى العلم الضروري أن الموجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه لم يذكر المتحيز وكذلك إن أريد بالمتحيز الجسم فقط دون العرض فقد علم أن الموجود فيه أجسام وصفات يقوم بها وإن كان هذا فيه نزاع ومن الناس من يقول لا موجود إلا الجسم وهذا تنازع في هذا التقسيم ويقول لا أسلّم أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون متحيزًا أو غير متحيز لكن ليس الغرض الكلام من جهة هؤلاء فقط بل يقالُ كلامًا عامًّا إذ لا حاجة إلى هذه الأقوال فإذا أراد بالحاصل في الحيز المتحيز أصالة أو تبعًا ولم يعين بالحيز أمرًا وجوديًّا منفصلاً عنه لم يسلم له منازعه أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلاً في الحيز وما لا يكون حاصلاً فيه لا بمعنى أن العقل يعلم جواز ذلك في الخارج كما تقدم(5/157)
ولا يعني أن العقل الصريح لا يعلم امتناع ذلك بل نقول العقل الصريح يعلم امتناع ذلك مما صرح ذوو العقول الصريحة من أئمة الإسلام وعلمائهم بأن العقل يمنع ذلك ولم يعرض على ذوي عقل صريح هذا إلا أنكره ونفاه إذا فهم حقيقة المعنى وأما من لم ينكر عقله ذلك فلأنه لم يعرضه على العقل الصريح فإن الصريح هو المحض الخالص الذي لا يشوبه هوى ولا جهل فكثير من الناس يسمع هذه الألفاظ المتداولة مثل الحيز والمتحيز والجسم والجوهر والعرض والصفات ونحو ذلك وهي فيها من الاحتمال والاشتراك ما يوجب تنازع العقلاء فيها فيكون كثير من النظر في مسماها ليس بعقل صريح خالص من الاشتباه والاشتراك ومن الناس من أَلِفَ قولاً واعتاده وتقلده عن بعض المعظَّمين في قلبه مثل تقلده أن الباري ليس في جهة أو أنه ليس بمتحيز أو ليس بجسم ولا جوهر أو هو جسم أو جوهر فيكون هذا التقليد مانعًا له من أن يكون عقله صريحًا كما قال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ ن(5/158)
َتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {170} [البقرة 170] وقد قال تعالى وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ {116} [الأنعام 116] وقال تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً {44} [الفرقان 44] فالعقل الصريح قليل في بني آدم ولكن علامته متابعة ما جاء به الرسل عن الله تعالى فإن العقل الصريح لا يخالف ذلك قط بل لو وَحَّدَه لوجد الإيمان ولهذا قال أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} [الملك 10] فأخبروا أنه أي الأمرين وجد منهم العذاب وقد قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} [الحج 46](5/159)
وأعظم الناس عقلاً وأعظمهم إيمانًا ويقينًا بما جاءت به الرسل وهم أعظم الناس علمًا كما قال تعالى وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {6} [سبأ 6] وأن العقل الصريح يوجب الاجتماع فإن الحق لا يختلف ولا يتناقض ولهذا كان ما جاء من عند الله كذلك كما في قوله كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ [الزمر 23] وقال في خلافه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {82} [النساء 82] وقال إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} [الذاريات 8- 9] وقد قال تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ {14} [الحشر 14] فَبَيَّنَ سُبْحَانَه وتعالى أن تشتُّتهم بسبب عدم العقل ومعلوم أن هؤلاء المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم من أعظم الناس تفرقًا واختلافًا ولهؤلاء في معنى الجسم والجوهر والمتحيز والعرض وأحكامه نفيًا وإثباتًا من الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله فأين العقل الصريح معهم ولكن معهم دعوى العقل ولكن بين دعوى صفات الكمال وبين وجودها بون عظيم فما أكثر من ادعى بنوة الله وولايته وهم من أكذب الناس وكل من خرج عن شريعة الله فلابد أن يفتري ويكذب في دعواه منهم من ادعى(5/160)
النبوة والرسالة كمسيلمة والعنسي والثقفي وغيرهم ممن قال الله تعالى فيهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام 93] ومنهم من ادعى ولاية الله تعالى وأنه من أهله وخاصته كما يدعي ذلك الملاحدة من القرامطة والباطنية والرافضة والاتحادية وأمثال هؤلاء ممن(5/161)
هو إما منافق وإما فاسق وإما داعٍ إلى بدعة عظيمة ونحو ذلك وكذلك فيمن يدعي العقل الصريح والمعرفة بالمعقولات ويدعي صحة النظر ومعرفة الأدلة القطعية والبراهين الموزونة بالميزان العدل وغير ذلك من هم في كثير من أمورهم أو أكثرها من أبعد الناس عن العقل والمعقول وهذا كله تسمية الشيء من العيان والصفات بغير أسمائها كما قال تعالى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ [النجم 23] وإذا كان كذلك فالمنازعون يقولون إن العقل الصريح يمنع أن يكون العقل الصريح موجودًا مع غيره ليس بداخلٍ في غيره ولا خارج أو ليس بمباين له ولا محايث أو يكون قائمًا بنفسه لا يباين القائم بنفسه بالجهة ونحو ذلك من المعاني التي يمكن التعبير عنها بعبارات متنوعة وما زال أئمة الإسلام يذكرون أن العقل يمنع وجود هذا فقول القائل هذا(5/162)
قول بأن الموجود لا يكون إلا جسمًا أو قائمًا به ونحو ذلك لا يدفع ما ذكر بعد ذكرنا بعض ما تقدم من قولهم فإن أول من ابتدع في هذه الأمة وصف الموجود بعدم النهاية هو الجهم ولفظ المتحيز والجسم والحد والنهاية وتنزيه الرب سبحانه بهذه الأسماء كلها من بدع الجهمية قال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من(5/163)
العالمين أي من هذه الأمة وإلا فهذا النفي كان موجودًا قبل هذه الأمة في كثير من مبتدعه اليهود والنصارى وفي طائفة من المشركين والصابئين والفلاسفة لهم في ذلك قولان مشهوران قبل الإسلام قال عثمان فقال للجهم قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي وتعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأنه لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره(5/164)
ولا يُجَوِّزُ أحدٌ أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونَكِل علم ذلك إلى الله تعالى والمكانة أيضًا حد وهو على عرشه فوق سماواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بِمَ نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد وتقدم ذكر هذا بتمامه وقال عبد العزيز المكي في رده على الجهمية بعد أن ذكر بيان فساد قولهم في مسألة العرش وأبطل قولهم إنه في كل مكان قال فلما شنعت مقالته قال أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء مع الشيء ولا كالشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء قال يقال له إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئًا لأنه لو كان شيئًا ما خلا في القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو خارجًا منه فلما لم يكن في قولك شيء استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجًا من الشيء فوصفت لعمري ملتبسًا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل وقال الإمام أحمد إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون(5/165)
مكان فقل أليس الله كان ولا شيء معه فيقول نعم فقل له حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل وقد تقدم تمام هذا الكلام وقوله أيضًا فلما ظهرت الحجة على الجهم بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس قال لا فقلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين فلم يحسن الجواب فقال بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة مَوَّهَ عليهم وقال في خطاب الجهمية وقلنا هو شيء فقال هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل من تعبدون قال نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يُعرَف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم(5/166)
لا تؤمنون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلَّم موسى قالوا لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم نظر أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يشعر أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية في الله تعالى أو قال إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر إذا تبين ذلك أن يقال في الوجه الثامن كونه خارج العالم لا يخلو إما أن يستلزم كونه حاصلاً في الحيز أو لا يستلزم ذلك فإن كان ذلك لا يستلزم كونه متحيزًا أمكن أن يقال هو خارج العالم ولا يكون متحيزًا وحينئذ فالعلم بأن الموجود لا يكون إلا داخل العالم أو خارجه لا ينافيه العلم بأنه إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون فإن لم ينافِهِ لم يكن هذا جوابًا عن الأول بل يكون قول الأولين أن الموجود إما داخل الآخر أو خارجه صحيحًا وذلك يوجب أن يكون الباري إما داخل العالم وإما خارجه وهو مقصودهم وإن كان مع ذلك ليس بحاصلٍ في الحيز وهذا يقوله من يقول إنه فوق العرش مباين للعالم وليس بجسم(5/167)
فقوله الموجود إما حاصل في الحيز وإما غير حاصل في الحيز حينئذٍ يجتمع مع قول الأولين على هذا التقدير فلا يضرهم التزامه وإن كان هذا منافيًا للأول بحيث أنه إذا قيل الموجود قد يكون حاصلاً في الحيز وقد لا يكون وما ليس في الحيز ليس بداخل في غيره ولا خارج منه كان قول من قال إن الموجود لا يكون إلا داخلاً في غيره أو خارجًا قولاً منهم بأنه لا موجود إلا حاصل في الحيز وهذا هو الذي يقوله من يقول ليس فوق العرش وليس بجسم كما يقوله المؤسس وذووه ويقوله من يقول هو فوق العرش وهو جسم وهو أيضًا يقتضي قول من قال إن الله فوق العرش بحدٍّ وعلى هذا التقدير فيكون الأئمة الذين قالوا إنه لا موجود مع غيره إلا داخل الآخر أو خارجه أو أنه على العرش يقولون بهذا وأنـ ـه كان كذلك وقد علم أن هؤلاء يقولون إن العقل الصريح يمنع وجود موجود لا داخل الآخر ولا خارجه فيكونون هؤلاء على هذا التقدير يقولون إن العقل الصريح يأبى(5/168)
وجود موجود غير حاصل في الحيز على هذا التقدير والتفسير وقد صرح طوائف من أهل الكلام باللغة التي يتخاطبون بها بذلك وقالوا لا موجود إلا الجسم أو الجسم وما يقوم به وقالوا لا يعقل موجود إلا كذلك ومن ادعى وجود موجود غير ذلك فقد خالف العقل الصريح وهذا كله إذا ادعى المنازع ذلك بغير قياس على القديم والمحدث وأما تقديره بالقياس فيقال في الوجه التاسع المكان المشهور المعروف هو الأعيان المشهورة وما يقوم بها سواء قيل إن المكان هو نفس الأجسام التي يكون الشيء عليها أو فيها أو قيل إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي وأما الزمان المعروف فإنه تابع للجسم سواء قيل إنه تقدير الحركة أو مقارنة حادث لحادث أو مرور الليل والنهار قال تعالى في كتابه الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] وقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة 164] ولا نزاع بين أهل الملل أن الله سبحانه كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة وأن وجوده لا يجب أن يقارن وجود هذه الأمكنة والأزمنة كما تقدم بيان ذلك لكن مع هذه الأمكنة المخلوقة الموجودة يقدر الذهن لها أحيازًا حاوية لها ويقدر ذلك مع عدم هذه الأمكنة(5/169)
وهذا معنى قولهم الحيز وتقدير المكان وكذلك الذهن يقدر أن هذه الأزمنة لها دهر يحيط بها ويقدر فيه تعاقبًا كتعاقب الأزمنة وتقدير هذا الدهر مع عدم هذه الأزمنة وليس الغرض هنا الكلام بأن هذا الدهر والحيز هل هو وجودي كما يقوله بعض الناس أو هو عدمي لا وجود له في غير الذهن كما يقوله الجمهور وإنما الغرض ذكر مقايسة أحدهما بالآخر وقد علم أنه لابد من وجود واجب وأن هذا لا يمكن النزاع فيه وذلك هو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ولا ريب أنه لم يزل موجودًا وأنه يمتنع عدمه فإن وجوب الوجود ينافي جواز العدم فضلاً عن وقوعه ولا نزاع بين من يقول بحدوث العالم أو تقدمه ووجوبه عنه في أنَّ العالم مفتقر إليه محتاج إليه وأنه متقدم عليه بالمرتبة والغلبة والذات وهؤلاء أيضًا قد يقولون العالم محدث ويعنون حدوثه وجوده بالرب ووجوبه به وافتقاره إليه لا يشترطون في المحدث أن يكون معدومًا ثم يوجد والمعروف في اللغة ما هو عُرْفُ أهل الكلام وغيرهم أن المحدث ما كان بعد أن لم يكن بل المحدث في اللغة أخص من المحدث عند أهل الكلام فإن المحدث والحدث يقابل القديم والمتقدم(5/170)
والقديم في اللغة ما كان متقدماً على غيره ولو كان مخلوقاً كما قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] وقال وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} [الأحقاف 11] وقال قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ {95} [يوسف 95] وقال الخليل عليه السلام أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ {76} [الشعراء 75-76] والأقدم أبلغ من القديم والقديم فعيل من قدم يقدم ومنه قولهم أَحْدَثيّ فيما قدم وما حدث وقد زعم بعض أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم أن القديم حقيقة فيما لم يسبقه عدمٌ وهو الله وهو مجاز فيما تقدم على غيره مع كونه مخلوقاً وقال قوم لئن حرم أن الله لا يجوز أن يسمى قديماً لأن ذلك لم يرد به الشرع فأسماء الله شرعية والصواب أن القديم ما تقدم على غيره في اللغة التي جاء بها القرآن وأما كونه كان معدوماً أو لم يكن معدوماً فهذا لا يشترط في تسميته قديماً والله أحق أن يكون قديماً لأنه متقدم على كل شيء لكن لما كان لفظ القديم فيه نواحٍ(5/171)
لا تدل مطلقة إلا على المتقدم على غيره كان اسم الأوَّل أحسن منه فجاء في أسمائه الحسنى التي في الكتاب والسنة أنه الأول وفرق بين الأسماء التي يُدعَى بها وبينما يُخبر به من الألفاظ لأجل الحاجة إلى بيان معانيها كما هو مذكور في غير هذا الموضع فصار المتكلمون الذي يقولون إن القديم هو الله فقط وأن تسمية غيره به مجاز يجعلون القديم الذي لم يكن معدوماً ولم يزل موجوداً وجعلوا المحدث ماكان معدوماً ثم وجد وقالـ وا إن الله هو القديم وما سواه محدث وسبق العدم داخل في معنى المحدث عندهم ولا ريب أن من قال إن العالم لم يزل موجوداً يقول إنه قديم ولا ريب أن الله سبحانه قديم سواء فسر القديم بما لم يسبقه عدمه أو فسر القديم بأنه(5/172)
متقدم على غيره بل هو متقدم على كل شيء إذ هو الأول الذي ليس كمثله شيء وأما الحديث ففي اللغة لا يكون إلا ما حدث بعد أن لم يكن وهو عند أهل اللغة مقابل للقديم ولهذا يراد به المتجدد القريب الزمان كما يقال تمر قديم وتمر حديث لكن هؤلاء سموا العالم محدثاً باعتبار تقدم الباري عليه وإن لم يكن ذلك على محض اللغة ولهذا لم يوجد في كلام سلف الأمة وأئمتها لفظ حدوث العالم لأن هذا اللفظ يقتضي التجدد المنافي للتقدم الإضافي بل يقولون كما قال الله إنه مخلوق ونحو ذلك مـ ما أخبرت به الرسل وإن كان يوصف بالقدم الإضافي كما في العرجون القديم إذا عرف ذلك فقولُ القائل الموجود إما أن يكون قديماً أو محدثاً إذ لا يخلو عن القدم والحدوث ينبغي أن يعرف على هذه الاصطلاحات فمن جعل القديم ما لم يسبقه عدم وما سوى ذلك فهو محدث يقول الموجود إما أن يكون بعد(5/173)
عدمه أو يكون موجوداً لم يزل وهذا تقسيم حاصر وعلى هذا فالقِدم له وجهان أحدهما ذاتي للموصوف وهو يعود إلى كونه أزليًّا وهو كونه موجوداً لم يزل سواء قدر وجود غيره أو لم يقدر والثاني أن يكون قدمه باعتبار تقدمه على غيره وذلك معنى كونه الأول فإن اسم الأول فيه معنى للإضافة إلى غيره كما في المتقدم على غيره بحيث لو لم يفرض وجود غيره لم يعقل كونه أولاً أو آخراً كما لم يفهم كونه متقدماً أو سابقاً فإذا قيل الموجود إما أن يكون قديماً أو محدثاً فهو بالمعنى الذاتي إما أن يكون أزليًّا أو لا يكون وبالمعنى الثاني إما أن يكون قبل غيره أو لا يكون وكونه قبل غيره له وجوه قد تقدم ذكرها ومن قال بقدم العالم يقول هو قبل العالم بوجه مع أنهما أزليان وكنوه أزليًّا معناه أنه لم يزل موجوداً وهذا الأزلي الدايم الباقي يقدر العقل معه دهوراّ متعاقبة شيئاً بعد شيء لا ابتداءَ لها كما لا ابتداءَ له هذا مع تقدير أنه لا وجود للزمان المعروف لكن قد تقدم أن هذا الدهر المقدر لا وجود له إلا في الذهن عند أكثر الناس ومنهم من يجعل وجوده خارجيًّا وكذلك القديم بالمعنى الثاني فإن المتقدم على غيره يعقل تقدمه عليه مع عدم الليل والنهار والزمان المعروف والذهن يقدِّر بينهما دهوراً متعاقبة كنحو ما يقدره مقارناً لوجود الأزل وهكذا يوجد في اسمه الكبير والعظيم والعلي والظاهر(5/174)
ونحوه من أسماء الله المتعلقة بالمكان فإنه هو سبحانه في نفسه قائم بنفسه متميز بحقيقته وهو في نفسه كبير عظيم سواء كان غيره موجوداً أو لم يكن لكن العقل يقدر معه أحيازاً خالية لا نهاية لها وهذه تقديرات ذهنية لا وجود لها في الخارج عند عامة العقلاء ومنهم من يزعم أنها وجودية وهي تقدير المكان وهذه المباينة والامتياز وكونه بحيث يشار إليه أمر ثابت له سواء كان غيره موجوداً أو لم يكن ثم إذا وجد غيره فهو أيضاً مباين له منفصل عنه فمباينته تابعة لوجوده لا يكون موجوداً إلا بحقيقته التي يباين بها غيره وهو العظيم الكبير ولا يكون واجب الوجود إلا بوجوب هذه المباينة له لاختصاصه بحقيقته التي تستلزم مباينته لغيره وهو الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق وهو الكبير العظيم وكما أن وجوده بنفسه يقتضي أزليته فوجوده بنفسه يقتضي عظمته وبينونته التي هي أعظم من كل عظمة وبينونة وأن يكون أحداً صمداً لا يخرج منه شيء فيكون والداً ولا يخرج من شيء فيكون ولداً إذا حقيقته مباينة لكل شيء فإنه كما أن وجوبه بنفسه ينافي عدمه فلا يكون محدثاً موجوداً بعد عدمه لأنه حينئذ يكون مفتقراً إلى غيره فلا يكون وجوده بنفسه ينافي تعلقه بغيره وملابسته له بحيث يكون محتاجاً إلى مماسته ومخالطته ونحو(5/175)
ذلك فإن ذلك ينافي وجوبه بنفسه بل هو الغني مطلقاً الصمد مطلقاً فيكون مبايناً لغيره لا يحتاج إليه ولا يتعلق به بوجه من الوجوه كما لا يجوز عليه العدم والحدوث بوجه من الوجوه وهذه المباينة لها وجهان أحدهما ذاتي للموصوف وهو يعود إلى كونه موجوداً ووجوبها يعود إلى كونه واجب الوجود صمداً والثاني أن تكون مباينته باعتبار انفصاله عن غيره إذا وجد وذلك معنى كونه الظاهر والأعلى والظاهر في المباينة كالأول في المتقدم قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء فقول القائل لا يكون الموجود إلا مبايناً أو محايثاُ كقوله لا يُعقل موجود إلا قديماً أو محدثاً بالاعتبارين الذاتي والإضافي فإنه إن أراد بالقديم ما لم يسبقه عدم والمحدث ما سبقه عدم فالمباين هو القائم بنفسه والمحايث ما لا يقوم بنفسه وذلك في الموضعين تابع لوجوده ووجوب وجوده وغن أراد بالقديم ما تقدم على غيره وبالمحدث ما تقدمه غيره فالمباين ما باين غيره وقام بنفسه والمحايث ماكان قيامه(5/176)
بغيره لا يباينه وقول القائل إما أن يكون داخل العالم أو خارجه كقول القائل إما أن يكون مع العالم أو قبله فإن محايثته للعالم في المكان ومجامعته للعالم في الحيز كمقارنته للعالم في الزمان ومجامعته له فيه وهو إما أن يكون محايثاً للعالم أو مبايناً له وإما أن يكون مقارناً للعالم أو متقدماً عليه وكذلك كل موجود مع وجود غيره إما أن يكون قبله أو لا يكون وإذا لم يكن قبله فإما أن يكون معه أو بعده وإما أن يكون مبايناً له فإما أن يكون محلاًّ له أو حالاًّ فيه والحجة التي حكاها المنازع لم يحرِّرها تحريراً يظهر فيه التماثل فإنه قال لا نعقل موجوداً خالياً عن القدم أو الحدوث فكذلك لا نعقل موجوداً ليس في العالم ولا خارج العالم ولا في شيء من جهاته الست وكان تحرير التماثل أن يقال لا يُعقل موجودان إلا أن يكون أحدهما متقدماً على الآخر أو هما متقارنان فكذلك لا يعقل موجودان إلا أن يكون أحدهما خارجاً عن الآخر بائناً منه أو يكونا متحايثين فيكون أحدهما داخلاً في الآخر أو(5/177)
يقال لا يُعقل موجود خالٍ عن القدم أو الحدوث فكذلك لا يعقل موجود خال عن المباينة والمحايثة ونحو ذلك ما يظهر به تماثل التباين ومما يوضح ذلك أن من قال العالم قديم والباري متقدم عليه بالذات والغلبة وغير ذلك وهو محدث باعتبار تقدمه عليه يمكنه أن يقول أيضاً إن الباري فوق العالم بالذات والغلبة والرتبة وغير ذلك وهو تحته باعتبار عُلوَِه عليه ومن قال إنه متقدم عليه تقدماً حقيقيًّا بحيث يقدر الذهن بين وجوده ووجود العالم أزمنة لا نهاية لها كما يقدر ذلك في وجوده مفرداً وإن لم يكن لذلك وجود يقول إنه ظاهر عالٍ على العالم ظهوراً وعلوًّا حقيقيًّا بحيث يقدر الذهن بينه وبين العالم أحيازًا خالية كما يقدر ذلك في وجوده ووجود العالم وإذا كان ذلك تقديراً لما لا وجود له في الخارج فمن جعل علوه على العالم ليس إلا بالرتبة والقدرة ونحوهما فهو شبيه بمن جعل تقدمه على العالم ليس إلا بالرتبة والتوليد(5/178)
ونحوهما وهذا في الحقيقة إنكار لكونه الأول وإثبات لمقارنة العالم له في الزمان وذلك إنكار لكونه هو الظاهر وإثبات لمقارنة العالم له في المكان وكلا القولين يعود إلى تعطيل الصانع في الحقيقة وأنه ما ثَمَّ غير هذا العالم ولهذا كان الاتحادية وغيرهم من هؤلاء يصرحون بذلك ويقولون إن العالم هو حقيقته وهويته وهذا في الحقيقة قول المعطلة للصانع كما أظهره فرعون ولهذا يعترف أئمتهم بأنهم على قول فرعون وكنت قد ذكرت أنه يلزمهم قول فرعون لبعض من له خبرة وصدق حتى حدثني عن إمام من أئمتهم أنه قال له ونحن على قول فرعون والله سبحانه قبل الأزمنة وفوق الأمكنة ولكن الذهن يقدر تقدمه بدهر وتقدم فوقيته بحيز كما تقدم ذكره وهما أمران ذهنيان مقدران لا وجود لهما في الخارج عند جمهور الناس لكن بين النوعين فرق لابد منه وهو أن الدهر المقدر والزمان الموجود هو يقتضي شيئًا بعد شيء لا يجتمع أوله وآخره في زمان واحد(5/179)
ولهذا يمكن ألا يكون له نهاية في وجوده كالزمان فإن أهل الجنة ونحوهم لا نهاية لوجودهم وأما الحيز المقدر والمكان الموجود فإنه موجود في وقت واحد لا يوجد شيئًا بعد شيء فلابد له من حد وحقيقة ولا يمكن وجود مكان لا نهاية له ولا جسم لا نهاية له فلهذا كان الفرق بين تقدمه على العالم ومباينته له أنه في تقدمه على ما يتقدم عليه من خلقه يمكن فرض أزمنة لا نهاية لها وأما مباينته لما يباينه من خلقه فلا يمكن أن يفرض بينهما أمكنة لا نهاية لها ولهذا لم يكن لابتداء وجوده ولا لدوام بقائه حد ولا نهاية ولا غاية ولا يقال مثل ذلك في عظمة ذاته وقدره بل يقال لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر 67] ونحو ذلك ولهذا كان الجهم وأبو الهذيل وهما إماما الجهمية وغيرهما لما قاسوا النهاية في الذات والمكان على النهاية في الوجود والزمان عدُّوا حكم هذا إلى حكم هذا وحكم هذا إلى(5/180)
حكم هذا فقال بأن المخلوق تثبت له النهايتان جميعًا وأثبتوها فـ الانتهاء فقال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء الحركات كلها وقالوا بأن الخالق تعالى لا تثبت له النهايتان جميعاً فكما لا نهاية لابتداء وجوده وانتهائه فلا يكون لذاته نهاية ثم تفرَّعت بهم وبأصحابهم المقالات كما تقدم نقل المقالات السبع لهم هل يقال إنه لا يتناهى وليس بجسم أو هو جسم أو غير ذلك من الأقوال التي تقدمت وقد تقدم ذكر عثمان بن سعيد أن أول من قال بعدم الحد(5/181)
والنهاية وهو الجهم ولا خلاف أنه أول من قال بفناء الجنة والنار وأعظم من هؤلاء ضلالاً المتفلسفة الصابئة الذين يقولون بعدم النهاية للعالم ابتداءً وانتهاءً كالصانع ثم يثبتون النهاية لذات العالم دون الصانع فسوَّوه بالخالق في عدم النهاية ابتداءً وفرقوا بينهما في الذات ثم هؤلاء الجهمية الذين أثبتوا النهاية للعالم ابتداءً وانتهاءً وتكلموا في الفناء كما تكلموا في الحدوث ونفوا عن الباري النهايتين يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن يقال قد تبين تماثل المكان والزمان وما يقدر بهما في لزومهما للموجود أو عدم اللزوم وفي انقسام الموجود إلى ما ذكر من القسمين في النوعين جميعًا سواء قسّم الموجود باعتبار ذاته أو باعتبار إضافته إلى القسم الآخر فإذا قيل الموجود إما أن يكون قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره(5/182)
أو قيل إما أن يكون مباينًا أو محايثًا وإذا قيل إما أن يكون مباينًا أو لا مباينًا ولا محايثًا فهو كما لو قيل إما أن يكون قديمًا أو محدثًا أو لا قديمًا ولا محدثًا وهذه القسمة ذهنية والقسم الثالث فيها ممتنع في الخارج بخلاف القسم الأول ولو قيل إما أن يكون حاصلاً في المكان أو لا يكون فهو كما لو قيل إما أن يكون في الزمان أو لا يكون وهي تسمية صحيحة في الخارج إذا لم يرد بالمكان الأجسام أو صفاتها وبالزمان مقدار حركاتها وما يشبه ذلك فإن نفس أجسام العالم ليست في مكان بهذا الاعتبار ولا هي أيضًا في زمان وكذلك الزمان ليس في زمان آخر وإذا قيل إما أن يكون حاصلاً في الحيز أو لا يكون فهو كما لو قيل إما أن يكون حاصلاً في الدهر أو لا يكون والمراد بالدهر ما يقدر الذهن وجود أزمنة فيه ومعلوم أنه ما من موجود إلا والذهن يقدر تعاقب أزمنة مقارنة فإذا كان وجوده إلى غير غاية وإن لم يكن ذلك موجودًا وكذلك ما من موجود إلا والذهن يقدر معه أحيازًا خالية يفرض فيها أمكنة لا نهاية لها وهذا أيضًا لا وجود له في الخارج وإنما الموجود في الخارج دوام الحق وبقاؤه وللناس نزاع في الباقي هل هو باقٍ ببقاء أو لا وكذلك(5/183)
حده وحقيقته التي بها بان وامتاز فلا موجود قبل العالم إلا الله بما هو عليه من صفاته وقد ذهب طوائف من أهل السنة والمعرفة إلى أن الدهر من أسماء الله على ظاهر الحديث المروي في ذلك وقالوا معناه الباقي الدائم الأزلي وذكر أنه روي يا دهر يا ديهور يا ديهار وتسميته قديمّا(5/184)
وأوّلاً مثل تسميته عليًّا وظاهرًا وكونه دهرًا بمعنى تقدُّمه مثل كونه محلاًّ للصفات بمعنى موصوف بها فهو سبحانه الغني بقدمه وقيامه بنفسه عن غيره من زمان ومكان وغيرهما وإذا قيل الموجود إما أن يكون متقدمًا على غيره أو محدثًا بعده فهو كما لو قيل الموجود إما أن يكون عاليًا على غيره بائنًا عنه أو يكون داخلاً فيه محايثًا له قائمًا به فالمتقدم على غيره مستغنٍ كاستغناء القائم بنفسه عن القائم بغيره والمحدث بعد العدم مستلزم لزمانٍ أو تقدير مكانٍ يكون هو بعده والقائم بغيره مستلزم لمكانِ محل هو فيه والقديم المطلق مستغنٍ عن الزمان والقائم بنفسه مستغنٍ عن المكان والمحدث بعد غيره مقارن للزمان المفتقر بمقارنة حادث لحادث والقائم بغيره مفتقر إلى المكان والمحل وهو سبحانه الأول فليس قبله شيء بل هو قبل الأزمنة وما فيها وهو الظاهر فليس فوقه شيء بل هو فوق الأمكنة وما فيها ومن قال هو في الأمكنة المخلوقة فهو بمنزلة من قال ليس ذاته قبل الأزمنة وذلك لا تنفصل ذاته عنها ولا تكون ذاته فوقها فهو بمنزلة من قال هو مع الأزمنة المخلوقة مقارن لها لا تكون ذاته قبلها ولا يتقدم عليه والأول جحود لكونه الظاهر فوقها وهذا جحود لكونه الأول قبلها(5/185)
ومن قال ليس في الأمكنة ولا خارجًا عنها فهو كمن قال ليس مقارنًا للأزمنة ولا متقدمًا عليها وكل من هذين المقالين من مقالات الجهمية لكن الأولى أقرب إلى العقل وهي قولهم في الابتداء يقولون إنه في كل مكان فيجعلونه بمنزلة الحال فيها المحتاج إليها هو نظير قول من قال مقارن للأزمنة المحدثة فيكون هؤلاء قد جعلوه داخلاً في المخلوقات والمحدثات بل زادوا حتى جعل الاتحادية منهم نفسَ وجود المخلوقات فهؤلاء أقروا به ثم جعلوه هو المخلوق أو بعض المخلوق وإذا قال هو في العالم لا مباين له ولا مماس له كان كقولهم هو مع العالم لا متقدم عليه ولا مقارن له وأما الجهمية في الانتهاء فإنهم عطَّلوه بالكلية ولم يثبتوا له وجود المخلوقات ولا غيرها حيث قالوا لا هو داخل العالم ولا خارجه كما لو قالوا لا هو مع العالم ولا قبله ليس بين هذا وبين هذا فرق في بديهة العقل ومن أجاب عن هذا بأن العقل الصريح يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون حاصلاً في الحيز وإلى ما يكون فهو بمنزلة من قال العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما لا يكون(5/186)
حاصلاً في الذهن وإلى ما يكون وإذا كان هذا لا يمنع ما يعلمه العقل بفطرته من أنه إما أن يكون وجوده مقارنًا للعالم أو متقدمًا عليه فكذلك ما ذكره في الحيز لا يمنع ما يعلمه العقل من فطرته من أنه إما أن يكون وجوده داخل العالم محايثّا له أو خارجًا عنه مباينًا له وكما لا يُعقل موجود إلا قديم أو محدث فلا يعقل إلا قائمًا بنفسه أو بغيره وكما أن القديم ينقسم إلى القديم المطلق الذي لا يجوز عدمه وإلى القديم المقيد وهو المسبوق بالعدم أو الممكن عدمه فالقائم بنفسه ينقسم إلى المحتوم المطلق وهو الذي لا يجوز عدمه ولا يحتاج إلى غيره بحال وإلى القائم المقيد وهو المحتاج إلى غيره والذي يقوم في وقت ويعدم في وقت وكما أن المخلوق القديم قديمٌ مقيدٌ إذا كان متقدمًا على غيره فالخالق القديم أولى بأن يكون متقدمًا على غيره ويكون هو الأول الذي ليس قبله شيء الكائن قبل كل شيء فالمخلوق القائم بنفسه قائمًا مقيدًا لحاجته إلى غيره إذا كان مباينًا لغيره فالخالق للعالم قائم بنفسه قيامًا مطلقًا أولى أن يكون مباينًا لغيره وأن يكون هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء والجهمية من المتكلمين يقولون هو القديم والعالم(5/187)
