ـ[بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية]ـ
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: مجموعة من المحققين
الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الطبعة: الأولى، 1426هـ
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
m_almansour@yahoo.com
3/10/1431هـ - 12/9/2010م(/)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الأول
سبب تأليف الكتاب - العلو - الاستواء - الجهة -
الوجه - اليد - الدهر - الوجود
حققه
د. يحيى بن محمد الهنيدي(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما وصفه به خلقه، الذي لا يبلغ شكر نعمته إلا بنعمته، ولا تنال طاعته إلا بمعونته.
والحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب: 70-71] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا(1/3)
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) } [آل عمران: 102-107] .
أما بعد فإني كنت سئلت من مدة طويلة، بعيد سنة تسعين وستمائة عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمت من حماة، فأحلت السائل على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني لا بد، فكتبت الجواب في قعدة بين الظهر والعصر، وذكرت فيه مذهب السلف والأئمة والمبني على الكتاب والسنة، المطابق لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ولما يعلم بالأدلة العقلية، التي لا تغليظ فيها، وبينت ما يجب من مخالفة الجهمية المعطلة؛ ومن قابلهم من المشبهة(1/4)
الممثلة، إذ مذهب السلف والأئمة؛ أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال نعيم بن حماد(1/5)
الخزاعي: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيهًا.
وكان السلف والأئمة، يعلمون أن مرض التعطيل، أعظم من مرض التشبيه، كما يقال: المعطل أعمى، والمشبه أعشى، والمعطل يعبد عدمًا، والمشبه يعبد صنمًا.
فكان كلامهم وذمهم للجهمية المعطلة أعظم من كلامهم وذمهم للمشبهة الممثلة، مع ذمهم لكلا الطائفتين. وحصل بعد ذلك من الأهواء والظنون ما اقتضى أن اعترض قوم على خفي هذه الفتيا بشبهات مقرونة بشهوات.
وأوصل إليّ بعض الناس مصنفًا لأفضل القضاة المعارضين،(1/6)
وفيه أنواع من الأسئلة والمعارضات، فكتبت جواب ذلك وبسطته في مجلدات.
ثم رأيت أن هؤلاء المعترضين ليسوا مستقلين بهذا الأمر، استقلال شيوخ الفلاسفة والمتكلمين، فالاكتفاء بجوابهم لا يحصل ما فيه المقصود للطالبين، وآثار الكلام فيها الشبه المعارضة لما أنزل الله من الكتاب، حتى صارت السنة تُضِلُّ ما شاء الله من الفضلاء، أولي الألباب في هذا الباب، وحصل من الاشتباه والالتباس، ما أوجب حيرة أكثر الناس، واستشعر المعارضون لنا، أنهم عاجزون عن المناظرة، التي تكون بين أهل العلم والإيمان، فعدلوا إلى طريق أهل الجهل والظلم والبهتان، وقابلوا أهل السنة بما قدروا عليه من البغي باليد عندهم واللسان، نظير ما فعلوه قديمًا من الامتحان.(1/7)
وإنما يعتمدون على ما يجدونه في كتب المتجهمة المتكلمين. وأجل من يعتمدون كلامه هو أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي إمام هؤلاء المتأخرين، فاقتضى ذلك أن أتم الجواب عن «الاعتراضات المصرية، الواردة على الفتيا الحموية» بالكلام على ما ذكره أبو عبد الله الرازي في كتابه الملقب «بتأسيس التقديس» ليتبين الفرق بين البيان والتلبيس، ويحصل بذلك تخليص التلبيس، ويعرف فصل الخطاب فيما في هذا الباب، من أصول الكلام، التي كثر بسببها بين الأمة النزاع والخصام، حتى دخلوا فيما نهوا عنه من الاختلاف في الكتاب، والقول على الله بغير علم الخطأ من الصواب، بل في أنواع الشك، بغير بيان من الله ولا دليل، ودخلوا فيما [يخالف(1/8)
النصوص] من البراهين العقلية المعارضة.
(وإذا حققت القضايا العقلية الصريحة، ظهر دلالتها على فساد ما عارضوا به النصوص الصحيحة، التي التبست على كثير، ووقع بها التلبيس، وأنا أذكر ما ذكره أبو عبد الله الرازي، من) مذاهب أهل النفي والتعطيل، وما السبب الذي ضلوا به عن السبيل، لتقام المناظرة، مقام عدل وإنصاف، وإن كان المخالف من أهل الجهل والانحراف.
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] وأكثر الطالبين للعلم والدين، ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرتْ في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان، أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، [فظنوا] أنه(1/9)
من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـ[ون] في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، [ولا] يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مريدًا -لعلمي بأن هذا كفر مبين- وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين، فلهذا ذكرت ما ذكره «أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي» المعروف بابن خطيب الري، الإمام المطلق في اصطلاح المقتدين به من أهل الفلسفة والكلام، المقدَّم عندهم على من تقدمه من صنفه في الأنام، القائم عندهم بتجديد الإسلام، حتى قد يجعلونه في زمنه ثانيَ الصديق في هذا المقام، لما ردّه في ظنهم من أقاويل(1/10)
الفلاسفة بالحجج العظام، والمعتزلة ونحوهم، ويقولون: إن «أبا حامد» ونحوه، لم يصلوا إلى تحقيق ما بلغه هذا الإمام، فضلًا عن «أبي المعالي» ونحوه، ممن عندهم فيما يعظمونه من العلم والجدل بالوقوف على نهاية الإقدام، وإن «الرازي» أتى في ذلك من نهاية العقول والمطالب العالية، بما يعجز عنه غيره من ذوي الإقدام، حتى كان فهم ما يقوله عندهم هو غاية المرام، وإن كان فضلاؤهم مع ذلك معترفين بما في كلامه من كثرة التشكيك في الحقائق، وكثرة التناقض في الآراء والطرائق، وأنه موقع لأصحابه في الحيرة والاضطراب، غير موصل إلى تحقيق الحق، الذي تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه الألباب، لكنهم لم(1/11)
يروا أكمل منه في هذا الباب، فكان معهم كالملك مع الحجَّاب، وكان له من العظمة والمهابة في قلوب الموافقين له والمخالفين ما قد سارت به الركبان، لما له من القدرة على تركيب الاحتجاج والاعتراض في الخطاب، وها نحن نذكر ما ذكره «أبو عبد الله الرازي» في كتابه الذي سماه «تأسيس التقديس» وضمنه الرد على مثبتي الصفات، القائلين بالعلو على العرش وبالصفات الخبرية الواردة في الأحاديث والآيات، فإنه استقصى في هذا الباب الحجج التي للجهمية من السمعيات والعقليات، وبالغ فيها بأعظم المبالغات، إذ صنف الكتاب مفردًا في ذلك، مجردًا في أمور الذات، وتأول فيه الآيات والأحاديث، الواردة في ذلك بما ذكره من أباطيل التأويلات، وذكر فيه ما ذكره من حجج(1/12)
مخالفيه، وأجاب عنها بما أمكنه من الجوابات فكان [عمدتهم في هذا الباب] فإذا عرف نهاية ما عند القوم من الدلائل والمقالات، كانت معرفة ذلك من أعظم نعم الله على من هداه، من أهل العلم والإيمان، فإنه يزداد بذلك يقينًا واستبصارًا، فيما جاء به القرآن والبرهان، ويتمكن من ذلك من نصر الله ورسوله بالغيب، وبيان ما في هؤلاء المخالفين للكتاب والسنة من العيب، ونحن ننبه عندما يذكره من أصول الكلام، على توصله إلى معرفة حقيقة ذلك المقام. وهذا الكتاب الذي صنفه الرازي على عادته وعادة أمثاله من المتفلسفة والمتكلمين في تصنيف الكتب لعظماء الدنيا من الملوك والوزراء، والقضاة والأمراء، وذويهم ليُنَفِّقُوا بجاه هؤلاء كلامهم حقًّا كان أو باطلًا، وسواء قصدوا به وجه الله، أو قصدوا به العلو في الأرض أو الفساد، وكان ملك الشام ومصر في زمانه الملك العادل، أبو بكر بن أيوب. فصنفه(1/13)
وأهداه له، ظنًا أنه بجاهه ينتشر، واعتقادًا فيه أنه يختار مذهب أهل النفي، ولم يكن الملك من هؤلاء النفاة، كما أخبر بذلك عنه ابنه الأشرف وغيره، بل ظهر من سيرته ما يدل على محبته، وتعظيمه لأهل الإثبات، والله أعلم بحقيقة ما له في الدقائق المشكلات، والمعروف عنه وعن أهل بيته من تعظيم الحديث وأهله، والقيام بإحياء ذلك ينافي الطريقة التي نصرها الرازي في «تأسيس تقديسه» وإن كان في أهل بيته من يميل إلى النفي، ومنهم من يميل إلى الإثبات، فلعله كان في بعض حاشيته من يميل إلى النفي، وكان للرازي من الشهرة ما أوجب استعانة النفاة به، والله أعلم [بـ] أمثال هذه الأحوال، وقد ذكر في خطبة كتابه، ما هو من جنس خطب الجهمية، التي كان يخطب بمثلها أحمد بن أبي دؤاد، على طريقة بشر(1/14)
المَرِيسي وذويه، فقال في خطبته: «المتعالية عن شوائب التشبيه والتعطيل صفاته وأسماؤه» وهذا حق، ثم قال: «فاستواؤه: قهره واستيلاؤه، ونزوله: بره وعطاؤه، ومجيئه: حكمه وقضاؤه، ووجهه: وجوده أو جوده وحباؤه، وعينه: حفظه، وعونه: اجتباؤه، وضحكه: عفوه، أو إذنه وارتضاؤه، ويده: إنعامه وإكرامه واصطفاؤه» .(1/15)
ثم قال: «وإني وإن كنت ساكنًا في أقصى بلاد المشرق، إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب، مطبقين متفقين، على أن السلطان المعظم، العالم العادل المجاهد، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أفضل سلاطين الحق واليقين «أبا بكر بن أيوب» لا زالت آيات راياته في تقوية الدين الحق، والمذهب الصدق، متصاعدة إلى عَنَان السماء وآثار أنوار قدرته ومكنته باقية، بحسب تعاقب الصباح والمساء، أفضل الملوك وأكمل السلاطين، في آيات الفضل، وبينات الصدق، وتقوية الدين القويم، ونصرة الصراط المستقيم، فأردت أن أتحفه بتحفة سنية، وهدية مرضية، فأتحفته بهذا الكتاب، الذي سميته «بأساس التقديس» على بعد الدار وتباين الأقطار» .
قلت: وفي إظهاره من جهة المشرق، ما لم يرد به الكتاب والسنة، بل يخالف ذلك مطلقًا، من اجتناب ذلك(1/16)
واتقائه، حيث قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم إخباره بأن الفتنة ورأس الكفر من المشرق، الذي هو مشرق مدينته كنجد وما يشرق عنها، كما في الصحيحين عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «ألا إن الفتنة من ههنا -يشير إلى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية «قال -وهو مستقبل(1/17)
المشرق-: إن الفتنة ههنا ثلاثًا» وذكر في رواية لمسلم: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة، قال: «رأس الكفر من ههنا ومن(1/18)
حيث يطلع قرن الشيطان» وأخرجاه من حديث نافع عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» ورواه البخاري من(1/19)
حديث عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا. فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان» . وفي الصحيحين من حديث الأعمش، عن أبي صالح، ذكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن،(1/20)
هم ألين قلوبًا، وأرق أفئدة، والإيمان يماني، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق» وفي رواية: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» .
ورواه البخاري من حديث أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يماني، والفتنة ههنا، ههنا حيث يطلع قرن الشيطان» .(1/21)
ورواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان والكفر قبل المشرق، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والرياء في الفدّادين؛ أهل الخيل والوبر» . ورواه(1/22)
مسلم أيضًا من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاء أهل اليمن، أرق أفئدة، وأضعف قلوبًا، الإيمان يمان، الحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدَّادين أهل الوبر، قبل مطلع الشمس» . ولا ريب أنه من هؤلاء ظهرت الردَّة وغيرها من الكفر، من جهة «مسيلمة الكذاب» وأتباعه، و «طليحة الأسدي»(1/23)
وأتباعه، و «سجاح» وأتباعها، حتى قاتلهم «أبو بكر الصديق» ومن معه من المؤمنين، حتى قتل من قتل، وعاد إلى الإسلام من عاد مؤمنًا أو منافقًا.(1/24)
قال «الرازي» : «ورتبت الكتاب على أربعة أقسام، القسم الأول: في الدلائل الدالة على أنه تعالى منزه عن الجسمية، والحيز. وفيه فصول.
الفصل الأول: في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها، قبل الخوض في الدلائل، وهي ثلاثة:
المقدمة الأولى: اعلم أنا ندعي وجود موجود، لا يمكن أن يشار إليه بالحس، أنه ههنا أو هنالك، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، أو نقول: إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء(1/25)
من الجهات الست، التي للعالم، وهذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد» .
قلت: قوله: «من الجهات الست التي للعالم» قد يستدرك عليه، كما قرره في هذا الكتاب وغيره، فإن العالم ليس له ست جهات، بل ليس له إلا جهتا العلو والسفل فقط، وإنما الجهات الست للحيوان، كالإنسان وغيره من الدواب، الذي يؤم جهة فيكون أمامَها، ويُخَلِّفُها فتكون خلفه وتحاذي أعلاه وأسفله، ويمينه وشماله، فلو قال: من الجهات الست، وسكت لكان أجود، لأن الجهات الست حينئذٍ تكون [للإنسان] ونحوه، أو لو قال: من الجهات الست [التي للحيوان] ، ولكن المقصود بكلامه معروف؛ وهو دعواه ودعوى موافقيه النفاة؛ وهم الجهمية عند السلف وأهل الحديث وأتباعهم، فإن أول من أظهر هذه المقالة، المنافية للإسلام، ودعا إليها، واتبع عليها «الجهم» فمقصوده: ذكر دعواه، ودعوى هؤلاء النفاة معه؛(1/26)
وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين له.
قال «الرازي» : «ومن المخالفين من يدعي: أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة، وقالوا: لأن العلم الضروري حاصل، بأن كل موجودَيْن، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا عنه، مختصًّا بجهة من الجهات الست المحيطة به. قالوا: وإثبات موجودَيْن، على خلاف هذه الأقسام السبعة، باطل في بديهة العقل» .
قلت: الذي يدعيه هؤلاء: أن كل موجودَيْن، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا له، ويلزم من ذلك أن يكون مختصًّا بعينِ غيره، ولا يجب أن يقولوا: إنه لا بد أن يختص بجهة من الجهات الست، المحيطة به، إلا أنه يجب أن يكون لكل موجود ست جهات، وهذا ليس مما يعلم ولا يقوم(1/27)
عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإن كان قد يَظُنُّ هذا بعض الناس ظنًّا لا دليل عليه، بل المعلوم لكثير من الناس بالأدلة الشرعية [و] العقلية أن العالَََمَ ليس له ست جهات، بل جهتان العلو والسفل، وفي الجملة فمن المعلوم بالضرورة لكل أحد، إمكان وجود جسم مستدير، وأنه ليس له ست جهات، بل جهة أعلاه ومحيطه، وجهة سفله ومركزه، ومعلوم أن الموجود مع هذا الجسم، لا يقول عاقل: إنه يجب أن يكون مختصًا بجهة من الجهات الست المحيطة به، إذ ليس له ست جهات، بل لا يحيط به إلا جهة واحدة، فالمباين له لا يكون مختصًا إلا بجهة واحدة، لا بست جهات، فهؤلاء يقولون: إثبات موجودين على خلاف هذين القسمين يكون باطلًا بالضرورة، وهو أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر محايثًا له أو مباينًا له منفصلًا عنه، سواء كان مباينته بجهة واحدة أو جهات متعددة، إذا عرف ذلك فالقول بأن هذا القول المتضمن إثبات موجودين لا متحايثين ولا متباينين باطل بالضرورة، معلوم الفساد بالفطرة، وهو قول عامة أئمة الإسلام وأهل العلم، كما صرحوا بذلك في مواضع(1/28)
لا تحصى من كلامهم، وذكروا أن هذا النفي الذي ذكره جهم، مما يعلم بفطرة الله التي فطر الناس عليها، أنه باطل محال متناقض، لوصفه لواجب الوجود بماهو ممتنع الوجود، فهم مع إقرارهم بوجوده، وصفوه بما هو نفي وتعطيل، وسلب لوجوده، وهو قول عامة أهل الفطر السليمة من جميع أصناف بني آدم من المسلمين، واليهود والنصارى، والمشركين وغير [هم] وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من كلام الأئمة في غير هذا(1/29)
الموضع.
كما قال عبد العزيز بن يحيى الكناني المشهور، صاحب الشافعي، صاحب «الحيدة» في كتاب «الرد على الزنادقة والجهمية» : «باب قول الجهمي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] . زعمت الجهمية أن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إنما المعنى: استولى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها. فإن البيان لذلك بأن يقال له: هل يكون(1/30)
خلقٌ من خلقِ الله تعالى، أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، يقال له: يلزمك أن تقول: العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، ذلك أن الله تعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، ثم خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرًا، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7] وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } [البقرة: 29] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ، فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السموات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى، فإنما استوى بزعمه في ذلك الوقت لا قبله.
وقد روى عِمرَان بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقبلوا(1/31)
البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح ذكر كل شيء» . وروي عن أبي رُزَين العُقَيلي وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال: يا رسول الله أين كان الله ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «كان في عماء، فوقه هواء وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء» . فقال، يعني الجهمي: أخبرني كيف استوى على(1/32)
العرش؟ أهو كما يُقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلانًا وحده، إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنَّا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا.
باب البيان لذلك. يقال له: أما قولك كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحَرَّمَ عليهم أن يصفوا كيف استوى، لأنه لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحَرَّم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا(1/33)
بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استواؤه إلى الله، ولكن لزمك أيها الجهمي أن تقول، إن الله عز وجل محدود، وقد حوته الأماكن إذا زعمت في دعواك أنه في الأماكن، لأنه لا يُعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجُبِّ، والبيت قد حوى فلانًا والجُبُّ قد حوى الماء.
ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت النصارى وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل حلّ في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك وقيل لهم: ما أعظم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلها، وبدن عيسى، وأبدان الناس(1/34)
كلهم، ويلزمك أيضًا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أنه في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا! فلما شنعت مقالته قال: أقول إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجًا عن الشيء ولا مباينًا للشيء.
باب البيان لذلك: يقال له: أصل قولك القياس والمعقول، فقد دلَّلت بالقياس والمعقول، على أنك لا تعبد شيئًا، لأنه لو كان شيئًا ما خلا في القياس والمعقول، أن يكون داخلًا [في الشيء] أو خارجًا منه، فلما لم يكن في قولك شيءٌ، استحال أن يكون كالشيء في الشيء، أو خارجًا من الشيء، فوصفت شيئًا لا وجود له؛ وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل» .
قلت: فقد بيَّن أن القياس والمعقول يوجب أن [ما] لا يكون في الشيء ولا خارجًا منه، فإنه لا يكون شيئًا، وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له، فالقياس: هو الأقيسة العقلية، والمعقول: هو العلوم الفطرية، وذكر بعد هذا كلامًا في تمام هذه المسألة لا يناسب هذا المكان.
وقال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فيما(1/35)
خرجه في «الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولت غير تأويله» ، وقد ذكر هذا الكتاب أبو بكر الخلال في كتاب «السنة» ونقله بألفاظه، وذكره القاضي أبو يعلى وغيرهما.
قال فيه: «بيان ما أنكرت الجهمية الضلال، أن يكون الله تعالى على العرش.
قلنا: لِم أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقال:(1/36)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } [الفرقان: 59] قالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السموات وفي الأرض، وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلَوْا آيات من القرآن: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16-17] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} [الأنبياء: 19] وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ(1/37)
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18] فهذا خبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) } [فصلت: 29] وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس [في مكان واحد] ، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12] قال: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلًا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر بني آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه -وله المثل الأعلى-، قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه، وخصلة أخرى؛ لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم(1/38)
أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه وله المثل الأعلى، قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق» .
قال أحمد رضي الله عنه: «ومما تأوّل الجهمية من قول الله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أول؟ إن الله يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثم قال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني أن الله بعلمه رابعهم. {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [يعني] بعلمه فيهم {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } [المجادلة: 7] يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه.(1/39)
ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه. فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم. فقد زعم أن الله بائن من خلقه، وأن خلقه دونه. وإن قال: لا، كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه، أو خارج عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل [لا بد له من] واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة» . انتهى كلام أحمد.(1/40)
فقد بين الإمام أحمد، ما هو معلوم بالعقل الصريح، والفطرة البديهية؛ من أنه لا بد أن يكون خلق الخلق داخلًا في نفسه، أو خارجًا من نفسه، فالحصر في هذين القسمين معلوم بالبديهة، مستقر في الفطرة، إذ كونه خلقه لا داخلًا ولا خارجًا معلوم نفيه، مستقر في الفطرة عدمه، لا يخطر بالبال، مع سلامة الفطرة وصحتها، وقد بين أيضًا الإمام أحمد امتناع ما قد يقوله بعض الجهمية: من أنه في خلقه لا مماس ولا مباين، كما يقول بعضهم: أنه لا داخل الخلق ولا خارجه. فقال: «بيان ما ذكر الله في القرآن من قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] وهذا على وجوه: قول الله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] يقول: في الدفع منكما. وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] يعني: في الدفع عنا. وقال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } [البقرة: 249] يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] يعني: في النصر لكم على عدوكم. وقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ(1/41)
اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] يقول: بعلمه فيهم. وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) } [الشعراء: 61-62] يقول: في العون على فرعون» . قال: «فلما ظهرت الحجة على الجهمي فيما ادعى على الله أنه مع خلقه [قال: هو] في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه، فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا. قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب. فقال: بلا كيف. يخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم. فقلت له: إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء؟ قال: بلى. قلنا: فأين يكون ربنا؟ قال: يكون في الآخرة في كل شيء، كما كان حيث كان في الدنيا في كل شيء. قلنا: فإن مذهبكم أن ما كان من(1/42)
الله على العرش [فهو على العرش] ، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء.
فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله» . وسيأتي ما ذكره «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» إمام المتكلمة الصفاتية من الأشعرية ونحوهم، مثل(1/43)
قوله: «وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فنفاه نفيًا مستويًا، لأنه لو قيل له: صفه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، وردَّ أخبار الله نصًّا، وقال في ذلك بما لا يجوز من خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم، هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسيون» .
قال: «فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلوّ الأماكن منه، وانفراد العرش به. قيل: إن كنتم تعنون بخلوّ الأماكن من تدبيره، وأنه عالم بها فلا، وإن كنتم تذهبون إلى خلوه من استوائه عليها، كما استوى على العرش، فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت» .(1/44)
وقال أيضًا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، فيما حكاه عنه ابن فورك: «يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا: نعم. قيل: ما تعنون بقولكم أنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة. قيل لهم: ليس عن هذا سألناكم. وإن قالوا: المسألة خطأ. قيل: فليس هو فوق. فإن قالوا: نعم ليس هو فوق. قيل لهم: وليس هو تحت. وإن قالوا: ولا تحت. أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم، وإن قالوا: هو تحت وهو فوق. قيل لهم: فوق تحت وتحت فوق» . وذكر عنه أنه قال في كتاب «التوحيد» في مسألة الجهمية: «يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال. فلا بد من نعم، قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين. فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين، الذي لا يكون ولا يثبت [إلا] في الوهم. فإن قالوا: نعم. قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من كل جهة، كما كان بصفة المحال من هذه الجهة. وقيل لهم: أليس لا يقال [لما] ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين. فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم، مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون: عدم، كما(1/45)
تقولون الإنسان عدم، إذا وصفتموه بصفة العدم. وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودًا له، وكان العدم وجودًا. كان الجهل علمًا والعجز قوة» .
وبهذا احتج القاضي «أبو يعلى» في أحد قوليه، قال في كتاب «إبطال التأويل» : «فإذا ثبت أنه على العرش، والعرش في جهة، وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك، لأن «أحمد» قد أثبت هذه الصفة، التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب «ابن كرَّام»(1/46)
و «ابن منده الأصبهاني» المحدث، والدليل عليه أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة، لأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء، وفي هذا كفاية، ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية، يقول: ليس هو في جهة ولا خارجًا منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده، ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم.(1/47)
وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة، بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان» آخر كلام القاضي.
فصل
قال «الرازي» : «واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية، لم يكن الخوض في ذكر الدلائل جائزًا، لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه، كان الشروع في الاستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه بالجهة إبطالًا للضروريات، والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع، وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معًا، وهو باطل، بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية، حتى يزول هذا الإشكال» .
قلت: ما ذكره على التقدير حق، كما ذكره، ولهذا يوجد عامة أهل الفطر الصحيحة، ممن عرف هذا وأمثاله، من العلوم البديهية والضرورية والفطرية، إذا سمع كلام المتكلمين، وجدال المجادلين، الداعين للنظر والاستدلال، في دفع هذه الضرورة،(1/48)
لم يلتفتوا إلى كلامهم، بل هم أحد رجلين؛ إما رجل عارف بحل شبههم وبيان تناقضها، وإمّا رجل معرض عن ذلك إما لعجزه عن حَلِّه، وإمَّا لاشتغاله بما هو أهم عنده من ذلك، وإمَّا حسمًا لمادة الخوض في مثل كلامهم الباطل، وهذه طريقة أهل العلم والإيمان، فيمن يجادل بالباطل، المخالف للفطرة والشرعة، وهذا هو الصواب، دون ما عليه مخالفوهم، من أنهم يخالفون الفطرة والكتاب، بأنواع من الحجج المدَّعاة، ثم يزعمون أنها قواطع مخالفة للشرع، وأنها أصل الشرع، فالقدح فيها قدح في الشرع، فإن هؤلاء بدلوا الأمر وقلبوه، كما بيناه في موضعه بخلاف من قرر العلوم الفطرية البديهية، والعلوم السمعية الشرعية، وما وافق ذلك، دون ما خالف ذلك من الحجج القياسية، وإذا كان هؤلاء قد سلكوا السبيل الحق، كما ذكره على ذلك التقدير، لمن يكره ما ذكره، دافعًا لهم، لا دافعًا للناظر في نفسه، ولا للمناظر مع غيره، فقوله: «يجب علينا(1/49)
أن نبين [أن] هذه المقدمة، ليست من المقدمات البديهيات حتى يزول الإشكال» ليس بقول سديد، ولا ينفعه ولاينفع غيره، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، لأن الناظر الذي بَدَه قلبه العلم بهذه المقدمة، واضطر إلى الإقرار بها، وقد فطر عليها، كيف يزول ذلك عنه بالنظر والجدل، وهو قد سلم أن القدح في الضروريات بالنظريات لا يجوز.
قال الحافظ أبو منصور بن الوليد البغدادي في رسالته التي كتبها إلى «الفقيه محمود الزنجاني» أن «أبا محمد الحافظ الحراني» يعني: «عبد القادر الرهاوي» أنا الحافظ(1/50)
«أبو العلاء» يعني: الهَمْداني أنا «أبو جعفر» الحافظ سمعت «أبا المعالي الجويني» ، وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] . وقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، فقلت: يا هذا قد علمنا(1/51)
ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة، فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة، فقلت: ما قال عارف قط يا رباه، إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينه لنا لنتخلص من الفوق، وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكمه على السرير، وصاح بالحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد، وترك ولم يجبني إلا بيا حبيبي الحيرة، والدهشة الدهشة، وسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني «الهمداني» .
ولهذا روى عنه «أبو الفتح محمد بن علي الطبري» الفقيه قال: دخلت على الإمام «أبي المعالي الجويني» الفقيه، نعوده(1/52)
في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأقعد. فقال لنا: «اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أَموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور» رواها عنه «الحسن بن العباس الرستمي الأصبهاني» مفتي أصبهان ومحدثهم، قال حدثنا «أبو الفتح» فذكرها كما ذكرها «ابن الوليد» فلما تكلم «أبو المعالي» على منبره، في نفي علو الله على(1/53)
العرش، بأن الله كان قبل العرش، ولم يتجدد له بالعرش حال، قام إليه هذا الشيخ «أبوجعفر الهمداني» الحافظ، فقال: قد علمنا ما أشرت إليه، أي: دعنا من ذكر العرش، فإن العلم بذلك سمعي عقلي، ودعنا من معارضة ذلك بهذه الحجج القياسية، فهل عندك للضرورات من حيلة، أي: كيف تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟ ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فبينها نتخلص من الفوق والتحت، قال: فصاح «أبو المعالي» وضرب على السرير، وخرق ما كان عليه، ولم يجبه إلا بقوله: الحيرة الحيرة، الدهشة الدهشة، وكان يقول: حيرني الهمداني. وذلك لأن العلم باستواء الله على العرش بعد خلق السموات والأرض، إنما علم بالسمع، أمَّا العلم بعلو الله على العالم فهو معلوم بالفطر الضرورية وعند الاضطرار في الحاجات لا يقصد القلب إلا ما يعلم كما يعلم، فقال لأبي المعالي: ما تذكره من الحجج النظرية، لا تندفع به هذه الضرورة، التي هي ضرورة في القصد، المستلزم للضرورة في العلم، فعلم أبو المعالي أن هذه معارضة صحيحة، فقال: حيرني الهمداني، لأنه عارض ما ذكره من النظر، بما بينه من الضرورة، فصرخ حائرًا، لتعارض العلم الضروري والنظري، ولأن هذه الضرورة الموجودة(1/54)
الموجودة في القلوب علمًا وقصدًا، ولا يمكن أحدٌ نزعها إلا بإحالة الفطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» وأما المناظر، فإذا قال لمنازعه هذا، إن ما علمه بالضرورة والبديهة، أو هذه المقدمة بديهية أو ضرورية عندي، لم يكن له أن يناظره ببيان ما ينافي الأمر الضروري، كما ذكره، فإن غايته في ذلك أن يستدل بمقدمات، يسندها إلى مقدمات ضرورية، فلو قدر أن البديهيات تتعارض، أو تعارضت عند شخص لم يكن دفعها هذا البديهي، لهذا البديهي، بأولى من العكس، فكيف إذا كان المعارض لها(1/55)
أمورًا نظرية، مستندة إلى بديهية؟ فلا ينقطع المناظر بمثل هذا، فلا ينتفع به الراد عليه، ولاينتفع به الناظر كما تقدم، ولكن إذا ادعى شخص في مقدمة أنها فطرية، فإما أن يعتقد كذبه أو يعتقد صدقه، فإن اعتقد أنه كاذب، عومل بما يعامل به مثله من الكذابين الجاحدين، على ما وردت به الشريعة، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] .
وعامة الكفار من هذا النوع، وإن اعتقد أنه صادق فيما يخبر به عن نفسه، ولكنه مخطئ، لاشتباه معنى عليه بمعنى آخر، [أ] واشتباه لفظ بلفظ، أو غير ذلك، أو لخلل وقع في إدراك حسِّه وعقله، أو لنوع هوى خالط اعتقاده، فهذا طريقه أن يبين له ما يزيل الاشتباه، حتى يتميز له أن الذي اضطر إليه من العلم ليس هو الذي نوزع فيه، بل هو غيره أو يصلح إدراكه بإزالة الهوى، [أ] والاعتقاد الفاسد، الذي جعله يظن ما ليس بضروري ضروريًّا، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } [الأنعام: 110] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) } [النساء: 155] وقال تعالى:(1/56)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } [الأعراف: 179] وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } [محمد: 24] وقال تعالى: {إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) } [محمد: 16] وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] فالمقصود أن هذا النوع من السفسطة، فإن دعوى العلم الضروري فيما ليس كذلك، بمنزلة إنكار الضروري، فيما هو ضروري، فصاحب هذا إمَّا متعمد للكذب، وإمَّا مخطئ، والخطأ في أسباب العلم: إمَّا لفوات شرط العلم، من فساد قوى الإدراك وضعفها، أو عدم التصور التام لطرفي القضية، التي يحصل العلم بالتصديق عند(1/57)
تصور طرفيْها، أو لوجود مانع من الأهواء الصاد [ة] عن سبيل الله، فإذا كان كذلك فلا تحصل معرفة الحق إلا بوجود شروطه وانتفاء موانعه، وإلا فمع عدم هذين قد تنكر العلوم الضرورية، أو يجعل ما ليس بضروري ضروريًّا، والمثبتون يقولون للنفاة: أنتم في نفي هذا العلم الضروري، لا تخرجون عن هذه الأقسام، التي لا يخرج عنها مسفسط. والنافون يقولون للمثبتة: بل أنتم المدعون للعلم الضروري مع انتفائه، والمؤسس في مقام بيان أنه ليس عند منازعيه علم ضروري بما ذكروه، وهو لا يمكنه نفي ذلك، وليس فيما ذكره ما ينفي ذلك، فظهر انقطاعه وانقطاع نظرائه معه في أوّل مقام.(1/58)
فصل
قال «الرازي» : «فنقول الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية، وجوه:
الأول: أن جمهور العقلاء المعتبرين، اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز، ولا مختص بشيء، من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء من الجهات، ولو كان فساد هذه المقدمات معلومًا بالبديهة لكان إطباق أكثر العقلاء على إنكارها ممتنعًا، لأن الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكارالضروريات، بل نقول: الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة، ولا حالة في المتحيزة، مثل العقول والنفوس والهيولي، بل زعموا أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا موجود، ليس بجسم ولا جسماني، ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى منكرون(1/59)
للبديهيات، بل جمع عظيم من المسلمين اختاروا مذهبهم مثل «معمر بن عباد السلمي» من المعتزلة، ومثل «محمد بن نعمان» من الرافضة، ومثل «أبي القاسم الراغب» و «أبي حامد الغزالي» من أصحابنا، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يقال بأن القول بأن الله تعالى ليس بمتحيز، ولا حال في المتحيز، قول مدفوع في بداية العقول» .(1/60)
قلت: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن ما ذكره من المقالات بمبلغ علمه، وما عرفه من الرجال، وأقوالهم، وعامة ما عنده ما بلغه من أقوال طوائف من المتكلمين والمتفلسفة، مثل طوائف من المعتزلة والرافضة، وطوائف من متفلسفة الإسلام، وطوائف من متأخري أتباع الأشعري، ثم إنه جعل هؤلاء جمهور العقلاء المعتبرين.
وأما مقامات سائر أهل الملل من اليهود وأصنافهم والنصارى وأنواعهم فهو من أقل الناس معرفة بها، كما تدل عليه كتبه، مع أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المشركين(1/61)
والصابئين، فله نوع خبرة بكثير من مقالات المشركين، الذين صنفوا على طريقتهم، في السحر وعبادة الكواكب والأصنام، وبكثير من مقالات الصابئين من المتفلسفة ونحوهم، ما ليس له من الخبرة بمقالات اليهود والنصارى، الذين هم أقرب إلى الهدى، وأبعد عن الضلال من المشركين والصابئين، ودينهم(1/62)
خير من دين المشركين، والمجوس، والصابئين، باتفاق المسلمين، ومن المعلوم أن هذه المسألة هي من أعظم مسائل أصول الدين، التي يتكلم فيها عامة طوائف بني آدم، فمن لم يكن له خبرة بمقالات بني آدم، كيف يحكم على جمهور العقلاء المعتبرين؟ وهو لم يعرف من مقالات عقلاء بني آدم إلا مقالات طوائف قليلة بالنسبة إلى هؤلاء، فأمَّا أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فلا خبرة له ولا أمثاله بمقالاتهم في هذا الباب، كما تشهد به مصنفاته، ومصنفات أمثاله، وكذلك لا خبرة له بمقالات أئمة الفقهاء، وأئمة أهل الحديث والتصوف، وكذلك لا خبرة له بمقالات طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، من المرجئة(1/63)
والشيعة وغيرهم، ممن قد حكى أقوالهم طوائف «كالأشعري» وغيره، فإن كتبه تدل على أنه لم يعرف مقالات(1/64)
أولئك، بل لا خبرة له أيضًا بحقائق مقالات أئمة أصحابه «كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاّب» و «كأبي العباس القلانسي» وأمثالهم، بل لا خبرة له بحقائق مقالات «الأشعري» التي ذكرها في نفس كتبه، ولهذا لا ينقل شيئًا من كلام «الأشعري» نفسه من كتبه «كالموجز» و «المقالات» و «الإبانة» و «اللمع» وغير ذلك، بل كثير من مقالات أئمة الأشعرية في هذا الباب وغيره، من مسائل الصفات، وفي مسائل القدر وغير ذلك، لم يكن يخبرهـ[ـا] كما تدل عليه مصنفاته، وهو أيضًا إنما يخبر من مقالات غير الإسلاميين، ما يخبره من مقالات الفلاسفة(1/65)
المشائين ونحوهم، ممن توجد مقالته في كتب ابن سينا، وأمثاله (من الدهرية، والثنوية، والمجوس وغيرهم، أو يخبر(1/66)
ما يجده في كتب أبي الحسين وأبي المعالي، ونحوهما من الإسلاميين، وأما سائر مقالات الفلاسفة الأوائل والأواخر فلا يخبرهـ[ـا] وهذا تفريط) في العلم والصدق في القول، والاطلاع على أقوال أهل الأرض في مقالاتهم ودياناتهم.
فيقال له: قولك إن جمهور العقلاء اتفقوا على أنه ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات، وتصورك بذلك أنه ليس على العرش، ولا فوق العالم ليس بصحيح، إذا أراد بالعقلاء المعتبرين من يستحق هذا الاسم، وذلك أن هذا القول لا يعرف عن أحد من أنبياء الله ورسله، وهم أكمل الخلق وأفضلهم عقلًا وعلمًا، فلا يوجد في كتب الله المنزلة عليهم، ولا في شيء من الآثارة المأثورة عنهم، لا عن خاتمهم ولا عن أنبياء بني إسرائيل(1/67)
ولا عن غيرهم، بل الموجود عن جميع الأنبياء ما يخالف هذا القول، وهو في ذلك إما نص وإما ظاهر، وأنت تسلم أن هذا القول لا يؤثر عن الأنبياء، وإنما يستنبط من أمور سنتكلم عليها إن شاء الله، وهذا القول أيضًا لا يؤثر عن أحد من أئمة الإسلام في القرون الفاضلة، التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ولا قاله أحد من أئمة المسلمين، الذي لهم لسان صدق في أصناف الأمة، الذين اتخذوهم أئمة في العلم والدين، لا من أئمة العلم والمقال، ولا من مشايخ العبادة والحال، ولا هو قول عوام المؤمنين الباقين على فطرتهم، ولا يعرف هذا القول إلا عمن هو مجروح بنقص العقل والدين، معروف بكثرة(1/68)
التناقض والتهافت في مقاله، ولهذا يشهدون على أنفسهم بالحيرة، ويرجعون عما يعتقدونه إلى دين العجائز، ولا يعرف فيمن قال هذا القول، إلا من يشهد عليه بتوحّشه، بأنه يجحد بعض العلوم الضرورية العقلية، وهذا موجود في مناظرة بعضهم، دع كون القائلين بمثل هذا القول، ليس فيهم إلا من له في الإسلام مقالة، نسب لأجلها إلى ردة أو نفاق، أو جهل أو تقليد، وإن كانوا قد تابوا من ذلك، وهذا القدر معروف عند أهل النظر، واعتبر ذلك بما ذكره «أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاّب» الذي هو إمام المتكلمين الصفاتية، وهو الذي سلك سبيله وائتم به «أبو الحسن الأشعري» و «أبو العباس القلانسي» ونحوهم من المتكلمة أهل الإثبات الصفاتية، وقد ذكر ذلك الأستاذ «أبو بكر بن فورك» في كتابه الذي سماه «مقالات الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد» وقد قال في كتابه بعد الخطبة التي مضمونها حمد الله على أن قام من أهل ولايته، من يبين الحق بدلائله، ويدحض شبه الباطل، ثم قال: «ثم من أجل الله قدره» يعني: أبا عبد الله العصمي، وأثنى عليه ثناءً كثيرًا «أحبَ -لما هو عليه من إظهار كلمة المحقين، ونشر أصول دين المتدينين، بالتمسك بالسنة الظاهرة، والجماعة القاهرة، يدًا(1/69)
ولسانًا، وحجة وبيانًا- أن أجمع [له] ، متفرق مقالات شيخ أهل الدين، وإمام المحقين، المستنصر للحق وأهله، والمبين لحجج الله الذاب عن دين الله، بما عرفه الله سبحانه من معالم طرق دينه الحق وصراطه المستقيم، السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع، الموفق لاتباع الحق، والمؤيد بنصرة الهدى والرشد، من فتح الله سبحانه وتعالى بفضله لأهل السنة والجماعة، بما وفقه له من البيان [لـ] طرق الإيضاح عن حجج المحقين في حقهم، واستنصروا به، وأباح لهم بما سدده فيه من مرسومه في كتبه، وجدده في تصانيفه، الكشف عن السبيل التي منها توصل إلى معرفة طرق التفصيل، ويهتدي بها إلى مقام الدلائل، بالحجج التي بها يدفع وساوس المبتدعين، وتهاويس الضالين، عن طريق الحق والدين المبين، فصار بيانه نورًا وسيفًا لأهل السنة، وخسارًا وغيظًا لأهل البدعة، عظمت منة الله على أهل السنة والحق بمكانه، وجلت نعمه لديهم بما سربلهم من تباينه، وهو «أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان» رضي الله عنه وأثابه على عظيم ما أنعم عليه، وبه عليهم عود فضل منه، على بدء فضل، إنه القريب المجيب، وكذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا «أبي الحسن علي بن إسماعيل(1/70)
الأشعري» رضي الله عنه للتقريب على من يريد الوقوف على جملة مذاهبه، وأصوله وقواعده ومبانيه، وما رتب عليه كلامه مع المخالفين، من صفوف المبتدعة وفرق الضلالة، وتسهيلًا على طالبه وتيسيرًا له، ليقع له الغنية عن طلبه في متفرقات كتبه، ما يعز وجوده منها وما يشتهر ويكثر، ولم أخلط بما جمعته في ذلك مقالات غيره، من أصحابنا المتقدمين، ومشايخنا المتأخرين، طلبًا لإيراد مقالاته فقط، فإنه رضي الله عنه لكثرة مصنفاته وتوسعه في كلامه، وانبساطه في كل باب من أبواب الخلاف مع المخالفين، ومصادفة أيامه كثرة أباطيل الضالين، وشبه المبتدعين، ونصرته في الرد على كل فريق بغاية البيان، وبلوغ الإمكان، كثرت مقالاته واتسعت» قال: «ولما كان الشيخ الأول، والإمام السابق «أبو محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، الممهد لهذه القواعد، المؤسِّس لهذه الأصول والمقاصد، بحسن بيانه، بين حجج الحق وشبه الباطل، المنبه على طرق الكلام فيه، والدال على موضع الوصل والفصل، والجمع والفرق، الفاتق لرتق الأباطيل،(1/71)
والكاشف عن لبس ما حرفوا وموّهوا، فهدى الله بذلك وأرشد، ورأى حذّاق المخالفين من المبتدعة بيانه لهم واضحًا، وكلامه ظاهرًا لافحًا، فجدوا في طلب كتبه، وتصانيفه فحرفوها، وغسلوها لئلا يبين عوار بدعهم، وينكشف قبيح بواطن شبههم، فتتبعوها وبذلوا فيها الأموال، حتى اجتهدوا في التقليل منها، فعزّت وقلت، ولكن ما حفظ الله من ذلك لأهل الحق، فيه البيان الكاشف، والنور الساطع، فاكتفوا بما وجدوا في التنبيه عما فقدوا، وتتبعت عند ذلك فيما وجدت من كتبه، وما وجدت المشايخ حكوا عنه، وما انتشر من مذاهبه، فجمعت جميع ذلك ورتبته على الأبواب، ونسبت كل ذلك إلى كتبه رحمه الله، وإلى كتب أصحابنا ومشايخنا رضي الله عنهم، وأجبت في بعض الفروع المتفرعة على أصول المذهب بعده، على مجرى أصوله وقواعده المشهورة، واستوفيت في بعض الفصول كلامه فيه، فأومأت إلى نكت في الباب، تنبيهًا على طرقه في الاستدلال، والاحتجاج للحق، ليجمع إلى تعريف مذاهبه، تعريف طرقه في بعض المسائل، في اللجاج للحق،(1/72)
والرد على المبطلين، خاصة في مسألة القرآن، فإنه أورد فيها كلامًا ظاهرًا جليًا، وبدأت قبل كل شيء بما حكاه شيخنا «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» رضي الله عنه، من جمل مذاهبه في الكتاب الذي جمع فيه مقالات أهل القبلة، وكان غرضي في ذلك أن يعلم أن طريقة مشايخنا رضي الله عنهم مقنعة في إبانة حجج دين الله الحق، وإبانة أباطيل المبتدعين، والكشف عن شبه الزائغين عن الحق، وأن قواعد دينهم وطرائقهم متساعدة غير مختلفة، وأن ليس بينهم خلاف، يبرأ بعضهم من بعض لأجله، أو يكفر أو يفسق بعضهم بعضًا، وأكثر ذلك إنما يرجع إلى تقييد مطلق، لرفع إبهام ولبس، أو إطلاق مقيد كل شبهة، ورفع تهمة، وأكثرها يؤول إلى خلاف في عبارة، وما ضر نفسه في المعنى والتحقيق، يؤول فيه إلى طريق صاحبه في التفصيل، ولم أشتغل في هذا الكتاب بإظهار وجه الجمع بين المقالات في المعنى، وإبانة أنـ[ـها] ترجع إلى اختلاف عبارات، وإطلاق بعضهم لعبارة منعها الآخرون، من غير أن يكون فيها نقض أصل، أو حلّ عقد، يوجب التضليل والبراءة، وذلك أعظم شاهد، على أنهم هم المعصومون، وأنهم هم الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال ظاهرة بالحق،(1/73)
لا يضرهم من ناوأهم فإن الكتاب يطول بذلك وسنفرد في آخر هذا الكتاب فصلًا نفصل فيه؛ وجوه الخلاف بينها، ونبين وجه الاتفاق في القواعد والأصول، وأن الخلاف فيما اختلفوا فيه يجري المجرى الذي ذكرناه، وفيما أحكيه الآن قبل كل شيء، من كلام شيخنا «أبي الحسن» رحمه الله في كتاب مقالات أهل القبلة ما يدل على ما أقول، وأن مذهب الشيخ الإمام الأوحد «أبي محمد عبد الله بن سعيد» رضي الله عنه، هي مذاهب مشايخ أهل الحديث، وأئمتهم في الأصول والفروع المتعلقة بها، وأنه كان مؤيدًا من بين الجماعة، بمعونة خاصة من الله تعالى، في إبانة آيات الله وحججه، وإظهار دليله وتباينه، فكان بين أيديهم مرتقًى لهم، ينفي عن أهل السنة والجماعة تحريف المبتدعة، ويكشف عن تبديل الفرق المبطلة، ويوضح عن حكم التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، وأن شيخنا «علي بن إسماعيل الأشعري» إنما بنى على ما أسسه، ورتب الكلام على ما هذّبه، وفرع على ما أصّله، غير ناقض منه أصلًا،(1/74)
ولا حال منه عقدًا، فوفقه الله بفضله لنشر ذلك وبسطه، وتكثيره وترتيبه، يقرب المستبعد، ويوضح المشكل، ويحصر المنتشر، حتى بلغه الله ما أراد، وتم توفيقه لما قصده، فرحمة الله عليهم أجمعين، وجعلنا بآثارهم مقتدين، ولما سنوا متبعين، وبما بنوا وقاسوا وأرشدوا إليه عاملين، وفيه مستبصرين، إنه ولي ذلك» .
ثم قال: «الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا «أبو الحسن» رضي الله عنه في كتاب «المقالات» من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره؛ أنه يقول بجميع ذلك، وأن الشيخ «أبا محمد عبد الله بن سعيد» وأصحابه بذلك يقولون، وبأكثر منه، حتى يعلم أن الأصل في العقود واحد، تصديقًا لما قلنا، وتأييدًا لما إليه أومأنا، وشاهدًا لما ذكرنا من نص قوله وصريح بيانه، قال شيخنا «أبو الحسن» في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات الإمامية(1/75)
والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام، قال: «هذا حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة، قال اعلموا أن جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله عز وجل»(1/76)
إلى قوله: «ويجتنبون قول الزور والمعصية والفخر والكبر، والإزراء على الناس والعُجْبِ، ويرون مجانبة من يدعو إلى بدعة، والتشاغل في قراءة القرآن، وكتابة الآثار والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، ويرون اجتناب الغيبة والنميمة والسّعاية، ويتفقدون المآكل والمشارب، ويجتنبون المحرمات والشهوات» [ثم] قال شيخنا «أبو الحسن» رحمه الله عند انتهاء حكايته ذلك عنهم:
«وهذه جملة ما يؤمنون به ويستعملونه» قال بعد ذلك:(1/77)
«وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نميل ونذهب وبالله توفيقنا» قال: «فحقق قواعد ذلك من ألفاظه رحمة الله عليه، أنه معتقد لهذه الأصول، التي هي أصول [أهل] الحديث وأساس توحيدهم، ومهاد دينهم، وأنه إنما سلك بما صنف إظهار حجج الله تعالى في دينه الذي وصفه وأبان خطأ المبتدعين، وإبطال أباطيلهم، ليعرف قوة الحق والسنة، وضعف الباطل والبدعة، لا أنه ابتدع من عند نفسه مقالة، لم يسبقه إليها أئمة الحديث من أهل السنة والإجماع، وإنما أطلق وقيد اللفظ في مواضع، لرفع إبهام، أو لإظهار قوَّة في حق، ولإبانة حجة، وكشف شبهة، وكذلك قصد الشيخ «أبي محمد» رضي الله عنه، وقد كان أوحد في معرفة الحديث، والعلم بالرجال، وطرق الحديث، وهو في شدة تمسكه بذلك، يرى أن متشابه الأحاديث لفظًا في التوحيد، كمتشابه آي القرآن في مثل ذلك، وأنه يحمل على الوجه الصحيح، الموافق لحكم الكتاب والسنة، ولم يكن غرضهم [إلا] الإبانة، عن حجج الله تعالى، وإظهار وجوه الدلالات منها على الحق، وكشف تأسيس(1/78)
المبتدعين المبطلين، المدعين على أهل السنة الباطل والبهتان» .
ثم قال ابن فورك: «فصل ثم قال شيخنا «أبو الحسن» -رحمه الله- في «المقالات» بعد حكايته جملة ما عليه أصحاب الحديث، على الألفاظ التي ذكرناها، حاكيًا عن «عبد الله بن سعيد» -رحمه الله تعالى- بالألفاظ التي نذكرها الآن، فقال -رحمه الله-: «وأما عبد الله بن كلاب -رحمه الله- وأصحابه -رضي الله عنهم- فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرنا عن أهل السنة، ويثبتون أن الله عز وجل لم يزل متكلمًا جوادًا» وأعاد عند ذلك بعض ما جرت حكايته جملة، تحقيقًا وتأكيدًا، فقال: «وهم يقولون -يعني: عبد الله بن كلاب وأصحابه-: إن لله عَزَّ اسمه عِلمًا وقدرة، وحياة وسمعًا، وبصرًا وعظمة، وجلالًا وكبرياء، وكلامًا وإرادة، صفات لله تعالى لم يزل بها موصوفًا ولايزال بها موصوفًا، ويقولون: أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال: هي هو كما قال بعض المعتزلة، ولا يقال: هي غيره كما قالت الجهمية، ولا يقولون: العلم هو القدرة، ولا يقولون: إنه غير القدرة،(1/79)
ويزعمون أن الصفات قائمة بالله عز وجل، وأن الله تعالى لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا، وساخطًا على من يعلم أنه يموت كافرًا، وكذلك قولهم في الولاية والعداوة والبغض والمحبة، وكان يقول في القدرة كما حكيناه عن أهل السنة والحديث، وكذلك قوله في أهل الكبائر، وكذلك قوله في رؤية الله تعالى بالأبصار، وكان يقول: إن الله لم يَزَلْ، ولا زمان ولا مكان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه،(1/80)
وهو مستو على عرشه كما قال عز وجل، وأنه فوق كل شيء، لا بحد ولا مماسة، أو مفارقة بعزلة وتحيز» .
ثم قال «أبو بكر بن فورك» : «فصل، وهذا آخر ما حكاه شيخنا «أبو الحسن» -رحمه الله- من مقالات أصحاب الحديث، ومقالة الشيخ «أبي محمد عبد الله بن سعيد» ومقالات أصحابه، وقال: إنه بجميع ذلك يقول وإليه يذهب، وقال في الجملة: إن أصحاب عبد الله بن كلاب بأكثر من ذلك يقولون، فكشف جملة ما حكيناه، أن الأمر على ما رتبناه عند مشايخنا، وأن بعضهم يتولى بعضًا، وأن ليس بينهم خلاف، يقتضي عند واحد منهم التكفير والتضليل، وأنهم يعتقدون بأصل واحد، مهتدون بطريقة واحدة، هي ماصححه كتاب الله، وشهدت له سنة رسول الله، وعمل به السلف الصالح رضي الله عنهم، وأنهم لم يبتدعوا مقالة، ولا أحدثوا مذهبًا، لا يترتب على أصل من هذه الأصول، وهذه الجملة مفيدة في هذا الباب، التي يذكر [فيها] على التفصيل مسائل الخلاف، ويبين مراتبها، ويذكر ترتيب الكلام فيها، وأنها في الحقيقة، كما أومأنا إليه، في أنه(1/81)
ليس بشيء من ذلك خلاف ينقض أصلًا ثابتًا، ويرفع عقدًا واجبًا، يوجب التبري والتضليل، وكيف يقع بينهم خلاف في ذلك، مع اتفاقهم على أنهم ينصرون العلم الظاهر، وما عليه الألسنة مطبقة، والكلمة عليه مجمعة وإنما تفرَّدت شرذمة من كل فرقة بمقالة، ابتدعوها نصرة لباطلهم، وتمسكًا بما أداهم إليه هواهم، واقتضى لهم طلب الدنيا، وإيثارًا لعقد رياسة على طغام مثلهم، ليظهر لخلافهم مباينة، فيذكر بخذلان من الله وحرمان» .
قلت: هذا الذي ذكرناه هو ألفاظ «أبي بكر بن فورك» التي نقل بها ما ذكره، وهو في الغالب نقل ألفاظ «أبي الحسن الأشعري» من كتاب «المقالات» وفي مواضع غير كلامه بزيادة ونقصان، تارة غلطًا، وتارة عمدًا باجتهاده، لاعتقاده أن الصواب هو الذي ذكره، دون ما وجده فيما ذكره «أبو الحسن» وسنذكر إن شاء الله تعالى ألفاظ «أبي الحسن» بعينها في كتاب «المقالات» وألفاظه أيضًا فيما صنفه أيضًا بعد المقالات، حتى يتبين الأمر على حقيقته، فإن المقصود هنا إنما هو ذكر ما يحكيه «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» وذكرنا هذه(1/82)
الجملة؛ لأنه أصل لما يحكيه عنه من التفصيل، فغلطه في هذا النقل قوله عن «أبي الحسن» : «أنه ذكر عن أصحاب «ابن كلاب» أنهم يقولون بذلك وبأكثر» وإنما لفظ «أبي الحسن» أنه قال: «وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن الباري لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا، جليلًا كبيرًا، كليمًا مريدًا، متكلمًا جوادًا، ويثبتون العلم والقدرة» إلى آخر ما ذكر، فذكر «أبو الحسن» أنهم يقولون: بأكثر ما يقوله أهل الحديث لا بكله، وأنهم يريدون هذه الأمور، فذكر عنهم زيادة في شيء وتركًا لشيء، لم يقل: إنهم يقولون ما يقوله أهل الحديث وبأكثر منه، ولكن قد يتصحف في الخط بأكثر مما حكاه، لسقوط الميم في الخط أو لاندغامها في الخط، وكيف يقول «أبو الحسن» ذلك؟ وقد حكى عن أهل الحديث أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، و «ابن فورك» قد حكى عن «ابن كلاب» إنكار أن يكون العمل إيمانًا، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأشياء أُخَر، إذ كان من المرجئة، وأيضًا «فابن فورك» قال: «قال شيخنا في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات الإمامية والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام قال: «هذه(1/83)
حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة» فاقتضى ما ذكره «ابن فورك» أن «أبا الحسن» لم يذكر مخالفًا لهم ذكره بكلام إلا هذه الأصناف الأربعة، وليس كذلك بل قد ذكر «أبو الحسن» عشرة أصناف؛ وقال في أول كتابه: «هذا ذكر الاختلاف اختلف المسلمون عشرة أصناف؛ الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية، والضرارية والحسينية،(1/84)
والبكرية، والعامة وأصحاب الحديث، والكلابية أصحاب «عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان» ثم ذكر أصناف الشيعة ثم أصناف الخوارج، فلما فرغ قال: «آخر مقالات الخوارج، أول مقالات المرجئة» فذكرهم اثنتي عشرة فرقة، ثم بعد أن فرغ منهم قال: «هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره» وذكر أقاويل المعتزلة، وفي ضمنها قال: «هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم» ثم قال: «ذكر قول الجهمية»(1/85)
ثم قال: «ذكر الضرارية أصحاب «ضرار بن عمرو» ثم قال: «ذكر قول «الحسين بن محمد النجار» وهؤلاء الثلاثة يوافقون المعتزلة في الصفات في الجملة دون القدر، ومسائل «أبي عبيد» والإيمان، ثم قال: «ذكر قول البكرية أصحاب بكر ابن أخت(1/86)
عبد الواحد» ثم قال: «هذه حكاية قول قوم من النساك» ثم قال: «هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة» ثم قال: «فأما أصحاب عبد الله بن سعيد» إلى آخره، ثم قال: «ذكر قول زهير الآثري» وذكر قول «معاذ التومني» ، ثم قال: «هذا آخر الكلام في الجليل، ذكر اختلاف الناس في(1/87)
الدقيق» ولكن «ابن فورك» لميله وميل «ابن كلاب» إلى قول المرجئة، يذكر ذلك لئلا يظهر ما خالفوا فيه أهل الحديث، وأيضًا فقد ذكر «أبو الحسن» عن أهل الحديث في القرآن والنزول، والمجيء والقرب، والرضى والسخط والجدل، وغير ذلك ألفاظًا هي معروفة عندهم، صنفها «ابن فورك» فيما نقله من نقل «الأشعري» عنهم، هذا مع أن الذي ذكره «الأشعري» عنهم، فيه مواضع ذكرها بتصرف واجتهاد، فإن كلام أئمة الحديث في هذه الأبواب في كتب السنة، والآثار متواترة عند من يعرف ذلك، وأيضًا فلفظ «الأشعري» في كتاب «المقالات» عن «ابن كلاب» : «أن الباري لم يزل، ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى» فزاد «ابن فورك» : «لا بحد ولا مماس، أو مفارقة بعزلة أو تحيز» وهذه الألفاظ موجودة، هي أو ما يوجب الإثبات في كلام «ابن كلاب» كما سيأتي، لكن اللفظ الذي نقله «الأشعري» عنه هو ما تقدم فقط، و «ابن فورك» هو المصنف لكتاب «تأويل ما ذكره من الآيات والأحاديث في الصفات» وعلى كتابه يعتمد هذا المؤسس(1/88)
أبو عبد الله الرازي وغيره، إذ هو أجمع كتاب صنفه المنتسبون إلى الأشعري في ذلك، ولهذا ذكرنا ما نقله هو عن أئمته في هذا الباب، ليكون في ذلك هدى ورحمة لمن يريد الله [له] ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكر «أبو بكر بن فورك» فصولًا من كلام «ابن كلاب» في مصنفاته مثل كتاب «التوحيد» وكتاب «الصفات» وكتاب «الرد على المريسي» ونحن نعود إلى ما أشرنا إليه، وهو أن القول: بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، إنما ذهب إليه شرذمة من الناس أهل البدع، خلاف ما يزعم «الرازي» وأمثاله أن ذلك قول جمهور العقلاء المعتبرين.
قال «ابن فورك» : «وقال -يعني: ابن كلاب- في كتاب «الصفات» في بيان القول في الاستواء: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعًا به، يجيز قول الأين ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه، لا يجيزون الذي زعموا، ويحيلون القول به» قال: «ولو كان خطأ كان رسول الله أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها:(1/89)
لا تقولي ذلك، فتوهمين أنه عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان، لأنه هو الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجلب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قال، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ والكتاب ناطق به وشاهد له، ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرت من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بَنية الفطرة، وتَعَارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، بل لاتسأل أَحدًا من الناس عنه عربيًّا ولا عجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء، إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدًا داعيًا له إلا رافعًا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدًا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدّعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى «جهم» وحده وخمسون رجلًا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن» .
قال «ابن فورك» : «فقد حقق رحمه الله في هذا الفصل شيئًا(1/90)
من مذاهبه:
أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه.
والثاني: صحة الجواب عنه بأن يقال في السماء.
والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة» .
قلت: فقد ذكر «أبو محمد بن كلاب» أنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل، يَدعون أنهم أفضل الناس «جهم» وعدد قليل معه، وذكر أن العلم بأن الله فوق فطري، مغروز في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم.
قال «أبو بكر بن فورك» عقب هذا: «واعلم أن هذا ليس بمخالف لما قال في كتاب التوحيد، لأنه ليس يقول: إنه في السماء إلا اتباعًا للفظ الكتاب، في قوله عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] على معنى أنه فوقها، وردَّ ذلك إلى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] فمن توهم عليه أنه يقول: إن الله في مكان دون مكان، أو في كل مكان فقد أخطأ في توهمه» .