محدث مع قولهم إنه في كل مكان أو أنه مع ذلك لا مباين للعالم ولا مماس له أو قولهـ م إنه لا داخل العالم ولا خارجه وأما الجهمية من المتفلسفة والصابئة فيقولون مع ذلك إن العالم أيضًا قديم معه مقارن له في الوجود مقارنة المعلول لعلته التامة والمتولّد لمولِّده كتولُّد الصوت عن الحركة والشعاع عن الشمس ومع هذا يقولون إن الباري تعالى متقدم عليه بالغلبة وبالذات أو بالطبع وبالشرف وقد يقولون العالم محدث بمعنى افتقار إلى الصانع وعند التحقيق فلا يثبتون له تقدمًا حقيقيًّا كما أنهم وجهمية المتكلمين لا يُثبتون له عليه علوًّا حقيقيًّا ومباينة معقولة وذلك أن هؤلاء قالوا التقدم والتأخر خمسة أنواع الأول التقدم بالعلية كتقدُّم السراج على ضوء السراج وتقدم الشمس على شعاعها فإن العقل يدرك تقدم وجود السراج على ضوء السراج وإن امتنع تأخُّر أحدهما عن الآخر في الزمان(5/188)
الثاني التقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط مثل تقدم الواحد على الاثنين والفرق بينه وبين ما قبله بعد اشتراكهما فالمتأخر لا يوجد إلا بعد وجود المتقدم إذ العلة تستلزم وجود المعلول والشرط لا يستلزم وجود المشروط الثالث التقدم بالشرف والرتبة كتقديم العالم والقادر على الجاهل والعاجز الرابع التقدم بالمكان كتقدم الإمام على المأموم وخامسها التقدم بالزمان كتقدم الشيخ على الشاب ثم إنهم لما زعموا حصر التقدم في هذه الوجوه قالوا نحن نقول بتقدم الباري على العالم بالوجوه الثلاثة الأُوَل والتقدم بالمكان ليس مما يتعلق بما نحن فيه وأما التقدم بالزمان فممتنع ولو كان ممكنًا لكان مبطلاً لقول منازعنا وأما كونه(5/189)
ممتنعًا فلأن تقدم الباري على العالم لو كان بالزمان لزم أن يكون الباري زمانًا والزمان زمانيًّا أما الأول فلأن الزمان من لواحق التغيُّر وذلك ممتنع على الباري وأما الثاني فلامتناع التسلسل وأما كونه مبطلاً لقول منازعنا فلأنه إذا كان تقدم الباري على العالم زمانيًّا مع أن الله سبحانه لا بداية لتقدمه على العالم لزم أن لا يكون للزمان بداية فيكون الزمان قديمًا والزمان من العالم فلا يكون العالم محدثًا كما يقوله منازعنا وقد يستدلون بهذه الحجة على امتناع كون العالم مسبوقًا بالعدم بأن تقدم العدم عليه لا يصحّ أن يكون بالوجوه الأربعة ولو كان بالزمان لزم قدم الزمان فهذا الكلام الذي قالوه قد موَّهوا به على الناس حتى اضطرب هنا كثير من أذكياء العالم وقد أجاب عنه مَن أجاب مِن متكلمي الإسلام بإثبات تقدم آخر خارج هذه الأقسام الخمسة وهو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض وتقدم الباري على الحوادث اليومية وقد يسمي بعضهم كالشهرستاني وغيره هذا التقدمَ(5/190)
بالذات ولاريب أن تقدم بعض أجزاء الزمان على بعض ليس بالعلّية ولا بالشرط ولا بالشرف لامتناع تقارب أجزاء الزمان مع تقارب المتقدم والمتأخر بهذه الوجوه ولأن أجزاء الزمان متماثلة وليس أيضًا بالزمان لأنه يلزم أن يكون للزمان زمان وأن يكون الباري زمانيًّا قالوا وإذا كان قد عُقِل تقدم الأمس على اليوم من غير حاجة إلى زمان آخر فكذلك يعقل تقدم العدم على الوجود وتقدم الباري على الوجود قالوا وانتم لا تقولون بهذا التقدم لا تقولون إنه مسبوق موجود غيره أو معدوم نفسه بهذا النوع من السبق والتقدم وقد يقال هذا الجواب(5/191)
وإنْ كان فيه من إبطال كلام أولئك ما فيه فلم يجيبوا عن الشبهة في الجواب بل هذه معارضة ومن أعطى النظرَ حقَّه علم أن هؤلاء الملاحدة قلبوا الحقيقة ونفوا عن الرب التقدم الحقيقي ومنعوا إمكان التقدم الحقيقي بحال كما أنهم وملاحدة المتكلمين في العلو قلبوا الحقيقة فنفوا عن الرب العلوَّ الحقيقي والمباينة الحقيقية بل منعوا إمكان العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية بل منعوا أو موَّهوا بما في لفظ المكان من الاشتراك وبيان ذلك أن يقال لا ريب أنه يقال إن التقدم والتأخر والمقارنة من الأمور التي فيها إضافة كما يقال هذا إما أن يكون متقدمًا على هذا أو متأخرًا عنه أو مقارنًا له ويقال إما أن يكون معه أو قبله أو بعده وإما أن يكون معه أو أمامه أو خلفه فلفظ مع هي بمعنى المقارنة والمصاحبة وهي ظرف يقارن ظرف الزمان تارة وظرف المكان أخرى فإذا قيل هو قبله أو بعده أو معه كانت هنا ظرف زمان وإذا قيل أمامه أو وراءه أو معه كانت ظرف مكان والتقدم والتأخر قسيمان للمقارنة التي يعبر عنها بلفظ مع فيقال هو متقدم عليه أو متأخر عنه أو هو معه وإذا كان(5/192)
كذلك فالتقدم والتأخر والمقارنة في الأصل إنما هي بالزمان والمكان كما أنه المستعمل في ذلك إذا قلَّب الزمان والمكان وهي الألفاظ التي تسمى ظروف الزمان والمكان والله الذي علّم البيان علم الإنسانة العبارة عن المعاني التي يعقلها قلبه فالمعقول لبني آدم من ذلك هو المعبَّر عنه بألفاظ الزمان والمكان فأما التقدم والتأخر بالمكان كقول سمرة بن جندب أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا رواه الترمذي وكقول أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه الذي في الصحيحين لما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه الحديث في صلاة(5/193)
الخوف ذكر الصف المقدم والصف المؤخر وهكذا لفظ الأول والآخر يستعمل في المكان كما يُستعمل في الزمان كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ونظائر هذا في الاستعمال كثير ومنه قوله تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ {97} يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود 97-98] مع أن تقدم فرعون وتقدم الإمام هو بالمكان والزمان جميعًا فإذًا فعلُهُ قبل فِعْلِهم وهو إمامهم(5/194)
ثم التقدم بالرتبة والشرف هو من هذا فإن المكانة والرتبة مأخوذة من المكان لأن صاحب الرتبة المتقدمة يكون متقدمًا في المكان والمكانة على صاحب الرتبة المتأخرة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والتقدم بالرتبة كالعلو بالرتبة والدرجة والمكانة وأصله من المكان وقد تكلمنا على هذا مبسوطًا في غير هذا الموضع وسنوضحه إن شاء الله إذا تكلمنا على ما تأوَّل به ما جاء في القرآن من وصفه سبحانه بالعلو فإن إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته التي وُصف فيها بالعلو والظهور والرفعة تشيه إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته التي(5/195)
وصف فيها بالأولية والتقدم والنوع الثاني التقدم والسبق والأولية بالزمان كقوله سبحانه وتعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] وقوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11} [الأحقاف 11] وقول إبراهيم عليه السلام أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ {76} فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77} [الشعراء 75-77] وقوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ {24} [الحجر 24] يتناول هذا وقد فسر أيضًا بالاستقدام والاستيخار في صفوف الصلاة ومنه قوله تعالى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس 12] فإن الذي قدموه هو ما فعلوه قبل موتهم وآثارهم ما أخروه وقد فسر أيضًا بالمكان وفسرت آثارهم بآثار خطاهم في المسجد والتقدم والتأخر والسبق والأولية في هذا النوع أشهر وقد يقال إنما استُعمل في المكان لتضمُّنه التقدم في الزمان أيضًا كما استعمل لفظ الأول والآخر فإنه لا يكاد يخلو في جميع موارده عن تقدمه نوعًا من التقدم بالزمان(5/196)
وأما ما ذكروه من التقدم بالعلية والشرط فهذا قد نًوزِعوا فيه وقيل لهم يمتنع في المقارنة الزمانية أن يكون أحدهما متقدمًا على الآخر بوجه من الوجوه فإن التقدم إذا كان من عوارض الزمان وهو ضد المقارنة واجتماع التقدم والتأخر مع المقارنة في شيئين لأعيانهما جمع بين الضدين فكما أنه يمتنع أن يكون أمامه ويكون معه في ظروف المكان والمكانة وموانعهما فإنه يمتنع أن يكون قبله ويكون معه في ظرف الزمان وتوابعه فمن قال إن العالم مع الله لم يصح أن يقول هو بعده ولا متأخرًا عنه ولا أن يقول إن الله قبله ولا متقدمًا عليه وهذا يختص بالكلام على ما أثبتوه من التقدم بالعلية والشرط دون الزمان وما نفوه من امتناع تقدم الله بالزمان كما نفوا أيضًا علوه بالمكان فيُجعل في ذلك فصلان(5/197)
الفصل الأول ما أثبتوه من التقدم بالعلة والشرط دون الزمان وأما المتقدم بالشرط كما مثلوه من تقدم الواحد على الاثنين فإن الواحد ليس له وجود خارجي محدد عن المواد بل ليس في الخارج من الوحدان إلا ما له حقيقة تتميز بها ولكن الإنسان يتصور في ذهنه الواحد قبل الاثنين ويتكلم بلفظ الواحد قبل الاثنين وهذا ترتيب زماني محسوس ثم إذا قُدِّر اجتماع تصوره للواحد والاثنين أو اجتماع نطقه بهما فهو كاجتماع أعيانهما في الخارج كما لو اجتمع درهم ودرهمان وثلاثة دراهم ونحو ذلك فليس هناك ترتيب أصلاً وليس الدرهم متقدم على الدرهمين ولا الدرهمان متقدمان على الثلاثة وقول القائل لا توجد الدرهمان إلا بوجود الدرهم أو لا يوجد الاثنان إلا بوجود الواحد يقال له أما الدرهمان الموجودان في الخارج فهما مستغنيان في وجودهما عن الدرهم المنفرد عنهما لا يشترط وجودُهما وجودَه بحال ولكن هما متوقفان على وجود أنفسهما كتوقف الدرهم الواحد على وجود نفسه فليس بأن يجعل تقدمه عليهما لكون الاثنين واحدًا وواحدًا بأولى من أن يجعل متقدمًا على نفسه لأن الواحد واحد وكل هذا غلط وهذا الترتيب من جنس التركيب(5/198)
والافتقار الذي يذكرونه في افتقار الشيء إلى صفته وبعضه وهو من جنس افتقاره إلى نفسه فيكون وجوده لا يكون إلا بصفته التي يمتنع أن يكون ذاته بدونها مثل كون وجوده لا يكون إلا بوجوده وهو مثل كونه واجبًا بنفسه ولا ريب أن الذهن قد يغلط فيظن في الواجب بنفسه أنه علة نفسه وأن هناك(5/199)
تقدمًا وتأخرًا وهو غلط بل هو هو فتوقُّف الاثنين على الواحد وتوقف الثلاثة على الاثنين هو توقف الجملة على بعض أفرادها وهو كتوقف الشيء على نفسه كتوقف الاثنين على الاثنين والثلاثة على الثلاثة وإذا لم تكن الجملة إلا هذه الأفراد وهذا التأليف لم يكن المتوقف غير المتوقف عليه ولم يكن هناك شيء متقدمًا على شيء بوجه من الوجوه في الخارج إلا إذا وجد أحدهما قبل الآخر فيكون الترتيب زمانيًّا وهو حق ولكن الذهن قد يدرك المفرد قبل الجملة والبسيط قبل المركب والواحد قبل العدد وننطق بذلك فيكون الترتيب في علمنا ونطقنا لا في الحقيقة نفسها فهذا هو التقدم بالشرط الذي يجعلونه في الأعداد والمقادير والمركبات ونحو ذلك وكذلك هو في الصفات والكيفيات فإنه إذا قيل العلم والقدرة مشروطة بالحياة والشرط متقدم على المشروط فليس في الموصوف ترتيب بحال بل الحياة والعلم والقدرة موجودة معًا بكل وجه لكن العلم يستلزم وجود الحياة فلا يوجد إلا معها لا أنه لا يوجد إلا بعدها وإذا لم يوجد إلا معها سواء كانت قبله أو لم تكن لم يقتض ذلك أنه يجب تأخره عنها بل إذا قارنها فهو مقارن لها وإذا قدر حياة لا علم لها ثم حصل معها علم فهنا هو متأخر عنها في الزمان أيضًا ونحن لا ننازع في أن الصفات يعرض لها الترتيب الزمني كما يعرض الأعداد كما تقدم ولكن ليس هذا بواجب ومتى(5/200)
انتفى هذا الترتيب لم تكن مرتبة أصلاً بل تكون متقارنة وأما الترتيب في علم الإنسان بالصفات فهذا لا ينضبط فقد يعلم الإنسان العلم ويستدل به على الحياة وقد يعلم الحياة ويستدل بها على العلم وحيث وجد ذلك الترتيب فهو ترتيب زماني وهو ترتيب في العلم بها والتعبير عنها لا في ذاتها وأما ما ذكر وهـ من التقدم بالعلية فيقال لهم ليس هذا أيضًا حقيقة وليس في المخلوق شيء واحد هو علة تامة لشيء أصلاً لكن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمراده بها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما سوى ذلك من الأسباب الموجودة فليس شيء منها بمفرده علة تامة لشيء ولكن يكون سببًا والسبب بمنزلة الشرط الذي إذا ضم إليه غيره من السباب صار المجموع علة ولكن ذلك المجموع لا يكون إلا بمشيئة الله لا يكون المجموع بعلة غير مشيئة الله قط فإذًا وصف العلية التامة لا تقوم بشيء من المخلوقات وإذا لم يكن شيء من المخلوقات علة تامة امتنع بطريق الأولى أن يكون متقدمًا بالعلية لكن يكون سببًا وهو كالشرط والشرط لا يجب تقدمه على المشروط بل قد يقارنه وقد يسبقه كما تقدم وإذا قارنه فليس هو متقدمًا عليه بوجه من الوجوه فكذلك ما يسمونه علة إنما هو في الحقيقة شرط وسبب ويكون متقدمًا عليه وإذا كان(5/201)
مقارنًا لم يكن متقدمًا فلا يجتمع الضدان وذلك يظهر فيما يذكرونه من الأمثلة وأشهرها الشمس مع الشعاع والشعاع عندهم إما أن يراد به ما يقوم بذات الشمس من الضوء أو ما يقوم بالأجسام المقابلة للشمس وهو المسمى بالشعاع عندهم وهو شعاع منعكس فإذا أريد به الضوء القائم بذات الشمس فذاك صفة من صفاتها ليست متقدمة عليه بوجه من الوجوه ومن جعل تقدم الباري على العالم كتقدم ذات الشمس على صفتها فقد جعل المخلوقات مثل صفة من صفات الخالق وجعل الخالق بمنزلة المحل للمخلوقات وهذا أقبح من قول من يقول إن الباري حالّ في المخلوقات ونحن إنما قصدنا أن نبين أن قول هؤلاء أقبح من قول أولئك لكن هؤلاء مع زيادة القبح يكونون قد جعلوا الصانع محلاًّ للمخلوقات من هذا الوجه وحالاًّ فيها وإن أرادوا بالشعاع الضوء الموجود في الأجسام المقابلة للشمس من الجدران والأرض والهواء وغير ذلك فيقال هذا الشعاع لم يحدث لمجرد الشمس وليست الشمس وحدها علة مولدة له بل لابد فيه من شيئين أحدهما الشمس والثاني جسم آخر(5/202)
يقابل الشمس لينعكس الشعاع عليه وإذا لم تكن الشمس علة تامة لم يـ حصل المقصود بل هي جزء العلة وهي سبب وشرط فإن الشعاع يتوقف على الشمس المستنيرة وعلى المحل الذي ينعكس عليه الشعاع وإذا كان كذلك كان توقفه على هذين توقف المشروط على شرطه فإنهم فرقوا بين التقدم بالعلة والتقدم بالطبع والشرط بأن المتقدم بالعلة يستلزم وجود المتأخر بخلاف المتقدم بالشرط وقد تقدم قولنا إنه ليس في المخلوقات شيء منفرد يستلزم وجود شيء متأخر عنه لكن مشيئته مستلزمة لمرادها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد ظهر في الشعاع الذي ضربوه مثلاً أن نفس الشمس وحدها لو قُدِّر وجودها بدون ما يقابلها لم يكن للشعاع وجود ولكن وجوده بشرط الشمس وشرط ما يقابلها فيكونان شرطين وإذا كان كل منهما شرطًا فالشرط قد يتقدم على المشروط وقد لا يتقدم عليه فلا ريب أن الجدار والأرض والهواء موجود قبل الشعاع وكذلك الشمس موجودة قبل هذا الشعاع وذلك تقدم بالزمان لكن إذا حصلت حصل الشعاع وتولد عن اجتماع هذين الأصلين له كتولُّد غيره من المتولدات عن(5/203)
أصلين وكل منهما متقدم عليه ومتى ظهر هذا في شعاع الشمس ظهر أنه في شعاع السراج وغيره من النيرات إذ النار يكون لها شعاع كما يكون للشمس شعاع فهذا ما يمثلون به من المرئيات وأما ما يمثلون به من المسموعات فإنهم يمثلون بوجود الأصوات عن الحركات لوجود الطنين عن النقرة فيقال وهذا أيضًا كذلك فإن الصوت لا يولّده شيء واحد بل لا بد من شيئين من جسمين يقرع أحدهما الآخر أو يقلع عنه وهذان أصلان للصوت الذي تولد عنهما كأصلي الشعاع وهذان الأصلان وهما الجسمان المتحركان هما متقدمان عليه بالزمان فإن قيل المراد بالعلة الحركة المولدة للصوت والمقابلة المولدة للشعاع فيقال الحركة مع الصوت والمقابلة مع الشعاع إما أن يكونا متقارنين فإن كانا متقارنين في الزمان لم يكن أحدهما متقدمًا على الآخر بوجه من الوجوه ولا نسلِّم على هذا التقدير أن الحركة والمقابلة هي علة الصوت والشعاع بل علة ذلك هو الفاعل للحركة والفاعل للمقابلة وإذا كانت(5/204)
المقابلة لم يفعلها واحد من الخلق والحركة لم يفعلها واحد من الخلق لم يكن للفاعل لهذا المتولد واحد من الخلق وهذا هو الصواب المقطوع به أن جميع المتولدات لا يجوز أن تكون فعلاً لفاعل واحدٍ من الخلق بل كل من الأمرين سبب فيها وهما متشاركان فيها متعاونان عليها وقد بينا أن الخلق لا يفعل فعلاً تامًّا إلا بشركة من غيره والخالق سبحانه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك يظهر ببيان ما ذكروه من المثال فالناقر إذا نقر طشتٍ فحدث صوت فالصوت لا بد له من فعل الإنسان ومن الجسم الذي جعلت عليه النقرة فجميع ما يحدثه الإنسان من الأصوات منفصلاً عنه لا بد فيه من جسم آخر معه وأما صوته القائم ببدنه فإنه يحرك عضوين فصاعدًا من أعضائه لا يكون الصوت بحركة شيء واحد فالحركتان جميعًا هنا سبب الصوت وهو وإن كان المحركَ لأعضائه فنفسُ أعضائه والنقرة التي فيها والصلابة التي بها صارت متصوتة ليس من فعله ولا مقدورًا له بل الله هو الذي خلق ذلك له وجعله آلة له بمنزلة الآلات المنفصلة عنه فنفسُ قدرته لا تستقل بالصوت إلا بهذه الأمور الخارجة عن قدرته(5/205)
فصار الصوت متولدًا عما يقدر عليه العبد وعما لا يقدر عليه العبد وكل ذلك أسباب وشروط ليس شيء منها علية تامة فقد ظهر أنه إذا قيل إن الصوت والحركة متقارنان في الزمان لم يجز أن تجعل الحركةَ علةً للصوت بل يكون الفاعل للصوت هو الفاعل للحركة أكثر ما يقال إن وجود الصوت مشروط بوجود الحركة كما تشترط الحركة في ذلك الشرك لا يجب أن يتقدم المشروط بل يجب مقارنته له فإذًا تكون الحركة والمقابلة شرطًا في الصوت والشعاع ولا يجب أن يكونا متقدمين عليه بل دعوى تقدم الحركة والمقابلة مع القول باقترانهما جمع بين الضدين وأما إن قيل إن كان الصوت والحركة ليسا متقارنين في الزمان بل الحركة قبل الصوت فعلى هذا التقدير لا يضرّ القول بتقدم الحركة على الصوت إذ المقصود أن يمتنع أن تكون الحركة متقدمة بوجه وتكون متقارنة في الزمان بل إما أن تكون متقدمة أو مقارنة للحقيقة وأما التقدم الذهني وهو إدراك أحدهما قبل الآخر أو جعل أحدهما شرطًا أو مفرداً أو بسيطًا أو نحو ذلك فهذا الترتيب الذهني لا يقتضي الترتيب(5/206)
الخارجي بل هذا الترتيب الذهني بمنزلة الترتيب النطقي على ما تقدم بيانه ووجود الباري تعالى حقيقي خارجي ليس هو في مجرد الذهني وكذلك القول في مثالهم الآخر وهو تولد الحركة عن الحركة كقول القائل حركت يدي فتحرك خاتمي أو كمي فإنه من هذا الباب ليس مجرد حركة اليد علة تامة لحركة الخاتم أو الكم بل نفس وجود محل الحركة الذي هو الخاتم والكم هو شرط أو سبب في وجود الحركة فالحركة تتوقف على المحل الذي يقوم به كما تتوقف على السبب الذي يطلبها وإذا كانت هذه الحركة تتوقف على أمرين فصاعدًا فالقولُ في وجود هذه الحركة مع حركة اليد كالقول في الحركة والصوت إما أن يقال هما متقارنان في الزمان فلا يكون أحدهما علة للآخر وإن كان شرطًا مقارنًا له وإما أن(5/207)
يكونا متعاقبين فيكونان متعاقبين في الزمان وإن كان سريعًا فحركة الخاتم لليد كحركة بعض اليد مع بعض مثل حركة الأصابع مع الكف أو حركة الظفر مع الأنملة وأما قولهم العقل يدرك هذا قبل هذا قيل لهم العقل يدرك الأمور على ما هي عليه وإلا كان ذلك جهلاً لا عقلاً فإن كان ذلك الشيء في نفسه مرتبًا فأدركه العقل مرتبًا وإلا كان إدراكه جهلاً ومتى كان المدرك مرتبًا بحيث يكون بعضه قبل بعض فهذا هو الترتيب الزماني والتقدم الزماني ويمتنع مع وجود هذا الترتيب الخارجي أن يكون زمانهما واحدًا ويمتنع مع كونهما غير متميزين في الزمان أن يكونا متميزين فالجمع بين الضدين ممتنع إما ترتيب وتقدم وتأخر وإما مقارنة ليس فيها تقدم وتأخر وإذا تبين ذلك ظهر أنه ليس فيما يعلمه الإنسان شيء متقدم على غيره بالعلية أو الشرط مع مقارنته له بالزمان بل المتقدم سواء سُمّي شرطًا أو علة أو غير ذلك إن كان مقارنًا في الزمان غير متقدم فيه فليس متقدمًا بحال وإذا كان متقدمًا فيه وهو متقدم في الزمان(5/208)
فهو متقدم غير مقارن وإذا كان كذلك وقد قالوا إن العالم مقارن للباري لا يقدر وقت يكون فيه الباري إلا ويكون فيه العالم فقد أثبتوا مقارنة له مطلقًا ومنعوا أن يكون الباري متقدمًا عليه بوجه من الوجوه ومن المعلوم ببديهة العقل أن الفاعل للشيء لا بد وأن يكون متقدمًا عليه سواء سمي علة أو لم يسمَّ فإذا كان الفاعل لا يكون إلا متقدمًا على الفعل وعلى أصلهم يمتنع أن يكون متقدمًا عليه امتنع عندهم أن يكون رب العالمين أو خالقًا للعالم وأيضًا فكلُ ما وجبت مقارنته لغيره كان وجوده متوقفًا على وجود قرينه فيكون وجود الباري ممتنعًا إلا بوجود ما تجب مقارنته له وهو العالم فيكون الباري محتاجًا إلى العالم من هذا الوجه فإن قيل إنه علة له لا سيما إذا ثبت ذواتٌ غنية عنه فإنه يكون محتاجًا إلى غيره قطعًا كما يصرح بذلك الاتحادية منهم حيث يجعلون الباري والعالم كل منهما محتاجًا إلى الآخر ويكونون بما أوجبوه من مقارنة العالم له واحتياجه إليه قد جعلوه كفوًا له كما أنهم بما أثبتوه من تولده عنه قد جعلوه والدًا له فجعلوا الخلق ولدًا لله وكفوًا له وهو سبحانه في غير موضع من كتابه نزه نفسه عن الشريك والولد كما قال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء(5/209)
111] وقال تعالى تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً {1} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً {2} [الفرقان 1 - 2] وقد ذكر أن الشيء وحده لا يولِّد شيئًا ولا يكون علة تامة بل كلُّ ما ولَّد شيئًا فلابد له من شريك ومعين له كالشمس التي لا يتولد شعاعها إلا بها وبما يقابلها والجسم الذي لا يتولد الصوت عنه إلا بجسم آخر مماسّه وملاقيه كما أن الأعيان أيضًا من الأولاد لا تتولد إلا عن أصلين فكل مولِّدٍ فهو محتاج إلى كفوٍ يشاركه ويعاونه على التولد وهؤلاء إذا زعموا أن العالم مقارن له فقد جعلوه محتاجًا إليه من تلك الجهة وأيضًا فإذا جعلوه مولدًا له فلابد له من توليده من شيء آخر كما يقول بعضهم هي أعيان الممكنات المستغنية عنه الثابتة في العدم وكما يقول منهم من يقول بالقدماء الخمسة وأمثال ذلك مما فيه إثبات شيء غني عنه شريك له وإن كان منهم من يحيل ذلك بل محققوهم يحيلون ذلك للبدلاء لهم إذ الواحد من كل وجهٍ لا يكون علة(5/210)
ولا مولدًا وهذا ضد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فإن المعلوم بالحس والعقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يصدر شيء ويتولد شيء إلا عن شيئين فيكون الباري محتاجًا إلى كفو وشريك وصاحبة يتولد العالم عنهما قال سبحانه وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} [الأنعام 100-101] وقال تعالى قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس 68] وهم في جعله مولِّدًا للعالم وإثباتهم لمقارنة العالم إياه هذه المقارنة التي يمتنع فيها تقدمه عليه واستقلاله بإبداعه وقد جعلوه مفتقرًا إلى بعض العالم محتاجًا إلى غيره كما تقدم من هذين الوجهين ضد ما أثبتوه من أنه واجب الوجود بنفسه وهذه عادتهم التناقض والجمع بين النفي والإثبات ومن وافقهم من المتكلمين على أنه ليس فوق العالم بل(5/211)
أوجب محايثته للعالم ومقارنته له فإنه أيضًا جعله مفتقرًا إلى العالم والاتحادية تصرِّح بهذا كله ومن هذا حدثني بعض الفضلاء الضابطين عن الشيخ القاضي تقي الدين محمد القشيري عرف بابن دقيق العيد رحمه الله أنه قال لما دخل علينا الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدس الله روحه إلى مصر سألناه عن ابن عربي فقال شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا وبين ما ذكره عنه من هذه الصفات فقلت لمن حدثني لم يكن بعد قد فهمت حقيقة قوله وأين هذا من القائلين بقدم العالم أولئك يثبتون عالمًا وواجبًا غيره صدر عنه وإن كان قولهم باطلاً من جهة أخرى(5/212)
وهذا عنده نفس العالم صورته وهويته وليس له وجود غير وجود العالم ولكن هو كما يذكر عن ابن سبعين أحد أئمة الاتحادية ومحققيهم وأذكيائهم أنه قال عن كلام ابن عربي فلسفة مخموجة وكلامه هو ادخل في الفلسفة وأبعد عن الإسلام ولا ريب أن هؤلاء من جنس الملاحدة الباطنية القرامطة وهو وهؤلاء الفلاسفة مشتركون في الضلال ومذاهب هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات من أشد المذاهب اضطرابًا وتناقضًا وقولاً لا حقيقة له فلما كان مذهبهم المقارنة التي هي في الحقيقة تعطيل الصنع والخلق والإبداع وإن كانوا يدعون أنهم يثبتون واجبًا غير العالم فهذا دعواهم وإلا ففي الحقيقة يلزمهم ألا يكون ثَمَّ واجب الوجود غير العالم وهذا حقيقة قول الاتحادية وهو الذي أظهره إمام هؤلاء فرعون فإن الاتحادية تنتحله وتعظمه والباطنية تنتحله وتعظمه وهو على مقتضى أصول الفلاسفة الصابئة المشركين اللذين هم من أعظم الناس إيمانًا بالجبت والطاغوت وليس هذا موضع تفصيل ذلك ولم يكن هذا الموضع موضع كلام في مسألة خلق الله للعالم وإبداعه إياه وإنما(5/213)
المقصود تمثيل من يقول إنه في كل مكان بمن يقول إنه مقارن للوجود وأن كلا القولين في الحقيقة يوجب افتقاره إلى المخلوقات ويمنع أن يكون واجب الوجود وأن أصحاب هذه الأقوال وإن قالوا مع ذلك هو مباين للعالم وفوقه أو قالوا هو قبل العالم ومتقدم عليه فلا حقيقة لكلامهم بل قولهم صريح في معنى ذلك والتكذيب به ومن قال منهم ليس بداخل العالم ولا بخارجه فهو كمن قال لا قبل العالم ولا معه وكل من هؤلاء ينازع في أنه رب العالمين وخالقه وفي إنه إله العالم المعبود لا يثبتون حقيقة ربوبيته ولا حقيقة إلهيته بل هم مشركون به وجاحدون معطلون وإن كان جهمية المتفلسفة أشد إشراكًا وجحودًا من جهمية المتكلمين لكون هؤلاء أقرب إلى دين المرسلين الذين جاءوا بالحق المبين سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم بقدم العالم يوجب القول بقدم جميع الحوادث وذلك مخالف للمشاهدة وأنهم إذا قالوا هو علة تامة امتنع أن يحدث عنه شيء بواسطة أو بغير واسطة فإن الواسطة إذا كانت قديمة لزم قدم معلولها وإن كانت محدثة فالقول في حدوثها كالقول في حدوث ما يحدث عنها(5/214)
الفصل الثاني فيما نفوه عن الرب تعالى من التقدم بالزمان وما نفوه من تقدم العدم على الوجود بالزمان وقولهم مع من وافقهم من المتكلمين ليس تقدم الرب على العالم زمانًا فنقول التقدم المعقول الحقيقي إما أن يكون بالزمان فقط أو يكون بغير الزمان أو يكون بالزمان وبغير الزمان أو لا يكون بالزمان ولا بغيره أما الأول فلا ريب أن الأقدمين من الآدميين كالآباء متقدمين على المتأخرين منهم بالزمان وإذا حقق التقدم بالزمان كان معناه أن الأولين قارنوا الزمان المتقدم على زمان هؤلاء فالتقدم والتأخر هو في الزمانين وفي أهل الزمانين لكن تقدُّم الزمان يعرف بقدم أهله كما يعرف تقدمه بتقدم أهله وتأخُّر الزمان يعرف بتأخر أهله كما يعرف تأخره بتأخر أهله إذ كل من الزمان وأهله متقارنان فتقدم أحدهما تقدم قرينه وتأخره تأخر قرينه وذلك يعرف في الأيام بطلوع الشمس وغروبها وفي الأشهر بالأهلة وفي السنين بالعدد كما في الأسابيع هذه شريعة المسلمين ولبقية الأمم في ذلك سنين أخرى منهم من يجعل الشهور عددية والسنة طبيعية كحركة الشمس وإن كانت حركة الشمس في البرج المعين(5/215)
لا يرى وإنما يعلم بالحساب وهذه سنة من ليس من أهل الكتاب كالروم والفرس وغيرهم ومنهم من يجمع بين الأمرين وهذه سنة مَن بدَّل وغيَّر من أهل الكتاب كما يفعل اليهود والنصارى وقد تكلمنا على هذا مبسوطًا في غير هذا الموضع وأما الأسبوع فليس له سبب مرئي بالاتفاق وإنما سببه سمعي وهو ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقد شرع الله لأهل الكتب من المسلمين واليهود والنصارى الاجتماع في كل أسبوع لذكر الله وعبادته وفي ذلك حفظ أيام الأسبوع الذي يذكر فيه خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وانقضاء ذلك في اليوم السابع ولهذا لا توجد أيام الأسبوع إلا في لغة من تلقى ذلك عن أهل الكتاب كالفرس أما الترك الأعراب مثل التتار ونحوهم فليس في لغتهم لهذه الأيام ذكر لأنه لا يعلم سببها بالرؤية ولا علم لهم بذلك من جهة السمع لبعدهم عن ديار العلم والإيمان وأما ما يعلم بالرؤية فقد قال تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة 189] وقال تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ(5/216)
السَّمَاوَات وَالأَرْضَ [التوبة 36] وقال تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {96} [الأنعام 96] وقال تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5} [يونس 5] وقال تعالى وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ {37} وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {38} وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم ِ {39} لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {40} [يس 37-40] ونحو هذا من القرآن في مواضع فلا ريب أنه مما يشاهده الناس من نور الشمس والقمر تتوقت الأوقات ويتميز آخر الزمان بعضه من بعض ويعلم بذلك عدد السنين والحساب الذي به يعرف المتقدم والمتأخر فإذا قيل إن هذا متقدم بالزمان كان معناه أن تقدمه متقدم لتقدم الزمان وأن تقدمه عرف بتقدم الزمان لا يراد بذلك أن تقدمه هو بسبب تقدم الزمان إذ ليس جعل تقدم الزمان سببًا لتقدمه بأولى من جعل تقدمه سببًا لتقدم الزمان وذلك أن اليوم المعين يحدث فيه طلوع الشمس والقمر وكذلك طلوع الكواكب وغير ذلك من الحركات ومن(5/217)
ذلك ما هو فلك الشمس والقمر ومنه ما هو تحت فلك الشمس والقمر وجميع ذلك يقال فيه إنه زماني وإن كان تقدم الزمان وتأخره إنما يعرف بما يرى من الأنوار كالشمس والقمر التي بها تتوقت الأوقات والمقصود أن التقدم بالزمان لا يشترط أن يكون الزمان مؤثرًا فيه فإنه غير مؤثرٍ في الأفلاك وأما التقدم بغير الزمان فإنه لو لم يخلق شمس ولا قمر ولا كان فلك ولا حركة فلك لكان يعقل أن الشيء يكون قبل الشيء لكن إذا لم يكن هناك موجود يميز ذلك لم يعلم مقدار ذلك ولا أجزاؤه ولا يتميز بعضها من بعض لكن هذا لا يعدم بحال فإن الله سبحانه وتعالى حي موجود قيوم أزلي وقد قال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه(5/218)
ورُوِي أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل والنهار بأنوار تظهر من جهة العرش والله سبحانه وتعالى قادر أن يظهر ما شاء من نوره أي وقت شاء فيكون ذلك مؤقتًا وتحديدًا لآخر الزمان وأبعاضه كما جعل ذلك في الدنيا بالشمس والقمر ولو قدر عدم ذلك كله وعدم ما يتميز به لنا متقدم عن متأخر لم ينتف التقدم والتأخر بل هو ثابت في نفسه فيكون الشيء قبل الشيء سواء وجدت الحركات والأنوار التي توقت أجزاء ذلك وأبعاضه أو لم توجد وإنما بحركة الأنوار يتميز أبعاض ذلك عندنا والتقدم والتأخر لا يشترط فيه وجود هذا الزمان المحدد وليس هو المؤثر فيه بل هو ثابت في نفسه سواء كان هذا الزمان المحدود أو لم يكن لكن هذا الزمان المحدود المؤقت يبين لنا المتقدم والمتأخر وهذا مما ينبغي أن يعرف وتصُّور ذلك فطري بديهي لا يفتقر تصور الإنسان التقدم والتأخر إلى تصور الأوقات المحددة بالأنوار والحركات كما أن العلو(5/219)
والسفل أمر حقيقي معقول ولو فرض عدم هذه الأجسام المعنية العالية والسافلة أو عدم الإنسان ذي الجهات الست بل كل قائمين بأنفسهما يعقل كون أحدهما فوق الآخر إذا ظهر ذلك فقولهم المحدث بعد عدمه يكون عدمه سابقًا على وجوده وتلك القبلية أمر زائد على ذات العدم ولا محالة قبل كل قبلية قبلية أخرى فإذن هاهنا قبليات لا نهاية لها ولا بداية ولا يَعنى بالزمان إلا بما تلحقه القبلية والبعدية لذاته فإذن لا أول للزمان فإذن يلزم من حدوثه بعد عدمه قدم الزمان فيكون حدوث العالم بهذا التفسير مستلزمًا لقدمه يجاب عنه بوجوه أحدها أن يقال لهم لاريب أن هذا العدم قبل الوجود(5/220)
فإن كان كما يوصف بأنه قبل غيره أو بعده يكون زمانًا لزم أن يكون الله زمانًا وكل موجود زمانًا إذا قيل إن هذا قبل هذا أو بعده فالوجود قبل العدم والعدم قبل الوجود والوجود قبل الموجود فإن كان الموصوف بأنه قبل وبأنه بعد زمانًا فهذه الأشياء كلها زمان وهذا لا يقوله أحد وإن قيل إن وصف الشيء بأنه قبل أو بعد يستلزم الزمان والزمان هو الذي يلحقه القبل والبعد لذاته وهذه الأمور لا يلحقها ذلك لذاتها فيقال تقدم العدم على الوجود لا يقتضي ذلك لكن يقتضي أن ذلك مستلزم للزمان والزمان على هذا التقدير ما يعقل فيه التقدم والتأخر وإن كان معدومًا إذ التقدير أن العدم يتقدم على الوجود وإذا كان كذلك فالزمان بهذا الاعتبار لا يجب أن يكون وجوديًّا بل يكون عدميًّا وإن عقل فيه التقدم والتأخر إذ لا فرق في التوقيت بين العدم والوجود فإنه قد يقال هذا كان وقت عدم كذا وفنائه كما يقال وقت وجوده وحدوثه ثم كل منهما قد يتميز بعضه عن بعض كالوجود المختلف والعدم والمختلف وقد لا يتميز كالوجود الواحد والعدم الواحد فظهر أن ذلك لا يستلزم قدم موجود الثاني أن ذلك لو افتقر إلى شيء موجود يتميز به بعض ذلك عن بعض كالوجود المختلف والعدم المختلف كان وجود الله ونور وجهه كافيًا في ذلك فهو سبحانه يظهر ما شاء من نوره كما يظهر ما شاء من نور مخلوقاته وذلك تتوقت به الأزمنة وتتحدد ولا يحتاج في ذلك إلى غيره فإذا لم يكن(5/221)
إلا هو وحده فالأوقات تتميز بعلمه وبفعله عند من يقول ذلك من المسلمين ولا يحتاج إلى شيء غيره الثالث أن هذا معارض بتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض الرابع أن يقال نحن نعقل التقدم والتأخر مع قطع النظر عن زمان موجود والعلم بذلك ضروري وكذلك قولهم لو كان تقدم الباري على العالم بالزمان لزم أن يكون الباري تعالى زمانيًّا والزمان زمانيًّا وهما محالان أما الأول فلأن الزمان من لواحق التغير وذلك ممتنع على الباري سبحانه وتعالى وأما الثاني فلامتناع التسلسل يجاب عن ذلك بأربعة أوجه أحدها أن الزمان الذي قد بيناه لا يجب أن يكون وجوديًّا فلا يمتنع حينئذٍ أن يكون الباري زمانيًّا الثاني أنه لو فرض أن ذلك موجود فالموجود هنا هو الله(5/222)
سبحانه وتعالى وهو متقدم على العالم بتقدم هو من صفات نفسه وإذا قيل هو زماني وكان المراد بالزمان هنا شيئًا من صفاته لم يكن ذلك محالاً وليس النزاع في مجرد لفظٍ فإنا نعقل ونتصور تصورًا بديهيًّا وجود شيء قبل شيء من غير أن يكون هناك موجود غيرهما فهذا التقدم سواء سموه زمانيًّا أو لم يسموه فهو معقول الوجه الثالث هب أن يقال أن الزمان من لواحق الحركة لكن هذه مسألة حلول الحوادث وقد ذكر الرازي أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيلها وأن القول بها يلزم كل الطوائف فيجوز عند من يجوزها أن يكون ذلك الزمان من لواحق حركته هو سبحانه وتعالى الوجه الرابع أن يقال لا يحتاج أن يجعل تقدم الباري على العالم بزمان موجود فلا يرد علينا هذا السؤال وأما كون الزمان زمانيًّا فهذا وارد عليهم كما هو وارد على مخالفيهم وليس هو من خصائص حدوث العالم بل هو حجة عليهم في إثبات تقدم وتأخر بغير زمان موجود ثم يقال التسلسل يقطع أن يكون الزمان الثاني عدمًا وبأن يكون من توابع وجود الحق كما تقدم(5/223)
فظهر أن ما نَفَوه عن الرب من التقدم بالزمان ليس فيه ما يقبل النزاع إلا وجه واحد وله ثلاثة أوجه لاتقبل النزاع بين العقلاء فهو أربعة أوجه الأول أن يكون متقدمًا على بعض مخلوقاته تقدمًا مقارنًا لما خلقه من الليل والنهار كتقدمه على الحوادث اليومية ولاريب أن كل تقدم يوصف به المخلوق على غيره فالباري يوصف به زيادة وأحرى وهذا من باب قياس الأولى فإن التقدم على الغير من صفات الكمال كالعلو وكل علو يثبت للمخلوق فهو به أحق وكل تقدم يثبت للمخلوق فهو به أحق فإذا كان الأولون متقدمين على الآخرين تقدمًا معلومًا بمقارنة ذلك بالزمان فهو موجود مع طلوع الشمس وغروبها كما أن غيره موجود مع ذلك ووجوده أكمل فمقارنته له أكمل وليس في ذلك ما يقتضي أنه محتاج إلى الزمان بل قد بينَّا أن مقارنة المخلوق للزمان لا تُوجِب حاجة المخلوق إليه فالخالق أولى أن لا يكون محتاجًا إلى الزمان إذا كان الزمان قد قارن وجوده حين وجود الزمان يبين هذا أن المقارنة يدل عليها لفظ مع وكون الله مع خلقه عمومًا أو خصوصًا مما اجمع عليه المسلمون ودل عليه القرآن في غير موضع فهو مع كل شيء معية عامة أو خاصة فلماذا يمتنع أن يكون مع الزمان والمكان على الوجه الذي يليق(5/224)
به وذلك أمر واجب لا محالة الوجه الثاني أن الزمان الذي يراد به ما يقدر فيه من وجود الليل والنهار الذي ذكرنا أن العدم يتقدم على الوجود به أمر عدمي فلا يمتنع تقدمه بهذا الزمان كما تقدم الوجه الثالث أنه متقدم على المخلوقات بنفسه وما هو عليه من صفاته وإن لم يخطر بالقلب شيء آخر من وجود أو عدم يكون متقدمًا به بل هو متقدم بنفسه وإن شمي شيء من ذلك زمانًا أو دهرًا كان النزاع لفظيًا وأما الوجه الذي فيه النزاع فإن يفعل فعلاً آخر ويتصرف تصرفًا قائمًا بنفسه يتوقف به ما يوصف به فهذا فيه نزاع كما تقدم وهؤلاء الذين يقولون بقدم العالم عن موجبه أشهرهم هم الفلاسفة المشاءون أتباع أرسطو وهم مبدلة دين الصابئة الصحيح وأظهر حججهم التي اعتمدوا عليها وهو الذي اعتمده أفضل متأخريهم ابن سيناء ونحوه من الملاحدة وهو(5/225)
طلب سبب التخصيص وهو أنهم قالوا العقل الصريح الذي لا يكذب قط يعلم أن الذات إذا كانت واحدة من جميع جهاتها ولم تفعل ثم فعلت فعلاً فلابد من تجديد شيء لها إما قدرة أو علمًا أو إرادة أو غير ذلك مما هون من الشروط وزوال(5/226)
الموانع وإلا فإذا كانت كما لم تزل امتنع صدور الفعل عنها لأن تخصيص بعض الأوقات بالفعل لابد له من مخصص والقول في ذلك الحادث المتجدد كالقول في جملة العالم وإذا صدر الفعل عنها لم يكن صادرًا بعد أن لم يكن لئلا يلزم المحال المذكور وبالجملة فإما أن تكون هي علة تامة للفعل أو لا تكون فإن كانت علة تامة وجبت مقارنة الفعل لها وإن لم تكن علة تامة فلابد من تجدد أمر يصير به علة تامة والقول في ذلك المتجدد كالقول في العالم إن كانت علته تامة وجبت مقارنته وإن لم تكن علة تامة فلابد من تجدد أمر ويلزم التسلسل ومدار هذه الحجة على وجوب مقارنة الأثر للمؤثر التام وأنه يمتنع أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً وهذه الحجة يقولون بها وقد أجاب الناس عنها بالممانعات تارة وبالمعارضات أخرى تارة يمنعونهم وجوب مقارنة الأثر(5/227)
للمؤثر إذا كان فاعلاً باختياره وقدرته ويقولون القادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك وتارة يذكرون من أسباب الترجيح أمورًا وتارة يبدون ما في الوجود من المخصصات للصفات والمقادير وغير ذلك مما لا يُحصِي تفاصيله إلا الله ويقولون القول في سبب التخصيص بالزمان كالقول بالتخصيص بالحيز والصفات والمقادير والحركات وغير ذلك من الأنواع التي اشتمل عليها العالم وتارة يقولون هذا بعينه وارد في الحوادث اليومية فإن حدوثها مشهود وهذه الحجة واردة عليها فما كان جوابًا عنها بل التحقيق أن هذه الحجة تبطل بنفسها فبطل قولهم بقدم العالم فإنه يقول الحوادث إما أن يجوز صدورها عن علة قديمة تامة أو لا يجوز فإن جاز(5/228)
صدورها عن علة تامة قديمة بطلت هذه الحجة وأمكن أن يقال إنه حدث عن فاعل قديم وإن قيل لا يجوز صدورها عن علة تامة قديمة قيل فهذه الحوادث المشهودة لا يجوز حينئذٍ صدورها عن علة تامة قديمة فلابد من حدوث علتها التامة ثم القول في حدوث تلك العلة التامة كالقول في حدوث الحوادث فإن كان حدوث حوادث لا أول لها ممتنعًا بطل مذهبهم وغن كان ممكنًا جاز أن يقال حدوث العالم كان موقوفًا على حوادث لا أول لها ولا يمكنهم أن يقولوا بامتناع حلول الحوادث فهم يجوِّزون حلول الحادث بالقديم بل ليس منهم إلا من يجوز قيام الحادث بواجب الوجود كما جوزه كثير من أهل الكلام وليس لهم على ذلك دليل ثم الحجة لا تدل على قدم الأفلاك وبالجملة فهم مضطرون إلى إثبات محدث أحدث هذه الحوادث وإبطالهم حدوث الأفلاك مع هذا باطل والمقصود هما أن أصل هذه الحجة هو القياس الفاسد وهو تمثيل الله بغير من الفاعلين وجعلهم له أندادًا وأكفاءً وأمثالاً حتى يحكم عليهم بما يحكم به عليه حتى جعلوه مولِّدًا للعالم فجعلوه له ولدًا وشريكًا فنفوا بهذه الحجة أن يكون خالقًا بارئًا مبدعًا للعالم وجعلوه علة والدة تولد عنها العالم تولُّدًا قارنها(5/229)
به ومدارها على أنه يمتنع منه أن يحدث شيئًا ويجدده لأن ذلك تخصيص بلا مخصص وهذا القياس والمثل الذي ضربوه لله هو كنظائره في الأمثال المتناقضة الفاسدة وقد بيّنا قبل أن الله لا يجوز أن يُجعَل هو وغيره سواء لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول بل إنما يستعمل في جانبه قياس الأولى والأحرى فما كان من باب المدح والثناء في المخلوق فهو أحق به وما كان من باب العيب والنقص الذي يتنزه عنه المخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وهذا القياس مضمونه أنهم وصفوا الله بامتناع الفعل منه وعجزه عنه إذا لم يكن متولدًا عنه كما يمتنع في غيره من المتولد الموجب بذاته أن يكون محدثًا أو معيدًا لما صدر عنه فقاسوه سبحانه وتعالى بالعاجز المضطر الذي يمتنع عليه الفعل والإحداث وهو ضرب(5/230)
مَثَلٍ له فيما هو نقص في المخلوق فأوجبوا هذا النقص للخالق بالقياس عليه والكلام على ذلك من وجوه أحدها أن يقال كونه يفعل بعد أن لم يفعل إما أن يكونوا علموا ذلك لعلمهم بخصوص ذات الله وامتناع ذلك عليه كما يمتنع عليه العدم المنافي لوجوبه أو علموه لقياس شمولي متضمن لقضية كلية أو لقياس تمثيل فإن ادعوا الأول لم يصح لثلاثة أوجه أحدها أنهم يقرون أنهم لم يعلموا خصوص ذات الرب والثاني أن يقال فما تلك الخاصية التي يمتنع حدوث الفعل منها ويكون إحداثها للأمر ممتنعًا ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك ولا ذكره الثالث أن معرفة عين الشيء إنما تكون بالحواس الباطنة أو الظاهرة وذلك يوجب أن تكون معرفة الله بديهية أو حسية وهم لا يقولون بذلك ومن يقر بذلك يعلم أن الأمر بخلاف ما قالوه فإن ادعوا ذلك عن قياس شمولي أو تمثيل وهو طريقهم فيقال لا يصح دخوله هو وغيره تحت حكم كلي في هذا الباب فإنه ليس في الكائنات شيء واحد هو علة تامة لفعل بل لايصدر شيء إلا عن اثنين فصاعدًا وإذا لم يكن في الموجودات علة تامة ولم يكن غيره مؤثرًا تامًّا لم يمكن أن(5/231)
يقال المؤثر التام يجب أن يقارنه الأثر أو يمتنع تخلف الأثر عنه إذ ليس في الكائنات ما هو وحده مؤثر تام البتة وهذا مشهود محسوس في جميع المؤثرات سواء كان بالإرادة والاختيار كالحيوانات أو كان بالطبع كالجامدات فليس فيها ما يكون وحده مؤثرًا بل النار ونحوها لا تحرق إلا مع سبب آخر وهو المحل القابل للإحراق والإنسان لا يفعل بإرادته وقدرته إلا بأسباب خارجة عن قدرته وأيضًا فذلك الغير الذي يدخل تحت القضية الكلية إما أن يكون حيًّا له مشيئة أو يكون غير حي ليس له إلا الطبع وعلى التقديرين فهذه الأمور تصدر عنها الأفعال بعد أن لم تكن صادرة كما هو مشهود في جميع الفاعلين لكن المنازع يقول إنها لا تحدث فعلاً حتى يغير والتغير على الرب محال يقال له هذا إنما يصلح أن يقال لو كان غيرك هو المحتج بالقياس على هذه الأمور فتفرق أنت والمقصود هنا أنك أنت لا يمكنك أن تذكر قضية كلية تعم شيئين فصاعدًا على امتناع صدور الفعل عن الذات بعد أن(5/232)
لم يكن صادرًا عنها وإن لم يكن لك على ذلك قياس شمول فقياس التمثيل أبعد وأبعد فتبين أن حكمه بأنه واجب الوجود لا يحدث شيئًا قول بلا علم أصلاً لا هو معلوم بنفسه ولا بحجة ومنشأ ضلالة هؤلاء المشركين الصابئين والمجوس المشركين وغيرهم من أصناف المشركين هو القياس الفاسد الذي مضمونه التسوية بين الله وبين غيره وأن يجعل غير الله عدلاً وندًّا ومثلاً وكفوًا فتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بمشيئته فيه وتارة يعدلونه بما وجوده مما له فعل بقوة فيه بلا حياة وهؤلاء من أجدر الناس أن يقولوا تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} [الشعراء 97- 98](5/233)
ولهذا كان من أصول أهل السنة أنه لا خالق إلا الله ولا فاعل مستقل بالفعل ولا مؤثر تامًّا غيره وذلك أن كل ما يقدر غيره مما له فعل وتأثير ففعلُه موقوف على شروط من غيره يكون شريكًا وممنوع بمعارضات من غيره وله كفو يفعل كفعله وله شريك وله ندّ وله كفو ولهذا بين سبحانه وتعالى اختصاصه بعدم الشريك والمعاون وعدم الند المعارض وعدم الكفو المماثل كما في قوله تعالى مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر 2] فأخبر أنه لا مانع ولا معارض لما يفتحه من رحمته وأخبر أن ما يمسكه فلا يرسله ولا يعطيه أحد غيره وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة في رفعه من الركوع وبعد السلام اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وليس في الوجود من يعطي شيئًا إلا وله مانع غيره ولا يمنع شيئًا إلا وله معطٍ غيره(5/234)
فهو في إعطائه غير مستقل بل لابد له من شريك ومعاون وهذا لأنه ليس في المخلوقات ما هو مؤثر تام فلا شيء يؤثر وحده ولا شيء إذا أثَّر يكون الأثر واجبًا معه مطلقًا بل قد يكون له من المعارضات ما يمنع أثره ومن أظهر ما يسمى مؤثرًا الشمسُ في الإشراق والتسخين وهي لا تشرق إلا مع شيء آخر يقابلها يتعلق شعاعها عليه فيكون الضوء والشعاع حادثًا بسببين بسببها وبسبب الجسم المقابل لها الذي يحل به الشعاع ثم إن موانع الضوء والشعاع من السحاب وغيره موجودة مشهودة وكذلك تسخينها مشروط بالمحل الذي تقوم به السخونة وموانع السخونة موجودة مشهودة ومع كون فعلها موقوفًا على شريك لها ولها مانع يمنعها بل أسباب غيرها فإن السخونة عن الشعاع فإنها تكون عن النار وتكون عن الحركة وكذلك الإشراق يكون عن النار والقول في تسخين النار وإشراقها وتسخين الحركة كذلك فإنه لابد من سبب آخر كالجسم الحامل للسخونة وثم موانع تمنع وجود السخونة فلا تكون بالأسباب الموجودة من رحمة فاه ممسك أيضًا من الأسباب المخلوقة وما يكون بها من(5/235)
إمساك بغيرها يكون به إرسال ما أمسكه الله والله سبحانه هو وحده الذي ما يفتحه للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ولهذا قال بعد ذلك يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [فاطر 3] وقال تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء [الأنعام 100] وكذلك قوله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ {38} [الزمر 38] وقوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس 107] بين سبحانه أنه لا يكون غير الله معارضًا ومانعًا لما يشاؤه الله من منفعة أو مضرة إذ كل ما يقدر من سبب لنفع أو ضُرُّ فله مانع ومعارض فما من سبب مقتضٍ في الوجود إلا وله مانع معارض وما كان كذلك لم يكن علة تامة ولا مؤثرًا تامًّا إلا بمشيئة الله تعالى فإنه ما شاء الله كان والله تعالى لا معارض لحكمه ولا مانع له فلا يكشف ما ينزله من الشدة إلا هو ولا يرد ما ينزله من الرحمة أحد غيره وأيضًا ما من سبب إلا وله كفو يكون عنه بدلاً وعوضًا(5/236)
فإذا انتفى أمكن حصول الأثر بكفوه والله تعالى ما لم يشأ لم يكن وظهورها في الأسباب الخاصة مثل عطاء الآدميين ومنعهم وضرهم ونفعهم من الملوك وغيرهم واضح جدًّا فإنه مع أن قلوبهم بيد الله هو الذي يقلبها كيف يشاء وأن اختيارهم وقدرهم التي تكون بها أفعالهم كثيرة التحول والتغير فإن أحدهم لايستقلّ وحده بفعل شيء قط بل لابد من أسباب أخر خارجة عن قدرته يكون الأمر بالمجموع ثم إن مع وجود تلك الأسباب منه ومن غيره يكون لها معارض وعوائق ومعارضات ثم إن مع وجود تلك الأسباب وانتفاء موانعها قد استُغْنِي عنها بكفوها ونظيرها ويحصل المقصود من غيرها مثل ما يحصل منها وكل سبب لايكون له كالرسول المرسل الذي هو خاتم الرسل الذي لايمكن العباد أن يستغنوا عما جاء به من البينات والهدى فإنه نفسه معترف بأنه عبد الله ورسوله وأن الله هو الذي أعطاه هذا وكذلك الشمس وما يكون بها من نهار وبعدمها من ليل فإنه لا يدَّعى أحد قط إضافتها إلى غير الله ولهذا قال الخليل عليه السلام فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة 258] وقال تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ(5/237)
سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {72} وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {73} [القصص 71-73] الوجه الثاني أنهم اعتمدوا على أنه لا يحدث شيئًا حتى يحدث أمر من الأمور فلا يحدث سواه حتى يحدث فيه شيء أو يتغير وهذا المقام للناس فيه نزاع مشهور بين الأولين والآخرين فطوائف كثيرة من متكلمي المعتزلة والأشعرية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم منعوهم هذا وقالوا هل يحدث عنه شيء بعد أن لم يحدث من غير حدوث شيء في نفسه وطوائف كثيرة من المتكلمين من الشيعة والمرجئة والكرامية وأهل(5/238)
الحديث والفقهاء والصوفية سلموا ذلك ونحن ننزل إلى التسليم فنقول هب أنه يمتنع أن يحدث شيئًا حتى يحدث فيه شيء فأنتم لم تقيموا حجة على امتناع أن يحدث فيه شيء إلا أن قلتم القول في هذا الحادث كالقول في العوالم وهذا الحادث لا يحدث إن لم يحدث سبب يقتضي حدوثه فنقول هب أن الأمر كذلك فَلِمَ قلتم أنه لا يحدث لنفسه عملاً وحركة يحدث به ذلك المفعول وهذا قول طوائف من أهل الكلام والفقه وجمهور أهل الحديث والتصوف وغيرهم وهو قول طوائف من الأوائل(5/239)
والأواخر حتى قال أوحدهم في زمانه أبو البركات صاحب المعتبر إلهية الباري لِمَ لا تتم إلا مع هذا القول وقد قال الرازي إن هذا يلزم جميع الطوائف القول به وأنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفيه وليس المقصود هنا تقريره لكن يقال وأنتم لم تذكروا حجة غلا قولكم والقول في الحادث في ذاته كالقول في العالم الذي لابد لحدوثه من سبب والأمر كذلك لكن لم تذكروا حجة على امتناع حدوث هذا الحادث إلا مجرد الدعوى الأولى وهو أنه يمتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرًا وهذا هو نفس المذهب فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب لكن يحتجون بأن ذلك يفضي إلى التسلسل(5/240)
ولكن التسلسل في هذا ليس ممتنعًا عندكم فإنكم تقولون ما هو أبلغ من ذلك في الفلك ومَن تدبَّر هذا علم أن القوم لم يذكروا على ذلك حجة أصلاً إلا مجرد المطالبة بقولهم لِمَ فعل بعد أن لم يفعل والمطالبة بالدليل ليست دليلاً على عدم المدلول فإذا لم تعلموا لِمَ أحدث لم يكن هذا دليلاً على امتناع الإحداث فظهر أنهم لم يعلموا نفي الإحداث وفرق بين العلم بامتناع الشيء أو عدمه وبين المطالبة بدليلي جوازه أو علة وقوعه وهذا التحقيق يبين أن القوم كما قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] ومن فَهِم هذين الوجهين فهم الجواب عما يصفون به هذا القياس من الصور المختلفة فإن المادة واحدة كقول بعضهم ما لأجله يكون المحدث محدثًا إما أن يكون(5/241)
حاصلاً بتمامه في الأزل أو لايكون فإن لم يحصل لم يحصل إلا لمؤثِّر والكلام فيه كالكلام في الأول فتسلسل وهو محال وإن كان حاصلاً فهو معلوم بالضرورة أن المؤثر إذا حصل مع جميع الأمور التي باعتبارها تتم مؤثريته فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه فإذًا يستحيل تخلف العالم عن الباري وكذلك أنه يمكن الجواب عن القسمين بهذين الوجهين أما الأول فيقال لا نسلِّم أن المؤثر إذا لم يكن حاصلاً بتمامه ولكن نفس التأثير الذي يقال إنه قام به من التخليق والكلام والإرادة لم يكن حاصلاً أو وجود شرط وانتفاء مانع ليس بحاصل فإن هذا كله من تمام المؤثر كان المراد بالمؤثر عنده مجموع الأمور التي إذا وجدت وجد المفعول وهي الأمور التي يجب أن يقارنها المفعول وتكون واجباتها فإذا لم تحصل هذه الأمور لم يكن المؤثر حاصلاً لكن يقال هذه الأمور إذا لم تكن جميعها حاصلة بل فات بعضها لم يكن المؤثر الأول حتى يلزم(5/242)
التسلسل بل يكون هذا المؤثر الثاني هو المؤثر في ذلك الشرط أو زوال ذلك المانع وليس المؤثر في العالم المؤثر في بعض الأسباب التي يجب العالم عندها سواء قيل هو التخليق أو الكلام أو الإرادة أو غير ذلك فإن قيل المؤثر في ذلك التتمة الذي هو الموجب الذي يجب عنده وجود الأثر إما أن يكون حاصلاً بتمامه في الأزل أو لا يكون كان المختار أنه لم يزل حاصلاً في الأزل وهنا جوابان أحدهما أن يقال لا نسلِّم أن وجود مفعول يتوقف على هذا المؤثر بل يقال ليس في الوجود المعروف مؤثر يجب عنده وجود الأثر وجوبًا يمتنع زواله حتى يقال فإن لم يكن لم يحصل الأثر ولا موجب الحوادث إلا مشيئة الله تعالى ومشيئته ليس لها نظير حتى يقاس بها والله ليس كمثله شيء والثاني أن يقول حصوله بعد ذلك يكون لوجود شرطه أو انتفاء مانعه وهذا التسلسل في الشروط وانتفاء الموانع ليس ممتنعًا عند المنازع وإنما الممتنع التسلسل في العلل التامة التي كلُّ علة تُوجِب الأخرى والأمر هنا ليس كذلك بل يكون حدوث هذا الشرط موقوفًا على شرط آخر ليس علة له ويجوز تعاقب الشروط ودليل ذلك أن الحوادث اليومية موجودة والعالم مملوء من الحوادث فالموجب التام لكل حادث إما أن يكون حاصلاً في الأزل أو لايكون ويعود التقسيم(5/243)
وغاية ما قاله هؤلاء أن هذه الحوادث تتبع حركة الفلك المتعاقبة وليس الغرض الكلام في هذا الجواب ليس المقصود أنهم إذا اشترطوا شروطًا ولم يكن ذلك من التسلسل الممتنع فهنا أولى الوجه الثاني أن يقال وإن كان المؤثر بتمامه حاصلاً في الأزل لكن لِمَ قلتم إنه يستحيل تخلف الأثر عنه قوله من المعلوم بالضرورة أن المؤثر إذا حصل مع جميع الأمور التي باعتبارها تتم مؤثريته فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه يقال هذه قضية كلية مضمونها أن كل مؤثر تام فإنه يستحيل تخلف الأثر عنه والقضية الكلية لابد لها من أفراد غير مورد النزاع الذي يراد الاستدلال عليه بها ومعلوم أن الوجود كله ليس فيه مؤثر تام غير الله أصلاً بل لا يصدر عن شيء واحد من المخلوقات أثر أصلاً ولا يصدر إلا عن شيئين فصاعدًا وليس من المخلوقات ما يقال إنه مؤثر إلا(5/244)
ويمكن تخلُّف أثره عنه سواء في ذلك المؤثرات الاختيارية والطبيعية فإذا لم نشهد في العالم مؤثرًا يجب وجوبًا عقليًّا أن يقترن بعه الأثر المنفصل عنه فكيف يعلم أن المؤثر التام يجب اقتران الأثر به فضلاً عن أن يكون ذلك معلومًا بالضرورة وهو حكم لانظير له ومورد النزاع غير معلوم فإن قال أريد بالمؤثر التام ما يجب عند وجود الأثر كان التقدير المؤثر الذي لا يتخلَّف عنه أثره إما أن يكون حاصلاً في الأزل أو لايكون والجواب أن هذا ليس بحاصل في الأزل ولا في الموجودات المشهودة مؤثر لا يتخلف عنه أثره وتحرير هذا الوجه أن جميع ما يفرض من المؤثرات المشهودة يمكن وجودها عقلاً مع عدم أثرها وليس في العالم مؤثر واحد يوجب أثرًا أصلاً وإنما التأثير عقب شيئين كما تقدم بيانه ووجود تلك الأسباب بدون ذلك الأثر ممكن فإذا لم يحكم العقل حكمًا قاطعًا بأن ما يعرفه من المؤثرات يوجب الآثار وجوبًا يمتنع فكاكه لم يكن له سبيل إلى أن يحكم بوجوب مقارنة الأثر للمؤثر الوجوب العقلي أصلاً ويعود الأمر إلى أن يقال فإذا صدر عنه الأثر تارة ولم يصدر أخرى كان تخصيصًا بغير مخصص وهذا هو الذي قدمنا الكلام عليه فقلنا إنهم أثبتوه في حق الله بالقياس على خلقه مع وجود الفارق ويمكن تلخيص هذا الجواب بأن يقال في(5/245)
الوجه الثالث قولك ما لأجله يكون المحدث محدثًا إما أن يكون أزليًّا أو لايكون ما تعني به أتعني به ما يجب وجود الأثر عنده أم تعني به ما لأجله يجوز أن يكون فاعلاً مثل قدرته وغيرها من صفاته فإن قال أعني الأول قيل ليس ذاك بأزلي ولا نسلم بأنه محتاج إلى حصوله في كون المحدث محدثًا وإن سلَّمنا أنه لابد منه فلا نسلم لزوم التسلسل وإن أريد به الثاني فهو أولى ولكن ليس ذلك بموجب لوجود الأثر عنده الوجه الرابع أن هذه الحجة مدارها أنه إذا كان مؤثرًا تامًّا وجب وجود الأثر مقارنًا له وإذا لم يكن مؤثرًا تامًّا امتنع وجود الأثر عنه إذا لم يكن تامًّا وامتنع أن يتم المؤثر بعد ذلك لأنه يستلزم التسلسل وحينئذٍ فيلزم امتناع إحداثه بعد أن لم يكن محدثًا فلابد في هذه الجهة من تقدير هذه المقدمات ومطلوبهم ثبوت القسم الأول وهو انه مؤثر تام فيجب مقارنة الأثر له ويمتنع تخلف الأثر عنه أو أن يفعل شيئًا بعد أن لم يكن فعله والمؤثر التام هو العلة وهو المولِّد وقد يقولون إن ذلك لا ينافي كونه مختارًا إذ اختياره للشيء المعين من لوازم ذاته ولو لم يكن مؤثرًا تامًا امتنع منه الفعل سواء قيل إنه تم أو لم يقل إنه تم وإذا كان كذلك فالعلمُ بهذه المقدمات في حق الله لا سبيل لهم إليه إلا بمجرد القياس الذي لا يصح فإن واجب الوجود لا ندَّ له ولا عدل له ولا مثل له حتى يقال إنه(5/246)
بمنزلة ذلك المؤثر التام والمنع متوجه على هذه المقدمات الثلاث فَلِمَ قلتم إنه إذا كان كاملاً في نفسه قادرًا على الفعل بحيث لايعجز عنه إذا أرادوه أنه يجب صدور الفعل عنه غايتكم في هذا أن تمثِّلوا الله ببعض مخلوقاته وتقيسوا عجزه ونقصه على عجز هذه المخلوقات ونقصها وقد أجابهم من أجابهم من المتكلمين كالرازي وغيره بجواب بنوه أيضًا على القياس الفاسد فقالوا لهم قولكم جميع جهات مؤثِّرية الباري في العالم لابد وأن تكون حاصلة في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عنه قلنا هذا إنما يلزم إذا كان موجبًا بالذات أما إذا كان قادرًا فلا وقال هؤلاء قولاً كليًّا إن القادر لا يتوقَّف ترجيحه لأحد المثلين على الآخر على مرجح لوجهين أحدهما أن الواحد من الناس إذا استوى في حقه إرادة الفعلين كالهارب إذا عَنَّ له طريقان متساويان في حقه والجايع إذا قدم له رغيفان متساويان في حقه فإنه يرجح أحدهما لا لمرجِّح الثاني أن القادر إنما يفعل أحد المقدورين دون الآخر(5/247)