فقلت: أما قول «ابن فورك» إنه إنما قال ذلك، اتباعًا للسمع الوارد من لفظ الكتاب، فليس كذلك، لأنه قرر أولًا ذلك(1/91)
بالسنة، ثم قال: «والكتاب ناطق به، وشاهد له» ثم قال: «ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة، وتعارف الآدميين من ذلك، ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدًا من الناس، عربيًّا ولا عجميًّا، ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن لم يفصح، لا يشير إلى غير ذلك، من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدًا، داعيًا له إلا رافعًا يديه إلى السماء» فقد ذكر أنه مغروز في فطر الناس كلهم ومعارفهم في هذا الباب ما لا أبين [منه] ولا أوكد، وهو اتفاق الخلائق كلهم، إذا سئلوا أين الله؟ قالوا: في السماء، بالعبارة عنه، أو الإشارة إليه، وكذلك هم متفقون على الإشارة باليدين، في دعائه إلى السماء، وهذا الإخبار منه بأن القول بأنه في السماء والإشارة إليه، سبحانه في الدعاء وغير الدعاء، أمر متفق فيه بين الناس، وأن ذلك عندهم من المعارف الفطرية الغريزية، فكيف يقال: قولهم إنه في السماء ليس إلا لمجرد اتباع لفظ القرآن؟ وقد ذكر «ابن فورك» أن مقام هذا دلَّ على ثلاثة أمور:
أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه.
والثاني: أنه دلَّ على صحته الجواب عنه، بأن يقال: إنه في(1/92)
السماء.
والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة. فكيف يقول بعد هذا منصف يظن أنه يقول إنه في السماء إلا اتباعًا للفظ الكتاب؟ وقد ذكر أن هذا إجماع من المؤمنين والكفار والعرب والعجم، فهل ما يكون بهذه المنزلة لا يقال إلا لمجرد التوفيق على لفظه؟ وقد ذكر «ابن فورك» من كلامه في غير هذا الموضع، ما يبين أنه كونه فوق العالم صفة معلومة بالعقل، لا تتوقف على السمع، وإنما المعلوم بالسمع استواؤه على العرش.
قال «ابن فورك» : «فصل آخر في بيان تحقيق قوله: إن إطلاق وصفه سبحانه وتعالى بأنه فوق واجب، من كلام ذكره في كتاب «الصفات» في باب الاستواء على العرش: «قال: قد قلنا ونقول إنه عز وجل فوق كل شيء لم يكن بين طبقين» قال «ابن فورك» : «وقال في هذا الباب، من هذا الكتاب، عند تفسير الاستواء: «إن الاستواء هو العلو، وإنما سمي العلو استواء، لعلة المستوى عليه، إذ لم يكن فوقه شيء، فقوله: استوى على العرش؛ هو أن الله -سبحانه وتعالى- قد كان ولا شيء غيره، ثم خلق العرش فجعله أعلى خلقه، فقيل: هو مستو عليه، لما كان عاليًا عليه، لم يكن بين طبقتين، فيكون فوقه شيء، وليس هو مماس للعرش» قال «ابن فورك» : «فبين هذا من قوله، إنه(1/93)
يطلق الاستواء للخبر الوارد، والقول: بأنه فوق لنفي كونه بين طبقتين، لا معنى القهر والاقتدار، خلافًا لقول من يزعم من المخالفين؛ إنه فوق بمعنى: القهر والغلبة والقدرة والعزة والعظمة فحسب» .
قلت أمَّا الاستواء، فقد ذكر أنه صفة خبرية سمعية، وأمَّا القول بأنه فوق، فإنه لم يجعل معناه سلبيًّا، بل جعل السلب دليلًا على الفوقية، فقال: «ولكنَّا نقول: إنه عز وجل فوق كل شيء، لكيلا يكون بين طبقتين، فأخبر أنه أثبت الفوقية، لئلا يلزم أن يكون داخل العالم أو خارجه فأثبت أنه خارجه، لئلا يلزم أن يكون داخله، أو لو أمكن أن لا يكون بين طبقتين، ولا يكون فوق العالم، لم يكن نفي أحدهما دليلًا على ثبوت الآخر، كما يقوله النفاة، وهو قد صرح بهذا في غير موضع.
قال «ابن فورك» : «فصل من كلامه في زيادة تحقيق في هذا القول، قال في باب مسألة الجهمية في المكان، في كتاب التوحيد: «يقال لهم: إذا قلنا الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال، فلا بد من نعم، قيل لهم: فهو لا مماس ولا مباين للمكان، فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فهو بصفة المحال من المخلوقين، الذي لا يكون ولا يثبت [إلا] في الوهم، فإذا قالوا: نعم. قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من(1/94)
كل جهة، كما كان بصفة المحال من هذه الجهة.
وقيل لهم: أليس لا يقال لما ليس ثابتًا في الإنسان مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون عدم، كما تقولون للإنسان عدم إذا وصفتموه بصفة العدم. وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودًا له، كان جهل المخلوق علمًا له، لأنكم وصفتم العدم الذي هو للمخلوق وجودًا له، فإذا كان العدم وجودًا، كان الجهل علمًا والعجز قوة» .
فقد بين في هذا الكلام امتناع أن يقال في الباري: ليس بمماس ولا مباين، فينفي عنه الوصفان المتناقضان، اللذان لا يخلو الموجود منهما جميعًا، كما هو معلوم بصريح العقل، فهذان ونحوهما متضادان في الإثبات، وفي النفي جميعًا.
وذكر على ذلك ثلاث حجج.
أحدها: أن انتفاء هذين جميعًا ممتنع في حق الإنسان محال، فإن جاز وصفه بهذا المحال، جاز وصفه بغيره من المحالات.
قلت: وهذا الإلزام، مثل أن يقال: لا عالم ولا جاهل،(1/95)
ولا قادر ولا عاجز، ولا حي ولا ميت، ونحو ذلك، كما يقول الملاحدة، فينفون المتقابلات.
الحجة الثانية: أن سلب هذين جميعًا يوصف به المعدوم، الذي ليس بثابت في الإنسان، فإذا وصفوا بهما المعبود فقد جعلوا ما وصفوا به الثابت في حق الخالق، كما وصفوا أنه العدم في حق المخلوق، فإذا جاز أن يوصف بما هو صفة المعدوم في حق المخلوق، لزم أن يوصف بنفس العدم، كما يوصف المخلوق بأنه عدم، إذا وصف بصفات العدم.
الحجة الثالثة: أنه [إذا] جاز أن يقال: إذا كان ما هو صفة عدم في حق المخلوق، وجودًا في حقه، جاز أن يكون ما هو جهل، في حق المخلوق علمًا في حقه، وما هو عجز في حق المخلوق، قدرة في حقه، وجماع هذه الحجج وصفه بالمحال، ووصفه بالمعدوم، ووصفه بضد صفات الكمال، وهو الجهل والعجز لربهم، حين جوزوا وأخلوه عن المماسة والمباينة، مع قولهم بأن هذا ممتنع في الوجود غيره، ففرقوا بين الواجب والممكن، في الخلو عن النقيضين من جهة المعنى، حيث جعلوه ثابتًا لهذا منتفيًا عن هذا، فلزمهم مثل ذلك في نظائره، وهذه حجج قولية، من أجود المقاييس العقلية، لمن(1/96)
فهمها، وهذا لأن كون الشيء القائم بنفسه، غير مماس لغيره، ولا مباين له، لما كان ممتنعًا في بديهية العقل -وادعى الجهمي إمكان ذلك في حق الله تعالى- لزمه أن يجوز كل الممتنعات التي تناظره.
وكذا ذكر الإمام أحمد في أثناء ردّه على الجهمية لما تكلم على معنى «مع» في القرآن، قال: «فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله عز وجل، أنه مع خلقه في كل شيء، قال: هو غير مماس للشيء ولا مباين منه. فقلنا للجهمي: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا. فقلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس للشيء؟ فلم يحسن الجواب. فقال: بلا كيف، فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم، فقلنا له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار، والعرش والكرسي والهواء؟ قال: بلى. قلنا: وأين يكون ربنا؟ قال: يكون في كل شيء، كما كان، حيث كان في الدنيا في كل شيء. فقلنا: فإن في مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله(1/97)
جل وعلا» .
وقال أيضًا الإمام أحمد: «إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء، خلقه في نفسه، أو خارجًا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل:
[لا بد له من] واحد منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، فقد كفر حين زعم أنه خلق الخلق والشياطين وإبليس في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر [رديء] وإن قال خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل(1/98)
فيهم، رجع من قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة» .
[فبين] أن كون المخلوق إما داخلًا في الخالق، أو خارجًا منه، تقسيم ضروري، لا بد من القول بأحدهما، وكذلك كون الخالق، إمَّا داخلًا في الخلق أو خارجًا منهم، وأنه إذا كان كذلك، فالقول بدخوله في الخلق أو دخول الخلق فيه ممتنع، فتعين أنه خارج من الخلق والخلق خارجون منه، فقول الإمام أحمد: «إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟» استفهام إنكار، يتضمن أن العلم بمباينته إذا لم يكن مماسًا علم ضروري، لا يحتاج إلى دليل، بل ينكر على من نفاه، ولهذا لما نفى الجهمي قال: قلنا فكيف؟ فقال: بلا كيف. قال: فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم، وذلك لأن الصفات السمعية المعلومة بإخبار الرسل عليهم السلام، يقال فيها: بلا كيف، لأنا نحن لم نعلم بعقولنا كيفيتها، لعدم علمنا بذلك.
وكذلك ما علمنا بعقولنا أصله دون كيفيته، حسن أن نقول فيه، بلا كيف «أي: نعلم ثبوت هذا الأمر، ولا نعلم كيفيته، فأراد الجهمي أن يستعمل ذلك فيما علمنا انتفاءه بفطرة عقولنا،(1/99)
وادعى خلو الموصوف عن النقيضين في المعنى جميعًا، اللذيْن هما ضدان في النفي، كما هما ضدان في الإثبات، فلما قيل له: كيف ذلك؛ أي: كيف يعقل؟ قال: بلا كيف. وهذا إنما ينخدع به الجهال، اللذين لا يفرقون بين الشيء الذي علمنا انتفاءه، أو لم نعلم ثبوته، إذ ادعى المدعي ثبوته، وقال: بلا كيف. لم يقبل، وبين الشيء الذي علمنا ثبوته، ولم نعلم كيفيته، إذا قيل له: بلا كيف حقًّا.
ومما يبين ذلك أن خلوه عن هاتين الصفتين، لو كان كما ادعاه الجهمي لكان معلومًا عنده بالعقل، إذ العقل هو الذي دلَّ عنده على هذا السلب، لا يقول إن السمع جاء بذلك، فما كان إنما علم بالعقل فقط، والعقل يحيله، لم يقل فيه بلا كيف كسائر الممتنعات، وهذه السبيل التي حكاها الإمام أحمد عن الجهمية، هي التي سلكها هذا المؤسس وأمثاله، فإنه ادعى فيما ذكره من هذه الحجج العشر، جواز وصف الرب بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وما في ضمن ذلك من أنه لا مماس ولا مباين، ونحو ذلك، مدعيًا أن العلم الإلهي [لا ينفي ذلك و] لم يحسن الجواب أي: لم يكن له جواب يحتج به على(1/100)
إمكان قوله، وإمكان أن يكون معقولًا، ولهذا لم يكن فيما ذكره «الرازي» حجة على إمكان ما ذكروه في نفسه، ولا إمكان أن يكون معلومًا.
فصل
قيل للإمام الرباني «عبد الله بن المبارك» : بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته، على عرشه بائن من خلقه.
وهذا مستفيض عنه تلقاه عن أئمة الهدى بالقبول، كالإمام «أحمد» و «إسحاق بن راهويه» و «البخاري» صاحب(1/101)
الصحيح، ومن شاء الله من أئمة الإسلام، حتى قال «محمد بن إسحاق بن خزيمة» : من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل ثم ألقي في مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملّة، ولا أهل الذمة. وقد ذكر ذلك عنه «الحاكم أبو عبد الله النيسابوري»(1/102)
وشيخ الإسلام «أبو عثمان الصابوني» وغيرهما.
فصل
قال «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» في كتابه المشهور «الإبانة» بعد الخطبة: «فصل في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة أما بعد: فإن كثيرًا من الزائغين عن الحق، من المعتزلة وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم، تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا ولا أقام به برهانًا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، وخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، في رؤية الله بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، تواترت بها الآثار،(1/103)
وتتابعت بها الأخبار، وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين، ودفعوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ودانوا بخلق القرآن، نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } [المدثر: 25] [فزعموا أن القرآن كقول البشر] وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر، نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقيْن: أحدهما يخلق الخير [والآخر يخلق الشر، وزعمت القدرية أن الله عز وجل يخلق الخير] والشيطان يخلق الشر، وزعموا أن الله يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافًا لما أجمع عليه المسلمون، من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وردًا لقوله عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] فأخبر أنا لا نشاء شيئًا [إلا] وقد شاء الله أن نشاءه، ولقوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] ولقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ولقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) } [البروج: 16] ولقوله تعالى مخبرًا عن نبيه «شعيب» أنه قال:(1/104)
{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا أقاويلهم، وزعموا أن للخير والشر خالقيْن، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله، كما قالت المجوس، و [زعموا] أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله، ردًا لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] وإعراضًا عن القرآن، وعما أجمع عليه [أهل] الإسلام، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغنى عن الله، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه، كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى. فكانوا مجوس هذه الأمة، إذ دانوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقاويلهم، ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله تعالى، وأيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها، خلافًا لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 116] وزعموا أن من دخل النار(1/105)
لا يخرج منها، خلافًا لما جاءت به الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليخرج قومًا بعد أن امتحشوا فيها وصاروا حممًا» . ودفعوا أن يكون لله وجه، مع قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأنكروا أن يكون لله يدان، مع قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ] [ص: 75] وأنكروا أن يكون له عينان، مع قوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] [ولقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } ] [طه: 39] وأنكروا أن يكون لله علم، مع قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وأنكروا أن يكون لله قوة، مع قوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذريات: 58](1/106)
ونفوا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا» ، وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك جميع أهل البدع؛ من الجهمية والمرجئة والحرورية، وأهل الزيغ فيما ابتدعوا خالفوا الكتاب والسنة، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأجمعت عليه الأمة، كفعل المعتزلة والقدرية وأنا أذكر ذلك بابًا بابًا [و] شيئًا شيئًا إن شاء الله وبه المعونة» ثم قال «الأشعري» : «فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية، والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي [به] تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له:(1/107)
قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم، [وعلى جميع أئمة المسلمين] وجملة قولنا: إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاؤوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب
فيها، وأن الله يبعث من في القبور،(1/108)
وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وأن له وجهًا، كما قال {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأن له يديْن، بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وأن له عينيْن بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وأن من زعم أن أسماء الله غيرُه كان ضالًا، وأن لله علمًا، كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] ونثبت لله السمع والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت لله قوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له: كن [فيكون] كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) } [النحل: 40] وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدًا لا يستطيع شيئًا قبل أن(1/109)
يفعله ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج من علم الله، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، ومقدرة، كما قال: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } [الصافات: 96] وأن العباد لا يقدرون يخلقون شيئًا، وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وكما قال: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) } [النحل: 20] و] كما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، [كما قال تبارك وتعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ(1/110)
هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) } ] [الأعراف: 178] وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا [كافرين] كما علم، وخذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره [وأن نؤمن بقضاء الله وقدره] خيره وشره، وحلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا إلا بالله كما قال عز وجل، ونلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر، وندين بأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه، إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ(1/111)
لَّمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15] وأن موسى [عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله سبحانه وتعالى تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلم بذلك موسى أنه] لا يراه في الدنيا، وندين بأن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج، وزعمت أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر، مثل الزنا والسرقة، وما أشبههما، مستحلًا لها غير معتقد لتحريمها، كان كافرًا، ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كلَّ إسلام إيمانٌ، وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، [وأن القلوب] بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بأن لا ننزل أحدًا من أهل التوحيد، والمتمسكين بالإيمان، جنة ولا نارًا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنَّار معذبين، ونقول: إن الله عز وجل يخرج قومًا من النار بعد أن امتحشوا، بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقًا لما(1/112)
جاءت به الروايات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وبأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد، في الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم للروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات، عدلًا عن عدل، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بحب السلف، الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم، بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين، ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعزَّ به الدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة، كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأن الذين قاتلوه، قاتلوه ظلمًا وعدوانًا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،(1/113)
ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكف عما شجر بينهم، وندين الله بأن الأئمة [الأربعة] خلفاء راشدون مهديون، فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي [يـ] ثبتها أهل النقل، من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافًا لما قال أهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وأن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) } [النجم: 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات، خلف كل بر وغيره، وكما رُوي أن «عبد الله بن عمر» كان يصلي(1/114)
خلف الحجاج» وأن المسح على الخفين سنة، في الحضر والسفر، خلافًا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج بالسيف، وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، ومساءلتهما المدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج، ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام، ونقر أن لذلك تفسيرًا، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرًا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة، برهم وفاجرهم، وموارثتهم، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات(1/115)
وقتل فبأجله مات وقتل؛ وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل، يرزقها عباده حلالًا وحرامًا، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه ويتخبطه، خلافًا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وكما قال: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ] } [الناس: 4-6] ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصّهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم: وقولنا في أطفال المشركين: «إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارًا، ثم يقول لهم: اقتحموها» كما جاءت بذلك الرواية، وندين الله بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم(1/116)
صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرنا من قولنا، وما بقي منه، مما لم نذكره بابًا بابًا، وشيئًا شيئًا» .
قلت: وهذه الجمل التي ذكرها في الإبانة، هي الجمل التي ذكرها في كتاب «المقالات» عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يقول بذلك، كما تقدم نقل «ابن فورك» لذلك، لكنه في «الإبانة» بسطها بعض البسط، بالتنبيه على مأخذها لأنه كتاب احتجاج لذلك، ليس هو كتاب حجة لنقل مذاهب الناس فقط، وقد تكلم في مسألة الرؤية لله، ومسألة القرآن بما احتج به في ذلك، ثم قال: «باب ذكر الاستواء على العرش، إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل له: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقد قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال عز وجل: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ(1/117)
ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36-37] كذّب موسى عليه السلام في قوله إن الله عز وجل فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات، قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات، فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يرد أن القمر يملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا، يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش، الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض» ثم قال: «فصل وقد قال قائلون من(1/118)
المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى: قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إنه: استوى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه، كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة *لأن الله قادر على كل شيء، والأرض* فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويًا على العرش بمعنى: الاستيلاء -وهو عز وجل مستوْلٍ على الأشياء كلها- لكان مستويًا على العرش، وعلى الأرض وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرًا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان،(1/119)
فلزمهم أنه في بطن مريم، والحشوش والأخلية، وهذا خلاف لدين الله تعالى عن قولهم» ثم قال: «مسألة: ويقال لهم: إذا لم يكن مستويًا على العرش، بمعنى يختص العرش دون غيره، [كما] قال ذلك أهل العلم، ونقلة الآثار وحملة الأخبار، وكان الله بكل مكان، فهو تحت الأرض التي السماء فوقها، وإذا كان تحت الأرض، فالأرض فوقـ[ـه] والسماء فوق الأرض، وفي هذا ما يلزمكم أن تقولوا: أن الله تحت التحت والأشياء فوقه، وأنه فوق الفوق والأشياء تحته، وفي هذا ما يجب أنه تحت ما [هو] فوقه، وفوق ما هو تحته، وهذا المحال المتناقض تعالى الله عن افترائكم علوًا كبيرًا.(1/120)
دليل آخر: ومما يدل أن الله عز وجل مستوٍ على عرشه دون الأشياء كلها: ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر» .(1/121)
وروى عبد الله بن بكر حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن [أبي] جعفر أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى، فيقول: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟(1/122)
حتى ينفجر الفجر» .
وروى عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: قفلنا مع(1/123)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد، أو قال بقديد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إذا مضى ثلث الليل، أو قال ثلثا الليل نزل الله إلى السماء، فيقول الله: من ذا الذي يدعوني أستجب له؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يسألني أعطه حتى ينفجر الفجر» .
دليل آخر: وقال الله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } [الفرقان: 59] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء(1/124)
بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه» .
قلت: قوله منفرد بوحدانيته هو نظير قول «ابن كلاب» المتقدم. ثم قال: «دليل آخر، وقال عز وجل: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وقال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } [النجم: 8-18] وقال عز وجل، لعيسى ابن مريم عليه السلام {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السموات، ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعًا يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعًا، لا والذي احتجب بسبع سموات.
دليل آخر: وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ(1/125)
اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم، ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة، وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله [إلا] وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا، فيرتفع الشك والحيرة، من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيًا، أو من وراء حجاب، أو أرسل رسولًا، ويترك أجناسًا لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
ودليل آخر: وقال الله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال عز وجل: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48] كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
[فلم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيته، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل] » .(1/126)
[قلت: فقوله] «الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة» بيان أن كلامهم يقتضي عدمه.
وقوله: «ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانيته» موافقة «لابن كلاب» فيما ذكره؛ من أن الواحد هو المنفرد عن الخلق، فمن لم يقر بذلك لم يقر بوحدانيته.
وقوله: «كل ذلك يدل على انه ليس في خلقه ولا خلقه فيه، لأنه مستوٍ على عرشه» يبين معنى ما ذكره في «الموجز» كما نقله «ابن فورك» لما قال في جواب المسائل: «أتقولون: إنه خارج من العالم، إن أردت أنه ليست الأشياء فيه، ولا هو في الأشياء، فالمعنى صحيح، وأنه لم يرد بذلك مجرد النفي المقرون بإثبات كونه فوق العرش، كما صرح به هنا، ويؤكد ذلك أنه بين أن الذين يصفونه بالنفي يؤول كلامهم كله إلى التعطيل وأنهم لا يثبتون له حقيقة، ولايوجبون له وحدانية.
«دليل آخر: قال الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فسمى نفسه نورًا، والنور عند الأمة لا يخلو أن يكون أحد معنيين:(1/127)
إما أن يكون نورًا يسمع، أو نورًا يُرى، فمن زعم أن الله يُسمع ولا يُرى، فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه، وتكذيبه بكتابه، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم.
وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك» .(1/128)
قلت: وهذا الحديث رواه عن الإمام «أحمد» و «الحاكم» الحافظ المعروف «بالعسال» في كتابه «المعرفة» . قال: حدثنا محمد بن العباس حدثني عبد الوهاب الوراق حدثنا علي بن(1/129)
عاصم، عن ابن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك» .
قال عبد الوهاب الورّاق: «من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة» .(1/130)
وقال: حدثنا محمد بن علي بن الجارود حدثنا أحمد بن مهدي حدثنا عاصم بن علي بن عاصم حدثنا أبي عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك» .
قلت: وهذا لفظ الحديث، وأما قوله: «ما بين عرشه إلى(1/131)
السماء ألف عام» فإن حقه أن يقول: ما بين كرسيه والعرش كما في الحديث المشهور عن ابن مسعود، وممن رواه أيضًا الحاكم أبو أحمد حدثنا محمد بن العباس حدثني عبد الوهاب بن عبد الحكيم الوراق حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر عن المسعودي عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش(1/132)
عن عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام، وبُصر كل سماء خمسمائة عام» قال أبو النضر: يعني غلظة، «وما بين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق ذلك، والله عز وجل على العرش لا يخفى عليه من أعمالكم شيء» ، وقال عبد الوهاب: هكذا يعرف الإسلام.
ثم قال الأشعري: «دليل آخر: روت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/133)
أنه قال: «إنّ العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عز وجل حتى يسأل عن عمله» ؛ وروت العلماء أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» فقالت: في السماء. قال: «فمن أنا؟» قالت: رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعتقها فإنها مؤمنة» .
قال: «وهذا يدل على أن الله على عرشه فوق(1/134)
السماء» .
قلت: وهذا كله موافقة لما ذكره «ابن كلاب» فإنه استدل بهذا الخبر الذي فيه السؤال بأين والجواب بأنه في السماء، على أن الله فوق عرشه فوق السماء، فعلم أنه لا يمنع السؤال بأين، بل يثبته «ابن كلاب» فقد تبين بما ذكرناه من كلام «الأشعري» بلفظه، أنه موافق «لابن كلاب» في أن الله فوق خلقه، وأن ذلك واجب من طريق العقل، بحيث يكون من نفى ذلك معطلًا للصانع منكرًا لوحدانيته، كما صرح به «الأشعري» موافقة «لابن كلاب» وأنه موافق له في السؤال عنه بأين والجواب بأنه في السماء، كما ذكره «الأشعري» وأنه منكر لتأويل من تأول الاستواء على العرش بالاستيلاء والقهر والقدرة وغير ذلك، مما يشترك فيه العرش وغيره، وأن الاستواء يختص بالعرش، وأنه فوق العرش لا إنه مجرد شيء أحدث في العرش من غير أن يكون الله فوقه، كما قد بين هذا المعنى في غير [هـ] من كلامه، وهذه المواضع الثلاثة التي زعم «ابن فورك» أنهم اختلفوا فيها، ولم يأت من كلام «الأشعري» بما يشهد له، وهذا الكتاب هو من(1/135)
أشهر تآليف «الأشعري» وآخرها، ولهذا اعتمد [هـ] الحافظ «أبو بكر السمعاني» في كتاب «الاعتقاد» له وحكى عنه في مواضع منه، ولم يذكر من تآليفه سواه، وكذلك «الحافظ أبو القاسم بن عساكر» في كتابه الذي صنفه وسماه «تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري» قال بعد أن ذكر فصلًا من محاسنه: «فإذا كان «أبو الحسن» كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب، عند أهل المعرفة بالعلم(1/136)
والانتقاد يوافقه فيما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والفساد، فلا بد أن نحكي عنه معتقده، على وجهه بالأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه، تركًا للخيانة، ليعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه، الذي سماه «بالإبانة» » وذكر ابن عساكر الخُطبة، وما ذكرناه حرفًا بحرف، إلى باب الكلام في إثبات الرؤية، ثم قال عقب ذلك: «فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العالم، الذي شرحه وبينه، انظروا سهولة لفظه، فما أفصحه وأحسنه، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه «لأحمد» بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين» .
قال: «ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر، على ممر(1/137)
الأوقات والأيام، تعتضد بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن «أبي نصر القشيري» ووزارة «النظام» ووقع بينهم(1/138)
الانحراف من بعضهم عن بعض، لانحلال «النظام» ولذلك كان يظهر هذا الكتاب، كل من يريد إظهار محاسن «الأشعري» من أهل الإثبات، كما ذكر ذلك: «الحافظ أبو القاسم بن عساكر» قال: «سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل البوشنجي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه؛ أن الإمام «أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري» قال: ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده(1/139)
كتاب «الإبانة» «لأبي الحسن الأشعري» ويظهر الإعجاب به، ويقول: ما الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه» قال الحافظ أبو القاسم: [فهذا] قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان» .
وقال أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي، الحافظ، صاحب كتاب «اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع» في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: «ورأيت هؤلاء الجهمية، ينتمون(1/140)
في نفي العرش، وتعطيل الاستواء إلى «أبي الحسن الأشعري» وما هذا بأول باطل ادَّعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم «بالإبانة عن أصول الديانة» أدلة من جملة ما ذكر [ته] على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: «ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا، إذا هم رغبوا إلى الله في الأمر النازل بهم، يقولون جميعًا: يا ساكن العرش» ثم قال: «ومن حَلِفهم جميعًا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات» .
وكذلك الشيخ «نصر المقدسي» له تأليف في الأصول،(1/141)
نقل فيه فصولًا من كتاب «الإبانة» هذا، وكان في وقفه به نسخة، وكذلك الفقيه «أبو المعالي مُجَلِّي» صاحب كتاب «الذخائر في الفقه» قال الحافظ أبو محمد بن المبارك بن علي البغدادي المعروف بابن الطباخ في آخر كتاب الإبانة: «نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه مجلي الشافعي، أخرجها إليَّ في مجلد فنقلتها وعارضتها بها، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول: لله من صنفه، ويناظر(1/142)
على ذلك لمن ينكره» قال: «وذكر لي ذلك وشافهني به، وقال: هذا مذهبي وإليه أذهب» .
فإن قيل: «فابن فورك» وأتباعه لم يذكروا هذا، قيل له سببان:
أحدهما: أن هذا الكتاب ونحوه، صنفه ببغداد في آخر عمره، لما زاد استبصاره في السنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة، بما أفصح به فيه وفي أمثاله، وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول وبين القول وبين القول بالعدم، و «ابن فورك» قد ذكر فيما صنفه من أخبار «الأشعري» تصانيفه قبل ذلك، فقال: «انتقل الشيخ «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» من مذاهب المعتزلة، إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة، بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب، وهو بصري من أولاد «أبي موسى الأشعري» فلما وفقه الله لترك ما كان عليه من بدع(1/143)
المعتزلة، وهداه إلى ما نشره من نصرة أهل السنة والجماعة، ظهر أمره وانتشرت كتبه بعد الثلاثمائة، وبقي إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة» قال: «فأمَّا أسامي كتبه مما صنفه إلى سنة عشرين وثلاثمائة فإنه ذكر في كتابه الذي سماه «الصمد» في الرؤية أسامي أكثر كتبه» فذكر الفصول والموجز وغيرهما.
ثم قال: «وقد عاش بعد ذلك إلى سنة أربع وعشرين [وثلاثمائة] وصنف فيها كتبًا» ذكر منها أشياء.
قال «ابن عساكر» بعد أن ذكر كلام «ابن فورك» : «هذا آخر ما ذكره «ابن فورك» من تصانيفه، وقد وقع إليَّ أشياء(1/144)
لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها رسالة «الحث في البحث» ورسالة «الإيمان» وهل يطلق عليه اسم الخلق؟، وجواب «مسائل كتب بها إلى أهل الثغر» في تبيين ما سألوه عنه، من مذاهب أهل الحق» .
وذكر عن «عزيز بن عبد الملك» القاضي، قال: «سمعت من أثق به. قال: رأيت تراجم كتب الإمام «أبي الحسن» فعددتها أكثر من ثمانين وثلاثمائة مصنف» .
السبب الثاني: أن «ابن فورك» وذويه كانوا يميلون إلى النفي في مسألة الاستواء ونحوها، وقد ذكرنا فيما نقله هو من ألفاظ «ابن كلَّاب» وهو من المثبتين كذلك كيف تصرف في كلامه، تصرفًا يشبه تصرفه في ألفاظ النصوص الواردة في إثبات ذلك،(1/145)
كما فعله في كتابه «تأويل مشكل النصوص» فكان هواه في النفي يمنعه من تتبع ما جاء في الإثبات، من كلام أئمته وغيرهم، وكذلك فيما نقله من كلام «الأشعري» كيف زاد فيه ونقص، مع أن المنقول نحو ورقتين، فلعله أيضًا قد عمل ذلك فيما نقله من كلام «ابن كلاب» إذ لم نجد نحن نسخة الأصول التي نقل منها، حتى نعلم كيف فعله فيها، وفيما نقله تحريف بيِّن، لكن مأخذه في ذلك، مأخذ من ينسب فتاويه وعقائده إلى السنة والشريعة النبوية، لظنه أن هذا هو الحق الذي لا تأتي بخلافه، فكذلك هو يظن أن ما زاده ونقصه يوجبه بعض أصول «ابن كلاب» و «الأشعري» وإلا كان فيما ظهر من كلامهما خلافه، وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه، يسوغون أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبة قولية، توافق ما اعتقدوه من شريعته، حتى يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب، وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن «ابن فورك» لم يكن من هؤلاء، وإنما هو من الطبقة الثانية، الذين ينسبون إلى الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق، فهذا واقع في كثير من طائفته، حتى أنه في زماننا في بعض المجالس المعقودة، قال كبير القضاة: إن مذهب(1/146)
الشافعي المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذي يعلم هو وكل عالم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن «أبي حنيفة» و «مالك» مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذي نقلته عن الشافعي من أين هو؟ أي: أن الشافعي لم يقل هذا. فقال: هذا قول العقلاء، والشافعي عاقل لا يخالف العُقَلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء، ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب، التي لم ينقلها أحد عنهم،(1/147)
لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغي أن يعرف، ومن أسباب ذلك أيضًا أن «الأشعري» ليس له كلام كثير منتشر في تقرير مسألة «العرش» ، والمباينة للمخلوقات، كما كان «لابن كلَّاب» إمامه، وذلك لأنه تصدى للمسائل التي كان المعتزلة تظهر الخلاف فيها، كمسألة الكلام والرؤية، وإنكار القدر والشفاعة في أهل الكبائر ونحو ذلك، وأما العلو فلم يكونوا يظهرون الخلاف فيه إلا لخاصتهم، لإنكار عموم المسلمين لذلك، وإنما كان سلف الأمة وأئمتها يعلمون ما يضمرون من ذلك بالاستدلال، «فالشعري» تصدَّى لردِّ ما اشتهر من بدعهم، فكان إظهار خلافهم في القرآن والرؤية من شعار مذهبه، التي لم يتنازع فيها أصحابه، وإن كانوا قد يفسرون ذلك بما يقارب قول المعتزلة، بخلاف ما لم يكونوا يظهرون مخالفته، فإنه كان أدخل في السنة وأعظم في الأُمَّة وأثبت في الشرع والعقل، مما أظهروا مخالفته، حتى أنَّ فضلاء الفلاسفة «كأبي الوليد بن رشد» يحكون(1/148)
مذهب الحكماء إثبات العلو فوق المخلوقات، مع أنَّ مذهبهم تفسير الرؤية بزيادة العلم، وأن القرآن خلقت حروفه في النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فلم يتصدَّ «الأشعري» لردِّهم [ردا] ، يشتهر عن المعتزلة إظهار الخلاف فيه، وبيان تناقضهم فيه، فلذلك لم يكن خلافهم فيه من شعائر مذهبه، بل يوافقهم في أصول، قال بعض متبعيه: فبما أنها مستلزمة نفي العلوِّ على العرش، وإن كان «الأشعري» وأئمة أصحابه لم يقولوا ذلك، وقد علم أهل العلم المعرفة والعقل والبصيرة؛ أن تلك الأصول، التي وافقهم عليها، أقوى استلزامًا لقولهم فيما أظهر فيه منها، لما لم يشتهر عنه خلافهم فيه، ولهذا صار جمهور الناس من المثبتة والنافية، يعدون ما عليه هؤلاء المثبتين للرؤية والكلام وغير ذلك، مع نفي العلو على العرش من أعظم الناس تناقضًا في الشريعة والسنة وفي العقول والقياس، ولهذا [من] حقق منهم «كالرازي» وأمثاله، يميلون في الباطن إلى النفي في مسألة الرؤية أيضًا وغيرها.(1/149)
فصل
وهذا المعنى الذي نبَّه عليه «ابن كلَّاب» من مضاهاة الجهمية للدهرية، والثنويَّة كلام جيد، ونحن كنا قد كتبنا ما يتعلق بذلك في أثناء الكلام، كما سيجيء قبل أن نقف على كلامه، وبينا أن قول الفلاسفة الذين يقولون: بأن العالم متولد عنه لازم له، هو نحو قول من ينكر الصانع بالكلية، وهذا الذي سماه هؤلاء الدهر، هو الذي يسميه أولئك واجب الوجود، وقول الجهمية مضاهٍ لقولهم في لزوم تعطيل الصانع أيضًا، ولهذا ذكرنا في غير هذا الموضع أن أسانيد «جهم» ترجع إلى المشركين والصابئين والمبدلين واليهود المُبَدِّلين، وذكر [نا أن] شر هؤلاء هم القرامطة والباطنية نُفَاة الأسماء(1/150)
والصفات مطلقًا، وأن قولهم مأخوذ من قول ملاحدة المجوس، وقول ملاحدة الفلاسفة الصابئين الدهريين.
وهذا يبين صحة ما ذكره «ابن كُلَّاب» من مضاهاة الجهمية لهاتين الأمتين؛ الدهرية الصابئين المشركين والمجوس الثنوية. ولهذا كان قول الاتحادية من الجهمية، هو في الحقيقة قول هؤلاء، ومضمونه تعطيل الصانع، وهو قريب من قول من يقول من الجهمية: إنه في كُلِّ مكان، فإنهم يجعلونه وجود الموجودات، كما قد شرحنا في موضعه، وكل من لم يقل أنَّ الرب سبحانه واحد منفرد مباين لمخلوقاته كان من هذه الطوائف، وفي إنكار «ابن كلاب» على الجهمية لما شبههم بالمجوس -وقال: «كذلك زعمتم أنَّ الواحد ليس كمثله شيء، تعالى عما قلتم، كان لا نهاية له، ثم خلق الأشياء غير منفكة منه ولا هو منفك منها، ولا يفارقها ولا تفارقه، فأعطيتم(1/151)
معناهم ومنعتم القول والعبارة» -.
دليل على انه منع من القول بأن الله لا نهاية له، وأنه لا ينفي النهاية والحد، كما زعم ابن فورك، وقد فسر الرجل معناه فيما نفاه من الحد، فإنه جعل هذا من منكر قول الجهمية، ولا ريب أنَّ ما أثبته، من أنه واحد منفرد بنفسه، مباين لمخلوقاته، فوق العالم، يُنافي دعوى أنه لا نهاية له، ثم قال «ابن فورك» :
«فصل آخر وذكر بعد ذلك كلامًا يدل على أنَّ» أصله -وهو الحق- أنَّ اجتماع الشيئين من طريق الإثبات، في وصف لا يجب به التشبيه، كما لا يجب باجتماعهما في وصف من طريق النفي، وهو قوله في إلزام المعتزلة إذ قالوا له: إنك أوجبت التشبيه، إذ قلت: أن الله تعالى مباين منفرد من خلقه، لأجل أن ذلك إذا وصف به، ووصف به الخلق، واشتركا فيه، تشابها.
فقال: «إذا كان يلزم بزعمكم، إذا قلنا: إنَّ الله تعالى واحد، منفرد، التشبيه. فكذلك إذا قلتم: إنه واحد لا منفرد، وواحد لا منفرد، لأن الوصفين جميعًا في الخلق، منفرد ومنفرد ولا منفرد و [لا] منفرد، فلم لا يكون إذا كان حكم(1/152)
ما كان منفردًا، حكم ما كان مفردًا، أن يكون حكم ما لا ينفرد [حكم ما لا ينفرد] إذا كان جميعًا في الخلق ثابتين، فإن مَرَّا بأبصار قلوبكم، حيث أريد لكم، فإنكم ستجدون ذلك كما وصفنا لكم» .
قلت: هذا يدل على أنه لا يعني بتفسيره للواحد، بأنه المنفرد المباين ما لا ينقسم، كما ذكره «ابن فورك» لأن عدم الانقسام مخصوص عنده بالله تعالى، وكل ما سواه مما يدرك وجوده فإنه ينقسم، و «ابن كلاب» قد جعل هذا الوصف يمكن ثبوته للمخلوق، وأنه يكون واحدًا منفردًا، وأنه كان جسمًا، كما تقدم بيان ذلك من كلامه، وتفرقته بين الجسم المصمت، والجسم المتخلل، وهم إنما أوردوا عليه، لما فسروا الواحد بأنه الذي لا نظير له، ولم يثبتوا له حقيقة يكون بها واحدًا، وهو أثبت حقيقة بها كان واحدًا، وهو انفراده بنفسه.(1/153)
فصل
وأما نفيه للمماسة فقال «ابن فورك» : «فصل آخر في ذكر إبطال المماسة، قال في كتاب «الصفات الكبير» : «ولو كان مماسًا لعرشه، لكان العرش مماسًا له، ولو كان العرش مماسًا له، لحدث فيه عن مماسته إياه معنى، كما يحدث بين كل متماسين، وتعالى الله عن الحوادث، فلما فسدت مماسة العرش إياه فسدت مماسته العرش» .
قال «ابن فورك» : «وهذا يبين من كلامه إحالة المماسة على الله، ويبين أيضًا من مذهبه بأن الحوادث لا تحل في ذاته، وأن ما حلته الحوادث محدث، على خلاف ما ذهبت إليه الكرامية، المجسمة الجهلة، وأن المتماسين متماسان، بحدوث متماسين فيهما» .
قلت: هذا الذي ذكره «ابن فورك» من قوله: وهو كما ذكره، وكذلك ما ذكر من مخالفته للكرامية، في مسألة الحوادث، لكن الكرامية أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة العرش، وعلو الله عليه، فإن قولهم وقول «ابن كلاب» في ذلك متقاربان، و «ابن فورك»(1/154)
وأصحابه أقرب إلى «ابن كلاب» في مسألة الحوادث، فإن قولهم فيها كقول «ابن كلاب» لا كقول الكرامية، ولهذا كان المنتسبون إلى «ابن كلاب» من أهل الكلام، والفقه والحديث، لا يعرف عنهم خلاف أهل الحديث، في مسألة العرش، وإنما وقع النزاع بينهم وبين غيرهم في مسألة القرآن، والله أعلم.
وقد تبين بما ذكرناه، أن المخالفين لأهل الإسلام، في مسألة العرش، وأن الله فوقه، كانوا في صدر الإسلام من أقل الناس، كما ذكره «ابن كلاب» إمام «الأشعري» وأصحابه، وإن كان أكثر الأشعرية المتأخرين، قد صاروا في ذلك مع المعتزلة؛ بل يقال أشهر الطوائف بهذا النفي، الذي ذكره عنده، وعند أمثاله؛ الفلاسفة المشائين أتباع «أرسطو» من المتقدمين، و «كالفارابي» و «ابن سينا» ونحوهما من المتأخرين، ومن(1/155)
أخبر الناس بمقالات «أرسطو» وأصحابه، ومن أكثر الناس عناية بها، وقولًا بها وشرحًا لها، وبيانًا لما خالفه فيه، «ابن سينا» وأمثاله منهم القاضي «أبو الوليد بن رشد» الحفيد الفيلسوف، حتى أنه يردّ على من خالفهم، كما صنف كتابه «تهافت التهافت» الذي ردَّ فيه على «أبي حامد الغزالي» ما ردّه على الفلاسفة، وإن لم يكن مصيبًا، فيما خالف فيه مقتضى الكتاب والسنة، بل هو مخطئ خطأً عظيمًا، بل ما هو أعظم من ذلك، وإن زعم أنه أوجبه البرهان، وأنه من علم الخاصة دون الجمهور، ولكن الغرض أنه مع مبالغته في اتباع آراء الفلاسفة المشائين، هو مع هذا نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقد قرر ذلك بطرقهم العقلية، التي يسمونها البراهين، مع أنه لايرتضي طرق أهل الكلام، بل يُسَمِّيها هو وأمثاله الطريق الجدلية، ويسمونهم أهل الجدل، كما يسميهم بذلك(1/156)
«ابن سينا» وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي، الذي ذكروه في القياس إلى برهاني، وجدلي، وخطابي، وشعري، وسفسطائي زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي، من النوع البرهاني، وأن غالب مقاييس المتكلمين إمَّا من الجدلي، وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام علماء الفلاسفة، «كالفارابي» و «ابن سينا» و «محمد بن يوسف العامري»(1/157)
و «ابن رشد» وغيرهم، وإن كانوا في هذه الدعاوي ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي، هي في كلام المتكلمين أكثر منها وأشرف منها في كلامهم، وإن كان في كلام المتكلمين أيضًا، أقيسة جدلية وخطابية وشعرية، بل وسوفسطائية كثيرة، فهذه الأنواع هي في كلامهم أكثر منها في كلام المتكلمين، وأضعف إذا أخذ ما تكلموا فيه من العلم الإلهي، بالنسبة إلى ما تكلم به المتكلمون.
والمقصود هنا ذكر ما ذكره عن مذهب الفلاسفة في مسألة الجهة، وهذا لفظه في كتاب «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» : «القول في الجهة، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة، من أول الأمر، يثبتونها لله سبحانه وتعالى، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، «كأبي المعالي» ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي(1/158)
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهًا، لأن الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى» قال: «وجميع الحكماء: قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت [جميع] الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهمية إلى نفيها؛ هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إمَّا سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إنَّ للحيوان فوقًا وأسفلًا ويمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا، وإما سطوح جسم آخر(1/159)
تحيط بالجسم من الجهات الست، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه، فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا، وأما سطوح الجسم المحيطة به، فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضًا مكان للهواء، وهذه الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج، فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون خارج [هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية، فإذا سطح آخر أجسام] العالم ليس مكانًا أصلًا، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذًا(1/160)
إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة، فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو عكس ما ظنَّه القوم فهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم، وليس لهم أن يقولوا: إنَّ خارج العالم خلاء، وذلك أنَّ الخلاء يبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئًا، أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولًا وعرضًا وعمقًا، لأنه إنْ رفعت الأبعاد عنه عاد عدمًا، وإن أنزل الخلاء موجودًا، لزم أن يكون أعراضًا موجودة في غير جسم، وذلك أنَّ الأبعاد، هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة؛ أنَّ ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة، وذلك أنَّ الموضع هو ليس بمكان فلا يحويه زمان، فكذلك إنْ كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدًا، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن، وقد تبين هذا المعنى مما أقوله؛ وذلك أنه(1/161)
لمَّا لم يكن هاهنا [شيء] إلا هذا الوجود المحسوس والعدم، وكان من المعروف أنَّ الموجود إنما يُنسب إلى الوجود؛ أعني أنَّه يقال: إنَّه موجود؛ أي: في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان هاهنا موجود، هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السموات، ولشرف هذا الجزء قال الله تبارك وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) } [غافر: 57] وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم، فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وابْتنى عليه، فإنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى، مع نفي الجسمية؛ هو أنه ليس في الشاهد تمثال له، وهو بعينه السبب في أنْ لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه؛ لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك(1/162)
معلوم الوجود في الشاهد، مثل العلم *يعني في الغائب، لأنه ضد الفاعل* فإنه لما كان في الشاهد شرطًا في وجوده كان شرطًا في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد، عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال من الشاهد، إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإنْ لم يكن ذلك المثال هو نفس الأمر المقصود تفهيمه، مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد، والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها، ليس يتفطن الجمهور لها، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم، فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع، وأن لا يتأول، ما لم يصرح الشرع بتأويله، والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى، وخاصةً متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور، وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك،ولم يقدروا على حلها،(1/163)
وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم المتشابه في الشرع، وهم الذين ذمهم الله، وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه. ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثل ما يعرض لخبز البُرّ مثلًا، الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان، أن يكون لأقل الأبدان ضارًا، وهو نافع للأكثر، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما ضر الأقل ولهذا أشار بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) } [البقرة: 26] لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز، في الأقل منها، والأقل من الناس، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب، ليس لها مثال في الشاهد، فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها، وأكثرها شبهًا بها، فيعرض لبعض الناس أن يرى به هو الممثل نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابهًا في الشرع، وهذا ليس يعرض للعلماء و [لا] الجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء،(1/164)
والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى منه هو الأقل، ولذلك قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ *وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ*} [آل عمران: 7] وهؤلاء [هم] أهل الجدل والكلام، وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف، إنهم تأولوا كثيرًا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أتى [الله] به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده، واختبارًا لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كان كتاب الله العزيز، إنما جاء معجزًا من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع، من قال فيما ليس [بـ] متشابه إنه متشابه، ثم أوله بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه، وبالجملة فأكثر(1/165)
التأويلات التي يزعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع، إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها، وعملهم عنها، فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور، إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر، فأما المقصود بالعلم في حق العلماء، فهو الأمران جميعًا؛ أعني العلم والعمل» .
وذكر كلامًا آخر نذكره إن شاء الله فيما بعد، عندما يذكره المؤسس، من موافقة بعض المسلمين الفلاسفة في [الجسم و] النفس، وفي غير ذلك مما يناسبه. وأما نقل سائر أهل العلم لمذاهب أهل الأرض من المسلمين وغيرهم في هذا الأصل، فهو أعظم من أن يذكر هنا إلا بعضه، وإنما نبهنا على أن أئمة الأشعرية الكبار، كانوا ينقلون ذلك أيضًا، وأنه لم يخالف في أن الله فوق العالم على العرش إلا الجهمية(1/166)
وموافقوهم، وسنذكر إن شاء الله عندما نذكره من احتجاج المثبتة بالدعاء ونحو ذلك، ما فيه عبرة، وكل من صنَّف في بيان مذاهب سلف الأمَّة وأئمتها من أهل العلم بذلك، فإنه ذكر أن ذلك قولهم جميعًا بلا نزاع، كما قال الشيخ الحافظ «أبو نصر السجزي» في كتاب «الإبانة» له: «وأئمتنا «كسفيان الثوري» و «مالك بن أنس» و «سفيان بن عيينة» و «حماد بن سلمة» و «حماد بن زيد» و «عبد الله بن المبارك» و «فضيل بن(1/167)
عياض» و «أحمد بن حنبل» و «إسحاق بن إبراهيم الحنظلي» متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأنَّ علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما يشاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منهم برءاء» .
وذكر الإمام «أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني» الذي له الرسالة التي سماها «برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء» لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء، قال:(1/168)
قول «الطبري» يعني: أبا جعفر «صاحب التفسير الكبير» و «أبي محمد بن أبي زيد» والقاضي «عبد الوهاب» وجماعة(1/169)
من شيوخ الحديث والفقه، وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي «بكر» و «أبي الحسن» يعني: «الأشعري» وحكاه عنه أعني: القاضي «عبد الوهاب» نصًا،: «وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته» وأطلقوا في بعض الأماكن «فوق عرشه» قال «أبو عبد الله القرطبي» في كتاب «شرح الأسماء الحسنى» :(1/170)
«هذا قول القاضي «أبي بكر» في كتاب «تمهيد الأوائل» له، وقول الأستاذ «ابن فورك» في شرح «أوائل الأدلة» وهو قول «أبي عمر بن عبد البر» و «الطلمنكي» وغيرهما من الأندلسيين، وقول «الخطابي» في(1/171)
«شعار الدين» » . ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولًا: «وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، والفضلاء الأخيار: أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح، في ما نقل عنهم الثقات» .
وقال أيضًا «أبو عبد الله» هذا في «تفسيره» الكبير، في قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] قال: «هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء، وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب «الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى» ، وذكرنا فيها هنالك أربعة عشر قولًا، والأكثر من المتقدمين والمتأخرين» يعني من متكلمي أصحابه «أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين» يعني: العلماء المتكلمين أصحابه، «تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز، الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث، هذا قول(1/172)
المتكلمين، وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا يعلم حقيقته، كما قال مالك رحمه الله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة» . وكذا قالت(1/173)
«أم سلمة» رضي الله عنها، وهذا القدر كاف» قال: «والاستواء في كلام العرب العلو والاستواء» وذكر كلام «الجوهري» في صحاحه وغير ذلك، هذا آخر كلام(1/174)
«القرطبي» .
وقال «أبو بكر محمد بن موهب المالكي» في شرح رسالة «أبي محمد بن أبي زيد» : «وأما قوله: «إنه فوق عرشه المجيد بذاته» فإن معنى: فوق وعلى عند جميع العرب واحد، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك، قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقال في وصف الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) } [النحل: 50] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ونحو ذلك كثير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعجمية التي أراد سيدها أن يعتقها: «أين ربك؟ فأشارت إلى السماء» ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء، من سماء إلى سماء، إلى سدرة(1/175)
المنتهى، وإلى ما فوقها، حتى قال: لقد سمعت صريف القلم، وأنه وصف من فرض الصلوات أنـ[ـه] كل ما هبط من مكانه، فلقي موسى في بعض السموات، فأمره بالتخفيف عن أمته، عاد يصعد ثم سأل إلى أن انتهى إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.(1/176)
وقد تأتي [لفظة «في» ] في لغة العرب بمعنى: فوق، وعلى ذلك قول الله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] يريد: عليها وفوقها. وكذلك قوله فيما وصف عن فرعون أنه قال في قصة السحرة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] يريد عليها، قال الله عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] الآيات كلها، قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة من أدرك من التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله في السماء، يعني: فوقها وعليها. ولذلك قال الشيخ أبو محمد: «إنه فوق عرشه المجيد» ، ثم بين أن علوه على عرشه وفوقه، إنما هو بذاته، لأنه بائن عن جميع خلقه(1/177)
بلا كيف، وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، إذ لا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، وقد كان ولا مكان، ولم يحل بصفاته عما كان، إذ لا تجري عليه الأحوال، لكن علوه في استوائه على عرشه، هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] و «ثم» أبدًا لا تكون أبدًا إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، فهو سبحانه وإن كان لا يزول ولا يحول فقد يزيل المخلوقات دونه، ويحيلها كيف يشاء، فصار بكونه على عرشه في وصفنا بخلاف ما كان قبل ذلك، هذا حكم وصفنا لاستوائه على عرشه سبحانه، ففرق بين ذاته وعلمه من جملة الحكم والمعنى، إذ لا تخلو الأماكن من علمه، وهو بائن عن جميعها بذاته، وإن كان محيطًا بها جميعًا عظمة وجلالًا» .
إلى أن قال: «وقوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنت المعتزلة، ومن قال بقولهم: إنه معنى الاستواء، وبعضهم يقول: إنه على المجاز دون الحقيقة، ويبين(1/178)
سوء تأويلهم في استوائه على عرشه، على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهل المعقول، بأنه لم يزل مستويًا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرش وغيره في ذلك سواء، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء، الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة» .
قال: «ويبين أيضًا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } [النساء: 122] فلما أبصر المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه، بعد خلق سمواته وأرضه، وتخصيصه بصفة الاستواء، علموا أن الاستواء هاهنا على غير الاستيلاء ونحوه، فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه، وأنه على الحقيقة لا على المجاز [لأنه الصادق] في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله، إذ لي كمثله شيء من الأشياء» .
وقال الشيخ الإمام «أبو أحمد الكرجي القصاب» إمام تلك(1/179)
النواحي علمًا ودينًا، في عقيدته التي ذكر أنها عقيدة أهل السنة، والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة «القادر» وقرأها على الناس، وجمعهم عليها، واقر بها طوائف السنة، واستتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وتبعه في نحو ذلك ذو السلطان «محمود بن سبكتكين» بأرض المشرق، وكان ذلك [عند(1/180)
ظهور] القرامطة الباطنية بمصر، في إمارة الحاكم، وما قبله وبعده من الأمور التي جرت في خلافة «القادر» التي أظهر فيها السنة، وأبطل البدعة، حتى أن الشيخ «أبا حامد الإسفراييني»(1/181)
و «أبا عبد الله بن حامد» وغيرهما أظهروا الإنكار على «أبي بكر بن الطيب» في أشياء خالف بها السنة حتى سرى من بعض ذلك [فتن] وصنف القاضي «أبو بكر» كتابه المشهور «في كشف أسرار الباطنية وهتك أستارهم» وكانت وفاة هؤلاء متقاربة بعيد المائة الرابعة، ثم كان ما فعله «القادر» من قراءة عقيدته بمحضر من أئمة المذاهب، قال فيها: «كان ربنا وحده، ولا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه، فاستوى عليه استواء استقرار، كيف شاء وأراد، لا استقرار راحة، كما يستريح الخلق، وهو مدبر السموات والأرضين، ومدبر ما فيهما، ومن في البر والبحر، لا مدبر غيره، ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم، ويعافيهم ويميتهم، والخلق كلهم عاجزون، والملائكة والنبيون والمرسلون، وسائر الخلق أجمعون، وهو(1/182)
القادر بقدرته والعالم بعِلم، أزلي غير مستفاد، هو السميع بسمع، والبصير ببصر، يعرف صفتهما من نفسه، لا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام يخرج منه، لا بآلة مخلوقة، كآلة المخلوقين، لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه بها نبيهُ صلى الله عليه وسلم، وكل صفة وصف بها نفسه، أو وصفه بها نبيه، فهي صفة حقيقة لا صفة مجاز» .
وقال الفقيه الحافظ «أبو عمر بن عبد البر» في كتاب «التمهيد شرح الموطأ» لما تكلم على حديث النزول، قال: «هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته ... وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ... ، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش، فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان» قال:(1/183)
«والدليل على صحة قول أهل الحق ... » وذكر بعض الآيات، إلى أن قال: «وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة، من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره مسلم» .
وقال «أبو عمر بن عبد البر» أيضًا: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله» .
وقال «أبو عمر» أيضًا: «أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يجدون فيه [صفة] محصورة، وأما أهل البدع الجهمية، والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولايحمل منها شيئًا(1/184)
على الحقيقة، ويزعم أن من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أقرَّ بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون؛ بما نطق به كتاب الله وسنة ورسوله، وهم أئمة الجماعة» .
قال «أبو عمر» : «الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر، في هذه المسألة، وما أشبهها، الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه» .
قال أبو عمر: «روينا عن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة والأوزاعي، ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت» .(1/185)
قال «أبو عمر» : «ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات أو جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فهو علم يدان به، وما أحدث بعدهم، ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم، فهو بدعة وضلالة» .
وقال مثله الإمام «أبو عمر الطلمنكي» في كتابه الذي سماه «الوصول إلى معرفة الأصول» وكان في حدود المائة الرابعة وله التصانيف الكثيرة، والمناقب المأثورة، قال: «وأجمع المسلمون من أهل السنة، على أن معنى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستويًا على عرشه كيف شاء» .
وقال أيضًا: «قال أهل السنة في قول الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد، على الحقيقة لا على المجاز» .
وقال «أبو بكر الخلال» في «كتاب السنة» أخبرنا أبو بكر(1/186)
المروزي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا سليمان بن داود، أبوداود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما في السموات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علمًا، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر، إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره» .(1/187)
وروى الإمام «عبد الرحمن بن أبي حاتم» في كتاب «الرد على الجهمية» عن «سعيد بن عامر الضبعي» إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق، أنه ذكر عنده الجهمية، فقال هم شر قولًا من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى، وأهل الأديان مع المسلمين، على أنَّ الله فوق العرش، وقالوا هم: «ليس عليه شيء» .(1/188)
وروى أيضًا عن «عبد الرحمن بن مهدي» الإمام المشهور، وهو من هذه الطبقة، قال: «أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إنَّ الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا» .
وعن «عاصم بن علي بن عاصم» شيخ البخاري وغيره، قال: «ناظرت جهميًا فَتَبين من كلامه أنه لايؤمن أنَّ في السماء ربًا» .(1/189)
وروى الحافظ «أبو بكر البيهقي» بإسناد صحيح عن «ابن وهب» ، قال: كنا عند «مالك» فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [سورة طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه(1/190)
فقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة، أخرجوه.
ورواه عنه يحيى بن يحيى النيسابوري الإمام، ولفظه: «فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» .
وروى البيهقي أنا أبو بكر بن الحارث، أنا ابن حيان،(1/191)
أنا أحمد بن جعفر بن نصر، أنا يحيى بن يعلى، سمعت نعيم بن حماد، يقول: سمعت نوح بن أبي مريم، يقول: «كنا عند أبي حنيفة -رحمه الله- أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمذ،(1/192)
كانت تجالس جهمًا، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس، تدع إلى بابها، فقيل لها: إنّ هاهنا رجلًا قد نظر في المعقول، يقال له أبو حنيفة، فأتته، وقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا، وقد وضع كتابًا أنَّ الله في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] قال: هو كما يكتب الرجل إلى الرجل أني معك، وهو غائب عنه» .
وروى «أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي» في «الفقه(1/193)
الأكبر» قال: «سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وعرشه فوق سبع سموات، فقلت: إنه يقول على العرش استوى، ولكن لا ندري العرش في السماء أم في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر» .
وروى ابن أبي حاتم، حدثنا علي بن الحسن بن مهران، حدثنا بشار بن موسى الخفاف، قال: جاء بشر بن(1/194)
الوليد إلى أبي يوسف رحمه الله، فقال: تنهاني عن الكلام، وبشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون.
فقال وما يقولون؟ فقال: يقولون: الله في كل مكان. فبعث أبو يوسف، وقال: عليَّ بهم. فانتهوا إليه، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول، والشيخ، يعني: الآخر. فنظر أبو يوسف إلى الشيخ، فقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك، فأمر به إلى(1/195)
الحبس، وضرب عليًا الأحول، وطوف به» .
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي يقول: «حبس رجل في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام بن عبيد الله ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه. قال: لا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردُّوه فإنه لم يتب بعد» . وهشام بن عبيد الله، هو أحد أعيان أصحاب «محمد بن الحسن» صاحب أبي حنيفة الفقيه، وفي منزله مات محمد(1/196)
وقال ابن أبي حاتم: «حدثنا محمد بن يحيى، عن صالح بن الضريس، قال: جعل عبد الله بن أبي جعفر(1/197)
الرازي، يضرب قرابةً [له] بالنعل على رأسه، يرى رأي جهم، ويقول: لا. حتى تقول: الرحمن على العرش استوى، بائن من خلقه» .
وقال الإمام «أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، الطحاوي» في العقيدة المشهورة له، التي قال في أولها: «ذكر بيان [عقيدة أهل] السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة ... وأبي يوسف ... ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم ... نقول: في توحيد الله معتقدين ... أن الله(1/198)
تعالى واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ... ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه ... وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على نبيه وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأيقنوا أنه كلام الله على الحقيقة، ليس بمخلوق ... فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر ... والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة، ولا كيفية ... وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ... ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه، عن خالص التوحيد ... وصحيح الإيمان، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه» إلى أن قال: «والعرش والكرسي حق، كما بين في كتابه، وهو [جل جلاله] مستغن عن العرش وما دونه، محيط [بكل] شيء وفوقه» .
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبي هارون،(1/199)
محمد بن خالد، عن يحيى بن المغيرة، قال: سمعت جرير بن عبد الحميد، يقول: «كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله» .