لإرادته له والإرادة بنفسها مرجحة لأحد المقدورين وذلك صفة نفسية لها لا يجوز تعليلها بأمرٍ خارجٍ عنها وهذه خاصية الإرادة كما أن خاصية القدرة كونها بحيث يتمكن بها من الفعل وخاصية العلم كونه بحيث يعلم به فكذلك خاصية الإرادة كونها بحيث يخصص بها مقدور على مقدور ومنهم من قال ترجيح القادر بإرادته لابد له من ترجيح ومنهم من ذكر الترجيح بالعلم ومنهم من ذكر الترجيح بما في الفعل من الإحسان ومنهم من ذكر الترجيح بالقدرة وهو أنه كان ممتنعًا والمقصود هنا الكلامُ على من سلَّم ما ذكروه في المرجح الموجب بالذات ومنعه في القادر المختار فالصواب هو الفرق بين الله وبين غيره لا الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار فيقال لهم ما ذكروه ممتنع في حق الله تعالى بكل وجه وليس في الوجود شيء موجب بذاته تجب مقارنة موجبه(5/248)
له أصلاً بل جميع الكائنات إنما هي أسباب لا يوجد الأثر عنها إلا بسبب آخر فإما أن يكون علمنا في الموجودات سببًا هو موجب بذاته وهو على تامة مولد بنفسه فهذا خلاف ما الوجود عليه فما من أثر يصدر إلا عن اشتراك بسببين فأكثر ومع هذا فيمكن تخلفه عنهما وإذا وجد هذا في جميع ما يقال إنه مؤثر من المؤثر باختياره وقدرته وبطبعه وقوته فليس فيها شيء يستقل بأثره وحده فضلاً عن أن يقال إنه موجب له بذاته والأثر الحاصل عند اجتماع أسباب كالحريق الحاصل عند وجود النار وجسم يلاقيه والشعاع الحاصل عند وجود الشمس وجسم يقابله ليس بواجب أيضًا فقد يمكن أن يكون ذلك ولا يكون إشراق ولا إحراق فإذا كان ليس في الوجود من يفعل بذاته أثرًا فضلاً عن أن يقال إنه موجب وإنما الأثر يصدر عن شيئين كصدور الولد عن الوالدين والنتيجة عن المقدمتين وهو مع(5/249)
ذلك ليس بواجب كيف يسلّم لهم أن الموجب بالذات لا يتخلف عنه الأثر وهو قول لا حقيقة له وبهذا يتبين أن القوم أشركوا بالله وعدلوا به وضربوا له مثل السوء كما فعل إخوانهم الذين جعلوه يولِّد البنات وهملا يرضون بتوليدهن وجعلوا مملوكه شريكه وهم لا يرضون بمشاركة المملوك وذلك أن هؤلاء جعلوا الأثر لازمًا له لايمكنه دفعه بوجه من الوجوه قياسًا على ما هو موجب بذاته من العلل وهم مع ذلك لم يجدوا في العلل ما يكون معلوله لازمًا لايمكنه دفعه بوجه من الوجوه فوصفوا الله بما ينزهون عنه المخلوقات ووصفوه من التولد والعجز بما لا يصفون به المصنوعات ولهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أنه ليس في الموجود مؤثر تام إلا الله تعالى فلا رب غيره ولا إله سواه ولهذا قال من قال من متكلمة أهل الإثبات كالأشعري إن أخص وصف الله هو القدرة على الاختراع ور ريب أن هذا من أخص أوصاف الله وإن لم يكن هو وحده الأخص لكن الشعري حرر القول في هذا الأصل تحريرًا باين به سائر أهل الضلال من(5/250)
أهل القبلة وكان انتصاره لهذا الأصل من أحسن أو أحسن ما نصره من مذاهب أهل السنة والجماعة وأما الذين يفرقون بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار في الشاهد والغائب فتفريقهم باطل أما في الشاهد فلأن الفاعل باختياره إذا حصل عنده الإرادة الجازمة مع القدرة التامة كان بمنزلة الموجب بذاته وجاز أن يسمى موجبًا بذاته والموجب بذاته إنما أوجب بصفة قائمة به طبيعية هي نظير الاختيار في المختار وكلاهما فيه قوة فعل بها وكلاهما فيه اقتضاء وميل إلى الفعل وكلاهما يسمى طبيعة وغريزة فإن خلقية الحي يسمى طبيعة له كما يسمى بذلك ما في الجامدات لكن بينهما من الفرق حصول الشعور في أحدهما دون الآخر والشعور يستلزم اللذة والألم ولهذا فرق بينهما بأن جعل أحدهما إرادة دون الآخر وإن كان قد يسمى إرادة كما في قوله تعالى جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف 77] وهذا الفرق أول من أحدثه في الإسلام القدرية وبالغوا في إثبات الفعل للحي القادر حتى جعلوا الإنسان مستقلاً بما يفعله وأخرجوا فعله عن أن يكون مخلوقًا لله ومقدورًا له ومرادًا(5/251)
له والأشعرية ونحوهم وإن خالفوهم في هذا فقد وافقوهم وزادوا عليهم في سلب ما في الأجسام من القوى والطبائع التي بها يفعل ما جعلها الله فاعلة له وفي الحقيقة فالجميع فيه القوى والطبائع التي هي مبدأ الميل إلى الفعل والحركة سواء كانت مع الحياة أو بدونها والله هو خالق هذا كله لكن غير الحي لا تكون حركته إلا تبعًا إذا خرج من مستقره كان فيه ميل إلى مستقره فليست الحركة فيه أصلية بخلاف الحي فإن كل حركة في الكون مبدؤها من اختيار حيٍّ وملائكة الله تعالى هم الذين يدبر الله بهم ما يدبره من أمر خليقته كما يدبر بالآدميين ما شاء لكن الملائكة أكبر وأكثر كما قال تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} [النازعات 5] وقال تعالى فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً {4} [الذاريات 4](5/252)
وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه فأولئك الفلاسفة أشركوا بالله وعدلوا به حيث قاسوه على الموجب بذاته من المخلوقات وهؤلاء كانوا أمثل فإنهم لما عدلوا به وأشركوا بما شبهوه بالفاعل باختياره من المخلوقات ثم إن كل واحد من الفريقين لو كان حكمُ الأصل ثابتًا لكان قياسه من أفسد القياس لما فيه من تسوية رب العالمين ببعض المخلوقات فكيف وحكم الأصل مُنتفٍ في الأصلين فإن أولئك قاسوه على القادر المختار الذي يرجِّح أحد المثلين على الآخر وهو نفسه إن شاء فعل وإن شاء ترك وليس في الوجود قادر مختار بهذا المثابة كل قادر مختار من المخلوقين فإنه لايفعل حتى تثبت له إرادة جازمة معينة لمراده وتكون حاصلة فيه من غيره وهذا خير من بعض الوجوه والله تعالى له المثل الأعلى ليس كذلك بل هو يستقل بالفعل بإرادته التي لم يستفدها من غيره من غيره ولايضطر إلى الفعل فلا فعلُه ولا نفسُ إرادته تضطره بل هذان وصف الآدميين وإنكار القدرية لذلك وما يقال إنه موجب بذاته في(5/253)
المخلوقات سواء قيل إنه يقتضي بالطبع بلا حياة ولا شعور أو فيل إن له حياة وشعورًا ليس كما يقوله هؤلاء بل ليس في الوجود ما يفعل شيئًا إلا بشريك معاون له يكون هو وذاك سببين والله تعالى لا شريك له ثم إذا وجد شريك كان صدور الأثر عنهما بغير اختياره ولا بمشيئته ويكون عاجزًا عن رد الأثر إذا وجد الشريك والله تعالى لا يفعل شيئًا إلا باختياره ومشيئته وليس عاجزًا عن رد الشيء لفعل غيره له بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فظهر أن هؤلاء جميعهم أتوا من تمثيل الله بخلقه ثم إنهم غلطوا في حكم الأصل الذي مثَّلوه به قال الله تعالى وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} [الأنعام 100-101] فهذا بعض ما يتعلق بقولهم في المقدمة الواحدة أنه يجب مقارنة الأثر إذا كان تامًّا وأما المقدمة الثانية وهو أنه إذا لم يوجد المؤثر التام امتنع صدور الفعل عنه ويمتنع أن يكون تامًّا بعد أن لم يكن فيمتنع(5/254)
أن يفعل بعد أن لم يفعل فهم إنما يوجبون بالمؤثر التام ما تجب مقارنة الفعل له وقد قلنا إن هذا لاوجود له فبطل قولهم إذا لم يوجد المؤثر التام بهذا التفسير امتنع وجود الفعل بل جميع المؤثرات التي نشهدها يمكن تخلف الأثر عنها فلا تكون تامة عندهم ومع هذا فالأثر يوجد عندها ثم لو سلم أن هذه يمتنع صدور الأثر عنها لم يسلم أن الباري كذلك وأنه إذا كان بحيث لايجب صدور الفعل عنه لايكون مؤثرًا تامًّا فيمتنع صدور الفعل عنه بل هذا القول هو عين الباطل في حق الله تعالى أن يقال لايفعل حتى يمتنع أن يفعل ويمتنع أن يفعل إذا لم يجب أن يفعل فالفعل منه إما واجب لا يقدر على تركه أو ممتنع لا يقدر على فعله بل هذا سلب لقدرته التي هي مدلول فعله وقد جعلوه بهذا أعجز من عامة المخلوقات وأنقص منها فإنه ليس شيء منها بحال يكون المتولد عنه إما واجبًا لايمكن عدمه بحال وإما ممتنعًا لايمكن وجوده بحال ونحن نعلم أن الأمور الموجودة يجب وجودها بمشيئة الله تعالى لها وما لم يوجد يمتنع وجودها بعدم مشيئة الله لها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فالوجوب والامتناع هو بحسب مشيئة الله وعدم مشيئته وأما الوجوب والامتناع بحسب سبب آخر فهو باطل وهو خلاف الواقع ومن استقرأ الموجودات لم يجد شيئًا موجبًا يمتنع أن يكون(5/255)
موجبًا ويمتنع إن لم يكن موجبًا بهذا الاعتبار أن يوجد ذلك الأثر وإذا كان الوجوب والامتناع في الممكنات بحسب مشيئة الله تعالى فلا نظير لمشيئته كما لا نظير له ومن قاسها ومثَّلها بغيرها فهو كمن قاسه ومثله بغيره وذلك من الإشراك به وجعل الأنداد والأمثال والأكفاء له وهو ممتنع في نفسه لأن مماثلته لغيره توجب اتصاف أحدهما بصفة الآخر وذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم بيانه وأيضًا فإنهم يمثلون بغيره فيما هو نقص وعجز في ذلك الغير لو كان موجودًا وهو سبحانه لا يمثّل بغيره ويسوَّى به في الكمالات فكيف في النقائص فصار هذا باطلاً من ثلاثة أوجه أحدها أن هذا الوصف ليس ثابتًا لغيره حتى يجعل هو وإياه تحت قضية كلية في قياس شمولي أو يشبه به في قياس(5/256)
تمثيل ولو كان موجودًا أو مقدرًا لم يجز أن يعدل بالله ويسوي به لأن الله أكبر من كل شيء ولو جاز أن يعدل بغيره لم يعدل به فيما هو نقص لا يعدل بالناقصات فلو كان حكم الأصل موجودًا كان قياسهم من باب ويجعلون لله ما يكرهون حيث وصفوه بما ينزهون عنه المخلوقات فيف ولا وجود للأصل وأما الكلام على أصلهم الثاني وهو انه يمتنع أن يصير مؤثرًا تامًّا بعد أن لم يكن فيمتنع أن يحدث شيئًا والمؤثر التام عندهم الذي تجب مقارنة الفعل له فهذه أيضًا باطلة من جانب النفي والإثبات كبطلان وجوب المقارنة التامة وامتناعها فإنه يقال إما أن يكون مؤثرًا تامًّا في الأزل بجميع حوادث العالم أو لا يكون فإن كان مؤثرًا تامًّا وجب وجودها جميعًا في الأزل وهو خلاف المشهود المحسوس المعلوم لكل أحد فإن لم يكن مؤثرًا تامًّا في الأزل امتنع أن يصير بعد ذلك مؤثرًا تامًّا فيجب أن لايفعل شيئًا فيلزمهم إما قدم جميع الحوادث أو عدمها وكلاهما معلوم الفساد وإنما لزمهم ذلك لأجل المقدمتين اللتين بَنَوا عليهما قدم العالم فإنهم قالوا لا يفعل إلا أن تكون بحيث تجب مقارنة الأثر له ويمتنع أن يصير كذلك بعد أن لم يكن لأنه يفضي إلى التسلسل فيقال لهم المؤثر في جميع هذه الحوادث كائنًا ما كان إما أن يكون مؤثرًا(5/257)
تامًّا بتفسيركم أو لا يكون فإن كان كذلك وجب قدمها جميعها وإن لم يكن كذلك وجب امتناعها جميعها لامتناع تمام المؤثرية فيما بعد واعتذارهم عن ذلك بأن تمام المؤثرية في الفلك التاسع الذي بحركته تستعد القوابل لفيضان الوجود والكمال عليها لا يدفع هذا التناقض الظاهر فإن مجموع هذه الأمور التي حصلت بها هذه الآثار هي المؤثر التام فحدوث هذا المجموع إما أن يصدر عن مؤثر تام أو لا فإن لم يصدر عن مؤثر تام موجب للمقارنة بطل قولهم إن الثر لايصدر إلا عن مؤثر تام تجب مقارنة الثر له فإن صدرت عن مؤثر تام تجب مقارنة الثر له فإن كان قديمًا لزم قدمها وإن كان محدثًا فالقول في علة حدوثه كالقول فيما تقدم وهذا كلام قاطع(5/258)
وبرهان ساطع لا مندوحة عنه وبغيره يتفطن لضلال هؤلاء الذين هم أكفر وأضل من عموم المشركين اللذين هم بربهم يعدلون يوضح ذلك أن حقيقة ما يقولونه إن المؤثرية التامة لكل حادث يحدث مستلزمة لحدوثه فكلما دار الفلك حدث بدورانه من استعداد القابل وفيض الفاعل ما يستلزم الحادث بمجموعهما وبالمجموع تتم المؤثرية هذا حقيقة قولهم فإذا كانت المؤثرية التامة تحدث شيئًا بعد شيء كما تحدث عنها الآثار شيئًا بعد شيء فكل من المؤثرية وآثارها تحدث شيئًا بعد شيء لكن بعض أجزائها قديم إما واجب الوجود بنفسه وإما غير واجب الوجود بنفسه بل بغيره وبعض أجزائها حادث وإذا كان كذلك فلابد لحدوث المؤثرية شيئًا بعد شيء من سبب إذ الحادث لايحدث نفسه كالحركة الفلكية شيئًا بعد شيء لابد لحدوث مؤثريتها من سبب حادث فإذا قيل هو التصورات المتجددة أو الشوق المتجدد أو ماذا عسى أن يقال كان(5/259)
القول في حدوث هذا كالقول في حدوث ما حدث عنه فكيف ما داروا كانوا مضطرين إلى حدوث حوادث في العالم من غير حدوث شيء في العالم كالحركة الفلكية فإنها حادثة شيئًا بعد شيء في العالم وكحركة النفس المحركة لها عند من يقول بذلك منهم كان ذلك حادثًا في العالم وفي الممكنات من غير أن يكون في الممكنات سبب يقتضي حدوثه ومن غير أن يحدث في الممكنات وفي العالم ما يحصل به مؤثرية ذلك الحادث فإذا كان في العالم من الحوادث ما ليس له سبب تام يقتضي حدوثه من العالم علم أن الموجب التام للحدوث أمر خارج عن العالم ولا يخرج عن العالم إلا الله سبحانه يجوز أن يحدث الحوادث بعد أن لم تكن من غير أن يعاونه شيء على ذلك هو المطلوب واعلم أن الكلام هنا على وجهين أحدهما إفساد دليلهم على القدم وهو قولهم يمتنع حدوثه بعد أن لم يكن لأن الحادث يقتضي شيئًا وحدوث الحادث عن العلة التامة القديمة محال فلا يكون العالم حادثًا فقد تبين أن هذا مُنتقِض بجميع الحوادث وبجميع ما يقال إن وجد سبب لها فإنها حادثة بعد أن لم تكن ونفس حركة الفلك ظاهرة في النقض فإن الحركة حوادث متوالية وليس فوقها عندهم سبب حادث يوجبها فهي حوادث عن علة قديمة عندهم فقد جوَّزوا حدوث الحادث عن حركة تامة قديمة فإن(5/260)
قالوا فوقها سبب حادث به تمت مؤثريتها كما يقوله من يجوز قيام الحوادث به منهم جاز عند هؤلاء حدوث العالم بمثل هذا فعلى القولين تبطل الحجة وأما الوجه الثاني فهو الاستدلال بهذه على حدوث العالم وهو أن يقال لو كان العالم قديمًا للزم أن يكون له موجب تام يستلزم موجبُه قِدَمَهُ عن غير موجب فإنه يستلزم محالاً لأنه إنْ لم يكن تامًّا مستلزمًا أمكن وجوده وأمكن أن لا يوجد والممكن لا يوجد إلا بموجب تام مستلزم والموجب التام المستلزم لا يتخلف عنه شيء من موجباته ولوازمه فجميع الحوادث إن كان هو موجِبًا تامًّا مستلزمًا لها لزم قدمُها وهو خلاف المشاهدة وإن لم يكن موجِبًا تامًّا مستلزمًا لها فلابد من شيء يتم به موجبها وذلك إن كان قديمًا لزم قدمها لأن قدم الملزوم يوجب قدم اللازم وإن كان محدثّا كان من جملة الحوادث فلابد له من شيء به يتم مُوْجِبُهُ من غير الحوادث لأن الكلام في جميع الحوادث وما يتم به الموجب من غير الحوادث لا يكون إلا قديمًا ولو كان قديمًا لزم قدم الحوادث فصار قدم العالم مستلزمًا لقدم الحوادث وهو ممتنع فقدم العالم ممتنع فصار قدم العالم مستلزمًا لعدم قدمه وما اقتضى ثبوت نفيه كان ممتنعاً ثبوته واعلم أنه كما يُحتج بما في العالم من الحوادث فإنه يحتج(5/261)
بما فيه من الاختصاص والمقادير والصفات والأزواج المتنوعة كما قال وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] فإن مبدع العالم إن كان علة موجبة بنفسه وهو واحد بسيط امتنع أن يصدر عنه أمور مختلفة على أصلهم وإن لم يكن كذلك كان فاعلاً بمشيئته واختياره ما يختاره من المفعولات وحينئذ فيمتنع أن يقال الحركة هي الموجبة للحوادث لأن الحركة إنما تحدث عنها مع بقية الحركات المختلفة لأن حركات الأفلاك مختلفة كما أن الأفلاك مختلفة ومعلوم أن حركة التاسع ليست الموجبة للحركة التي تخلفها في الثامن فإن قيل إنها توجب الحركة التي ترادفها إذ للثامن وغيره من الأفلاك حركة تخصُّه وحركة تابعة لحركة التاسع فالحركات إذاً مختلفة والمتحركات مختلفة والمعلولات المختلفة تستلزم عللاً مختلفة إذ العلة الواحدة من كل وجه لا تُوجِب معلولين مختلفين ولايقال ذلك بحسب القوابل لأن الكلام في القوابل المختلفة كالكلام في الحركات المختلفة وهذه المختلفات من الفاعل والقوابل لاتكون صادرة عن علة واحدة فيقتضي الصدور عن فاعل حي ذي صفات ومشيئة يفعل بها وهذا ضد ما يقولونه من أنه واحد لايصدر عنه إلا الواحد فإن هذا الواحد الذي أثبتوه ونفوا عنه الصفة والقدر وسموا ذلك تركيباً وكثرة قد تبرهن في غير هذا الموضع بالوجوه الكثيرة(5/262)
أنهم لا دليل لهم على هذه الوحدة وأن ألفاظ حججهم ألفاظ فيها إجمال واشتراك كما قد بيَّناه في غير هذا الموضع بل تبين بالبرهان أن هذه الوحدة يمتنع أن يوصف بها موجود وأن وصف المبدع بها يقتضي تعطيله ولهذا آل بهم الأمر إلى القول بأن الوجود كله واحد ثم إن العالم فيه كثرة مشهودة فإن كان الصادر عن الواحد واحداً من كل وجه فلا يصدر عنه إلا واحد ويلزمهم نفي الكثرة المشهودة في الوجود وهو خلاف المشاهدة وإن كان فيه ما يسمونه كثرة وتعدداً وتركيباً ونحو ذلك فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد فهم بين أمرين إما إثبات الواحد ونفي جميع الصادر الثاني والثالث والرابع والخامس وإما إثبات الكثرة في الصادر الأول ثم في المبدع يوضح هذا أن الفلك الثامن مكوكب كثير الكواكب والتاسع فوقه أطلس فمن أين جاءت هذه الكثرة العظيمة وإذا قالوا إنه صدر عنه عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر ثم صدر عنه ما تحت فلك القمر ففي هذا الكلام من التناقض والهذيان ما لا يروج على عقول الصبيان وقد كنت في أوائل معرفتي بأقوالهم بعد بلوغي بقريب وعندي من الرغبة في طلب العلم وتحقيق هذه الأمور ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سيناء وأنا أناظره في هذا المقام(5/263)
وأقول له أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق وتقولون مثل هذا الكلام الذي لايقوله أضعف الناس عقلا وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول العقل الأول إن كان واحداً من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد لايصدر عنه عقل ونفس وفلك وإن كان فيه كثرة فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد ولو قيل تلك الكثرة هي أمور عدمية فالأمور العدمية لايصدر عنها وجود ثم إذا جوَّزوا صدور الكثرة عن العقل الواحد باعتبارٍ ما فليجوِّزوا صدورَها عن المبدع الأول بمثل ذلك الاعتبار بدون هذه الواسطة كقولهم باعتبار وجوبه صدر عنه عقل وباعتبار وجوده صدر عن نفس وباعتبار إمكانه صدر عنه فلك فإن هذه الصفات وإن كانت أموراً ثبوتية فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد وإن كانت إضافة أو سلباً أو مركباً منهما فالمبدع الأول عندهم يتصف بالسلب والإضافة والمركب منهما فبطلانُ كلامهم في هذا المقام الذي هو أصل توحيدهم يظهر من وجوه كثيرة متعددة تبيَّن فيها أن القوم من أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن معرفة الله وتوحيده فإن عوام اليهود والنصارى الذين لم نوافقهم أعلم بالله من خواص هؤلاء الفلاسفة المبدلين الصابئين وقد بينا في غير هذا الموضع أن ما يذكرونه من المجردات المفارقات إنما أصله ما تصوروه من الكليات الذهنية المجردة(5/264)
عن المحسوسات العينية فتخيَّلوا ما في الذهن ثابتاً في الأعيان كما تخيل قدماؤهم كأصحاب أفلاطون أن الكليات ثابتة في الخارج أزلية وهي المثل الأفلاطونية وتخيلوا وجود هيولى مقارنة للصورة ومدة وراء حركة الأجسام وتخيل غير هؤلاء كأصحاب فيثاغورس وجود أعداد خارجة عن المعدودات وتخيل أرسطو وأصحابه وهو صاحب التعاليم تركيب الجسم من مادة وصورة وأن المادة(5/265)
شيء كوجود تختلف عليه صورة الأجسام وهي عند التحقيق ترجع إلى تقدير ذهني لا حقيقة له في الخارج وكذلك تخيُّله أن حقائق الأنواع الكلية ثابتة في الأعيان الخارجية وأنها غيرها وكل هذا لأن الذهن يجرد العقول عن المحسوس والمعقولات أمور كلية ثابتة في الذهن والذهن يجردها تجريداً بعد تجريد كما يجرد العدد عن المعدود والأنواع عن الأشخاص والأقدار عن المقدورات ومن هذا الباب تجريده للكليات الخمسة فمن تخيل أن المجردات أمور ثابتة في الخارج كان نسبتها كمن رأى صورة في المرآة فظن تلك الصورة التي يراها في نفس المرآة موجودة في الخارج فجاء ليمسها أو لينالها كما ينال الصورة المحسوسة فلم يجد شيئاً ولاريب أن هؤلاء وسائر الذين كفروا كما قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {39} أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ(5/266)
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40} [النور 39-40] فالمثل الأول نسبة الجهل المركب والكفر المركب كالاعتقادات الفاسدة كاعتقاد هؤلاء والثاني نسبة الجهل البسيط والكفر البسيط كحال من لم يعتقد منهم شيئاً أو تعارضت عنده الاعتقادات وصار حيران لا يرى حقًّا وإذا تأمل العاقل كلامهم فيما يثبتونه من العقول المجردة المفارقة علم أنهم أخذوا ذلك عن المجردات المعقولة لنا وتلك الأعراض قائمة في أنفسنا وهم يجعلون تلك المفارقات جواهر روحانية بل هي عندهم أشرف الموجودات ومن يجمع بين كلامهم وبين ما جاءت به الرسل يجعل هذه المجردات التي هي في الحقيقة خيالات ملائكة الله التي أخبرت بها الرسل وقد بينا في غير هذا الموضع أن من نزل الملائكة على ما يدعيه هؤلاء من هذه المجردات كان من أجهل الناس وأكفرهم فإنه قد ذكر من أصناف الملائكة وأوصافهم ما تبين أنه أبعد الأشياء عن هذه ولهذا يصيرون إلى جعل الملائكة قُوى في النفس صالحة كما يجعلون(5/267)
الشياطين كذلك ومن سمع ما أخبر الله به في القرآن والسنة عن الملائكة والشياطين علم أن بين هذا وهذا من الفرق ما لا يخفى على أدنى الناس علماً بما جاءت به الرسل وما يقوله هؤلاء إنما يلبسون على الناس بعباراتهم الغريبة وبمن أضلوه من متكلم متصوف حتى اخذ عبارات المسلمين مما جاء بها الكتاب والسنة فنزلها على معاني هؤلاء الكفرة الملحدين كما يوجد مثل ذلك في كلام صاحب رسائل إخوان الصفا وصاحب جواهر القرآن ومشكاة الأنوار ومن سلك(5/268)
هذا السبيل من فيلسوف قرمطي ومشارك له في بعض ذلك وإن كان فيه من التصوف الإسلامي ما يباين به القرمطي لكن يشاركه من وجه ويفارقه من وجه وما أحسن ما قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري فيمن هو خير من هؤلاء أخذوا أصح الفلسفة فلبّسوه لحاء الإسلام وهو كما قال الحلية حلية مسلم والعبارة عبارة مسلم والمعرفة والقصد ليست معرفة المسلمين ولا قصد المسلمين بل ذلك سبيا الزنادقة المنافقين أعداء الرسل وسوس الملل الوجه الخامس على أصل حجتهم أن يقال أنتم طلبتم(5/269)
الموجب للتخصيص فيقال إذا جعلتموه مولداً موجباً بذاته كان المحذور ألزم ولزمكم من الجهل بعدم المخصص المرجح أعظم مما لزمكم من الجهل به على تقدير تخصيصه بمشيئته وذلك أنه يقال إذا كان العالم متولداً عنه لازماً لذاته لا ينفكّ عن ذاته ولايقدر على إزالة لزومه له وتولده عنه ولاعلى عدمه كما هو قولكم فما الموجب لكونه بهذه الصفة مع ما في ذلك من القصور والعجز والنقص فإن كون الذات بحيث يلزمها غيرها ويتولد عنها ولاينفك عنها ولايقدر على دفع تولُّده ولزومه لها ولو أراد أن يدفعه لم يستطع ولا يمكنه ذلك لاريب أنه أنقص من كون الذات تقدر على دفعه وإن شاءت دفعه عنها دفعته ولو لم تكن أنقص لكن كونه بهذا التولد وهذا الإيجاب وهذا الاقتضاء وهذا الإحداث لابد له من موجب فإن كونه كذلك نوع من الاختصاص إذ تعقل وجود الذات الواجبة خالية عن هذا اللزوم والتولد فلابد لهم أن يقولوا نفس الذات الواجبة بخصوصها لايمكن أن يكون إلا كذلك على هذا الاقتضاء والتولد فإنه لو أمكن أن يكون كذلك وأمكن أن لايكون كذلك كان وجود أحد الممكنين متوقفاً على مرجح فإذا قالوا ذلك قيل من المعلوم أن كون ذاته من لوازمها أن تفعل إن شاءت وتترك إن شاءت هو أعظم في القدرة والكمال من أن يكون من لوازمها الفعل الذي لايقدر على تركه ولو شاءه ومن تدبَّر هذا وميَّزه حسم هؤلاء الذين بدلوا دين(5/270)
المرسلين وغيروا فطرة الله التي فطر الناس عليها وكل ما يسألون عنه من وجه خالقيته وفاعليته يلزمهم في وجه توليده أو محايثته أعظم منه ومن هنا يظهر الوجه السادس وهو أن يقال واجب الوجود ليس كمثله شيء من الأشياء ولايجوز أن يُجعَل له عدل ولا ند ولا مثل في أفعاله كما لايجوز أن يُجعَل له ذلك في صفاته وأسمائه ومن خصائصه أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وانه ما شاء فعل وليس غيره من القادرين بهذه المثابة وليس غيره يفعل ما يشاء بل قد يعجز عنه وإذا كانت مشيئته في عمومها ونفوذها من خصائصه فهو إذا شاء فعل وإذا شاء ترك وذاته هي الموجبة لهذه المشيئة المتعلقة بالفعل وإن لم يكن لغيره مثل هذه المشيئة إذ ليس غيره واجب الوجود ولا صفاته واجبة بوجه كما أن ذاته ليست واجبة بل يمكن وجود ذاته دون صفاته وإن كانت ذاته واجبة بغيرها فكما لاعدل لله في صفاته لاعدل لع في أفعاله يقرر هذا الوجه السابع وهو أنهم يقولون إنه وَلَدَ الفلك إما بواسطة فلك وإما بواسطة عقل ونفس أو بغير واسطة والفلك له مشيئة يفعل بها على التعاقب حوادث العالم فإذا كانوا يجعلون له(5/271)
ولداً تولد عنه ويثبتون لولده مشيئة وفعلاً يفعل به الحوادث على التعاقب فإثبات مشيئةٍ له يفعل بها أولى وأحرى وإيجاب ذاته لصفاته أقرب إلى المعقول من إيجابها لأمور منفصلة عنه إذ الصفات صفات كمال فكونُ الذات تستلزمها تقتضي كمال الذات أما كون الذات مستلزمة لغيرها المنفصل عنها بحيث لايمكنها فراقه فهذا لا كمال فيه ومن المعلوم أن الأعلى لا يُستكمَل بالأسفل ومن هنا يظهر الوجه الثامن وهو أنهم نفوا الصفات وليس له إلا صفة سلب أو إضافة أو مركبة منهما قالوا لأن الصفات تقتضي من التعدد والتركيب ما يقتضي الحاجة إلى الغير المنافية لوجوب الوجود ومن المعلوم بالفطرة البديهية أن كون الذات قد تولد عنها ذات أخرى لايمكن أن تنفصل عنها أصلاً ولايقدر على دفع لزومها وتولدها عنها ولو أرادت ذلك لم ينف مرادها ولايقدر أن يغير شيئاً ولايحدثه ولايتصرف فيه بوجه من الوجوه فهذه الذات أولى بالنقض من غبر وجه من الذات المستغنية بما هي عليه من الصفات وقد قدمنا فيما تقدم الجوابَ عن شبهة التركيب الخارجة وبيَّنا أن ذلك كله ألفاظ مجملة مشتركة وأن الموجود يمتنع أن(5/272)
يكون إلا بصفات ونفيها ينفي الوجود الواجب والممكن وأما ما ذكروه من التولُّد والتعليل فالنقض فيه ظاهر وأين من يتولد عنه الشيء بغير اختياره ممن يفعل باختياره هذا من أبين الأمور الحسية العقلية أن الذي يفعل باختياره أكمل ممن يتولد عنه الفعل من غير أن يقدر على منعه له أو يكون له اختيار في تركه وهو وإن اثبتوا له غاية وربما يثبتون له إرادة تستلزم العالم فهم يتناقضون في ذلك كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أنه أنهم ينفون الاختيار ويثبتون من الحكمة الغائية في العالم ما يستلزم الاختيار وكذلك الغاية ولا ريب أنهم كثيرو التناقض كما قد بيناه في غير هذا الموضع وهذا حال كل من خالف الرسل يكون تناقضه على قدر مخالفته ويقال لهم الذي يمكنه الفعل والترك أكمل ممن لايمكنه إلا الفعل بل كثيرٌ من أهل الكلام يقول الذي يقدر أن يريد الفعل ويقدر أن يريد الترك أكمل ممن لايقدر على إرادة الترك بل هو لايمكنه إلا إرادة للفعل بل هذا نوع من الخبر وإن كان فيه اختياراً إلا أنذلك أكمل وإن كان كذلك فكونُه سبحانه على صفة يشاء الفعل ويشاء الترك أكمل من أن تكون ذاته لا تقتضي إلا شيئاً معيناً(5/273)
وإذا كان لابد من أن يكون هو على وجه يوجب وجود العالم على ما هو عليه ثم يمكن أن يكون ذلك على وجه هو فيه أكمل من وجه كان من قال إنه على الوجه الأنقص دون الأكمل من أجهل الناس وأظلمهم لاسيما إذا ادعى امتناع الوجه الأكمل ولزوم الوجه الأنقص الوجه التاسع أنه لاريب أن لذاته خصوصية يتميز بها عن سائر الذوات إذ الوجود المطلق الذي لا اختصاص فيه بشيء دون شيء إنما وجوده في الذهن لا في الخارج بينهم وهو القدر المشترك بين الموجودات فإن المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج بالاتفاق والمطلق لا بشرط لا يوجد أيضاً في الخارج مطلقاً بالاتفاق وإن كان المتفلسفة كابن سيناء يتناقضون في هذا الموضع فيجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويجعلون موردَ التقسيم بين الواجب والممكن الذي هو موضوع العلم الإلهي عندهم الوجودَ المطلق لا بشرط وقد دخل معهم في هذا التناقض أهل الوحدة كابن عربي وابن سبعين وأمثالهم(5/274)
ممن يقول بأن الوجود واحد وهو الله سواء فسّر بهذا أو بهذا فمن فسره بالمطلق بشرط الإطلاق لزمه أن يكون معدوماً في الخارج ومن فسره بالمطلق لا بشرط فغايته أن يجعله وجود المخلوقات أو جزءاً منها أو حالاً فيها وكل ذلك من أبين الأقوال فساداً في العقل وأظهرها كفراً في الدين وعلماء النظار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي والغزالي قد بيَّنوا فساد قول من يجعله وجوداً مطلقاً فيقول كل موجود فله حقيقة يختص بها ويتميز بها ويباين بها غيره وإذا كان كذلك فكونُه بتلك الحقيقة الخاصة(5/275)
المباينة لغيرها في حقيقتها المخالفة لما سواها في ماهيَّتها إن قيل لابد له من موجب فلا موجب له سوى الذات نفسها فهي موجبة لما هي عليه بنفسها ووجودها على ما هي عليه واجب بها لا بغيرها وإن قيل لا مُوجب له بمعنى أنه لا موجب لتلك الحقيقة والخاصية منفصل عنها فهو أيضاً صحيح وإنما المقصود أن تلك الحقيقة الخاصة واجبة الوجود بنفسها لايجوز أن يُطلَب لها سبب منفصل عنها بل طلب ذلك إنكار لواجب الوجود بنفسه وإنكار الوجود الواجب يستلزم إنكار الموجود كله إذ الموجود إما أن يكون واجبًا أو ممكناً والممكن لابد له من واجب فلابد في الوجود من واجب وإذا كان إنكار الاختصاص الواجب بنفسه يقتضي إنكار واجب الوجود وإنكار(5/276)
الموجود بالكلية كان هذا أعظم السفسطة وإذا كان الأمر كذلك كان طلب علة علمه ومشيئته وقدرته وسائر صفاته الواجبة له كطلب علة ذاته وهو محال فالأول مثله فقول القائل لِمَ فعل بعد أن لم يكن يفعل كقول القائل لم فعل ولِمَ شاء وذلك كقوله لِمَ كان وهذه كلها أسوِلَةُ باطلة لأنها تنافي وجوب الوجود ويتقرر ذلك بالوجه العاشر وهو أن هذه المسائل هي مسائل الشيطان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول مَنْ خَلَقَ الله فإذا وجد أحدُكم ذلك فَلْيستعِذ بالله ولينتهِ. وفي حديثٍ آخر في الصحيح لايزال الناس تَسْوِلُكُمْ حتى يقولوا هَذَا الله خَلَقَ كل شيء فمن خلق الله فهذه السؤالات من شياطين الإنس والجن أسولة معلومة الفساد في العقل ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبدَ إذا جاءته هذه.(5/277)
المسائل أن يستعيذ بالله منها وينتهي فإن الشيطان يلقي إليه هذه المسائل ليشكِّكه في الحق كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن للملك لمةً وللشيطان لمة فلمةُ الملك إيعادٌ بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق الوجه الحادي عشر أما ما ذكروه منقوضٌ عليه بجميع ما في الوجوه من الحوادث وبجميع ما في الوجود من كل موجود وصفة وقدرة وذلك أنه ما من موجود من سماءٍ أو أرضٍ أو ليلٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو بشرٍ أو حيوان أو نباتٍ إلا وهو مخصوص بأمور متعددة من الخواص في مقاديره وصفاته ومكانه وزمانه وهذا يذكر على وجهين الأول النقض بالحوادث كلها فإنه يقال في كل حادث(5/278)
جميع الأمور المعتبرة في تأثيره إما أن تكون حاصلة في الأزل أو لاتكون فإن كانت حاصلة وجب قدمه وهو خلاف المشهود وإن لم تكن حاصلة في الأزل فالقول في حصولها بعد ذلك كالقول في ذلك الحادث ويلزم التسلسل فيجب أن لا يحصل بعد ذلك فيمتنع حدوث هذه الحوادث وهو خلاف المشهود فطردُ قياسهم هذا الذي به يهوِّلون يلزمهم إما القول بقدم جميع الموجودات وإما عدم جميع المفعولات وإذا بطل القِدَمُ والعَدَمُ عُلِم أنهم زَلّت بهم القَدَمُ والثاني أن يقال هذه مع حدوثها وما يزعم أنه قديم من الأفلاك والكواكب والعناصر هي مختصة في مقاديرها وصفاتها وأحيازها وحركات من الخصائص مما لايحصيه إلا الله تعالى فالمقتضي لذلك التخصيص إما أن يكون موجباً بالذات ليس له التخصيص أو لايكون فإن كان موجباً بالذات فهو لا اختصاص فيه على ما يزعمونه بل هو واحدٌ من جميع الوجوه والعقلُ الصريح يشهد أن ما يكون كذلك لا يُخصّصُ شيئاً بصفةٍ وقدرٍ دون شيء ولايعقل ذاتاً على صفة مخصوصة دون ذات وإن كان الفاعل لذلك ما من شأنه التخصيص فهو يخص الحوادث بأوقاتها كما يخصها بأحيازها وكما يخصها بصفاتها وأقدارها بل أمر الزمان أخص من غيره ومها اعتذروا به مثل أن يقولوا لايمكن غير ذلك أو ما سوى ذلك.(5/279)
ممتنع فإنه يقال نظيره في محل النزاع كما قال من قال من المتكلمين إنه لم يكن فعله إلا حين فُعلَ بل قد يدرك العقل الإحالة في العدم أعظم مما يُدركه في هذه الخصائص والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما مخالفة هؤلاء لما جاءت به الرسل عن الله وما نزلت به كتبه فهو أعظم وأكثر من أن يوصف هنا وإن كان من دخل في الملل من منافقيهم من الملاحدة القرامطة الباطنية ومن ضاهاهم من المتفلسفة ونحوهم يزعمون أنهم يجمعون بين الكتب الإلهية وبين هذه الفلسفة الفاسدة الحائدة كما فعل أصحاب الرسائل التي سمَّوها رسائل إخوان الصفا وغيرهم فإن من تحققت معرفته ببعض ما جاءت به الرسل وببعض ما عليه هؤلاء علم أنهم أعداء الرسل وسُوْسُ الملل وأنهم من أعظم الناس نفاقاً للمرسلين إذا أظهروا موافقتهم وأعظمهم معاداة لهم وكفراً بهم ومحاربة لهم إذا اظهروا مخالفتهم بل هم أئمة الكفر من كل طائفة كما قال تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) [القصص 41] وقال تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) [غافر 56] وقال تعالى فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا(5/280)
بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) [غافر 83-85] وقال تعالى مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) [غافر 4-5] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) [الفرقان 31] وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [النعام 112] وقال تعالى ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدثر 11-26] وهذا باب واسع ليس هذا موضعه وقد تكلمنا على كثير مما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع وإنما نبَّهنا هنا على ذلك لِتعلُّق الكلام في المكان بالكلام في الزمان وتعلق الكلام في كونه فوق العالم بكونه قبل العالم كما قال سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) [الحديد 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء(5/281)
الوجه الثاني عشر أن خروج هؤلاء الجهمية عن النقيضين ومنعهم من ثبوت العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية هو كخروج سائر إخوانهم من ملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم عن النقيضين ومنعهم من أسمائه الحسنى فقول القائل ليس بداخل العالم ولاخارجه أو لا على العالم ولا فيه أو ليس بمباين للعالم ولا محايث له كقوله لا قائم بنفسه ولابغيره ولامقارن للعالم ولايتقدم عليه ذلك كقولهم ليس بحي ولاميت ولاعالم ولاجاهل ولا قادر ولاعاجز ولامتكلم ولا أخرس ولاسميع ولا أصم ولابصير ولا أعمى ومنعهم من أن يكون له العلو والمباينة الحقيقية كمنع أولئك من أن يكون له التقدم والأولوية الحقيقية أو يكون عالماً أو قادراً أو حيًّا والسؤلات التي يوردها هؤلاء على ثبوت علوه ومباينته كالسؤالات التي يوردها إخوانهم على ثبوت علمه وقدرته وحياته أو على ثبوت كونه عالماً قادراً حيًّا سواء بسواء وإذا كان المؤسس وغيره يعلمون أن قول الملاحدة خروج عن النقيضين فقولُه وقول موافقيه أيضاً خروج من النقيضين جميعاً وهم وإن قرروا بألفاظ النصوص مثل اسمه العلي والظاهر والكبير والمتعالي ونحو ذلك فقد جحدوا حقائقها كما أن إخوانهم الجهمية لما نفوا أن يكون عِلمٌ وقُدرةٌ وحَيَاةٌ فهم في(5/282)
الحقيقة قد نفوا أن يكون حيًّا عالماً قادراً موافقةً للزنادقة الملاحدة النافين للأسماء كما قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة وزعمت الجهمية والقدرية أن الله تعالى لاعلم له ولا قدرة ولا حياة ولاسمع ولابصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعَهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لاعلم ولاقدرة لله عز وجل فقد قالوا ليس بعالم ولاقادر ووجب ذلك عليهم قال أبو الحسن وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولاقادر ولاحي ولاسميع ولابصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالمٌ قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن تثبت لله علماً وقدرة أو سمعاً أو بصراً وحقيقتهم القرمطة في السمعيات والسفسطة في(5/283)
العقليات فهؤلاء بمنزلة الملاحدة من وجهين أحدهما إقرارهم بلفظٍ مع جحدهم بحقيقة معناه كما هو عادة القرامطة الباطنية في تحريف الكلم عن مواضعه وكما ذكره الأشعري عن المعتزلة وه النفاق في القرآن وهو من الإلحاد في أسماء الله وآياته والوجه الثاني السفسطة في العقليات من وجوه منها نفيُهم للنقيضين جميعاً بقولهم ليس بعالم ولاجاهل ولاحي ولا ميت ولاقادر ولاعاجز ومن تدبر هذا وتدبر قول هؤلاء في قولهم ليس فوق العالم ولابداخل العالم أو ليس بمباين للعالم ولامحايث له أو لاداخل العالم ولاخارجه عَلِم أن هذا في العقل مثل الأول بل أبلغ وأبدَهُ للعقل وهو بمنزلة قول القائل لاقائم بنفسه ولابغيره ولامع العالم ولاقبله لأن ذلك نفي للنقيضين في الصفات وهذا في الحقيقة نفي للنقيضين في الذات أو مما هو لزومه للذات ووجوبه لها أعم من وجوب تلك الصفات وأيضاً فهذان النقيضان لايُتصَوَّر أن يخلو عنهما وجود بخلاف تلك الصفات والمرجع في هذا التناقض إلى الفِطَرِ الصحيحة السليمة وكل من أنصف وعلم ما في فطر الخلق وما عليه الموجودات علم هذا يقيناً لاريب فيه ولهذا تجد عامة بني آدم(5/284)
السليمي الفطرة ينفرون عن نفي هذين النقيضين أعظم من نفورهم عن نفي ذينك النقيضين إذ هو عام لكل موجود بخلاف الصفات المختصة بالكامل من الموجودات والله سبحانه وتعالى أعلم وما يعتذر به هؤلاء من أنه ليس بقابل للدخول والخروج هو من جنس ما يعتذر به القرامطة والفلاسفة من الفرق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة كقولهم إنه لايقبل(5/285)
هذه الصفات حتى يقال إنه يلزم من نفي أحد النقيضين إثبات الآخر وإذا كان المسلمون قد بينوا أن واجب الوجود أحق بالصفات الوجودية وبصفات الكمال من سائر الموجودات وأن مَن نفى قبوله لها ألحقه بالمعدوم والموات كان هذا جواباً للفريقين وليس هذا موضع بسط ذلك إذ المقصود هاهنا أنهم من جنس القرامطة الملاحدة في هذا المقام الوجه الثالث عشر أن هؤلاء الجهمية كما نفوا النقيضين جميعاً فإنهم يثبتون النقيضين جميعاً فإنهم يقرون بأنه موجود وبأنه حي عالم قادر ثم يقولون إنه لاعلم له ولاقدرة وهذا نفي لكونه عليماً قديراً ويقولون ليس بداخل العالم ولاخارجه ولامباين ولامحايث ولاجسم ولاجوهر ولايشار إليه ولايجوز أن يُرى ونحو ذلك وهذا نفي لوجوده وهذا بيان لقولهم هو موجود فحقيقة أقوالهم أنه موجود معدوم قائم بنفسه ليس بقائم بنفسه عالم ليس بعالم قادر ليس بقادر حي ليس بحي فقولهم يستلزم الجمع بين النقيضين من هذا الوجه وأحدهما إيمان والآخر كفر فجمعوا في قولهم بين ما يستلزم الإيمان والكفر جميعاً للإقرار بالصانع والإنكار له والنقيضان لايجتمعان ولايرتفعان وهم يجمعون بين النقيضين من هذا الوجه كما يرفعون النقيضين في الوجه الذي قبل هذا(5/286)
الوجه الرابع عشر من شبههم ادعاء التماثل بين الله وخلقه أن هؤلاء الجهمية مدار جميع حججهم في هذا الباب على التمثيل بين الله تعالى وبين خلقه مثل قولهم لو كان له صفات لكان مثل سائر الموصوفين من الجسام ولو كان مرئيًّا لكان حكمه حكم سائر المرئيات ولو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام لأن الأجسام متماثلة وكل حجة مبناها على التمثيل بين الله وبين خلقه تحقيقاً أو تقديراً فإنها حجة باطلة لأن هذا منتفٍ في نفس المر والعلم وبانتفائه ضروري فإذا كانت الحجة لا تتم إلا بهذه المماثلة الباطلة كانت باطلة وهم يستعملون التمثيل في حق الله من وجوه أحدها أنهم يجعلون ما يثبتون له من الصفات التي ورد بها الشرع مثل الثابتة للمخلوق ويحكمون عليه بما يحكمون على ذلك ثم ينفون بعد ذلك فيمثلون ويعطلون الثاني أنهم يمثلونه في السلوب والأمور العدمية التي لاتستلزم صفة كمال بالمعدومات الناقصات الثالث أن ما ينفونه عنه يقدرون ثبوته له وأنه إذا ثبت له كان مساوياً لغيره وهذا أيضاً باطل(5/287)
الرابع أن ما يثبتونه مثل وجوده وكونه عالماً قادراً ونحو ذلك يثبتونه على مماثلته لما يوصف بهذه الأمور الخامس أن ما أقروه من الصفات الشرعية أثبتوا فيه المماثلة فهم يثبتون المقايسة والمماثلة فيما يثبتونه بالعقل وفيما يقرونه من الشرع وفيما ينفونه من الصفات الشرعية ومن الصفات العقلية ويمثلونه أيضاً بالناقصات والمعدومات فهذا عدلهم وإشراكهم بالله من هذه الوجوه الخمسة وأما تعطيلهم فمن وجوه أيضاً أحدها نفي مضمون السماء والصفات الشرعية والثاني نفي الحقائق العقلية والثالث وصفه بالصفات العدمية التي لاتستلزم وجوداً وهذه الصفات لاتكون إلا لمعدوم الرابع جمعهم بين النقيضين وهذا هو صفة المعدوم الممتنع وأما منازعوهم فحجتُهم مبناها على قياس الأَولَى والأحرى وهذه حق في الشرع والعقل فإنهم أوجبوا عُلوَّه ومباينته ومنعوا خُلوَّّه عن النقيضين بقياس الأولى وذلك أن علوه على العالم مع أنه معلوم بالفطرة فهو ثابت أيضاً بالأقيسة العقلية البرهانية التي مبناها على الأولى والأحرى وذلك(5/288)
كقولهم إن القائم بنفسه لابد أن يكون مبايناً للقائم بنفسه بالجهة وقولهم إن القائم بنفسه المباين للقائم بنفسه لاتكون مباينته له بمجرد الحقيقة والزمان بل بقدر زائد على ذلك وليس إلا الجهة وقولهم إن القائم بنفسه إما أن يكون مماساً لغيره أو مبايناً له وقولهم الموجود هو إما قائم ينفسه أو قائم بغيره وهذا متفق عليه وهو إما مباين لغيره وإما محايث له وإما داخل في غيره وإما خارج عنه وهو مباين لغيره إما بالحقيقة أو المكان أو الزمان وأمثال هذه المقاييس التي هي عندهم من البراهين العقلية التي يثبتون بهام باينته وعلوه ووجوب ذلك له وأما ما يثبتون به امتناع ما تقوله النفاة فمثل قولهم إثبات موجود لامباين لغبره ولامحايث له ممتنع في البديهة وهو إثبات موجود لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره وكذلك قولهم لاداخل العالم ولاخارجه وعلى هذا فمن فسَّر الجوهر بالقائم بنفسه والعرض بالقائم بغيره وادعى وجود موجود ليس بجوهر ولا عرض فقد ادعى ما يعلم فساده بالبديهة ثم إنهم يقولون ما وجب للقائم ينفسه أو للموجود من وجوب المباينة لغيره الذي يقتضي عدم المحايثة وكونه فيه فاللهُ أحق به وأولى لأن الله تعالى هو القيوم الغني فهو أحق بما يستوجبه القيام والغنى ويقولون ما امتنع على الموجود من كونه غير قائم بنفسه ولاقائم بغيره ولامحايثاً ولامبايناً أو لاداخل العالم ولاخارجه فإنما امتنع المنافي(5/289)
لعدمه وأن هذه صفة المعدوم وكل أمرٍ منه الوجود واختص به المعدوم فوجودُ الرب أحق بمنعه والله أحق بالتنزيه عنه من غيره من الموجودات والله سبحانه ابعد عن كل ما ينافي الوجود ويمانعه ويعارضه ويختص بالمعدوم إذ وجوده هو الوجود الواجب الذي ينافي العدم من كل وجه فتبين أن هؤلاء لما رأوا نوع كمالٍ وغنىً يجب للمخلوقات علموا أن الخالق أحق به ولما رأوا نوع عدم يمتنع على الموجودات ويتنزَّه عنه علموا أن تنزيه الخالق أحق بذلك وهو عن ذلك أبعد وهذا من أحسن النظر والاعتبار العقلي الموافق للعقل الصريح وبهذا جاء كتاب الله في غير موضع فيما ضربه من القياس والمثال كقوله سبحانه حيث نفى عن نفسه الشريك والولد في مواضع مثل قوله في سورة النحل وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الآيات 57-60] وكقوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) [النحل 71] وقوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ(5/290)
فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [الروم 28] وكقوله تعالى وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) [الإسراء 39-42] وكقوله سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) [الصافات 149] وقوله تعالى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) [الزخرف 15-19] وقال تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) [النجم 19-22] وقال وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) [الأنعام 136] وقال وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) [يس 78-81] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ(5/291)
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) [الروم 27] وقال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) [الأحقاف 33] وقال إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) [غافر 56-57] وليس هذا الموضع موضع استقصاء الكلام في هذا كله وإنما نبهنا على جماع ذلك وأصله(5/292)
فصل وأما قول الرازي في الجواب الثاني عن حجة الامتناع وهو أن يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولاخارجه كما يمتنع أن يكون لا مع العالم ولا متقدماً عليه لا قديماً ولا محدثاً قال وأيضاً فالعقل يأبى إثبات موجود في جهةٍ لايمكن أن يُنسب إلى موجود في جهة أخرى بأنه يساويه أو أنه أصغر منه أو أعظم منه وأنتم تمنعون أن يقال الباري مساوٍ للعرش أو أعظم منه وأنت تمنعون أن يقال الباري مساوٍ للعرش أو أعظم منه أو أصغر منه فإن التزموا ذلك لزمهم انقسام ذاته فالكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له هذا من الأجوبة القياسية الإلزامية وأنت قد قرَّرت في أول نهايتك أن مثل هذا الكلام باطل لا ينفع في النظر ولا يقبل في المناظرة كما تقدم نظير ذلك غير مرة(5/293)
إذ حاصله الاستدلال بخطأ المنازع في موضع على صواب المستدل في موضع آخر فمضمونه بيان تناقض المنازع فإنه يقول له كما قلت ذلك فقل هذا لازمٌ له فيقول المنازع أنا اعتقدت عدم التلازم فإن كان اعتقادي صحيحاً لم يلزم وإن لم يكن صحيحاً فقد يكون خطئي في نفس اللازم لا في إثبات الملزوم الذي تنازعنا في ثبوته وبيان ذلك هنا أن الذين قالوا هو فوق العرش وهو مع ذلك يمتنع أن يكون اكبر منه أو أصغر منه أو مساوياً له إما أن يكون العقل يأبى قولهم كما يأبى وجود موجود لاداخل العالم ولاخارجه أو لا يأباه فإن كان يأباه فهذا العلم الضروري حجة في الموضعين عليهم وعلى غيرهم ولا إجماع في ذلك بل قد تقدم بعض ما في ذلك من النزاع وإن لم يكن العقل يأبى ذلك لم يصلح معارضتهم بذلك ولم يكن هذا الكلام لازماً لهم فهذا في النظر أما في المناظرة فإنهم يقولون نحن فرَّقنا بين الموضعين لأنا نعتقد أن(5/294)
الموجود الخارج عن العالم يمكن أن يكون لا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً لأن هذه التقادير من عوارض التركيب والتقسيم وهو ليس بمركب ولامنقسم وأما كونه موجوداً لا بخارج العالم ولا داخله فهو معلوم الامتناع بالبديهة فإما أن يكون هذا الفرق صحيحاً أو باطلا فإن كان صحيحاً حصل الجواب وإن كان باطلاً فنحن نمنع الحكم في صورة الإلزام ونقول إنه أكبر من العرش وقوله يلزم انقسام ذاته فقد تقدم جوابه الوجه الثاني أن يقال أما كونه فوق العرش فهو قول سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الإثبات للصفات كالكرامية والكُلابية والشعرية وأئمتهم وقدمائهم وعامة أئمة الفقهاء والحديث والتصوف ثم من هؤلاء من قال إنه ليس بجسم ولا يكون(5/295)
مقدراً ولا له حَدّ فيمتنع أن يُقال هو أكبر أو اصغر أو مساوٍ لأن الاتصاف بقدر دون قدر من لوازم كونه في نفسه له قدر وحد فإذا لم يكن له في نفسه قدر ولا حدّ لم يَجُز أن يوصف بما يستلزم ذلك من كونه أكبر أو اصغر أو مساوياً وهذا قول الكُلابية والأشعرية وطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف فإما أن يكون قول هؤلاء حقًّا أو باطلاً فإن كان حقًّا اندفع الإلزام وإن كان باطلاً لزم بطلان إحدى مقالتيه لا بعينها إما مقالته التي وافقكم عليها وهي نفي الجسم المستلزم لنفي الحد والقدر وإما في مقالته التي وافق عليها أهل الإثبات وهو كونه فوق العرش خارج العالم فإذا كان خطؤه إنما يستلزم بطلان إحدى المقالتين لا بعينها لم يكن لكم أن تجعلوا المقالة الباطلة هي القول الذي نخالفكم فيه دون الذي نوافقكم عليه إلا بحجة وأن لم تذكر هنا حجة توجب ذلك بل جعلت ما يلزمهم بموافقتكم معارضة محضة وقد تقدم الكلام على ما ذكروه في نفي الانقسام الوجه الثالث أن الذي خالفكم فيه هؤلاء قد تقدم قول المحتج فيه أنه معلوم بالاضطرار والبديهة فإن البديهة تنكر وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه كما تنكر وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره ولا مع العالم ولا قبله ولا قديم ولا محدث والقول الذي وافقكم عليه من نفي الحد(5/296)
والقدر وملازم ذلك لم يذكر أحد أنه معلوم بالضرورة أو البديهة أكثر ما يقال أنه ثابت بالقياس العقلي وأنت قد ذكرت أن المعلوم بالضرورة ثبوت ذلك بتقدير ثبوت الأول وإذا كان كذلك لنم يصح أن تقدح في قولهم الذي يقولون إنه معلوم بالضرورة بقولهم الذي يقولون إنه معلوم بالنظر لأن القدح في الضرورة بالنظر باطل كما تقدم بل إذا كان ما ألزمتهم لازماً ضروريًّا وقد ادعوا أن الملزوم ضروري كان كلاهما ضروريًّا فلا يقدح فيه النظري بحال إذ الضروري أصل النظري فالقدح في الضروري بالنظري يستلزم القدح فيهما الوجه الرابع إذا أنهم خالفوا موجب العقل في هذا الموضع لم يكن ذلك عذراً لهم في مخالفته في موضع آخر بل يكون ذلك زيادة في ضلالهم والإنسان لايسوغ له في عقل ولا دين أن ينتقل عن ضلال قليل إلى ضلال كثير بل بقاؤه على قليلِ ضلال خير من الانتقال إلى كثيره وإنما هذا بمنزلة شخص احتج على شخص في مسألة بنص أو إجماع فقال أنا وأنت قد خالفنا النص والإجماع في نظير هذه المسألة فنخالفه فيها ومعلوم أن هذا كلام فاسد أو رجل طلب من يشهد له بالزور في قضية أخرى لأنه شهد له بالزور في قضية أو أن يفعل محرماً(5/297)
ل أنه فعل محرماً آخر وأمثال ذلك من الإلزامات الباطلة وإن كان ذلك إذا وقع كان جزءاً للموافقة على الباطل أولاً الوجه الخامس أنه ليس إنكار العقل لوجود موجود فوق العالم لايوصف بكونه أكبر منه أو أصغر مثل إنكاره لوجود موجود لايكون داخل العالم ولا خارجه فإن هذا الثاني مثل إنكار لوجود موجود لا قائم بنفسه ولابغيره ولامباين لغيره ولامحايث له وذلك إنكار للمساواة وعدمها والمساواة وعدمها من عوارض المقدار والمباينة وعدمها من عوارض نفس الحقيقة ومعرفة الفطرة بنفس الموجودات قبل معرفتها بأقدارها وأيضاً فإنهم مفطورون على الإقرار بأن ربهم فوق السموات وإنكار هذا إنكار للعلم الضروري الفطري الذي فُطِر عليه بنو آدم وأما كونه مساوياً أو غير مساوٍ فليس هو في فطرتهم مثل ذلك وإذا لم يكن إنكار العقل لهذا كإنكار العقل لهذا لم يكن المنازع في الأدنى كالمنازع في الأعلى ولم يَجُز إلزام المقر بالأعلى أن يقر بالأدنى لكونه مثله الوجه السادس أن يقال ما ذكرته من كون العقل يوجب(5/298)
أن يكون مساوياً أو زائداً أو ناقصاً يوجب عليهم وعليك الإقرار به إذا كان مبايناً للعالم فكيف إذا كانت مباينته ضرورية وإلا فالجواب عنه بجواب سديد وأنت لم تجب عنه بجواب سديد بل قلت ذلك يستلزم انقسام ذاته وهذا قد تقدم الجواب عنه بما في لفظ الانقسام من الاشتراك وأن الانقسام المعروف غير لازم بالاتفاق وأمّا ما سميته أنت انقساماً فقد تقدم أنه لازمٌ لكل موجود وأنه لامحذور فيه وإن كان كذلك كان العقل مطابقاً لما دل عليه بالنص والإجماع من أن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء وأعلم من كل شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم يا عدي ما يُفِركَ أيُفِرُّكَ أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم من إله إلا الله يا عدي ما يُقِرُّكَ أن يقال الله أكبر فهل تعلم شيئاً أكبر من الله رواه احمد والترمذي وقد تقدم(5/299)
حديث أبي رزين العقيلي المشهور في سنن أبي داود وابن ماجة قلت يارسول الله أَكُلُّنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين ألي كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال فإنما هو من خلق الله فالله أعظم(5/300)
وقال ابن عباس أو عكرمة لمن سأله عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال قال فالله أعظم الوجه السابع أن يقال العلم بنفي الانقسام على الوجه الذي ادعيته يخالفك فيه أكثر العقلاء ومثبتوه واختلفوا في طرق إثباته ولم يتفقوا على طريق واحد بل كل منهم أبطل طريق صاحبه ومنازعوهم أبطلوا طرقهم ولاخلاف أنها نظرية دقيقة خفية وأما العلم بالمباينة ولوازمها فهو ضروري فطري فإذا نفيت ما زعمته من الانقسام على هذه الطريق ونفيت لوازمه(5/302)
المعلومة بالفطرة والضرورة وباقيه واضح من تلك الأقيسة ومنازعوك وأثبتوا ما يُعلَم بالفطرة والضرورة والأقيسة الواضحة وشاهده الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة كان معلوماً عند كل عاقل لأن ما فعلوه هو الحق دون ما فعلته(5/303)
فصل ثم ذكر الرازي في نهايته الحجة الثالثة لمثبتي الجهة وهي الاستدلال برفع الأيدي في الدعاء وقد تقدم ذكرها ثم قال ورابعها التمسُّك بظاهر الآيات كقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قال ومما تمسكوا به على اختصاصه بجهة فوق خاصة بعد أن بينوا كونه في الجهة هو أن فوق اشرفُ الجهات فيجب أن يكون مختصاً به(5/304)
قال والجواب عما تمسكوا به رابعاً أنا نعارضهم بقوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وبقوله تعالى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا وبقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) وبقوله إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) قال وأما التفصيل في تأويل كل واحدة من الآيات فقد صنفوا فيه كتباً فلا حاجة بنا إلى ذكره قلت والكلام على ما ذكره من وجوه أحدها أن الذي ذكره لايصلح أن يكون معارضاً وإنما يعارض بمثل ذلك من لايعلم حقيقة المعارضة وذلك أن المعارضة نوعان معارضة في الحكم ومعارضة في الدليل(5/305)
فالمعارضة في الحكم نفي قول المستدل أو إثبات نقيضه بدليل آخر والمعارضة في الدليل بيان انتقاضه أو انتقاض مقدمة من مقدماته ويقال هذا معارضة في مقدمة الدليل وما ذكره ليس بمعارضة في الحكم ولامعارضة في الدليل وذلك أن المعارضة في الحكم المعارض به هو الذي يدل على نقيض قول المستدل أو على مثل قول المعارض فإنه إذا ثبت قول المعترض نفى قول منازعه الذي يناقضه ومتى نفى قول المستدل حصل مقصود المعترض وذلك يستلزم صحة قوله الذي يناقضه وهذه الآيات لاينازع هذا المؤسس وموافقوه أنها لاتنفي أن يكون الله فوق العرش ولا هي أيضاً دالة عندهم على أن الله بذاته في كل مكان حتى يقال يلزم من ذلك نفي كونه فوق العرش بل المنازع وذووه لايستريبون أنها لا تدل على شيء من ذلك ومن ادَّعى دلالتها على أن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو مبطل سواء قيل إن ظاهرها يقتضي ذلك أو لايقتضيه فإن أكثر ما يقال إن ظاهرها يقتضي أنه في كل مكان لكنْ المؤسسُ وموافقوه(5/306)
لاينازعون لأولئك في أنها لاتدل على ذلك ولم يُرد بها ذلك وأنه لايجوز أن يستدل بها على ذلك وإذا كانوا متفقين على عدم جواز الاستدلال بها على أن الله في كل مكان وعلى أن ذلك لم يُرد بها ولم تدل عليه لم تكن منافية ومعارضة لما استدل عليه به المثبتون بتلك الآيات وإذا لم تكن معارضة لها لم تكن المعارضة بها معارضة صحيحة وهذا بيِّنٌ لما يقابله فإن الاتفاق إذا حصل من الخصمين على أن قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] وعلى أنها لم تدل على أن ذات الله في الأرض بل معناها أنه إلهُ مَن في السماء ومن في الأرض ونحو ذلك كانت الآيات الدالة على أنه الله فوق وأنه فوق العرش لا تعارضها هذه الآيات فإن كونه فوق العرش لايعارضه كونه معبوداً في السماء والأرض وكونه مع الخلق بعلمه وقدرته ونحو ذلك بل الذين يقولون ليس هو فوق العرش يوافقون المثبتة على أن معنى هذه الآيات فتعيَّن التأويل لهما أو لأحدهما ويجعل هذا معارضة في الدليل لا في الحكم أي أن التمسك بالظاهر يقتضي الجمع بين هذا وهذا وذلك ممتنع فتكون دلالة الإثبات منتقضة وهذه المعارضة باطلة فإن الأدلة على أنه مباين للعالم فوق العرش نصوصٌ كثيرة قطعية يعلم بالضرورة(5/307)
مضمونها ويعلم ذلك أيضاً بأدلة كثيرة ويعلم بالسنة المتواترة ويعلم بإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم إنه موافق للفطرة الضرورية والبراهين العقلية وأما ما يظن أنه يدل على أنه في العالم فيقال أولاً لا نسلِّم أن شيئاً من الآيات ظاهر ة في ذلك ولو سلم ظهوره فمعه قرائن لفظية تبين المراد به فلا يكون ذلك مراداً ومع القرائن اللفظية لايبقى ظاهراً في المحايثة ثم إنه قد ثبت تفسيره باتفاق سلف الأمة بما ينفي المحايثة ويُعلم بالحس والعقل ضرورة ونظراً انتفاءُ ما يتوهم فيه من المحايثة ومع ذلك من ظن أنه دالٌ على المحايثة يكون ضالاً من جهة نفسه لا من جهة الآيات ثم يقال ليس هذا معارضة في الدليل بأن تكون قدحاً من آيات تدل على أنه فوق مثل هذه الآيات ولم يُرد بها أنه فوق فيبقى اللفظ محتملاً للتعيين ونقض دلالاته وأما ما يدل على نفي الفوقية فهذه معارضة في الحكم حينئذٍ فيقال لهم ليس للمعترض أن يعارضه بظاهر يوافق خصمه على عدم منافاته لمذهبه وأيضاً فإذا قدر تعارضهما في الظاهر كان ذلك محوجاً إلى تأويل أحدهما فلماذا يجب تأويل(5/308)
الصنفين جميعاً بل لو قال لهم القائلون إنه بذاته في كل مكان نحن نقول بنصوص المحايثة ونتأوَّل نصوص المباينة لكانوا أقرب إلى اتباع النصوص منهم ف إنه من المعلوم أن صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح الذي يسميه المتأخرون التأويلَ على خلاف الأصل وما كان على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فيكون مثبتو المحايثة أقل مخالفة للنصوص من نفاة المحايثة والمباينة ولهذا كان عوامهم وعبادهم إنما يفهمون من قولهم المحايثة استدلالاً يهدم الشبهات الوجه الثاني أن يقال ظاهر هذه الآيات إما أن يقتضي أنه بذاته في كل مكان أو لا يقتضي فإن اقتضى الأول وجب القول بمضمون الصنفين جميعاً فيقال إنه فوق العرش وإنه بذاته في كل مكان كما تقوله طائفة من الجهمية المجسمة وغير المجسمة كما تقدم ذكره فكان على هذا المؤسس أن يقول(5/309)