وروى «عبد الله بن أحمد بن حنبل» في كتاب «السنة» وروى غيره بأسانيد صحيحة، عن عبد الله بن المبارك، الذي(1/200)
يقال له: أمير المؤمنين في كل شيء، لجلالته في أنواع الفضائل، أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد أيضًا.
وروى عبد الله بن أحمد أيضًا، عن عبد الله بن المبارك، أن رجلًا قال له: «يا أبا عبد الرحمن، قد خفت الله من كثرة ما أدعوه على الجهمية. قال: لا تخف. فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء» .
وروى أيضًا عن سليمان بن حرب الإمام، قال: سمعت حماد بن زيد، وذكر هؤلاء الجهمية، فقال: «إنما يحاولون أن(1/201)
يقولوا ليس في السماء شيء» .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن سليمان، ولفظه: «إنما يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله» .
ورواه «الطبراني» في «كتاب السنة» عن العباس بن الفضل(1/202)
الأسفاطي عن سليمان بن حرب، سمعت حماد بن زيد، سمعت أيوب السختياني، وذكر المعتزلة، فقال: إنما مدار المعتزلة أن يقولوا ليس في السماء شيء» .
وحماد بن زيد وهو الإمام المطلق في زمن مالك والثوري والليث وكان يقول: إنه أعلم الناس بما يدخل في السنة من الحديث، وهو صاحب «أيوب السختياني» الذي قال فيه(1/203)
مالك، لما قيل له: حدثت عنه وهو عراقي، فقال ما حدثكم عن أيّوب أحد إلا وأيوب أفضل منه.
وأهل العلم والسنة بالبصرة متبعون لأيوب، وابن عون ويونس بن عبيد، ثم لحماد بن زيد وحماد بن سلمة ونحوهم.
ومذهب السنة الذي يحكيه الأشعري في «مقالاته» عن أهل السنة والحديث، أخذ جملته عن «زكريا بن يحيى الساجي» الإمام الفقيه عالم البصرة، في وقته، وهو أخذه عن أصحاب حماد وغيرهم، فيه ألفاظ معروفة من ألفاظ «حماد بن زيد»(1/204)
كقوله «يدنو من خلقه كيف يشاء» ثم أخذ الأشعري تمام ذلك عن الإمام أحمد لما قدم بغداد، وإن كان زكريا بن يحيى وطبقته هم أيضًا من أصحاب أحمد في ذلك.
وقد ذكر «أبو عبد الله بن بطة» في «إبانته الكبرى» عن «زكريا بن يحيى الساجي» جمل مقالات أهل السنة، وهي تشبه ما ذكره الأشعري في «مقالاته» وكان الساجي شيخ الأشعري، الذي أخذ عنه الفقه والحديث والسنة، وكذلك ذكر أصحابه.
وروى «عبد الله» ، عن «عباد بن العوام الواسطي» ، قال:(1/205)
«كلمت «بشر المريسي» ، وأصحاب بشر، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء» .
وقال الإمام «أحمد» : حدثنا «شريح بن النعمان» قال: سمعت «عبد الله بن نافع الصائغ» سمعت «مالك بن أنس» يقول: «الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان» .(1/206)
وروى «أبو بكر البيهقي» في كتاب «الأسماء والصفات» بإسناد صحيح عن «الأوزاعي» قال: «كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته» .
وقال الخلال في كتاب «السنة» : «أخبرني «الميموني» أنه(1/207)
قال: سألت أبا عبد الله، يعني «أحمد بن حنبل» ما تقول فيمن قال: إن الله [ليس] فوق العرش؟ قال: كلامهم كله يدل على الكفر.
وقال: أنا «يوسف بن موسى) أن أبا عبد الله «أحمد بن حنبل» قيل له: « ... والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، على عرشه لا يخلو الشيء من علمه» .(1/208)
وقال الشيخ «أبو بكر النقاش» صاحب «التفسير» و «الرسالة» : حدثنا «أبو العباس السّراج» سمعت «قتيبة بن سعيد» يقول: «هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى(1/209)
الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [سورة طه: 5] .
وقال «عبد الرحمن بن أبي حاتم» في «الاعتقاد» المشهور عنه في السنة: «سألت أبي و «أبا زرعة» عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار *وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار* حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته» . إلى أن قال: «وأن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا» .(1/210)
وذكر هذا الشيخ «نصر المقدسي» في كتاب «الحجة على تارك المحجة» له وقال أيضًا في هذا الكتاب: «إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام؛ من اتباع كتاب الله تعالى وسنة ورسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذاهبهم، وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم، فالجواب: أن الذي أدركتُ عليه أهل العلم، ومن لقيتهم وأخذتُ عنهم، ومن بلغني قولهم من غيرهم..» فذكر جمل اعتقاد أهل السنة، وفيه: «وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12] ، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) } [الجن: 28](1/211)
وقال الحافظ «أبو نعيم الأصبهاني» في عقيدة جمعها في أولها: «طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة» قال: «فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله [عليه] يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يختلط بهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه وخلقه» .
وقال الإمام العارف «معمر بن أحمد الأصبهاني» مفتي(1/212)
الصوفية العارفين، في أواخر المائة الرابعة في بلاده، قال: «أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف، من المتقدمين والمتأخرين» قال فيها: «وأن الله على استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأن الله عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه المنفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: «هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر» . قال: «ونزوله إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال» .(1/213)
وقال الشيخ الإمام العارف، أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، في كتاب «الغنية» له: «أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد» إلى أن قال: «وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] . « ... ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وذكر آيات وأحاديث، إلى أن قال: «وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير(1/214)
تأويل أنه استواء الذات على العرش» قال: «وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل» وذكر كلامًا طويلًا لا يحتملـ[ـه] هذا الموضع.
وقال الإمام الزاهد العلامة [الشيخ أبو محمد المقدسي] : «فإن الله وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله محمد خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله(1/215)
مغروزًا في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب بهم يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء [أيديهم] ، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون ذلك بألسنتهم، لاينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتِّباعه على ضلالته» قال: «وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني من الأخبار في ذلك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والأئمة المقتدين بسنته، على وجه يحصل [به] القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ويعلم تواتر الرواية بوجوه منهم، ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانًا، وينتبه من خفي عليه ذلك، حتى يصير كالمشاهد له عيانًا، ويصير للمتمسك بالسنة حجة وبرهانًا، واعلم رحمك الله أنه ليس من شرط صحة التواتر، الذي يحصل به اليقين، أن يوجد عدد التواتر في خبر واحد، بل متى نقلت أخبار كثيرة، في معنى واحد، من طرق يصدق بعضها بعضًا، ولم يأت ما يكذبها، [أ] ويقدح فيها، حتى استقرّ ذلك في القلوب واستيقنته، فقد حصل التواتر فيها،(1/216)
وثبت القطع واليقين، فإنا نتيقن جُودَ حاتم، وإن كان لم يرد بذلك خبر واحد مرضِ الإسناد، لوجود ما ذكرنا، وكذلك عدل عمر وشجاعة علي، وعلم عائشة، وأنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وابنة أبي بكر، وأشباه هذا، لا يشك في شيء من ذلك، ولا يكاد يوجد تواتر إلا على هذا الوجه، فحصول التواتر واليقين في مسألتنا مع صحة الأسانيد، ونقل العدول المرضيين، وكثرة الأخبار وتخريجها فيما لا يُحصى عددُه، ولا يمكن حصره في دواوين الأئمة والحفاظ، وتلقي الأمة لها بالقبول [وروايتهم لها] ، من غير معارض يعارضها ولا منكر، لمن يسمع منه شيء منها، أولى، لا سيما وقد جاءت على وفق ماجاء في القرآن العزيز، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42] قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] في مواضع من كتابه، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي(1/217)
السَّمَاءِ} [الملك: 16] في موضعين وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال سبحانه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وأخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36-37] يعني: أظن موسى كاذبًا في أن له إلهًا في السماء. والمخالف في هذه المسألة [قد أنكر هذا] يزعم أن موسى كاذب في هذا بطريق [القطع و] اليقين، مع مخالفته لرب العالمين، وتخطئته لنبيه الصَّادق الأمين، وتركه مذهب الصحابة والتابعين، والأئمة السابقين، وسائر الخلق أجمعين» .(1/218)
فصل
أما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والعرض والمركب ونحوها من الألفاظ الاصطلاحية التي تكلم بها أهل الخصومات من أهل الكم في الاستدلال بمعانيها على حدوث العالم، وإثبات الصانع، والإخبار بها عن الله نفيًا وإثباتًا، فهذا لا يعرف عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، الذين جعلهم الله أئمة لأهل السنة والجماعة، في العلم والدين، بل المحفوظ عنهم(1/219)
المتواتر إنكار ذلك وذم أهله، وصرحوا في ذمه بذم هذا الكلام -الجسم والعرض- لا سيما وذمهم للجهمية الذين يتكلمون بهذا الأسلوب ونحو [هـ] في حق الله تعالى، أضعاف كلامهم وذمهم للمشبهة، لأن ضررهم أقل، فإن الله بعث الرسل بالإثبات المفصل والنفي المجمل، فأخبروا أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، وأنه يحب ويبغض، ويتكلم ويرضى ويغضب، وأنه استوى على العرش، وغير ذلك مما أخبرت به الرسل، وقالوا في النفي ما قاله الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22] وأما أعداؤهم في هذا الباب من المشركين، ومن وافقهم من الصابئين المتفلسفة ونحوهم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، ويطلقون عبارات مجملة، تحتمل نفي الباطل [و] الحق؛ فيقولون: ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا منقسم، ولا مؤلف ولا مركب، ولا محدود، ولا له غاية ولا انتهاء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، حتى ينفوا كل ما يمكن للقلب أن يعلمه، فإذا طلب إثباته، قالوا: وجود مطلق. ونحو ذلك، فأثبتوا ما لا يكون موجودًا إلا في الأذهان لا في الأعيان،(1/220)
والجهمية توافق هؤلاء في النفي، وأما المبتدعة من المشبهة والمجسمة، فإن دعتهم الزيادة في الإثبات، والكفر والإلحاد، والفساد في ذلك النفي أعظم مما في الزيادة في الإثبات، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع.
ولم يكن ذمهم لذلك لمجرد اصطلاح ولا لترجمة معنى بلفظ لم يحتج إلى ترجمة به، بل لاشتمال ذلك على معانٍ باطلة، كما سنذكر ما نذكره عنهم من ذلك، في أثناء هذا الكتاب، حيث تذكر الطريق التي يعتمدها المعتزلة، ومن سلك سبيلهم، في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام، واستدلوا على ذلك بحدوث الأعراض في بعضها، وبامتناع خلو الأجسام عنها، فإن هذه الطريقة هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلا بهذه الطريق، فصارت هذه الطريق أصل الدين وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين؛ ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها، والذي فيها أهم الأمور عندهم، لكن ليس الغرض هنا ذكر ذلك بل المقصود هو.(1/221)
الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى، فإن كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى، فإن تنزيهه عن سمات الحدوث ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق، لامتناع أن يكون صانع العالم محدثًا، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإنه في كثير من ذلك نزاعًا بين الناس، وأهل هذه الطريقة إنما استدلوا على حدوث العالم، بما جعلوه دليلًا على حدوث الأجسام، وإنما استدلوا على ذلك بحدوث صفاتها، التي يسمونها الأعراض، والمشهور إنما هو حدوث الحركات وتوابعها، أما سائر الأعراض، ففي حدوثها نزاع بينهم مشهور، لكن قد يقولون: إنها لا تقوم إلا بجسم، وكل جسم محدث، فيلزم حدوث كل صفة وموصوف، فيلزم من ذلك أن ينفى عنه أن يوصف بذلك، لئلا يلزم حدوثه، فتكلموا في أن الله هل هو جسم أو ليس جسمًا؟، وأنه هل له صفات أم لا؟، وهل يقال: له أعراض أم لا؟ وما يتبع ذلك.
فذهبت المعتزلة ومن وافقها من سائر الجهمية إلى أنه يمتنع أن يكون الرب جسمًا، ويمتنع أن تكون له صفة، فإن ذلك أعراض، وبالغوا في النفي ظانين أن ذلك كله تنزيه، وقالوا: الباري لا يكون محلًّا للأعراض ولا للحوادث، ولا يكون في(1/222)
[أ] بعاض ولا تقدير، ومقصودهم بنفي الأعراض نفي الصفات، فلا تقوم به عندهم حياة، ولا علم ولا قدرة، ولا كلام، ولا سمع ولا بصر، ولا رضى ولا غضب، ولا حب ولا بغض، ولا غير ذلك، وكل ما يضاف إلى الرب من ذلك، فإن كان موجودًا فهو مخلوق، وكلامه عندهم أنه خلق في بعض الأجسام كلامًا، ورضاه وغضبه نفس ما يخلقه من النعيم والعذاب، وأمثال ذلك، وقالوا: لا ينزل ولا يجيء ولا يأتي، ولا كذا، فإن هذه الأمور هي الحوادث، وهو ليس محلًا للحوادث، وصار هؤلاء يقولون متى قيل: إنه جسم أو موصوف لزم أن يكون محدثًا، وقابل هؤلاء طوائف من متكلمة الشيعة والمرجئة وغيرهم، فقالوا: بل هو جسم ومتحيز، وله صفات تقوم به، وأفعال تقوم به، كالحركة والسكون، وحكى عنهم من الزيادة في الإثبات أمورًا، كما بالغ أولئك، وصار هؤلاء يقولون: متى قيل: ليس بجسم أو ليس بموصوف، لزم أن يكون معدومًا، ولا معنى للجسم إلا الموجود والقائم بنفسه، وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب «المقالات» مقالة الطائفتين، مع أنه يحكي ذلك كما وجده في كتب المعتزلة، فإنه كان أعلم بمقالتهم، وما نَقَلُوهُ عن مخالفيهم من قول غيرهم، لأنه كان منهم وبقي على مذهبهم أربعين سنة، ثم انتقل إلى نحو من(1/223)
مذهب ابن كلاب وما يقاربه من مذهب أهل السنة والحديث، ولهذا يوجد علمه بمقالات المعتزلة علمًا مفصلًا محكمًا، وأما علمه بمقالات أهل السنة والحديث، فهوة علم بمجمل ذلك، التي بلغته عنهم، لا علم بمفصل، كعلمه بمقالات المعتزلة، مع أن الأشعري لم يذكر مجسمًا لطائفةٍ من الطوائف في كتابه، خارجة عما ذكره، بل قال: «هذا ذكر الاختلاف، واختلف المسلمون عشرة أصناف: الشيعة والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والضرارية، والحسينية -يعني أتباع حسين النجار- والبكرية، والعامة وأصحاب الحديث، والكلابية - أصحاب عبد الله بن كلاب القطان» ثم ذكر الشيعة وذكر أن أكثر الإمامية كانوا يقولون: بالتجسيم، وأنه إنما صار إلى نفيه وموافقة المعتزلة قوم من متأخريهم، وذكر أن الزيدية نوعان: نوع(1/224)
يثبت الصفات ونوع ينفيها، وذكر الخوارج، وأن قولهم في أكثر التوحيد قول المعتزلة، قال: «واختلف المرجئة في التوحيد فقال قائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وسنشرحه، وقال قائلون بالتشبيه» .
الوجه العاشر: قوله: «وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزهًا عن لواحق الحس وعلائق الخيال» .
يقال له: أنت الذي جعلته متخيلًا، لا حقيقة له في الخارج، حيث جعلت وجوده من جنس وجود الأمور الذهنية، التي لا توجد إلا في الذهن والخيال، وهذا قول متخيل لا حقيقة له، بمنزلة الإفك المفترى والكذب المختلق، فإن هذه الأمور كلها، لها وجود في الذهن والخيال، وليس لها حقيقة في(1/225)
الخارج، وهذا هو التخيل المذموم، وهو أن يتخيل العبد ما ليس له حقيقة موجودة، أما تخيل الأمور الموجودة، مثل ما يراه النائم في منامه من الرؤيا المطابقة للخارج، فهذا ليس بمذموم ولا معيب، بل هو حق في بابه، وأما تخيل الأمور الموجودة المحسوسة، على ما هي عليه موجودة في الخارج، فهذا حق باطنًا وظاهرًا، وإنكار هذا سفسطة كإنكار المحسوسات الموجودات.
الوجه الحادي عشر: قوله: «لواحق الحس» إن عنى به أن الحس لا يلحقه، أي لا يدركه ولا يحيط به، فلا الحس يحيط به ولا العقل، فلا اختصاص للحس بذلك، وإن عنى أنه لا يحس أي لايرى. فهذا ممنوع باطل، وهم لا يتظاهرون بإنكار ذلك، وإن كانوا في الحقيقة موافقين لمن أنكره. ولولا أن هذا ليس موضعه لذكرناه.
الوجه الثاني عشر: أن قوله: «لواحق الحس وعلائق الخيال» ظاهر لفظه هو ما يلحق الحس. ولا يخلو أن يريد به نفي ما يلحق الحس أو المحسوس، وما يتعلق بالخيال أو التخيل، أو يريد به أنه لا يحلقه الحس، ولا يتعلق به الخيال، فإن أراد الأول: وهو مقتضى اللفظ، لزم في ذلك أن كل ما(1/226)
يوصف به الحس أو المحسوس، أو الخيال أو التخيل لا يوصف به، ومعلوم أن ذلك يوصف بأنه موجود وثابت، وحق ومعلوم، ومذكور وموصوف، ونحو ذلك، مما لا نزاع في أن الله يوصف به. وإن أراد الثاني: وهو الذي أراده والله أعلم، وإن كان قد قصر في دلالة اللفظ عليه، كان مضمونه أنه لا يحس بحال، فإن أراد به ما يستلزم، أنه لا يرى ولا يسمع كلامه، فهذا ممنوع وهو باطل، وإن أراد به لا يكون كالمحسوسات، في إدراك الحس له، فيقال ولا هو كالمعلومات والمعقولات، في تعلق العلم به؛ فإن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
الوجه الثالث عشر: أن طوائف يفرقون بين كونه معقولًا، وكونه محسوسًا، حتى يقول النفاة منهم: لا يعلم إلا بإشارة العقل، وقد يقولون: إنه من قسم الحقائق المعقولة دون المحسوسة ونحو ذلك، فيقال: هذا اللفظ فيه إجمال وإيهام. فإن أرادوا أنه في الدنيا لا يعرف إلا بالقلب، لا يشهد بالبصر الظاهر وغيره من الحواس فهذا حق، لكن ما يعرفه القلب، ويشهده القلب، ويحسه القلب، ونحو ذلك أعم من أن يكون معقولًا محضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت» وقد اتفق(1/227)
على ذلك سلف الأمة وأئمتها، ولم يتنازعوا إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإن نازع في غيره بعض من لم يعرف السنة، ومذهب الجماعة من بعض المتكلمة وجهال المتصوفة ونحوهم.
وإن أراد أنه لا يرى في الدنيا والآخرة، أو لا يمكن رؤيته فهذا مذهب الجهمية والمعتزلة في ذلك معروف، وقد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل وبصرائح العقل بطلان هذا المذهب.
وإن أراد أنه من باب ما يعقله القلب من الأمور المعقولة، التي لا يصح أن تكون محسوسة، فيقال له: المعقولات المحضة هي الأمور الكلية، فإن الإنسان إذا أحس بباطنه أو بظاهره بعض الأمور، كإحساسه بجوعه وعطشه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، وحزنه، ولذته وألمه وبما يراه بعينه ويسمعه(1/228)
بأذنه، فتلك الأمور معينة موجودة، فالعقل يأخذ منها أمرًا مطلقًا كليًا فيعلم جوعًا مطلقًا، وفرحًا مطلقًا، وشمًا مطلقًا، وألمًا مطلقًا ونحو ذلك، فهذه الكليات معقولات محضة، لأنه ليس في الخارج كليات مطلقة حتى يمكن إحساسها، والإحساس إنما يكون بالأمور الموجودة، ولهذا قالوا: إنه يعلم المعدومات قبل كونها [علمًا] عامًا، أما السمع والبصر فإنما يكون للموجود. ومن قال إنه يرى ... وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع.
وإذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى جعله من باب الموجودات في الأذهان لا في الأعيان، وهذا حقيقة قول الجهمية الذين يقولون: إنه لا يمكن رؤيته وإحساسه؛ فإن كل موجود قائم بنفسه يمكن رؤيته؛ بل كل موجود يمكن إحساسه إما بالرؤية وإما بغيرها، فما لا يعرف بشيء من الحواس لم يكن إلا معدومًا، حتى أن الصور الذهنية يمكن إحساسها من حيث وجود ذواتها، ولكن هي من جهة مطابقتها(1/229)
للمعدومات كلية، والمطابقة صفة لها إضافية. فهذه معانٍ ينبغي أن يفطن لها.
فصل
ثم قال أبو عبد الله الرازي «الثامن: أن خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال؛ لأن خصومنا في هذا الباب: إما الكرامية وإما الحنابلة [أما الكرامية] فإنا إذا قلنا لهم: لو كان الله مشارًا إليه بالحس لكان ذلك [الشيء] إما أن يكون منقسمًا، فيكون مركبًا، وأنتم لا تقولون بذلك، وإما أن يكون غير منقسم، فيكون في الصغر والحقارة، مثل النقطة التي لا تنقسم، ومثل الجزء الذي لا يتجزأ،(1/230)
وأنتم لا تقولون بذلك، فعند هذا الكلام قالوا: إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف، ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير» .
فقوله: «خصومنا في هذا الباب إما الكرامية، وإما الحنابلة» ليس بسديد، لا سيما وهؤلاء الحنابلة الذين وصفهم -إن كان لهم وجود- فهم صنف من الحنابلة الموجودين في وقته أو قبله بأرض خراسان وغيرها، ليسوا من أئمة علماء الحنابلة ولا أفاضلهم، فإن هذه الألفاظ التي حكاها عن الحنابلة لا نعرفها عن أحد منهم كما سنذكره.
وكذلك هؤلاء الكرامية الذين حكى قولهم هم بعض الكرامية، وإلا فكثير من الكرامية قد يخالفونه فيما حكاه عنهم، بل خصومه في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الدين من الأولين والآخرين، وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة -دع ما قد تنازع فيه من ذلك- فإنهم لا يطلقون على الله هذا الإطلاق الذي ذكره، وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض، لكنهم لايطلقون الألفاظ الموهمة المجمَلة إلا إذا نص الشرع، فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع، ونفي(1/231)
المعنى [الباطل] وفي لفظ الأجزاء، والأبعاض إجمال وإيهام كما سنذكره إن شاء الله، وما علمت أحدًا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان، بل كتبهم مصرحة [بنفي] ذلك المعنى الباطل، ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات.
فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس، تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره، وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم، كانوا على خلاف ما ذكره، وهذه أئمة المالكية، والشافعية، والحنفية، وأهل الحديث، والصوفية على ذلك، بل أئمة الصفاتية من الكلابية(1/232)
والكرامية والأشعرية على خلاف ما قاله، فهذه كتب ابن كلاب إمام طائفته، ثم الحارث المحاسبي ونحوه، ثم أبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه مثل أبي عبد الله بن مجاهد(1/233)
وأبي الحسن الطبري، وأبي العباس القلانسي، وغيره -كما سيأتي إن شاء الله حكاية قوله وقول غيره- والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي علي بن شاذان وغيرهم، كلهم يقولون: بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه، ويضللون من يفسر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه - كما قد حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء، وفي جواب هذه المسائل الموردة عليه وذكرنا أنَّ أبا الحسن الأشعري ذكر أن هذا قول جميع أهل السنة والحديث، وبه يقول الرازي وهو قد حكى أيضًا في كتبه ذلك عن بعض أئمة أصحابه، وذكر للأشعري نفسه قولين، وقد تكلمنا على ذلك. فكيف يزعم أن خصومه إنما هم(1/234)
الكرامية والحنابلة! بل لم يوافقه إلا فريق قليل من أهل القبلة.
حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب، كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف، مع فرط اعتنائه بالفلسفة، وتعظيمه لها، ومعرفته بها، حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه، ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه، وصنف كتبًا متعددة مثل كتاب «تهافت التهافت» في الرد على أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب «تهافت الفلاسفة» وكتاب «تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» وغير ذلك، قال في كتابه الذي سماه «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور. كما جاءت به الشريعة، وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان، للعلماء، كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور. وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور، وذكر فيه ما يوجب من الأمور، التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه، كما ذكر أنه لا يصلح في الشريعة، أن يقال: إن الله جسم أو ليس بجسم، مع أنه يقول في الباطن، إن الله ليس بجسم. ومع هذا فأثبت الجهة باطنًا وظاهرًا، وذكر أنه(1/235)
قول الفلاسفة فقال:
«فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح الشرع [بنفيها عن الخالق؟ أو هي من المسكوت عنها؟ فنقول: إنه من البين من أمر الشرع] أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق [إلا] أنها في الخالق أتم وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم. والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع، فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ(1/236)
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) } [الشورى: 11] وينهي عن هذا السؤال، وذلك لثلاثة معان:
أحدها: أن إدراك هذا المعنى، ليس هو قريبًا من المعروف بنفسه، برتبة واحدة ولا رتبتين ولا ثلاث، وأنت تتبين ذلك من الطريق التي سلكها المتكلمون في ذلك فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم؛ أنه قد تبين أن كل جسم محدث. وإذا سئلوا عن الطريق التي فيها يوقف على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرناها من حدوث الأعراض، وأن ما لا يتعرى من الحوادث حادث. وقد تبين لك من قولنا إن هذه الطريقة ليست برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها.
وأيضًا فإن ما يصفه هؤلاء القوم من أنه سبحانه [له] ذات وصفات زائدة على الذات. يوجبون بذلك أنه جسم أكثر مما ينفون عنه الجسمية، بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا هو(1/237)
السبب الأول في أنه لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم.
أما السبب الثاني: فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم. فإذا قيل لهم: إن هاهنا موجودًا ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل، ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها معطلة واعتقدت الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة.
وأما السبب الثالث: فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت في الشرع شكوك كثيرة؛ مما يقال في المعاد وفي غير ذلك، منها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية. فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية. وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك(1/238)
ذلك عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية نومي إلى الوهم الذي فيها عند الكلام في الرؤية.
ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة من بادئ الرأي عن الخالق سبحانه كونه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة، وذلك أن بعث الأنبياء ابتنى على أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه. أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء، وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] .
وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة.
ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية، وجب التصريح بنفي(1/239)
الحركة، فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر، من [أن] الباري يطلع [على] أهل المحشر، وأنه الذي يلي حسابهم، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل إليه أقرب منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع. فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها، وأما إذا أولت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه من الشريعة، فتتمزق الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها. وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، وهذا كله إبطال للشريعة، ومحو لها من(1/240)
النفوس، من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة: مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء تجدها كلها غير برهانية؛ بل الظواهر الشرعية أقنع منها -أعني أن التصديق بها أكثر- وأن تتبين ذلك من قولنا في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك يتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة على ما سنقوله بعد، وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور [عن النفس -أعني الجسمية- لم يصرح الشرع للجمهور] بما هي النفس. فقال في الكتاب العزيز: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) } [الإسراء: 85] وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور، لاكتفى بذلك الخليل(1/241)
في محاجة الكافر حين قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] الآية: لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم والله ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول الأشعرية وكذلك كان يكتفي بذلك موسى عليه السلام، عند محاجته لفرعون في دعواه الإلهية، وكذلك كان يكتفي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال، في إرشاد المؤمنين إلى كل ما يدعيه من الربوبية، في أنه جسم والله ليس بجسم، بل قال عليه السلام: «إن بكم ليس بأعور» فاكتفى(1/242)
في الدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة، التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه. فهذه كلها كما ترى بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق، التي أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها ستفترق أمته إليها.
فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور، لا بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا به في جواب «ما هو» ؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان وليس يقدر أن ينفك عنه، ولذلك ليس يقنع الجمهور، أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به أنه لا ماهية له، لأنه ما لا ماهية له لا ذات له؟
قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه(1/243)
العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت فإنه جاء أنه قيل له عليه السلام: «هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه» [و] في حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى، غشى السدرة من النور، ما حجب بصره عن النظر إليها، أو إليه سبحانه، ففي مسلم «إن لله حجابًا من نور لو كشف لأحرقت سُبُحات وجهه(1/244)
ما انتهى إليه بصره» وفي بعض روايات هذا الحديث «سبعين حجابًا من نور» .
وينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه، لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الأوهام، مع أنه ليس بجسم والموجود عند الجمهور، إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير(1/245)
المحسوس. والنور لما كان أشرف المحسوسات وجب أن يُمثل به أشرف الموجودات. وهنا أيضًا سبب آخر موجب أن يسمى به نورًا. وذلك أن حال وجوده في عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل، هي حال الأبصار عند النظر إلى الشمس بل حال عيون الخفافيش، وكان هذا الوصف لائقًا عند الصنفين من الناس.
وأيضًا فإن الله تبارك وتعالى لما كان سبب الموجودات، وسبب إدراكنا لها، وكان النور مع الألوان هذه صفته -أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل، وسبب رؤيتنا له- فالحق ما سمى الله تبارك وتعالى نفسه نورًا. وإذا قيل: إنه نور لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد. فقد تبين لك في هذا القول الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة في هذه الصفة، وما حدث في ذلك من البدعة، وإنما سكت الشرع عن هذه(1/246)
الصفة، لأنه لا يعترف بموجود في الغائب ليس بجسم، إلا من أدرك ببرهان أن في المشاهد بهذه الصفة -وهي النفس- ولما كان الوقوف على معرفة هذا المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم، فلما حجبوا عن معرفة النفس، علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه وتعالى» .
قلت: وقد تبين في هذا الكلام أنه في الباطن يرى رأي الفلاسفة في النفس أنها ليست بجسم، وكذلك في الباري؛ غير أنه يمنع أن يخاطب الجمهور بهذه؛ لأنه ممتنع في عقولهم، فضرب لهم أحسن الأمثال وأقربها، كما ذكره في اسم النور، وهذا قول أئمة الفلاسفة في أمثال هذا، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد بين بالحجج الواضحة أن ما يذكره المتكلمون في النفي مخالف للشريعة، وهو مصيب في هذا باطنًا وظاهرًا، وقد بين أن ما يذكره المتكلمون في نفي الجسم على الله بحجج ضعيفة، وبين فسادها، وذكر أن ذلك إنما يعلم إذا علم أن النفس ليست جسمًا. ومعلوم أن هذا الذي يشير إليه، هو وأمثاله من المتفلسفة، أضعف مما عابه على المتكلمين: فإن المتكلمين أفسدوا حججهم هذه أعظم مما أفسدوا به حجج المتكلمين.(1/247)
فيؤخذ من تحقيق الطائفتين بطلان حجج الفريقين على نفي الجسم، مع أن دعوى الفلاسفة أن النفس ليست بجسم، ولا توصف بحركة ولاسكون ولا دخول ولا خروج، وأنه لا يحس إلا بالتصور لا غير، يظهر بطلانه، وكذلك قولهم في الملائكة. وظهور بطلان قول هؤلاء أعظم من ظهور بطلان قول المتكلمين بنحو ذلك في الرب.
ثم قال القول في «الجهة» : «وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعها على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) } [السجدة: 5] ومثل قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] الآية، ومثل قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ(1/248)
تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا. وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهًا؛ لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء. وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم؛ فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة، وبهذا نقول» .(1/249)
فصل
قال الرازي: «وأما «الحنابلة» الذين التزموا الأجزاء والأبعاض» .
فيقال: إن أردت بهذا الكلام أنهم وصفوه بلفظ الأجزاء والأبعاض، وأطلقوا ذلك عليه من غير نفي للمعنى الباطل، وقالوا إنه يتجزأ أو يتبعض، وينفصل بعضه عن بعض، فهذا ما يعلم أحد من الحنابلة يقوله، هم مصرحون [بنفي ذلك] وإن أردت إطلاق لفظ البعض على صفاته في الجملة -فهذا ليس مشهورًا عنهم، لا سيما الحنابلة أكثر اتباعًا لألفاظ القرآن والحديث من الكرامية ومن الأشعرية (بإثبات لفظ الجسم من الحنابلة) - فهذا مأثور عن الصحابة والتابعين، والحنبلية وغيرهم متنازعون في إطلاق هذا اللفظ كما سنذكره إن شاء الله، وليس للحنبلية في هذا اختصاص، ليس لهم قول في النفي والإثبات إلا وهو وما أبلغ منه موجود في عامة الطوائف وغيرهم، إذ هم لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث والائتمام بمن كان بالسنة أعلم، أبعد عن الأقوال(1/250)
المتطرفة في النفي والإثبات، وإن كان في أقوال بعضهم غلط في النفي والإثبات فهو أقرب من الغلط الموجود من الطرفين في سائر الطوائف الذين هم دونهم في العلم بالسنة والاتباع.
وإن أردت أنهم وصفوه بالصفات الخبرية، مثل: الوجه واليد، وذلك يقتضي تجزئة التبعيض، أو أنهم وصفوه بما يقتضي أن يكون جسمًا، والجسم متبعض ومتجزئ، وإن لم يقولوا هو جسم. فيقال له: لا اختصاص للحنابلة بذلك، بل هو مذهب جماهير أهل الإسلام، بل وسائر أهل الملل وسلف الأمة وأئمتها.
وفي الجملة فإثبات هذه الصفات هو مذهب الصفاتية من جميع طوائف الأمة مثل الكلابية وأئمة الأشعرية، وهو مذهب الكرامية. ومن المعلوم أن بين إثبات الأشعرية ونحوهم له، وبين إثبات بعض الكرامية ونحوهم له فرقًا. وكثير منهم ينفي ذلك، ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته، ومنهم من أثبت ما جاء. وهذا إمام طائفته أبي الحسن الأشعري، وهو من أعلم الناس بمقالات أهل الكلام، قد ذكر في غير موضع من كتبه، أن هذا(1/251)
مذهب أهل السنة والحديث، وقال: «إنه به يقول» . كما قد ذكرنا لفظه في غير هذا الموضع، وهذه الكتب التي صنفها مصنفوهم كأبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني(1/252)
وذكروا فيها ما جرت عادة المتكلمة الصفاتية بذكره، كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأمثالهما من إثبات الصفات، ونفي التجسيم، قد بينوا فيها ذلك، كما بينه هؤلاء، ونحوهم في هذه الصفات العينية الخبرية كالوجه واليدين وغيرهما.
ومن أشهر مصنفيهم في ذلك أبو الحسن بن الزاغوني قال في كتابه «الإيضاح في أصول الدين» : «فصل وقد وصف الباري نفسه في القرآن بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة، ويراد بذلك إثبات صفة تختص باسم يزيد على قولنا: ذات. وذهبت المعتزلة إلى أن المراد بالوجه الذات، فأما صفة زائدة على ذلك فلا» ولم يذكر خلافًا مع الأشعرية، لأن المشهور عنهم إثبات هذه الصفة. قال: «والدلالة على ذلك أنه قد ثبت في عرف الناس، وعاداتهم في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة، أن تسمية الوجه في أي محل وقع، في الحقيقة والمجاز، يزيد على قولنا: ذات، وأما في الحيوان، فذلك مشهور حقيقة لا يمكن(1/253)
دفعه، ولا يسوغ فيه غير ذلك، وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضًا؛ لأنه يقال: فلان وجه القوم. لا يراد به ذات القوم، إذ ذوات القوم غيره قطعًا ويقينًا، ويقال: هذا وجه الثوب. لما هو أجوده، ويقال: هذا وجه الرأي. أي أصحه وأقومه، وأتيت بالخبر على وجهه أي على حقيقته. إلى أمثال ذلك مما يقال فيه الوجه، فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة، وجب حمل هذه الصفة في حق الباري تعالى على ظاهر ما وضعت له، وهو الصفة الزائدة على تسمية قولنا: ذات، وهذا جلي واضح» .
قال: «وتمهيد هذا الكلام وتقريره، أنه لا يجوز أن يقال بوجه الله على ما قيل في وجه القوم أنه سيدهم، والمعرب عنهم، والمشار إليه دونهم، لأن ذلك يقتضي بمثله في حق الله أن يقال: سيد الله، والمشار إليه، وهذا في حقه محال، ولا يجوز أن يراد به ما أريد من قولهم هذا وجه الثوب أي: أحسنه وأجوده لما ذكرنا أيضًا، ولأنه لا يجوز أن يضاف إلى ذاته ولا إلى غيره، لأنه تعالى ليس موصوفًا بالحسن والجودة. ولا يجوز أن يراد به ما أريد بأنه وجه الرأي أنه صوابه، لأنه لا يعبر بذات الله عن الصدق في الخبر والصحة في الرأي. فإذا بطلت هذه الأقسام وجب أن تحمل على إثبات صفة هي الوجه التي يستحقها الحي.(1/254)
قالوا: إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر، وبطل أن يراد بها إلا الوجه، الذي هو صفة يستحقها الحي، فالوجه الذي يستحقه الحي، وجه هو عضو وجارحة، يشتمل على كمية تدل على الجزئية، وصورة تثبت الكيفية، فإن كل ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية، وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه. وقد ثبت بالدليل الجلي، إبطال قول المجسمة والمشبهة، وما يؤدي إلى مثل قولهم فهو باطل.
قلنا: الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضي، وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم. حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك، عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية، وهذا كما نقول في ألفاظ الجموع(1/255)
وأمثالها: إن ظاهر اللفظ يقتضي العموم والاستغراق، وكما نقوله في الأمر: إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضي الوجوب، إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف. فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مِرْية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هو إذا أضيف إلى مكان أريد بها الحقيقة، أو أريد بها المجاز، فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع، أن المراد بها جميع الذات، التي هي مقولة عليها، وهذا مما لا نزاع فيه.
والمقصود بهذا إبطال التأويل، الذي يدعيه الخصم، فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة، بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات، ولا وضعت لها لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز.
فأما قولهم: إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحي، ولم يعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضوًا وجارحة ذات كمية وكيفية. فهذا لا يلزم: من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث، لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات، فيما ثبت للذات من الماهية المركبة، بكمياتها وكيفياتها وصورها،(1/256)
وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات، فكانت الصفة مساوية للذات في موضوعها، بطريق أنها منها، ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل، فأما الوجه المضاف إلى البارئ تعالى، فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه، وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية، وتتسلط عليه الكيفية، ولا يعلم له ماهية، فالظاهر في صفته التي هي الوجه، أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية، ولا يوقف لها على كيفية، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجسامًا، والله يتنزه عن ذلك. ولو جاز لقائل أن يقول: ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك من صفات الذات، لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها، بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات، لكان(1/257)
من الحياة والعلم والقدرة أيضًا كذلك، فإن العلم في الشاهد عرض، قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب، وذلك غير لازم مثله في حق البارئ، لأنه مخالف للشاهد في الذاتية وغير مشارك في إثبات ماهية، ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية، وهذا الكلام واضح جلي.
وأما قولهم: إن أردتم إثبات صفة تقارب الشاهد، فيما يستحق مثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه.
فنقول لهم: المقاربة تقع على وجهين: أحدهما: مقاربة في الاستحقاق لسبب موجبه التمام والكمال، وتنفي النقص. الثاني: مقاربة في الاستحقاق لسبب تقتضيه الحاجة ويوجبه الحس، ومحال أن يراد به الثاني؛ لأن الله تعالى قد ثبت أنه غني غير محتاج، ولا يوصف بأنه يحتاج إلى الإحساس؛ لما في ذلك من النقص. فيبقى الأول، وصار هذا كإثبات الصفات الموجبة للكمال ودفع النقص.
وأما قولهم: إن ذلك يوجب إثبات الجوارح والأعضاء. فليس بصحيح من جهة أنه يكتسب بها، ما لولا ثبوتها له لعدم الاكتساب له مع كونه محتاجًا إليه؛ ولهذا سميت الحيوانات المصيودة، كسباع الطير والبهائم جوارح، لأنها تكتسب(1/258)
الصيود، والبارئ مستغن عن الاكتساب، فلا يتصور استحقاقه لتسميته جارحة، مع عدم السبب الموجب للتسمية. فأما تسمية الأعضاء، فإنها تثبت في حق الحيوان المحدث، لما تعينت له من الصفات الزائدة على تسمية الذات، لأن العضو عبارة عن الجزء؛ ولهذا نقول: عضيته. أي جزيته وقسمته، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) } [الحجر: 91] أي: قسموه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فإذا كان العضو إنما هو مأخوذ من هذا، فالبارئ تعالى ليس بذي أجزاء يدخلها الجمع، وتقبل التفرقة والتجزئة، فامتنع أن يستحق ما يسمى عضوًا، فإذا ارتفع هذا بقي أنه تعالى ذاته لا تشبه الذوات، مستحقة للصفات المناسبة لها في جميع ما تستحقه، فإذا ورد القرآن وصحيح السنة في حقه بوصف، تُلقيَ في التسمية بالقبول، ووجب إثباته له مثل ما يستحقه، ولا يعدل به عن حقيقة الوصف، إذ ذاته تعالى قابلة للصفات، وهذا واضح بَيِّن لمن تأمله» .
فهذا لفظه ولفظ أمثاله من المصنفين على هذا الوجه.
وقال أيضًا. بعد ذلك:(1/259)
«فصل وقد وصف البارئ نفسه في القرآن باليدين، بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] قال: «وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين» . قال: «وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعمتين، وذهبت طائفة منهم إلى أن المراد باليدين هاهنا القدرة» . قال: «والدلالة على كونهما صفتين ذاتيتين، تزيدان على النعمة وعلى القدرة، أنا نقول: القرآن نزل بلغة العرب، واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم، المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف، لها خصائص فيما يقصد به، وهي حقيقة في ذلك، كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة، والصفة التي هي العلم، كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك، وهذا هو الأصل في هذه الصفة، وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها، مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك، فأما مع الإطلاق فلا، ولهذا يقولون: لفلان عندي يد. فيراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد، وإنما فهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله «عندي» ويقول ذلك وبينهما من(1/260)
البعد والحوائل، ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبًا: ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية، وهو أن يكونا متماسكين في الاجتماع ويحيط بهما ثوب، أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه، فقال حينئذ: لفلان عندي يد. لا يصرف القول فيه [غير] ، إلى اليد الحقيقية: لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة. والإطلاق في التعارف، أكثر من شاهد الحال في القرب، من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة، لكن على من شاهد الحال [لاغية] عليه، بما لإطلاقه ذلك أحق وأولى. وكذلك القول في التعبير باليد عن القدرة، إنما يثبت ذلك بقرينة، وهو أن يقول: لفلان علي يد. فقوله: «علي» قرينة تدل على أن المراد باليد القدرة، وهي أيضًا مع شاهد الحال لاغية على ما قدمنا في النعمة، وهذا جلي واضح.
ودليل آخر، وهو أنا إذا تأملنا المراد بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] امتنع فيه أن يكون المراد به النعمة والقدرة، وذلك أن الله تعالى أراد تفضيل آدم على إبليس، حيث افتخر عليه إبليس بجنسه، الذي هو النار، وأنه بذلك أعلى من التراب والطين، فرد الله عليه افتخاره، وأثبت لآدم من المزية(1/261)
والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس، بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وفي ذلك ما يدل على أن المراد فيها الصفة التي ذكرنا من وجهين:
أحدهما: أن إبليس عند الخصم، خلق بما خلق به آدم، من القدرة والنعمة، فلولا أن آدم خالف إبليس في ذلك، لما كان فيه إثبات فضيلة، وهذا كلام صدر على سبيل الحاجة في إثبات الفضل، فلو تساويا في السبب لما ثبت الحجة لله تعالى على إبليس في ذلك، وذلك مما لا يخفى عليه، فكان يسعه أن يقول: وأنا فقد خلقتني بما خلقت به آدم، فأي فضيلة له عليّ بما ذكرته، وما يؤدي إلى تعجيز الله عن حجته، وإزالة المميز بين الشيئين، فيما قصد التمييز به، بالمخالفة بينهما قول باطل ومحال.
والثاني: أنه أضاف الخلق وهو فعل يده سبحانه، والفعل متى أضيف إلى اليد، فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل، وليس إلا اليد التي ذكرنا، وهذا جلي واضح.
ودليل آخر نقول: لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعترض على الحقيقة مانع، يمنع من إجرائها(1/262)
على ظاهر الخطاب.
الثاني: أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها.
والثالث: أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة، أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها، فينتقل عنها إلى مجازها.
فإن قالوا: إن إثبات اليد الحقيقية، التي هي صفة لله تعالى، ممتنع لعارض يمنع. فليس بصحيح؛ من جهة أن الباري تعالى، ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات؛ فإن الباري تعالى في نفسه ذات، ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض، ولا ماهية له تعرف، وتدرك وتثبت في شاهد العقل، ولا ورد ذكرها في نقل، وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية. وإذا كان الكل مرتفعًا، والمثل بذلك ممتنعًا: فالنفار من قولنا: «يد» مع هذه الحال، كالنفار من قولنا: ذات، ومهما دفعوا به إثبات ذات مع ما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد، لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات، وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع، الملزم للإقرار بالذات، على ما هي عليه مما ذكرنا، فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم، عن نفي يد هي صفة تناسب الذات، فيما ثبت لها من ذلك، وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه.(1/263)
وإن قالوا: من جهة أنه اقترن بها قرينة، تدل على صلاحية نقلها، عن حقيقتها إلى مجازها. فذلك محال من جهات:
أحدها: أنا قد بينا أن إضافة الفعل إلى اليد، على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة، وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية، ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة.
والثانية: أن القرائن قد ذكرناها، وهو أنه إذا أريد باليد النعمة قال: لفلان عندي يد. فعند [ي] قرينة تدل على النعمة. وإذا أريد بها القدرة، قال: لفلان علي يد «فعلي» هي القرينة الدالة على القدرة وكلاهما معدومان هاهنا.
والثالث: أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد، من إثبات العضو والجارحة والجسمية، والبعضية والكمية والكيفية، الداخل على جميع ذلك، فحصل مثل وشبيه. وقد بَيَّنَّا أن ذلك محال في حقه: لأن نسبة اليد إليه تعالى كنسبة الذات إليه، على ما تقرر. فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة، النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز. وإن قالوا: إن المحل الذي أضيفت إليه اليد -وهو ذات الباري- لا يصلح لإثبات اليد الحقيقية. فهذا محال، من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على(1/264)
سبيل الحقيقة، كالوجود والذات، والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات، على ما قدمناه.
وإن قالوا: إن المعنى الذي أضيف إلى الصفة، لا يصلح إضافة اليد الحقيقية إليه من جهة أن آدم كان جسمًا، وإضافة الفعل باليد إليه، يقتضي إثبات المماسة باليد الفاعلة، وذلك محال؛ من جهة أن يد الباري وذاته لا تقبل المماسة للأجسام. وهذا قول باطل؛ من جهة أنا إذا أثبتنا اليد، التي هي صفة لله تعالى، على مثل ما وصفنا انتفت المماسة، والفعل المضاف إليها نطقًا ونصًا ثابتًا بطريق مقطوع عليه، فنفينا ما نفاه الإجماع، وأثبتنا ما أثبته النص والنطق، وجرى ذلك مجرى الذات قولًا واحدًا في الحكم.
والثاني: أن هذا إنما يلزم، إذا كان الفعل وكل الأحوال، لا بد له من المماسة وقد وجدنا فعلًا يؤثر وجوده في محل من محل آخر، ولا مماسة بينهما مع تساويهما في الجسمية؛ وذلك كما تراه من حجر المغناطيس؛ فإنه يؤثر في حركة الحديد، وانتقاله عن محله من غير مماسة، تقع بين الفاعل والمفعول، والعلة في ذلك قد تكون بين الفاعل والمفعول، وتستغني بذلك عن المماسة، ومثل هذا ظاهر لا خفاء به. فلما ثبت أنه لا سبيل(1/265)
إلى إثبات المماسة، أثبتنا الفعل للنص عليه، واستغنينا عن المماسة بواسطة.
قالوا: الأصل في اليد الفاعلة، أن تكون جارحة، عند التعارف والإطلاق، فانتقلنا عن ذلك إلى تأويلها في حق آدمي بما يصلح وهو النعمة. واليد في اللغة تقال: ويراد بها النعمة والمنة: ولهذا يقال: له عندي يد. وله عندي أيادٍ. والله تعالى له في خلق آدم عليه السلام نعمتان: نعمة دين، ودنيا، فاقتضى ذلك تأويلها على ماذكرناه.
قلنا: قد أبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل، أو الوجه الموجب اعتراض سبب مانع من إثبات الكلام على أصله وحقيقته، وما يبدر إليه الفهم والتعارف، في عادات أهل الخطاب، ولم يوجد ذلك هاهنا؛ ولأنه لو أراد باليد النعمة لقال: لما خلقت يدي لما خلقت نعمتي فإن نعمة الدين والدنيا خلق لها.
ومما يحقق هذا أن الخلق بنعم الدين لا يصلح؛ لأن نعم الدين: الإيمان، والتعبد، والطاعة. وكل ذلك عندهم مخلوق، والمخلوق لا يخلق به. وكذلك نعم الدنيا هي اللذات من الشهوات، وهذه كلها مخلوقة، وبعضها أعراض، وهذا بطريق القطع لا يجوز أن يخلق به، فكان هذا التأويل من هذا الوجه باطل.(1/266)
قالوا: إنما أضاف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفًا وتعظيمًا على إبليس، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف؛ ولهذا قال في ناقة صالح [ناقة الله] ويقال في مكة: بيت الله، فجعل هذا التخصيص تشريفًا، وإن كان ذلك لا يمنع من تساوي أنها كلها لله، وكذلك البيوت، ومثله هاهنا.
قلنا: التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة، اقتضى مجرد التشريف، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة، التي لولاها ما تمت النسبة، فإن قولنا: خلق الله الخلق بقدرته. لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله، اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة، ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة، فكذلك هاهنا لما كان ذكر التخصيص، مضافًا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة. وهذا لا شك فيه ولا مرية، وبهذا يبعد عما ذكروه» .
قال: «وأما قوله (بيدي) قدرتي؛ لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة، ولهذا أنشد في ذلك:
فسلمت وما لي بالأمور يدان(1/267)
ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله، إنما هو مضاف إلى قدرته، لا إلى يده، ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته، ويستغني عن يد وآلة، يفعل بها مع قدرته.
قلنا: قد بينا هذا فيما مضى، وأبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل به، إذ الحاجة مرتفعة، ولأن قدرة الله واحدة، لا تدخلها التثنية والجمع، وإذا امتنعت التثنية منها وضعًا امتنع عنها ذلك لفظًا.
قالوا: قد يرد لفظة التثنية والجمع والمراد به الواحد؛ ولهذا «العالم» اسم توحيد والمراد به الجمع، وقال تعالى {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) } [ق: 24] والمراد به ألق، ومثله هاهنا.
قلنا: إثبات القدرة واحد لله تعالى، أصل ثبت بالأخبار والنقل، وهو مما يعتري القصر والتخصيص فيه، وحمل اليد عليه يقتضي إدخال الشك في أصل عظيم، يكفر مخالف الحق فيه، فكان مراعاة هذا الأصل، بحراسته عن مقام شك أولى من إدخال التأويل هاهنا، وهذا يكفي في الإعراض عن مثل هذا التأويل.(1/268)
وأما قولهم: «العالم» اسم جمع توحيد. فليس كذلك؛ بل العالم اسم [جمع] لا واحد له من لفظه ولا يقع على الواحد.
قال: وأما قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] فإن ما احتجنا فيه إلى الانتقال عن لفظه لما ثبت أن المأمور واحد، فصار قوله (ألقيا) بمعنى ألق. وقد بينا هاهنا امتناع التأويل وإبطال سببه، وأن القائلين بهذه التأويلات، يجوزون أن يكون المراد بالانتقال غيرها، وإنما دخلوا فيها على سبيل الظن، ومحال نفي صفة لله تعالى بطريق هو على هذه الصفة» .
ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات، أربعة أصناف: صنف يثبتونها، وينفون التجسيم والتركيب، والتبعيض مطلقًا، كما هي طريقة الكلابية والأشعرية، وطائفة من الكرامية كابن الهيصم(1/269)
وغيره، وهو قول طوائف من الحنبلية، والمالكية، والشافعية، والحنفية، كأبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل، ورزق الله التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلي، والشريف أبي جعفر، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي(1/270)
الحسن بن الزاغوني، -ومن لا يحصى كثرة- يصرحون بإثبات هذه الصفات، وبنفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزئ والانقسام، ونحو ذلك. وأول من عرف أنه قال هذا القول هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله.
وصنف يثبتون هذه الصفات، ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم، والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة، لا بنفي ولا إثبات؛ لكن ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، ويقولون إنه (أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد) ويقول من يقول منهم: مأثور عن ابن عباس وغيره: أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض. وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزئته. بمعنى انفصال شيء منه عن شيء. وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة، وأئمتها، وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، وأهل الاتباع المحض من الحنبلية،(1/271)
على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة، ولا يطلقون على الله نفيًا وإثباتًا إلا ماجاء به الأثر، وما كان في معناه.
وصنف ثالث: يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم. وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين.
وصنف رابع: يصفونه مع كونه جسمًا بما يوصف به غيره من الأجسام، فهذا قول المشبهة الممثلة، وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم.
فلفظ «الجسم» لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا ذموا أحدًا ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهبًا ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما المتواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات، وذم طوائف منهم كالمشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة.
وأما لفظ «الجزء» فما علمت أنه روي عن أحد من السلف نفيًا ولا إثباتًا، ولا أنه أطلقه على الله أحد، من الحنبلية ونحوهم في الإثبات، كما لا أعلم أن أحدًا منهم، أطلق عليه لفظ الجسم في الإثبات، وإن كان أهل الإثبات لهذه الصفات، منهم ومن غيرهم، يثبت المعاني التي يسميها منازعوهم تجسيمًا، وتجزئة(1/272)
وتبعيضًا، وتركيبًا وتأليفًا، ويذكرون عنهم أنهم مجسمة بهذا الاعتبار، لإثباتهم الصفات التي هي أجسام في اصطلاح المنازع.
وأما لفظ «البعض» فقد روي فيه أثر يطلقه بعض الحنبلية، وينكره بعضهم. ومع هذا ففي الحنبلية طوائف، تنكر ثبوت هذه الصفات الخبرية في الباطن، كما ينكرها غيرهم. ثم منهم من يتأولها إما إيجابًا لتأويلها، وإما تجويزًا لتأويلها، كما يفعل ذلك متأولو النفاة من مستأخري الأشعرية ونحوهم. ومن ينفي مدلولها ويفوض معناه، كما يفعل ذلك طوائف من هؤلاء وغيرهم، ويسمون ذلك طريقة السلف، كما فعل ذلك المؤسس وغيره. وفيهم وفي غيرهم طوائف لا تحكم فيها بنفي ولا إثبات؛ بل تطلق ألفاظ النصوص الواردة بها، وتقف عن إثبات هذه المعاني ونفيها: إما شكًّا وإما إعراضًا عن الفكر في ذلك. وقد بينا مقالات الناس منهم ومن غيرهم في [غير] هذا الموضع.
والمقصود بهذا الكتاب الكلام على ما ذكره من حجج(1/273)
فريقي النفاة والمثبتة. وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد: الذي لا جوف له ولفظ بعضهم: لا يخرج منه شيء كما روى ابن أبي عاصم، والطبراني عن عكرمة من وجوه أنه قال: الصمد الذي لا جوف له ومن رواية ابن أبي شيبة عن(1/274)
غندر عن شعبة [عن] عطاء عن ميسرة قال: المصمت، وقال مجاهد: هو المصمت الذي لا جوف(1/275)
له، وعكرمة قال: الذي لا يخرج منه شيء، ورواه الطبراني أيضًا من حديث عبد الله بن إدريس عن شعبة، وروى الطبراني قال حدثنا زكريا، حدثنا القاضي، حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي،(1/276)
حدثنا أحمد الدينوري، حدثنا الحكم بن ظهير، عن معمر، عن أبي بن كعب قال: الصمد الذي لم يخرج منه شيء، ولم يخرج من شيء، الذي لم يلد ولم يولد، وذكر عن عطاء. وعن الحسن وقتادة قالا: الباقي بعد فناء(1/277)
خلقه، وفي رواية أنه قال الحسن: الدائم. مع أن الحسن قال أيضًا، كما قال عكرمة ومجاهد، وسعيد بن جبير وعطية، والضحاك والسدي، وغير هؤلاء. ورووه ليس(1/278)
بأجوف، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، وقال أبو صالح: الذي ليس له أمعاء، وروى(1/279)
الطبراني عن ابن مسعود قال: الصمد الذي ليس له أحشاء، وعنه أيضًا: أنه السيد الذي انتهى سؤدده، وهذا قول أبي وائل، وهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس. وقد بسطنا هذا(1/280)
في غير هذا الموضع.
وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه، وأن يخرج منه شيء؛ إذ ذلك ينافي الصمدية، وهو مما احتج به في أنه جسم مصمت، وقد ذكره المؤسس في حجج منازعيه وأجاب عنه، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. وقد قال أبو القاسم لما روى عبارات الصمد قال: «وهذه الصفات كلها، صفات ربنا جل جلاله، ليس يخالف شيء منها -يعني في- هو المصمت، الذي لا جوف له، وهو الذي لا يأكل الطعام، وهو الباقي بعد فناء خلقه» .
الوجه الرابع عشر: أن قولك عن الحنابلة وغيرهم أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض؟ أو ما هو في معناه في اصطلاح المتكلمين أو بعضهم؟
أما الأول: فإن لفظ الأجزاء والأبعاض، إذا أريد به أنه يتجزأ أو يتبعض التبعيض والتجزئ المعروف بمعنى وقوع ذلك،(1/281)
كما تتجزأ وتتبعض الثياب واللحم، وغيرها، كأبدان الحيوان، وكما يتجزأ ويتبعض الحيوان والثمار والخشب والورق ونحو ذلك، وكما يتجزأ ويتبعض الحيوان بخروج المني وغيره من الفضلات منه، ومن ذلك يولد شَبَهُه منه بانفصال جزء منه، كمني الرجل ومني المرأة ودمها، فهذا يمتنع باتفاق المسلمين؛ ولم يقل أحد من الحنابلة، بل ولا أحد من المسلمين، فيما علمناه، أنه يتجزأ ويتبعض بهذا المعنى. وكذلك لم يقولوا: أنه يمكن تجزئته وتبعيضه، كما يمكن تبعيض الجبال ونسفها، وكما يمكن انشقاق السماء وانفطارها عند المسلمين وغيرهم، ممن يؤمن بالقيامة الكبرى -وإن كان ذلك غير ممكن عند من أنكر ذلك من المشركين والصابئين من الفلاسفة وغيرهم- فالأجسام المخلوقة يَقْدِرُ الله على أن يجزئها ويبعضها فيفرقها ويمزقها، وهي في العادة ثلاثة أقسام:
أحدها: الأجسام اللينة الرطبة، التي تقبل التجزئة بسهولة.
والثاني: الأجسام اليابسة الصلبة، التي تقبل التجزؤ بقوة.(1/282)
والثالث: ما لم تجري العادة بتجزئته، ولكن يعلم قبوله للتجزئ. ولم يقل أحد من المسلمين أن الخالق سبحانه يمكن أن يتفرق وينفصل بعضه من بعض، بل هو أحد صمد.
والذين قالوا إنه جسم نوعان:
أحدهما: -وهو قول علمائهم- إنه جسم لا كالأجسام، كما يقال ذات لا كالذوات، وموصوف لا كالموصوفات، وقائم بنفسه لا كالقائمات، وشيء لا كالأشياء، فهؤلاء يقولون هو في حقيقته ليس مماثلًا لغيره بوجه من الوجوه، لكن هذا إثبات أن له قدرًا يتميز به، كما إذا قلنا موصوف، فهو إثبات حقيقة يتميز بها، وهذا من لوازم كل موجود، ولهذا يقولون: نعني بأنه جسم، أنه قائم بنفسه، ونحو ذلك مع قولهم: إنه ذو الأبعاد الثلاثة، لأنهم يقولون: لا يعقل موجود قائم بنفسه إلا هكذا، ويقولون: إن المشركين وأهل الكتاب لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ربك الذي تعبد هو من ذهب؟ هو من فضة؟ هو من كذا؟ فأنزل الله هذه السورة تنزيهًا أنه ليس من جنس شيء من(1/283)
الأجسام، ولا من جنس شيء من الذوات، ولا من جنس شيء من الموصوفات، والأجسام هي الذوات، وهي الموصوفات، وهؤلاء يقولون: إن حقيقته مخالفة سائر الحقائق، فيمتنع عليه أن يجوز عليه ما يجوز عليها، من عدم أو فناء أو تفرق، أو تبعيض ونحو ذلك.
أما النوع الثاني: وهم الغالبية الذين يحكى عنهم أنهم قالوا: هو لحم وعظم ونحو ذلك. فهؤلاء وإن كان قولهم فاسدًا ظاهر الفساد: إذ لو كان لحمًا وعظمًا، كمل يعقل لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام، وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه؛ فإنه سبحانه وتعالى إذ قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] وقال: إنه (أحد) وقال إنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فإنه قد دخل في ذلك ما هو أيضًا معلوم بالعقل، وهو أنه لا يكون من جنس شيء، أو بما يقتضي أنه يجوز [عليه] الإشارة إلى شيء دون شيء من الأشياء، وإن كان هو أكبر مقدارًا من ذلك الشيء، فإن القدر(1/284)
الصغير من ذهب أو فضة أو نحاس، هو من جنس المقدار الكبير، وهذا بعينه هو الذي نزه الله نفسه عنه في هذه السورة، وهو الذي سأل عنه من سأل من المشركين لما قالوا: هو من ذهب؟ هو من فضة؟ ونحو ذلك.
فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام، لكنه أكبر مقدارًا، وهذا باطل ظاهر البطلان شرعًا وعقلًا. وهؤلاء هم «المشبهة» الذين ذمهم السلف، وقالوا: المشبه الذي يقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فإن هذا التشبيه هو في الجنس، وإن كان المشبه أكبر مقدارًا من المشبه به، إذ لا يقول أحد إلا أنه أكبر. ومع ظهور بطلان قول هؤلاء، لم ينقل عنهم أنهم جوزوا عليه التبعيض والتفرق، لكن هذا لازم قولهم: فإنهم متى جعلوه من جنس غيره، جاز عليه ما يجوز على ذلك الغير، إذ هذا حكم المتجانسين المتماسكين. فهم إن أجازوا عليه من التبعيض والتفرق ما يجوز على مثله، لزمهم القول بجواز تبعيضه وتفرقه، بل بجواز فنائه وعدمه. وإن لم يجوزوا ذلك كانوا متناقضين، وقائلين ما لا حقيقة له، فإنهم يقولون: هو من جنسه وما هو من جنسه.(1/285)
وأما إن أراد بلفظ «الأجزاء والأبعاض» ما يريده المتكلمون بلفظ الجسم والتركيب -وهو الذي أراده- فإن الجسم كل جسم عندهم له أبعاض وأجزاء: إما بالفعل على قول من يثبت الجوهر الفرد، وإما بالإمكان على قول من ينفيه - فيقال له: هذا المعنى هو كما يريد الفلاسفة، والمعتزلة، بلفظ الأجزاء الصفات القائمة به، ويقولون: ليس فيه أجزاء حد، ولا أجزاء كم. وعندهم أن الأنواع مركبة من الجنس -وهو جزؤها العام- والفصل -وهو جزؤها الخاص- فإن أردت هذا المعنى فلا ريب أن الحنابلة هم من مثبتة الصفات، وهم متفقون على أن له علمًا وقدرة وحياة، فهذا النزاع الموجود فيهم هو الموجود في سائر الصفاتية.(1/286)
وأما وصفه بالحد والنهاية، الذي تقول أنت أنه معنى الجسم، فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال: منهم من يثبت ذلك، كما هو المنقول عن السلف والأئمة. ومنهم من نفى ذلك. ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات. ونفاة ذلك منهم يثبتون له مع ذلك الصفات الخبرية: لكن لا اختصاص للحنابلة بذلك كما تقدم بعضه، وكما سيأتي حكاية مذاهب الأئمة والأمة في ذلك. ومنهم طائفة لا تثبت الصفات الخبرية.
الوجه الخامس عشر: أن هذا القول الذي حكيته عن الحنابلة -مع أنك لم تؤد الأمانة في نقله، بل نقلته بلفظ لا يطلقونه، بحيث يفهم المستمع معان لم يقصدوها، ويوجب أن يعتقد في مذهب القوم ما لا يعتقدونه- لم تذكر عنهم تناقضًا فيه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم خالفوا لا المحسوس ولا المعقول، كما ذكرته عن الكرامية، ولا ذكرت أنهم أثبتوا شيئًا يعلم بالحس أو بالعقل بطلانه، كما ذكرته عن الكرامية، ولا وصفت به قولهم من مخالفة البديهة العقلية. وهذا الذي(1/287)
ذكرته هو الواقع، فإن أحدًا من العقلاء لم نعلمه ادعى أن فساد هذا القول معلوم بالضرورة العقلية -كما يقولونه في قولك، والقول الذي ذكرته عن الكرامية- بل غايتهم أن يدعوا أنه معلوم الفساد بدقيق النظر. ثم كل طائفة يثبتون فساد الطريق التي نفت بها الأخرى ذلك، وهذا يبين أنه ليس عند العقلاء في ذلك دليل يبقى عليه، بل ذكرت أنهم مع هذا الإثبات يقولون: «بأن ذات البارئ لا تماثل الذوات» وهذا حق لا ريب فيه. فما ذكرته هو تقرير لهذا القول ومدح له، وليس فيه ما يكون إلزامًا لك عليهم، ولا ما يقتضي تناقضًا فيه، فإن إثبات موجود ليس مماثلًا لغيره من الموجودات، لا يخالف حسًا ولا عقلًا، وهذا هو الذي تقدم ذكرنا له أن قوله: «لا بد من الاعتراف بوجود موجود على خلاف الحس والخيال» أنه إذا أراد بذلك أنه لا يماثل المحسوسات، فلا فرق في ذلك بين المحسوسات والمعقولات وغيرها؛ فإنه لا يماثل شيئًا من الأشياء المخلوقة بوجه من الوجوه، سواء سميت حسيات أو متخيلات أو عقليات، أو سميت جسمانيات أو روحانيات. فإذن ما تثبته من نفي المماثلة، لا يدل على ما قصدته من إثبات شيء على خلاف حكم الحس والخيال، دون حكم العقل، أو نفي التماثل، لا فرق بين جميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات.(1/288)
وقد ذكرنا فيما تقدم، أن نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق، مما علم بالشرع والعقل، وذلك لا يقتضي إثبات ما يعلم بالبديهة انتفاؤه، أو إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فهو أيضًا يقتضي انتفاء مماثلة الخالق للمخلوق، كما بيناه فيما تقدم؛ إذ التماثل يقتضي أن يجوز ويجب ويمتنع لكل منهما، ما يجوز ويجب ويمتنع للآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد خالقًا مخلوقًا، قديمًا محدثًا، موجودًا معدومًا، واجبًا ممكنًا، قادرًا عاجزًا، عالمًا جاهلًا، غنيًّا فقيرًا، حيًّا ميتًا؛ ولهذا كان هذا مذهب السلف قاطبة، يثبتون هذه الصفات الخبرية، وينفون التمثيل، وكانوا ينكرون على المشبهة، الذين يمثلون الله بخلقه، وهم على الجهمية، الذين ينكرونـ[ـه] أعظم نكيرًا، وأشد تضليلًا وتكفيرًا، وكلامهم في ذلك أكثر وأكبر.
وأما لفظ «الجسم» و «الجوهر» و «المتحيز» و «المركب» و «المنقسم» فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف، كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات، إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة، الذين نفوا ما جاءت به(1/289)
النصوص، والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص.
كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيًا وإثباتًا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة، وهم من أهل الكلام، الذي كان السلف يطعنون عليهم، وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارًا، إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم، إلا فيما هو من توابع التشيع، مثل مسائل الإمامة، التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها، بخلاف مسائل الصفات والقدر، فإن طعنهم فيه على المعتزلة، معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام، وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة في ذلك، فأما متأخروهم من عهد بني بويه، ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو(1/290)
ذلك، فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء، فما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه -أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى- ونحوهم من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في(1/291)
المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع، إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة، كعمرو بن عبيد وذويه، كانوا منحرفين عن علي، حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها: لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخرو الشيعة، والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم.
الوجه السادس عشر: أنك ذكرت عن الحنابلة «أنهم معترفون بأن ذاته تعالى مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وهذا حق. لكن تخصيصك هذه المحسوسات يشعر أن في(1/292)
الوجود أو في العلم، ما لا تكون ذات الله مخالفة له، وليس كذلك، [بل] هو سبحانه ليس كمثله شيء. فإن كان لفظ المحسوسات يعم سائر الموجودات، فلا فرق بين قولك: «مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وقولك: «مخالفة لذوات هذه الموجودات، والمعلومات» وإن لم يكن عامًّا كانت هذه عبارة رديَّة، وكان الواجب أن يقال: مخالفة لذوات المحسوسات، وإن قيل: إنه ليس من المحسوسات، كما يقول الفلاسفة في العقول والنفوس الناطقة. وكذلك لو قيل: المخالف للجسمانيات والروحانيات. على لغة العامة الذين يفرقون بين مسمى الجسم والروح؛ إذ الجسم عندهم أخص مما هو عند المتكلمين؛ ولهذا يفرقون بين الأجسام والأرواح. وأما اصطلاح المتكلمين فلفظ الجسم عندهم يعم هذا كله.
وكذلك قولك: «لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت» كلام صحيح؛ بل لا يساويها في شيء من الأشياء في صفات كمالها. وأما صفات النقص، فلا يوصف بها بحال، فهو سبحانه حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، حي لا يموت، لا يجوز عليه ضد العلم والقدرة والغنى وغير ذلك من صفات كماله، بل هو(1/293)
القدوس السلام، وصفات الكمال، [كـ] العلم والقدرة والرحمة، لا يساوي منها شيء من صفاته، شيئًا من صفات مخلوقاته، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - في كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» مع جمعه فيه للأخبار الواردة في الصفات، وإبطاله التأويلات التي ذكرها ابن فورك وغيره، مثل ما ذكره الرازي في «تأسيس تقديسه» .
قال القاضي أبو يعلى: «لا يجوز ردُّ هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة» وذكر كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري،(1/294)
ووكيع، والأوزاعي، والليث، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، وعبد الرحمن بن مهدي، وأسود بن سالم، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وقال في كلامه: «يدل على إبطال التأويل، أن الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق، لما فيه من إزالة التشبيه ورفع(1/295)
الشبهة» .
الوجه السابع عشر: أن يقال: ما ذكره من «أنه لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات، في هذه الصفات، لزم افتقاره إلى خالق آخر، ولزم التسلسل، أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق، وذلك يلزم منه نفي الصانع» فهذه الحجة وإن كانت في نفسها صحيحة، تدل على نفي هذه النقائص، فليست حجة على نفي التمثيل والتشبيه، فإن هذه النقائص يجب نفيها مطلقًا، وأما صفات الكمال، فيجب نفي التشبيه والتمثيل فيها، فإن قوله: «لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات» . فرض في الدليل من غير حاجة إليه، وتخصيص موهم، في هذه الصفات لا يستلزم ذلك، وليس ناف فرض المساواة، في غير هذه(1/296)
الصفات، ولا يستلزم ذلك، وليس الأمر كذلك، بل المساواة في أي صفة فرضت، تستلزم المحال، والجمع بين النقيضين. وأما هذه الصفات المذكورة، فلا يحتاج تنزيهه عنها، إلى أن ينفي عنه مساواته لسائر الذوات في ذلك، بل هذه منتفية عنه، مع قطع النظر عن التشبيه والتمثيل؛ فإن انتفاء الموت والمرض، وغير ذلك عنه، لم ينف لمجرد لزومه التشبيه والتمثيل.
ولهذا لو قيل: لو جازت عليه هذه الصفات، للزم افتقاره إلى خالق آخر، لأن هذه مستلزمة للعدم، وجواز العدم، كان دليلًا صحيحًا، من غير أن يقال: لو كانت ذاته مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات. وهذه الحجة مثل أن يقال: لو كانت ذاته مساوية للذات، الجاهلة والعاجزة في العجز والجهل، امتنع خلق العالم منه ونحو ذلك. فذكر المساواة والمماثلة، في مثل هذا الدليل غلط فاحش، لأن هذه النقائص، إذا ضم إليها المقدمة، التي يقف الدليل عليها، يجب تنزهه عن قليلها وكثيرها، لوجوب اتصافه بأضدادها، لما في ذلك من المماثلة لتلك الذوات، بل تنزيهه عن مساواة تلك الذوات، يوهم أنه(1/297)
لا ينزه إلا عن المساواة فيها فقط، وليس الأمر كذلك.
الوجه الثامن عشر: أن يقال: قولك «فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات، في قبول الاجتماع، والافتراق، والتغير، والفناء، والصحة، والمرض، والحياة، والموت» يقال لك: هو لا يجوز عليه من هذه النقائص، ولا ما يساوي فيه هذه الذوات، ولا ما يخالفها؛ بل هو منزه عن قليل ذلك وكثيره، وعن كل ما يمكن العقل أن يقدره من هذه الأجناس، وإن لم يكن مساويًا للذوات في ذلك؛ إذ مساواة الذوات لا يكون إلا فيما يوجد فيها، ولفظ مساواة الشيء للشيء، يشعر بمماثلته فيه؛ بحيث يكونان سواء في ذلك، فكل من هذين المعنيين، لا يجوز تخصيص النفي به من غير موجب. وهو قد يريد بلفظ المساواة في ذلك، مطلق الاشتراك في ذلك؛ لكن العبارة ملبسة؛ وهو باستعمال مثل هذه العبارة في ذلك وقع [في] خطأ كثير في المعاني، كما سنذكره في باقي مسألة تماثل الأجسام أو غيرها. وأيضًا فهذه الأمور ممتنعة عليه بدون وجود هذه(1/298)
المحسوسات، ومع قطع النظر عن وجودها؛ وإنما نفي ذلك معلوم، من العلم بكونه قديمًا واجب الوجود، بنفسه، حيًّا قيومًا؛ فإن ما كان قيومًا، واجب الوجود بنفسه، لم تكن ذاته قابلة للعدم: إذ الذات القابلة للعدم، تقبل العدم والوجود، فإن كانت [غير] ممكنة لا تقبل الوجود كانت ممتنعة، والممكن لذاته والممتنع لذاته، لا يكون واجبًا لذاته. وكذلك أيضًا لو قبل التفرق والمرض، ونحو ذلك من التغيرات والاستحالات، التي هي مقدمات العدم والفناء وأسبابه، لم يكن حيًّا قيومًا صمدًا، واجب الوجود بنفسه؛ لأن هذه الأمور، توجب زوال ما هو داخل في مسمى ذاته، وعدم ذلك مما هو صفة له أو جزء، ولو زال ذلك لم تكن ذاته واجبة الوجود، بل كان من ذاته ما ليس بواجب الوجود، ثم ذلك يقتضي أن لا يكون شيء منها واجب الوجود، إذ لا فرق بين شيء وشيء، ولهذا كان تجويز هذا عليه، يستلزم تجويز العدم عليه، لأن ما جاز عليه(1/299)
الاستحالات، جاز عليه عدم صورته وفسادها. كما هو المعروف في الأجسام، التي يجوز عليها التفرق والاستحالة. فهذا وأمثاله مما يعلم به تقديسه وتنزهه عن هذه الأمور، التي هي عدم ذاته أو عدم ما هو من ذاته؛ ولهذا كان تنزهه عن ذلك بينًا في الفطرة، معروفًا في العقول، للعلم بأنه حق واجب الوجود بنفسه، يستحيل عليه ما يناقض ذلك، فتبين أن ما ذكره من المساواة وإن كان حقًّا، فلم يذكره على الوجه المحقق، ولا ذكر دليله المقرر له، بل ذكر شيئًا يحتاج إليه مع ما فيه من الإيهام.
الوجه التاسع عشر: أنه لو قال: لو جازت عليه هذه الصفات، لزم افتقاره إلى خالق آخر، أو لزم أن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق. لكان قد نبه على دليل نفي هذه الأمور، وإن كان لم يبينه ويقرره؛ إذ تجويز هذه الأمور، إنما يستلزم الافتقار إلى خالق. وكون الإمكان أو الحدوث، ليس(1/300)
محوجًا إلى الخالق، إذا تبين أن بهذه الأمور يجب أن يكون محدثًا وممكنًا، وهو لم يبين ذلك، فكيف وهو لم يقل ذلك؛ بل علق هذا الانتفاء بمماثلة للممكنات فيه.
الوجه العشرون: أنه لو بين أن هذه الأمور، تستلزم الحدوث والإمكان، كان هذا وحده كافيًا في تنزيه الرب عنها، للعلم بأنه قديم واجب الوجود؛ وأما كون الممكن المحدث لا بد له من خالق، وأن الحدوث والإمكان محوج إلى الخالق. فذاك يذكر لبيان ثبوت الخالق القديم واجب الوجود، ولا يذكر لبيان تنزيهه عما يستلزم عدمه؛ فإن الكلام في تنزيهه عن ذلك، إنما هو بعد أن يقرر العلم بوجود الخالق القديم الواجب الوجود، فإذا تقرر ذلك، بين أنه لا يجوز عليه ما ينافي ذلك، لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين؛ لا لأن تجويز ذلك، يقتضي ابتداءً أنه يفتقر إلى خالق؛ إذ الكلام إنما هو في الخالق. فيقال: لو جاز هذا عليه، امتنع أن يكون هو الخالق القديم، وكان هذا أبين في الدلالة على المقصود، مما ذكره في أصل إثبات واجب الوجود.
الوجه الحادي والعشرون: أن نفي المماثلة واجب في(1/301)
صفات الكمال، كالعلم والقدرة والحياة، بل والوجود. فيقال: لو كان مماثلًا لغيره في هذه الصفات، فيوصف غيره بمثل ما يوصف به من الوجود، وصفات كمال الوجود لزم تماثلهما، وإذا تماثلا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر، فيلزم أن يكون القديم محدثًا، والمحدث قديمًا، والواجب ممكنًا والممكن واجبًا، وأمثال ذلك. فهذا ونحوه يدل على أنه ليس مثله شيء في وجوده ونفيه، وصفات الكمال الثابتة لوجوده ونفسه، وإذا انتفى عنه مماثلة شيء له في الوجود وصفات كمال الوجود، كان هذا إثباتًا، لأنه ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفوًا أحد، وأنه لا سمي له. أما أن يترك هذا كله ولا يذكر إلا تنزيهه عن صفات النقص، ولا ينزه عنها إلا عن مماثلة للمخلوقات فيها، ولا يذكر دليل لزوم حدوثه وإمكانه، أو لزوم اجتماع النقيضين، مما هو بَيِّنٌ معروف *يبين استحالة ذلك، بل لا يذكر إلا ما يدل على أنه لا بد من واجب الوجود* فهذا كما ترى. فلو قيل له، لكان هذا كلامًا متوجهًا.
الوجه الثاني والعشرون: لا نسلم أنه لو ساوى غيره في هذه الأمور، لزم افتقاره إلى خالق آخر، ولزم أن يكون الإمكان(1/302)
والحدوث غير محوج إلى الخالق. فإنك لم تبين هذه الملازمة، والقول الذي تنفيه لم يحتج إلى هذا الدليل، وإن لم يكن بينًا بنفسه، لم يكن في إثبات واجب الوجود نفيه؛ إذ الكلام في أن واجب الوجود، هل هو متصف به أم لا؟ لا في إثبات واجب الوجود. ثم قد تبين بهذه الوجوه أن هذا المقام، لما قال فيه ما هو حق، لم يحققه لا تصويرًا ولا تصديقًا، والكلام إذا تبين ما هو باطل، وبين ما فيه حق، ثم تبين ولم يقرر، كان فيه ما فيه.
الوجه الثالث والعشرون: قوله: «فيثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف، بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك(1/303)
اعتراف بثبوت أمر على خلاف مايحكم به الوهم، ويقضي به الخيال» .
يقال: لا يخلو إما أن تكون ناقلًا عنهم ما تقوله؟ أو ملزمًا لهم أن يقولوا ما لم يقولوه؟ فإن كنت ناقلًا عنهم لم يحسن قولك: أنه لا بد لهم من الاعتراف بذلك؛ فإن هذه إقامة للحجة بأن عليهم الاعتراف؛ لا نقل عنهم للاعتراف، مع أن القوم في نفي هذه الآفات والنقائص، ونفي التمثيل والتشبيه، من أعظم الأمة قولًا بذلك -كما دل عليه الكتاب والسنة، والحجج العقلية- لا يحتجون في نفي التمثيل بهذه الحجة الفاسدة التي لا تدل على نفي التمثيل مطلقًا، وإنما تدل إذا كملت على تنزهه، عن بعض الآفات والنقائص، المستلزمة عدمه أو لجواز عدمه. فلا نقلت عنهم ما يقولونه من التنزيه. ولا احتججت على التنزيه، بحجة موجبة مطلقًا؛ بل ولا تدل بنفسها على شيء منه. وإن كنت ملزمًا لهم بمقتضى هذه الحجة، فالإلزام إنما يكون لمن لا يقر بمضمون الحجة، والقوم من أعظم الناس قولًا بموجب هذه الحجة، ووجوب تنزيه الله سبحانه وتقديسه عن هذه الأمور وغيرها، كما علم ذلك بالشرع والعقل. ومعلوم أن المطلوب إذا كان اعتراف المنازع به من أظهر الأمور، كان إثبات اعترافه(1/304)
بإثبات وجوب اعترافه به، وإثبات الوجوب بمثل هذه الحجة فيه ما فيه، مع [أن] نفي دخول اعتراف الناس لا يقتضي وجوب اعترافهم، لكونهم قد ينازعون في ثبوت الوجوب.
الوجه الرابع والعشرون: أن هذه الحجة، إنما توجب أنه لا تجوز عليه هذه الصفات المقتضية للعدم، وهذا ولله الحمد متفق عليه بين المسلمين؛ بل بين المقرين بالصانع، حتى أن عليه المشبهة والمجسمة، الذين يقولون: إنه لحم ودم، وإنه ندم حتى عض يده، وجرى الدم ونحو ذلك؛ لكن يذكر عن بعض اليهود، أنه مرض حتى عادته الملائكة، وهذه الحجة لا تنفي شيئًا من التشبيه والتمثيل، فذكرها ضائع. فما توجبه هذه الحجة يكتفى به في هذا المقام، وما يثبته القوم، وسائر المؤمنين من التنزيه والتقديس لا يعتمد فيه على مثل هذه الحجة. فلم يذكر ما يصلح لهذا المقام لا من المذهب ولا من الدليل.
الوجه الخامس والعشرون: أن الذي هو أبلغ من مقتضى هذه الحجة من نفي التمثيل والتشبيه يقولون به، كما يقول به سلف الأمة وسائر الأئمة، وليس فيه حجة لما ادعيته، فكيف في(1/305)
مضمون هذه الحجة، وذلك أن نفي التمثيل والتشبيه، لا يقتضي تجويز كونه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا إثبات ما يعلم ببديهة العقل امتناعه، كما تقدم بيانه.
الوجه السادس والعشرون: أنك قلت: «هم معترفون بأن ذاته مخالفة لذوات هذه المحسوسات» وهذا نقل صحيح؛ ثم قررت هذا النقل بأن بحثت بالحجة التي ذكرتها، أن خصوص ذاته لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وهذا ليس هو ذلك المنقول، ولا أقمت عليه دليلًا، فكان هذا من الأغاليط، وبه يحصل المقصود من اعترافهم بأنه لا مثل له.
الوجه السابع والعشرون: قولك: «فثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف، بأن خصوص ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به(1/306)
الخيال» أمر لم تنقله عنهم، ولا دلت الحجة عليه، حتى يقال يجب اعترافهم به، كما أنها إنما دلت على امتناع العدم والآفات، التي هي ملازمة العدم عليه، كالمرض ونحوه، وهذا حق؛ لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن خصوص الذات، مما لا يصل إليه الوهم والخيال. وإن كان هذا حقًّا، إذا فسر بمعنى صحيح؛ فإن العلم بكونه موجودًا واجب الوجود، يمتنع عليه العدم وما يستلزم العدم، لا يتعرض لكونه يعقل بالعقل والخيال، أو الوهم والحس أو غير ذلك، لا بنفي ولا إثبات أصلًا، فضلًا عن أن يكون كنهها معلومًا أو غير معلوم، فأي ملازمة بين الحجة والدعوى؟! بل لو أقمت الحجج الصحيحة الدالة على نفي التمثيل -كما قررنا نحن- لم يكن في ذلك تعرض لنفي معرفة كنهه، ولا نفي لمعرفته بحس أو خيال أو غير ذلك؛ فضلًا عن كونك لم تذكر إلا ما يقتضي وجوب وجوده!
الوجه الثامن والعشرون: أن القوم مع سائر أهل السنة، يقولون: إن حقيقة البارئ غير معلومة للبشر؛ ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف، من نفي المعرفة بماهيته وكيفية(1/307)
صفاته؛ ثم جمهورهم يقول ما يقوله السلف، من نفي المعرفة بالكيفية، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته بمثال. ومنهم من يقول: كما يقوله طوائف، من النفاة المعتزلة وغيرهم: إنه لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال، فلا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته، ولا يبلغ قدره غيره، كما في الدعاء المأثور: «يا من لا يعلم ما هو إلا هو» بل قد قال في الجنة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعكم عليه» وتصديق ذلك في كتابه، حيث قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا(1/308)
أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فهم لا يحيطون علمًا بكنه عامة المخلوقات، فكيف يحيطون علمًا بكنه الخالق تعالى، وقد قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) } [الإسراء: 85] وفي الصحيح عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الخضر الذي قال الله عنه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) } [الكهف: 65] قال لموسى الذي كلمه الله تكليمًا: «ما نقص علمي وعلمك، من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» لما ركب في السفينة، وقد وقف عليها عصفور فنقر في البحر نقرة، وفي صحيح مسلم، عن عائشة، عن(1/309)
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في سجوده، وروي أنه كان يقوله في قنوته، أيضًا: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فإذا كان أعلم الخلق بربه، لا يحصي ثناءً عليه، فكيف بمن هو دونه بدرجات لا يحصيها إلا الله.
وإن كان هذا الذي يقولونه، ويثبتونه بالأدلة الشرعية والعقلية، لم تذكر أنت عليها حجة، ولا نقلت فيها مذهبًا: فقولك: «لا بد من الاعتراف بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها» تقصير وتفريط، فإنه لا يصل إلى كنهها لا علم ولا عقل، ولا معرفة(1/310)
ولا حس، ولا وهم ولا خيال، ولا نوع من أنواع الإدراكات، فتخصيص الوهم والخيال بذلك، يشعر بأن الوهم والخيال يصل إلى كنهها، وأنهم يفرقون بين هذا وهذا، وأنه يجب التفريق بين وصول الوهم والخيال إلى كنهها، وبين وصول العلم والعقل، وكل هذا غلط.
الوجه التاسع والعشرون: أنه إذا لم يكن فرق في نفس إدراك كنهه، بين الوهم والخيال، وبين الحس، وبين العلم والعقل، لم يحصل شيء من مطلوبك؛ فإن المطلوب أنه لا بد من الاعتراف بثبوت أمر على خلاف حكم الحس والخيال، والذي ذكر لا فرق فيه بين الحس والخيال وبين العقل؛ فإن هذه الأمور لا تكيف ذاته، ولا يلزم من نفي اكتناه ذاته نفي معرفته بها، كما لم يلزم نفي معرفته بالعلم والعقل. فإن قوله: «لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوص ذاته، التي امتازت به عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به «الخيال» -مع أنه لم يذكر حجة عليه- لا فرق فيه بين الوهم والخيال، وبين الحس والعقل والعلم، فإن شيئًا من ذلك لا يصل إلى كنهه. وإذا(1/311)
كان مقصوده الفرق بين الوهم والخيال، وبين العقل والعلم بهذا -مع أنه لا فرق بينها من هذا الوجه، ومع أن ذلك لا ينفي معرفته بذلك، وإن لم يوصل ذلك إلى كنهه- ظهر أن ما قاله ليس فيه تحصيل لغرضه، مع ما فيه من التفريق بين الأشياء فيما اتفقت فيه.
فتدبر هذا كله، فإنه كلام حق [به] ، يعرف كيف أضل هؤلاء لعباد الله، بمتشابه الكلام، كما قال الإمام أحمد في وصفهم: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس، بما يتكلمون به من المتشابه» .
الوجه الثلاثون: أنه لو عارضه معارض، وقال: قد ثبت أنه لا فرق فيما ذكرته من نفي الوصول إلى كنهه بالعقل والوهم والخيال، ثم ثبت بذلك أنه لا يجب أن لا يكون معلومًا بالعقل، فقد ثبت أيضًا، أنه لا يجب أن لا يكون معلومًا بالوهم والخيال، لكان هذا متوجهًا أكثر من كلامه.
الوجه الحادي والثلاثون: أن يقال: الذين اتفقوا من أهل(1/312)
السنة وغيرهم، على أن العباد لم يعرفوا كنهه في الدنيا، تنازعوا في إمكان ذلك، وفي حصول ذلك، عند رؤيته في الأخرى، وهذا يبين أن معرفة حقيقته وكنهه بالحس، أولى منها بالعقل، ثم الخيال والوهم يتبع الحس، فهذا قد يستدل به، على إمكان معرفة كنهه وحقيقته، بالحس والخيال والوهم.
الوجه الثاني والثلاثون: قوله: «وذلك اعتراف بثبوت أمر، على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال» كما أنه لا يلزم من عدم وصول العلم والعقل إلى كنه الذات، أن يكون على خلاف، ما يقضي به العلم والعقل، ويحكم به الحس كما تقدم، مع أن هذه العبارة هنا ليست ظاهرة المعنى.
الوجه الثالث والثلاثون: أن لفظ «الوهم» ، و «الخيال» في هذه المواضع التي ذكرتها تحتمل شيئين؛ فإن هذه الألفاظ كثيرًا ما تستعمل، فيما يتوهمه الإنسان ويتخيله، مما لا يكون له حقيقة في الخارج، مثل ما يتخيل جبل ياقوت، وبحر زئبق، ونحو ذلك، ومثل ما يتوهم شخصًا أنه عدوه ويكون وليه، أو أنه وليه ويكون عدوه، وأمثال هذه الاعتقادات، التي لا تكون مطابقة، ترتسم في نفس الإنسان فيتخيلها ويتوهمها، وتكون باطلة من(1/313)
جنس الكذب: ولهذا إذا دفع نوع من هذه الأقوال يقال: هذا خيال، وهذا وهم، وقد أوهم فلان كذا، ومنه سميت الخيلاء. والمختال مختالًا، لأن المختال يتخيل في نفسه من عظمته وقدره ما لا حقيقة له {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) } [الحديد: 23] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الاستعاذة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» فهمزه الوسوسة، ونفخه(1/314)
الكبر، ونفثه الشعر، فإن الكبر ينفخه حتى يصير مغطى في الخيال، مع أنه حقيقة كالظرف المنفوخ، من غير أن يكون فيه شيء.
ولكن استعمال لفظ «التخيل» و «التوهم» في هذا من جنس استعمال لفظ الاعتقاد الفاسد، والظن والجهل، فيما لا يكون مطابقًا، وإن كان جنس الاعتقاد قد يكون حقًّا وعلمًا، وكثيرًا ما يستعمل فيما يتخيله ويتوهمه، مما يكون له حقيقة في الخارج، فيكون التخيل والتوهم، ولفظ التخيل والتوهم صادقًا مطابقًا، مثل ما يتخيل الإنسان في نفسه، ما أدركه بصره وغيره من الحواس، ويتوهم في نفسه ما علمه من الصفات، إذ قد يصطلح بعض أهل الطب والفلسفة، على أن التخيل للصور، والتوهم للمعاني التي فيها. ولفظ التخيل والتوهم، يعم القسمين المطابقين وغير المطابق، كما يعم لفظ الخبر للخبر الصادق والكاذب، ولفظ الكلام للحق والباطل، ولفظ الإرادة(1/315)
للمحمود والمذموم، ولفظ الظن والحسبان للمصيب والمخطئ، ولفظ الاعتقاد للحق والباطل. فما يتخيله الإنسان ويتوهمه، قد يكون حقًّا أو باطلًا، مثل ما يعتقده، ويظنه، ومنه سمي السحاب مخيلة، لأنه يخال فيه المطر، وفي حديث عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر، فإذا رأى المطر جلس» ومنه قول الشاعر:
أنَّى رأيت مخيلة لمعت ... وتلألأت كمواقع القطر
فهذا في التخيل.
وأما في «التوهم» بلفظ التهمة؛ وأصله وهمة. يقال إذا توهم في الإنسان شيء من الريب، ثم قد يكون ما اتهم به حقًّا،(1/316)
وقد يكون باطلًا، ولها في الشريعة حكم معروف، حيث يحبس فيها المجهول الحال، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في التهمة» ولهذا صنف الحارث المحاسبي كتابًا سماه «كتاب التوهم» مضمونه أن يتصور الإنسان في نفسه، ما أخبر الله به من أمور الآخرة وغيرها، ليتذكر ذلك ويحققه في نفسه. واسم الجنس إذا كان يعم نوعين، أحدهما أشرف من الآخر، فقد يخصون(1/317)
في العرف النوع الأشرف باسمه الخاص، ويبقون الاسم العام مختصًّا بالنوع المفضول، كما في لفظ الحيوان، والدابة وذوي الأرحام والجائز، والممكن، والمباح، وغير ذلك فلهذا كثيرًا ما يخص بلفظ الوهم، والخيال النوع الناقص، وهو الباطل الذي لا حقيقة له، وأما ما كان حقًّا مما يتخيل ويتوهم، فيسمونه باسمه الخاص، من أنه حق وصدق ونحو ذلك، ومن أنه معلوم ومعقول، فإنه إذا كان حقًّا عقله القلب، فصار معقولًا، كما يعقل أمثاله، ويقال: إنه متصور، ومتذكر ونحو ذلك. وهذا بخلاف لفظ العلم والعقل والإحساس، فإن هذا إنما يقال على نفس الإدراك، الذي هو الإدراك الصحيح. ولفظ التخيل والتوهم، لا يدل على نفس الإدراك؛ وإنما يدل على نحو الاعتقاد، الذي يكون مطابقًا للإدراك تارة، ويكون فيما تصور في النفس وتألف فيها وتنشأ فيها، كما تنشأ فيها العلوم بالنظر والاستدلال. وهذا الثاني يكون حقًّا تارة وباطلًا أخرى، كما أن ما يثبته الإنسان في نفسه، من الاعتقادات بالنظر والاستدلال، قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا. ومن هذا التخيل والتوهم، ما يراه الإنسان في منامه، فإنه ينشأ في نفسه في النوم، وإن لم يكن رآه بعينه في النظر.
وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجمع بين لفظ الحس، وبين لفظ الوهم والخيال، ويجعلهما في قرن واحد، حتى يقول: «لا بد من الاعتراف بوجود شيء، على خلاف حكم الحس(1/318)
والخيال» فإن الإحساس هو موجب العلم الصحيح، وأصله الإبصار، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) } [مريم: 98] وقال يعقوب: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» وأما الخيال والوهم، فهو من نحو الاعتقاد، الذي يكون حقًّا تارة وباطلًا أخرى، وقد يخص باسم الباطل. فأين هذا من هذا؟
وإن أراد أنه لا يحس، أي: لا يرى. فهذا باطل، كما تقدم التنبيه عليه.
الوجه الرابع والثلاثون: أن يقال له: ما تريد بلفظ الوهم(1/319)
والخيال؟ أتريد به ما قد يخص هذا اللفظ به في العرف، من تخيل الباطل وتوهمه؟ فلا ريب أن كل حق في الوجود، ينزه عن هذا التوهم والتخيل، وكل حق، فإنه على خلاف، ما يقضي به هذا الوهم والخيال، وكل حق، فهو على خلاف، هذا الوهم والخيال، وما أكثر ما يسمع وصف شيء، بألفاظ فيتخيلونه على صورة، فإذا رأوه وجدوه بخلاف ما تخيلوه، وما أكثر ما يتوهم الإنسان في إنسان شيئًا، فإذا رآه وجده بخلاف ما توهمه. ولا ريب أن الله على خلاف ما يتخيله، ويتوهمه المبطلون من الجهمية وغيرهم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } [الصافات: 180-182] وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) } [الإسراء: 43] وقال: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23) } [فصلت: 22-23] وقال: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) } [الأحزاب: 10-11] وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} إلى قوله {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) } [الفتح: 6-12] وقال: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي(1/320)
كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) } [الأنبياء: 87] وقال: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) } [الانشقاق: 13-14] وقال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) } [النجم: 28] {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) } [النجم: 23] وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80] .
ولا ريب أن الاعتقادات الفاسدة، مثل اعتقاد الكفار في ربهم، وما يتبعها من الإرادات هي خيالات وأوهام باطلة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) } [النور: 39-40] هذا بعد قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) } [النور: 35] وقال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122] .
ولا ريب أن كثيرًا من الناس، يتخيل ويتوهم في نفسه صورًا باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك، كما يعتقد في ربه اعتقادات(1/321)
باطلة، ويعتقد أن ربه كذلك. فالاعتقاد والتوهم، والتخيل الباطل، موجود في جانبي النفي والإثبات، والباطل في جانب النفي أكثر منه في جانب الإثبات؛ ولهذا يوجد من الجهمية النفاة، من يعتقد أن الله هو الوجود المطلق، وأنه وجود الموجودات أنفسها، وأنه بنفسه في كل مكان، وأن وجود الموجودات كلها وجود واحد. ويقولون بوحدة الوجود [في] الخارج وأنه عين ذلك الوجود، ونحو ذلك من الاعتقادات، التي يقولون: إنها حصلت لهم بالكشف والمشاهدة، وهي خيالات وأوهام باطلة: إما أن لا يكون لها حقيقة في الخارج، أو يكون لها حقيقة، لكن تكون هي أمر مخلوق، لا تكون هي الخالق سبحانه. وكما يتخيلون ويتوهمون، أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا كذا ولا كذا، مما هو عند أهل العقول السليمة خيالات باطلة، وأوهام فاسدة، لا تنطبق إلا على المعدوم، بل على الممتنع؛ ولهذا يوجد في هؤلاء من يعبد المخلوقات، ومن يعتقد في كثير من المخلوقات، أنه الله،(1/322)
أضعاف أضعاف ما يوجد في أهل الإثبات، كما قد رأينا وسمعنا من ذلك ما لا يسع هذا المكان ذكر عُشره، فلهذا هم أعظم الناس اختيالًا وتكبرًا، حيث قد يختال أحدهم في نفسه أنه الله ويعظمون فرعون في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } [النازعات: 24] {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ونحو ذلك من الاختيال الباطل، الذي هو أفسد اختيال وأعظم فرية على الله. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وأما إن أراد أنه على خلاف ما يصدق به، ويعتقده ويظنه، ويتوهمه ويتخيله، ويقوله ويصفه، وينعته الأنبياء والمؤمنون به، فهذا باطل، فإن اعتقاد هؤلاء فيه اعتقاد مطابق حق، وإن سمي ظنًّا ونحوه، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 45-46] وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) [الحاقة: 19-20] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: أنا عند ظن(1/323)
عبدي بي، فليظن بي خيرًا» وفي صحيح مسلم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» فمن ظن وتوهم في ربه، أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، كان هذا الظن والتوهم حقًّا، وإن كان الواجب تيقن ذلك، بخلاف من ظن وحسب، أنه لا يسمع سره ونجواه، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80] وقال: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ(1/324)
يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) } [الكهف: 104] .
بل لفظ الرؤية، وإن كان في الأصل يكون مطابقًا، فقد لا يكون مطابقًا كما في قوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] وقال: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] .
وقد يكون التوهم والتخيل مطابقًا، من وجه دون وجه، فهو حق في مرتبته، وإن لم يكن مماثلًا للحقيقة الخارجة، مثل ما يراه الناس في منامهم. وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه، فإنه يرى صورًا وأفعالًا، ويسمع أقولًا، وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجة، كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له، فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه، وكانت حقيقته سجود أبويه وإخوته، كما قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وكذلك رؤيا الملك، التي عبرها يوسف، حيث رأى السنبل بل والبقر، فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه، وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب. فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته، بمعنى أن له تأويلًا صحيحًا، يكون مناسبًا له، ومشابهًا له من بعض الوجوه؛ فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة. ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه، وتخيل من الرؤيا، هو مماثل لنفس الموجود في الخارج،(1/325)
وأن تلك الأمور هي بعينها رآها، فهو مبطل، مثل من يعتقد أن نفس الشمس، التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف، وأن بقرًا موجودة في الخارج، سبعًا سمانًا أكلت سبعًا عِجَافًا: فهذا باطل.
وإذا كان كذلك، فالإنسان قد يرى ربه في المنام، ويخاطبه. فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه، مثل ما رأى في المنام؛ فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلًا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده حقًّا، أُتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس. قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة، كانت تلك الصورة حجابًا بينه وبين الله. وما زال الصالحون وغيرهم، يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلًا ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة من(1/326)
المعتزلة وغيرهم، إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام؛ ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم، نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة، كسائر ما يرى في المنام. فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها؛ بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه. وقول من يقول: ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه، ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملًا صحيحًا، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور، أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة، لا يتصورها الإنسان، ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله، ويتصوره في منامه ويقظته. وإن كان ما رآه مناسبًا مشابهًا لها؛ فالله تعالى أجل(1/327)
وأعظم.
وهؤلاء النفاة من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم، يزعمون أن الرسل فيما أخبروا به من صفات الرب، خيلوا ومثلوا، حتى أخرجوا المعقول في مثال المحسوس، وكذلك يقول هؤلاء المتفلسفة أن ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد، أمثال مضروبة لتفهيم المعاد العقلي، واللذة والألم العقليين، ويقول الفارابي وأمثاله: «إن خاصة الأنبياء جودة التخيل والتخييل» . والكلام على هؤلاء وبيان خطئهم، وضلالهم في هذا التخيل والتوهم، الذي هو غير مطابق له، موضع غير هذا، ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم، على أن المعقول المجرد، يكون له وجود في الخارج، وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات، التي هي أمور كلية، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن الخارج لا يكون فيه شيء، مما هو معقول مجرد، وهي الأمور الكلية، إلا أن يراد بالمعقول في قولهم: مثلوا المعقول في صورة المحسوس؛ ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده، فهذا في الحقيقة محسوس موجود، لكن بالحس الباطن، والوجد الباطن، ليس معقولًا محضًا، ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه، وشبعه ولذته، وألمه، أنه ينتقل حكمه من(1/328)
الباطن إلى الظاهر، كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن، وإذا قدر وجود النفس بغير بدن، فهو يحس بما يجده من لذة وألم، وذلك أمر محسوس لها، وبجنس أسباب ذلك، لا يكون لها معقولًا مجردًا كليًّا، فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد، ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقًّا. ومن المعلوم أن هذا الظن، أن النفس تلذذ بهذه الأمور، دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن، وهو كقول من يقول: إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس، والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة، فقولهم: يمثل المعقول في صورة المحسوس، كلام لا حقيقة له، لكن لو قال: يمثل الغائب، في صورة الشاهد، ويمثل الغيب في صورة الشهادة، كان هذا حقًّا؛ فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به، بالقياس، والتمثيل لما شاهده، لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة، ليس في أنفسها مما يحس، بل يعقل عقلًا مجردًا، فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله.
الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها، وأئمة أهل الحديث والفقهاء، والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية،(1/329)
وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم على إثبات هذه الصفات الخبرية، وبقية الصفاتية النفاة لها، في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، كالحياة والعلم والقدرة، لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية، صفات معنوية أيضًا، قائمة بالموصوف مثل هذه، وإنما يفرق بينهما، لافتراق الطريق التي بها عُلِمَتْ، فتلك عُلِمَتْ مع الخبر الصادق بالعقل، وهذه لم تُعْرَف إلا بالخبر. وأما السلف والأئمة وأهل الحديث، وأئمة الفقهاء والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فلا يقولون: إن هذه من جنس تلك، لا يسمونها أيضًا صفات خبرية؛ لأن من الصفات المعنوية ما لا يُعْلَم إلا بالخبر أيضًا، فليس هذا مميزًا لها عندهم، ومنهم من يقول: هذه معلومة بالعقل أيضًا.
وعلى القولين سواء كانت صفات عينية [أ] ومعنوية: فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا، إما أجسام كالوجه(1/330)
واليد، وإما أعراض كالعلم والقدرة، فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة كلاهما ثابت لله، على خلاف ما هو ثابت للمخلوق، وإن لم يكن في ذلك نفيًا لحقيقته، ولا تمثيلًا له بالمخلوق، فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات: إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق، أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا، مع كونه غير مماثل للأعراض وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام؛ بل يقال: من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين، أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس من الأحياء العالمين القادرين، بل لا خلاف بين أهل الإثبات أنه موجود، مع كونه ليس مثل سائر الموجودات؛ بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم. ويقتضي بأنه ليس مماثلًا للموجود المحدث الممكن، وإلا للزم أن يجوز على الواجب، ما يجوز على المحدث، فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودًا واجبًا، وأنه ليس مثل الموجود الممكن، فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة، هو من جنس ما يثبتونه في الذات، وذلك أمر بَيِّن بأدنى تأمل، معلوم بالعقل الصريح؛ فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره، وما هو ثابت معلوم بصريح العقل. وإن قال: بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك، قيل له: والحنابلة أيضًا بينهم نزاع: فمنهم من ينفي هذه الصفات، ويوجب تأويل النصوص، ومنهم من يجوز التأويل،(1/331)
ولا يوجبه، ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي، ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات. وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم.
وأما قوله: «إنهم يصرحون بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق» فلا ريب أنهم يثبتونه [كذلك] وإلا لزم التمثيل والتشبيه، المنفي بالعقل والشرع، لكنهم لا يقولون نثبت معنى الجوارح والأعضاء، ولكن نثبت المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع.
قوله: «فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال، فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال، فأي استبعاد في القول بأنه تعالى(1/332)
موجود، وليس بداخل العالم ولا خارج العالم، وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود» .
يقال له: أكثر ما في هذا أنهم أثبتوا ما لا يعلمون حقيقته، لقيام الأدلة الشرعية عليه، وهذا لا محذور فيه، كما أثبتوا ما أخبر به من الجنة والنار، وما فيهما والملائكة وصفاتها، وهم لم يعلموا حقيقة ذلك، فهم عن معرفة حقيقة الخالق أبعد، وأما إثبات ما ليس بداخل العالم ولا خارجه، فإنه ممتنع في الفطرة البديهية، والفرق واضح بين عدم العلم وبين العلم بالعدم، فأين إثبات شيء يعلم على سبيل الجملة ولا تعلم حقيقته على التفصيل، من إثبات شيء يعلم بالبديهة انتفاؤه؟! بل لو علم انتفاؤه بالنظر لم يجز إثباته، فكيف إذا علم بالبديهة ولم يرد بثبوته خبر، ولا نقل ثبوته عن أحد من السلف والأئمة، وأما ما أثبتوه فلم يعلم انتفاؤه، لا ببديهة ولا بنظر، باتفاق عقلاء الطوائف.
والرازي من أقول الناس بذلك، صرح في غير موضع من كتبه، كالمحصل والتفسير وغيرهما، بأنه لا يجوز نفي ما لا يعلم ثبوته من الصفات، وأن الظاهريين من أصحابه ينفون ما لم يقم(1/333)
دليل على ثبوته وردَّ ذلك، فإن ما لم يقم دليل بثبوته وعدمه لا يجوز نفيه ولا إثباته، وصرح بأن هذه الصفات الخبرية، كالوجه واليد، التي أثبتها الأشعري، وغيره من أصحابه، إنما لم يثبتها لعدم دليل ثبوتها، لا لدليل عدمها، وزعم أن أدلة الشرع لا تثبتها فلا يجوز إثباتها. وأما ثبوت صفات في نفس الأمر، لم نعلمها فإنه لا ينفي ذلك، ويخطئ من ينفيه. وهؤلاء يدعون ثبوت صفاته في نفس الأمر، ثم إذا قال أحدهم: إنا لا نعلم كيفيتها أو لا نعلم كنهها وحقيقتها، كان هذا كقوله في الذات، ولو قال أقلهم علمًا إنا لا نعلم معناها، لم يكن عدم علمه بالمعنى، مانعًا من ثبوته في نفس الأمر، فأين عدم العلم بالشيء إلى العلم بعدمه. وهذا الذي ذكره عن ظاهريي أصحابه -هو وإن كان قول أبي المعالي الجويني وغيره، وقد نقل الإجماع فيه، وهو مما يقوله أبو الوفاء بن عقيل ونحوه- فالصواب هو الذي ذكره أبو عبد الله الرازي، وهو الذي عليه المحققون، وهو أحد قولي ابن عقيل؛ بل هو آخر قوليه كما هو في الكفاية(1/334)
[حيث قال] :
«فصل عجيب يخفى على كثير من الأصوليين، وذلك أنه كما لا يجوز الإغراق في الإثبات مجاوزة لما أثبته الشرع ودل عليه، كذلك لا يجوز الإغراق في النفي، ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل؛ لأن النفي أيضًا، لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه. فالنفي يحتاج إلى دليل، كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، فكما أن إثبات ما لا يجب له كفر، فنفي ما يجوز عليه خطأ وفسق، ومثال ذلك أن يغرق هؤلاء الخطباء والقصاص، في نفي النقائص عنه، ثم يدرجون فيها نفي ما وردت به السنن، ويقولون ليس بفوق، ولا تحت، ولا يدرك، ولا يعلم، ولا يعرف، ولا، ولا. فربما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنة» .
قلت: وهذا هو الصواب عند السلف والأئمة وجماهير المسلمين، أنه لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات، فكيف ينفي بلا دليل، ما دل عليه دليل؛ إما قَطعي، وإما ظاهري؟! بل كيف يقال: ما لم يقم دليل قطعي على ثبوته من الصفات، يجب نفيه، أو يجب القطع بنفيه، ثم يقال في القطعي: إنه ليس بقطعي؟(1/335)
فهذه المقدمات الفاسدة، هي وسائل الجهل والتعطيل وتكذيب المرسلين؛ وإنما اعتمد على ذلك أبو المعالي لما خالف أئمته في إثبات صفة اليد وغيرها، فقا [ل] في «الإرشاد» :
«فصل ذهب أئمتنا إلى أن اليدين، والعينين والوجه، صفات ثابتة للرب، والسبيل إلى إثباتها السمع، دون قضية العقل» قال: «والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود» قال صاحبه أبو القاسم، النيسابوري، الأنصاري، شارح «الإرشاد» شيخ أبي الفتح الشهرستاني، صاحب «الملل والنحل»(1/336)
و «نهاية الإقدام» وغيرهما: «هذا ما قاله الإمام. واعلم أن مذهب شيخنا أبي الحسن أن اليدين صفتان، ثابتتان، زائدتان، على وجود الإله سبحانه ونحوه، قالـ[ـه] عبد الله بن سعيد، ومال القاضي أبو بكر في «الهداية» إلى هذا المذهب» .
قلت: هو قول القاضي في جميع كتبه «كالتمهيد» و «الإبانة» وغيرهما.
قال أبو القاسم النيسابوري: «وفي كلام الأستاذ أبي إسحاق، ما يدل على أن التثنية في اليدين، ترجع إلى اللفظ لا إلى الصفة، وهو مذهب أبي العباس القلانسي، قال الأستاذ: أما العينان فعبارة عن البصر، وكان في العقل ما يدل عليه، وأما اليد والوجه، فقد اختلف أصحابنا في الطريق إليهما، قال قائلون: قد كان في العقل ما يدل على ثبوت صفتين، يقع بإحداهما الاصطفاء بالخلق، وبالأخرى الاختيار بالتقريب في التكليم والإفهام، لكنه لم يكن في العقل دليل على تسميته، فورد الشرع ببيانها، يسمي الصفة التي يقع بها الاصطفاء بالخلق(1/337)
يدًا، والصفة التي يقع التقريب في التكليم وجهًا، وقالوا: لما صح في العقل، التفضيل في الخلق والفعل بالمباشرة، والإكرام، والتقريب بالإقبال، وجب إثبات صفة له سبحانه، يصح بها ما قلناه من غير مباشرة ولا محاذاة، فورد الشرع بتسمية إحداهما يدًا، والأخرى وجهًا، ومن سلك هذه الطريق، قال: لم يكن في العقل جواز، ورود السمع بأكثر منه، وما زاد عليه من جهة الأخبار، فطريقة الآحاد التي لا توجب العلم، ولا يجوز بمثلها إثبات صفة القدم، وإن ثبت منها شيء بطريق يوجب العلم، كان متأولًا على الفعل» .
قال: «وقال آخرون طريق إثباتها السمع المحض، ولم يكن للعقول فيه تأثير فإذا قيل لهم: لو جاز ورود السمع، بإثبات صفات لا يدل العقل عليها، لم يأمن أن يكون لله صفات، لم يرد الشرع بها، ولا صارت معلومة، ووجب على القائل بذلك جواز ورود السمع بصفات الإنسان أجمع لله تعالى؛ إذ لم تكن واحدة منها شبيهة بصفته. كان جوابهم أن يقولوا: لما أخبر الله المؤمنين بصفاته الكاملة له، حكم لهم بالإيمان بكماله عند المعرفة بها، لم يجز أن يكون له صفة أخرى لا طريق إلى معرفتها، لاستحالة أن يكون المؤمن مؤمنًا يستحق المدح، إذا(1/338)
لم يكن عارفًا بالله معنى وبصفاته أجمع، فلما وصفهم بالإيمان، عند معرفتهم لما ورد من الشرع، ثبت أنه لا صفة أكثر مما بين الطريق إليه بالعقل والشرع. قال الأستاذ أبو إسحاق: والتعويل على الجواب الأول، فإن فيه الكشف عن المعنى.
قال أبو المعالي: «فمن أثبت هذه الصفات السمعية، وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] » وذكر أنهم قرروا ذلك بتخصيص آدم بالخلق، وبأنه ثنى اللفظ، وكلاهما يمنع من حمله على القدرة، وتكلم على ذلك إلى أن قال: «والذي يحقق ما قلناه، أن الذي ذكره شيخنا أبو الحسن والقاضي، ليس يوصل إلى القطع بإثبات صفتين زائدتين، على ما عداهما من الصفات، ونحن وإن لم ننكر في قضية العقل صفة سمعية، لا يدل مقتضى العقل عليها، وإنما يتوصل إليها سمعًا، فبشرط أن يكون السمع مقطوعًا به، وليس فيما استدل به الأصحاب قطع، والظواهر المحتملة لا توجب العلم، وأجمع المسلمون، على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع، وليس في اليدين، على ما قاله شيخنا، نص لا يحتمل التأويل، ولا إجماع، [وإنما في(1/339)
ذلك أدلة] عقلية، فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه يعني القدرة، والظاهر من لفظ يدين، حملهما على جارحتين، فإن استحال حملهما على ذلك، ومنع من حملهما على القدرة، أو النعمة، أو الملك، فالقول بأنها محمولة على صفتين، قديمتين لله، زائدتين على ما عداهما من الصفات، تحكم محض» .
قال أبو المعالي: «وأما العينان، والوجه، فقد اختلف جواب شيخنا أبي الحسن في ذلك، فقال مرة: هما صفتان على نحو ما قال في اليدين، وقال مرة: العينان محمولتان على البصر، وهذا أظهر قوليه. وعليه حمل الأعين، في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي تجري السفينة؛ بمرآى منا، وقيل: بحفظنا، وحمل الوجه على وجود الباري، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] والباقي بعد فناء الخلق هو الله. قال أبو المعالي: وهذا هو الصحيح من جوابيه عندنا، وإنما اختلف جوابه، من حيث كان التعليق بالظاهر في اليدين أظهر» .
قال أبو القاسم النيسابوري: «وقول أبي الحسن: في أن الوجه صفة زائدة، على الوجود أظهر، وقوله في العينين: أن المراد بذلك البصر أظهر.
قال أبو المعالي: «ومن سوغ من أصحابنا إثبات الصفات(1/340)
بظواهر هذه الآيات، ألزمه بثبوت كلامه أن يجعل الاستواء، والنزول والجنب من الصفات، تمسكًا بالظاهر، وإن لم يبعد تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضًا طريق التأويل، فيما ذكرناه» قال أبو القاسم: «هذا ما قاله الإمام» .
وقد رأيت في بعض كتب الأستاذ أبي إسحاق قال: ومما ثبت من الصفات بالشرع، الاستواء على العرش، والمجيء يوم القيامة، بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] ومما ثبت بالأخبار الصحيحة «النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة» وقوله: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» «ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا» الحديث قال: وأجمع أهل النقل، على قبول هذين الخبرين، وما هذا وصفه، كان موجبًا للعمل وقبولًا في مسائل القطع. هذا ما ذكره الأستاذ في هذا الكتاب» .
قال أبو القاسم: «ولا نظن بالأستاذ أبي إسحاق، أنه اعتقد أن النزول والمجيء والإتيان من صفات ذات الإله(1/341)
سبحانه؛ فإنه سبحانه لا يوصف بهذه الأوصاف في أزله، ويستحيل قيام حادث بذاته. فما حكيناه عنه أنه قال: ومما يثبت في الصفات بالسمع كذا، وكذا. فيحتمل أنه أراد بذلك صفات الأفعال، ويحتمل أنه أراد به الصفات الخبرية، التي لا بيان لها أكثر مما ورد به الخبر» .
قال: «وقال الأستاذ أبو بكر -يعني ابن فورك-: من أصحابنا من قال: الاستواء وصف خبري، لا مجال للعقل فيه، وكذلك الفوقية، والواجب أن يتوقف في ذلك [إلى] أن يرد بمعناه خبر، قال: وهذا مذهب أئمة السلف، وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء ثابت بلا كيف، وهذا قول مالك بن أنس، والأوزاعي، وغيرهما من الأئمة، وحكى شيخنا(1/342)
أبو الحسن قولين لأصحابنا في الاستواء أحدهما: [أنه] من صفات الذات. والثاني: أنه من صفات الأفعال. فمن صار إلى أنه من صفات الذات اختلفوا فيه، فصار الأكثرون منهم، إلى أن الاستواء على العرش، هو العلو عليه من جهة القهر، والغلبة، والانفراد بنعوت الجلال، وهذا المعنى وإن كان مدركًا بالعقل ولكن تسميته بالاستواء مستقاة من الخبر. قال أبو الحسن: من قال الاستواء صفة الذات فإنه سَمَّى الله به، حين خلق العرش، لأجل أن الاستواء يقتضي [تقريبه] إليه [ليـ]ـستوي عليه، ولم يكن في الأزل غير الله، فلم تكن تسميته به. قال: وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: ويمكن أن يقال: لم يزل كانت له صفة الاستواء مطلقًا، بمعنى أنه على صفة يصح بها الاستواء على العرش إذا خلقه، كما يقول لم يزل الله قادرًا، وإن كان تعلق القدرة بالأحداث، يختص بحال الحدوث، وصار آخرون إلى أن الاستواء صفة خبرية يتوقف معناها إلى أن يرد خبر ببيانها» .(1/343)
قلت: ما نقله من لفظ الأشعري فمعروف، وما فسره.
قال: «وقال الإمام -يعني أبا المعالي- وكنا على الإضراب عن الكلام على الظواهر، فإذا عرض فنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة، وقد صرح بالاسترواح إليها المجسمة وأصحاب الظواهر» قال: «وأجمع المسلمون، على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل، لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع. قال وأجمع المحققون، على أن الظواهر يصح تخصيصها، أو تركها بما لا يقطع به، من أخبار الآحاد والأقيسة، وما يترك مما لا يقطع به، كيف يقطع به؟» .
قلت: هذا الإجماع الذي ذكره أبو المعالي مرتين، هو الذي ذكره أبو عبد الله الرازي وغيره عن الظاهري من أصحابه وبين أنه فاسد، والذي قاله الرازي هو الذي عليه جماهير الناس، من المتقدمين والمتأخرين، قد صرح أئمة السلف بذلك وإن ما لم يعلم ثبوته، ولا انتفاؤه من الصفات، لا ننفيه ولا نثبته.(1/344)
والإجماع الذي ذكره أبو المعالي لا أصل له؛ بل لم يقل ما ادعى فيه الإجماع أحد من أئمة المسلمين، لا من الفقهاء ولا أهل الحديث ولا السلف، وإنما قال هذا ابتداء من قاله من المعتزلة، واتبعهم على ذلك طائفة، ممن احتذى حذوهم في الكلام، من الأشعرية وغيرهم؛ وذلك لأن من أصلهم أنهم يقولون: إنهم عرفوا الله حق معرفته، وعرفوا حقيقة ذاته، فعلموا ما يوصف به نفيًا وإثباتًا. فلو جوزوا أن يكون له صفة لا يعلمون نفيها، ولا إثباتها بطل هذا الأصل. وهذا الأصل قد خالفهم فيه أبو المعالي، كما خالفهم فيه أئمته، وضرار بن عمر، وهم المخالفون فيه لسلف الأمة وأئمتها، وسائر أئمة العلم والدين، وقد حكينا ذلك في غير هذا الموضع، وأن أبا المعالي قال: «لا شك في ثبوت وجوده سبحانه، فأما الموجود [المرسل] من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال» قال: «ولكن ليس تتطرق إليها العقول، ولا هي علم هجمي، ولا علم مبحوث عنه، غير أنا لا نقول: إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها؛ فإنه سبحانه يعلم حقيقة نفسه. وليس للمقدور(1/345)
الممكن، من مزايا العقول عندنا، موقف ينتهي إليه، ولا يمتنع في قضية العقل مزية، لو وجدت لا قتضت العلم بحقيقة الإله» .
وقد تقدم أن هذا قول أئمة أصحابه، كالقاضي وغيره، وهذا تصريح منه بأن لله صفة تميزه عن غيره لا تعلم بالعقول لا بضرورة ولا نظر، وصرح بإمكان علمنا بها إذا أعطينا مزية نعلمها بها، وقد حكى هو عن الأستاذ أبي إسحاق أنه قال: «حقيقة الإله صفة تامة، اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان» وذكر عن القاضي أبي بكر، أنه ذكر مذهب ضرار، أن لله مائية لا يعلمها في وقتنا إلا هو وأن القاضي قال: «لا بعد عندي فيما قاله ضرار؛ فإن الرب يخالف خلقه بأخص صفاته، فيعلم على الجملة اختصاص الرب سبحانه بصفة يخالف بها خلقه، ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والقدم، ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات الحقيقية» وأن القاضي تردد في أن الذين يرون الله سبحانه في الدار الآخرة، هل يعلمون تلك الصفة، التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية؟(1/346)
وذكر عن طائفة من الكرامية، أنهم أثبتوا لله مائية وكيفية.
فقد يقال: إذا كان أبو المعالي، قد أوجب ثبوت صفة لله، يمتنع علمنا بها الآن، كيف يصح أن يقال علمنا جميع ما يثبت له وينفى عنه من الصفات، وإذا كان قول طوائف بثبوت صفات له لا تعلم، وتجويز ذلك، كيف يحكي إجماع المسلمين على خلاف ذلك. هذا تناقض منه في كتبه. وقد يُقال: لم يتناقض، لأن الذي نفاه بالإجماع، تقدير صفة مجتهد فيها، لا يتوصل إلى القطع فيها بعقل أو سمع، وهو هنا قاطع بما أثبته، لا مجوز له فلا تناقض.