بقول هؤلاء إن كانت هذه الآيات تقتضي أنه في كل مكان بذاته ويحتاج أن يجيب إخوانه هؤلاء الجهمية عن دلالة الصنفين من الآيات على مذهبهم وإن لم تكن هذه الآيات تقتضي أنه بذاته في كل مكان وهو الذي تقوله الجماعة لم يصلح لمعارضة ما دل على أنه فوق العرش فقد ظهر على التقديرين بطلان قوله وهو أنه لاداخل العالم ولاخارجه فإنه سواء كانت هذه الآيات دالة على أنه في كل مكان أو لم تكن دالة فإن القرآن يدل على بطلان قولهم إنه لا داخل العالم ولا خارجه إذ مضمون القرآن على أحد التقديرين أنه خارج العالم وعلى التقدير الآخر الذي عارض به المنازع أنه داخله والقول بمضمونها قد قاله القوم وعلى التقديرين فقولُ المؤسس باطل يقرر هذا الوجه الثالث أنه إن لم تكن هذه الآيات دالة على أنه داخل العالم فلا تصلح المعارضة بها وإن كانت دالة كان في القرآن ما يدل على أنه خارج العالم وفيه ما يدل على انه داخل ومن المعلوم أن النصوص إذا تعارضت فالواجب استعمالها جميعاً أو ترجيح أحد النصين وتأويل الآخر فأما ترك العمل بجميع النصوص فلا يقوله أحد ولا يستحلُّه مسلم فكان الواجب حينئذٍ أن نقول إنه خارج العالم وتأويل ما دل على داخله أو نقول إنه داخله ويتأول كما دل على أنه خارجه أو نقول بمجموع(5/310)
النصين وهو أنه داخله وخارجه والأقوال الثلاثة قد قال بها طوائف فأما قوله وقول ذويه من أنه لاداخل العالم ولاخارجه فهو خلاف النصوص جميعاً وتركُ لاتباعِ جميع آيات القرآن ومعلوم أن هذا باطل بالضرورة من دين المسلمين ودين كل من آمن بالرسل فيكون فسادُ قوله معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام يوضِّحه الوجه الرابع وهو أن يقال لاريب أن نصوص العلو والفوقية كثيرة جدًّا في القرآن وهذه الآيات القليلة قد يزعم من يزعم أنه تدل على أنه في داخل العالم فإن كان الواجب اتباع هذا وتأويل هذا أو بالعكس أو اتباعهما جميعاً كان ذلك مما قد يقال إنه يسوغ أما إذا كان الحق خلاف ما يُعرَف ويفهم من الآيات كلها وهذا الحق وهو أنه لاداخل العالم ولاخارجه لم يدل عليه الكتاب لا نصًّا ولا ظاهراً كان الكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس قد أكثر فيه من الآيات التي لا هدى فيها بل ظاهرها الإضلال والكفر والحق الذي يجب اعتقاده لم تذكره قط فيه ومعلوم أن من تكلم كلاماً كثيراً بما يظهر منه نقيض الحق ولم يتكلم بكلام يظهر فيه الحق لم يكن هادياً إلى الحق(5/311)
ولا مبيناً له ولا دالاً على الحق بل كان سكوته عما يدل على الباطل كما سكت عما يدل على الحق خيراً مما يتكلم بما يدل على الباطل ويسكت عما يدل على الحق وهذا مقتضى قول المؤسس وموافقيه وحينئذٍ يكون عدم الكتاب والرسول في هذا الباب الذي هو من أعظم أصول الدين على قولهم خيراً وأنفع للخلق من وجود الكتاب والرسول فإن الكتاب والرسول على قولهم لم يهدهم إلى الحق في ذلك ولا بيَّنه ولا سكت أيضاً عما يدل على الباطل حتى يكونوا كما كانوا عليه في الجاهلية بل تكلم بكلام كثير يدل على الباطل عندهم ومعلوم أن هذا القول كفرٌ بصريح الكتاب والرسول وكل قول يستلزم الكفر فهو من أعظم الباطل والضلال بل هو كفر وهذا لازم لهؤلاء لزوماً لا محيدَ عنه وإن كان منهم من لايهتدي إلى هذا الضلال الذي وقعوا فيه وهذا الكفر الذي لزمهم ولو اهتدى إلى ذلك لرجع عن قوله ولهذا لم يُحكم بكفر من يتكلم بنا هو كفر إن لم تقم عليه الحجة البلاغية إذ قد لا يكون عَلِمَ ما جاء به الرسول في ذلك ومن هؤلاء من قد يظن أن قوله حزبه عليه دليل من كتاب أو سنة أو أثر عن بعض السلف فإذا عرف أن هذا القول الذي يقولونه من أنه ليس فوق العرش ولا فوق العالم لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها أهل القرون الثلاثة الفاضلة بل نطقوا بنقيض ذلك كما هو معروف في موضعه تبين لهم أنهم ضلال مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المؤمنين السابقين ومن علم أن قولهم مخالف لذلك(5/312)
واتبعه كَفَرَ كما كَفَّرهم السلف والأئمة الوجه الخامس أن هذه الآيات إنما يعارض بها الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان كما ذكر ذلك الأئمة وإن كان كثير من هؤلاء ملبِّساً كما لَبَّس هذا المؤسس لايقول بموجب الآيات ولابموجب هذه وإنما يذكر هذه ليدفع بها في الظاهر دلالة تلك الآيات وهي عنده لا تدفع دلالتها كما ذكرناه وهؤلاء الجهمية إذا قالوا إنه في كل مكان بذاته فقد لزمهم من المحاذير والمناقضات التي فروا إليه من كونه فوق العرش أكثر مما فروا منه وإذا كان كذلك لم يكن لهم حجة عقلية يحتجون بها في تأويل تلك الآيات دون هذه فيكون احتجاجهم بهذه الآيات باطلاً كاحتجاج إخوانهم فظهر فساد المعارضة بها من الطائفتين جميعاً وذلك أن المعارض بها إذا قال إنه في كل مكان بحيث يماس الجسام ويكون محدوداً بها أوقال إنه داخل العالم وخارجه وهو جسم محدود ففي هذه الأقوال من الفساد ما ليس في قول من يقول إنه فوق العرش وهو جسم كما تقدم وإذا كان كذلك لم يكن كما تقدم له القول فيما ادعاه من موجب هذه الآيات لاقتران الدليل العقلي بها دون تلك بل الأدلة العقلية على موافقة تلك الآيات أدل منها على هذه كما(5/313)
تقدم بيانه وإن قال إنه في كل مكان بلا مماسة أو أنه داخل العالم وخارجه وليس بجسم أو أنه ذاهب في الجهات إلى غير غاية وليس بجسم ونحو ذلك فمن المعلوم أن هذا أبعد عن المعقول وأعظم إحالة من كونه فوق العرش وليس بجسم ومن المعلوم أيضاً أن هذه الآيات التي ذكرها لا تدل على ذلك فحينئذ لا يكون قد قال بموجب هذه الآيات ولابموجب تلك بل ترك النصين جميعاً مع مخالفته للمعقول وهذا كله يبين أن هذه الآيات لا تصلح أن يعارض بها أحد ممن يقول إن الله ليس فوق العرش الوجه السادس أن هذه الآيات ليس فيها ما يعارض تلك الآيات بوجه من الوجوه كما تقدم حكاية أقوال الأئمة وكما سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام مفصلاً إذا ذكرنا قوله مبسوطاً فإن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] ليس ظاهرها أن ذاته في السموات والأرض فإنه لم يقل وهو في السموات وإنما قال وَهُوَ اللَّهُ فالظرف متعلق باسم الله فيكون بمنزلة قوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف 84] وأما آيات المَعِيَّة فنحن نعلم بالاضطرار من لغة العرب أنها لا تقتضي أن الله تعالى مختلط بالخلق ممتزج بهم(5/314)
بل عامة ما استعمل فيه لفظ مع في القرآن لايدل على ذلك لا في الله تعالى ولا في حق المخلوق وإنما يدل على المقارنة والمصاحبة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أنت الصاحب في السفر وكون الشيء مقارناً لغيره أو مصاحباً له لايمنع أن يكون فوقه ولا يجب أن تكون ذاته مختلطة ممتزجة بذاته وإذا لم يكن لفظ مع في جميع القرآن يدل على الممازجة والمخالطة علم أن ذلك ليس مدلول هذه الكلمة بل كون الشيء مع الشيء على أي وجهٍ قيل لا يمنع أن يكون فوقه ولا يجب أن يكون تحته وإذا لم يكن بين الآيات تنافٍ لم تصلح المعارضة بها وأما قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) فلا منافاة أيضاً بين علوه وبين قربه إن أريد بهذه الآية الله سبحانه وتعالى وأما إن أريد بها الملائكة اندفعت المعارضة من كل وجه وقد تكلمنا على قربه في جواب الأسولة المصرية(5/315)
كلاماً مبسوطاً وحينئذ فلا حاجة إلى تأويل شيء من هذه الآيات الوجه السابع أنا لو فرضنا الحاجة إلى التأويل فلا ريب أنه على خلاف الأصل وما كان على خلاف الأصل فتكثيره على خلاف الأصل فإذا كان أحد القولين مستلزماً لتأويل آيات قليلة اثنتين أو ثلاث أو عشر فالقول الآخر يستلزم مع تأويل هذه أو مع ترك تأويلها تأويل نحو خمسمائة موضع لم يكن هذا القول مثل ذاك بل كان كل قول أقرب إلى تقرير النصوص خيراً من القول المقتضي تأويلها الوجه الثامن أن تلك الآيات نصوص لاتحتمل التأويل كما سنقرره إن شاء الله الوجه التاسع أن الظواهر إذا تعاضدت على مدلول واحد صار قطعيًّا كأخبار الآحاد إذا تواردت على معنى واحد صار تواتراً فإن الظنون إذا كثرت وتعاضدت صار بحيث تفيد العلم اليقيني وهذه النصوص كذلك(5/316)
الوجه العاشر أن كل من تدبر هذه النصوص بلا هوى ونظر فيما جاء عن السلف في تفسيرها وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جنسها أفاده ذلك علماً ضروريًّا من أقوى العلوم الضرورية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بمضمونها وأن الله فوق العالم والعمل الضروري لا يندفع بالتأويلات وبسط هذه الأجوبة وغيرها له موضع آخر ثم قال الرازي والجواب عما تمسكوا به خامساً من أن الفوق أشرف الجهات فيجب أن يكون الباري مختصاً به إذ من يقول الأرض كُرَيَّةٌ يقول إن جهات الفلك كلها فوق(5/317)
لأنه لو كان بعض الحيوان تحت أرجلنا ورأسه مسامِتاً لأخمصنا إذا كان قائماً لكان الفوق عنده ما سامت رأسه وإذا كانت الجهات كلها فوق فكيف قلتم إنه يجب حصوله تعالى في بعضها لأنه أشرف مما عداه ولأنا لو تصورنا أنفسنا إذا ضممنا رؤوسنا إلى جهة الأرض وكانت الأنوار في هذه الجهة وجهة فوق مظلمة لتصورنا أن الأرض هي الشريفة ولأنه لا حيِّزَ إلا ويُفرض فوقه حيز آخر فإذاً لاحيز إلا بالقياس إلى ما فوقه أسفل فوجب أن لايحصل في شيء من الجهات والكلام على هذا من وجوه9 الأول أن قولـ ـه من يقول إن الأرض كُرَيَّةٌ يقول إن جهات الفلك كلها فوق يُشعر أن الفلك جهات متعددة عند من يقول ذلك وليس الأمر كذلك باتفاق علماء المسلمين الذين يقولون الفلك مستدير وباتفاق علماء الهيئة الذين يقولون(5/318)
بكُرِية الأرض واستدارة الفلك فإن العلو عندهم جهة واحدة لاجهاتٍ متعددة وليس للعالم عندهم إلا جهتان جهة السفل وهو المركز في جوف الأرض وأسفلها وجهة العلو وهي جهة السماء وهي جهة المحيط فقولُه جهات الفلك كلها فوق كلامٌ لا حقيقة له فإذًا لاجهة للفلك إلا جهة واحدة وهي جهة فوق فلا جهات هنالك عند هؤلاء الوجه الثاني أنه إذا كان الفلك عالياً من جميع جوانبه وهو في العلو والأرض هي السفلى وجوفها هو المركز وهو أسفل سافلين وليس للعالم إلا جهتان العلو والسفل كان قولُهم إن الله في العلو وفوق العرش تخصيصاً له بالجهة العالية دون السافلة وذلك تخصيص له بالجهة الشريفة فظهر بذلك شرف العالية الفوقانية على السفلى التحتانية(5/319)
الوجه الثالث أن كونه فوق العالم أمرٌ يلزم كونه خارج العالم على قول هؤلاء وكل ما كلن خارج العالم كان فوقه بالضرورة إذ لايمكن أن يكون شيء خارج العالم ولا يكون فوقه إذ المحيط بالعالم هو أعلى شيء فيه من جميع النواحي وإذا كان كذلك كان كونه فوق العالم من لوازم كونه خارج العالم وكونه خارج العالم من لوازم ذاته وكونه قائماً بنفسه كما تقدم ذلك فصار كونه فوق العالم من لوازم وجود نفسه الوجه الرابع أن قوله إذا كانت الجهات كلها فوق فلما قلتم إنه يجب حصولها في بعضها لأنه أشرف مما عداه يقال له كونها كلها فوق هو وصف لها في نفسها وهيمن ذلك الوجه جهة واحدة لا جهات لايتصور أن يكون في بعضها دون بعض بل يجب أن يكون في تلك الجهة وهي الجهة العالية بالذات على العالم وأما كونها جهات ست فهو بالإضافة إلى الحيوان إذ يسمّى ما يسامت رأسه فوق وما يسامت رجليه تحت وما يحاذي بيمينه يميناً وما يحاذي شماله يساراً وما يحاذي وجهه أماماً وما يحاذي قفاه خلفاً لأنه يؤم هذا ويقصده ويخلف هذا وهذه أمور إضافية فأمام هذا يكون خلفاً لغيره وخلفاً له أيضاً إذا استدار وكذلك ما يكون يميناً له يكون يساراً لغيره وله أيضاً إذا انفتل ومن المعلوم أن ما كان أعلى كان(5/320)
أشرف مما كان أسفل والحيوان حيث كان من الأرض فالسماء فوق رأسه والأرض تحت رجليه فلا تكون قط السماء إلا من الجهة التي تحاذي رأسه وهي الجهة الشريفة فإذا قيل إن الباري يختص بالجهة الشريفة بالنسبة إلينا فذاك تخصيص له بالجهة التي استحقها بنفسه وهي الجهة العليا الخارجة عن العالم فصار استحقاقه لها لوجهين أحدهما لوجوب كونه مبايناً للعالم خراجاً عنه ولايكون كذلك إلا إذا كان فوق العالم ولوجوب كونه العلي الأعلى على كل شيء فيجب أن يكون فوق العالم ولكونه من العالم بأشرف جهاتهم الإضافية ناحية العلو وهي ناحية السماء منهم حيث كانوا فهذه ثلاثة أوجه متناسبة متوافقة ليست مختلفة كما زعمه المؤسس الوجه الخامس قوله ولأنا لو تصورنا أنفسنا إذا ضممنا رؤوسنا إلى جهة الأرض وكانت النوار في هذه الجهة وجهة فوق مظلمة لتصورنا أن الأرض هي الشريفة فمضمونه أن جهة السماء هي بنفسها الجهة العليا الواسعة سواء كنا موجودين أو معدومين وجهة الأرض هي جهة السفلى الضيقة والرب يمتنع أن يكون فيها لأن أسفل الأرض ضيق سافل وذلك يستلزم أن يحيط بالله أقل(5/321)
شيء وأسفله وأضيقه وأيضاً فإنه يجب مباينته للعالم وذلك يستلزم كونه فوق العالم وأيضاً فما ذكره من تقدير رؤوسنا والنور من الجهة السافلة تقدير خلاف الواقع وإذا كان تقديراً لاحقيقة له كان الحكم اللازم له حكماً لاحقيقة له كما لو قال قائل لو كان العرش في جوف الأرض ولو كانت الأرض فوق السماء ونحو ذلك ولاريب أنه لو اختلفت صفات الأجسام ومقاديرها وحقائقها لاختلفت أحكامها لكن بكل حال يجب أن يكون الله مبايناً للعالم وأن يكون هو العلي الأعلى وذلك يمنع أن يكون في الجهة السفلى الضيقة سواء على أي وجه قُدِّر وهو المطلوب الوجه السادس قوله لاحيز إلا ويُفرض فوقه حيزٌ آخر يقال له المفروض هو تقدير الذهن وتخيُّله وذلك لايستلزم تحقق هذا المقدار في الخارج بل تقدير أحياز بعضها فوق بعض بمنزلة تقدير أجسام لا نهاية لها وذلك تقدير لاحقيقة له في الخارج فقوله ولا حيز إلا وهو بالنسبة إلى ما فوقه أسفل يوجب ألا يحصل في شيء من الجهات إنما يصح لو كان فوقه شيء لا يلزم إذا قَدَّر الذهن شيئاً لاحقيقة له في الخارج كما لا يلزم إذا قُدِّر أجسام لا نهاية لها أن يكون مداخلاً للأجسام وكما لا يلزم إذا قُدِّر هناك عالم آخر أن يقال لايكون فوق هذا العالم بل فوق ذلك بل إذا قدر الذهن حيزاً فوق حيز قدر أيضاً فوق الأسفل وهكذا كلما زاد الذهن في هذا التقدير زِيدَ في(5/322)
هذا التقدير ولكن لايلزم من ذلك أن يكون الخارج كذلك وإنما هي تقدير ذهني وقد قدمنا فيما مضى أن الأحياز التي قال إنها خارج العالم إنما هي أمور عدمية وتقديرات ذهنية ليس لها حقيقة خارجية والله سبحانه وتعالى أعلم(5/323)
فصل قال الرازي في تأسيسه الفصل السادس اعلم أن المشهور عن قدماء الكرامية إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى إلا أنهم يقولون لانريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض بل نريد به كونه تعالى غنيًّا عن المحل قائماً بالنفس وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في أنه تعالى جسم أم لا نزاعاً لفظيًّا هذا حاصلُ ما قيل في هذا الباب إلا أنا نقول كل ما كان مختصاً بحيز أو جهة ويمكن أن يشار إليه بالحس فذلك المشار إليه إما أن لا يبقى منه شيء في جوانبه الستة فهذا يكون كالجوهر الفرد وكالنقطة التي لا تتجزأ ويكون في غاية الصغر والحقارة ولا أظن أن عاقلاً يرضى أن يقول إن إله العالم(5/324)
كذلك أما إن بقي منه شيء في جوانبه الستة أو في أحد هذه الجوانب فهذا يقتضي كونه مؤلفاً مركباً من الجزأين أو أكثر أقصى ما في الباب أن يقول قائل إن تلك الأجزاء لا تقبل التفريق والانحلال إلا أن هذا لا يمنع من كونه في نفسه مركباً مؤلفاً كما أن الفلسفي يقول الفلك جسم إلا أنه لايقبل الخرق والالتئام فإن ذلك لايمنعه من اعتقاد كونه جسماً طويلاً عريضاً عميقاً فثبت أن هؤلاء الكرامية لما اعتقدوا كونه تعالى مختصًّا بالحيز والجهة ومشارًا إليه بحسب الحس واعتقدوا أنه تعالى ليس في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد والنقطة التي لا تتجزأ وجب أن يكونوا قد اعتقدوا أنه تعالى ممتد في الجوانب أو في بعض الجوانب ومن قال ذلك فقد اعتقد كونه تعالى مركباً مؤلفًا فكان امتناعه عن إطلاق لفظ المؤلف(5/325)
والمركب امتناعاً عن مجرد هذا اللفظ مع كونه معتقداً لمعناه فثبت أنهم إنما أطلقوا عليه لفظ الجسم لأجل أنهم اعتقدوا كونه تعالى طويلاً عميقاً عريضاً ممتداً في الجهات فثبت أن امتناعهم عن هذا الكلام لمحض التقية والخوف وإلا فهم يعتقدون كونه تعالى مركباً مؤلفاً فهذا تمام الكلام في القسم الأول من هذا الكتاب وهذا هو القسم المشتمل على الوجوه العقلية والكلام على هذا من وجوه أحدها أن القول بكون الجسم الموجود القائم بنفسه أو الموجود هو قول أئمة المجسمة مثل هشام بن الحكم(5/326)
وغيره فإن الأمة أول ما تنازعت في الجسم نفياً وإثباتاً هل الله تعالى بجسمٌ أو ليس بجسمٍ والخائضون في ذلك هم أهل الكلام فقال أبو الهذيل العلاَّف وأتباعه من المعتزلة إنه ليس بجسم وقال هشام بن الحكم وأتباعه من الشيعة أنه جسم وكان أولئك يفسرون الجسم بما احتمل الصفات أو ربما هو مؤلف من الأجزاء وهؤلاء يفسرون الجسم بالقائم بنفسه أوبالموجود قال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين بعد أن ذكر اختلافهم في الجليل من الكلام والتوحيد والقدر والأسماء والأحكام والإمامة والوعيد قال ذكر اختلاف الناس في الدقيق اختلف المتكلمون في الجسم ما هو على اثنتي عشرة مقالة فقال قائلون الجسم هو ما احتمل الأعراض كالحركات والسكون وما أشبه ذلك فلا جسم إلا ما احتمل الأعراض(5/327)
ولا ما يحتمل أن تحلّ الأعراض فيه إلا جسم وزعموا أن الجزء الذي لايتجزأ جسم يحتمل الأعراض وكذلك معنى الجوهر أنه يحتمل الأعراض وهذا قول أبي الحسن الصالحي قال وزعم صاحب هذا القول أن الجسم محتمل لجميع أجناس الأعراض غير أن التأليف لايسمى حتى يكون تأليف آخر ولكن أحدهما قد يجوز على الجزء ولا نسمِّيه تأليفاً اتباعاً للغة قالوا وذلك أن أهل اللغة لم يجيزوا مماسة(5/328)
لا شيء قالوا وإنما سمي ذلك عند مجامعة الآخر له وإلا فحظه من ذلك قد يُقَدِّرُ الله أن يُحدِثَهُ فيه وإنْ لم يكن آخر معه إذا كان يقوم به ولايقوم بأخيه وشبهوا ذلك بالإنسان يُحَرِّك أسنانه فإن كان فيه شيء فذلك مضغٌ وإن لم يكن في فيه شيء لم يسمَّ ذلك مضغاً قال وقال قائلون الجسم إنما يكون جسماً للتأليف والاجتماع وزعم هؤلاء أن الجزء الذي لايتجزأ إذا جامع جزءاً آخر لايتجزأ فكل واحد منهما في حال الاجتماع جسم لأنه مؤلف بالآخر فإذا افترقا لم يكونا ولا واحدٌ منهما جسماً قال وهذا قول البغداديين قلت وهذا قول كثير من متأخري المتكلمة الصفاتية كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره وهو قول القاضي أبي يعلى قال وقال قائلون معنى الجسم أنه مؤتلف وأقل الأجسام جزءان ويزعمون أن الجزأين إذا تألَّفا فليس واحدٌ(5/329)
منهما جسماً ولكن الجسم هو الجزآن جميعاً وأنه يستحيل أن يكون التركيب في واحدٍ والواحد يحتمل اللون والطعم والرائحة وجميع الأعراض إلا التركيب وأحسب هذا قول الإسكافي وزعموا أن قول القائل يجوز أن يُجمع إليهما ثالث خطأٌ محال لأن كل واحد منهما مشغل لصاحبه وإذا أشغله لم يكن للآخر مكان لأنه إذا كان جزآن مكانهما واحد فقد ماس الشيء أكثر من قدره ولو جاز ذلك جاز أن تكون الدنيا تدخل في قبضة ولهذا قال لا يماس الشيء أكثر من قدره قال وهذا قول أبي بشر صالح بن أبي صالح ومن وافقه قلت هذا القول قول طائفة من متأخري المتكلمة الصفاتية الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد قال وقال أبو الهذيل الجسم ما له يمين وشمال(5/330)
وظهر وبطن وأعلى وأسفل وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء أحدها يمين والآخر شمال أحدها ظهر والآخر بطن وأحدها أعلى والآخر أسفل وأن الجزء الواحد الذي لايتجزأ يماس ستة أمثاله وأنه يتحرك ويسكن ويجامع غيره ويجوز عليه الكون والمماسة ولايحتمل اللون والطعم والرائحة ولا شيئاً من الأعراض غير ما ذكرنا حتى تجتمع هذه الستة الأجزاء فإذا اجتمعت فهي الجسم وحينئذٍ يحتمل ما وصفنا قال وزعم بعض المتكلمين أن الجزأين اللذين لايتجزآن يحلهما جميعاً التأليف فإن التأليف الواحد يكون في مكانين وهذا قول الجبائي قال وقال معمَّر هو الطويل العريض العميق وأقل الأجسام ثمانية أجزاء فإذا اجتمعت الأجزاء وجبت الأعراض(5/331)
وهي تفعلها بإيجاب الطبع وإن كل جزء يفعل في نفسه ما يحله من الأعراض وزعم أنه إذا انضم جزء إلى جزء حدث طول وأن العرض يكون بانضمام جزأين إليهما وأن العمق يحدث بأن ينطبق على أربعة أجزاء فتكون الثمانية الأجزاء جسماً عريضاً طويلاً عميقاً قال وقال هشام بن عمرو الفوطي إن الجسم ستة وثلاثون جزءاً لايتجزأ وذلك أنه جعل ستة أركان وجعل كل ركن منه ستة أجزاء فالذي قال أبو الهذيل إنه جزء جعله هشام ركناً وزعم أن الجزء لا يجوز عليه المماسة وأن المماسات للأركان وأن الأركان التي كل ركن منها ستة أجزاء ليست الستة الأجزاء متماسة ولا متباينة ولا يجوز ذلك إلا على الأركان فإذا كان كذلك فهو محتمل لجميع الأعراض من اللون والطعم والرائحة والخشونة واللين والبرد وما أشبه ذلك(5/332)
قال وقال قائلون الجسم الذي سماه أهل اللغة جسماً هو ما كان طويلاً عريضاً عميقاً ولم يُحِدُّوا في ذلك عدداً من الأجزاء وإن كان لأجزاء الجسم عدد معلوم قال وقال هشام بن الحكم معنى الجسم أنه موجود وكان يقول إنما أريد بقولي جسم أنه موجود وأنه شيء وأنه قائم بنفسه قال وقال النظَّام الجسم هو الطويل العريض العميق وليس لأجزائه عدد يوقف عليه وأنه لا نِصف إلا وله نصف ولا جزء إلا وله جزء قال وكانت الفلاسفة تجعل حد الجسم أنه العريض العميق قال وقال عباد بن سليمان(5/333)
الجسم هو الجوهر والأعراض التي لا ينفكّ منها وما كان قد ينفك منها م الأعراض فليس ذلك من الجسم بل ذلك غير الجسم وكان يقول الجسم هو المكان ويعتل في الباري تعالى أنه ليس بجسم فإنه لو كان جسماً لكان مكاناً ويعتل أيضاً بأنه لو كان جسماً لكان له نصف قال وقال ضرار بن عمرو الجسم أعراض أُلِّفَتْ وجمعت فقامت فثبتت فصارت جسماً تحتمل الأعراض إذا حلَّت والتغيير من حال إلى حال وتلك الأعراض هي ما لا تخلو الأجسام منه أو من ضده نحو الحياة والموت اللذين لا يخلو الجسم من واحد منهما والألوان والطعوم التي لا ينفك من واحد من جنسها وكذلك الزِنَةُ كالثقل والخفَّة وكذلك الخشونة واللين والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وكذلك(5/334)
الصمد فأما ما ينفك منه ومن ضده فليس ببعض له عنده وذلك كالقدرة والألم والعلم والجهل وليس يجوز عنده أن تجتمع هذه الأعراض وتصير أجساداً بعد وجودها ومحال أن يفعل بها ذلك إلا في حال ابتدائها لأنها لاتخرج إلى الوجود إلا مجتمعة وقد يمكن أن تجتمع عنده كلها وهي موجودة ومحال أن تفترق كلها وهي موجودة لأنها لو افترقت مع الوجود لكان اللون موجوداً لا الملون والحياة موجودة لا الحي فإذا قلت له فليس يجوز على هذا القياس عليها الافتراق قال مرة افتراقُها فَنَاؤها وقال مرة الافتراق يجوز على الجسمين فأما أبعاض الجسم مع الوجود فلا وقد يجوز عنده أن يفني بعض الجسم وهو موجود على أن يجعل مكانه ضدُّه فهذه الأقوال ترجع إلى أقوال أحدها أنه المحتمل للصفات والأعراض وإن لم يكن مؤلفاً والثاني أنه ما يدخله التأليف من الأجزاء وهو يُسمى الواحد جسماً حال تركيبه أو لا يكون جسماً إلا الجزءان أو الستة أو الثمانية أو الستة والثلاثون ولايحصر ذلك بعدد على الأقوال الستة(5/335)
والثالث أنه الطويل العريض العميق وإن لم يكن مؤلفاً من الأجزاء أو لم يكن مؤلفاً من الأجزاء المحصورة كما يقوله النظام والفلاسفة وهو قول الشهرستاني وغيره والرابع أنه المؤلّف من الأعراض والخامس أنه الموجود أو أنه المكان والسادس انه الموجود أو أنه القائم بنفسه وهو مع حكاية هذا عن هشام قد ذكر عنه أنه قال إن الله تعالى جسم محدود عريض طويل عميق طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقداراً في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه في مكان دون مكان(5/336)
كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يعين لوناً ولا طعماً هو غيره وانه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد قال وحُكي عنه أنه قال هو جسم لا كالأجسام ومعنى أنه شيء موجود قال وذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري متكوناً ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسَّة وأن يكون طويلاً أو عريضاً أو عميقاً وزعم أنه يتحرك من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفاً بلون أو طعم أو رائحة أو مجسّة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه وقال في اختلاف الشيعة في التجسيم وهم ست فرق(5/337)
فالفرقة الأولى الهشامية وهم أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر نحو ما تقدم قال وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث المكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه لجسم ذاهب جاء فيتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال والفرقة الثانية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود(5/338)
ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستوٍ بلا مماسة ولا كيف قال والفرقة الثالثة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسماً والرابعة أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ريهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً أو دماً ويقولون هو نور ساطع يتلألأ ضياء وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمرٍ واحدٍ وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من(5/339)
الحيوان قال والفرقة السادسة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولايشبه الأشياء ولايتحرك ولايسكن ولايماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج قال وهؤلاء من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه قلت فقد ذكر عن المجسمة قولين أحدهما أنه لا يوصف بالطول والعرض والعمق وذكر هؤلاء ثلاثة أقوال أحدها أن معنى ذلك أنه موجود ولايثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش بلا كيف(5/340)
والقول الثاني أنه جسم وأنكروا أن يكون يوصف بالكيفيات الخمس أو بشيء مما وصفه به هشام غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه وهذان القولان يشبهان القول الذي ذكره الرازي عن قدماء الكرامية والقول الثالث إثبات أن الباري تعالى متلوِّن ومنع أن يكون ذا طعم أو لون أو رائحة أو طويل أو عريض أو عميق لكنه متحرك والقول الثاني الذي ذكره عن المجسمة أنه طويل عريض عميق وأن هؤلاء يقولون معنى الجسم أنه الموجود القائم ينفسه وأنه مع ذلك الطويل العريض العميق الموصوف بالحركة والسكون وما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي فقولهم(5/341)
هو الموجود القائم بنفسه لاينافي عندهم قولهم هو الطويل العريض العميق الموصوف بالحركة والسكون لأنه عندهم لاموجود قائم بنفسه إلا كذلك وهذا قول أئمة المجسمة وجمهورهم كهشام وغيره وهو أيضاً قول طوائف من الكرامية لكن هشام وأصحابه لا يثبتون للجسم صفة غير نفسه ولهذا يقول لا موجود إلا الجسم ولهذا لايقول إن صفته غيره وأما الكرامية فنقل عنهم أنهم يقولون إن صفته غيره هذا مع أن هذه المقولات والفرق كانوا قبل وجود الكرامية فإن محمد بن كرام إنما ظهر في أثناء المائة الثالثة وهو فرين أبي سعيد بن كُلاّب وهما أقدم من الأشعري وإن كان أي(5/342)
الأشعري قد أدرك ذلك الزمان لكن ابن كرام كان بسجستان وتلك النواحي وابن كلاب كان بالبصرة وكذلك الأشعري وعصرهما هو عصر أئمة أهل السنن المصنفة كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومع هذا فلم يذكر الأشعري في مقالاته عن الكرامية شيئاً خصهم به إلا أنه عدهم في فرق المرجئة فقال اختلفت المرجئة في الإيمان ما هو وهم اثنتا عشرة فرقة فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله ورسوله وبجميع ما جاء من عنده فقط وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعلم بالجوارح فليس بإيمان وزعموا(5/343)
أن الكفر بالله هو الجهل به وهذا قول يُحكى عن جهم بن صفوان قال وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لايكفر بجحده وأن الإيمان لا يتبعَّض ولا يتفاضل أهله فيه وان الإيمان والكفر لايكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح والفرقة الثانية من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط فلا إيمان بالله إلا بالمعرفة به ولا الكفر بالله إلا الجهل به وأن قول القائل إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر ولكنه لايظهر إلا من كافر وذلك أن الله تعالى أكفر من قال ذلك وأجمع المسلمون انه لا يقول إلا كافر وزعموا أن معرفة الله تعالى هي المحبة له وهي الخضوع لله تعالى وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا مؤمن بالرسول ليس لأن ذلك يستحيل ولكن لأن الرسول قال من لا يؤمن بي فليس مؤمناً بالله وزعموا أيضاً أن الصلاة ليست بعبادة لله وأنه لاعبادة إلا الإيمان به وهو معرفته والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة وكذلك الكفر(5/344)
والقائل بهذا القول أبي الحسين الصالحي ثم ذكر سائر مقالات المرجئة التي هي أصلح من هذين القولين فقال والفرقة الثالثة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وزعموا أن إبليس كان عارفاً بالله غير أنه كفر باستكباره على الله وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري وزعموا أن الإنسان وإن كان لايكون مؤمناً إلا بجميع الخلال التي ذكرناها فقد يكون كافراً بتركه خصلة منها ولم يكن يونس يقول بهذا والفرقة الرابعة منهم وهم أصحاب أبي شمر ويونس(5/345)
يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء فإن قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخلٍ في الإيمان ولايسمُّون كل خصلة من هذه الخصال إيماناً ولابعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال فإذا اجتمعت سموها إيماناً لاجتماعهما وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقَاءَ ولابعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض فإذا اجتمعا في الدابة سمى ذلك بَلَقَاً إذا كان في فرس فإذا كان في جمل(5/346)
أو كلبٍ سمى بَقَعاً وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفراً ولم يجعلوا الإيمان متبعِّضاً ولامحتملاً للزيادة والنقصان وحُكي عن أبي شمر أنه قال لا أقول في الفاسق الملِّي فاسق مطلق دون أن أقيد فأقول فاسق في كذا وحكى محمد بن شبيب وعباد بن سليمان عن أبي شمر أنه كان يقول إن الإيمان هو المعرفة بالله والإقرار به وبما جاء من عنده ومعرفة العدل يعني في القدر وما كان من ذلك منصوصاً عليه أو مستخرجاً بالمعقول مما فيه إثبات عدل الله ونفي التشبيه والتوحيد فكل ذلك إيمان والعلم به إيمان والشاك فيه كافر الشاك في الكفار كافر أبداً والمعرفة لايقولون إنها إيمان ما لم يعلم الإقرار وإذا وقعا كانا جميعاً إيماناً والفرقة الخامسة من المرجئة أصحاب أبي ثوبان يزعمون(5/347)
أن الإيمان هو الإقرار بالله ورسله وما كان لايجوز في العقل إلا أن يفعله وما كان جائزاً في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان والفرقة السادسة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجتمع عليها والخضوع له بجميع ذلك والإقرار باللسان فمن جهل شيئاً من ذلك وقامت عليه حجة أو عُرِّفه ولم يُقرَّ به كفر ولم تُسمَّ كل خصلة من ذلك إيماناً كما حكينا عن أبي شمر وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكلُّ خصلة منها طاعة فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة لأن الله أمر بالإيمان جملة أمراً واحداً(5/348)
ومن لم يفعل ما أمر به لم يُطع وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية فإن الإنسان لايكفر بترك خصلة واحدة وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضه أعلم بالله وأكثر تصديقاً له من بعض فإن الإيمان يزيد ولاينقص وأن من كان مؤمناً لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه والفرقة السابعة الغيلانية أصحاب غيلان يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء(5/349)
به الرسول وبما جاء من عند الله تعالى وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشمرية في الخصلة من الإيمان أنه لايقال لهما إيمان إذا انفردت ولايقال لها بعض إيمان إذا انفردت وأن الإيمان لايحتمل الزيادة والنقصان وأنهم خالفوا في العلم فزعموا أن العلم بأن الأشياء محدثة مدبرة ضرورية والعلم بأن محدثها ومدبرها ليس باثنين ولا أكثر من ذلك اكتساب وجعلوا العلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عنده اكتساباً وزعموا أن من الإيمان إذا كان الذي جاء من عند الله منصوصاً بإجماع المسلمين ولم يجعلوا شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً قال وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم من الشمرية والجهمية والغيلانية والنجارية ينكرون أن يكون من الكفار إيمان وأن يقال فيهم بعض الإيمان إذ كان الإيمان لايتبعض عندهم وذكر زرقان عن غيلان أن الإيمان هو الإقرار باللسان(5/350)
وهو التصديق وأن المعرفة بالله فعل الله وليست من الإيمان في قليل ولا كثير واعتل بأن الإيمان في اللغة هو التصديق والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان الإقرار بالله والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام وأشباه ذلك مما لا اختلاف بينهم فيه ولا تنازع وما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء فإن الراد للحق لا يكفر وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله تعالى ولا يرد على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ونصوا عليه والخضوع لله هو ترك الاستكبار وزعموا أن إبليس قد عرف الله تعالى وأقر به وإنما كان كافراً لأنه استكبر ولولا استكباره لما كان كافراً وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله وأن الخصلة ممن الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان ويكون صاحبها كافراً بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمناً إلا بإصابة الكل وكل رجل يعلم أن(5/351)
الله واحد ليس كمثله شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان وهي معرفته بالله وذلك أن الله أمره أن يعرفه وأن يقر بما كان عرف فإذا لم يقر أو عرف الله وجحد أنبياءه فإذا فعل ذلك فقد جاء ببعض ما أمر به وإذا كان الذي أمر به كله إيمان فالواحد منه بعض إيمان وكان محمد بن شبيب وسائر من قدمنا وصفه من المرجئة يزعمون أن مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله ورسله المقرين به وبرسله مؤمنين بما معه من الإيمان فاسقون بما معهم من الفسق والفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير قال وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة(5/352)
وعمر بن عثمان الشمزي بمكة فسأله عمر فقال له أخبرني عمن زعم أن الله تعالى حرّم أكل الخنزير غير أنه لا يدري لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هي هذه العين فقال مؤمن فقال قد عمر فإنه قد زعم أن الله قد فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا فقال هذا مؤمن قال فإن قال أعلم أن الله بعث محمداً وأنه رسول غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي قال هذا مؤمن ولم يجعل أبو حنيفة شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً وزعم أن الإيمان لا يتبعَّض ولايزيد ولايتفاضل الناس فيه قال فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون(5/353)
عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه لا يزيد ولا ينقص والفرقة العاشرة من المرجئة أصحاب أبي معاذ التَّوْمِني يزعمون أن الإيمان ما عصم من الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك أو ترك خصلة منها كان كافراً فتلك الخصال التي يكفر بتركها أو ترك خصلة منها إيمان ولا يقال للخصلة منها إيمان ولابعض إيمان وكل طاعة إذا تركها التارك لم يجمع(5/354)
المسلمون على كفره فتلك الخصلة شريعة من شرائع الإيمان تاركها إن كانت فريضة يوصف بالفسق فيقال له إنه فسق ولا يسمى بالفسق ولايقال فاسق وليس تخرج الكبائر من الإيمان إن لم يكن كَفَر فتارك الفرائض مثل الصلاة والصوم والحج على الجحود لها والرد لها والاستخفاف بها كافر بالله وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود وإن تركها غير مستحلًّ لتركها متشاغلاً مسوّقاً يقول الساعة الأصلي وإذا فرغت من لهوي ومن عملي فليس بكافر إذا كان غرضه أن يصلي يوماً ووقتاً من الأوقات ولكن نُفَسِّقُهُ وكان أبو معاذ يزعم أن من قتل نبيًّا أو لطمه كفر وليس من أجل اللطمة والقتل كَفَرَ ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له وكان يزعم أن الموصوف بالفسق من أصحاب الكبائر ليس بعدو لله ولا وليٍّ لله وكل المرجئة يقولون إنه ليس في أحد من الكفار إيمان بالله والفرقة الحادية عشرة من المرجئة أصحاب بشر المريسي يقولون إن الإيمان هو التصديق لأن الإيمان في اللغة هو(5/355)
التصديق وما ليس بتصديق فليس بإيمان ويزعم أن التصديق يكون بالقلب واللسان جميعاً وإلى هذا القول كان يذهب ابن الراوندي قال وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية فليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفراً ولايجوز أن يكون إيماناً إلا ما كان في اللغة إيماناً وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر ولكنه عَلَمٌ على الكفر لأن الله تعالى بين لنا أنه لا يسجد للشمس إلا كافر قال والفرقة الثانية عشرة من المرجئة الكرامية أصحاب محمد بن كَرَّام يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيء(5/356)
غير التصديق باللسان إيماناً وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين على الحقيقة وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان قال ومن المرجئة من يقول إن الفاسق من أهل القبلة لا يُسمَّى بعد تقضِّي فعله فاسقاً ومنهم من يقول لا أقول لمرتكب الكبائر فاسق على الإطلاق دون أن يقال فاسق في كذا ومنهم من أطلق اسم الفسق قال واختلفت المرجئة في الكفر ما هو وهم ست فرق الفرقة الأولى تزعم أن الكفر خصلة واحدة وبالقلب تكون وهو الجهل بالله وهؤلاء هم الجهمية والفرقة الثانية(5/357)
منهم يزعمون أن الكفر خصال كثيرة ويكون بالقلب وبغير القلب والجهل بالله كفر وبالقلب يكون وكذلك البغض لله والاستكبار عليه وكذلك التكذيب بالله وبرسله بالقلب وباللسان وكذلك الجحود لهم والإنكار لهم وسبُّهم وكذلك الاستخفاف بالله ورسله كفر وكذلك ترك التوحيد إلى اعتقاد التثنية والتثليث أو ما هو أكثر من ذلك كفر وزعم قائل هذا القول أن الكفر يكون بالقلب واللسان دون غيرهما من الجوارح وكذلك الإيمان وزعم قائل هذا القول أن قاتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولاطِمَه لم يكفر من أجل القتل واللطمة ولكن من أجل الاستخفاف وكذلك تارك الصلاة مستخفًّا لتركها إنما يكفر بالاستحلال لتركها لا بتركها وزعم صاحب هذا القول أن من استحل ما حرم الله مما نص الرسول على تحريمه وأجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر بالله وأن استحلال ذلك كفر وكذلك من قال قولاً واعتقد عقداً قد أجمع المسلمون على إكفار فاعله وكل قول أجمعوا على(5/358)
إكفار قائله كفر بأي جارحة كان الفعل والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الكفر بالله هو التكذيب والجحد له والإنكار له باللسان وأن الكفر لا يكون إلا باللسان دون غيره من الجوارح وهذا قول محمد بن كرام وأصحابه والفرقة الرابعة منهم يزعمون أن الكفر هو الجحود والإنكار والستر والتغطية وأن الكفر يكون بالقلب واللسان والفرقة الخامسة منهم أصحاب أبي شمر وقد تقدمت حكاية قولهم في إكفار من رد قولهم في التوحيد والقدر والفرقة السادسة أصحاب محمد بن شبيب وقد ذكرنا قولهم في الإكفار عند ذكرنا قولهم في الإيمان وأكثر المرجئة لا يكفِّرون أحداً من المتأوِّلين ولا يكفرون إلا من جمعت الأمة على إكفاره قلت فلم يذكر عن الكرامية شيئاً انفردوا به إلا قولهم في الإيمان والكفر أن ذلك يتعلق باللسان فقط دون القلب ولاريب أن هذا القول هو بدعة من الكرامية لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه وهو باطل فإن إدخال المنافقين في اسم المؤمنين مما(5/359)
يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ونصوص القرآن الكثيرة تنفي ذلك ولم يذكر عن الكرامية في جميع كتابه شيئاً إضافة إليهم غير ذلك فأما سائر ما يذكره أصحابه من الكرامية من التجسيم وحلول الحوادث وذلك بأنه قد حكاه في كتابه عن طوائف من أهل القبلة من أهل الكلام والحديث والتصوف والتفسير بل عن طوائف غيرهم متقدمين على الكرامية لاسيما أصل القول بحلول الحوادث فإنه ذكره عن طوائف متنوعة من الفقهاء والصوفية من أهل الحديث والمتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم والقول الذي ذكره عن جهم والصالحي في الإيمان فهو الذي ينصره أئمة أصحابه ويضيفونه إليه ولا ريب أن كتبه المصنَّفة في آخر عمره مثل المقالات(5/360)
ونحوها إنما قال فيها بقول أهل السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والجهم اعتقد في الإيمان ما اعتقده في الله المُؤْمَنِ به من أنه إذا كان واحداً امتنع أن يكون له صفات وأن كونه واحداً يمتنع أن يكون حيًّا قادراً عالماً له حياة وقدرة وعلم وكذلك اعتقد في الإيمان أنه لايكون إلا شيئاً واحداً يتساوى فيه جميع الموصوفين به وأن ذلك لايمكن أن يكون إلا خصلة واحدة ولايمكن أن تكون تلك الخصلة إلا مجرد المعرفة واعتقد أن الواحد لايتصور أن يتضمن أشياء لأن ذلك عنده تركيب وانقسام فنفى ذلك بزعمه في الإيمان كما نفاه في حق الله تعالى فجحد أن يتميز في الإيمان شيء من شيء في الوجود والعلم كما قال ذلك في الله تعالى وإذا كان كذلك عُلِم أن الذين قالوا إنه جسم وأن معنى ذلك أنه موجود قائم بنفسه وأنه لايعقل قائم بنفسه إلا الجسم لهم قولان منهم من يقول إنه مع ذلك طويل عريض عميق ومنهم من يقول ليس بذي أجزاء وأبعاض وأن هذا مما ينازعون فيه(5/361)
موافقيهم على أنه جسم وإذا كان كذلك علم أن امتناعهم عن ذلك ليس لمحض التَّقيَّة والخوف بل هو اعتقاد يعتقدونه وينفون الأجزاء والأبعاض وإن قال القائل هذا تناقض منهم وأنه يلزمهم القول بالأجزاء والأبعاض فغايتُه أنهم في ذلك كسائر الطوائف التي يقال إنه يلزمهم قولٌ وهم لايقولون به وهذا كما أن الكُلاَّبية أئمة الأشعرية وقدماؤهم تقول بقول المعتزلة ومتأخرو الأشعرية يلزمهم القول بأنه جسم وهم لايقولون بذلك وكذلك كل من أثبت الرؤية يقول نفاتها وكثير ممن يثبتها أنه يلزمه القول بالتجسيم وإن كان لايقول بذلك الوجه الثاني أن لوازم نفاة الجسم أعظم من لوازم مثبتته فإن من نفاه يقال عنه إنه يلزمه أن الله لا يُرى وأن الله لا يتكلم وأن القرآن مخلوق وأن الله ليس على العرش وأنه لا يقوم به صفة وأن إقراره بالكُرَوِيَّة وبأن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى على العرش وغير ذلك إنما هو لمحض التقية والمصانعة لأهل السنة والحديث وهذا يقوله خلق كثير من الأشعرية وغيرهم حتى قالوا إن الأشعري إنما(5/362)
صنف كتاب الإبانة تقية وإلا فالرجل باطنه يشبه بواطن شيوخه المعتزلة وأنهم بمنزلة المنافقين الذين يوافقون أهل السنة والحديث في الظاهر ويخالفونهم في الباطن وأيضاً فمن تأمل كلام الرازي وجده في كثير من مسائله لاينصر القول الذي ينصره إلا للتقية دون الاعتقاد كما فعله في مسألة الرؤية والقرآن ونحوهما فإن كلامه يقتضي أن الرجل منافق لأصحابه الذين هم متأخرو الأشعرية فضلاً عن قدمائهم وأيضاً فالأشعري قد ذكر عن المعتزلة أنهم منافقون بإثبات أسماء الله فقال في المقالات الحمد لله الذي بصَّرنا خطأ المخطئين وعَمَى العَمين وحيرة المتحيرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لاعلم له ولا قدرة ولا حياة له ولاسمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي يوصف بها لنفسه قال وهذا قولٌ أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين(5/363)
يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم يزل ولم يزيدوا على ذلك قال غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يُعرف بابن الإيادي كان ينتحل مذهبهم فزعم أن الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة(5/364)
وقال الأشعري أيضاً في الإبانة زعمت الجهمية والقدرية أن الله عز وجل لاعلم له ولاقدرة ولا حياة ولا سمع ولابصر وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا لاعلم ولاقدرة لله عز وجل فقد قالوا ليس بعالم ولاقادر ووجب ذلك عليهم وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن تثبت له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وأيضاً فكلامُ السلف والأئمة كثيرٌ مشهور في أن الجهمية(5/365)
وهم أول من نفى الجسم وملازمه في الإسلام إنما هم معطِّلون في الحقيقة وإنما يظهرون الإقرار نفاقاً ومدار أمرهم على التعطيل كما ذكره البخاري وغيره من الأئمة عن وكيع بن الجراح الإمام أنه قال لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل قال البخاري وحدثني أبو جعفر سمعت الحسن بن موسى الأسيب وذكر الجهمية فنال منهم ثم قال أُدْخِلَ رأسٌ من رؤساء الزنادقة يقال له شمغلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك(5/366)
فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية والجهمي إذا غلا قال ليس ثَمَّ شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالقُ خير وخالقُ شر فضرب عنقه وصلبه وهذان الصنفان جمعهما المعتزلة وفيهم يقول ابن المبارك ولا أقول بقول جهم إنّ له قولاً يُضارعُ قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته ربُّ العباد وولَّى الأمر شيطانا وروى عن يحيى بن يوسف الزمي قال كنا عند(5/367)
عبد الله بن إدريس فجاء رجل فقال ياأبا محمد ما تقول في قوم يقولون القرآن مخلوق قال أمن اليهود قال لا قال أمن النصارى قال لا قال فمن المجوس قال لا قال فممّن قال من أهل التوحيد قال ليس هؤلاء من أهل التوحيد هؤلاء من الزنادقة مَن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق وهذا أصل الزندقة قال وقال وهب بن جرير الجهمية زنادقة إنما يريدون أنه ليس على(5/368)
العرش استوى قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة وقال البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضلّ في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفِّرهم إلا من لا يعرف كفرهم قال وقول عبد الله بن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية(5/369)
وقال الإمام أحمد في وصف قول الجهمية ما قدمناه حيث قال إنه بلغه أن الجهم لقي أناساً من المشركين يقال لهم السُّمَنِيَّة فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيتَ إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فهل شممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مجسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحيَّر الجهم فلم يَدْرِ من يعبد أربعين يوماً ثم إنه(5/370)
استدرك حجة مثل حجج الزنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث شيئاً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء وهو روح غائب غن الأبصار فاستدرك جهمٌ حجةٌ مثل هذه الحجة فقال للسُّمني ألست تزعم أن فيك روحاً قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولايشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولايكون في مكان دون مكان ووجدت ثلاث آيات من المتشابه في القرآن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذّب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً وكان من المشبهة فأضل بكلمه بشراً كثيراً واتبعه على قوله رجالٌ من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد(5/371)
بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولايكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان ولايوصف بوصفين مختلفين ولا له أعلى ولا له أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو بمعلوم ولا معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو(5/372)
لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعبد ذلك تبين للناس أنهم لايثبتون شيئاً ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لايعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لاتؤمنون بشيء بل تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر الأمر هو كلّم موسى قالوا لم يتكلم ولا يُكَلم لأن الكلام لايكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله ولايعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية وضلالة وكفر(5/373)
وروى عبد الله بن أحمد عن ابن إبراهيم بن طهمان قال الجهمية كفار وعن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان وعن سليمان التيمي عن أبيه قال ليس قوم أشد(5/374)
بغضاً للإسلام من الجهمية وعن سلام بن أبي مطيع قال الجهمية كفار وعن يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال زنادقة وفي رواية أخرى رواها المروذي(5/375)
عنه وذكر الجهمية فقال كفار لايعبدون شيئاً وروى المروذي عن سلام بن أبي مطيع قال الجهمية كفار لايصلى خلفهم وعن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال كان أبي يحيى وعبد الرحمن يعني ابن مهدي يقولان الجهمية تدور على أن تقول ليس في السماء شيء وروى سليمان بن(5/376)
حرب عن حماد بن يزيد قال الجهمية تحاول على أن ليس في السماء شيء ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد عنه ولفظه إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وروى الخلال عن وكيع بن الجراح أنه قال القرآن(5/377)
كلام الله أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم كل صاحب هوى يعبد الله ويعرفه إلا الجهمية فإنهم لايعرفونه بشر وأصحابه وعن شبابة بن سوّار قال اجتمع رأيي ورأي جماعة من الفقهاء وأبي النضر هاشم بن القاسم على أن المريسي كافر جاحد يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه وعن ابن عيينة قال هذا الذي يقول في القرآن يعني المريسي ينبغي أن(5/378)
يصلب وعن عباد بن العوام أنه قال كلام بشر المريسي يزعم أنه ليس بشيء يعني أن الله ليس بشيء وعنه قال كلمت بشراً وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن ليس في السماء شيء وروي عن أبي بكر بن عياش إنما تحاول الجهمية أن ليس في السماء شيء وعن الميموني أنه ذاكر أبا عبد الله(5/379)
أحمد بن حنبل أمر الجهمية وما يتكلمون به فقال في كلامهم كلام الزنادقة يدورون على التعطيل ليس يثبتون شيئاً وهكذا الزنادقة وقال لي أبو عبد الله بلغني أنهم يقولون شيئاً هم يدعونه وينقصون على المكان ويقولون هو الأشياء وليس بالشيء في الشيء قال لي فهو قد ترك قوله الأول وأقبل يتعجب إليَّ وعن أحمد بن حنبل قال ما أحد أضر على الإسلام من الجهمية ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كثيرٌ في كلام السلف والأئمة وسائر العلماء لايحصيه إلا الله يصفون فيه الجهمية بالزندقة التي هي النفاق وبالتعطيل وبالجحود للقرآن والحديث وبأنهم إنما يقرون في الظاهر بالإسلام والقرآن خوفاً من السيف إذا كان كذلك وهم أول من أحدث في الإسلام القول بأن الله تعالى ليس بجسم وأنه إذا كان ليس بجسم فإن ذلك يستلزم نفي علوه على العرش ونفي صفاته وغير ذلك علم أن ما في هؤلاء من المنافقة والتقية وخوف السيف من أهل الإيمان أعظم مما ذكر وهـ أولئك(5/380)
الوجه الثالث أن يقال إنه من المعلوم أن في هؤلاء وهؤلاء مَن قد يقول القولين اللذين هما في نفس الأمر متناقضان فإنهم مع ذلك نوعان منهم من يعلم التناقض ويقر بأحدهما إما لرغبةٍ وإما لرهبة ومنهم من لايعلم التناقض وهذا لاريب فيه فإنا نعلم خلقاً من الجهمية الذين ينكرون الصفات ويقولون هذه تجسيم والله ليس بجسم الذين يتظاهرون بالإسلام وهم في الباطن لايقرون بأن القرآن حق وما خالفه باطل ولا يقرون بأن محمداً هو رسول الله إلى جميع الخلق ولا يقرون بأنه تجب عبادة الله وحده لاشريك له ولا يقرون بالمعاد الذي أخبر الله به في كتابه بل منهم طوائف يجعلون اليهودية والصابئة والشرك كل ذلك أديان غير محرمة ولاأهلها كفار كدين الإسلام ثم من هؤلاء من يرجِّح الإسلام على سائر هذه الأديان ومنهم من لا يرجحه ومنهم طوائف يعتقدون أن الأنبياء إنما هم من عقلاء بني آدم وفضلائهم وبمنزلة الملوك الذين لهم علم وعدل وأنه إنما تجب طاعتهم في الأمور والسياسات الظاهرة التي هي نظام الدنيا فأما الأمور الدينية الباطنة النافعة في الآخرة من العلوم والأعمال فيدَّعون أنهم أعلم بذلك من الأنبياء والمرسلين أو مثلهم وأنهم مستغنون عن الرسل فيها ومنهم طوائف يجحدون خالق العالم جحداً(5/381)
محققاً ويسخرون بمن يقر بوجوده أما العبادات التي جاءت بها الرسل والتحريمات فيسخرون بأهلها سخرية زائدة على الحد ومنهم من يعبد الأصنام والكواكب أو يأمر بذلك وقد يرى ذلك أفضل وأنفع من عبادة الله وحده إلى أمور أخرى من أصناف الكفر والزندقة التي توجد في الجهمية التي هي بإجماع المسلمين من أعظم الزندقة والنفاق إذا استبطنها من يظهر الإسلام وغن أعلنها كان كافراً معلناً باتفاق المسلمين وهذه الأمور هي من جنس سائر الضلال تارة يتلقاه بعض الضالين عن المضلين كما قال تعالى إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) [الصافات 69-70] وقال عنهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة 170] وتارة يقولونه لتشابه قلوبهم كما قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) [الذاريات 52-53] وقال تعالى بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) [المؤمنون 81-82] وقال(5/382)
تعالى مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت 43] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام 112] وقال تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام 148] وهذا في القرآن في غير موضع يذكر مُشابهةَ ضلال الآخرين لضلال الأولين وذلك أن بني آدم جنس واحد مشتركون في الحد والحقيقة الإنسانية وقوى إدراكهم وحركاتهم من جنس واحد من هذا الوجه فهم يتشابهون في الإيمان والكفر والهدى والضلال والعلم والجهل والقدرة والعجز وسائر ما يعرض لهم من الأمور المتقابلة ولاريب أن كثيراً ممن ليس بزنديق ولامنافق من أهل الإيمان قد التبس عليه كثيرٌ مما يقولون الجهمية وظن أن ذلك حق وأنه من تعظيم الله وتنزيهه وغالب هؤلاء في حيرة فإنهم لابد أن يروا منافاة الفطرة وما جاءت به الرسل لما يقوله الجهمية فيرونه منافياً للعقل والشرع المعلومين بالاضطرار فتارة يُعرضون عن النظر في ذلك مطلقاً(5/383)
فلا يحققون الإيمان بما جاءت به الرسل ويقررون أمره ولايعتقدون ما يقوله الجهمية وهذا ضَعفٌ في إيمانهم ومرض في قلوبهم وتارة يقولون هذا ويقولون هذا إما في حالٍ واحدة وإما في حالين ولايشعرون بالتناقض الذي بينهما وتارة يوافقون المؤمنين وتارة يوافقون الجهمية وتارة يوافقون هؤلاء في البعض وهؤلاء في البعض وهو موجود أيضاً في المثبتة للجسم فإن منهم من يستعمل التقية مع نفاقٍ فيوافقونهم على ما ينفونه من تفاريغ ملازم الجسم مع علمه بأنه متناقض ومنهم من يقول القولين المتناقضين ولايشعر بالتناقض كما تقدم وهؤلاء المتناقضون يقولون قول هؤلاء وقول هؤلاء لكن بعبارات متنوعة وهؤلاء خلق عظيم وطوائف كثيرة في الأمة من أصناف أهل العلم والدين لايحصيهم إلا رب العالمين الوجه الرابع أنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الناس رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] وقال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء 105] وقال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً(5/384)
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء 59] وهذا عام في جميع الأشياء لاسيما باب أسماء الله وصفاته فإن الاعتصام في ذلك بالكتاب والسنة هو من أعظم أصول الإيمان فإن الله قد ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته ويجادلون فيه بغير علم والذين يجادلون بغير كتاب منزل من الله ونهى عن ضرب الأمثال له فقال وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) [الأعراف 180] وقال وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) [الرعد 13] وقد روي أنها نزلت فيمن جادل في الله من أي جنس هو من أجناس المخلوقات وقال الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ(5/385)
أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر 35] وهذا في كل من جادل في الله بغير كتاب منزل من السماء فإن الكتاب المنزل هو السلطان كما قال تعالى أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) [الروم 35] وقال تعالى أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) [الصافات 156-157] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) [الطور 38] وإذا كان كذلك فالواجب أن يجعل ما بعث الله به رسله من السماء والكلمات هي الأصل والرد عند التنازع في النفي والإثبات وأما سائر ما يتكلم الناس به من نفي وإثبات فيرد إلى ذلك فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو الباطل وإذا كانت الألفاظ مجملة تحتمل ما يوافق كتاب الله وما يخالفه لم تقبل مطلقاً ولم تردّ مطلقاً بل يقبل منها ما وافق كتاب الله ويرد ما خالفه والمنافق المذموم الذي ذمه الله ورسوله هو من أظهر الإيمان بالكتاب والرسول وموالاة المؤمنين وأبطن نقيض ذلك فأما من استعمل التقية مع غير كتاب الله ورسوله وأهل الإيمان فليس هو هذا المنافق وإذا كان كذلك فالجهمية نفاة الصفات تنفي الجسم(5/386)