وقد يقال: بل إذا وجب إثبات حقيقة لا تعرف، لم يمتنع أن يكون لتلك الحقيقة صفة لا تعرف، فالجزم بنفي ذلك مع الجزم بثبوت تلك الحقيقة تناقض، وسواء كان تناقضًا، أو لم يكن تناقضًا فبطلان هذا الإجماع الذي ادعاه ظاهر، لكل من له من العلم أدنى نظر، وإنما هو كثير الاستغراق، في كلام المعتزلة وأتباعهم، قليل المعرفة والعناية بكلام السلف، والأئمة، وسائر طوائف الإسلام، من أهل الفقه والحديث والتصوف، وفرق المتكلمين أيضًا فحكى الإجماع، كما يحكي أمثال هذه الإجماعات الباطلة، أمثال هؤلاء المتكلمين، ولو كان الأمر كما ادعاه، فدعواه أن دلالة القرآن، والأخبار على ذلك،(1/347)
ليست قطعية، يخالفه في هذه الدعوى أئمة السلف، وأهل الحديث والفقه والتصوف، وطوائف من أهل الكلام من أصحابه وغيرهم؛ فإن عندهم دلالة النصوص على ذلك قطعية. وأما الأخبار، فمذهب أكثر أصحابه، أنها إذا تلقيت بالقبول أفادت العلم، كما تقدم ذكرهم لذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن فورك، وهو معنى ما ذكره الأشعري في كتبه، عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه قوله، وأن الإيمان بموجب هذه الأخبار واجب. وإذا كان يمكن أن يكون له صفات لا تعلم بمجرد العقل، وكان كثير من المثبتين لهذه الصفات الخبرية، من أئمته، ومن الحنبلية، وغيرهم يثبتون ما لا يعلمون معناه، أو ما لا يعلمون حقيقته، ولم يثبتوا ما يعلمون انتفاءه، ظهر ما تقدم من الجواب، من الفرق بين ما يعلم امتناعه، وهو وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وبينه ما لا تعلم حقيقته، كهذه الصفات عند هؤلاء.
الوجه السادس والثلاثون: أن ما أثبتوه من الصفات، جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد تقول طوائف: إن العقل أيضًا يوجب ثبوت أصل هذه الصفات وإن لم يثبتها مفصلة، كما أنه في العلو يعلم علوه، لكن لا يعلم(1/348)
[كيفيته] وما نفوه من كون الخالق ليس داخل العالم، ولا خارجه، جاء فيه الإثبات [في] الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، مع حكم العقل الصريح به، فهم في كلا الموضعين آمنوا بالله وكتبه ورسله، وأقروا ما شهدت به الفطرة، وما علمه العقل الصريح، وأقروا بموجب السمع والعقل، ولم يكونوا من أصحاب النار الذين يقولون: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) } [الملك: 10] فأين هذا ممن خالف صريح العقل، بإثبات موجود لا داخل العالم، ولا خارجه، وخالف مع ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، ونفي مع ذلك الصفات التي أثبتتها النصوص المتواترة، والإجماع السلفي، وعلم فساد نقيضها بالعقل الصريح أيضًا، بأن الله لا مثل له، وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم؟! كما أنه قد يحصل العلم بأنه ليس مماثلًا للخلق، بل مخالف له، قبل العلم بأنه مباين للعالم، ممتاز عنه منفرد؛ فإن «باب الكيف» غير «باب الكم» و «باب الصفة» غير «باب القدر» . وإذا كانت(1/349)
المباينة بالقدر، والجهة تعلم بدون هذه، علم أنها أيضًا ثابتة، وإن كانت تلك أيضًا ثابتة، وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا؛ بل المباينة بالجهة والقدر أكمل، فإنها تكون لما يقوم بنفسه، كما تكون لما يقوم بغيره؛ لأن عدم قيامه بنفسه، يمنع أن يكون له قدر، وحيز وجهة، على سبيل الاستقلال ومن هنا تبينا:
الوجه السابع والثلاثون: وهو أن من المعلوم، أن مباينة الله لخلقه، أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا، سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض، والأعراض بعضها لبعض، ومباينة الأجسام والأعراض، ثم الأجسام والأعراض تتباين، مع تماثلها بأحيازها وجهاتها، المستلزمة لتباين أعيانها، وتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها، كالجسمين المختلفين، والعرضين المختلفين في محلين، وأدنى ما تتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز، كالعرضين المختلفين في محل واحد، فلو لم يباين الباري لخلقه، إلا بمجرد(1/350)
الاختلاف في الحقيقة والصفة، دون الجهة والحيز والقدر، لكانت مباينته لخلقه، من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله، أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله، وهذا يقتضي أن مباينته للعالم، من جنس تباين الشيئين، اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد، فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد؛ بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه، وكانت مباينته له من هذا الجنس، كانت مباينته للعالم مباينة للجسم الذي قام به، ويكون العالم كالجسم، وهو معه كالعرض، وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله، لا سيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه. وهذا من أبطل الباطل، وأعظم الكفر؛ فإن الله تعالى غني عن العالمين كما تقدم.
ومن هنا جعله كثير من الجهمية حالًّا في كل مكان، وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات، أو جعلوه الموجود المطلق، أو نفس الموجودات، وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل، وهو تعطيل للصانع، ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه، وهؤلاء زعموا أنهم نزهوه عن الحيز والجهة لئلا يكون مفتقرًا إلى غيره، فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء، وصرحوا بهذه الحاجة، كما ذكنا في غير هذا الموضع. فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)(1/351)
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } [مريم: 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات، وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال، وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة، التي أدناها مباينة العرض للجسم، أو للعرض بحقيقته؛ فإن ذاك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر، أو يكون كلاهما في محل واحد، وإذا كان هؤلاء النفاة، لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف، بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا، كما اتفق سلف الأمة وأئمتها، على أن ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية، الذين يقولون: إنه ليس فوق العرش، أنهم جعلوه معدومًا، ووصفوه بصفة المعدوم.
يدل على ذلك أن هذا الرازي، جعل مباينته لخلقه، من جنس مباينته للحيز، ولا يجب أن يكون موجودًا كما تقدم، فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم، أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم، والعالم موجود لا ريب فيه؛ فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم. وهذا هي حقيقة قولهم. وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك؛ فإن هذا حال الضالين.(1/352)
الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال: هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل، لبعض الموجودات، فالواجب أن تكون مباينته للخلق، أعظم من مباينة كل لكل، فيجب أن يثبت له من المباينة، أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله، ومباينة الجوهر للجوهر، وكذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة، التي تسمى المباينة بالحقيقة أو بالكيفية، والمباينة بالقدر، التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية، فتكون مباينته بهذين أعظم مما يعلم من مباينة المخلوق المخلوق؛ إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به. وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها، فهذا يقتضي مماثلة المخلوق، وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات، أعظم من شبه بعضها ببعض، وذلك ممتنع. يوضح ذلك:
الوجه التاسع والثلاثون: وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة، وهو ضد المماثلة، وحيث كانت المباينة فإنها(1/353)
تستلزم [ذلك] .
فصل
قول المؤسس وأمثاله: «معلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» .
إن عنى بذلك ما يعرفه من مسمى ذلك لم ينازع فيما يدعيه، وإن ادعى [غير] ذلك [فـ]ـيبين هذا:
الوجه الأربعون: وهو أن يقال له: لا نسلم أن ذلك مما لا يقبله الوهم والخيال، والدليل على ذلك أن القرآن والحديث سمعه الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرون الثلاثة وفي غيرها من الأعصار في جميع أمصار المسلمين، وهو يتلى ليلًا ونهارًا، والمؤمن يسلم أن ظاهر ذلك هي هذه الصفات، ومن المعلوم أن(1/354)
أحدًا من السلف والأئمة لم يتقدموا إلى من يسمع القرآن والحديث بأن يصرف قلبه وفكره عن تدبر ذلك وفهمه وتصوره، ولا أمره أن يعتقد أن هذا المعنى منه ليس بمراد، وإنما المراد بعض المعاني التي يعنيها المتأولون، أو المراد معنى آخر لا يعرف جملة ولا تفصيلًا، ولا يميز بينه وبين غيره، ولا يقال اكتفوا في ذلك بسماع قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65] وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص: 4] لأنه يقال: الذي دلت عليه هذه النصوص، هوالذي حكى عن أهل الإثبات التصريح بأن الثابت لله هو على خلاف ما يثبت للمخلوق؛ فإن هذه المخالفة هي عدم المماثلة، والنصوص تدل على ذلك، فإذا كان ما دل عليه النصوص هو الذي حكاه عن أهل الإثبات، فلو كان ذلك مردودًا أو غير ممكن القبول في التوهم والتخيل، مع أن ذلك غالب أو لازم لبني آدم لوجب أن يظهر إنكار ذلك ودفعه من عموم الخلق.
الوجه الحادي والأربعون: وهو قوله: «معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» إما(1/355)
أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون: هذه صفات معنوية، كما هو قول الأشعري والقلانسي وطوائف من الكرامية وغيرهم، وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم. وإما أن يريد بمعنى: أنها أعيان قائمة بأنفسها.
فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية؛ فإنه قال: «وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضًا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات» إلى أن قال: «وأيضًا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» ، فإذا كان هذا قوله فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو «أجزاءً، وأبعاضًا» فتكون هذه صفات قائمة بنفسها، كما هي قائمة بنفسها في الشاهد، كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد، لكن لا تقبل التفريق والانفصال، كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته، وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو(1/356)
قائم به، وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضًا، فجواز ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق، وقد علم أن الخالق ليس مماثلًا للمخلوق، وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانًا فليست لحمًا ولا عصبًا ولا دمًا ولا نحو ذلك، ولا هي من جنس شيء من المخلوقات.
فإذا كان هذا هو القول الذي ذكر [أنه] تنفيـ[ـه] الحنابلة، وأن هذا هو الظاهر، فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين، ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة، ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم في ذلك شبهة وإشكال حتى يسألوا عن ذلك، كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى، إذ يرى ذلك متناقضًا ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة، ويكون ذلك من أعظم الطاعات بل من أكبر الواجبات، فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال.(1/357)
ألا ترى أن ما تقوله: من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار؛ ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه، وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة، وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا، فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن، وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغًا عامًّا والأنبياء بعده، ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك، ولا كان الأنبياء يأمرونهم بترك ما فهموه من ذلك، فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة، لكان يجب أن يكثر في العامة من يَرد ذلك وهمه وخياله، وإن كان في الخاصة فكذلك، فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك، لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه، علم بطلان ما ذكره؛ إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه.
الوجه الثاني والأربعون: أن جميع الناس من المثبتة والنفاة متفقون على أن هذه المعاني التي حكيتها عن خصمك هي التي تظهر للجمهور ويفهمونها من هذه النصوص،(1/358)
من غير إنكار منهم لها ولا قصور في خيالهم ووهمهم عنها، والنفاة المعتقدون انتفاء هذه الصفات العينية لم يعتقدوا انتفاءها لكونها مردودة في التخيل والتوهم، ولكن اعتقدوا أن العين التي تكون كذلك هو جسم، واعتقدوا أن البارئ ليس بجسم، فنفوا ذلك.
ومعلوم أن كون البارئ ليس جسمًا ليس هو مما تعرفه الفطرة والبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة؛ بل بمقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة، ولا متفقًا على قبولها بين العقلاء؛ بل كل طائفة من العقلاء تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد، وطوائف كثيرة من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله، ويقولون: بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسمًا، وما لا يكون جسمًا لايكون إلا معدومًا. ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول.
وإن قال النفاة: إن هذا حكم الخيال والوهم، فقد اتفقوا على أن الوهم والخيال يثبت الصانع على قول مثبتة الجسم لا على قول نفاته. فإذا كان الوهم والخيال يثبته كذلك، بإقرار النفاة فكيف تكون هذه الصفات منفية عنه في حكم الوهم(1/359)
والخيال؟! هذا خلاف ما اتفق عليه النفاة والمثبتة؛ بل على هذا التقدير يكون الوهم والخيال مقرًّا بما قاله أهل الإثبات في الذات والصفات دون ما قاله النفاة. وهذا أمر بين لا يتنازع فيه عاقلان.
الوجه الثالث والأربعون: أن هذا الذي حكيته عن هؤلاء الذين قلت: «أنهم التزموا الأجزاء والأبعاض» : غايته أنهم يثبتون ما هو الموصوف الذي تسميه جسمًا، وأنهم لا يجوزون عليه ما يجوز على الأجسام من الفناء والآفات، ومضمون ذلك أنه جسم يمتنع عليه أن يوصف بما توصف به سائر الأجسام، بل هو مختلف عنها في الحقيقة. وكذلك ما ذكرته من «أنهم يصرحون متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح، بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق» فهذا الذي ذكرته غايته أنهم يثبتون وجهًا ويدين مخالفًا لوجوه الخلق وأيديهم: كما يقال جسم لا كالأجسام. ومن أوضح المعلومات أن إثبات هذا ليس مما لا يقبله الوهم والخيال؛ بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء قبولًا لمثل هذا، كما تقدم تقريره غير مرة؛ فإن الوهم والخيال يتصور أنواعًا من(1/360)
الأجسام، كل جسم موصوف بضد صفات الآخر، وكل جسم يجوز عليه أو يمتنع ما لا يجوز على الآخر أو لا يمتنع. فيتصور الأجسام الموجودة. ويقدر ما ليس موجودًا. وما يستحيل وجوده. فكيف يقال: إنه لا يقبل هذا؟!
يوضح هذا:
الوجه الرابع والأربعون: وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك -مع أنه قد ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، رآه مرة وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما الأفق» وروي(1/361)
«أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه» ونحو ذلك من الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة- فإن الوهم والخيال يقبل ذلك، مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم، وأنهم ليسوا لحمًا ودمًا وعصبًا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة. نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك، كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك، ولهذا قال علي (رضي الله عنه) : حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله؟! وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قومًا حديثًا(1/362)
لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. ولهذا سأل بعضهم زر بن حبيش عن حديث ابن مسعود في صفة جبريل، وأن له ستمائة جناح فلم يحدثه به خوفًا أن لا يحتمله عقله فيكذب به. فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل؛ لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك، ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها.
ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لا لامتناع رؤيته، [بل] لعجزهم في هذه الحياة. فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفًا لغيره، وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك. فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق؟ مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا جسمًا أو قائمًا بجسم.
الوجه الخامس والأربعون: أن الأجسام بينها قدر مشترك(1/363)
- وهو جنس المقدار، كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز - وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره - كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر، مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء، وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارًا مجردًا ولا صورة مجردة، ولم يحس قط، إلا جسمًا مهيئًا له قدر يخصه، وصفة تخصه، والخيال إذًا تخيل المحسوسات، وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة، فيشكل في نفسه قدرًا معينًا، أو مطلقًا غير مختص بصفة من الصفات، وهو تقدير الأبعاد في النفس، وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة، وأن لها وجهًا ويدًا تناسبها، من غير أن يتخيل حقيقتها؛ فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص، أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق، والتخيل يتبع الحس، فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه.
وهذا ونحوه [مـ]ـما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور؛ بل لو قال: إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفه بنقيض ذلك، لكان هذا القول أقرب، بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء، من أهل الإثبات والنفي: اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودًا إلا متحيزًا أو قائمًا بمتحيز وهو الجسم وصفاته. ثم المثبتة قالوا:(1/364)
وهذا حق معلوم أيضًا، بالأدلة العقلية والشرعية، بل بالضرورة، وقالت النفاة: إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل، فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة، الذي ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض، وتسميهم المجسمة، فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات.
فصل
التخيل والوهم الصحيح، لا يتصور الموجود معدومًا. فعلم أن إنكار الفطرة لذلك ورد التخيل والوهم له، لما فيه من الأمور العدمية، كالتناقض الذي فيه؛ لا لعظمته في الوجود. والذي يوضح هذا أن كثيرًا من الخطباء والقصاص إذا أخذوا يصفون الرب ويعظمونه بهذه الصفات السلبية أخذت العامة -الذين لا يفهمون حقيقة ما يقولون وإنما يستشعرون من حيث الجملة أن هذا تعظيم للرب- يسبحونه ويمجدونه، فلو [لا] أنهم تخيلوا وتوهموا أن هذا السلب متضمن لوجود عظيم كبير، وإلا لم يكونوا كذلك، فعلم أنهم لم ينكروه لما فيه من الأمور الوجودية؛ بل هم يتخيلون الموجود العظيم في الجملة؛ ولكن إذا فهموا حقيقة هذه الألفاظ، وما تشتمل عليه من الأمور العدمية، أنكروه حينئذ وردته فطرتهم؛ وذلك لأن السلب والعدم ليس فيه مدح أصلًا ولا تعظيم، فعلم أنه لا تعظيم فيها عند من توهمها.(1/365)
ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعون يعظمون الرب بشيء من ذلك، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في آثار الأنبياء وسلف الأمة، وأئمتها شيء من ذلك، بل أعظم ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الرب وتمجيده يوم قرأ على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] كما روى ذلك أبوهريرة، وعبد الله بن عمر، والحديث في الصحيحين، والآية(1/366)
دلت على عظم قدر الرب، الذي يقبض الأرض ويطوي السموات، وهذا وصف لأمور وجودية تقتضي عظمة القدر؛ بخلاف السلوب المحضة، ففي حديث ابن عمر، الذي في الصحيح قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيديه، وقبض كفيه أو قال يديه، فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» ومن حديث عمر بن حمزة قال: قال سالم: أخبرني عبد الله بن(1/367)
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن» وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وروى(1/368)
أبوالشيخ وغيره، عن ابن عباس قال: «ما السموات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» . وفي لفظ «إنها لتغيب في يده حتى لا يرى طرفاها» .
الوجه السادس والأربعون: قوله: «فأثبتوا لله وجهًا بخلاف(1/369)
وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيد الخلق، ومعلوم أن الوجه واليد بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» .
يقال له: لا نسلم أن هذا غير مقبول، كما يقبل أشباهه وتوابعه، بل قبول وجوه وأيد لا تكون من جنس وجوه المخلوقين وأيديهم، من جنس قبول ذات لا تكون من جنس ذوات المخلوقين، وسمع وبصر وعلم وإرادة، لا تكون من جنس سمعهم وأبصارهم وعلمهم وإراداتهم شيئًا؛ فإن الذات عين قائمة بنفسها، وهذه صفات لها ومنها، وكل في ذلك ليس من جنس الأعيان المخلوقة وصفاتها التي لها ومنها، وإن كان اللفظ متواطئًا فيها. وقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل ذلك في الوجه. كقول غيره إن الوهم لا يقبل ذلك في العلم. وهو قول نفاة الصفات. وهو كقول القائل: إن الوهم والخيال لا يقبل(1/370)
ذلك في الذوات مطلقًا عند كل من أثبت الذوات.
وليس له أن يقول: فمقصودي أننا متفقون على الإقرار بما لا يقبله الوهم والخيال: فإن هذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه لا فرق بين العقل والاعتقاد والعلم: والوهم والخيال والظن من هذا الباب.
الثاني: أن مورد النزاع قد قيل: إنه معلوم بالفطرة انتفاؤه عقلًا، وموقع الإجماع ليس كذلك.
الثالث: أن موقع النزاع معلوم الانتفاء بالوهم والخيال، وموقع الإجماع إنما يقال: فيه أن الوهم عاجز عنه، كما بين ذلك.
الرابع: أن إثبات صفات لا تُعْلَم كيفيتها لذات لا تعلم كيفيتها، ليس ممتنعًا في العقل ولا في الوهم والخيال، إنما الممتنع ثبوت ذات قائمة بنفسها لا داخل العالم ولا خارجه.
الخامس: أنه إذا عرض على الفطرة وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه نفت ذلك، وأنكرته وقضت بعدمه، وإذا عرض عليها يد ليست جسمًا، كأيد المخلوقين وعلم ليس عرضًا، كعلم المخلوقين، لم يقض بعدم فهمه ومعرفته، أو بعلمه من وجه دون وجه.
ولهذا تنفر الفطرة عن الأول ما لا تنفر عن الثاني.
وتحرير الأمر أن يقال:(1/371)
الوجه السابع والأربعون: أن لفظ «الجسم» و «العرض» و «المتحيز» ونحو ذلك: ألفاظ اصطلاحية، وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك، في حق الله لا بنفي ولا إثبات؛ بل بدعوا أهل الكلام بذلك، وذموهم غاية الذم، والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر، ولم يذم أحد من السلف أحدًا بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره، وذموا أيضًا المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين. ومن أسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك [ما] في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق، كما قال الإمام أحمد: «يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم» .
وإنما النزاع المحقق أن السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من أن له علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، ويدين ووجهًا وغير ذلك، والجهمية أنكرت ذلك، من المعتزلة وغيرهم.
ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة، تنازعوا(1/372)
في الألفاظ الاصطلاحية: فقال قوم: العلم والقدرة ونحوهما لاتكون إلا عرضًا، وصفة حيث كان، فعلم الله وقدرته عرض. وقالوا أيضًا: إن اليد والوجه لا تكون إلا جسمًا، فيد الله ووجهه كذلك؛ والموصوف بهذه الصفات لا يكون إلا جسمًا، فالله تعالى جسم لا كالأجسام. قالوا: وهذا مما لا يمكن النزاع فيه، إذا فهم المعنى المراد بذلك، لكن أي محذور في ذلك، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا؟ فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل؛ بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال.
قالوا: وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به، قالوا: لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم، وكل صفة قائمة به وهو العرض. والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد، وهو أصل «علم الكلام» الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه -وسيأتي الكلام على هذا الدليل في موضعه- قالوا: فلا معنى لإنكار ما هو الحق الثابت بالشرع والعقل، لاستلزام ذلك بطلان حجة مبتدعة أنكرها السلف والأئمة، لأجل دعوى من ادعى من أهلها أنها أصل الدين، الذي لا يعلم الدين إلا به، فإنما هو أصل الدين الذي ابتدعوه، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ(1/373)
شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ليست أصلًا لدين الله ورسوله؛ بل أصل هذا الدين هو ما بينه الله ورسوله من الأدلة، كما هو مبين في موضعه؛ إذ من الممتنع أن يبعث الله رسولًا يدعو الخلق إليه، ولا يبين لهم الرسول أصل الدين الذي أمرهم به، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وعلى هذا التقدير فلا يكون فيما أثبته هؤلاء ما يخالف الوهم والخيال، فتنقطع مادة التزامه بالكلية.
وقال قوم: بل نقول ما وصف الله به من العلم والقدرة، تسمى صفة ومعنى، ولا نسميه عرضًا، لأن العرض هو ما يعرض ويزول، وصفات الله لازمة، بخلاف صفة المخلوق فإنها عارضة، والتزموا لذلك وغيره أن صفة المخلوقات -وهي الأعراض- لا يبقى منها شيء زمانين.
ثم أئمة هؤلاء قالوا: وكذلك ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، نقول: إنه من جنس العلم والقدرة والإكرام؛ بل ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد، هو مما يوصف من الله ويوصف الله به ولا نسميه جسمًا، لأنها تسمية مبتدعة وموهمة معنى باطلًا، ولا نقول ذلك من جنس العلم والقدرة ونحوهما، بل نقول كما يعلم الفرق في صفاتنا بين العلم والقدرة، وبين الوجه واليد ونحوهما، فإن الحقائق لا تختلف شاهدًا ولا غائبًا، كما يفرق في حقنا بين العلم والقدرة والسمع والبصر، فلكل(1/374)
صفة من هذه خاصة ليست للأخرى، كذلك هذه العقيدة في حق الله؛ وإن قيل: إن ذلك يقتضي التكثر والتعدد. وكذلك نفرق بين الوجه واليد والعين وبين العلم والقدرة ونحو ذلك. وإن قيل: هذا يقتضي التجسيم والتركيب والتأليف ونحو ذلك. فسيأتي الكلام المفصل على هذا في موضعه إن شاء الله، لكن علمنا أن ذاته ليست مثل ذوات المخلوقين، وعلمنا أن هذه الصفات جميعها: ما يفهم أنه عين يقوم بغيره، وما يفهم منه أنه معنى قائم بغيره، نعلم أن جميع صفات الرب ليست كصفات المخلوقين، فإن الشرع والعقل قد نفى المماثلة، والشرع والعقل يثبتان أصل الصفات، كما يثبتان الذات؛ فإن إثبات ذات لا تقوم بنفسها ممتنع في العقل، وإثبات قائم بنفسه يمتنع وصفه بهذه الصفات ممتنع في العقل؛ بل العقل يوجب أن الذات القائمة بنفسها لا تكون إلا بمثل هذه الصفات. وعلى قول هؤلاء فلم يثبت شيء على خلاف حكم الوهم والخيال.(1/375)
فصل
قال أبو عبد الله الرازي:
«التاسع: أن أهل التشبيه قالوا: إن العالم والبارئ موجودان، وكل موجودين، فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو مباينًا عنه. قالوا: والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة. قالوا: والقول بالحلول محال، فتعين كونه مباينًا للعالم بالجهة. فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصًّا بالحيز والجهة» .
وأهل الدهر قالوا: «العالم والبارئ» موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا، أو يكون أحدهما قبل الآخر، ومحال أن يكون العالم والبارئ معًا، وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث البارئ، وهما محالان، فثبت أن البارئ قبل العالم. ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة، وإذا ثبت هذا فتقدم البارئ(1/376)
على العالم، إن كان بمدة متناهية لزم حدوث البارئ، وإن كان بمدة لا أول لها، لزم كون المدة قديمة، فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان» .
فنقول: حاصل هذا الكلام، أن المشبهة زعمت أن مباينة البارئ تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة، وأنتجوا منه كون الإله في جهة.
وزعمت الدهرية: أن تقدم البارئ على العالم، لا يعقل حصوله إلا بالزمان، وأنتجوا منه قدم المدة. وإذا ثبت هذا فنقول: حكم الخيال إما أن يكون مقبولًا في حق الله تعالى أو غير مقبول، فإن كان مقبولًا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية، وهو أن يكون البارئ متقدمًا على العالم بمدة غير متناهية، ويلزمهم القول بكون الزمان أزليًّا، والمشبهة لا يقولون بذلك. والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة، وهو مباينة البارئ تعالى مكانيًّا -وهم لا يقولون به- فصار هذا التناقض واردًا على الفريقين.(1/377)
وأما إن قلنا: إن حكم الوهم والخيال، غير مقبول البتة في ذات الله تعالى، وفي صفاته، فحينئذ نقول: قول المشبهة: إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر، أو مباينًا عنه بالجهة، قول خيالي باطل، وقول الدهري: إن تقدم البارئ على العالم، لا بد وأن يكون بالمدة والزمان، قول خيالي باطل. وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه، الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته، [وذلك] هو المنهج القويم، والصراط المستقيم» .
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن تسمية هؤلاء «أهل التشبيه» مما ينازعونه فيه؛ وذلك أن القوم متفقون على إنكار التشبيه، وذم المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه، ويجعلون الخالق من جنس شيء من المخلوقات، وهذا منتف عندهم، كما أقر به هذا الرجل.
ومعلوم أن كل من نفى شيئًا من الصفات، سمى المثبت لها مشبهًا. فمن نفى الأسماء من الملاحدة الفلاسفة والقرامطة وغيرهم، يجعل من سمى الله تعالى عليمًا وقديرًا وحيًّا ونحو(1/378)
ذلك مشبهًا؛ وكذلك من نفى الأحكام يسمي من يقول: إن الله يعلم ويقدر ويسمع ويبصر مشبهًا. ومن نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يسمون من يقول: إن لله علمًا وقدرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله تعالى يرى في الآخرة مشبهًا، وهم من أكثر الطوائف لهجًا بهذا الاسم وذم أصحابه؛ ولهذا كان السلف إذا رأوا رجل يكثر من ذم المشبهة، عرفوا أنه جهمي معطل؛ لعلمهم بأن هذا الاسم قد أدخلت الجهمية فيه، كل من آمن بأسماء الله تعالى وصفاته، ومن نفى علو الله على عرشه، يسمي المثبت لذلك مشبهًا، ومن نفى الصفات الخبرية والعينية يجعل من أثبتها مشبهًا. وإذا كان هذا اللفظ فيه عموم وخصوص بحسب اعتقاد المتكلمين به واصطلاحهم، وقد علم أن الرازي وأشباهه تسميهم المعتزلة وغيرهم مشبهة، فإن كان ينفي عن نفسه هذا الاسم بما يقوله من التنزيه، فكذلك حال غيره سواء؛ مع أن هذا الاسم ليس له ذم بلفظه في الكتاب والسنة.
وقد صنف أبوإسحاق إبراهيم [بن عثمان] بن عيسى(1/379)
الماراني مصنفًا سماه: «تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة» ذكر فيه من كلام السلف والأئمة في هذا الباب، كلامًا كثيرًا لا يحضرني الساعة، قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «السنة» : «حكى إسماعيل بن زرارة قال: سمعت أبا زرعة(1/380)
الرازي يقول: «المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله، التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ويكذبون بالأخبار الصحيحة، التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة، على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة، وينسبون رواتها إلى التشبيه، فمن نسب الواصفين ربهم تبارك وتعالى، بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه [إلى التشبيه] فهو معطل ناف، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية، كذلك كان أهل العلم يقولون، منهم عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح» وذكر أيضًا أبو القاسم التيمي في(1/381)
كتابه «الحجة في بيان المحجة» .
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، في اعتقاده المشهور: «وعلامة أهل البدع شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة، اعتقادًا منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها بمعزل من العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } [محمد: 23] {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) } [الحج: 18] » .
فلو قال الرازي بدل المشبهة: «مثبتة الصفات الخبرية والعينية الذاتية» أو «مثبتة العلو» أو «جهة العلو» لكان في ذلك(1/382)
من العدل ما ليس في هذا الاسم.
وأيضًا فإنه قد صرح في أجل كتبه وهو «نهاية العقول» أن المجسمة القائلين بالجهة وغيرها ليسوا مشبهة، وكذلك رد على من كفرهم لكونهم مشبهة. فتبين أن التشبيه إن كان المراد به إثبات مثل لله عز وجل، فهم لا يقولون بذلك. وإن كان المراد إثبات وصف مشترك فهذا لازم لجميع الناس. وهذا قول أئمته في المجسمة، *بل هو أصح قوليهم في غلاة المجسمة*.(1/383)
قال أبو المعالي: «باب نفي المثل والتشبيه عن الله من صفات نفس القديم -تعالى- مخالفته للحوادث، فالرب سبحانه وتعالى لا يشبه شيئًا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها، والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة بالإثبات فشبهت وألحدت. فأما الغلاة في النفي فقالوا: الإشراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا على هذا: القديم -سبحانه- لا يوصف بالوجود: بل يقال ليس بمعدوم، فكذلك لا يوصف بأنه حي عالم، بل يقال: ليس بعاجز ولا جاهل، ولا ميت، وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول، بمماثلة القديم سبحانه الحوادث، فإنهم أثبتوا له الصورة والجوارح والاختصاص بالجهات والتركيب، والأقدار، والنهايات، ومن غلاتهم من يثبت للقديم -تعالى عن قولهم-، اللحم والدم والهيئة، ويقولون بقدم الأرواح، وصاروا إلى أنها من ذات القديم -سبحانه-، وأنها تحل الأشخاص.
فإن قال قائل: ما معنى التشبيه؟ قلنا: قد يطلق التشبيه، والمراد منه اعتقاد المشابهة، ويطلق والمراد منه الإخبار عن تشابه المتشابهين، ويطلق والمراد به إثبات فعل على مثال فعل.(1/384)
فإن قيل: هل تسمون غلاة المجسمة مشبهة؟ قلنا قال أبو الحسن في بعض كتبه: نسميهم مشبهة وإن لم يصرحوا بلفظ التشبيه بل أبوه وامتنعوا منه، فإن الأمة مجمعة على أن من أثبت لله الجوارح والأعضاء، والصورة واللحم والدم والتأليف، فقد شبه ربه بخلقه، فلا ينفعه بعد ذلك نفي سمة التشبيه عن نفسه، بالقول بأنه جسم وشخص بلا كيف، أو أنه على صورة الإنسان بلا كيف.
وقال في بعض كتبه: المشبهة من يعترف بالتشبيه ويلتزمه، وأما من ينكره فلا نسميه مشبهًا، إذ حقيقة المثلين: المشتبهان في جميع صفات النفس، وليس كلما يلزم صاحب مذهب نظرًا، يجوز وصفه به ابتداء.
فإن قيل: هل تكفرون الغلاة منهم؟ قلنا القول في التكفير سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وبالجملة كل من شبهه فيما يطلقه من القول أو يعتقده بظاهر من الكتاب والسنة، ولم يرد على ما ورد التعبد به، ولا يفسره بما يوهم السامع تشبيهًا مع اعتقاد التقديس والتنزيه عن سمات الحدث فالأمر قريب» .
هذا كله كلام أبي المعالي وأصحابه. فقد ذكر في تسمية غلاة المجسمة مشبهة قولين لأبي الحسن، والمنصور عندهم هو(1/385)
القول الثاني، وأن لازم المذهب ليس بمذهب. فأما المجسمة غير الغلاة فلا يسمون مشبهة على القولين.
ومعلوم أن القائلين بالعلو على العرش بل بالجهة ليسوا بذلك من الغلاة بلا نزاع، سواء صرحوا بأنه جسم غير مركب، أو قالوا بالتركيب، أو نفوهما جميعًا، إذ القول بأن الله تعالى نفسه فوق العالم، هو قول الصفاتية من الكلابية، والكرامية، وأئمة الأشعرية، مع جماهير طوائف المسلمين، فيمتنع إطلاق اسم المشبهة على هؤلاء، وإنما يطلق عليهم الجهمية من المعتزلة ونحوهم. وغلاة المجسمة عنده الذين ذَكَرَ فيهم قولين، هم الذين يثبتون مع التجسيم صورة الإنسان، أو يثبتون له اللحم والدم، كما ذكره.
ومع هذا كله فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض، والموالاة والمعاداة والطاعة والمعصية والبر والفجور، والعدالة والفسق، والإيمان والكفر، هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فأما(1/386)
[ما] سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف -كأسماء الشعوب والقبائل- فلا يجوز تعليق الحكام الشرعية [بها] ، بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كحال من يعلق الموالاة والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان، أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والمشايخ ونحوهم.
وإذا كان كذلك فاسم «المشبهة» ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين؛ ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ونعيم بن حماد، وغيرهم بذم المشبهة، وبينوا المشبهة الذين ذموهم؛ أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة، إذ دخلوا في التمثيل، إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام، بخلاف لفظ التمثيل الذي دل عليه القرآن؛ ونفى مُوجَبَه عن الله عز وجل.(1/387)
الوجه الثاني: أن هذه الحجة تحتج بها طوائف من متكلميهم: من الكرامية وغيرهم، وإلا فجمهورهم لا يحتاجون إلى قياس شمولي في هذا الباب؛ بل عندهم أن علو الله على العرش معلوم بالفطرة الضرورية، وقد تواطأت عليه الآثار النبوية، واتفق عليه خير البرية، ويقولون نفي ذلك تعطيل للصانع، معلوم بالضرورة العقلية، فلو فرض أن هذا القياس عارضه ما أبطله، لم يبطل ما علموه بالفطرة الضرورية من أن الله فوق خلقه، وأنه يمتنع كونه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يلزم من كون العبد مضطرًّا إلى العلم بحكم الشيء المعين، أن يجعل نقيض ذلك قضية عامة كلية؛ فإن العلم بالمعين الموجود يلزمه نفي النقيض، وذلك شيء غير العلم بنفي المطلق الكلي. وطوائف من أهل الفطرة الصحيحة والإثبات للشريعة، يعلمون(1/388)
أن الله تعالى فوق العالم، ولا يخطر بقلوبهم، تقدير وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه حتى ينفوه، إذ الأقوال المنافية للإيمان لا يجب أن تخطر لكل مؤمن؛ لكن لما حدث من ابتدع هذا النفي، تكلم المسلمون في رده: تارة ببيان أن الله تعالى فوق خلقه من غير تعرض لغيره، وتارة ببيان استحالة نقيض ذلك، وتارة ببيان استحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ومن علم أن الله عز وجل فوق العالم، نفى أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، وأما هل يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه؟ فقد يخطر بقلبه، وقد لا يخطر.
الوجه الثالث: أن هذه الحجة المذكورة، ليست نظير ما ذكره من حجة الدهرية، وذلك أن هؤلاء قالوا: الخالق والمخلوق موجودان، فكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو بائنًا عنه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما داخلًا في الآخر أو خارجًا منه. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون أحدهما متصلًا بالآخر مقارنًا له أو منفصلًا عنه بائنًا منه، ثم قالوا: وليس هو فيه، فوجب أن يكون خارجًا منه. وهذا مقصودهم، فنظيره أن يقال: البارئ والعالم موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا وهما متقارنان، وإما أن يكون أحدهما قبل الآخر، وليس مع العالم مقارنًا له، فوجب أن يكون متقدمًا عليه. وهذا حق. فهذا تمام الموازنة والمعادلة بين الحجتين.(1/389)
فالأولى دلت أن البارئ تعالى خارج عن العالم ليس فيه، وهذه دلت على أن البارئ سابق للعالم لم يقارنه العالم، وكذلك قال سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» والبارئ سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة، كما أن التقدم على الشيء قد يقال: إنه بمجرد الرتبة، كما يكون بالمكان؛ مثل تقدم العالم على الجاهل، وتقدم الإمام على المأموم، فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك؛ بل هو قبله حقيقة، فكذلك العلو على العالم، قد يقال: إنه يكون بمجرد الرتبة، كما يقال العالم فوق الجاهل، وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك، بل هو عال عليه علوًّا حقيقيًّا، وهو العلو المعروف والتقدم المعروف، فهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره من الموازنة والمقابلة، وكلاهما حق يقولون به، فعلم أن الحجة عليه لا له.(1/390)
الوجه الرابع: أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه، فإنهم ذكروها في «مسألة حدوث العالم» وذكروها في «مسألة الجهة» لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين، ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين، فظنوا أنهم بهذا الإلزام أنهم يخلصون من معارضة الطائفتين، ويجعلون ذلك دليلًا على أنها من حكم الوهم، ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين، بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح، وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية: رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة، وكان ذلك مما سلط عليه المسلمون المثبتون، وهذا كما ذكره الإمام أحمد في مناظرة جهم للسمنية.(1/391)
فهكذا أجاب أهل الكلام، الذين تكلموا في مناظرة الكفار، وأهل الأهواء من المذاهب والحجج بما ليس موافقًا للشريعة، وما ينكره العقل الصريح، فصاروا كما جاهد من جاهد الكفار جهادًا ظلمهم به، وخرج فيه عن الشريعة، وظلم فيه المؤمنين جميعًا، حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين، وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته. وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع.
ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي، وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر؛ وذلك أن المثبت إذا قال لهم: كل(1/392)
موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًا في الآخر، أو بائنًا عنه. كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم، وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل. فإذا قالوا: هذا من حكم الوهم الباطل، وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما متقدمًا على الآخر أو مقارنًا له. قيل له: هب أن الأمر كذلك، فهذا الذي مثلت به هو حق أيضًا تقبله الفطرة وتحكم به. فإذا قال: هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم، فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل، وما استلزم الباطل فهو باطل. قيل له: هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية، وأما كونها مستلزمة للقول بقدم العالم، فهذا ليس بين ولا معلوم؛ بل أنت تقوله، وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم، فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم.
الوجه الخامس: أن يقول: هب أنا نفرض تلازمهما، فالعلم بهذه القضية التي ألزمتموني نفيها، لأنفي معها الأولى، التي إثباتها أبين في العقول؛ من كون العالم، الذي هو عندكم جميع الأجسام وصفاتها، محدث وليس شيء منها بقديم، فالاحتجاج على بطلان هذه المقدمة، ببطلان هذا اللازم الذي(1/393)
هو أخفى منها، عكس الواجب؛ بل إن صح هذا التلازم، كان بعض قول الفلاسفة أصح من قولكم، يا معشر المناظرين لهم، والله تعالى لم يأمرنا أن ندفع الأقوال الباطلة، من أقوال الكفار وغيرها، بالأقوال الباطلة؛ بل أمرنا أن نكون قوامين بالقسط، شهداء لله، وأن لا نقول على الله إلا الحق، ولا نقفوا ما ليس لنا به علم، قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 8] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يِقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد: 3] وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24] وقال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي(1/394)
هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وليس من الأحسن أن يدفع الباطل بالباطل، أو أن نرد ما علمناه بالفطرة والضرورة لظننا أن المبطل يدفع به الحق. *وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] * وقال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] فذم الله من جادل في الحق بعد ما تبين، ومن حاج فيما ليس له به علم، ومن أبين الحق ما كان معلومًا بالفطرة، فكيف يجوز أن يجادل أحد فيه فيدفعه، وإن كان هذا مشتبهًا على أحد، كان ما ليس له به علم، وليس لأحد أن يحاج فيما ليس له به علم. وهذا أصل عظيم، ومن أعظم ما ذم به السلف، والأئمة، أهل الكلام والجدل -وإن جادلوا الكفار وأهل البدع- أنهم يجادلون بالباطل في الحجج وفي الأحكام فتدبر هذا، واحترس منه؛ فإنه من توقاه تخلصت له السنة من البدعة، والحق من الباطل، والحجج الصحيحة من الفاسدة، ونجا من ضلال المتفلسفين، وحيرة المتكلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الوجه السادس: أن كل واحدة من الطائفتين تقول لهم إذا عارضهم بمذهب الآخرين ما يبطل هذه المعارضة: فيقول المثبت للعلو، من المسلمين وسائر أهل الملل والفلاسفة الصابئين والمشركين وغيرهم: أنا أعلم بفطرتي أن الموجود إما أن يكون(1/395)
محايثًا لغيره أو مباينًا له. وقولك إن هذا مثل قول الفيلسوف الدهري: الموجودان إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، هو أيضًا معلوم لي، وقولك إن هذا يستلزم تقدم العالم. أنا لا أجزم بهذه الملازمة نفيًا ولا إثباتًا.
وقد يقول أيضًا: أنا لا أنظر في هذه المعارضة، وسواء جزمتُ بثبوت الملازمة، أوانتفائها أو لم أجزم بشيء، فأقول: لا يخلو إما أن يكون ما ذكرته مستلزمًا للقول، بقدم جسم من الأجسام أو لا يكون، فإن لم يكن مستلزمًا بطلت المعارضة، وإن كان مستلزمًا لقدم جسم من الأجسام، فليس علمي بحدوث الأجسام الذي تسميه حدوث العالم، أبين عندي من العلم بهذه القضية؛ إذ هذه المقدمة ضرورية فطرية، وتلك تحتاج إلى مقدمات طويلة خفية، وفيها نزاع كثير.
ولا أيضًا دلالة الكتاب والسنة على حدوث جميع الأجسام، بأظهر من دلالة الكتاب والسنة على أن الله تعالى فوق العالم؛ بل القرآن مملوء بما يدل على أن الله تعالى فوق العالم، وهو دال على أن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، ولكن هو يذكر مع ذلك أنه استوى على العرش، والذي نطق به القرآن في جميع الآيات لا يمكن أن يستدل به على أن جميع الأجسام محدثة، إلا بتوسط مقدمات مستنبطة: بأن يبين أن هذا المذكور في القرآن هو الأجسام، وأن لا جسم إلا ما أخبر بخلقه. وأما دلالة القرآن على العلو، فلا تحتاج إلى مقدمات(1/396)
مستنبطة. فإذا كان العلم بأن الله تعالى فوق العالم، أبين في الفطرة والشرعة من كون الأجسام كلها محدثة، لم يجب علي أن أترك ذلك المعلوم البين في الفطرة، خوفًا أن يلزمني إنكار هذا ليس هو مثله في ذلك. وهذا الجواب بين ظاهر.
وملخصه أن هذه الملازمة التي ذكرها -وهو أن هذا يستلزم أن يقال: مثل حجة الفلاسفة المستلزمة قدم الزمان- إما أن تكون هذه الملازمة حقًّا في نفس الأمر أو باطلًا، فإن كانت باطلًا بطلت المعارضة، وإن كانت حقًّا لزم إما ثبوت اللازم وإما انتفاء الملزوم، لا يلزم انتفاء الملزوم عينًا، وإذا كان كذلك فليس العلم بانتفاء اللازم، بأظهر من العلم بثبوت الملزوم، بل ثبوت الملزوم أبين في الشرع والعقل، فلا يجوز على هذا التقدير انتفاء اللازم، فلا تصح المعارضة، وهكذا يقول الفيلسوف، وذلك يظهر:
بالوجه السابع: وهو أن الفيلسوف يقول: وعلمي بأن المجودين إما أن يكون أحدهما مع الآخر أو قبله، علم بديهي فطري. وأما قولك: إن هذا مثل قول المجسم: الموجودان إما أن يكون أحدهما محايثًا للآخر أو بائنًا عنه. أقول: لا يخلو إما أن تكون هذه المماثلة حقًّا أو باطلًا، فإن كانت باطلًا لم يرد عليّ، وإن كانت حقًّا وجب عليَّ التزام المماثلة، وذلك يقتضي(1/397)
أن أقول بثبوت النقيضين جميعًا، أو انتفائهما جميعًا؛ لا يقتضي أن أثبت الزمانية وأنفي المكانية، فإذا كنت قد فرقت بينهما بإثبات هذه ونفي الأخرى، أكون مخطئًا في هذا التفريق، لم يتعين خطئي في المكانية حتى أنفيها وأسوِّي الأخرى بها في النفي، بل إذا سويت بينهما في الإثبات، يلزمني أن أقول: إن واجب الوجود مباين للعالم، وإذا سويت بينهما في النفي، وسُلِمَ أن ذلك يبطل دلالة هذه الحجة على قدم العالم، كان غاية ما يلزمني إما بطلان القول بقدم العالم، وإما بطلان دليل معين يدل على قدمه، ولا ريب أن قدم العالم أو صحة هذه الحجة، أخفى وأبعد عن المعلوم بالفطرة، من كون واجب الوجود تعالى فوق العالم، فإن الإقرار بهذا ثابت في الفطرة، وقد تواتر عن الأنبياء والرسل القول به، فإذا كان على أحد التقديرين، أخالف المعلوم بفطرتي من العلوم الضرورية، فأنفي كل واحد من القضيتين، وأخالف الأنبياء والمرسلين، وعلى الآخر إنما أخالف الحجج الدالة على قدم العالم، وأبطل هذه الحجة المعينة، كانت مخالفة هذه أولى في عقل كل عاقل. وهذا الكلام في غاية الإنصاف والبيان.
فعلم أن ما ذكروه من المعارضة لم يندفع به واحد من الطائفتين، لا في المناظرة ولا في نظر الإنسان بينه وبين ربه تعالى، ولكن أوهموا هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، والتزموا(1/398)
مخالفة الفطرة الضرورية العقلية، التي اتفق عليها العقلاء في كل من الإيهامين، مع ما في ذلك من مخالفة الكتب والرسل، ببعض ما قالوه في كل واحدة من المسألتين: «مسألة حدوث الأجسام» و «مسألة علو الله تعالى على خلقه» .
هذا كله إذا لم يكن في الفلاسفة من يقول بالجهة، ولا في المسلمين من يقول بقدم بعض الأجسام، فكيف والمثبت للجهة يقول ما يقال في:
الوجه الثامن: وهو أن يقول: غاية ما ألزمتني به من حجة الدهرية، أن يقال بقدم بعض الأجسام؛ إذ القول بقدم الأجسام جميعها لم يقل به عاقل، والقول بخلق السموات والأرض لم تدل هذه الحجة على نفيه، وإنما دلت -إن دلت- على قدم ما هو جسم أو مستلزم لجسم، وهذا مما يمكنني التزامه؛ فإنه من المعلوم أن طوائف كثيرة من المسلمين وسائر أهل الملل، لا يقولون بحدوث كل جسم، إذ الجسم عندهم هو القائم بنفسه، أو الموجود، أو الموصوف. فالقول بحدوث ذلك يستلزم القول بحدوث كل موجود وموصوف وقائم بنفسه، وذلك يستلزم بأن الله تعالى محدث.
وهؤلاء يقولون لمناظريهم: نحن نبين أن القول بحدوث كل ما يدخل في المعنى الذي تسمونه جسمًا، يستلزم حدوث البارئ تعالى، ونبين أن قولكم: إن الله تعالى ليس بجسم، يستلزم حدوث البارئ، أكثر مما تبينون أن القول بثبوته يستلزم(1/399)
حدوث البارئ، كما سنبين أن نفي الجهة يستلزم القول بعدم البارئ، وهذا أمر قد بين في غير هذا الموضع، وبُيّن أنما ذكره النفاة، من حدوث كل جسم حجة باطلة مبتدعة، حتى ذكر أبو الحسن الأشعري أن هذه الحجة مخالفة لحجج الأنبياء والرسل وأتباعهم، وأنها محرمة عندهم.
وإذا كان كذلك، فتقول لهم مثبتة الجهة: إذا كان تصحيح هاتين المقدمتين الفطريتين، يستلزم مع كون البارئ تعالى فوق العالم مباينًا له؛ أن يكون من الأجسام ما هو قديم، أمكنني التزام ذلك، على قول طوائف من أهل الكلام، بل على قول كثير منهم، ولم أكن في ذلك موافقًا للدهرية، الذين يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية، حتى يقال: هذا مخالف للكتاب والسنة، أو هذا كفر؛ بل الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه المسلمون من خلق المخلوقات، وحدوث المحدثات أقول به، وأما كون البارئ جسمًا أو ليس بجسم، حتى يقال الأجسام كلها(1/400)
محدثة، فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع، لم تنطق بان الأجسام كلها محدثة، وأن الله ليس بجسم، ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول، خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة، بخلاف قولي: أن الله تعالى ليس فوق العالم، وأنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن فيه من مخالفة الفطرة والشرعة، ما هو بين لكل أحد، وهو قول لم يقله إمام من أئمة المسلمين، بل قالوا نقيضه، فكيف ألتزم خلاف المعقول الفطري، وخلاف الكتاب والسنة والإجماع القديم، خوفًا أن أقول قولًا لم أخالف فيه، كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا معقولًا فطريًّا.
بل يقول في الوجه التاسع: هذه المعارضة تؤكد مذهبي وتقويه، وتكون حجة ثانية لي على صحة قولي. فإن احتججت عليّ -بأن الله تعالى مباين للعالم- بأن الموجودين إما أن يكون أحدهما مباينًا للآخر أو محايثًا له، فقلتم: هذا معارض بقول الفيلسوف: إن الموجودين إما أن يكون أحدهما متقدمًا على العالم أومقارنًا له، وذلك يستلزم القول بقدم الزمان، المستلزم للقول بقدم بعض الأجسام، فأقول: إذا كانت هذه الحجة التي عارضتموني بها مستلزمة، لكون بعض الأجسام قديمة، من غير أن تعين جسمًا، أمكن أن يكون ذلك الذي يعنونه، بأنه الجسم القديم هو الله سبحانه، كما يقوله المثبتون، وأن ذلك هو ملازم لقولنا، إنه موصوف وقائم بنفسه ونحو ذلك، فتكون هذه الحجة التي عارضتم بها، دليلًا على أن الله تعالى جسم بالمعنى الذي(1/401)
ذكرتموه -الذي نقول: إنه ملازم لكونه موصوفًا، وقائمًا بنفسه وإن نازعتم في الملازمة- وذلك يدل على صحة الحجة الأولى بالاتفاق؛ فإن الجسم وما يقوم به إما أن يكون مباينًا لغيره، وإما أن يكون محايثًا له، أو حال فيه. وهذا متفق عليه، فإنكم لا تنازون في أن الجسم، أو ما يقوم به إما مباينًا لغيره أو محايثًا له، وإذا كان مُوجَبُ الحجة التي أَلزمتموني إياها يلزمني؛ أن أقول هو جسم، وذلك يستلزم أن يكون مباينًا للعالم، كان هذا الذي ألزمتموني به حجة ثانية، على أنه مباين للعالم، فأردتم معارضة كل حجة بالأخرى، ليكون ما قلتموه من تناقض الحجتين نافيًا لكونه مباينًا للعالم، ولكون كل جسم محدثًا، فتبين أن الحجتين متعاونتان متصادقتان، وأن كل واحدة منهما تدل على أنه تعالى مباين للعالم.
ويقول في: الوجه العاشر: إذا كانت إحدى هاتين المقدمتين الضروريتين تستلزم أنه مباين للعالم والأخرى تستلزم أنه جسم، فقد ثبت بموجب هاتين المقدمتين صحة قول القائلين بالجهة وقول القائلين بأنه جسم، وكونه جسمًا يستلزم القول بالجهة، كما توافقون عليه، وقول القائلين بالجهة يستلزم أيضًا القول بالجسم، كما تقولون أنتم. وأكثر العقلاء خلاف ما يقوله قدماء أصحابكم: إن نفي الجسم، مستلزم لنفي الجهة والعلو على(1/402)
العرش، وأن ثبوت العلو على العرش، يستلزم ثبوت الجسم. فإذًا تكون كل واحدة من هاتين المقدمتين الفطريتين دليلًا على كل واحد من هذين المطلوبين وكل من المطلوبين دليلًا على الآخر، فصار على كل واحد من هذين المطلوبين أربع حجج، وهي مبنية على مقدمات فطرية، فقد بين هذا أن ما ذكرتموه معارضة للنفاة لتبطلوا به حجتهم، وهو من أعظم الحجج على صحة قولهم.
وكذلك أيضًا يقول الفيلسوف في:
الوجه الحادي عشر: وهو أن يقول: هذا الذي عارضتموني به في مسألة الزمان، أكثر ما يوجب عَليَّ أن أقول بالجهة، والقول بالجهة هو قول أئمة الفلاسفة، كما ذكرناه فيما مضى، عن القاضي أبي الوليد بن رشد الفيلسوف، الذي هو من أتبع الناس لأقوال أرسطو وذويه، وأنه قال: «القول في الجهة، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله» قال: «وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] ومثل قوله: {وَسِعَ(1/403)
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } [الملك: 16] إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولًا *وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله* متشابهًا، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله تعالى في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى» قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة(1/404)
يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية» .
وقد تقدم ذكرنا لبقية كلامه بألفاظه وأنه قرر أن ما فوق العالم -وهو الجهة- ليس مكانًا على اصطلاح الفلاسفة، إذ المكان عند «أرسطو» هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، إلى أن قال: «وقد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة» إلى أن قال: «فقد ظهر من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع، وابتنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع» فقد حكى اتفاق الحكماء على إثبات الجهة. قال: «وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى في السماء ... وأن ما قيل في الآراء السالفة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع -يعني ما فوق العالم- هو مسكن(1/405)
الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة» وتصريحهم في هذا بلفظ المسكن يشبه ما ذكره الأشعري «أن المسلمين جميعًا إذا نابتهم نائبة يقولون: «يا ساكن العرش» .
فقد ظهر بهذا أنما ذكره من التناقض على المجسمة والفلاسفة، لا يرد على واحدة منهما، بل يمكنهم نفي هذا التناقض.
فصل
لفظ «الظرف» فيه اشتراك، غلط بسببه أقوام: فإن الظرف في اللغة قد يعنى به؛ الجسم الذي يوعى فيه غيره، فَيُظَنُّ إذا استعملت هذه الأدوات في حق الله تعالى، أنه محل المخلوقات تكون في جوفه، وأنها محل له يكون في جوفها، وهذا مما يعلم قطعًا أن هذه الأدوات لم تدل على ذلك في حق الله تعالى ألبتة، بل النحاة سموا الألفاظ التي يعبر بها العرب عن المعاني، التي هي أعم من ذلك بالظروف، حتى يدخل في ذلك ما لا يحيط بالمظروف وأنواع متعددة، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] وقال تعالى: {إِنَّ(1/406)
الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } [الأعراف: 206] وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) } [فصلت: 38] وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 55] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) } [الزخرف: 4] وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) } [النمل: 6] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود: 1] وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] .
ولفظ «مع» من الظروف، وقد أضيف اسم الله إليه، فيما شاء الله من المواضع. وإضافته إلى الظرف أبلغ من إضافة الظرف إليه، قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] .
وحق لمن يكون هذا وأمثاله كلامه، إذا أراد الله رحمته أن يتوب منه، كما قال أبو المعالي عند الموت: لقد خضت البحر الخِضَمَّ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي. وروي: على(1/407)
عقيدة عجائز نيسابور. ولهذا يقول مثل هؤلاء: عليكم بدين العجائز. فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز، خير من هذه الأباطيل، التي من شعب الكفر والنفاق، وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق.
فصل
أبو عبد الله الرازي: فيه تجهم قوي؛ ولهذا يوجد ميله إلى الدهرية، أكثر من ميله إلى السلفية، الذي يقولون: إنه فوق العرش، وربما كان يوالي أولئك أكثر من هؤلاء، ويعادي هؤلاء أكثر من أولئك؛ مع اتفاق المسلمين على أن الدهرية كفار، وأن المثبتة للعلو فيهم من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله تعالى، وقد صنف على مذهب الدهرية المشركين والصابئين كتبًا حتى قد صنف في السحر، وعبادة الأصنام(1/408)
-وهو الجبت والطاغوت- وإن كان قد أسلم من هذا الشرك وتاب من هذه الأمور، فهذه الموالاة والمعاداة لعلها في تلك الأوقات، ومن كان بتلك الأحوال، فهو قبل الإسلام والتوبة؛ ومن فعل هذا كان له نصيب من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) } [النساء: 51-52] إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) } [النساء: 60-61] إلى آخر الآيات.(1/409)
يقرر ذلك أنه احتج في مقدمة هذا العلم الشريف بكلام أرسطو معلم المشائين من الدهرية ولم يكن عنده من آثار الأنبياء والمرسلين ما يقدمه على كلام الدهرية، واحتج أيضًا بما نقله عن أبي معشر البلخي المنجم -وهو من أتباع الصابئين، بل كان تارة من المشركين عباد الشمس والقمر، وعبد القمر مدة، كما أخبر بذلك عن نفسه، وصنف ما صنف في ذلك- وجواب الدهرية: أنه قبل العالم وما فيه من الزمان، وقولهم: «والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة» .(1/410)
فصل
تنازع المسلمون في تسمية الله بالدهر، ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم» وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية أخرى: «يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما» هذه ألفاظ مسلم.(1/411)
قال القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» : اعلم أن أبا بكر الخلال قال: أخبرني بشر بن موسى الأسدي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الدهر، فلم يجبني فيه بشيء. قال القاضي: وظاهر هذا أن أحمد توقف عن الأخذ بظاهر الحديث، وقال حنبل: سمعت هارون الحمال يقول(1/412)
لأبي عبد الله: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة، فحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدهر» فقام فتح بن سهل فقال: يا أبا محمد نقول: يا دهر ارزقنا: فسمعت سفيان يقول: خذوه فإنه جهمي. وهرب، فقال أبو عبد الله: القوم يردون الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله» قال القاضي: «وظاهر هذا أنه أخذ بظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون قوله: ونحن نؤمن بها راجع إلى أخبار الصفات في الجملة، ولم يرجع إلى هذا الحديث خاصة» .
قال: «وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله رحمه الله -يعني ابن حامد- هذا الحديث في كتابه، وقال: لا يجوز أن يسمى الله دهرًا. والأمر على ما قاله، لأنه قد روي في بعض ألفاظ الحديث، ما يمنع من حمله على ظاهره هذا، ولم يرد في غيره من أخبار الصفات ما دل على صرفه عن ظاهره، فلهذا أوجب حملها على ظاهرها، وذلك أنه روي فيه: أنه «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»(1/413)
وفي لفظ آخر: «لي الليل والنهار أجدده وأبليه، وأذهب بملوك وآتي بملوك» فبين أن الدهر، الذي هو الليل والنهار، خلق له وبيده، وأنه يجدده ويبليه، فامتنع أن يكون اسمًا له. وأصل هذا الخبر أنه ورد على سبب، وهو أن الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر ومصائبه. فيضيفون كل حادث يحدث بما هو جار بقضاء الله وقدره وخلقه وتقديره، من مرض أو صحة أو غِنًى أو فقر أو حياة أو موت إلى الدهر، ويقولون: لعن الله هذا الدهر والزمان؛ ولذلك قال قائلهم:
أمن المنون وريبه نتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع(1/414)
وقال تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أي ريب الدهر وحوادثه، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فأخبر عنهم بما كانوا عليه من نسبة أقدار الله وأفعاله إلى الدهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر» أي إذا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إليه، فإن الله هو الذي أصابكم بها لا الدهر، وإنكم إذا سببتم الدهر، وفاعل ذلك ليس هو الدهر.