وملازمه نفاقهم في الإيمان بالله والرسول فإنهم يظهرون الإيمان بالقرآن وبما جاء فيه من أسماء الله وصفاته التي هي من آياته وهم عند التحقيق غير مؤمنين بذلك بل هم منافقون في كثير من ذلك يحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وصفاته وذلك مضموم إلى منافقتهم في المعقولات حيث يبغون اتباع المعقول وهم من أعظم الخلق جحوداً للمعقولات ففيهم من السفسطة في العقليات والقرمطة والنفاق في الشرعيات مما لاينضبط هنا وهذا من أعظم الأمور دناة وبطلاناً في العقل والدين بإجماع المسلمين وأما ما ذكره الرازي عن منازعيه من التقية فغايتهم أنهم استعملوا التقية مع من يقول إنه ليس بجسم وغاية هذا أن يكون هو المصيب وهم المخطئون إذ ليس قوله مأثوراً عن الله ور عن رسوله ولا عن أحدٍ من سلف الأمة وأئمتها فإنه ليس في هؤلاء من نفى ما ينفيه هؤلاء بلفظ الجسم وملازمه ولا نفى ما يسمونه تركيباً وانقساماً وتأليفاً وإذا كانت هذه المعاني لايوجد نفيها عن الله لا بألفاظهم ولا بألفاظ أخرى في كلام الله(5/387)
ولا رسوله ولا كلام سلف الأمة وأئمتها وإنما غاية أحدهم أن يستنبط ذلك كما ذكره الرازي في الأدلة السمعية ومعلوم لمن تدبر تلك الأدلة أنها لاتفيد ظنًّا ضعيفاً فضلاً عن ظنٍّ قويٍّ فضلاً عن العلم بل قد بينا فيما تقدم أن كل دليل ذكره فإنه أدل على نقيض مطلوبه منه على مطلوبه وإذا كان الأمر كذلك وقدرنا أن نفي هذه المعاني حق كان مستعمل التقية والخوف مع هؤلاء النفاة أحسن حالاً وأعظم قدراً عند أهل العلم والإيمان من حزب الرازي النفاة فيما يستعملونه من التقية والخوف فإن أولئك يستعملونها مع أهل العلم والإيمان وهو حال المنافقين الذين ذكرهم الله وذمَّهم في القرآن فيما شاء الله من المواضع وهذا بيِّنٌ ظاهرٌ فإن خطأ هؤلاء إذا ثبت أنه خطأ هو خطأٌ فيما يقال إنه معقول ليس خطأً فيما جاء به الرسول وتقاته مع من يدعي العقليات ليس مع أهل الإيمان والقرآن وأين من يتقي من يكون مصيباً من العقلاء والملوك إلى من يتقي وينافق الأنبياء والمرسلين وخلفاءهم الراشدين هذا كله إذا قدر خطؤه حيث كان في الباطن يعتقد ما هو خطأ وأما إن كان ما يقوله الباطن صواباً فيكون قولهم بألسنتهم خلاف ما في(5/388)
قلوبهم من غير إكراه ضعفاً في إيمانهم وجماع القول أنه إذا قُدِّر أنهم استعملوا التقية فأظهروا نفي هذه الأمور مع اعتقاد ثبوتها فإما أن يكونوا في هذا الاعتقاد مخطئين أو مصيبين فإن كانوا مخطئين كان هذا كما تقدم أنه من جنس مخالفة الملوك والعقلاء فيما هم فيه مصيبون ومخالفتهم من جنس المنافقين لأنبياء الله والمرسلين وعباد الله أهل العلم والإيمان فإذا كانوا مصيبين في هذا الاعتقاد كانوا بمنزلة مؤمن كتم إيمانه وأظهر خلاف ما يعتقده من الإيمان فهو مؤمن بقلبه معتقد متكلم بكلمة الخطأ أو الكفر خوفاً وهذا سائغ في الدين قال تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل 106] وقال تعالى لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران 28] وحيث لايكون سائغاً فالتكلُّم بذلك مع اعتقاده الإيمان لنوع رغبةٍ أو رهبةٍ على أي وجه كان هو خيرٌ من المنافق الذي يتكلم بقول أهل الإيمان ويبطن خلاف ذلك فأولئك النفاة منافقون وهذا مذنب ذنباً دون ذنب أولئك بكثير الوجه الخامس أنه ليس لأحد أن يشرع ديناً لم يأذن به الله(5/389)
ولا يسمي أحداً باسم حمدً أو ذم إلا بسلطان من الله ولا يفرِّق بين ما جمع الله بينه ويجمع بين ما فرق الله بينه ويقطع ما أمر الله به أن يوصل وينقض عهد الله من بعد ميثاقه قال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 21] وقال تعالى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم 23] وقال تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) [الأعراف 1-3] وقال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام 153] وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران 102-103] وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام 159] وقال تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) [البقرة 176] والله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المؤمنين والمقسطين والصادقين والعالمين والمصلين والمتصدقين والصائمين والأبرار ونحو ذلك وذم في كتابه الكافرين والمنافقين والفجار والكاذبين والمحرقين للكلم عن مواضعه والملحدين في أسماء الله وآياته والمشركين والعادلين به والجاعلين له أنداداً ونحو ذلك(5/390)
فالذي يجب أن يحمد ما حمده الله ويذم ما ذمه الله تعالى وأما الأسماء التي تعرف بها المذاهب والمقالات والطوائف سواء كانت مضافة إلى إمام المذهب كالجهمية والأزارقة والكُلابية والكرامية والأشعرية أو كانت مضافة إلى قول أو عمل لهم كما يقال الحرورية لاجتماعهم بحروراء ويقال لهم الخوارج والمارقة لمروقهم من الإسلام وكما يقال الرافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين لموالاته أبا بكر وعمر وكما(5/391)
يقال المعتزلة لاعتزالهم أهل الجماعة من أصحاب الحسن البصري ونحوهم وكما يقال المجسمة لاتباعهم لمن قال إنه جسم وكما يقال معطلة لتعطيلهم الصفات إذ استلزم ذلك تعطيل الذات وكما يقال الزنادقة هم(5/392)
المنافقون فالواجب أن تكون تلك السماء هي بنفسها لايعلق بها حمد ولا ذمً إلا بما حَمده القرآن وذمه فالله تعالى هو الذي حمدُه زين وذمُه شين وإنما هذه السماء للتعريف كأسماء القبائل وليس لأحد أن يوالي المسمَّى بهذه الأسماء أو يعاديه مطلقاً إلا إذا كان المسمى بها كذلك في الشرع كالمنافق والملحد فإن هذا من اتباع الأهواء أو من التفرق في الدين بل(5/393)
يوالي من ذلك ما يحبه الله ورسوله يعادي من ذلك ما ذمه الله ورسوله والجهمية هم الذين اتبعوا جهماً فيما ابتدعه في الإسلام وكل ما ابتدعه ضلالة مخالفة للكتاب والسنة ولهذا كان كلام الجهم كله منكراً باتفاق السلف والأئمة إذ ما لم يبتدعه الجهم لايضيفه السلف إلى الجهمية وأما الكرامية والكلابية والأشعرية فهؤلاء هم المتبعون لأئمتهم فيما رتَّبوه من المذاهب وفي مذاهبهم ما هو صواب وخطأ لكن لهؤلاء مقالات ابتدعوها لم يُسبقوا إليها فتلك المذاهب تضاف إلى صاحبها وتذم مطلقاً كما يذم ما ابتدعه ابن كرام من جعل الإيمان هو مجرد قول اللسان بدون تصديق القلب ويذم ما ابتدعه ابن كلاب والأشعري من الكلام في الصفات والكلام الذي وافق أهل السنة من وجوه كثيرة ووافق فيه الجهمية من وجوه أخرى وإذا كان كمذلك فلفظُ المجسمة لايوجد به ذكر في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة لا بمدحٍ ولا ذم ولايوجد أيضاً ذم هذا المعنى الذي سميته أنت تجسيماً في كلام أحد من سلف الأمة وأئمتها وأما المذهب الذي ذكرته فهو الذي يسميه السلف مذهب الجهمية وأول من ابتدعه في الإسلام الجعد وذمُّه(5/394)
في كلام السلف وأئمتهم متواتر ودلالة الكتاب والسنة على بطلان معانيه وذمها لا يحصى فلا يستوي في ذمه الله ورسوله والمؤمنون بمن لا يوجد ذمه في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام المؤمنين ومما يوضح الأمر أن ذم الرافضة في كلام السلف والأئمة كثير جدًّا وقد علم العلماء أن أول من ابتدع الرفض في الإسلام بعضُ الزنادقة المنافقين كما ذكروا من أول من ابتدع التجهم كان(5/395)
كذلك ومع هذا فالمتكلمون الذين تكلموا في الجسم نقياً وإثباتاً في عهد السلف أئمة النفاة مهم أو من المعتزلة كأبي الهذيل وذويه وأئمة الإثبات منهم هم متكلموا الرافضة كهشام بن الحكم وذويه ومع هذا كلامُ السلف كثيرٌ مستفيض في ذم الجهمية والمعتزلة على نفي الصفات ولم يعرف عن السلف ذم لهؤلاء الرافضة على ما يقال إنه التجسيم ولا شاع عنهم من عيب الرافضة بذلك ما شاع عنهم من عيب المعتزلة على النفي ولايحفظ عن أحد من السلف ذم المجسمة ولا ذم من يقول بالجسم ولا نحو هذا أصلاً فإذا كانوا متفقين على ذم الجهمية نفاة الصفات بنفي الجسم وملازمه ولم يذموا أحدًا لخصوص كونه أثبت الجسم ولم ينفه كما نفاه نفاة الجسم على أن ذم هؤلاء ذمٌ لا أصل له في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من سلف(5/396)
الأمة وأن النفاة مذمومون بالكتاب والسنة والإجماع نعم ذم السلف من كان يزيد في الإثبات على ما جاء في الكتاب والسنة من المشبهة والمجسمة كما وجد هذا في كلام غير واحد من السلف رضي الله عنهم فيذمونهم ذمًّا خاصًّا على ما زادوه من الباطل وما وصفوا الله تعالى به مما هو مُنزَّه عنه كما يذكر عنهم من المقالات الباطلة وذموهم على التجسيم الذي ابتدعوه وخالفوا به الكتاب والسنة ولم يكن في كلامهم نفي عام وذم عام كما يوجد في كلام النفاة وهؤلاء السلف والأئمة الذين ذكرنا مدحهم وذمهم قد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم والمؤمنون شهداء الله في أرضه وهم الذين يُعتدّ بإجماعهم في الدين فإذا كانوا مجمعين على ما ذكرناه كان ذلك ثابتاً بالكتاب والسنة بخلاف من قد تنازعت الجماعة في مدحه وذمه الوجه السادس أن انتحال قول أو طريقة للذم بها والمدح والموالاة عليها والمعاداة غير الإيمان والقرآن أو إمام يوالى على اتباعه مطلقاً ويعادَى على عدم اتباعه مطلقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حال أهل البدع الضالين بل حال المنافقين والمرتدين وإن كانوا مع ذلك مقرين بالكتاب والرسول كما فعل أتباع مسيلمة الكذاب حيث زعموا أنهم يؤمنون بالرسولين والقرآنين وكما فعلت الخوارج حيث جعلت تمتحن الناس وتواليهم وتعاديهم(5/397)
على ما أحدثوه من الرأي وكذلك الرافضة وغيرهم وهؤلاء الجهمية عمدوا إلى ألفاظ القرآن والرسول مثل قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) [طه 5] وقوله أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك 16] وقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) [النساء 164] وقوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة 255] وقوله الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) [الرعد 9] وأمثال ذلك فجعلوه المجمل المتشابه وجعلوا ما ابتدعوه من لفظ الجسم والتحيز والتركيب والتأليف هو أصل دينهم المحكم الذي يوالون عليه ويعادون عليه ومعلوم أن هذا تبديل للدين وتحريف للكتاب وهو شبيه بما فعله المبدلون المحرفون من أهل الكتاب حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوه الشياطين الوجه السابع أن هؤلاء القوم إما أن يكون فيهم تقية ومخافة من إظهار ما يعتقدونه أو لايكون فإن لم يكن بطل ما ذكره وإن كان فيهم تقية ومخافة من إظهار ما يعتقدونه فهذا لايدل على أنه باطل فإن الإنسان قد يكتم الحق تارة والباطل أخرى فلا يكون هذا دليلاً في إبطال قولهم ولكن غايته أن هؤلاء مجسمة حقيقة في المعنى لا في اللفظ وقد تقدم الكلام على هذا(5/398)
الوجه الثامن هَبْ أن هؤلاء معتقدون كونه مركباً مؤلفاً فقد تقدم أن هذه ألفاظ مجملة يُنفى بها الحق كما يُنفى بها الباطل وليس على من اعتقد معنى صحيحاً دل عليه القرآن والعقل واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها حرج وإن كان كذلك المعنى يسمى في بعض الاصطلاحات تركيباً وتأليفاً فإن القول إما أن يذم للفظه لكون الشرع ورد بذمه أو لمعناه المذموم في الشرع ولفظ التركيب والتأليف ليس منفيًّا عن الله بهذا اللفظ في شيء من الكلام المقبول ولا هو المعنى الذي يقصدونه هم بهذا اللفظ منفياً في شيء من هذا الكلام المقبول لا في كلام الله ولا في كلام رسوله ولا كلام أحد من سلف الأمة ما ينفيه مما لا يعلمه إلا الله وإذا كان كذلك لم يكن في اعتقاد لم يذمه الشرع عارٌ وإنما العار فيما خالف الشرع وأما العقل فقد تقدم أنهم مخالفون لضرورة العقل ونظره وأن منازعهم لايخالف العقل لاضرورة ولا نظراً وإنما خالف أقيسة فاسدة من جنس مقاييس المشركين الذين هم بربهم يعدلون الذين سوَّوا رب العالمين بما اتخذوه من الأوثان وهذه المقاييس هي بمنزلة الأوثان التي يجب أن(5/399)
يقال فيها كفرانك لاسبحانك ويقال فيها ما قاله الخليل عليه السلام لقومه إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة 4] وإذا كان القياس الذي يسوَّى فيه بين الحق والباطل كقياس الذين قالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وقياس الذين جعلوا المسيء كالذين آمنوا وعملوا الصالحات فيها من الشرك بقدر ذلك كما قال تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) [الأنعام 121] فكيف بقياس الذين يعدلون رب العالمين بالمعدومات والموتات ويعدلونه بالموجودات التي ليست مثله في صفات الكمال ليعطلوا عنه صفات الكمال فإنهم يعدلون به ويشركون في قياسهم من هذه الوجوه الثلاثة الوجه التاسع أن لفظ التركيب والتأليف لفظ مجمل فيه ما هو منتفٍ عند المنازع له بلا ريب ومنها ما ليس منتفياً بمقتضى ما ذكره المنازع وإذا كان من الممكن أن الذين نفوه من منازعه إنما نفوه بأحد معنييه دون المعنى الآخر وإذا كان كذلك لم يكونوا بهذا معيبين ولا مستعملين للتقية بل كان هذا خيراً من(5/400)
أن يجعل ألفاظ القرآن والرسول التي أنزلها الله تعالى المحكمة مجملة مشتبهة ويجعل ألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة هي الحاكم عليها لكن أولئك المتكلمون ينفون تلك الألفاظ المجملة وإذا كانوا عارفين بالمعنيين جميعاً وعالمين بأن المستمع يفهم منها المعنى الذي لم يقصدوه كانوا قد استعملوا معه المعاريض وهذا يجوز مع الظالم دون العادل كما قال الخليل عليه السلام لسارة هذه أختي وكما كان أبو بكر يفعل وهو خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يسمع كلامه إذا سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا رجل يهديني السبيل وكما(5/401)
قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله من أنت فقال من ماء أراد خلقنا من ماء وفهم المستمع أنه من قبيلة من العرب تسمى ماء وإذا كان كذلك وكان المخاطب له ظالماً يستحلّ منهم ما حرمه الله ورسوله بما ابتدعه من الرأي الفاسد لم يكونوا مذمومين على ما استعملوه من المعاريض كذلك من نفي الجسم من أهل الإثبات وأراد بنفيه ما يتضمنه من الباطل دون الحق كان من هذا الباب ولم يكن هذا مما يُذم في العقل والدين ل هو من جنس كيد الله للمؤمن المحق إذْ جعل الله له توسعة في الكلام بحيث يكذب فيما يعنيه ولايفهم الظالم ما يستعين به على الظلم والعدوان بل يكتمه ذلك وإن كان في هذا تلبيس على الظالم حيث يفهم من كلامه ما لا يعنيه فهذا التلبيس جزاء له على ما لبّسه من الحق بالباطل بما دخل فيه من الكذب والظلم كما كاد الله ليوسف الصديق عليه السلام مثل تأذين المؤذِّن أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) [يوسف 70] فهم وإن اعتقدوا أنه أُرِيدَ سرقة(5/402)
الصواع فقد كانوا يستحقون الخطاب بالسرقة لأنهم سرقوا يوسف من أبيه ولبسوا على أبيهم فإن الدين كله مداره على العدل والقسط قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد 25] وإن قُدر أن ذلك الظالم متأول وأنه معتقد صواب نفسه فهو من البغاة المتأولين والبغاة المتأولون يجب أن يعاملوا بالقسط والعدل فيدفع بغيهم وإن كان في ذلك ضرر بهم لأنهم أيضاً يضرون غيرهم فيتقابل الضرران ويتميز أهل العدل بأنهم أهل الحق والعدل فلهذا كان هذا مما أمر الله به ورسوله وهو من العدل والقسط ومن هذا ما وصف الله تعالى به نفسه في مثل قوله تعالى وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) [البقرة 14-15] وفي مثل قوله إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء 142] وفي مثل قوله الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) [التوبة 79] فلما كان المنافقون فيهم من الكذب والظلم ما هو استهزاء(5/403)
وخديعة ومكر وسخرية بغير الحق جازاهم الله على ذلك بما فعله بهم من الاستهزاء والخديعة والسخرية بالحق والعدل ومثله قوله إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) [الطارق 15-16] وقوله أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) [الطور 42] وقوله فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) [القلم 44] وقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) [المؤمنون 55-56] وقوله فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) [الأنعام 44] إلى أمثال ذلك في القرآن وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإذا كان كذلك وقد علم أن هؤلاء الملاحدة الجهمية وسائر أتباعهم فيهم من النفاق أعظم مما يوجد في أكثر أهل الأهواء وفيهم من صفات المنافقين بقدر ذلك من السخرية والاستهزاء والخديعة ونحو ذلك فالله تعالى يجازيهم على أعمالهم جزاءً وفاقاً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) [فصلت] فيما يأمر به ويشرعه وفيما يقدره ويتوعد به وهذا يتقرر بالوجه العاشر وهو أن هؤلاء الجهمية فيهم من استعمال(5/404)
الألفاظ المجملة وإفهام الناس خلاف ما في نفوسهم ما لا يوجد في غيرهم من أهل الأرض والرافضة يشركونهم في ذلك لكن هؤلاء أعظم كفراً ونفاقاً فلهذا قال عبد الرحمن بن مهدي هما ملّتان الجهمية والرافضة ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال البخاري ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني ولا يُسلَّم عليهم ولايعادون ولايناكحون ولايشهدون ولاتأكل ذبائحهم وهذا مشروح في غير هذا الموضع فإن الجهمية قدحوا في حقيقة التوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله والرافضةُ حقيقةُ قولهم قدحٌ في الأصل الثاني وهو شهادة أن محمداً رسول الله فإذا جمع الإنسان بين الرفض والتجهم يقرب حينئذ إلى الملاحدة القرامطة الباطنية الذين هم أعظم أهل الأرض نفاقاً وكتماناً لما في أنفسهم وإظهاراً لخلاف ما يعتقدونه ومخاطبة للناس بالألفاظ المجملة التي يفهمون الناس منها(5/405)
ما لا يقصدونه هم ولفرط ضلالهم يجعلون الأنبياء كذلك زعماً منهم أن هذا هو الكمال الذي لا كمال بعده وهؤلاء الملاحدة هم الذين ينفون عن الله النقيضين جميعاً وينفون أسماء هـ الحسنى وهم مشتركون مع الفلاسفة المشائين في عامة الأمور الإلهية فإنه بعد ظهور الإسلام وانتشاره لم يكن بُدٌّ من الدخول فيه رغبة في أهله ورهبة منهم فصار هؤلاء المنافقون من المتفلسفة ونحوهم يدخلون في هؤلاء الملاحدة وأشباههم ولهذا ذكر ابن سيناء اشتغاله بهذه الفلسفة كان لأن أباه كان من أهل دعوة القرامطة الملاحدة الذين كان ملكهم إذ ذاك بمصر وكان لهم ظهور عظيم في الأرض وقصص يطول شرحها ولهذا لما ظهر المشركون من الترك من التتار وأتباعهم كان من أعظم من انضم إليهم من المنافقين هم الملاحدة وصار مقدم الفلاسفة الطوسي الذي كان وزيراً للملاحدة الباطنية(5/406)
وزيراً لهؤلاء المشركين وقدموه على الطوائف المنتسبة إلى العلم الذين يسمونهم الداشمندية من جميع أصناف الناس من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم وظهر بسبب ظهوره من النفاق والزندقة في المنتسبين إلى العلم ما لا يمكن وصفه وتصرف في أهل الإسلام تصرُّفَ الأعداء المحادِّين لله ورسوله بحسب الإمكان مع ما كان عليه من الفلسفة وسعة الخلق والحلم والتدبير المطابق لمذهب الصابئين المتبوعين لليهود والنصارى التنصر والإشراك وهو لايُظهر لكل مسلم خروجهم عن الإسلام ونفاقهم وزندقتهم ولكن المقصود الجهمية الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما سواه فإن هؤلاء يستعملون من الألفاظ المجملة التي يعنون بها ما لا يفهمونه الناس ما لا يحصيه إلا الله وذلك في الألفاظ الشرعية التي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله إذا أظهروا الإيمان بها وفي الألفاظ التي يثبتونها هم لبيان ما يجب في أصول الدين وصفات الله تعالى فيوهمون الناس أنهم لاينفون عن الله إلا ما قد يظهر أنه نقص(5/407)
وعي وهم ينفون بها أموراً لو فهمها الناس لكفَّروهم وهذا موجود في كلام أئمتهم حتى أن الأتباع يُعرضون عن تلك المواضع وأما الألفاظ الشرعية فيقرون بها بفهم منها وهم يحرفونها إلى معانٍ بعيدة عن مدلولها ومعناها فإذا كانوا بهذه الحال فكيف يليق بهم أن يعيبوا أهل الإثبات على ألفاظ قليلة مجملة إذا وافقوهم عليها بأحد المعنيين دون الآخر مع أن تلك الألفاظ ليست شرعية الوجه الحادي عشر قوله أنهم يطلقون لفظ الجسم على الله تعالى إلا أنهم يقولون لانريد به كونه تعالى مؤلفاً من الأجزاء ومركباً من الأبعاض بل نريد به كونه تعالى غنيًّا عن المحل قائماً بالنفس وعلى هذا التقدير فإنه يصير النزاع في كونه تعالى جسماً أم لا نزاعاً لفظيًّا يقال له قد تقدم حكاية أقوال هؤلاء القائلين بالأجزاء أو نفاة ذلك والخلاف مع الطائفتين جميعاً ليس بلفظي محض بل هؤلاء يقولون إنه فوق العرش ومنهم من يقول هو مماس له ويقولون مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف بل هو جسم كما أن الكلابية وأئمة الأشعرية يقولون هو فوق العرش ويقولون ليس(5/408)
بجسم وهؤلاء جميعاً يثبتون ذات الرب تعالى كما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ثم إن كثيراً من الناس النفاة والمثبتين يقولون لا يكون فوق العرش إلا ما كان مركباً من الأبعاض مؤلفاً من الأجزاء وأولئك ينكرون هذا فهذا موضع نزاع بين الطائفتين وليس هو نزاعاً لفظيًّا مطلقاً لكن يقال إذا كان الجسم عند مُطْلِقِهِ لا يكون إلا مؤلفاً مركباً من الأجزاء والأبعاض وهؤلاء يقولونه وينفون هذا المعنى صار النزاع لفظيًّا فيقال هؤلاء وإن نفوا هذا المعنى لكن يثبتون معنى آخر يستلزم عند المنازع هذا المعنى وأيضاً فإنهم إذا قالوا أنه قائم بالنفس غني عن المحل أرادوا بذلك أنه مباين للعالم بالجهة ولايُتَصور عندهم قائم بالنفس إلا كذلك والمنازع يزعم أنه يمكن أن يكون قائماً بالنفس لامبايناً لغيره ولامحايثاً له ولاداخل العالم ولاخارجه وأولئك يقولون هذا خلاف ما يعلم بالضرورة وجحد للمعقول الصريح وأولئك يقولون لهم إثبات ما بين بالجهة خارج العالم ليس بمؤلف ولامركب أيضاً خلاف ما يعلم بالضرورة وجحد(5/409)
للمعقول الصريح وإذا كانت كل طائفة تذكر أن قول الأخرى يتضمن مخالفة العلم الضروري والمعقول الصريح لم يكن هذا النزاع لفظيًّا محضاً ولا هو أيضاً نزاعاً في جميع مسمى الجسم ومسمى القائم بالنفس بل في بعضه فإن أولئك يوافقون هؤلاء على نفي بعض مسمى الجسم وهو التأليف والتركيب ولا يوافقونهم على نفي المباينة بالجهة وامتناع خلوه عن المحايثة والمباينة وهؤلاء يوافقونه في لفظ القائم بالنفس على استغنائه عن الغير وعدم حاجته إليه وهو وجوب الوجود لكن لايوافقونهم على عدم مباينته بالجهة وامتناع قائم بنفسه غير مباين القائم الآخر بغير الحقيقة والزمان بل عندهم كل قائم بنفسه لابد أن يباين القائم الآخر بنفسه بغير الحقيقة والزمان إذ المباينة بالحقيقة والزمان وتوابع ذلك تحصل بين القائم بنفسه وبغيره وبين القائمين بغيرهما فظهر أن الذين يفسرون الجسم بالقائم بنفسه دون التركيب وافقوا أولئك على نفي بعض مسمى الجسم عندهم دون بعض وأولئك وافقوا هؤلاء على إثبات بعض مسمى القائم بنفسه دون بعض وأن أولئك(5/410)
يقولون يعلم بالاضطرار أن كل ما هو قائم بنفسه لايكون إلا جسماً كما يقول هؤلاء يعلم بالضرورة أن ما يكون جسماً لايكون إلا مؤلفاً وقد قدمنا فيما تقدم أنه إذا كانت كل طائفة مصيبة فيما تذكره من العلم الضروري فخطأُ المثبتة أقل من خطأ النفاة في الشرع والعقل فإن المثبتة أثبتت ما علم بالفطرة والشرعة من أن الله فوق العالم وقد وافقها على ذلك سلف الأمة وأئمتها وغايتهم أنهم نفوا بعضهم لوازم ذلك وأما النفاة فإنهم نفوا ما علم بالفطرة والشرعة ثبوته وادَّعَوا وجود موجود يعلم بالفطرة عدمه وأخرجوه عن النقيضين وأثبتوا له النقيضين فكانوا أكثر تناقضاً وتعطيلاً ونفياً للحق وإذا كان كل من العلمين ضروريًّا لزم المعنى الذي سموه تأليفاً وتركيباً واستعمالنا في هذا الموضع وفي غيره لفظ الضرورة مثل قولنا معلوم بالضرورة وبالاضطرار وهذا من العلوم الضرورية ومما يضطر الإنسان إلى العلم به ونحن مضطرون إلى العلم بكذا ونحو ذلك من باب المخاطبة لهم بلغتهم وعرفهم واصطلاحهم وهذا الاصطلاح قد اشتهر حتى صار ظاهراً في ألسنة أهل العلم من عامة الطوائف والذي يضطر إليه الإنسان(5/411)
قد يكون علماً وقد يكون عملاً وقد يراد بالاضطرار إليه وجوده بغير اختياره وقد يراد احتياجه إلى وجوده فإن هذا في الأصل مشتق من الضرر وهذا اللفظ جاء في كتاب الله تعالى متضمناً هذا المعنى كما قال تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) [البقرة 126] وقال أيضاً فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ [البقرة 173] فحذف فاعل اضطر لأن الجوع هو الذي اضطره يعني جعله محتاجاً إلى ذلك والجوع ضرر وهناك يضطر إلى العذاب بمعنى يلجأ إليه بغير اختياره والعذاب هو الضر ر فتارة يكون الضرر من جهة السبب المضطر وتارة من جهة الغاية التي يضطر إليها لكن لما كان هذا متضمناً معنى الإلجاء والاضطهاد والإكراه ونحو ذلك مما فيه عدم الاختيار استعمله هؤلاء فيما يوجد بغير اختيار الإنسان من العلم وإن لم يكن هنالك ضرر وما يوجد بغير اختياره وتارة لا يكون له فيه اختيار أصلاً وتارة يكون مختاراً له من وجه دون وجه كالمضطر إلى الإطعام ولهذا ما كان من القسم الأول سموه ضروريًّا بلا نزاع وما كان من القسم الثاني سماه بعضهم ضروريًّا ولم يسمه بعضهم ضروريًّا بل سماه كسبيًّا(5/412)
واختياريًّا ونظريًّا ومن قال بالأول قال العلوم كلها ضرورية في الانتهاء وهذا حق والنزاع لفظي وهم لا يطبِّقون ذلك إلا على العلوم الصادقة بناءً على أن العبد لايضطر إلى اعتقاد غير حق وهذا صواب في القطرة الصحيحة فإنها مفطورة على الشعور الصحيح والإرادة لكن إذا غيرت الفطرة فقد يضطر إلى إكراه فاسد كالإحساس الفاسد ويضطر إلى إرادة فاسدة كما دل عليه القرآن الوجه الثاني عشر قوله فذلك المشار إليه إما أن لايبقى منه شيء في جوانبه الستة أو يبقى يقال له هؤلاء المنازعون نزاعاً معنويًّا يقولون لايجوز أن يقال يبقى منه شيء ولايجوز أن يقال لا يبقى منه شيء لأن البقاء وعدمه فرع على كونه مركباً منقسماً وإذا قدرنا أنه قائم بنفسه مشار إليه بالحس ليس بمركب لم يَجُز أن يقال يبقى أو لا يبقى فهذا قولهم في المقام الأول فإن قال هذا خلاف الحس أو الضرورة لم يدفع ذلك فإنَّ دَفْعَ ذلك يكون باطلاً من جنس(5/413)
دفعه الباطل بل يقال إما أن يكون هذا حقًّا أو خطأً فإن كان حقًّا فلا كلام عليه وإن كان خطأ فلا ريب أنه أبعد عن الخطأ من دعوى موجود لاداخل العالم ولا خارجاً عنه ولامبايناً لغيره ولامحايثاً له وكون القائم بنفسه لايباين القائم بنفسه إلا بالحقيقة والزمان أو كون القائم بنفسه لا يباين القائم ينفسه بالجهة ونحو ذلك من الأمور التي كُلُّ من فهمها وتصورها علم أنها مخالفة للحس والضرورة ولاريب أن الفطرة هي بذلك أعظم إقراراً منها بهذا فإنك إذا عرضت على كل ذي فطرة سليمة وجود موجود لاداخل العالم ولاخارجه أو وجود الباري لافوق العالم ولافيه ونحو ذلك يكون إنكاره بفطرته ذلك إنكاراً يضطر إليه لا يملك دفعه عن نفسه ولو عرضت عليه موجوداً فوق العالم مشاراً إليه بالحس لايوصف بأنه يبقى منه شيء في جوانبه الستة أو لايبقى لم يكن إنكاره لهذا بفطرته وبديهته كإنكاره لذلك فإنَّ فَهمَ هذا أدق وهو بعد فهمه أقرب إلى دخول الشبهة فيه من الأول ولهذا كان الذين قالوا ذلك فيهم من فضلاء المسلمين وأعيان العلماء ما ليس في أولئك فإن أولئك ليس فيهم من يقلده المسلمون فرعاً من فروع الدين فضلاً عن أن يقلدوه أصول دينهم ولا فيهم إلا من له مقالات تخالف إجماع المسلمين بل هو كفر صريح(5/414)
الوجه الثالث عشر قوله وإما أن يبقى منه شيء فهذا يقتضي كونه مركباً مؤلفاً من الجزأين أو أكثر يقال هذا مبنيٌّ على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة وهذا فيه نزاع مشهور فالمؤسس من الموافقين في هذا الأصل فالمنازع يقول لا أسلِّم أنه إذا بقي منه كان مركباً من الجزاء بل هو واجب في نفسه وإن تميز في الحس أو العلم منه شيء عن شيء الوجه الرابع عشر أن هذا بعينه يَرد عليك في جميع ما أثبته من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك وهذا قد أورده عليك نفاة الصفات فقال في حجتهم إن ذات الله لو كانت موصوفة بصفات قائمة لها لكانت حقيقة الإلهية(5/415)