وقال أبو بكر الخلال: سألت إبراهيم الحربي، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقول أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو(1/415)
الدهر» وعن: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» قال: «كانت الجاهلية تقول الدهر هو الليل والنهار، يقولون: الليل والنهار فعل بنا كذا، فقال الله تعالى: أنا أفعل ليس الدهر» . قال القاضي: «فقد بين «إبراهيم الحربي» أن الخبر ليس على ظاهره، وأنه ورد على سبب. وذكر «أبو عبيد» نحو ما ذكرنا، فقال: لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين، واحتج به بعضهم فقال: ألا تراه يقول: «فإن الله هو الدهر» قال: وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر. فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء، أو يصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى، إذ هو الفاعل لها لا الدهر» .(1/416)
فصل
القول: بأن الله تعالى ليس فوق العرش. أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه بتكفير أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نحكي كلام الجهمية، وقالوا: اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش، وقالت الجهمية ليس فوق العرش. وليس هذا(1/417)
قول أئمة متكلمة الصفاتية؛ لا أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما، ولا قول أبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية، الذين تزعم أنهم أصحابك. وإن قيل: إن هؤلاء متناقضون في أقوالهم، لم يكن نفي قول الأثبات، الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه، لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الإثبات آخر القولين. وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما، قد خالفوا من خالفوه، من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الإثبات، لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك؛ بل نقل لمذهب إمامه، مع أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته، ورجع إلى دين أهل الفطرة، كالعجائز عند مماته، وكذلك الرازي أيضًا حيرته وتوبته معروفة، وكذلك أئمة هؤلاء.(1/418)
ثم يقال: هب أنه قَوْلُ هؤلاء، أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة، هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة، والتابعين وسائر أئمة *المسلمين وسائر الطوائف من أئمة* الفقهاء، والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين، الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب، بل يصرحون بنقيضه، أو بما يستلزم نقيضه؟!! وكلامهم في ذلك ملء العالم، مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء، وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء، والمقاييس العقلية السليمة عن المراء. وقد ذكر هذا الإمام لتباعه أبو عبد الله الرازي - في كتابه «أقسام اللذات» لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أشرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عنده: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أو محدث؟ ثم قال: «ومن الذي وصل إلى هذا الباب،(1/419)
أو ذاق من هذا الشراب؟!.
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } [طه: 110] ثم قال: «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» ومثل(1/420)
هذا كثير عن هؤلاء، أئمة هذه المقالة النافية، يعترفون بعدم العلم بها، ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة، وما عليه أهل الظاهر -الحشوية عندهم- فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه، مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه؟!!.
الوجه الثاني عشر: أن يقال له: دعواكم الرد على الدهرية بمثل جحد هذه المقدمة وأمثالها، مما تبين فيها أنكم جحدتم العلوم الفطرية، أوقعكم في أمور أربعة:
أحدها: اتفاق سلف الأمة وأئمتها على ذمكم، وذم كلامكم.
الثاني: نفور أهل الإيمان عن طريقكم، وما قذف الله في قلوبهم من البغض لذلك، وهم شهداء الله تعالى على الأرض.
الثالث: طمع الفلاسفة الدهرية فيكم، وقولهم فيكم: أهل جدل وكلام، لا أهل علم وبرهان، حتى ارتد خلق كثير منكم، إليهم، بل ابن الراوندي الذي يقال: إنه من شيوخ الأشعري،(1/421)
صنف كتابه المسمى بـ «كتاب التاج في قدم العالم» موافقة للدهرية. وهؤلاء المدعون للتحقيق منكم، كصاحب الفصوص، وابن سبعين، وأمثالهما، يؤول بهم الأمر إلى(1/422)
أن يقتصروا على قول الدهرية، الذين يثبتون واجب الوجود، و [لا] يفرقون بين الواجب والممكن، بل يجعلون وجوده وجود الممكنات، ولا يجعلون له وجودًا خارجًا عن وجود الأرض والسموات، ويصرح من يصرح من فضلائهم، بأن قولهم هو قول فرعون، وأنهم على قول فرعون، فيأتون بقول الدهرية المتضمن لإنكار الصانع -وهو شر المقالات- ويدّعون أن هذا هو التحقيق والعرفان، وسببه أنكم سلكتم بهم في طريقة النفي والتعطيل، التي لا تثبت للصانع وجودًا مباينًا للمخلوق، وهذه يضطر سالكها إلى أن لا يقول بموجود وراء العالم، وهو محض قول الدهرية، فكيف تتبرؤون منهم، وقولكم يؤول إليهم تصريحًا أو لزومًا؟!!.
الرابع: أن يقال له: أنت معترف بعجزك عن مقاومة الدهرية، وأنت في أكبر كتبك «المطالب العالية» ذكرت أدلة(1/423)
الفريقين: القائليْن بحدوث العالم، وقدمه، وضربت هذه بهذه، ولم ترجح شيئًا، بل ذكرت أن الكتب الإلهية والأدلة السمعية لم تبين هذه المسألة، وفي أجل كتبك الكلامية لم تحتج على حدوثه بحجة ظنية فضلًا عن علمية، وادعيت أن ذلك لا يتم إلا بمقدمة تذكر في سائر كتبك، أنها معلومة الفساد بالضرورة، وهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فمن تكون هذه حاله؟ كيف يدعي أنه وأصحابه أهل التوحيد والتنزيه دون المثبتين والفلاسفة؟!.
وسبب ذلك أنهم أدخلوا في مسالة حدوث العالم حقًّا وباطلًا، وطلبوا إثباتهما معًا، فلم ينهض دليل صحيح بإثبات باطل مع حق، وطمع فيهم خصمهم لما رآه من ذلك، وإن كان كلام خصومهم فيها أيضًا فاسدًا متناقضًا، فالطائفتان فيها ضالتان، وذلك أن هذا وأصحابه سلكوا طريق المعتزلة، التي التزموا حدوث الموصوفات بحدوث صفاتها، والتزموا على ذلك امتناع اتصاف الرب بصفة، ولزمهم على ذلك وإن لم يلتزموه(1/424)
حدوث كل قائم بنفسه، بل حدوث كل موجود، فكان ما ذكروه من الحجة متضمنًا حدوث الموجودات كلها، *حتى الرب تعالى* ومعلوم أن الدليل على ذلك لا يكون حقًّا، وقابلوا بها من زعم أن من المخلوقات ما هو قديم كالعناصر والسموات، وقابلوا باطلًا بباطل، ثم إنهم اضطربوا في العلم بحدوث الصفات وحدوث موصوفاتها، اضطرابًا ذكرناه في غير هذا الموضع، ثم جاء هؤلاء فوافقوهم في المعنى دون العبارة، وزعموا أن الموصوف الذي سموا صفته عرضًا يستدل على حدوثه بحدوث صفته، وزعموا أن شيئًا من صفات المخلوقات لا يبقى زمانين، وأن القابل لصفة لا يخلو منها ومن ضدها، وقود مقالتهم يوجب مثل تلك المقالة، مع ما التزموه في مواضع من المكابرات، وإن كانوا في مواضع اعترفوا بالحق(1/425)
الذي أنكره أولئك.
ومن تدبر عامة بدع الجهمية ونحوهم، وجدها ناشئة عن مباحث هذه الدعوى والحجة.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون كلامهم في الجواهر والأعراض، وبناءهم علم الدين على ما ذكروه من هذه المقدمات، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع. قال الإمام أبو المظفر السمعاني: «والأصل الذي يؤسسه المتكلمون والأصل الذي يجعلونه قاعدة علومهم: «مسألة العرض والجوهر وإثباتهما» وأنهم قالوا: إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون جسمًا، أو عرضًا، أو جوهرًا، فالجسم ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما احتمل الأعراض، والعرض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق نظرهم وعقولهم، ولهذا قال بعض السلف: إن أهل الكلام أعداء الدين، لأن(1/426)
اعتمادهم على حدسهم وظنونهم، وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه. وأما أهل السنة سلمهم الله تعالى، فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون له بالحجج الواضحة، على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع» وذكر تمام الكلام.
والمقصود أن هذا وأمثاله وإن كان في هذا المقام يتجوه بمخالفة الدهرية، وليس الرد على الدهرية معلومًا من طريقهم، بل طريقهم هم والدهرية فيها متقابلون يقولون هؤلاء الحق تارة والباطل أخرى، وكذلك أولئك، وليس أذكياؤهم على بصيرة فيها، وسبب ذلك ما يجحدونه من الحق المعلوم، وما يدعونه من الدعاوى الباطلة والمشتملة على حق وباطل، وإلا فلو كانت الحجج حقًّا محضًا لم ينكرها أحد من السلف والأئمة، ولا كان للمخالفين طريق صحيح إلى هدمها.
الوجه الثالث عشر: أن تسميتك أصحابك أهل التوحيد(1/427)
والتنزيه، هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات، فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى؛ وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدًا، لأن الواحد عندهم -الذي لا يعقل فيه- ما تميز منه شيء عن شيء أصلًا، وثبوت الصفات يقتضي الكثرة، والذي جعلوه واحدًا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع، كما سيأتي بيانه.
ومن المعلوم أن التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه *والتنزيه الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه*، هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع؛ مثل عبادة الله وحده لا شريك له، فمن عبد غيره كان مشركًا ولم يكن موحدًا، وإن أقر أنه خالق كل شيء، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) } [يوسف: 106] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) } [المؤمنون: 84-85] وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] وأمثال هذه الآيات.
وأما تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات، أو نفي علوه على العرش؛ بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك، فهو شيء(1/428)
ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام، وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد، وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات. هو أيضًا باطل، فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه، وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبهًا، فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، مرتبين على ذلك الحمد والذم، ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانًا بين فيه ما يحمده وما يذمه، فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه [فـ]ـإن كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه.
فإن المعتزلة أحق منهم بهذا؛ لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة، وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيهًا، والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا، وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة، ولهذا يدَّعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والإصلاح الذي ابتدعوه ما لا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة، التي وافقوهم عليها، ومن(1/429)
المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئًا له وجود في الخارج مطلقًا، حتى يوصف بوحدة ولا كثرة، وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذي هم شرار الدهرية، فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة، وأن من كان أعظم تعطيلًا وإلحادًا، كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا، وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه، الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، التوحيد العلمي القولي، كالتوحيد الذي دلت عليه السورة، التي هي صفة الرحمن، وهي تعل ثلث القرآن. والتوحيد العملي(1/430)
الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك، وهما سورتا الإخلاص، فإن هؤلاء الموحدين، كما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرؤا منهم، كما قال إمامهم إبراهيم لقومه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) } [الزخرف: 26-27] وقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } [الشعراء: 75-77] وقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 78-79] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
الوجه الرابع عشر: قوله: «أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة.
ثم يقال له: لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانًا للناس وهدى وشفاءً، وقال تعالى فيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ(1/431)
وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) } [طه: 123] وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } [الأعراف: 157] وقال: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15-16] وقالت الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1-2] وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك، والثناء عليهم بهذا القول، وكذلك قولهم: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30] وأمثال هذا كثير.
وقد بين الله تعالى ما يتقى من القول فيه والظن، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف: 33] وقال عن الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة: 169] وقال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171](1/432)
وقال: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] وقال: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] فذم من يقول ما لا يعلم، ومن يقول غير الحق، ومن يجادل فيما لا يعلم، ومن يجادل في غير الحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» وقال تعالى في موضع آخر: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] وقال: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) } [النجم: 28] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) } [الحج: 8] .(1/433)
ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان، فإنه يحس الأشياء ويشهدها، ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله، ويقيس ما غاب على ما شهد، والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علمًا، وقد يكون ظنًا لا يعلمه، وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله، قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك، ولا بين سبب وسبب، ولا بين القوى الباطنة والظاهرة فجعل بعض ذلك مقبولًا وبعضه مردودًا، بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقًا.
فلو كان بعض أجناس الإدراك وطرقه باطلًا مطلقًا في حق الله تعالى، أو كان حكمه غير مقبول، كان رد ذلك مطلقًا واجبًا، والمنع من قبوله مطلقًا متعينًا إن لم يعلم بجهة أخرى، كما قال في الخبر: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وقال في الاعتبار والقياس الصحيح {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد أمر بالتثبت في خبره، ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي، بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل، أمر بالعدل(1/434)
والقسط، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل، فالشبهة الفاسدة من هذا النمط، وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم، كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] .
فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقًا، حتى يوافقه إحساس آخر، لكان ذلك أيضًا مردودًا، وليبين ذلك كما بين نظيره، فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الإيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة، فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس، والقول في الدين بلا علم، أو قول غير الحق، نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن، ولا بين حس وعقل، فلم يكن أحد ليفرق بين ما جمع الله تعالى بينه، ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه، بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه، والله أعلم.
والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالمًا بموجبها لم يكن له أن يقول على الله، وليس له أن يقول عليه إلا الحق، وليس له أن يقفوَ ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره، فأما تخصيص الإحساس الباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه، فهو(1/435)
خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع، وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلًا حرم في حق الله تعالى وحق عباده، وإن كان حقًّا لم ينه عنه في شيء من ذلك.
يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية. بل وغيرها، فلو كان ذلك كله باطلًا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة، ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة: ما تخيلته فالله بخلافه، لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات.
الوجه الخامس عشر: قولك: «الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته» يقال له: ليس الأمر كذلك؛ بل هم يستدلون على منازعيهم في إثبات الصفات لله وما يتبع ذلك، بما هو جنس هذه الحجج وأضعف منها، سواء سميت ذلك من حكم العقل، أو من حكم الوهم والخيال، فإن الاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ لا سيما وقد جرت عادة هؤلاء المتكلمين، أنهم يسمون -بدعواهم- منازعيهم بالأسماء المذمومة ويسمون أنفسهم بالأسماء المحمودة، وإن كانوا(1/436)
مشتركين في جهة الحمد والذم، ويقول أحدهم: قال أهل الحق، وقال أهل التوحيد ونحو ذلك، حتى قد يدعون الإيمان أو ولاية الله تعالى لأنفسهم خاصة، كما يفعل ذلك الرافضة والمعتزلة وطوائف من غلاة الصوفية، وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب الذين قالوا: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقالوا: إن الدار الآخرة خالصة لهم عند الله يوم القيامة، والذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ويسمي أحدهم من أثبت لله صفة مشبهًا ومجسمًا، مع كونه قد أثبت نظيرها أو أبلغ منها، ويسمي النافي معطلًا، ويكون قد نفى نظير ما نفاه ذلك.
الوجه السادس عشر: أن يقال: أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب، هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلًا، بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات، وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد، افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة، كل قوم معهم من الباطل نصيب.
وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية -وهم من الدهرية- حيث أنكروا الصانع، وإن كان(1/437)
غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره، بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار، كما يحكي عنهم المتكلمون. وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية، وكذلك مناظرة بعضهم بعضًا في تقرير الإسلام عليهم، وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها. وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم، فإن كان كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى، وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين، من أن الله تعالى خلق السموات والأرض، وأن العالم له صانع خالق خلقه، ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم: إما واجب بنفسه، وإما معلول علة واجبة بنفسها.
فإن «الدهرية» لهم قولان في ذلك، ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون من الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقول: «الدهرية» وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع، وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم، وهذا كما قال طوائف من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني: قال في «مسائل التكفير» :
«وجملة الخلاف على ضربين: خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة -أعني نبوة محمد(1/438)
صلى الله عليه وسلم- وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة. فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب: خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم، وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلًا كالبراهمة، وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم» . فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولًا، وإنكار الصانع وقدم العالم قولًا، ولم يذكر قولًا ثالثًا بإثبات الصانع وقدم العالم، لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولًا قائمًا بنفسه.
وأما الرازي وأمثاله فيذكرون الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين -أرسطو وذويه- وقول غيرهم فقال في كتاب «نهاية العقول» : «المسألة الرابعة في تفصيل الكفار، قال: الكفار إما أن يكونوا معترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإما أن لا يعترفوا بذلك، وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة، وإما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم» وكذلك قول غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا: قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه: إن العالم على هيئة(1/439)
ما تراه عليه قد كان لم يزل، إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه، وإليه ذهب أرسطوطاليس ومن قال بقوله، وقال أهل التوحيد: بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان.
ولا ريب أن إنكار الصانع بالكلية قول «السمنية» الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية، وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة. وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها، ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة، وصاروا في هذه زنادقة منافقين، وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته، وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم، سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات، بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها، وسموا ذلك أجسامًا أو جواهر، وسموا صفاتها وأفعالها أعراضًا، وبنوا الحجة على مقدمتين:
إحداهما: أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة، من صفات وأفعال تعتقب عليها.(1/440)
والثانية: أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فاحتجوا في تقرير «المقدمة الأولى» إلى ثبوت الأعراض أو بعضها، وحدوثها أو حدوث بعضها، وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها. فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق، وتارة يقولون: إنه لازم لها من الحركة والسكون -وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم- وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان، ويقولون: إن الله تعالى لا يوصف بها، وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك، ويقول عن هذا الذي لا تخلو الجواهر منه، وهو مبني(1/441)
على الجوهر الفرد. وتارة يدعي بعضهم حدوث جميع الأعراض زعمًا منه أن العرض لا يبقى زمانين؛ ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض، أو عن ضد. ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره.
وأما المقدمة الثانية: فكانت في بادئ الرأي أظهر؛ ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة، فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه، وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر، وأحدهما حادث كان الآخر حادثًا.
لكن في اللفظ إجمال، فإن هذا القائل: ما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث: فهو حادث، أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك. له معنيان:
أحدهما: ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء. فلا ريب أن ما تقدم على ما له ابتداء فله ابتداء.
والثاني: أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث -بحيث لم يزل قائمًا به ما يكون فعلًا له، كالحركة التي تحدث شيئًا بعد شيء- فهذا لا يعلم أنه حادث، إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون(1/442)
قديمًا، بل يمنع حوادث لا أول لها، وهذه مقدمة مشكلة، بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه، فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها، فنشأ عن ذلك مذاهب أُخر؛ كنفي التناهي في المستقبل، حتى قال طوائف -منهم الجهم- بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولًا وآخرًا، فقال: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل، بوجوب فناء الحركات، إلى مقالات.(1/443)
وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة، بل يرون أن قولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث. وهؤلاء يقولون إن قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها. مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وأن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول. وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. وقولهم هذا يشبه قولهم: إن نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع، ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته، وبهذه الطريقة نفوا [أن] يقوم به فعل من الأفعال، فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى(1/444)
الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض، كما خصه بأنه على العرش، وهذا التخصيص المكاني والزماني، كتخصيص النزول وغيره، إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقًا، وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة، فلا يمنع حدوث الاستواء، كما كان كثير ممن ينفي ذلك، يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به، كما سيأتي مأخذ الناس في هذا.
وإنما الغرض هنا التنبيه على هذه الطريقة: فقال نفاة الصفات -من المعتزلة ونحوهم، والصفاتية المنكرون للأفعال؛ كالكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وغيرهم، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر بن فورك، وغيرهم قالوا-: الجسم محدث، والدلالة على حدوثه أنا وجدنا هذه الأجسام تتغير عليها الأحوال والصفات: فتكون تارة متحركة، وتارة ساكنة، وتارة حية، وتارة ميتة، وكذلك سائر الصفات التي تتجدد عليها، فلا يخلو الجسم من أن يكون انتقل من حال قدم إلى حال قدم، أو من حال حدث إلى حال حدث، أو من حال قدم إلى حال حدث، أو من حال حدث إلى حال قدم، فيستحيل أن يكون متنقلًا من حال قدم إلى حال قدم، لأنه لو كان كذلك استحال خروجه عن تلك الحال، لأن كل حكم(1/445)
حصل عليه الجسم فيما لم يزل وجب وجوده دائمًا، كوجوب وجوده، فلما لم يصح خروج القديم عن وجوده الأزلي، لأن وجوده ثابت فيما لم يزل، كذلك لا يصح خروجه عن كل حكم كان عليه فيما لم يزل، وفي العلم بأنه ينتقل من المكان الذي فيه ويخرجه عنه، دليل على أنه لم يكن في ذلك المكان فيما لم يزل، لأن كل مكان يشار إليه وكل حال يشار إليه يصح خروجه عنهما، وإذا جاز خروجه عنهما، ثبت أنه لم يكن حاصلًا في ذلك المكان، ولا على تلك الصفة فيما لم يزل، وإن كانت الحالة الأولى لم تكن حالة قدم، فالحالة التي تجددت بعد أن لم تكن، أولى وأحرى أن لا تكون حالة قدم، فثبت بذلك أن الجسم لم يكن موجودًا فيما لم يزل؛ إذ لو كان موجودًا فيما لم يزل، لكان لا بد أن يكون في مكان أو ما يقدر تقدير المكان، ولو كان كذلك لاستحال خروجه عن تلك المحاذاة لما ذكرناه، وإلا نودي إلى حدثه وصح بذلك ما قلناه.
فهذا نظم حجة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، وهي حجة مبنية على وجوب الكون للجسم، ووجوب حدوثه، وامتناع حوادث لا أول لها، وهذه حجة أكثرهم.
ومضمونها أن الجسم القديم لا بد له من مكان، فإن كان قديمًا امتنع خروجه عنه، وإن كان حادثًا لزم قيام الحادث به وتعاقب الحوادث عليه، وهي حجة الرازي وغيره في حدوث العالم.(1/446)
فصل
النصوص قد أخبرت والعقول قد دلت، على ثبوت صفات لله متنوعات له، من العلم والقدرة، والحب والبغض، والسمع والبصر، فإذا كان مع ذلك قد لزم القول بأفعال تقوم بذاته، كما تقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام، مع جماهير أهل الحديث والفقه والتصوف وسلف الأمة، وأن الأفعال متعلقة بمشيئته وقدرته، وقد علم ما دلت عليه النصوص مع أن [في] العقول تنبيهًا عليه، من قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فإنه إذا كان جملة السموات مقبوضة بيمينه، وقد قال ابن العباس: «ما السموات والسبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» وقد علم بالعقل أنه يجب أن يكون أعظم بكل وجه من مخلوقاته ومبتدعاته، إذ كل ما فيها من وجود وكمال، فهو من أثر قدرته ومشيئته فهو أعظم وأكبر، وإذا كان كذلك كانت أفعاله التي(1/447)
يفعلها بذاته تناسب ذاته، وكانت أعظم وأجل من أن يدرك عقول البشر قدرها، وإذا كان من المعلوم أن حدوث هذه المتكونات من استحالة العناصر والمولدات أعظم نسبة إلى الفلك من الخردلة إلى الإنسان العظيم -إذ في الإنسان من قدر الخردل أكثر مما في الفلك من قدر العناصر والمولدات- فنسبة الأفلاك وما فيها إلى الرب تعالى دون نسبة حوادثها المتكونة إلى الفلك، فإذا جاز أن تكون هذه محدثة بحركة مشهودة حادثة في الفلك، فحدوث الفلك وما فيه لفعل يفعله الرب أولى بالجواز؛ وأبعد عن الامتناع -وله المثل الأعلى- هذا مع أن هذه المحدثات إنما هي منسوبة عندهم إلى فيض العقل الفعال، مع إعداد حركات جميع الأفلاك للقوابل، وحينئذ فتكون نسبة المحدثات إلى ذلك نسبة كَثْرة، أعظم من نسبة الخردلة إلى الإنسان بكثير. ولهذا يظهر ذلك للعباد في المعاد، إذا قبض الجبار الأرض بيده وطوى السموات بيمينه ثم هزهن وقال: «أنا الملك أين ملوك الأرض؟» «أين الجبارون؟، أين المتكبرون؟» .(1/448)
وإنما يعظم على الجهال من المتفلسفة، وأمثالهم وأشباههم، تقدير حدوث العالم وتغيره، لأنهم لم يقدروا الله حق قدره، وكان ينبغي كلما شهدوه من عظم العالم وقدره يدلهم على قدر مبدعه؛ لكن لما ضل من ضل منهم لم يثبت لخالقه ومبدعه وجودًا مطلقًا لا ينطبق إلا على العدم، وإن أثبت له نوعًا من الخصائص الكلية، فهي أيضًا لا تمنع أنه إنما يطابق العدم، ولهذا كان هؤلاء من الدهرية المعطلة نظيرًا للصفاتية الذين لا يثبتون حقيقة الذات المباينة للعالم، فإن حقيقة قولهم يعود إلى قول معطلة الصفات أيضًا.
وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول: أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه، لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم -كما قد يقوله بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن، والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقًا- فإنه يقال لهذا الدهري إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها، فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها، فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها، فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان، ولا من مادة(1/449)
ولا عن خالق، لأن في إثبات الخالق، إثبات صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة، وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها، فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها، أو حدوثها بنفسها بلا فاعل، أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول، من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا من زمان؛ فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان، ومن مادة، وعن فاعل في الجملة، وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك، فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة، فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل، كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه، وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه، كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير، مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود، فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلًّا للصفات والأفعال ونحو ذلك، فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم: بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها، وإن قدر أن قائلًا يقول: إنها حدثت بأنفسها. فهذا أعظم إحالة. وهذا مما ينبغي التفطن له، فكل ما يقوله الدهرية من نفاة(1/450)
الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله، فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم: بأن العالم قديم واجب الوجود بنفسه، مستغن عن صانع، وقولهم: بأنه معلول عن علة موجبة. فتدبر هذا.
وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا مفعولاته؛ فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئًا ما يستحقه، لعدم نظيره في الشاهد، كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود: مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات، أو الذات بلا صفات، أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه؛ أو يثبت ذلك لازمًا لذاته، أو يقول: إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه، أو يقول حدث بنفسه. فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين، فلا خلاص عنها بحال، إذ الوجود مشهود محسوس، ولا يخلو إما أن يكون قديمًا واجبًا بنفسه، أو محدثًَا بإحداث غيره، وممكنًا ومفتقرًا إلى واجب بنفسه، وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب، وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها، يلزمه مع هذا هي، وما هو أعظم منها، علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة؛ إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية، وما استلزم نفي(1/451)
الوجود بالكلية علم أنه باطل.
وهذا المقصود هنا، وهو أن كل ما يحتج به في إثبات قدم العالم، بل وفي نفي الصفات، يلزم صاحبه أعظم مما فر منه، حتى يؤول به الأمر إلى أن ينكر الوجود بالكلية، أو يعترف ببطلان قوله، وببطلان كل ما يدل على قوله، وهذا موجود في عامة الدين، مما أمر الله به من اعتقاد أو قول أو قصد وعمل، ومن ترك شيئًا من ذلك إلى غيره خوفًا مما ترك، كان في الذي فر إليه أعظم من ذلك المخوف، وإن كان رغبة فيما فر إليه، كان ما فاته أعظم مما حصل له، بل يعاقبون بأعظم من ذلك، وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } [الفرقان: 33] فأخبر أن المشركين لا يأتون بقياس -وأقيستهم من الباطل- إلا أتى الله بما هو الحق، بكلام وقياس أحسن تفسيرًا، بحيث يكون بيانه ودلالته للمطلوب أبين وأوضح وأجلى، وأقرب إلى الأمور البديهية الجلية، فهذا في جانب الحق.
وأما في عقوبة المبطل، فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس، وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون، وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته، في السجود لآدم حذرًا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه السلام، فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب، وباع آخرته بدنيا غيره، كأخس القوادين، فإنه يهلك(1/452)
نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم، يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها، ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم، وهو قد خسر وهلك من غير فائدة، مع أنه ليس بين كونه تابعًا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة، وكونه تابعًا لربه فيما أراد به، من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة، كما في الحديث الذي رواه الترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الشيطان: وعزتك لأغوين بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم، فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني» .
وهكذا فرعون استكبر أن يعبد رب السموات والأرض، خوفًا من سقوط رياسته، ثم رضي لنفسه أن يعبد آلهة له قد صنعها هو، وهكذا تجد كل أهل المقالات الباطلة وأهل الأعمال الفاسدة، وإبليس إمام هؤلاء كلهم، فإنه اتبع قياسه الفاسد(1/453)
المخالف للنص، واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى.
فكل من اتبع الظن وما تهوى الأنفس، وترك اتباع الهدى ودين الحق، الذي بينه الله تعالى، وأمر به في كتبه، وعلى ألسن رسله، وفطر عليه عباده، وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة، فهو متبع لإبليس في هذا، له نصيب من قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) } [ص: 85] كما قال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نعت القرآن: «من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله(1/454)
الله» وقد قال تعالى لما أهبط آدم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } [طه: 123-124] فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده، فإنه لا يضل ولايشقى، كما قال: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } [البقرة: 1-5] فإن الهدى ضد الضلالة، والفلاح ضد الشقاء، وقد قال من قال من السلف: (المفلحون) الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من ما منه هربوا.
ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ(1/455)
الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 6-7] فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء. والضالون أهل الضلال. وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا، بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، وقال أيضًا: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) } [القمر: 47] و «السعر» من أعظم الشقاء. وهذا باب واسع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علمًا وعملًا، فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب.
وهذا الذي شهد الله تعالى به في كتابه -وكفى به شهيدًا- قد يرى العباد آيته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، فتتفق عليه الأدلة المسموعة والمشهودة -[التي] هي أصل العلوم الضرورية والنظرية القياسية التي ينتحلها أهل النظر وأهل الذوق- فتكون الأدلة الحسية والضرورية والقياسية موافقة للأدلة السمعية، من الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، والمخالفون لهذا مخالفون لهذا، وإن ادعوا في الأول من(1/456)
الأقيسة العقلية، وفي الثاني من التأويلات السمعية، ما إذا تأمله اللبيب، وجد مآلهم في تلك الأقيسة العقلية، إلى السفسطة، التي هي: جحود الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس، ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة؛ التي هي: تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد الشرع واللغة والعقل، بالتمويه والتلبيس وهذا أيضًا سفسطة في الشرعيات، وسمي قرمطة؛ لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة، المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة، والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين، لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة؛ التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق، وكان لا بد لهم من النفاق، كان تنبيه من نبَّه من الأئمة، كمالك وأحمد وأبي يوسف وغيرهم، على أن كلام هؤلاء جهل، وأن مآله إلى الزندقة: كقول أحمد: علماء الكلام زنادقة، وقول أبي يوسف ويروى عن مالك: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس،(1/457)
ومن طلب غريب الحديث كذب، وقول الشافعي: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
ولما كان الرد إلى ما جاءت به الرسل، يؤول بأصحابه إلى الهدى والصلاح، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
ثم قال هذا الفيلسوف: «وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع؛ فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الإنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين -أعني غير منقطع- وذلك أن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] يقتضي بظاهره أن وجودًا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] يقتضي أيضًا بظاهره أن وجودًا ثانيًا(1/458)
بعد هذا الوجود، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] يقتضي بظاهره أن السماء خلقت من شيء، والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع، بل يتأولون، فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه أيضًا أبدًا؛ فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه، والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء» .
قلت: لم يقل أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، إن هذه السموات والأرض خلقتا وحدثتا من غير أن يتقدمها مخلوق، وهذا وإن كان يظنه طائفة من أهل الكلام، أو يستدلون عليه فهذا قول باطل؛ فإن الله أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر فقال:(1/459)
«كان الله ولم يكن شيء غيره» وفي رواية في البخاري «ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض» وفي رواية: «ثم كتب في الذكر كل شيء؛ ثم خلق السموات والأرض» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وكان عرشه على الماء» وقد بسطنا هذا فيما سيأتي لما احتج المؤسس بحديث عمران هذا؛ وذكر المخلوقات التي أخبر بابتدائها القرآن وإعادتها وما يتعلق بذلك.(1/460)
وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها، أن السموات والأرض لم تخلقا من مادة، بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة، كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9-12] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } [البقرة: 29] .
وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام، الجهمية، ونحوهم في الابتداء، نظير ما يذكرونه في الانتهاء، من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات، أو ينكرون وجود النفس وأن لها نعيمًا وعذابًا، ويقولون: إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس، ويزعمون أن الروح عرض من أعراض البدن، ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض، وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها.(1/461)
لكن يقال لهؤلاء الفلاسفة: لا ريب أنكم أنتم وهؤلاء، كلاكما مخالفون لما نطقت به الكتب الإلهية، كما أنكم مخالفون لصرائح المعقولات، ومن وافق ظالمًا في ظلمه، كان جزاؤه أن يقال له: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] وأنت قد اعترفت أن الأخبار الإلهية ناطقة بأن صورة العالم -أي صورة السموات والأرض- محدثة.
وأما قولك: «إن ظاهر الشرع أن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين» فليس في القرآن ما يدل ظاهره على أن وجودًا غير وجود الله، أو زمانًا موجودًا خارجًا عنه، هو مقارن لوجوده، وما ذكرته إنما يدل على أن العرش، كان قبل السموات وهذا حق، لكن ليس فيه أن وجود العرش أزلي، وقد جاء ذكر خلقه في الأحاديث كحديث أبي رزين الآتي ذكره، مع ما في القرآن من أنه رب العرش، وأمثال ذلك، وكذلك ما فيه من ذكر زمان قبل هذا الزمن، المتعلق بحركة الفلك، لا يدل على أن ذلك قديم أزلي مقارن لوجود الله تعالى، وكذلك ما فيه من ذكر مادة لخلق السموات والأرض لا يقتضي أن تلك المادة قديمة أزلية، هذا مع ما في القرآن من أنه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] في غير موضع، و {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164](1/462)
ولفظ «الخلق» ينافي ما يذكرونه من لزوم العالم له، كلزوم الصفة للموصوف.
وحديث أبي رزين، رواه أحمد والترمذي وغيره، قال الترمذي في كتاب التفسير، في تفسير «سورة هود» لأجل تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ثنا أحمد بن منيع، قال ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رزين، قال، قلت يارسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه، قال: «كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء» قال أحمد بن منيع، قال يزيد بن هارون: «العماء» أي ليس معه شيء.(1/463)
فهذا الحديث فيه بيان أنه خلق العرش المخلوق قبل السموات والأرض، وأما قوله: «في عماء» فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، ورواه عنه أحمد بن منيع، وقرره الترمذي، في أن معناه: ليس معه شيء، فيكون فيه دلالة على أن الله تعالى كان وليس معه شيء، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم لو دل على وجود موجود على قول من يفسر (العماء) بالسحاب الرقيق لم يكن في ذلك دليل على قول الدهرية، بقدم ما ادعوا قدمه، ولا بأن مادة السموات والأرض ليستا مبتدعتين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضًا أنه يغير هذه المخلوقات في مثل قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] وقوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } [الأنبياء: 103-104] ومن المعلوم أنه لم يتعقب الإعادة عدمه، كما لم يتقدم ابتداء خلق السموات والأرض العدم المطلق، وفي قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) }(1/464)
[الانشقاق: 1-2] وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) } [الانفطار: 1] وقوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) } [الطور: 7-8] وقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) } [الطور: 9-10] وقال: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) } [الرحمن: 37] وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) } [المعارج: 8-9] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) } [الفرقان: 25-26] وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) } [الحاقة: 13-18] فأخبر في هذه الآيات، أن الخلق الذي ابتدأه وخلقه في ستة أيام يعيده ويقيم القيامة، وقد أخبر أنه خلقه من مادة وفي مدة، وأنه إذا أعاده لم يعدمه، بل يحيله إلى مادة أخرى، وفي مدة.
وأما «العرش» فلم يكن داخلًا فيما خلقه في الأيام الستة، ولا فيما يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن، سقفها عرش الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن» . وقال تعالى لما أخبر بالقيامة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ(1/465)
قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر، واللفظ لمسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن مسعود قال: «جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد -أو يا أبا القاسم- إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا(1/466)
الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، وتصديقًا له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } [الزمر: 67] وفي الصحيحين أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلًا لأهل الجنة، قال: فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة. قال: بلى، قال تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه فقال: ألا أخبرك بإدامهم. قال: بلى، قال: إدامهم بالام ونون، قالوا ما هذا: قال: ثور، ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا» وفي(1/467)
الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة، على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد» ، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط» .(1/468)
ثم إنه سبحانه وتعالى لما أخبر بقبضه الأرض، وطيه للسموات بيمينه، ذكر نفخ الصور، وصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، ثم ذكر النفخة الثانية، التي يقومون بها، وذكر أنه تشرق الأرض بنور ربها، وأنه يوضع الكتاب، ويجاء بالنبيين والشهداء، وأنه توفى كل نفس ما عملت، وذكر سوق الكفار إلى النار، وذكر سوق المؤمنين إلى الجنة، إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 74-75] ولم يكن العرش داخلًا فيما يقبض ويطوي ويبدل ويغير، كما قال في الآية: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) } [الحاقة: 14-17] .
ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءً مطلقًا، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك، بل إنما وقع التفصيل إلى قيام(1/469)
القيامة، واستقرار الفريقين في الجنة والنار، وذكر ما فيهما من الثواب والعقاب، وقد أجمل من ذلك ما لا نعلمه على التفصيل كقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فكان الذي أخبرنا به مفصلًا، ما لنا حاجة ومنفعة بمعرفته مفصلًا، وما سوى ذلك فوقع الخبر به مجملًا، إذ يمتنع أن نعلم كل ما كان وسيكون مفصلًا، وهذا كما أنه أمرنا أن نؤمن بالملائكة والأنبياء والكتب عمومًا، وقد فصل لنا من أخبار الأنبياء، وأمر كتبهم وقصصهم، وأمر الملائكة ما فصله، والثاني أجمله كما قال: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) } [الفرقان: 35-39] وأمثال هذا.
فلما وقع التفصيل في خلق السموات والأرض وما بينهما، وفي القيامة التي تستحيل فيها السموات والأرض وما بينهما، لم يكن العرش داخلًا في ذلك، بل أخبر ببقائه بعد تغير السموات(1/470)
والأرض، كما أخبر بكونه قبل السموات والأرض خبرًا مطلقًا، وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه، تمييزًا له من السموات والأرض، كقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) } [المؤمنون: 86-87] وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم» وقال عن أهل سبأ: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }(1/471)
[النمل: 25-26] وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } [البروج: 14-15] وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } [الإسراء: 42] وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر.
كما أن الروح خصه من بين الملائكة في مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } [المعارج: 4] وفي قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) } [النبأ: 38] وفي قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ} [القدر: 4-5] مع العلم أن ذلك جميعه مخلوق لله مملوك له، وأنه رب ذلك كله، وهم عباده.
وليس فيما سكت عن الإخبار بتفصيله، ما ينافي ما علم مجملًا، وما أخبر به مفصلًا، كما ذكر البخاري، عن سليمان التيمي، أنه قال: «لو قيل لي: أين الله؟ لقلت: في السماء، فلو قيل لي: أين كان قبل أن يخلق السماء؟ لقلت: على عرشه على الماء، فلو قيل لي: أين كان قبل ذلك؟ لقلت: لا أدري.(1/472)
قال البخاري: وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] يعني بما بين» .
فأما قول الدهرية: بأن السموات لم تزل على ما هي عليه، ولا تزال، فهذا تكذيب صريح وكفر بين بما في القرآن، وما اتفق عليه أهل الإيمان، وعلموه بالاضطرار أن الرسل أخبروا به. وكذلك قول الجهمية أو من يقول منهم: إن السموات والأرض خلقتا من غير مادة ولا في مدة وأنهما يفنيان أو يعدمان، أو أن الجنة تفنى أيضًا، كل ذلك مخالف لنصوص القرآن، ولهذا كفَّر السلف هؤلاء، وإن كان كُفْرُ الأولين أظهر وأبين، لكن لم تكن الدهرية تتظاهر بقوله في زمن السلف، كما تظاهرت الجهمية بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك عند احتجاج المؤسس على نفي العلو بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] كما احتج بها الجهمية قبله.
والطريق إلى معرفة ما جاء به الرسول أن تعرف ألفاظه الصحيحة، وما فسرها به الذين تلقوا عنه اللفظ والمعنى، ولغتهم التي كانوا يتخاطبون بها، وما حدث من العبارات وتغير من الاصطلاحات.(1/473)
ولفظ «العالم» ليس في القرآن، ولا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، وإنما الموجود لفظ (العالمين) وفيه العموم، كقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [الفاتحة: 2] وقد يقال: فيه خصوص، كقوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) } [الجاثية: 16] وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) } [آل عمران: 42] وقوله تعالى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) } [الأعراف: 80] عند من يجعل ذلك المراد به الآدميون أو أهل عصرهم.
وكذلك لفظ «الخلق» هو معرف باللام، ففيه عموم، وقد ينصرف إلى المعهود، الذي هو أخص من جملة المخلوقات كقوله في حديث خلق آدم: «فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن» وفي الحديث المتقدم ذلك، وكذلك قوله في حديث الخلق: «وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» .(1/474)
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمقصود هنا التنبيه على فساد حجج الدهرية، المعطلة للصانع تعالى، وتناقضها، ومشاركة الجهمية لهم في بعض أصولهم الفاسدة، مع حجج الدهرية المثبتة له أيضًا.
وقد تقدم ما ذكره أبو المعالي من أن شبه الدهرية لحصرها أربعة أقسام:
أحدها: تعرضهم للقدح في الدليل الذي ذكره أبو المعالي، دليل المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمين الذي استدلوا به على حدوث الأجسام -دليل الأعراض- ونحن قد ذكرنا في غير هذا الموضع كلام أئمة المسلمين في هذه الطريقة: تحريمًا، وكراهة وإبطالًا.
قال: «والقسم الثاني يتعلق بالتعرض لنفي الصانع، ولهم في ذلك طريقان:
أحدهما: أن إثبات قائم بنفسه يتقدس عن الجهات المحاذيات غير معقول.
والثاني: يتعلق بالتعديل والتجويز، والحكم بأن الحكيم(1/475)
لا يفعل الفعل إلا لغرض، والغرض ما له الضر والنفع، وذلك يستحيل على القديم» .
قلت: هاتان أيضًا كلامهم فيهما مع المعتزلة في الأصل، فإنهم جهمية أثبتوه بالصفات السلبية، وهم أيضًا قدرية، ثم انتقلت هذه الحجة إلى المرجئة، فجاوبوهم في المقدمة الثانية ببعض جواب المعتزلة، وأجابوهم في الصفات بجواب يقال: إنه متناقض.
قال أبو المعالي: «والقسم الثالث يشتمل على الاستشهادات بالشاهد على الغائب من غير رعاية وجه في الجمع بينهما» .
قال: «والقسم الرابع من كلامهم يشتمل على ضروب من التمويهات» .
قلت: قد نبهنا على القسم الثالث، والمقصود هنا القسم الثاني، فإنه الذي ذكروا فيه نفي الصانع، وهو أعظم كلامهم؛ والحجة العظمى التي عول عليها ابن الراوندي المصنف «كتاب التاج في قدم العالم» ومحمد بن زكريا المتطبب، فيما صنفه(1/476)
في ذلك حيث قال بالقدماء الخمسة، والاحتجاج بها على قدم العالم: تارة مع الإقرار بالعلة الموجبة، وتارة مع عدم ذلك.
فأما الأول فقالوا: لو كان العالم محدثًا لكان محدثه فاعلًا مختارًا، وهو محال لوجهين:
أحدهما: أن ذلك الاختيار إما أن يكون لغرض أو لا يكون، فإن كان لغرض فهو باطل لأمرين:
أحدهما: أنه يجب أن يكون وجود ذلك الغرض أولى به من عدمه، وإلا لم يكن غرضًا، وإذا كان وجوده أولى به، كان مستكملًا بخلق العالم وهو محال.
فإن قيل: هو فعله لا لغرض يعود إليه، بل لغرض يعود إلى غيره، وهو الإحسان إلى الغير، وهذا يدفع المحذور.
قيل: الإحسان إلى الغير، إما أن يكون بالنسبة إلى ذاته أولى من تركه، وإما أن لا يكون، فإن كان مساويًا لم يكن غرضًا، وإن لم يكن مساويًا عاد المحذور.
الثاني: أن من فعل لغرض غيره، كان الفاعل دون(1/477)
المفعول، كالخادم والمخدوم، ومن الممتنع أن يكون غير الله أشرف منه، فيمتنع أن يفعل لغرض غيره.
وإن قيل: إنه فعل العالم لا لغرض، كان عابثًا، والعبث على الحكيم محال؛ ولأنه يكون ترجيحًا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح، وهو محال.
الوجه الثاني: أنه لو فعل بالاختيار فإما أن يجوز منه فعل القبيح أو لا يجوز. وإن شئت قلت: فإما أن يجوز عليه فعل كل شيء، وإما أن يكون متنزهًا عن بعض الأفعال. فإن قيل: إنه يجوز أن يصدر منه فعل القبيح، لم يؤمن من تصديق المتنبئين الكذابين بالمعجزات، ولم يؤمن أيضًا الخبر المخالف لمخبره، فإن الكذب وتصديق الكاذب قبيح، وتجويز ذلك يبطل النبوات وأخبار المعاد، وهذا تبطل بهما الملل.
وإن قيل: أنه لا يفعل القبيح، وهذا قبيح.
الثاني: أن العالم مملوء طافح بالشرور والآفات، وأنواع الألم والعقوبات، والقول بالغرض باطل، وإذا بطل القسمان بطل القول بالفاعل المختار.
وأما الاحتجاج بها على نفي الصانع مطلقًا فأن يقال: إن(1/478)
كان موجبًا بذاته لزم قدم المفعولات، وهو خلاف المحسوس؛ لأن الموجب لفعل المحدث الذي هو علة تامة، إن كان موجودًا في الأزل لزم قدم المحدثات، وإن لم يكن موجودًا فصدوره بعد أن لم يكن يحتاج إلى سبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره من الحوادث، فيمتنع حدوث محدث عن موجب بذاته، وإن كان فاعلًا باختياره عادت الحجة المتقدمة.
وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؟ وهي «مسألة القدر» ظهر بها ما كان السلف يقولونه: إن الكلام في القدر هو «أبو جاد الزندقة» ، وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم: «بهذا هلكت الأمم قبلكم، أن تضربوا(1/479)
كتاب الله بعضه ببعض» ، وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية، -مجوس هذه الأمة- حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهم فروع تلك الحجة.
ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم، ينجون من هذه الشبهات، وكان الذي وقعوا فيه شرًّا مما وقعت فيه المجوس والقدرية، ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم، ومن معهم من الفلاسفة شرًّا من المجوس، ومن معهم من القدرية والمعتزلة وغيرهم.(1/480)
والمقصود بيان هذا، يقال لهم: لا ريب في هذا الوجود المشهود، المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب، فإن نفس الوجود يستلزم موجودًا قديمًا، واجبًا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبًا قديمًا أو يكون محدثًا أو ممكنًا. والمحدث لا بد له من محدث، والممكن لا بد له من واجب. وهذا مما لا ينازع فيه أحد من بني آدم؛ وإنما الدهرية تقول: هذا العالم قديم واجب بنفسه، أو يقولون: هو معلول علة قديمة واجبة بنفسها. فيقال لهؤلاء: إن قلتم إن هذا العالم واجب الوجود بنفسه قديم، لزمكم هذه المحالات وأضعافها، فإنه يقال لكم: لأي سبب تحرك الفلك الأعلى وغيره من الأفلاك، ولم حصلت هذه الاستحالات؟ فإن هذه أمور حادثة بعد أن لم تكن، وهي ممكنة قطعًا، فالمحدث لها سواء كان الفلك أو غيره، الذي قد قدر أنه قديم واجب الوجود بنفسه، إن أحدثها لغرض، لزم أن يكون مستكملًا بها، والتقدير أنه قديم واجب الوجود بنفسه، فقد لزمكم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه مستكملًا بغيره، وهذا هو المحال الذي فررتم منه، فقد وقعتم فيه، مع ما في ذلك من المحالات اللازمة على هذا التقدير، مثل امتناع كون الفلك الأعلى، هو المحدث لجميع الحركات وغير ذلك، حتى لو قدر في كل فلك متحرك، أنه قديم واجب الوجود(1/481)
بنفسه، كان هذا السؤال قائمًا فيه، وفي حركاته الحادثة بعد أن لم تكن. وكذلك إن قالوا: تحرك لأجل العناية بالسافلات، لزم أن يكون الأعلى خادمًا للأدنى، وأن تكون هذه الغاية أعلى من الفاعل، الذي هو أشرف منها، وهو متناقض.
وإن فرض أن قائلًا يقول، أو يخطر له: إن الفلك ليس بقديم واجب بنفسه، ولا معلول علة قديمة، بل يقول: حدث بنفسه، بعد أن لم يكن، وهذا لا نعلم به قائلًا، وقد ذكر أرباب المقالات، أنهم لم يعلموا به قائلًا، لكن هو مما يخطر بالقلب ويوسوس به الشيطان.
فيقال: هذا الوجود المشهود، إما أن يكون موجودًا بنفسه، وإما أن لا يكون. وإذا كان موجودًا بنفسه، فإما أن يكون قديمًا(1/482)
-وهو القسم الذي تقدم بيان تناقض أصحابه- وإما أن يكون محدثًا بنفسه، فيقال: هذا القول أظهر فسادًا وتناقضًا؛ فإنه من المعلوم بالفطرة البديهية، أن المحدث قبل أن لم يكن، لا يتصور أن يحدث عن غير محدث، ولا أن يحدث نفسه. فلا يكون الشيء صانعًا لنفسه، لا مصنوعًا لنفسه، ولا يكون أيضًا علة غائية لنفسه، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] قالوا: من غير خالق لهم، قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع. وقد تكلمنا عن هذه الآية في غير هذا الموضع، بين سبحانه باستفهام الإنكار الذي يتضمن أن الأمر المنكر من العلوم المستقرة، الملازمة للمخاطب، التي ينكر على من جحدها؛ لأنه سفسط بجحد العلوم البديهية الفطرية(1/483)
الضرورية؛ فإنه من المعلوم أن ما حدث لا يكون من غير محدث أحدثه، ولا يكون هو حدث بنفسه، فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } [الطور: 35] وهذا يستلزم الجمع بين النقيضين وغيره من المحالات.
وإن كانت إحالته في العقل، من أظهر العلوم الضروريات؛ فإن كونه فاعلًا لنفسه، يقتضي أن يكون وجوده قبلها، وكونها مفعولة، يقتضي أن يكون وجوده بعد نفسه، فيجب أن تكون نفسه موجودة معدومة في آن واحد.
والمقصود هنا تباين تناقض حججهم، وأن الذي يقولونه فيه من المحذور أعظم مما فروا منه.
فيقال: إذا قدر أنه حدث بنفسه، بلا محدث، بل عن العدم المحض، فمعلوم أن هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة، من أبعد الأشياء، عن الأمور الموجودة المحسوسة وعن القياس العقلي، فمن جوز أن يكون هذا الوجود صدر عن عدم محض، فصدوره عن علة موجبة لا تستلزم وجود المعلول، أقرب إلى العقل وأبعد عن المحذور، وهو الذي فروا منه، لأن أكثر ما في هذا، أنه تكون العلة التامة قد تخلف عنها معلولها، أو وجد المعلول عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن صدوره لا عن شيء، أعظم امتناعًا وفسادًا من صدوره عن علة ليست تامة، ومن المعلوم أن العلة التامة بلا معلول، أقل فسادًا وامتناعًا، من وجود المحدث لا من علة أصلًا؛ فإن المعلول إما(1/484)
محدث، وإما قديم، ومعلوم بالعقل أن حاجة المعلول المحدث إلى العلة، أظهر من حاجة المعلول القديم، ووجود المعلول بلا علة، أبعد في العقل من وجود العلة بلا معلول، فإذا جوزتم صدور المحدث بلا علة ولا محدث، كان تجويز وجود العلة التامة، مع تأخير معلولها أقرب في العقل وأبعد عن المحال.
وكذلك أيضًا إذا جوزتم صدوره عن العدم، فصدوره عن فاعل مستكمل بفعله، أو فاعل بفعل لا لغرض، أقرب في العقل وأبعد عن المحال مما جوزتموه؛ فإن هذا غايته أن يكون أحدثه فاعل ناقص أو عابث، وبكل حال فهذا أقل امتناعًا من أن يكون حدث لا عن شيء.
وبالجملة فافتقار المحدَث إلى المحدِث، من أبدَه العلوم وأوضح المعارف، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء، وأي قول قيل، كان أقرب إلى العقل وأبعد عن المحال من هذا، فإذا قرر هذا القول، ظهر أن المحال الذي فيه، أعظم من المحال الذي يلزم غيره، ولهذا لم نكثر تقرير هذا القول، وإنما تكلمنا على ما قال به قائلون -وهم الدهرية القائلون بقدم العالم، إما واجبًا بنفسه، وإما واجبًا بعلته- فهؤلاء إذا ظهر تناقض قولهم، كان تناقض ذلك القول أظهر. وقد ذكرنا بعض تناقضهم.
ويقال لهم أيضًا: هذه الكمالات الحاصلة للفلك، بإحداث ما يحدثه من الحركات، إن كانت مقدورة له في الأزل فلم أخرها؟ وإن كانت غير مقدورة له، فقد أثبتموه عاجزًا عن غير(1/485)
ما فعل من الإحداث! فإذا أقررتم بخلق الفلك، لم يلزمكم في إثباته أكثر من هذا -وهو أن يكون مستكملًا بما يحدثه من الأفعال، وأن يكون وجود تلك الأفعال في الأزل ممكنًا- وغاية ما يلتزمونه من قيام أفعال حادثة بذاته، أو من كونه جسمًا، أو غير ذلك: فإن هذا كله لازم لكم، إذا قلتم بأن الفلك قديم واجب الوجود. فإذا كان كل محذور يلزمكم على تقدير إثبات الصانع، يلزمكم أيضًا على تقدير نفي الصانع، كان القول بنفيه باطلًا قطعًا، وكانت هذه الحجة فاسدة؛ وهذا هو المقصود هنا.
وأما بيان أن هذه الحوادث الموجودة في العالم، يمتنع أن يكون الفلك مستقلًّا بها، فذاك له مقام آخر، إذ الغرض هنا بيان تناقضهم، مع أن ذلك ظاهر بين، والعقلاء المعروفون، متفقون على أن الحوادث التي تحدث، لا يستقل بها الفلك، ويمتنع أن يكون في المخلوقات ما يستقل بإحداث محدث منفصل عنه، فهذا له مقام آخر، وهو دليل مستقل عظيم القدر على ثبوت الصانع تعالى.
وهكذا الإلزام على «التقدير الثاني» وهو أن يقال: هذه الحركات لغير غرض. فيقال: يلزمكم بموجب كلامكم؛ أن يكون الموجود القديم الواجب الوجود، يفعل أفعالًا دائمة مستمرة لغير غرض، وقد قلتم: إنه عبث والعبث على الحكيم(1/486)
محال، فمهما كان جوابكم عن ذلك، في هذا أمكن أن تجيبوا أنفسكم به، إذا كان القديم الواجب الوجود هو صانع الفلك، مع كون المحذور حينئذ أقل عندكم، فلو عدلتم عن القول الأخف إلى القول الأقبح -ولله المثل الأعلى- فنزهتموه إذا كان موجودًا قديمًا صانعًا، عن أن يستكمل بفعله، أو يكون عابثًا فيه، فجعلتموه معدومًا؟! وأي موجود فرض، كان خيرًا من المعدوم، فعدلتم عن أن تصفوه بنوع نقص، فوصفتموه بما يجمع كل نقص، ثم وصفتم غيره بصفات الكمال، التي هي وجوب الوجود والقدم، مع وصفكم له بتلك النقائص فاجتماع هذه النقائص مع هذه الكمالات لازم لكم، ولم تستفيدوا إلا كمال التعطيل والجحود بلا حجة أصلًا.
وقد ظهر فساد حجتهم وتناقضهم فيها من وجوه:
أحدها: أن الذي نفوه به، يلزمهم مثله، فيما أثبتوه من موجود قديم واجب، وهو الفلك المشهود.
الثاني: أنهم قصدوا تنزيهه عن تجدد كمال له بفعله، أو عن عبث، فجعلوه أعظم نقصًا من المستكمل العابث، ومن المعلوم أنه إذا قدر فاعل يستكمل بفعله، كان خيرًا من المعدوم، فإن الفلك أو غير الفلك إذا قدر ذلك فيه لم يشك عاقل أنه خير من المعدوم، فكان نفيهم له، الذي فروا إليه شرًّا من نفي بعض الأمور، التي ظنوها كمالًا. فتدبر هذا أيضًا. وكذلك إذا قدر موجود كامل، يفعل فعلًا لغير غرض له، وقيل: إنه عابث، فهو أكمل من العدم، الذي ليس بشيء أصلًا، فإن الفاعل لغير(1/487)
غرض، بمنزلة الساكن الذي لا يفعل، وهذا يقال فيه: إنه جامد، ويقال: في ذلك إنه عابث، والجامد والعابث خير من العدم المحض، لا سيما إذا كان متصفًا بسائر صفات الكمال.
الثالث: ما تركب من هذين الوجهين، وهو أنهم مع التزام المحالات التي زعموا أنهم فروا منها، ومع التزام ما هو شر مما فروا منه، لم يستفيدوا بذلك إلا جحود الصانع -تعالى وتقدس رب العالمين- الذي هو أصل كل باطل، وكفر وكذب وتناقض وشر في الوجود، كما أن الإيمان به أصل كل حق وهدى، وصدق واستقامة وخير في الوجود.
وهكذا يقال لهم في فعل القبائح، وعدم فعلها من وجوه:
أحدها: أن هذا لازم لكم، فيما تصفونه بأنه واجب لذاته قديم، وهذا لا بد منه على كل تقدير، ولا مندوحة عنه.
الثاني: أن يقال تجويز تصديق الكاذب أو الكذب، أكثر ما يقال فيه إنه يستلزم بطلان الرسالة، والخبر عن الثواب والعقاب، وهذا المحذور أخف بكثير من محذور نفي الصانع. فهل يسوغ في العقل، أن نجحد الصانع وخلقه للعالم، لأن ثبوت ذلك يستلزم بطلان النبوة والوعد والوعيد؟! فإنه يقال لذلك: وأنت إذا نفيته بطلت النبوة والوعد والوعيد أيضًا، وبطل أضعاف هذا من أمور الديانات فبتقدير أن يكون هذا لازمًا على التقديرين، لا يجوز أن يحتج به على نفي أحدهما، مع كثرة المحاذير على هذا التقدير؛ بل غاية ما يقال: إذا قدر أنه لازم فليس بمحذور، ومعلوم أن الإقرار بالصانع تعالى، مع الكفر بالرسل والمعاد،(1/488)
أقل كفرًا من جحود الصانع، كما أن الإقرار بالصانع مستكملًا أو عابثًا، أقل كفرًا من جحوده، فالتزام زيادة الحجة والتعطيل بلا حجة، من أبطل الباطل.
وهكذا ما احتجوا به على جحود فعل القبيح -كتكليف المحال، ووجود الشرور- فإنه يقال فيه هذان الوجهان:
أحدهما: لزوم ذلك أيضًا، مع ما يصفونه بالقدم، ووجوب الوجود.
الثاني: أن ذلك إنما يستلزم نقصًا، وذلك أهون من العدم. فإذا كانت الحجة إنما تستلزم في الوجود، لم يجز أن يلتزم عدمه بلا حجة؛ بل كان إثبات الوجود الناقص لا بد منه على كل تقدير.
ومَثَلُ من احتج على بطلان الخالق، بأن ذلك يستلزم بطلان النبوة والمعاد، مثل من بلغه أن الله تعالى بعث رسولًا، وأن قومًا كذبوه فتأذى بذلك، فجاء إليه فقتله، وقال إنما قتلته لئلا يتأذى بالتكذيب، وهؤلاء أعدموا الخالق، لئلا تكذبه رسله على زعمهم.
وكذلك مثل من أراد أن ينصر ملكًا له مملكة عظيمة، ولكن(1/489)
بعض رعيته عصوه، فعمد إلى ذلك الملك فقتله، أو عزله عن الملك بالكلية، وقال إنما فعلت ذلك إجلالًا لقدره، لئلا يعصيه بعض رعيته.
ويحكى عن بعض الحمقى؛ أنه رأى ذبابًا وقع على وجه مخدومه؛ فأخذ المداس فضرب به وجه مخدومه، ليطير عنه الذباب.
ومثل من كان له ميراث من أبيه، غصب بعض الناس شيئًا منه، فقصد بعض الحكام أو بعض الشهود [دفع] الشر عن ذلك الوارث، ودفع تضرره بالغصب، فأثبت أنه ليس ابنه، وأنه لا يستحق شيئًا من الميراث، وقال: إنه بهذا الطريق امتنع أن يكون مغصوبًا، وزال تضرره بالغصب.
أو رجل كان له عقار عظيم، من مساكن وبساتين وغيرها، وله منافع عظيمة وحقوق كثيرة، قد غصبه بعض الناس بعضها، وهو متألم لذلك، فقام قوم من الحكام والشهود والأعوان، ليزيلوا عنه، فسعوا في أخذ ذلك العقار منه بالكلية، وإخراجه من ملكه ويده بلا فائدة حصلت له أصلًا، وقالوا هذا العقار إذا كان له، فلا بد أن يؤخذ منه هذا الجزء اليسير فيتألم،(1/490)
فأعدموه إياه كله بلا فائدة حصلت له.
ومثل من قال: أنا لا أصلي لأني إذا صليت أقصر في ذكر الله، وعبادته وطاعته، التي ينبغي أن أفعلها في الصلاة، فأنا أترك الصلاة بالكلية، خوفًا من ترك بعض واجباتها.
وكذلك من قال: لا أزكي أصلًا، لأني إذا زكيت، فقد يأخذ زكاة بعض مالي من لا يستحقها، فيحرم المستحقين لها، فأنا أحرم المستحقين جميع الزكاة، لئلا يحرموا بعضها بالمزاحمة.
ومثل من ارتكب الفواحش المحرمة، وترك النكاح الحلال، قال: لأني إذا نكحت المرأة فقد أطؤها وهي حائض أو في الدبر، فاستحل الفواحش من التلوط وغيره حذرًا من هذا الذنب.
أو من أخذ يسرق أموال الناس، خوفًا من تجارة أو صناعة، يكون ظلمه فيه أقل من ظلم السرقة.
أو من أقام ببلاد الحرب معاونًا لهم على قتال المسلمين، خوفًا من أن يهاجر إلى بلاد المسلمين، فيقصر بجهاد أهل الحرب. والأمثال في هذا كثيرة جدًا.
ومن العجب أن المتكلمين المناظرين لهؤلاء، وأمثالهم من أهل الكفر، إذا أوردوا سؤلًا من جنس هذا السؤال، أن(1/491)
يدخلوا معهم في جوابه وحَلِّهِ، وقد لا يكون المجيب متمكنًا من ذلك علمًا وبيانًا، ولا ينقطع بذلك الخصم، ولا يهتدي لنقص قوى إدراكه أو سوء قصده، أو لاحتياج تحقيق ذلك إلى مقدمات متعددة وزمان طويل، وتقرير لتلك المقدمات بجواب ما ترد بها من ممانعة ومعارضة. فيتركوا أن يبدؤوهم من أول الأمر ببيان فساد هذه الحجة، وبيان تناقضهم، وأن قائلها يلزمه إذا قال بها أعظم مما أنكره، فإذا تبين له فسادها وللمتكلمين معه: حصل دفع هذا الشر وبطلان هذا القول وهذه الحجة، وهو المقصود في هذا المقام، ثم بيان الحق وتكميله مقام آخر.
ومثالُ ذلك مثالُ من قدم العدو بلاده، فأخذ يبني ويغرس، ويعمر ما ينتفع به لنفسه، ويدفع به عدوه، قبل دفع العدو عن بلاده، فجعل كلما عمر شيئًا خربه العدو، وهو غير متمكن من العمارة الثانية، فإذا كان قادرًا من أول الأمر على دفع العدو كان ذلك أولى، وإن حصل له في ذلك نوع مشقة، فهي أخف من كل مشقة يلتزمها مع بقاء العدو ببلاده. والحجج الباطلة هي عَدُوُّ الحق، فهي عدو في قلب الناظر بنفسه لطلب الحق، وقلبه كبلاده، وهي أيضًا عدو له مع المناظر الذي يناظره، وسواء كان معاونًا أو مغالبًا؛ ولهذا ناظر إبراهيم الخليل بمثل هذه المناظرة المتضمنة قياس الأولى، وإلزام الخصم على قوله، أعظم مما ألزمه هو على قول خصمه، كما قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ(1/492)
سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82] قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83] قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم. فالعلم بحسن المحاجة مما يرفع الله تعالى به الدرجات، وكذلك قال تعالى فيما أمر أن يخاطب به أهل الكتاب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) } [المائدة 59-60] .(1/493)
فصل
«يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع جميع الموجودات. وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين، موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة. وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الآية؛ فإنا نرى أجسامًا جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعًا، أن هاهنا موجدًا للحياة ومنعمًا بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر، أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور، مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترَع فله مخترِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلًا مخترعًا له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.(1/494)
ولذلك كان واجبًا على من أراد أن يعرف الله حق معرفته، أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وكذلك أيضًا من تتبع معنى الحكمة في موجود موجود؛ أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به، كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز، هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى [وذلك أن الآيات في الكتاب العزيز في هذا المعنى] إذا تصفحت وجدت على(1/495)
ثلاثة أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.
وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعًا.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) } [النبأ: 6-7]-إلى قوله- {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) } [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) } [الفرقان 61] *إلى قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } [الفرقان 62] * ومثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) } [عبس: 24] الآية. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) } [الطارق: 5-6] ومثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ومن هذا قوله تعالى حكاية(1/496)
عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضًا، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } [البقرة: 22] فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22] تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) } [آل عمران: 191] وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى، يوجد فيها النوعان من الدلالة.
فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله(1/497)
تعالى الناس منها إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر، الإشارة بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف: 172] إلى قوله تعالى: {بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده، طاعة الله في الإيمان به، وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } [آل عمران: 18] ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه، هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص -وأعني(1/498)
بالخواص العلماء-[وطريقة الجمهور] وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع، على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء، فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها، أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعًا موجودًا، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى(1/499)
المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة، فيها ولا شك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا، الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته» .
قلت: ذكره لهذين النوعين كلام صحيح حسن في الجملة، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها، مثل ما ذكره في دلالة حركة الفلك، وتفسير الآية، وتسبيح المخلوقات، واستدلال إبراهيم. ودليل الإحداث والاختراع يدل على ربوبية الله تعالى، ودليل الحكمة والعناية والرحمة يدل على رحمته، وقد افتتح الله كتابه العزيز بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة: 2-3] وهذا أجود من طريق المتكلمين، طريقة الأعراض، وإن كان لم يستقص الكلام في دلالة ثبوت الصانع تعالى، ولم يفصل إحداث الجواهر وغير ذلك.(1/500)
مع أن طرق معرفة الصانع بالفطرة والضرورة وبالنظر والاستدلال، بنفس الذوات وبصفاتها، باب واسع ليس هذا موضعه وثير [مـ]ـمن يرغب عن طريقة الأعراض، يذكر ما في خلق الإنسان، أو في خلق ما يشهد حدوثه من هذين النوعين، من الحدوث الدال على المحدث، والحكمة الدالة على قصد الصانع، ورحمته ونعمته بما يدل عليه.
وقد ذكرنا ما ذكره الخطابي من كراهة طريقة الأعراض، وأنها بدعة محظورة، وقد قال في أوائل كتابه «شعار الدين» : «القول فيما يجب من معرفة الله سبحانه وتعالى: أول ما يجب على من يلزمه الخطاب، أن يعلم أن للعالم بأسره صانعًا، وأنه هو الله الواحد لا شريك له، وقد جرى كثير من عوام المسلمين في هذا على عادة النشوء وحكم الولادة، فكان إيمانهم إيمان تلقين وتربية، وذلك أنهم يولدون في دار الإسلام، ويتربون في حجور المسلمين، وينشأون في بلادهم، فيتلقنون كلمة التوحيد من الآباء والأمهات، ويسمعون الأذان من المؤذنين، ويتلقون(1/501)
القرآن من الأئمة في الصلوات، ومن المعلمين في المكاتب، فيستحكم حكم الدين في قلوبهم، ويعتقدون حسنه وصحته تقليدًا، فينتفعون به ويقتصرون عليه. ودين الإسلام إذ كان موثوقًا بصحته، مشهودًا له بالفضل على كل دين سواه، فقد يجب على كل متدين به، أن يكون مصدر اعتقاده إياه عن نظر واستدلال، ليكون العلم به أصح، والوثيقة به أشد، وقد نصب الله تعالى الأدلة وأزاح بها العلة، ووسع من وجوهها، وكثر من عددها، فهي عل اختلاف مراتبها في الوضوح والغموض، معروضة للاستدلال بها، والاستشهاد بمواضعها، فلا أحد يعقل من آحاد الناس، إلا وله في جليها مستدل، وفي واضحها مستشهد، وإن كان نزل فهمه عن دقيقها ولطيفها، فالواجب على كل من الناس أن يبذل وسعه فيه، ويبلغ جهده في دركه، فإن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } [العنكبوت: 69] .
فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى، على أن للخلق صانعًا ومدبرًا، أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة؛ ثم عظامًا، ولحمًا، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوًا من الأعضاء، ولا يمكنه أن(1/502)
يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز؛ وقد يرى نفسه شابًّا، ثم كهلًا ثم شيخًا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه؛ وأن له صانعًا صنعه، وناقلًا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.
فإن قيل: إن النطفة قديمة، وفيها قوة قابلة للاغتذاء، فإذا وقعت في الرحم، والطبائع معتدلة، قبلت بالقوة التي فيها الاغتذاء والتربية، حتى تستوي جارحة، ويتم بها خلقه.
قيل: لو كانت النطفة قديمة، كما زعمتم لم يجز عليها الانقلاب والتغير؛ لأن التغير والانقلاب من سمات الحدث، فبطل أن يكون المنقلب المتصرف قديمًا.
فأما ما ادعوه من قبول النطفة، بما فيها من القوة والاغتذاء والتربية، فإن ذلك لا ينكر، إذا صح العلم به من طريق العادات، ولكن الذي ننكره من ذلك، أن يكون هذا الفعل(1/503)
للنطفة بذاتها، من غير مدبر دبرها لذلك، ولو كان هذا جائزًا من غير مدبر حكيم، عالم قدير، يعلم كيف يدبر النطفة، ويقلبها أطوارًا ويسوي منها السمع لما يصلح له، ويضعه في موضعه، والبصر في مكانه، الذي يليق به في البدن، وكذلك تعليق اليدين العاملتين في موضعهما، والرجلين الحاملتين في أخص المواضع بهما، ووضع كل شيء من القلب والكبد والطحال، وسائر الأجسام في الموضع الذي هو أملك به، وأشكل لما أعد له من الفعل، واليدين. لجاز أن يرتفع الماء من [البئر] إليه، ويختلط بالطين، ويقع الطين في قالب اللبن، وينطبع به، ثم يرصف إلى موضع البناء، فيرتفع بعضه على بعض فينتضد حتى يكون بناءً رفيعًا محكمًا مشيدًا، من غير بان ولا رافع ساقًا على ساق؛ بل ينطبع الماء والتراب بنفسهما لا بشيء سواهما، فإن لم يكن هذا جائزًا، لأنه ليس من طبع الماء والتراب أن يكون منهما ما وصفت، فكذلك غير جائز تركيب الإنسان، وتصويره وتخطيطه على ما عليه الإنسان، من حسن الصورة، وعجيب التركيب، بنفس النطفة وطبعها. ويجاز على هذا بطبع الخشب، وجود سفينة اجتمعت أجزاؤها واعتدلت،(1/504)
وتماسكت وداخل بعضها بعضًا، وقربت من الساحل معها دقلها وآلاتها، يعبر من يريد العبور من السواحل، ثم تعود بنفسها إلى مركزها ومرساها كذلك. ويجاز بطبع الماء والنار والتربة، أن يوجد حمام في أسفله نار وفي بيوته ماء على غاية الاعتدال في الحرارة والرطوبة، من غير بان بناه ومسخن سخنه، ومدبر دبره. فإن لم يجز شيء مما ذكرناه، فليكن مثل ذلك ما ادعوه من النطفة واجتماع خلق الإنسان منها، من غير مدبر حكيم دبره وأحكمه.
فهذا الدليل يتضمن أن المحدثَ لا بد له من محدث، وأن ما فيه من الحكمة لا بد له من قاصد حكيم» .
ثم ذكر دليلين في العالم:
أحدهما: حدوث ما يحدث لاختلاف الحركات الطبيعية الدالة على أنه بإرادة، -كما قد نبهنا أن الإرادة هي أصل جميع الحركات-.
الثاني: ما في العالم من الحكمة فقال: «دليل ثان: أنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التباين والتنافر والتفاسد، مجموعة(1/505)
في بدن الإنسان، وأبدان سائر الحيوان، وهي الحرارة والبرودة، فعلمنا أن جامعًا جمعها وقهرها على اجتماع وأقامها بلطفه، ولولا ذلك لتنافرت وتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع يجمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما ومقيم يقيمهما، وهذا محال لا يتوهم، فتعين أنما كان اجتماعهما بجامع قهرهما على الاجتماع والالتئام.
دليل ثالث: أنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك واعتبرتها بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت المخول ما فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق، بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعًا حكيمًا، تام القدرة بالغ الحكمة، وقد نبه كتاب الله عز وجل على هذا النوع من الاستدلال، فقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21] إشارة إلى أثارة الصنعة الموجودة في الإنسان، من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي بهما، وعين مبصرة، وأذن يسمع، ولسان يتكلم به، وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء، ومعدة(1/506)
أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يسلك إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ منها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثقل الغذاء، ويبرز عن أسفل البدن.
وقال عز وجل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] الآية، هذا من قريب ما يستدركه العاقل من وجوه الأدلة، من غير كثير استقصاء في فعل ومعاناة بدقيق فكر؛ وذلك أنه خطاب للعرب؛ ومن سنة العربي أن يركب راحلته فيسير عليها فيما قرب من الأرض باغيًا حاجته، وفيما بعد عنها ظاعنًا في السفر في الحال يكثر في بلادهم، فإذا خلا بالمكان لم ير إلا سماءً فوقه وأرضًا تحته، وجبلًا عن يمينه وجبلًا عن شماله، ومطية هو راكبها. فإذا تأمل هذه الأشياء استبان فيها أثر الصنعة ولطف الحكمة -مما جمع الله له من المرافق فيها- أن صانعها لطيف خبير، عالم قدير، حكيم عليم. وقد قيل: إن الإبل خصت بالذكر من بين سائر الحيوان، وذلك أن الأنعام ضروبها أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال كلها.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ(1/507)
السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } [البقرة: 164] فذكر خلق السموات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وسيرها في أفلاكها الذي يختلف الليل والنهار به، ويتبين زيادتهما ونقصانهما ودخول أحدهما على الآخر، وأخذ بعضها من بعض، فيكون بها انقسام فصول السنة، وتعاقب الحر والبرد، الذين بأحدهما: لقاح الشجر، وبالآخر: نضج الثمار، وذكر الله (الأرض) التي هي مسكن الحيوان والدواب، وفيها قرار البحار، التي تجمع المياه التي تحمل السفن والفلك، وذكر (الريح) التي تنشئ السحاب، وتجريها إلى حيث أذن لها أن تمطر، فيحيي بها البلاد والزرع والأنعام، وبها يجري الفلك والسفن في البحار، فتصلح بهذه الأمور معايش الناس وتكثر بها منافعهم، وباجتماع هذه الأمور ومعاونة بعضها بعضًا يتم صلاح أمر العالم وينتظم، وفي ذلك دليل على أن صانع العالم قادر حكيم عالم خبير. ووقع ذكر هذه الأمور عقب قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } [البقرة: 163] ليدل بها على صدق الخبر، عما قد يدلنا به من وحدانيته سبحانه. وذكر رحمته ورأفته بخلقه، وطرق الاستدلال كثيرة، لكنا أخبرنا منها في الكتاب ما هو أقرب إلى الأفهام» وذكر تمام الكلام الذي كتبناه في موضعه.(1/508)
واستدلال الناس من جميع الطوائف، بما يشهدونه في العالم من الحكمة والنعمة، والبرهنة على حكمة الرب ورحمته، وإرادته النعمة والإحسان، إلى عباده وعنايته كثيرة جدًا.
وإنما المقصود هنا: أن الفلاسفة يصرحون بذلك، وهم من أكثر الناس نظرًا في حكم الموجودات، وقد اعترفوا بما تقدم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلًا مختارًا تناقض منهم.
وأيضًا فلو لم يتناقضوا لكانت هذه الدلالة مع دلالة الاختصاص، كلاهما يدل على الإرادة، والاختصاص يدل على إرادة في نفس المفعول، وهذا يدل على الإرادة للمفعول ولحكمته. فهذه ثلاث طرق.
وقد اعتذر ابن سينا ونحوه من المتفلسفة عن هذا فقال في «الإشارات» بعد أن ذكر حججه على نفي الفعل بالقصد والاختيار: ( «إشارة» لا تجد إن طلبت مخلصًا إلا أن تقول: إن تمثل النظام الكلي في العلم السابق، مع وقته الواجب اللائق، يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه وتفاصيله معقولًا فيضانه، وهذا(1/509)
هو العناية، وهذه جملة تهتدي سبيل تفاصيلها) .
وهذا الكلام أبعد ممن يقول بتخصيص العالم بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، إنما كان لأن العلم القديم تعلق به على ذلك الوجه، كما قال ذلك طوائف من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، كما سيأتي بيانه. مثل أن هؤلاء جعلوا العلم مخصصًا لما أريد، وهؤلاء المتفلسفة جعلوا العلم مخصصًا لما لم يرد عندهم. والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: لا نسلم أن هذا مخلصًا، ولا أنه واقع ولا ممكن، كيف نعلم أنه لا مخلص غيره، وهم لم يذكروا حجة على ذلك، ولا يمكنهم أن يقيموا عليه حجة أصلًا.
الوجه الثاني: أن يقال: العلم أبدًا تابع للمعلوم مطابق له، ثم قد يكون سببًا في وجود المعلوم، كالعلم بما يفعله العالم، مثلما ذكره من علم الرب تعالى بالنظام الكلي، وقد لا يكون سببًا، كالعلم بالأمور التي لا تكون بفعل الإنسان ولا بقصده، ثم من الناس -من المتفلسفة ونحوهم- من يجعل العلم مطلقًا صفة فعلية، أو يجعله هو وحده الموجب للمعلوم، وهو غلط كما سنبينه. ومنهم -من المتكلمين وغيرهم- من يجعله أبدًا صفة(1/510)
انفعالية مطابقة للمعلوم، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، ويقول فيه وفي القول: ليس لمتعلقهما منها صفة ثبوتية، وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب من القول الأول ففيه تقصير؛ بل الصواب أنه يجتمع في جنسه الأمران، إذ الأولون يسلمون أنه عالم بنفسه، وهذا ليس مؤثرًا في المعلوم، والآخرون يقولون: الإرادة مشروطة بالعلم، وهذا اعتراف بتوقف المفعول عليه؛ لكن المقصود الكلام في العلم الذي له تأثير في المعلوم وهو العلم العملي، فنقول:
من الأمور المعلومة بالفطرة البديهية الضرورية، أن الإنسان إذا عمل عملًا بإرادته، يجد من نفسه أنه يكون شاعرًا بما يريد أن يفعله، وأنه مع الشعور لا بد أن يكون مريدًا، ولا بد مع هذين أن يكون قادرًا عليه، ويجد من نفسه أن إحساسه وشعوره يقتضي إرادة الفعل ومحبته، وأن له شعورًا بما يفعله لأجله، وشعورًا بالحب والإرادة التي في نفسه لذلك المطلوب، وشعورًا بالفعل الذي يتوصل به إليه. فهذه أربع حقائق: مراد مطلوب بالفعل؛ وإرادة في النفس له، وفعل موصل إليه، وإرادة لذلك الفعل، كالطعام مثلًا، والشعور يتعلق بهذه الأربعة، فإنه إذا أخبر بالطعام وهو جائع أحس من نفسه بشهوته ومحبته، فأراد أكله، ومقصوده بذلك وجود لذة الأكل ودفع ألم الجوع؛ وهو يفرق بين نفس الأعيان واللذة بها وبين إرادة ذلك، ثم يريد الأكل الموصل إلى المطلوب، ويفعل هذا الفعل. وهكذا في شهوة النكاح، وهكذا في جميع الأفعال من العبادات وغيرها، والعلم سابق للإرادة(1/511)
والعمل في ذلك كله. فإنه مثلًا يعرف الله تعالى وثوابه وعقابه، فيصير في قلبه محبة له أو لثوابه الملائم له. فالله تعالى هو مقصوده ومعبوده، وهو يريد التنعم بما يحصل له من النعيم، المتعلق بذاته تعالى، كالنظر إليه أو من مخلوقاته، مثل موجودات الجنة، فكلاهما مقصود له، وقصد هذا مستلزم هذا، كتلازم قصد الأعيان المطعومة، وقصد لذة الأكل، ثم يريد الأعمال الموصلة إلى ذلك ويعملها. ومن المعلوم أن نفس العلم بالمعقولات لا يغني عن إرادة ذلك والقدرة عليه، فمن ادعى أن مجرد العلم هو كاف في حصول المعلومات، كان مكابرًا مباهتًا؛ فإنه في المشاهد منتف قطعًا، وأما في الغائب فغايته أن يعلمه بنوع شيء: قياس الشمول، أو التمثيل.(1/512)
فصل
ذكر ابن سينا فقال: ( «تنبيه» أتعلم ما الملك؟ الملك الحق، هو الغني الحق مطلقًا، ولا يستغني عنه شيء في شيء، وله ذات كل شيء؛ لأنه منه أو ما منه ذاته، فكل شيء غيره فهو مملوك، وليس له إلى شيء فقر) .
قال الرازي: «الغرض منه ذكر ماهية الملك، ويعتبر فيها أمران: أحدهما: سلبي: وهو أن يكون غنيًّا مطلقًا عن كل ما عداه. وثانيهما إضافي: وهو أن يفتقر إليه كل ما عداه بواسطة أو بغير واسطة» .
قلت: هذه الجملة متفق عليها في الجملة بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل المشركون من العرب وغيرهم يقرون بها، كما قال تعالى وتقدس: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ(1/513)
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) } [المؤمنون: 84-89] والأكثرون يقرؤون الأخرتين {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} كما اتفقوا على أن جواب الأول: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وهو جواب مطابق لمعنى اللفظ، لأن معنى قوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} و {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي لمن ذلك؟ فكان الجواب بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} هذا بيان لأن المشركين يقرون بأن ملكوت كل شيء لله، وذلك مبالغة في الملك؛ فإن الملكوت أبلغ من لفظ الملك، وما ذكروه من ذلك يتضمن غناه عن كل شيء، وفقر كل شيء إليه، فهو حق؛ لكنه يتضمن أكمل من ذلك، من العلم والقدرة والتدبير على وفق المشيئة والإرادة وغير ذلك، من المعاني التي تبين أن هؤلاء الفلاسفة لا يجعلونه ملكًا حقًّا، وكيف يكون ملكًا عندهم من لا يقدر على إحداث شيء، ولا دفع شيء، ولا له تصرف بنفسه، ولا في غيره بوجه من الوجوه؛ بل هو بمنزلة المقيد بحبل معلق به من لا يقدر على دفعه عن نفسه. وما يثبتونه من غناه وافتقار ما سواه إليه يتناقضون فيها؛ فإنهم يصفونه بما يمتنع معه أن يكون غنيًّا، وأن يكون إليه شيء ما فقير؛ لكن ليس المقصود هنا كشف أسرار أقاويلهم كلهم،(1/514)
وإنما المقصود التنبيه على فساد حججهم، التي خالفوا بها أهل الملل في هذا ونحوه، وأنهم يتكلمون بجهل بسيط أو مركب.
فيقال: إن كان المقصود أن الله يستحق أن يسمى ملكًا حقًّا، لثبوت هذا المعنى فلا ريب أنه قد سمى نفسه ملكًا حقًّا، ولا ريب أن هذه المعاني داخلة في ضمن هذا الاسم، وأكثر منها في صفات الكمال الثبوتية، وتنزيهه عن النقائص، لكن في هذا ما يدل على أنه ليس له إرادة وقصد؛ إلا أن يحتج على ذلك بأن لفظ الغني ينفي ذلك، أو أن ذلك يقتضي فقرًا إلى الغير، وقد تقدم الكلام على ذلك، وتبين أن ذلك مع أنه لا فقر فيه إلى غيره، فالذي يذكرونه يستلزم من المحاذير أعظم مما فروا منه من وجوه؛ بل سلب ذلك هو الذي يقتضي أن يكون فقيرًا؛ بل معدومًا؛ بل ممتنعًا لذاته، كما هو مقرر في موضعه.(1/515)
فصل
ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة: «تنبيه: أتعرف ما الجود؟ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض، فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد، ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد، وليس العوض كله عينًا، بل وغيره، حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة، والتوصل إلى أن يكون على الأحسن، أو على ما ينبغي، فمن جاد ليشرُفَ أو ليُحْمَد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد. فالجواد الحق هو الذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه، وطلب قصدي لشيء يعود إليه. واعلم أن الذي يفعل شيئًا، لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه، فهو بما يفيده من فعله متخلص» .
وقال أبو عبد الله الرازي في تفسير ذلك: «الغرض منه بيان(1/516)
ماهية الجود، وحده: أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض. وهذا فيه قيود ثلاثة:
أحدها: الإفادة؛ فإن من لا يفيد شيئًا لا يكون جوادًا.
وثانيها: أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته، فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد» .
قال «واعلم أن لفظة «ينبغي» لفظة مجملة؛ فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال: العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي؛ لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين. وقد يراد بها الإذن الشرعي، كما يقال: النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي. أي النكاح مأذون فيه شرعًا، والسفاح ممنوع منه شرعًا. وهذا التفسير أيضًا لا يليق بالحكماء، وليس لهذه اللفظة معنى مخلص سوى هذين(1/517)
المعنيين. فظهر الإجمال من هذه اللفظة.
وثالثها: أن لا تكون الإفادة لعوض؛ فإن من يهب ليستعيض معامل، سواء كان العوض عينًا أو ثناءً أو مدحًا أو تخلصًا عن الذم، أو أن يكون فاعلًا للأليق والأحسن، ثم إنه لما مهد هذه القاعدة قال: فالجواد الحق» إلى آخره. ومعناه ظاهر.
قال: «ولقائل أن يقول: القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرًا في الجود لوجب أن يقال: الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان، ومات ذلك العدو، أن تكون تلك الحجارة جوادًا مطلقًا، لأنه حصل منها ما ينفي الغرض، فإن التزم كزن الحجر جوادًا(1/518)
مطلقًا، وقال هذا هو الحق وإن كان شنيعًا في المشهور. فنقول له: الذي عولت عليه أيضًا ليس حجة برهانية؛ بل كلامًا إقناعيًا خطابيًا؛ فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن يكون فاعلًا للأولى، كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف، لأنه يقال إن عنيت بقولك: إنه يخلص نفسه من الذم؛ لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقًّا للذم، مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم، فلم قلت: إن ذلك محال؟! وهل هذا إلا إلزام للشيء على نفسه؟! وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه. فصح أن الحجة التي ذكروها *لا تصير على السبك* والنظر الحق لكنها(1/519)
حجة إقناعية، وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها» .
قلت: هذه الحجة من جنس التي قبلها في اسم الغني وأفسد منها، وذلك يظهر بوجوه:
أحدها: أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن الحق مسمى بأنه جواد.
والثانية: أن تفسير الجواد هو ما ذكرته، ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلًا لا بينة ولا شبهة، فكان ما ذكرته مجرد دعوى، لبست بها على الناس كما لبست بقولك: إنه غني، وأن الغني هو من يكون كذا. ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة؛ لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره، قد ثبت أنه واجب الوجود، فلا يكون مفتقرًا إلى غيره، وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها، فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها، بل كان هذا دعوى مجردة؛ إذ لا يمكنه أن يقول: واجب الوجود يجب أن يكون جوادًا كما قال: يجب أن يكون غنيًّا.(1/520)
الثاني: أن يقال: لا ريب أن الله عند أهل الملل، كريم، جواد، ماجد محسن، عظيم المن، قديم المعروف، وأن له الأسماء الحسنى، التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه، لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك، فليست حجة عقلية، بل جدلية، وهذا ليس بفلسفة.
الثالث: أن يقال: هم سموه بهذه الأسماء الحسنى، سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به، بالذي لا ينافي إرادته ورحمته؛ بل عندهم نفس الرحمة، التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة، أو إرادة الإحسان إلى عباده، هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم؛ لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان، وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية، حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله. وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون: الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان، وهذا قد يقوله بعض أصحاب أحمد، والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم، أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس نفس العلم.(1/521)
والمقصود أنك إذا احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم، فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه، لم يكن لك حجة، لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت من إرادته وغير ذلك، وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه، فهذه حجة فاسدة جدًّا، لأنهم أطلقوا الاسم بمعان، فادعيت أنت أنهم كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أُخَر، وهذا من جنس أن يقال: كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا، وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذا، أو نحو ذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ. وحاصله أنه اعتراض على اللغة، بأنه كان يجب أن يعني بألفاظها من المعاني أمورًا أُخَر، ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة؛ فضلًا أن يكونه حجة في المعاني العقلية الإلهية.
الرابع: هب أنه سلم لك؛ أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها، لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها، لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى، وإن قصروا في العبارة؛ فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة لا علمية ولا جدلية، بل بمجرد الدعوى. وهذا بين(1/522)
واضح ولله تعالى الحمد.
الخامس: أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي، مثل أن يثبت بالنص أنه جواد، لم يصح أن يفسره بهذا المعنى، لهذين الوجهين:
أحدهما: أن الأدلة التي يذكرها، ليست سمعية شرعية، وهو يعترف بذلك، فلا يقبل منه أن يذكر دليلًا سمعيًا، ويدعي أنه عقلي، مع أنه هذا الاسم ليس في القرآن، وإن جاء في بعض الأحاديث.
الثاني: أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها، إلى من نقل عنه القرآن والحديث، لفظه ومعناه، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض، حتى يصل إليه، أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك، ولو ادعوا نقلًا عن المرسلين للفظ ولمعناه، من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين، لم يكن ذلك مقبولًا باتفاق العقلاء، ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة، على نفي إرادة الله تعالى، والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته، ورحمته(1/523)
وحكمته، ولو قدر أنه يتناول ذلك، كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد، أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل؛ بل هو أبعد من ذلك، فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك؟! وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات، ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول بسبيل؛ بل هي مع كونها سمعية لفظية، فهي دعوى مجردة؛ بل كاذبة، كما سنبينه.
الوجه السادس: أن يقال له: هذا الحد الذي ذكرته في «الجود» حين قلت: «إن من جاد ليشرف وليحمد، وليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد» . فهذا التفسير عمن نقلته؟! ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص، أو من أهل اللغة العربية، بل من سائر لغات الأمم، وإن كان ذلك لا ينفعه، إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب؛ ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية، واللغة العربية، فصار ذلك افتراء على النصوص واللغة.(1/524)
الوجه السابع: أن يقال: اسم الجواد يقال: على كثير من المخلوقين، مع انتفاء هذه المعاني عنهم، فلو كان هذا المعنى داخلًا في هذا الاسم، لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازًا أو بطريق الاشتراك، وكلاهما مع كونه خلاف الأصل، إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردًا. فكيف وأصل الاستعمال منتف؟.
الوجه الثامن: أن يقال: معروف في الشرع واللغة والعقل، أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلًا عابث، وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل، وكلاهما مذموم في الشرع والعقل؛ بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه، وهو من أسوأ المبذرين حالًا؛ فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة، وإن كان فيها ما هو مقصود له، فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلًا، فهذا إن كان موجودًا فهو مذموم. واسم «الجود» في الشرع واللغة والعقل اسم مدح، فيستحيل أن يفسرها بما لا يكون عند الناس إلا مذمومًا.
بل يقال في الوجه التاسع: هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلًا، فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلًا، حتى الحركات الطبيعية، لحركتها منتهى ومستقر، هو منتهى ميلها، ويسمى ميلها إرادة، وقد جعلوه هم عشقًا لذلك الكمال. وإذا كان هذا المسمى معدومًا، والاسم معروفًا في الشرع واللغة لأعيان موجودة. امتنع أن يكون مسماه ما ذكره.(1/525)
بل يقال في الوجه العاشر: إن ما ذكره ممتنع لذاته، *فإنـ[ـه] بتقديرنا يفعل لعلة غائية لا لمقصود غائي، كتقدير ما يحدث لا عن علة فاعلة وكل منهما ممتنع لذاته* ولهذا هم يسلمون أن ليس في الموجودات ما هو كذلك، إلا ما يذكرونه في واجب الوجود، وهم متناقضون في ذلك: فيصرحون تارة بأنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه، وتارة يقولون: ليس له إرادة ولا قصد. وإذا كانوا متناقضين في ذلك، تبين أن أحدًا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها «جوادًا» .
الوجه الحادي عشر: أن يقال: الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض. هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل؛ بل الظاهر منه(1/526)
للناس هو الحق الذي لم يرده؛ فإنه يقال لك: العوض المعروف في الشرع، واللغة والعرف والعقل، هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر، في مقابلة ما بذله الآخر له، كثمن المبيع، وأجرة الأجير، وثواب الهدية، ومكافأة النعمة ونحو ذلك، فلا ريب أن من أعطى غيره عطية، ليعطيه ذلك الغير عوضها، فهذا مستعيض وليس بجواد؛ ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات، والتبرعات بنحو هذا الفرق؛ ولهذا قال المخلصون: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) } [الإنسان: 9] فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاءًا ولا شكورًا، ولم يقولوا: لا نريد ذلك من أحد، لا من الله ولا من غيره؛ فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة، ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المُحْسَنِ إليه لا دعاءً ولا ثناءً ولا غير ذلك، فإنه إرادة جزاء منه؛ فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة؛ كما جاء في الحديث: «من أسدى إليكم(1/527)
معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه» وقال الشاعر:
ارفع صغيرك لا يحربك ضعفه ... يومًا فتدركه العواقب قد نمى
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلته فقد جزى
وأيضًا كانوا إذا كافأهم المُعْطَى بدعاء وغيره. قابلوه بمثل(1/528)
ذلك، ليبقى أجرهم على الله تعالى، ولا يكونوا قد اعتاضوا منه، كما كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسل: اسمع ما يدعون به لنا، حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا، ويبقى أجرنا على الله تعالى.
فهذا ونحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف، فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم، ممن يقصد به الثناء عليه، ولو بعد موته فذاك دون هذا.
وأيضًا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان، ويتلذذ بذلك لا لغرض آخر، بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير، كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد، وإن لم يصل إليه نفع غير لذته بالإحسان، كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان، وإن لم يحصل لها بذلك جلب منفعة ولا دفع مضرة. فهذا أيضًا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود، فإما أن يكون في الوجود من يفعل لا لمعنى فيه ولا لمعنى في غيره، فهذا لا حقيقة له أصلًا، وقد علم [أن] أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون: الجود إفادة ما ينبغي(1/529)
لا لعوض أصلًا. إنما يريدون به عوضًا يكون في مقابلة العطية، إما من المعطي أو ممن يقوم مقامه، كمن يبذل لغيره مالًا ليعتق عبده، أو يخلع امرأته أو يفك أسيره.
وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود، يشترط فيه أمران:
أحدهما: أن يقصده المعطي، والثاني: أن يقصده من المعطى أو ممن يقوم مقامه. فأما من طلب العوض من الله تعالى، أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان، فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء؛ بل لو طلب الثناء من العباد ونحوهم، لم يمتنع أن يسميه الناس جوادًا، كما سموا حاتمًا وغيره من أهل الجاهلية بالجود، وإن كانوا قد يقصدون السمعة والثناء في الخلق.
الوجه الثاني عشر: قوله: «ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد» . وهذا فيه من الإجمال ما تقدم؛ فإن معنى العوض، الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين، أخص من العوض الذي ادعاه، فقوله: «وليس العوض كله عينًا، بل وغيره حتى الثناء(1/530)
والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي» فيقال له: لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناؤه عليه، والتخلص من ذم الله تعالى له لا يكون جوادًا؛ بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله المؤمنين، وسائر أهل السموات وأهل الأرضين. وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى، وأحسن له عنده، وأعلى لدرجته، أو ليكون عند الله على ما ينبغي، فلا نسلم أن هذا ليس بجواد. وكذلك أهل كل لغة، سواء كانوا مسلمين أو كفارًا؛ من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى، ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى، لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء، فهو جواد عندهم. فقوله: «من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد» ليس بمسلم، ولا دليل عليه.
بل يقال في الوجه الثالث عشر: هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم، وهذا هو المجود، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ(1/531)
أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] *وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وقال {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 110] * وقال: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} [آل عمران: 115] وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } [الزلزلة: 7-8] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا *وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا* (40) } [النساء: 40] وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] وقال: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261] وقال: {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) } [الروم: 39] ويروى عن علي أو غيره أنه قال: ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد؛ إنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي. وعمل ذلك إلى لأجل الله تعالى نهاية المطلوب كما قال كل من(1/532)
الرسل: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) } [الشعراء: 109] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } [الليل: 17-21] .
الوجه الرابع عشر: أن هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى، التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين، وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخرى، كالكريم، والأكرم، والوهاب، وما يستلزم هذا المعنى [كـ] الرحمن والرحيم، والرب وغير ذلك، لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث الإلهي، حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، وقد رواه مسلم لكن هذا الاسم جاء في رواية الترمذي(1/533)
وابن ماجه فيه: «يقول الله تعالى: يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط، إذا غمس في البحر غمسة واحدة، وذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام؛ إنما أمري إذا أردت شيئًا، أن أقول له كن فيكون» وروى هناد بن(1/534)
السري، عن أبي معاوية، عن حجاج، عن سليمان بن سحيم، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال(1/535)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جواد يُحبُّ الجود» وقال أهل العلم: الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء، يقال منه: جاد الرجل يجود جودًا فهو جواد. قال أبو عمرو بن العلاء:(1/536)
الجواد الكريم، تقول العرب فرس جواد. إذا كان غزير الجري، ومَطر جواد، إذا كان غزيرًا، قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم
وجاء في الحديث في وصفه المطر الذي استسقاه الرسول صلى الله عليه وسلم: «فما جاء أحد من جميع النواحي إلا أخبر بجود» وفي حديث أبي هريرة، الذي في صحيح مسلم، في الثلاثة الذين(1/537)
يقضي الله عليهم يوم القيامة أولًا «ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت؛ ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار» فهذا الحديث الصحيح يدل على أن قولهم جواد، مثل قولهم كريم، كما قال أبو عمرو فقد ثبت بالنص، وقول أهل اللغة، أن المخلوق يسمى جوادًا، وإن كان إنما يفعل لمصلحة له، وإنما يفعل بإرادته.
الوجه الخامس عشر: أن تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادًا، وإن كان قد قيل، هو بمعنى كونه كريمًا، فالاسم «الكريم» يتناول معاني منها الجود؛ فإن فيه معنى الشرف والسؤدد، ومعنى الحلم، وفيه معنى الإحسان.
ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام، ومن يضاهيهم في هذا الأصل، وجدهم عامتهم مضطربين فيه، كل منهم وإن(1/538)
أثبت نوعًا من الحق واعتصم به، فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض، وأكثر عقول الناس تبخس دون تأمل هذا؛ إذ أحدهم يرى نفسه، إما أن يقول حقًّا، ويقول ما ينقضه، أو يقول حقًّا ويكذب بحق آخر، وتناقض القولين باطل، والتكذيب بالحق باطل، والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته، كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينيه في نور الشمس؛ بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس. وقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } [الحج: 46] .
والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية، وفساد حجتهم.
فصل
المشهور بين أهل السنة والجماعة أن لا يقال في صفاته «كيف» ولا في أفعاله «لِمَ» ... إلخ.(1/539)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الثاني
العلو - الاستواء - الحد - الجسم - الحيز - الجهة
حققه
د. رشيد حسن محمد علي(2/1)
فصل المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لايقال في صفات الله عز وجل كيف ولا في أفعاله لِمَ وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم(2/3)
ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكنْ كثير من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون(2/4)
له ماهية وحقيقة وراء ماعلموه وكذلك إذا قلنا لايقال في(2/5)
أفعاله لِمَ فإنما نفينا السؤال بـ لِمَ وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لِمَ وهي المقرونة في قول المجيب لكذا وهي التي تُنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرًا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها بنفس الحكمة المقصودة ونفس قصدها وطلبها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا مايقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد هن الحرب جبنًا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن ذم اللئيم تكرما(2/6)
فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن قصد صون النفس عن التأذي بشتمه لكن قوله لايقال في أفعاله لم لاينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولاكونه مريدًا لها قاصدًا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علمًا لم يعلمه العباد وإن القَدَر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن سر القَدَر وأنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر(2/7)
أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعًا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن كنه إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير نفي صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها(2/8)
يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما يتوهمه النفاة المكذبين من المتفلسفة والمتكلمة من أن ثبوت الصفات يستلزم حدوثًا وحاجة وأن ثبوت الأفعال أو حكمها المقصودة يستلزم حدوثًا وحاجة هو من جنس واحد وكل(2/9)
منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتًا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال له وكان مايلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحدوث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم مايهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم ثم قالوا في جواب ماذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أخس من ذلك الغرض قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا(2/10)
ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا ههنا وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم(2/11)
ببديهة العقول أن الشيء الذي لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة وطريقًا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعنى بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تنبني عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لايقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه وأما ماذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما(2/12)
يقصد أولا ماكان مصلحة له ونفعًا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف به وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل إذا كان الحيوان محتاجًا متألمًا وهو لايزيل ألمه أو فيحصل له الراحة والعافية من هذا الألم أو يحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون له أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد مايناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم وأشرف من فعله وربه الذي يعبده ويبتغي وجهه أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية(2/13)
وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول(2/14)
الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضًا قالوا في سبب الحوادث خيرًا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعًا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يستحسن طلب المحامد ممن عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} [القصص 70] قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في(2/15)
المنافع هل هي فاضلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ [القصص 70] وقال وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {10} [يونس 10] وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر مايحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضًا عن جملة ماخلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببًا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبده غرضًا من كلية هذا التدبير قالوا وفي تكليف من عمل أنه لايطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبته بل(2/16)
أجرى تكليفه ذلك إلى غرض صحيح ولا يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين مايعود إلى حسن حال يخصه وماينتفع به في عاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمرًا هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إياه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربًا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسنًا إذْ أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضًا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه قلت وليس المقصود هنا بيان مايجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال(2/17)
ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين كما أن ذلك أيضًا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه(2/18)
وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم والموافقة للإنسان وغيره ومايوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم(2/19)
الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل(2/20)
القوم الإلهيون وقد تقدم ماذكر من اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولاريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لابد له من محدث والممكن لابد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لابد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لابد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان إحداهما أن هنا حكمًا ومنافع مطلوبة والثانية أنه لابد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفصيل ذلك مايعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها(2/21)
كالأسباب وأيضًا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب بنفسه فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لابد من مقصود لنفسه على التقديرين كما ثبت أنه لابد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد القاصد الفاعل لأجل هذه المقصودات لغيرها ولنفسها وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة(2/22)
الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الغرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكمال بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرًا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحًا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله(2/23)
ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما ثبت كذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت(2/24)
الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان يقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواءً وأما في مسألة السبب الحادث إذا ثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كل ما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضًا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لابد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ماكانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة(2/25)
عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم وأيضًا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزامًا لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع مابنيتموه على لإنكار ذلك وجميع مايخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن الصانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلاريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون كـ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ(2/26)
أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {107} لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109} لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {110} [التوبة 107-110] ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذْ كان من شروط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدًا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرًا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة(2/27)
بإرادة قديمة فبدعة وشيء لايعلمه العلماء ولايقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدوم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطعمه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وأن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن هذا الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض التي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لايمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال(2/28)
وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين(2/29)
إحداهما أن العالم بجميع مافيه جائز أن يكون على مقابل ماهو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد التي هي عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطبية في بادئ الرأي وهي إما في(2/30)
بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودًا على خلقةٍ غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفًا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون مايعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيهًا بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه إن سبق إلى ظنه أن ذلك في تلك المصنوعات أو كلها يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم(2/31)
يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العليم فهذه المقدمة من جهة أنها خطبية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئًا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلاً ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تأتي بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى(2/32)
بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك الوجه الثالث أن يقال له ماذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قستم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ماخلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرًا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف مايؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الأشياء سببًا كما جعل الأكل مثلاً سببًا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لانعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرًا إلى شيء من ذلك فإنه إذا قيل البصر لايمكن إلا بالعين والسمع لايمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير(2/33)
هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ماهو دونها وإما مايشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمة الحاصلة فهذا لايحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقوامهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لايصدق بمثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع أن العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل في هذا لكان يفوت التعيين وذلك لايبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الأقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ماببعض البلاد(2/34)
إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان مايوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لايمكن عدمه وإلالزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعًا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه عدم تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضًا جائزة فالقول في كونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لابد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لاتكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ماجعلته ضروريًّا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى الوجه الخامس أن يقال هذه الأمور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها(2/35)
أن تكون كذلك وإما ألا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأول قيل فإذا جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالمًا وتارة جاهلاً وتارة شبعان أو تارة جائعًا وتارة صحيحًا وتارة مريضًا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود(2/36)
كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجبُ الوجود منعوتًا بكل نعت سواء كان محمودًا شرعًا(2/37)
أو عرفًا وعقلاً أو مذمومًا شرعًا وعرفًا وعقلاً وأنه هو المتلذذ بكل مافي الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالمًا وينشدون وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وينشدون وماأنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرًا أو نظمًا ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية(2/38)
والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها غير وجود واجب الوجود لم يكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لايفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به ونحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من جوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرًا ثم ثمرًا وتارة حيًّا ثم(2/39)
ميتًا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل مايوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يقول هو علة قديمة لايجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون لواجب الوجود وهذا القول وإن كان فاسدًا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في(2/40)
الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودًا مطلقًا مشتركًا فيه فإذا قال بوحدة الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالفة للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني(2/41)
ثبت عندنا في الكشف مايناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجهًا لا يعرفون فيه الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تحدده وتأخذه مطلقًا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق الساري في الكائنات وإن كان وجودًا فيها علي وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال(2/42)
له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا وقوى إضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لاداخل العالم ولاخارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا(2/43)
ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية(2/44)
الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاتهُ لااسم له ولاصفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات مافيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ماشهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقًا وذلك ليس له حقيقة متميزة حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب والمقصود هنا أنه لابد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلاً من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبًا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا وأما إذا قيل بأن هنا موجودًا قديمًا واجبًا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ماسوى(2/45)
الموجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لايجب وجوده بل يكون موجودًا تارة ومعدومًا أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يمكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشك في أنها ليست بواجبة بنفسها بل بغيرها مادامت موجودة وهي ليست واجبة العدم إذا عدمت أيضًا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدمها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ماهو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لابد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه(2/46)
بصفة وقدر وزمان ومكان لابد له من مخصِّص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر والعلم في هذا المقام وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لايقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه(2/47)
الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقًا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون ذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من(2/48)
الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وكأبي نصر(2/49)
السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام(2/50)
والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا له لا لعلة وغرض ولا لداع وباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول(2/51)
كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم بالمعنى بكونه حكيمًا في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أن يفعل ما يشاء بلا ذم أو بمعنى أنه عالم ولاريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لايجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل مايشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل مايشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على مايصلح أن يكون مرادًا للحكيم وتفسيرُها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله(2/52)
في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يكونوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل ثم قال أبو المعالي ونحن لاننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافًا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد ألزموه قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارًا لقدرته وإظهارًا لحجج وآيات يستدل بها على إلهيته ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لاتحصى من ذلك قوله تعالى وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية 22](2/53)
وقد قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} [ص 27] وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} [آل عمران 191] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام في قوله خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا [الطلاق 12] ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليُجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند ولِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} [النجم 31] قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لايريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً [القصص 8] وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارهًا لها كقول القائل(2/54)
لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لايكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المثبتين يسلمون أنه لايكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريداً للغاية ومريد الغاية التي للفعل لايكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي(2/55)
هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لايدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزًا أزليًّا ومنعه أرسطاطاليس وهو مطلب عويص ولن تتبين حقيقته إلا(2/56)
لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيًا عندهم في الماضي وان أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لايتناهى في المستقبل ولايسمون العالم محدثًا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لاآخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون وشيعته يقولون هو محدث جائز لكنه مع ذلك يكون أبديًّا والجائز(2/57)
يمكن أن يكون أبديًّا وأما أرسطو فيقول ماكان محدثًا عن عدم فلابد له من آخر فالجائز لايكون أبديًّا وهذا الذي قاله أرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته أرسطو وهو أيضًا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئًا للبقاء ويخلق شيئًا للفناء كما يشاء ومع هذا فالذي ينقلونه عن أرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية(2/58)
فهذا يناقض ما أصله فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ماحكاه عن هذين الفيلسوفين وأصحابهما اتفاق منهم على أن ماكان جائزًا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزًا وغلّط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطن إن الجائز يكون أزليًّا فهذا لايناسب ماتقدم فإنه(2/59)
إذا كان قول أفلاطن إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لايكون أزليًّا أي قديمًا لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته أزليًّا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذين لايختلف من له عقل ودين أنهم أعلمُ منهم وأي برهان عندهم يتبين به هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفًا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية مايقولونه في العلم الإلهي لايصلح أن يكون من(2/60)
الأقيسة الخطابية والجدلية فضلاً عن البرهانية ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عُجَرِهم وبُجَرِهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين(2/61)
تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولانبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ماشاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعًا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لايختص باصطلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء به بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهمافي ذلك ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل(2/62)
أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أهل دمن الفلاسفة ومن المشركين الذين فيهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان(2/63)
منهم والمسلمون وعلماؤهم أحق بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لانعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولاقال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعي تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من بعدهم قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان(2/64)
وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل(2/65)
وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب لسقراط والنواميس(2/66)
لأفلاطن وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودًُا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره قلت ومقتضى ماذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ماثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثًا وأن القديم لايكون إلا واجبًا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه(2/67)
المقدمة بمقدمات إحداها أن الجائز لابد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثانية أن هذا المخصص لايكون إلا مريدًا والثالثة أن الموجود عن الإرادة هو حادث قلت وكذلك قررها الرازي أيضًا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسفة في تينك المقدمتين لايضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيّنا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا لهذه الطريقة لأنهم لايثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة(2/68)
وقد قدمنا أن كونه مختارًا يبينُ بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على مافي المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعًا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضًا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدًا مريدًا مختارًا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضًا توجب العلم اليقيني بكونه مريدًا مختارًا قال الحفيد ثم بين يعني أبا المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة لا يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لاتفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك أن السقمونيا ليست(2/69)
تجذب الصفراء مثلاً التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تخص الشيء دون مماثله ثم أضاف إلى هذه أن العالم مماثل كونه في الموضوع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن(2/70)
العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضًا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديمًا لأنه إذا كان محدثًا احتاج إلى خلاء قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم في بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبد الله الرازي ومن قبله حتى إن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات(2/71)
الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ماقد يطلقونه من الأدلة اللفظية لاتفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضًا والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لاتجوزون أيضًا تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد أنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الإخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ماذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه(2/72)
صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك بالقرآن وبالأخبار وإجماع السلف وأيضًا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضًا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة من دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم فلهذا كان السلف والأئمة مطبقين على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورًا معلومًا بالاضطرار لعموم المسلمين(2/73)
حتى قبل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق(2/74)
ويقال لهم قول أهل الإثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبد الله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما(2/75)
جاء به قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فأورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لايجعل من المكذبين بل يجعل المكذب من يرد قوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل وإما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لايكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارًا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الجزئيات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها(2/76)
وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها التي هي أمور جسمانية فلم لايجوز مثلها في الحشر والنشر فثبت أنا لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لانجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لايكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فأما إن جعلنا صاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذبًا وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل(2/77)
بعض التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجبة وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبًا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مفيد وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم والجزئيات وإثبات الحشر والنشر وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل مايخالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرًا فمن اعتقدها كان مكذبًا له عليه السلام فمان كافرًا ومثل هذه الطريق لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما(2/78)
مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لانكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبد الله الرازي وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ماادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه كما ذكر هذا أيضًا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ماسيأتي حكايته عنهم حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي(2/79)
قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق كما أن لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم(2/80)
أعظم من الذي يحكم على الموجود أنه كذا أو ليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو إثم محض وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورًا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب(2/81)
الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس فبالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الطب والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم ولايعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من(2/82)
الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جُعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق(2/83)
اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه مقاصد غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لاتعلم عندهم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده والذين لاسبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما من قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة(2/84)
لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لاتتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب التفرقة قلت هذا الكلام في أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أولا يمكن التصديق بها عقلاً(2/85)
إلا بالبرهان فأما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق فلو كان لايمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكنًا بدون البرهان فالرسول خبرهُ يوجب التصديق وليس هو ملزمًا لأن يقوم برهان خاص على كل مايخبر به فإذا كان تصورها ممكنًا بلا برهان وخبرهُ وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ماسماه برهانًا الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لايمكن إلا(2/86)
بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها الخاصة مثرونًا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن يكونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها للخاصة دون العامة الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة مايبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم مادل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين في فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلته كثيرة إما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس ومايتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لايمكن التصريح به للعامة لو كان حقًّا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة(2/87)
الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لايمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وإما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم مايفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات(2/88)
والسنن والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطًا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا من السنن التي عودها فهلا علمها وبينها إذا كان الأمر كذلك السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهلاّ بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على مايقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ماهو الحق وإن قلت إنه مثال والحق المطلوب لم يبينه لاللعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسًا وإضلالاً الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وإن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها(2/89)
بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له أمثالاً وكان على ظاهره لايتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية هاهنا ولاشقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس(2/90)
بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها حيلة وأنه لاغاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن هاهنا ظاهرًا من الشرع لايجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهنا أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة(2/91)
إذ كانت ليس من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لايقع لهم التصديق إلا من قبل التخييل أعني أنهم لايصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبًا إلى شيء متخيل ويدخل أيضًا على من لايفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن رتبة الصنف الأول قليلا في النظر باعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من(2/92)
المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران 7] وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عيّناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ماذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وماذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مساكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد(2/93)
ظهر لكمن هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية إنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علمًا وإيمانًا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لو يؤولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلامهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبًا وأيضًا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك إما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من(2/94)
يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لاأهل برهان وأنت دائمًا تصفهم بمخالفة الشرع والعقل وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوى وذلك أنه لاريب عند من عرف المقالات وأسبابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ماشاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضًا على أنهم فيما قالوا من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان فكيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لايقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة(2/95)
العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كونهم أهل برهان في علم الحساب والطب والهندسة أن يكونوا أهل برهان في معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما أنه لا يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كليهما صناعة حسية وكثيرًا مايحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلم يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل هذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به(2/96)
عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لايبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولايبين ما هو مراده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف إنما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضلّ الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنًا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن هذا في الإضلال والتفريق بين الناس أعظم وأعظم وإضلال الخاصة والتفريق بينهم أعظم من إضلال العامة والتفريق بينهم فالذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 13] وقال إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} [الأنبياء 92] وقال إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام 159] وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ(2/97)
وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} [آل عمران 102 - 105] وقال وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4} [البينة 4] وعلى مازعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرًا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران 7] ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلاً أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادًا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف(2/98)
من حيث يعرف مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لايبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سفسطائية من شر المقاييس(2/99)
السفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن(2/100)
سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين قال ولذلك اشتغلت بالفلسفة ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لايجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لايجوز حمله على الظاهر للعلماء لعِواصة هذا الصنف واشتباهه(2/101)
والمخطئ في هذا معذور أعني من العلماء فإن قيل فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ماجاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة المر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أنا نرى أقوامًا ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذا كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضًا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا وفي هذا الصنف(2/102)
أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورًا والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود(2/103)
وتأول فيها نحوًا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لايؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرًا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر لذلك نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لاتثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان فأما إذا ثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية(2/104)
والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرًا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبًا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل(2/105)
يوما يمان إذا لاقيت ذايمن وإن لقيت معديًا فعدناني والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلاً لها قلت أما عده أبا حامد ممن لايقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه مانسب لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب(2/106)
فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعًا وجزم بما عليه المسلمون من القيامة العامة كما أخبر به الكتاب وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق(2/107)
فإن انتحال الحلية أو القول ظاهرًا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لايقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولاريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولاريح(2/108)
لها فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبد الله(2/109)
التستري وعمرو بن عثمان المنكي وأبي العباس بن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن(2/110)
السلمي وأمثال هؤلاء فحاش لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات وانشقاقها نعم يوجد في المتحلين بحلية الصوفية من يعتقد أنواعًا من الاعتقادات كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا(2/111)
الرجل قد ذكر أصنا فالأمة في الأمور الإلهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ماذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين(2/112)
والفقهاء لعل شبهتهم في ذلك مع ماحكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإبهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن أو علوم الباطن ونحو ذلك فهم لايريدون بذلك مايناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعى باطنًا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ماهو(2/113)
كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وممايبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضًا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضًا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة ويوضح ذلك ماذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على(2/114)
الأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإنا كنا قد بينّا قبل هذا في قول أفردناه مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومؤول وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور وأن المؤول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله قلت فقد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لايحل للعلماء أن يفحصوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما(2/115)
يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليًّا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن(2/116)
علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن من الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لايطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لايطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون في(2/117)
ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال بخلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لايوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبًا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال مايخالف قول الله ورسوله إما ظاهرًا وإما ظاهرًا وباطنًا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لايكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه فإن قال هذه التأويلات الباطنية قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه(2/118)
في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علمًا اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من(2/119)
خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ماعرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى بالأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرًا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أن جلها أقاويل محدثة(2/120)
وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر أن ذلك مايجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لايتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم دون ماجعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ماقصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدئ من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرقة المشهورة في ذلك فنقول أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق وعرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى(2/121)
من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانًا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لامدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها على الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيه مثل قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} [البقرة 21] ومثل قوله تعالى أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم 10] إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبًا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لايصح إيمانه إلا من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه وسلم لايدعو أحدًا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها(2/122)
كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى ولذلك قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] ولايمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئًا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه وسلم للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع ثم قال وأما الشعرية فرأوا أن التصديق(2/123)
بوجود الله تعالى لايكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقًا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولاً قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس هو اسمًا لطائفة معينة لها رئيس قال مقال فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسمًا لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا(2/124)
كان المؤمنين متميزين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ إلى قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة 55, 56] وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] وأمثال ذلك وقال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ {104} [المائدة 104] وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أنَّ الكفار(2/125)
لايستجيبون لذاك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60 , 61] فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور 51] وقال فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65} [النساء 65] وبذلك أمرهم حيث قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] وشواهد هذا الأصل كثيرة(2/126)
والناس منذ بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرًا وباطنًا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أو سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنًا وظاهرًا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولايجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لاأخص من المؤمنين أو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولايجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها مادلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو بن عبيد رئيس(2/127)
المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويًّا نسبة إلى الحشو وهم العامة والجمهور فإن الطوائف الذين تميزوا عند أنفسهم بقوله تميزوا به عما عليه جماعة المسلمين وعامتهم يسمونهم بنحو هذا الاسم فالرافضة تسميهم(2/128)
الجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كلمن أثبت الصفات وأثبت القدر وأخذ(2/129)
ذلك عنها متأخرو الرافضة فسموا الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم ونحو ذلك سموه حشويًّا كما رأينا ذلك مذكورًا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الحسي والنعيم الحسي حشويًّا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية سموا من أقروا بما ينكرونه من(2/130)
الصفات ومن يذم مادخلوا فيه من بدع الكلام والجهمية والإرجاء حشويًّا ومنهم أخذ ذلك المصنف ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لايعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح معناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم(2/131)
سمعوه منه أو وجدوه مأثورًا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد الشرع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن مانحكم إلا بالكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لاتحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدًا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لايعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لايقوله عاقل فإن تصديق المخبر في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة أنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لايعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا(2/132)
القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشينوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لايحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه أو من لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لايبيح أن ينقل عنهم البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقولة والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية(2/133)
ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الإحكام ونهاية التمام وأن خلاصة مايذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض مابينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله عما تقصر عنه نهايات عقولهم ومالايطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هو أولى وأحرى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} [الأحزاب 58] وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا(2/134)
مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} [البقرة 13 - 14] وقال إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} [المطففين 29 - 31] فإن الله سبحانه ضمن كتابه العزيز فيما أخبر بع عن نفسه وأسمائه وأفعاله من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما يبين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنَّهي والحِجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد مانبه عليه في غير موضع كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ {54} [فصلت 53 - 54] فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف بوجوده بمجرد خبر الشارع المجرد وأما ما قد يقولونه من أن العقل لامجال له في ذلك أو(2/135)
ينهون عن الكلام أو عما يسمى معقولات ونظرًا وبعضهم قد لايفرق بين مايدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولاريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك فيقال من الوجوه الصحيحة أن مانطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرًا أو كلامًا وبرهانًا وقياسًا عقليًّا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علمًا كليًّا عامًّا وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ماعارض النص والإجماع من هذه وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} [الأنعام 112] فأعداء النبيين دائمًا يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا(2/136)
وكذاك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لاتفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن أقوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرًا مايشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ [هود 118 - 119] وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لاتعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام إما بخبره وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180 - 182](2/137)
ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها(2/138)
ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد من متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبد الله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول مايجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقًا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق(2/139)
وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولايوجبونها بل إما يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لاتتوقف على هذه الطريقة ولايجب سلوكها ثم هم قسمان قسم يسوغها ويسوغ غيرها ويعدها طريقًا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لايبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه قال الشيخ(2/140)
أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخًا من إخواني سألني بيان مايجب على المسلمين علمه ولايسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام وطلب إليّ أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم لينتفع به من لايرضى بالتقليد في مايعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لايحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل(2/141)
العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدال على الصانع إلى أن قال وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا اخترنا منها في الكتاب ماهو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه أولو العقول الصحيحة ويستدركه ذوو الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليه كان في الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لادلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن وإن كنا لاننكر(2/142)
الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي نختاره ونؤثره هو ماقدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار طريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها وزلا يثبتها رأسًا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لايصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجود قبول مادعا إليه صلى الله عليه وسلم وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها(2/143)
قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأُخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية قريبة أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكر أن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ماذكره أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلامًا أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء(2/144)
المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لايعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببًا لنجاتنا ولاجعله وبالا علينا برحمته وقفت على مقالتك وماوصفته من أمر ناحيتك وظهور ماظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في(2/145)
ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ماذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم مايدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على مايزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولايقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لايمكنهم ردها ولايسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق(2/146)
لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولايكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين وأهله فلا تنكر ما تشاهده منه(2/147)
وسل الله العافية من البلاء واحمده على ماوهبه لك من السلامة ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة وعد واحدًا من الجمهور والكافة فحركهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة(2/148)
عمن هو دمنهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولاقبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ماانتحلوه ويشهد عليهم بباطل مااعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ماوضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه وردوها(2/149)
على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني مايروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكو سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين ورَوْح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزًا عنه ولا انقطاعًا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة(2/150)
وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم المتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا(2/151)
في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبًا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها قلنا إنا لاننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لانذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ماهو أوضح بيانا وأبين برهانًا وإنما هو شيء أخذتموه عن(2/152)
الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لايثبتون النبوات ولايرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ماتعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لايؤمن العنت على راكبها والإبداع والانقطاع على سالكها وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لايتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا(2/153)
وقال له يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة 67] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اللهم هل بلغت فكان ماأنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة 3] فلم يترك شيئًا من(2/154)
أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لاخلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لاتبرح فيهما الحاجة داعية أبدًا في كل وقت وزمان ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لاسبيل لهم إليه وإذا كان الأمر على ماقلنا وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لايمكن أحدٌ من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف(2/155)
مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم قلت وهذا الكلام يشبه ماذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته الثغرية ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغني عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وغن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لابد له من(2/156)
مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه إلى أن قال فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقًا نظرية يقينية ولا طرقًا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة في المقدمات الأولى قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس(2/157)
عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة 282] ومثل قوله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} [العنكبوت 69] ومثل قوله تعالى إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال 29] إلى أشياء كثيرة في الشرع يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثًا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطًا في صحة النظر مثل ماتكون الصحة شرطًا في ذلك لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها(2/158)
وإن كانت شرطًا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث الله على العمل لاأنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية قال فإن قيل فإذْ قد تبين أن هذه الطرق كلّها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه(2/159)
وتعالى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطرق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب العزيز وُجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية مايظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل ولنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من تلقاها من الأشاعرة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها كثر ذم(2/160)
السلف والأئمة لهم فيما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي بقايا من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضًا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل(2/161)
زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبد الله المالكي المغربي وكان فقيهاً صالحاً عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء(2/162)
المالكيين أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عزة(2/163)
له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ماكانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم(2/164)
قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس وكذلك ذكر في الإبانة وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة(2/165)
تعقبها برد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر قبل هذا عن طائفة من(2/166)
الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فيكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنًا يخالف ظاهرهما فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم(2/167)
كتمان أسرارنا والحج والزيارة إلى شيوخنا القدسيين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لايقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العلمية فإن من دفع أن يكون الخطاب العملي مرادًا به هذه الأعمال فهو للخطاب العلمي أعظم دفعًا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدّعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لايدعون رفع حكم الخطاب مطلقًا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم إنما(2/168)
يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربًا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفته وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولايكاد تفصيل الباطل ينضبط أما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من العمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنًا يناقض الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارًا على من(2/169)
يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانًا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا من غيرهم وأشد تعظيمًا للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم ولكن يوجد منهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدع والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنًا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين الزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشايخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنادقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم الموجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشايخ الصوفية برءاء من بدع أهل التصوف فضلا عن(2/170)
بدع من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته واعتبر ذلك بما ثبت مقبولاً عن أئمة المشايخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي(2/171)
والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج(2/172)
ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام قسم جردوا النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة(2/173)
والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبد الله بن المبارك وهناد بن السري(2/174)
صنفوا ذلك على الأبواب وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في(2/175)
رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما(2/176)
وهؤلاء المشايخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف باعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنًا وظاهرًا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه ما لا يوجد كثير منه لكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لاسيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وان يتصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية(2/177)
فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرًا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها كلام المشايخ الصوفية كـ الإحياء وغيره ويذكر بعض ما في النصوص والآثار(2/178)
وكلام المشايخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ماقالوه بل مشايخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتان الله تعالى والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضًا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردًا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا(2/179)
نعم فيهم من قد يجرد بعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإيمان وينقطع عن الالتفات إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصِّل بنفسها أمورًا وجودية ولكن قد تكون شرطًا في الأمور الوجودية وأيضًا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل وحذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبد الله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة الـ واجبة لا تحصل(2/180)
إلا به فطالب المعارض بالدليل على أن المعرفة لاتحصل إلا بالنظر فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لانسلم أن طريق تحصيل المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم أنا نبين ها هنا طريقًا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصل لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في(2/181)
المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقلما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لما لا يجوز أن تكون التصفية طريقًا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لاتكون فغن كانت فلا كلام لنا فلما قلنا هذا علم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو لايلزم فإن لزم قتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود(2/182)
والنصارى والدهرية قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد(2/183)
الخيوقي المعروف بالكبرى أخبره انه دخل عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبد الله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد جرجان وخوارزم(2/184)
قال فقالا لي يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهما نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلاً أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلاً أفسده وقمنا ولم يقدر أحدٌ منا أن يقيم دليلاً على الآخر فقال فقلت ماأدري ماتقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لايمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لايمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت(2/185)
الشبهات قلبي فأمره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال ياسيدي والله ماالحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبهًا وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي الظن وماتهوى النفس حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة ومع هذا فالمشايخ الصوفية العارفون متفقون على أن(2/186)
ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف مايناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجًا عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لايجوزون قط طريقًا يستغنى به عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن محتاجًا إلى متابعته في خبره وأمره وهذا حال الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ [الأنعام 124] وقال تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً {52} [المدثر 52](2/187)
ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى مايستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي في حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلناه فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالمًا وهذا في غاية(2/188)
الجهل كما قد بسطنا في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها(2/189)
المقصود فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان(2/190)
مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وعبادة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وتعالى وأن يكون العبد عابدًا له قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة كمال معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط(2/191)
في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لايحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلابد من سلوك الطريقين معًا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقًا لما أخبر به الرسول وأمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم والضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتكلمين أو عمل مجرد غير شرعي كحال كثير من عباد المتفلسفة والمتصوفين فهذا هذا والله أعلم(2/192)
ولا ريب أن من أشهر مشايخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني شيخَ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري وأبا القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فلينظر ماذكره هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا لما كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا(2/193)
وكانت في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكانت بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ماتؤول إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور(2/194)
الفلاسفة ولم نقف فيها إلا على التعطيل البحت وان قطب مذاهبهم ومنتهى عقدتهم ماصرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حُشًّا فرارًا من الإثبات وذهابًا عن التحقيق وأن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئًا لأشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لاصفة خافوا على قلوب ضعفى المسلمين(2/195)
وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصامًا به من السيف واجتناناً به منه وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعانيهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكثهم فياطول مالقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسنا العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية في مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين(2/196)
على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغًا يكون ألواح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم يجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للغبي بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يُكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنُحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] فينكرون الغُل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه(2/197)
فيقولون لايكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن ياذوي الألباب وانظروا مافضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم رضي(2/198)
الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يُدرى أين هو ولايوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحد وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلامًا وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهم متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النقش وأريد به النفس وهذا صوت القارئ أما ترى منه حسنًا وغير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازًا به حتى قال رأس(2/199)
رؤوسهم أو يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبربها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات(2/200)
وأولئك قالوا لاصفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويدٌ كيد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبع الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي أنا مالك أمره(2/201)
وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئًا ولم يبقوا موجودًا ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لانفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابًا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] وإنما قالوها(2/202)
بالعبرانية فحكاها الله عنهم بالعربية وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبًا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يُدعى بكل لسان باسمه فيجيب(2/203)
ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ماهو بعد مامات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو(2/204)
استوحشوا من التصريح بها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيهًا فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى فيهم رجلاً ورعًا ولا للشريعة معظمًا ولا للقرآن محترمًا ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثًا واحدًا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لاتنفذ لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك ألبسوا ظلمة(2/205)
الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم إثم من سنّ سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثًا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر(2/206)
حميد بن زياد أن نافعًا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في أمتي مسخ وذلك في قدرية(2/207)
وزندقية(2/208)
قال فلم يكن بدٌّ أن يكون ماقال هو كائن كائنًا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلمًا وهي إحدى فتنتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتهما فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو(2/209)
النورين رضي الله عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه الصلاة والسلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقوت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفظت غصتها واشتغل الرعاء وأسلم(2/210)
النشأ وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوست لها قلوب أهل الغفلة فمما ظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفًا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على أثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم قصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق فأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل(2/211)
من البصرة كان عنده سوء حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبد الله بن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع ابن الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبد الله ابن عمر بن الخطاب فتكلم(2/212)
عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن(2/213)
أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبد الملك بن مروان واستتابه عمر بن عبد العزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة فصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها(2/214)
بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن باب مولى بني تميم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة في طريق مكة فإنه أول من بسط أساسه فأصبح رأسه ونظم له كلامًا ونصبه إمامًا ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبًا يسلك وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأولى ورأس المعتزلة سموا بها لاعتزاله حلقة الحسن(2/215)
البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبد الله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقاويل فسلط الله عليه(2/216)
وعلى من استتبع واخترع سيفًا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره واظهر عواره ووسمه باللعنة والحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل رحمه الله من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال فأنت سني هذه قصة أهل(2/217)
البصرة أما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور ابن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة من أهل الشام أبا عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي فلحظهم(2/218)
بالصغار ووضعهم في المقدار وبسط عليهم لسانًا أعطي بيانًا وضن عليهم ببشاشة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه وأما فتنة قصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر رضي الله(2/219)
عنهم ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب البتول رضي الله عنها ثم جاءت تعدله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتشركه في وحي السماء ثم خطأت جبريل في نزوله فحلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت له الإلهية ثم ادعتها(2/220)
لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابًا لكانوا حمرًا أو كانوا طيرًا لكانوا رخمًا فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب(2/221)
القلوب المريضة فتظاهرت على قصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف به ثم روى من طريق العباس بن عقدة حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على(2/222)
أبي حدثنا ابن الحباب عن عبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لاتصلح الصلاة إلا على النبي(2/223)
صلى الله عليه وسلم فلما(2/224)
تعادنت أولئك الغواة(2/225)
بتلك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إمامًا خلصه حسامًا وهو أبو محمد عبد الله بن إدريس الأودي فصرح بقدحهم ودفع في نحرهم ونادى على خباياهم وأورى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ماكابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم من شوب منها إلا من رحم ربك فعصم وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من بدعها(2/226)
جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن(2/227)
صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبًا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقًا من خلق الله كثيرًا فأما الجعد فكان خزري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا قد حذروه فيما أخبرناه(2/228)
وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخًا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يُهلك(2/229)
خلقًا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ من نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان(2/230)
بمرو فكتب هشام بن عبد الملك إلى واليه على خرسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين(2/231)
نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام لها ابن أبي دؤاد وبشر بن غياث فملآ(2/232)
الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرًا طويلاً فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرًا في قوة اليقين أبا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وضن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله خفة الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هدّ ماشدوا وقدّ مامدوا فأما قول الطائفة التي قال بالقدر فأرادت منازعة في(2/233)
الربوبية وقعت فيها فضاهت المجوسية الأولى وهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيًّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا آخرهم(2/234)
وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيئ فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحًا وروي عن أبي الربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل(2/235)
وكان يظهر من رأيه الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لاترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي صبّكم على الترفض وحب علي قال إذًا أصدُقَك إنا إذا أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقوامنًا ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاؤوا وانتسبوا بذلك إلى الرفض والتشييع ويعتقدون ماشاؤوا ويقولون ما شاؤوا وقد حبس الخليفة رجلاً في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسب الصحابة والرفض فما خرج بك إلى الزندقة فقال نايغمائي وما(2/236)
جنى عليّ أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق مارأيت من رجل يُزَن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لاتشبه كلام المسلمين وأما الذين قالوا بإنكار الكلام لله عز وجل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب(2/237)
متكلمًا بطل الوحي وارتفع الأمر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعية فلا يكون جبريل عليه السلام سمع مابلغ ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ما أنفذ فيبطل التسليم والسمع والتقليد ويبقى المعقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد إن جهمًا إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز وجل فهذه القواعد
الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى ابن عمار يقوله وروى بإسناده عن(2/238)
زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر 16] ومن يرد عليه لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 16] فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا ثم قال باب ذكر كلام الشعري وذكر ماقدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عمدة النميري يقول سمعت أبا بكر البسطامي يقول كان أبو الحسن الأشعري أولاً ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما(2/239)
مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت(2/240)
عبد الرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور(2/241)
الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبد الواحد بن ياسين المؤذن أنا جعفر يقول رأيت بابين قلعًا من مدرسة أبي الطيب بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر ابن فورك(2/242)
فصل وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لايتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لايحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لايعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولايعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لاتخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة(2/243)
والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بان الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن احد الضدين وإن قدر عرض لاجنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول أصحاب الأشعري ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن(2/244)
الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن يثبتوا أن الجسم لايخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول الكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي وغيره من الأشعرية وعلى ذلك اعتم محمد بن الهيصم وغيره من الكرامية ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على انه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيًّا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد(2/245)
ثم الذين ذكروا أن لهم طريقًا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبد الله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبد الله الرازي وغيره وهو مخلص ممن جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في بعض أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولاً ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لايتجزأ ولا شك أن الأجسام التي نشاهدها قابلة(2/246)
للانقسامات فالانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لاتكون فيخرج من هذا التقسيم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن مايمكن حصوله منها يكون متناهيًا ورابعها أن لاتكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناه فالأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني مذهب النظام والثالث(2/247)
مذهب بعض المتأخرين والرابع مذهب الفلاسفة فنخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلاً للانقسامات هل يعقل أن يكون واحدًا هل يعقل أن يكون قابلاً للانقسامات الغير متناهية وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجًا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا وكل جزء لايتجزأ ولاينقسم وليس له طرف وحد وجزء شائع ولايتميز(2/248)
وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء بالنقطة فقالوا النقطة شيء لاينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لاتتناهى في تجزئها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترف بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولاتنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والقطار منقطعة الأطراف والأكثاف وكذلك على كل(2/249)
جملة ذات مساحة فغن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاءً بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءًا لاتتناهى ولا يحاط بها قلت والكلام في ذلك من وجهين أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئًا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولاانتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها احد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكمًا علميًّا ولا علميًّا فدعوى المدعي انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أن ما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على مابينوه بل إما أنهم ماكانوا يعلمون الحق أو يجوز الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من(2/250)
المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين مايعلم بالاضطرار انه ليس من أصول الدين لزم قطعًا تغيير الدين وتبديله ولهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علمًا وعملاً وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى عليه الدين بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية وأيضًا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد توقفوا في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من(2/251)
الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة بعينها لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أن من العلماء من مال إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات(2/252)
العقول وأبو الحسين البصري هو احذق المعتزلة توقف فيها ونحن أيضًا نختار هذا التوقف فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من هذا الوجه الثاني دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم(2/253)
وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه وضرار بن عمرو وأصحابه كحفص(2/254)
الفرد ونحوه ونفاه أيضًا هشام بن الحكم وأتباعه وهو(2/255)
المقابل لأبي الهذيل فإنهما متقابلان في النفي والإثبات ونفته الكلابية أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذووه ونفاه أيضًا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر ونفاه ابن الراوندي وليس نفي هؤلاء موافقة منهم(2/256)
لا للفلاسفة ولا للنظام بل قول النظام ظاهر الفساد وكذلك قول الفلاسفة أيضًا وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية والكلابية والكرامية وغيرهم لايقولون في ذلك بقول النظام ولا الفلاسفة ولايقولون(2/257)
بإثباته وذلك أن دعوى الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة الانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لابد من انقسامه حتى إن أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لايتناهى من الانقسام والقائلين بوجود الجزء الذي لايقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى والتحقيق أن كلا المذهبين باطل والصواب ماقاله من قاله من الطائفة الثالثة المخالفة للطائفتين أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغر فإنه يستحيل هواءً أو ترابًا فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة كما يقوله المثبتون له فإن هذا باطل بما ذكره النفاة من أنه لابد أن يتميز جانب له عن جانب ولايكون قابلاً للقسمة إلى غير نهاية فإن هذا أبطل من الأول بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيرًا وليس استحالة الجسام في صغرها(2/258)
محدودًا بحد واحد بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعًا من القسمة وغيره لايستحيل حتى يكون أصغر منه وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية بل هذا إنما يكون في المقدرات الذهنية فأما وجود مالا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة وسواء كان بالفعل أو بالقوة ووجود موجود لايتميز جانب له عن جانب مكابرة بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام فلا يقبل شيء منها انقسامًا لا يتناهى كما أنها إذا كثرت وعظمت تنتهي إلى حد تقف عنده ولا تذهب إلى أبعاد لا تتناهى ولكن بنى هذه الطائفة المشهورة من المتكلمين على مسمى هذا الاسم الهائل الذي هو الجوهر الفرد عندهم إثبات الخالق والمعاد وهو عند التحقيق ما لايمكن أحدًا أن يحصر هـ بحسه باتفاقهم وعند المحققين لامس له وما أشبهه بالمعصوم المعلوم الذي بدعته القرامطة(2/259)
والمنتظر المعصوم الذي بدعته الرافضة والغوث(2/260)
الذي بدعته جهال الصوفية هو نظير ما يعظمه مقابل هؤلاء الفلاسفة المشائين وأتباعهم من الجوهر المجرد وهو ما يدعونه في النفس والعقول من أنها شيء لا داخل العالم ولا خارجه ولا متحرك ولا ساكن ولا متصل بغيره ولا منفصل عنه وأمثال هذه الترّهات فقول هؤلاء في إثبات هذا الجوهر المجرد كقول أولئك في الجوهر الفرد ثم إن هؤلاء وهؤلاء يدعون أن هذا حقيقة الإنسان هؤلاء يدعون أنه هذا الجوهر المجرد وهؤلاء يقولون إنه جوهر واحد منفرد أو جواهر كل منها يقوم به حياة وعلم وقدرة أو تقوم الأعراض المشروطة بالحياة ببعضها وثبت الحكم للجملة وعلى هذه المقالات يبنون المعاد(2/261)
فصل ثم قال الرازي العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال يقال له إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال فهذا حق فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وقال تعالى فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {74} [النحل 74] وذلك أنا لانعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ماقد يكون مماثلا له أو مشابهًا له من بعض الوجوه والله يعلم الأشياء كلها ونحن لانعلم فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه فهذا باطل وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة وبينا الفرق بين(2/262)
ما يعلم عدمه وبين ما يعلم عدم مثاله كما بينا الفرق بين مايعلم عدمه وبين مالا يعلم وجوده أو كيفيته وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم وأيضًا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال أنها تنافي معرفة أفعاله لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهو باطل ولو أراد أنه يثبت من أفعاله ما لا يعلم نظيره أو ما لا يحيط العلم بحقيقته بحسِّ ولا خيال فيقال وما لايعلم نظيره بعقل ولا علم ولاقياس فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل وهذا الكلام أيضًا كلام نافع في هذه المواضع وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن العلم والعقل يدرك من أفعاله ما لايدركه الحس والخيال لوجهين أحدهما أنه لافرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته(2/263)
وبين سائر الأشياء فإن الإنسان إذا أحس أمرًا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار ولايجوز أن يقول في جميع المعقولات إنها تثبت على خلاف حكم الحس والخيال وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم ما لايناله بحسه وهذا لانزاع فيه لكن لايقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما الوجه الثاني أن الحس يمكنه إدراك كل موجود فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ماهو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود بل(2/264)
يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والتذوق واللمس بكل موجود فلم يبق عندهم في الموجودات مايمتنع أن يكون محسوسًا فلا يصح أن يقال إنه يدرك بالعقل والعلم مايمتنع إدراكه بالحس إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال ما لا يمكننا إحساسه في هذه الحالة أو ماتعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك وإلا فإحساسه ممكن والله تعالى قادر عليه ويفعل من ذلك مايشاء كما يشاء ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال أبو عبد الله الرازي أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتًا وانقلاب النبات جزء بدن حيوان فأما حدوث الذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة فهذا شيء ماشاهدناه البتة ولايقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة(2/265)
قلت الكلام على هذا من وجوه أحدها قوله لم نشهد إلا تغير الصفات ليس هذا مخاطبة باللغة المعروفة والاصطلاح المشهور بل هذا يفهم معنى فاسدًا لايقوله أحد وذلك أن الصفة في الاصطلاح المشهور هي عرض يقوم بجوهر قائم بنفسه كقيام اللون والطعم والريح بالجسم فإذا قال القائل لم نشاهد إلا تغير الصفات كان مقتضاه أن الجواهر والأجسام لا تتبدل ولا تستحيل ولا تنقلب وإنما تتغير أعراضها القائمة بها مثل تغير الشمس والقمر والنجوم بحركاتها ومعلوم أن هذا باطل بل نفس الجواهر التي هي أعيان قائمة بنفسها تنقلب وتتبدل وتستحيل كما ذكره من انقلاب الماء والتراب نباتًا فلم يكن التغير في مجرد أعراض الماء والتراب وإنما ذلك مثل أن ينقل من موضع إلى موضع أو يجمع ويفرق أو يسخن ويبرد ونحو ذلك فأما إذا صار الماء والتراب نباتًا فقد انقلبت الحقيقة وتبدلت وكذلك إذا صار المني حيوانًا والبيضة طيرًا وكذلك إذا صار النبات المأكول دمًا ثم عظمًا ولحمًا وعرقًا ونحو ذلك فلا يقال في مثل هذا لم نشهد إلا تغير الصفة بل شهدنا تبدل الحقيقة وتغير العيان القائمة بنفسها التي هي جواهر بمعنى استحالتها وانتقالها من حقيقة إلى حقيقة في ذاتها(2/266)
وقدرها ووصفها وسائر الأمور لكن لم نشهد تكون شيء إلا من شيء فهذا حق كما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز كما قال خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ {14} وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ {15} [الرحمن 14، 15] وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14} [المؤمنون 12، 13، 14] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57} [الأعراف 57] وقال وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً {17} ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً {18} [نوح 17، 18] وقال تعالى هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود 61] وقال تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} [النازعات 30، 31] وقال تعالى وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ(2/267)
عَبْدٍ مُّنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ {11} [ق 7 - 11] وهذا في كتاب الله تعالى كثير يبين خلق الأشياء بعضها من بعض وببعض وفي بعض ويقرننا أنا نرى ذلك ونشهده كقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ {71} إلى قوله أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ {77} [يس 71 - 77] وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج 5] وقال تعالى أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20} [الغاشية 17 - 20] وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة 260] الوجه الثاني فأما حدوث الذوات ابتداءً من غير سبق مادة ولا طينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة(2/268)
ليست هذه المخلوقات من الماء والطين مثل الصور التي يصورها بنو آدم من المواد مع أن الذات باقية كتصوير الخاتم والدرهم ونحو ذلك من الفضة وتصوير السرير والباب ونحو ذلك من الخشب وتصوير الثوب من الغزل فإن هذه المواضع لم تحدث فيها الذوات وإنما تغيرت صفة الذات وأما الحيوانات والنباتات المشهودة فنفس هذه الذوات شهدنا حدوثها وخلقها لكن خلقت من شيء آخر ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وهذا من أبدع الأمور وأعظمها فلم يكن ما منه خلقت هذه الأمور وإن سماها بعض الناس مادة مثل المواد المعروفة تكون بعينها باقية في الصور أو تكون من جنس الصور وإذا كان كذلك فقد شهدنا إبداع هذه الحقائق الموجودة وصفاتها بعد أن لم تكن موجودة كما قال تعالى أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً {67} [مريم 67] غاية ما في هذا الباب أنا شهدنا خلقها من شيء ليس هو من جنسها ولا من حقيقتها وشهدنا أنها تخلق من أوضع الأشياء وأحقرها وأبعدها عن صفات الكمال كخلق الإنسان من تراب كما قال الشاعر الذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد(2/269)
وهذا الذي شهدناه من أبلغ الإبداع أنه يخلق من الشيء ما لا يكون مجانسًا له ولا يكون الأصل مشتملاً على ما فيه الفرع من الصفات فهذه الأمور المخلوقة التي لم تكن موجودة في أصلها ولا كامنة فيه هي مبدعة بعد العدم لا منقولة من وصف إلى وصف ولو كانت منقولة فنفس الصفات القائمة بها مبدعة بعد العدم فقد شهدنا إبداع الجواهر والأعراض بعد عدمها وهذا كاف في ذلك إذ لايجب أن نشهد إبداع كل جوهر وعرض بعد العدم بل إذا شهدنا إبداع ما شاء الله من الجواهر والأعراض بعد عدمها كان ذلك محسوسًا لنا ثم عقلنا بطريق الاعتبار والقياس ما لم نشهده وهكذا علمنا بجميع الأشياء نحس بعض أفرادها ونقيس ماغاب على ما شهدناه وإلا فلا يمكن أن يعلم الشخص بإحساسه كل شيء فظهر بذلك أن طريق علمنا بأفعال الله حسًّا وعقلاً مثل طريق علمنا بجميع الأمور وظهر أن ما غاب عنا من أفعال(2/270)
الله وعلمناه بعقلنا ليس على خلاف ما أحسسناه وتخيلناه بل هو من جنسه مشابه له فضلاً عن أن يكون مباينًا له ونحن قد بينا فيما تقدم الفرق بين مايعلم عدمه وامتناعه بحس أو عقل وبين ما لايعلم له نظير بحس أو عقل فالأول لايجوز أن يكون موجودًا وهذا ينفعنا في ذات الله فإنه ليس كمثله شيء وأما أفعاله ومخلوقاته ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده والغائب من جنس الشاهد وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات كما قال تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] فلو لم يكن الغائب من أفعاله نظيرًا للشاهد لم يجز ذكره ولايقال إنه على خلاف حكم العقل فالحس والخيال كما في ذاته تعالى فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها ياسبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان إبداع الإنسان بعد عدمه أم إبداع طينته التي خلق منها بعد عدمها فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر(2/271)
المخلوقات كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومن(2/272)
خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلقه نفسه ولا ما خلق قبله كما قال تعالى مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ [الكهف 51] وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده الوجه الثالث قوله أما حدوث الذوات ابتداءً فهذا شيء ماشاهدناه البتة ولايقضي بجوازه وهمنا ولا خيالنا فيقال له قولك لايقضي بجوازه وهمنا ولاخيالنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه أو تريد أنه لايعلم جوازه وأيما أردت فعنه جوابان أحدهما أن لا نسلم أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك ويمنعه لوجهين أحدهما أن الوهم والخيال لايمنع كل ما لم يعلم نظيره وإن قيل إنه لايدركه إلا أن يريد الوهم والخيال الفاسد فهذا لانزاع فيه الثاني أن الوهم والخيال قد أدرك نظير هذا كما قدمنا من تخيل ما أحسه من إبداع الجواهر(2/273)
وأعراضها بعد عدمها الجواب الثاني عن التقدير الأول أنا لو سلمنا أن وهمنا وخيالنا يحيل ذلك فليس محذورًا إذا علمنا جوازه بعقلنا وحسنا فإن أحدًا لم يقل إن كل ما أحاله مجرد التوهم والتخيل يكون ممتنعًا وإنما قيل ما أحالته الفطرة الإنسانية والبديهة والفرق بينهما ماتقدم وأما الجوابان على التقدير الثاني وهو أن الوهم والخيال لا يعلمان جواز ذلك فأحدهما أن لانسلم أن الوهم والخيال لايعلم جواز ذلك فإن الإنسان قد يتخيل ما أحسه بحواسه من الموجودات بعد عدمها وهو يؤلف بتخيل من ذلك ما لم يتخيله كما هو عادة التخيل فيتخيل نظير ذلك وما يركبه من ذلك مما ليس له نظير كما يتخيل جبل ياقوت وبحر زئبق فيتخيل من(2/274)
المخلوقات ما ليس له نظير ويتخيل الإبداع الذي ليس له نظير فكيف بما له نظير الثاني أنا لو سلمنا أن الوهم والخيال لايعلم جواز ذلك لم يضر ولو لم يعلم جواز نظيره أو وجوده بحس أو عقل فكيف إذا علم ذلك فإنما المدفوع ما علم بالفطرة امتناعه لاما عجز مجرد الوهم عن معرفته الوجه الرابع قوله من أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات ابتداءً من غير سبق مادة وطينة يقال له هذا الذي تذكره إنما ينفعك أن لو كان ماعلمناه بالفطرة يدفع ماسلمنا فكيف إذا لم يدفعه ماعلمناه لا بضرورة بل ولا يدفعه ضرورة ولا نظر بل كيف إذا كان ما شهدناه نظيرًا له ومشابهًا بل كيف إذا كان الذي شهدناه أبلغ من الذي سلمناه فغن الذوات التي ابتدعت ابتداءً إنما هي ذوات بسيطة كالماء ونحوه ومن المعلوم أن إبداع هذا الإنسان المركب بما فيه من الأعضاء المختلفة ومنافعها وقواها والأخلاط المختلفة ومقاديرها وصفاتها من أشياء بسيطة أعظم في الاقتدار وأبلغ في الحكمة من إبداع شيء بسيط لا من شيء لأن هذه المركبات كلها كائنة بعد عدم وتأليفها وتركيبها كذلك وما فيها من(2/275)
الجواهر والتأليف والصفات الكائن بعد العدم أبلغ مما في تلك البسائط وهذا كما أن ماشهدناه من الخلق الأول أبلغ مما أخبرنا به من الخلق الثاني في المعاد كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم 27] وقال وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} [يس 78، 79] ونظائره في القرآن فإذا كان مستقرًا في الفطرة العقلية أن ابتداء الخلق أعظم من إعادته فمستقر فيها أن إبداع المركبات وتركيبها وصفاتها بعد العدم أبلغ من إبداع البسائط المفردات لكن المركب لابد أن يكون مسبوقًا قال الرازي وثانيها أنا لانعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة فيقال لو قال لم نتوهم ولم نتخيل أو لم نحس لكان مناسبًا للفظ دعواه حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول فإن(2/276)
ذلك يسد عليه طريق الإقرار بها ويوجب جحودها حيث لايثبت ما يخالف المعقول إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعًا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول وهو لايتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه وتلخيص النكتة أن يقال إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبت مالم تعقله فهل هذه حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله بل يجوز وجود الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرًا وهذا لايقوله عاقل وإن قال ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه لم يكن ذلك نافعًا لك في محا النزاع لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبته بفطرته وهذا لم يدل على إحالة ما يعلم امتناعه بالعقل كما سلمته ولا بالحس لأنك لم تذكره(2/277)
ثم يقال كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كزننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان فكذلك ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان وأكثر ما في ذلك عدم نظيرٍ فيما شهدناه ومجرد عدم النظير لايكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل فلم يقل احد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لايجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له وهذا كما أنا لم نشهد شيئًا إلا وله خالق ثم لايجب أن يكون للخالق خالق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة عن أبي هريرة ورواه(2/278)
أبو داود في الرد على الجهمية من سننه ورواه النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لايزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من(2/279)
ذلك شيء فليقل آمنت بالله وهو أيضًا فيهما عن عروة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم الشيطان فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ورواه مسلم من حديث محمد(2/280)
ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لايزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال وهو آخذ بيد رجل يعني قد سأله فقال صدق الله ورسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث أو قال سألني واحد وهذا الثاني ورواه أيضًا أبو داود والنسائي من طريق آخر وفيه فإذا قالوا ذلك فقولوا الله أحد الله الصمد(2/281)
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا ويقال له الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك إذا لم نشهد زمانًا غير مقدار الحركة أو مايقرب من ذلك لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرًا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات والحركة والزمان متقاربان في الوجود والحركة متقدمة على الزمان بالذات وإذا كان كل منهما مقارنًا للآخر لاينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث بل هذا الثاني أقرب لأن افتقار المعلول إلى العلة والمشروط إلى الشرط والمسبب إلى السبب اظهر من الأول يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار كما يراد بالمكان السموات والأرض وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم(2/282)
الرازي في كتابه هذا كما ذكر ذلك حيث قال الحجة الحادية عشر قوله قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ [الأنعام 12] قال وهذا يشعر بأن المكان وكل مافيه ملك لله تعالى وقوله تعالى وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام 13] وذلك يدل على أن الزمان وكل مافيه ملك لله تعالى ومجموع الآيتين يدل على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان قال وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصبهاني في(2/283)
تفسيره واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرًّا شريفًا وحكمة عالية يشير إلى أنه سببه كما تقدم قلت وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ {1} [الأنعام 1] وقد قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} [آل عمران 190] ونحو ذلك في القرآن ومعلوم أن النهار تابع للشمس وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجوديًّا عرضيًّا كما يقوله قوم أو أجسام سود كما يقوله بعضهم فالله جاعل ذلك كله وهو سبحانه وتعالى كما قال عبد الله بن مسعود إن ربكم(2/284)
ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وقد جاء في قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً {62} [مريم 62] أن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورًا من بعض إذ ليس عندهم ظلمة وهذه الأنوار المخلوقة كلها(2/285)
خلقها الله تعالى فقول القائل بعد هذا لانعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان مثل أن يقال أنا لم أعقل حدوث شيء إلا في ليل أو نهار ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار ولم نعقل شيئًا إلا في السموات والأرض ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ولا نهار فهو يشهد أيضًا(2/286)
حدوث الليل والنهار من غير ليل ونهار وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال هذا قبل هذا بكذا وكذا وهذا بعد هذا بكذا وكذا فيكون المراد به تقدير مابين الحوادث بحوادث أخر وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر زيادة احد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات أمرًا موجودًا في الخارج لجوهر قائم بنفسه أو عرض قائم فيها وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك والعدد لها كالحيز لها كما سنذكره إن شاء الله تعالى وكذلك الوقت لها ولهذا يفرق بين الوقت والعدد كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد أي ليس له وقت مخصوص(2/287)
ولا عدد مخصوص كالصلاة وغيرها وهذا موضع تغلط فيه الأذهان حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقائق الموجودة في الخارج كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميزة بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها وليست هذه الأمور جواهر وأعراضًا منفصلة عن تلك الحقائق بل هي تارة نسب بينها وبين غيرها إنما تعقل باعتبار الغيرين ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور هل هي أمور وجودية أو عدمية وبكل حال فقول القائل إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله كل عدد يفتقر إلى عدد وقوله كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضًا قول القائل ثم حكمنا(2/288)
بأن الزمان حدث لا في زمان أضعف من قول القائل حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له وليست مفتقرة إلى حركة أخرى فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأغنى عن الزمان من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعًا من السخف والهذيان فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل وهذا السؤال من آخر مايورده ويسأل عنه الشيطان لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان قال وثالثها أنا لانعلم فاعلاً يفعل بعد ما لم يكن فاعلاً إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك يقال هذه الوجوه التي أوردها هنا هي من حجج الدهرية إما القائلين بقدم العالم وإما المنكرين للصانع(2/289)
حيث يحتجون بها على امتناع إبداع كل شيء بعد العدم ويوجبون قدم مادة وكذلك يوجبون قدم مدة وكذلك يقولون يمتنع حدوث الفعل بدون حدوث قدرة ولا إرادة ولا علم ولا غير ذلك من أسباب الفعل وهذه حجج الدهرية المتفلسفة المشائين المنتسبين إلى معلمهم الأول أرسطو وإن كان من معظميه من يزعم أنه لم يكن قائلاً بقدم العالم ولكن تكلم بكلام مجمل في ذلك كما زعمه بعض الفلاسفة اليهود فيما جمعه وألفه بين فلسفته وبين الملة التي بعث الله بها الرسل فالمقصود هنا أن نعرف أصل هذا الكلام ونعلم أن(2/290)
هذا الرازي وإن أورده هنا من جهة أصحابه المسلمين الموافقين على حدوث العالم في احتجاجهم على إخوان لهم مسلمين في مسائل الصفات فإن هذه الحجج هو دائمًا يذكرها في معارضة حجج المسلمين وسائر أهل الملل على نفي قدم العالم فتارة يظهر منه التحير وتكافؤ الأدلة وتقابل الطائفتين بمنزلة المنافق المذبذب الذي لا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وتارة ينصر المسلمين بما يصلح من الجدل ويكثر مما لا يصلح وتارة يؤيد أقوال أولئك المشركين الصابئين المبدليين تأييد عاجز عنهم أو معاون لهم أو معترض عليهم بحق أو بباطل ونحن في هذا المقام الذي غرضه أن يقرر ثبوت ما يعلم امتناعه بالبديهة ويزعم أن هذا من حكم الحس والخيال المردود واحتجاجه بما ذكره من أفعال الله تعالى نجيب عنه بأن نبين أنا شهدنا من أفعال الله تعالى ماهو نظير مالم نشهده أو أبلغ منه وأن ماتعجب منه هو مثل ما شهدناه أو دونه وبأن(2/291)
نبين أنه إذا ثبت من أفعال الله تعالى ما لم نشهد نظيره فلا محذور في ذلك فإن ثبوت ما لا نعلم له نظيرًا ليس بمحذور في حس ولا عقل وبأن نبين أن الحس والعقل في ذلك سواء فلا يثبت ما يعلم بهما عدمه ويثبت ما لم يعلم بهما نظيره وقد ذكرنا ذلك في المادة والمدة ونصوص المسلمين وسائر أهل الملل ومعارضتهم لهؤلاء الدهرية كثيرة حسنة لكن ليس هذا موضعها وكذلك ما ذكروه في الفاعل وهي حجة ابن سينا أفضل متأخري هؤلاء الدهرية فإنها هي التي اعتمدها حيث زعم أن الذات الواحدة لايصدر عنها شيء بعد أن لم يكن صادرًا إلا بحدوث أمر من الأمور والكلام في ذلك الأمر كالكلام في(2/292)
الأول فيمتنع الحدوث فيجب القدم ثم ذكر في كيفية صدور(2/293)
العالم بصدور العقل ثم العقل والنفس والفلك من الكلام ما لا يرتضيه أسخف الناس عقلاً ولايستحسن أحد أن يستعمله إلا في المضاحك والهزليات دون ما هو من أعظم الأمور الإلهيات وذكروا لهم مااختص به العالم من المقادير والصفات وغير ذلك وما الموجب لتخصيصه بذلك دون غيرها إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه إذ الغرض جواب ما ذكره الرازي وهو من نمط الذي قبله أيضًا بوجوه أحدها أن غاية مايذكره إثبات فاعل ليس له نظير وهذا لانزاع فيه وليس ذلك ممتنعًا لا في حس ولا خيال ولا عقل حتى يكون نظيرًا لمورد النزاع وكون ذلك على خلاف حكم الحس والخيال هو مثل كونه على خلاف حكم العقل والقياس الوجه الثاني أن الانتهاء إلى فاعل لا فاعل له مما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية كما يعلم بالفطرة والضرورة العقلية امتناع حدوث فعل بلا فاعل وكما قالوه في امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإذا كان هذا مما يعلم بالضرورة الفطرية كيف يُجعل معارضًا أيضًا لما يعلم بالضرورة الفطرية(2/294)
فالفطرة الضرورية تعلم امتناع أن يكون لكل فاعل فاعلاً وامتناع أن يكون الفعل بلا فاعل وأن يكون الفاعل لا داخل المفعول القائم بنفسه ولا خارجه وإذا كان كذلك فتمثيل الفاعل الذي لا فاعل له بالفاعل الذي له فاعل ممتنع أيضًا في الفطرة الضرورية الوجه الثالث أن قوله لم نشهد فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً إلا تغير حالة وتبدل صفة إن أراد به استحالته من حال إلى حال بحيث أن ذاته تستحيل فليس الأمر كذلك فإن الشمس والقمر والكواكب كل في فلك يسبحون ومع هذا لم يتغير حالها ولم تتبدل صفاتها وإن عنى به أن نفس الحركة هو تغير وتبدل كما يقوله من يقول من المتكلمين كان المعنى لم نشهد فاعلاً إلا متحركًا متحولاً إما حركة روحانية وإما حركة جسمانية فقوله بعد ذلك ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى وتقدس خالق العالم من غير شيء من ذلك مما ينازعه فيه خصومه هنا وغير خصومه فإن المتكلمين يسمون هذه مسألة حلول الحوادث بذاته وقد علم أن مذهب الكرامية القول(2/295)
بها وهم خصومه في هذه المسألة وقد ذكر في أعظم كتبه نهاية العقول أنه ليس في هذه المسألة دليل عقلي على النفي فلا يمكنه أن يقيم عليهم فيها دليلاً عقليًّا وغاية ما اعتصم فيها بما ادعاه من الإجماع على أنه سبحانه وتعالى غير موصوف بالنقائص وأن الحادث إن كان صفة كمال فقد كان قبل ذلك ناقصًا وإن لم يكن صفة كمال فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال وقد تكلمنا على ماذكر في غير هذا الموضع وإذا لم يكن في ذلك دليل عقلي لم يصح أن يكون ذلك معارضًا لما يقول المنازع أنه معلوم بالفطرة الضرورية ومن أعجب العجب قوله عن المشبهة وهم عنده الكرامية والحنابلة أنهم وافقوه على ماادعاه من أن معرفة(2/296)
أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء في ذاته وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار الكرامية وأنهم متفقون على ذلك وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة وقد وافقونا على أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث بل قول أئمة أهل الحديث وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة وأئمتها وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم وفيهم من الطوائف الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية من لايحصي عدده إلا الله تعالى وقد ذكر هو في غير موضع من كتبه أن القول بحلول الحوادث يلزم كل الطوائف حتى المعتزلة والفلاسفة وذكر ذلك عن(2/297)
أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرًا وأنه قال إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك(2/298)
فإن قال قائل الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره وخالق العالم لا محدث لفعله غلا هو فهذا هو الفرق قيل هذا حق كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق ولهذا كان السؤال عمن خلق الله منتهى مسائل الشيطان التي يضل بها الإنسان مع ظهور فسادها بالبرهان والرازي لم يستدل بكونه فاعلاً لما لم يفعله من غير محرك من خارج وإنما استدل بكونه فاعلاً من غير فعل في نفسه وهذا هو الذي ينازعونه فيه وهو لو استدل بالأول لم يصح لأنها هي مسألة وجود الصانع نفسه وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال ليس مقصوده أن نفسه ثابتة على خلاف الحس والخيال قال الرازي ورابعها أنا لانعقل فاعلاً يفعل فعلاً إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة ثم اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم(2/299)
لغير شيء من هذا والكلام عليه من نمط الذي قبله وإن كان هذا السؤال هو ببحوث القدرية والمعتزلة أخص كما أن الذي قبله ببحوث الفلاسفة والدهرية أخص وذلك من وجوه أحدها أن غاية هذا ثبوت ما لا نظير له وليس ذلك ممتنعًا كما تقدم ولا فرق في ذلك بين حكم الحس والخيال وحكم العقل كما تقدم غير مرة الثاني أنه هو خالق كل شيء ومن أجلب لنفسه منفعة من غيره أو نفع عن نفسه مضرة من غيره كان محتاجًا إلى ذلك وهذه حال الفقر إلى غيره فما دل على أنه رب العالمين دل على غناه عن غيره وبذلك أخبر عن نفسه كما قال يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني(2/300)
وتمام الكلام كما بيناه قبل الوجه الثالث أن يقال ماتعني بقولك إنا لانعقل فاعلاً يفعل فعلاً إلا لجلب منفعة أو لدفع مضرة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا أتريد أنه سبحانه منزه عن نعوت المخلوقين الناقصين المحتاجين إلى غيرهم في اجتلاب منافعهم ودفع مضارهم كما يوجد أن الحي من الإنسان وغيره يطلب ما ينفعه ويلائمه من غيره ويدفع ما يخاف عليه من الضرر من نفسه ومن غيره فهذا حق فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إليهم بل هو الأحد الصمد الحي القيوم وهو سبحانه لايخاف ضرر شيء لا من نفسه ولا من غيره بل العباد عاجزون عن أن يلحقوا به ضررًا أو نفعًا قال تعالى في الحديث الصحيح الذي رواه رسوله صلى الله عليه وسلم يا عبادي إنكم لن(2/301)
تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني أو تريد أنه سبحانه وتعالى لايحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لك ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح أو تريد أنه لايحدث له في هذه الأمور مالم يكن قبل ذلك فهذا هو الوجه الأول وقد تقدم الكلام عليه ثم قال الرازي وأما تقرير هذا المعنى في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لانعقل ذاتًا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة(2/302)
فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات أمرًا على خلاف مقتضى الوهم والخيال والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلاً له وأنا لانستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى هذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدًا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لايظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما تعلمونه وتقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر إن علم الله تعالى مثل علمنا ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم(2/303)
والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله في نفوسنا وهذا لا ريب فيه وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثل مانعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلاً عن أن يكون مثل ما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثل ما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيًا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيًا لما نحسه ويقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ماذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال الوجه الرابع أن كل ما وصف به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بين ما يظن انه معقول معلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل(2/304)
الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتًا لاينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدًا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى من ذلك بل فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعًا من اعتقاده ثبوت ذلك لغيره مع كونه مجانسًا له مساويًا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعًا من(2/305)
اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز وجل بطريق الأولى والأحرى ولا يكون ذلك معتقدًا ما يخالف محسوسه ولا معقوله الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المعضلة في زمن واحد ما لايقدر هو عليه كان ذلك دليلاً عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفًا بالعلم بمعلومات معضلة لايقدر العبد عليها الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لايشغله شأن عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك بأن يكون معتقدًا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزًا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره(2/306)
قال الرازي وثانيها أنا نرى أن كل من فعل فعلاً فلابد له من آلة وأداة وأن الأفعال الشاقة تكون سببًا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع انه منزه عن المشقة واللغوب والكلال يقال له لاريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة 255] أي لايكرثه ولا يثقل عليه وقال في كتابه وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ {38} [ق 38] وقد ذُكر أنها نزلت لما قال من قال من اليهود إن الله خلق السموات والأرض ثم استراح يوم السبت فأخبر الله أنه ما مسه من لغوب واللغوب الإعياء وإنما يستريح من(2/307)
أعيا ومنه قول أبي قتادة في حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ(2/309)
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {35} [فاطر 34 , 35] وهذا مما لايتنازع فيه المسلمون وإذا كان كذلك فالكلام على ماذكرته من وجوه أحدها أن هذا بيان أن قدرة الله تعالى كاملة تامة لانقص فيها ليست مثل قدرة العباد كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا الثاني أن هذا يُشبه هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف(2/310)
حكم العقل والعلم الثالث أن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى بثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم لا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لابالقياس ولا بعدم النظير الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك الخامس أن قوى بني آدم في العقل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعًا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعًا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعًا لا في حسه ولا في(2/311)
خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى كذلك يقال له لاريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وإنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة 1] وفي(2/312)
الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع مانقول فقال الآخر يسمع إن أعلنا ولايسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئًا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا(2/313)
تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ {23} [فصلت 22 ¸23] لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لاينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق(2/314)
لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضًا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لايقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك وأيضًا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك للم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فُرض اعتقاد فاسد ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه وأيضًا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه(2/315)
ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتًا بالفطرة الضرورية كما تقدم قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة كنه الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما في معرفة الذات كان ذلك أولى وأحرى فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه(2/316)
والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولاً لم يجب أن يكون هذا معقولاً الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا الرابع أن جميع ماذكره إنما يدل على ثبوت ما لا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح والتخيل الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه(2/317)
معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من الأمور التي يسمونها عقليات وهي جهليات السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلومًا بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لايقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لاينفي ما لم يكن مثاله موجودًا فيه بل غاية ماذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لاينفي ما لا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتًا لما لا نظير له فيما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك تمام(2/318)
المطلوب فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلومًا بالضرورة وقد تقدم أن ما اعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أن ما يعلم امتناعه بالضرورة أو النظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم(2/319)
فصل ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك بل وقالوا إن مايقول النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ماادعى امتناعه بالنظر وامتناع ماادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود أو أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون إلا قائمًا بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالاً وشبحًا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزًا وتجسمًا ونحو ذلك ونعلم بالضرورة والفطرة أن ما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدومًا كما نعلم(2/320)
بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وإن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبًا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزمًا له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزمًا للمميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصًّا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابتًا لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخر إذ لابد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفًا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما للآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العلماء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده(2/321)
على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لاشيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لايثبتون شيئًا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم(2/322)
من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لاتثبتون شيئًا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولاً أن ما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيًا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قال قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولاً عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئًا وذكر ثانيًا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئًا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لايعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف(2/323)
بصفة تميزه من غيره لم يكن معلومًا فلا يكون معبودًا فهنا ذكر أن لابد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولاً أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدومًا بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابهًا للمخلوقات مماثلاً لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدًا أحدًا هو أيضًا واجب فتكلموا أيضًا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ماهو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضًا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم(2/324)
فصل ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية لامتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت ضده بالكتاب والسنة وبالإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق(2/325)
والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية ويعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقًّا وتارة باطلاً وهذا متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كل ما لم يحسه مماثلاً لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه ما لا يعلمه أو مايعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ماشهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع(2/326)
والمحسوس ابتداءً هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عنة حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسًا واحدًا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعًا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو اخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضًا جنسًا أو صنفًا أو نوعًا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن(2/327)
البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات(2/328)
وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسًا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا بالجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهًا قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مجسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله(2/329)
تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لايُرى له وجه ولايُسْمَعُ له صوت ولا تُشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] ولاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف(2/330)
الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلهه معروفًا ببعض حواسه الخمس وأن ما لا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أن ما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لايعرفه وهذا تغليط منهم فظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لايعرف شيئًا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضًا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضًا ولو كانوا هم لايقرون إلا بما(2/331)
أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس وقياس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لايمكن أن يحتج بقول الأنبياء على كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لايقبلون القياس في المحسوس لكانوا لايقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء ر يعرف حكمه من جهة النظير بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودًا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس لايقولون الإنسان المعين لايعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضًا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لايتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ(2/332)
مبلغ التواتر لايتفقون على إنكار ما يعلم بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب أن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به طوائف العقلاء أن يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لايتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطؤ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطؤ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما قد يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض فهو وإن كان ظلومًا جهولاً فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدًا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لايعيشون بدونه لايتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبًا وأمًّا وأخًا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه(2/333)
لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لابد من الاعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لابد أن يعرفوا أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وان أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا بد أن أحدهم يستعين بالآخر على جلب منفعة ودفع مضرة فيأتيه فيصلح له طعامًا وشرابًا أو لباسًا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعاتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضًا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أتى به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم(2/334)
لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحسيات وهذه الأفعال ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إن ما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل ما لا يعرفه هذا الجنس المعنى لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدًّا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمون هذا أحد أنواع السفسطة(2/335)
ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية(2/336)
والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلاً يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبًا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لايتصور ولكن وقع الاشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن صوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمسة أنواع(2/337)
برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومغلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه الحق وتوهم أنها حق وهي باطلة قطعًا لايجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس بها فإن الشعرية قد تتأثر النفس بها كما يتأثر الإنسان بأقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخييل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم انها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب ما لا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتًا قوم يقبلونها وقوم يحكون مافيها وقوم يعرضون(2/338)
ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضمومًا إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح في الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرها ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والعدل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها(2/339)
فإن كل أمة من أهل الكتب في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال تعالى وتقدس كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعبرون باللفظة المعربة من سوفسقيا إلى سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم(2/340)
فكل من جحد حقًّا معلومًا وموّه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرًّا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل 14] فهؤلاء سوفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ {33} [الأنعام 33] ولهذا كان جمهور من يكذب بالحق الذي بعث الله به رسله من ذوي التمييز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائيين فهكذا ماذكروه عن السمنية إنما كان اصل قولهم إن الموجود لابد أن يمكن أن يكون محسوسًا بإحدى الحواس لا أنه لابد لمن أقر به أن يحس به وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الإثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يُرى متفقين على أن ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدومًا لا موجودًا(2/341)
فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لابد أن أحس بإلهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم انه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لابد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو احد الحواس وقد رآه بعضهم أيضًا عند كثير من أهل الإثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه(2/342)
لابد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنة الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب(2/343)
فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبد الله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لايمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفوس الناطقة فجهم أول هؤلاء(2/344)
ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى أنه حال في المسيح إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطربون كل منهم يستعمله فيما يثبته وينكره فيما ينفيه وإن ذلك فيما ينفيه أولى منه فيما يثبته ويرد على منازعه مااستعمله من ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضًا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم والحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم(2/345)
في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب ما لايحصيه إلا رب الأرباب وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترئون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام(2/346)
والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا وهم مع هذا كثيرو البراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوًا وندًّا وسميًّا(2/347)
كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات(2/348)
وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكل ماثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى بأن يكون هو موصوفًا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله غيره فغن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ماكان منتفيًا عن المخلوق لكونه نقصًا وعيبًا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع(2/349)
وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحقَّ بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحقَّ بالتنزيه منها لأنه عن العدم ابعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبتت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل العلى كان ذلك اعتبارًا صحيحًا وكذلك إذا نفى عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطرق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية فاستعملوا مثل هذا فيما أثبتوه لله تعالى وفيما نفوه عنه وفيما ردوه من قول الجهمية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائمًا بنفسه(2/350)
أو موصوفًا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به ألا يكون بحيث يكون غيره وأن لايكون معدومًا بل ما أوجب أن يكون قائمًا بنفسه مباينًا لغيره وأمثال ذلك من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد جَارٍ على هذا الصراط المستقيم فكلما كان اقرب إلى الموجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودًا ومنه قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [المائدة 6] وقوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] وقوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} [الضحى 6 , 7] وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يجده الواجد فنسبة الموجود إلى الواجد كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس أو المحسوس إلى الحس والمشهود إلى الشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودًا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه(2/351)
الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وكثيرًا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد وكذلك لفظ الوجود يريدون به تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون به تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وُجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعروا فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن عزوف هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وغن كان المعنى الآخر لازمًا له وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمهما فكما أن كل ماوجده واجد فله(2/352)
حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالمًا وحيًّا وقادرًا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرًا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يامقصود ياموجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده ومن طلب الله صادقًا وجده وعلى هذا دل قوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ لكنه عدّاه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو انه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو ولا يستعمل لفظ موجوده ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان(2/353)
ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد(2/354)
وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فما لا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع أن يجده الواجد لم يكن موجودًا بل كان معدومًا كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لاينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدًا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه وفطنته وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرأت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفًا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفًا وهذا متفق عليه بين(2/355)
الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلاً مطلقًا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليًّا مطلقًا بل لا يكون إلا مخصوصًا معينًا وإذا كان كذلك فلا يُعنى بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا(2/356)
الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وغما متحيز وإما قائم بمتحيز وحي وقادر ونحو ذلك وبمثل ما علمنا هذا نعلم أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورًا تامًّا حصل له حينئذ العلم البديهي الضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيًا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرًا ما يكون لعدم التصور(2/357)
الصحيح للطرفين وهذه العبارات المجملة قد لايتصور أكثر الناس مراد أهل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناه ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تتميز بها لزم أن يكون جسمًا متحيزًا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيمًا وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء(2/358)
يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضًا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كانوا عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقًا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لايحصل إلا بالرياضة والمجاهدة(2/359)
والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني ألا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك ما يثبته كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر المؤمنين عند التنازع فِي ظُلُمَاتٍ ولَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} وقال فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} [الحج 46] كما قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج 46] ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لايعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد(2/360)
يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة ما لا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين مايقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين ما لا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ماتعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعًا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخبر عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة(2/361)
فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر هذا بينت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفًا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم من الجموع الكثيرة بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببدائه العقول وما كان كذلك فإذا ادعى المدعي أنه عرفه كشفًا وشهودًا وذوقًا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرًا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن انه الخالق وغنما هو مخلوق ليس هو(2/362)
الخالق فكل شهود وذوق وكشف يُدّعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال ذاته هو وجوده وبسط الكلام في هذا له موضع آخر فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار بثبوت ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله(2/363)
لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودًا مطلقًا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عمّن سواه ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودًا معينًا مخصوصًا قائمًا بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون انه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل احد ما هو قائم بنفسه إلا مايقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائمًا بنفسه ولا قائمًا بغيره وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه(2/364)
لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجد المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرًا عدميًّا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز وهو المعلوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئًا قائمًا بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا أنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعًا له ولا مفارقًا له ولا قريبًا منه ولا بعيدًا عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا مماسًا له ولا محايثًا له وأنه لايشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكمًا بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا أنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول(2/365)
وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئًا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفًا سلبيًّا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه(2/366)
متحيزًا أو مجسمًا قال له منازعه أولاً هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت وقالوا ثانيًا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلنا الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلوب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أنه لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت وقالوا ثالثًا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم وقالوا رابعًا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث يكون هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل(2/367)
قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجسامًا كاللون والطعن والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجسامًا فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد إنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كل من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية والمتكلمون قد ذكروا تعليل منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقالت المعتزلة وطائفة من(2/368)
الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع والتحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزًا لا يكون مانعًا مما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونيهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم أن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزًا لا تعقل فيه هذه الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائمًا بنفسه أن لا يكون مانعًا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعًا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائمًا لنفسه إلا المتحيز الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا جوهرًا أو جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا متحيزًا أو(2/369)
قائمًا بمتحيز أو لايكون إلا موصوفًا أو صفة أو لا يكون إلا قائمًا بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب أو القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقًا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعًا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعًا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم(2/370)
ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في تقسيم الموجودات الموجود إما أن يكون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل قال وهذه القسمة أيضًا تستند إلى نفي وإثبات قال ول قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدًا غير أن الوجود الأول لابدء له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضًا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودًا وحكمًا فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ماهو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو(2/371)
ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدًا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلاً على مايقتضي وجوده إذا الشيء لا يكون دليلاً على نفسه إذا كان مطلوبًا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلاً على وجود الشيء قبل العلم بوجوده وأيضًا فقوله لاتتطرق إليه الأوهام ولاتجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تُقِرُّ به فهذا باطل وأيضًا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولاً في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لاافتتاح لوجوده وهو القديم سبحانه(2/372)
وصفاته وموجود لوجود افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل وغير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديمًا كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلاًّ بنفسه غنيًّا عن المحل امتنع أن يكون قديمًا وحده أو واجبًا بنفسه كما أنه إذا لم يكن موجودًا امتنع أن يكون واجبًا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديمًا وحده أو لم يكن واجبًا بنفسه لا يمتنع أن يكون مستقلاًّ أو موجودًا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات وأيضًا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدء له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم(2/373)
وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وصفاته إن صح ذلك لا يكون مانعًا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقل الذي لاتحويه المكنة ثم قال هؤلاء ثم المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشتمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضًا لا في محل كالإرادة والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت ما لا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائمًا بنفسه ليس مباينًا لغيره فإن علم العقل باستحالة(2/374)
عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين لغيره أو ليس بجسم فإنه كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل وكذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جِرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحيثية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير احد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائمًا بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وانه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغًا وما هذا وصفه يسمى(2/375)
جوهرًا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لايمتنع حصولهما في محل واحد وحيثٍ واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقًا ويقال فيه مطلقًا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديمًا أو محدثًا بل ضبط الذكر حسًّا أو حكمًا لهذين القسمين هو للموجود مطلقًا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولاً في هذا التقسيم فهو مقبولاً مطلقًا وإن لم يكن مقبولاً فليس مقبولاً مطلقًا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من أفاضل زماننا من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر(2/376)
تناقضًا الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لابد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم به أنه لابد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلابدله من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذاك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليًّا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة(2/377)
ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائمًا بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز وجل حدًّا لا يعلمه إلا هو فهم دائمًا ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لاينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفه وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم(2/378)
أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيًّا عالمًا قادرًا قال فهذا قول مبهم لابيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي(2/379)
وهذا أيضًا فيه إبهام لأنه يلقى من صفة النفي إثباتًا قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها(2/380)
العقول ولا هي علم جهمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فغنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلاً وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وانه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية فصل قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها(2/381)
ثم قال هذا الرجل لله عز وجل مائية لا يعلمنا في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لايصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رائي نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الحاسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان الشيء إذا أدركه وقد يراد به الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبنية المخالفة لبقية الحواس شاهدًا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بنية وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا انه مخالف لها لمخالفة متعلقة متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسًا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدًا عن(2/382)
الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية وبشرط بنية سادسة وصرف الحاسة إلى البنية والتأليف دون الإدراك قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها العضو المدرك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البنية والتأليف ويجوز أن يراد به القوة ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسًا من الرؤية مخالفًا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار على إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه(2/383)
من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسية وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص صفاته وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في عبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعلمها أحد إلا الله قال وقد(2/384)
قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقدس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدًّا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدًّا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالهيئة وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه نعوت الجلال وذكر(2/385)
الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فغن عنوا بالمائية ما أشار إليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعًا لجنس ولا جنسًا لنوع بل هو الأحد الصمد(2/386)
قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطئة والمشككة كما في اسم(2/387)
الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لابد منه باتفاق أهل الإثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزمًا للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة إلا وله قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول(2/388)
السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات(2/389)
فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لابد له من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون تلك الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وأن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدرته وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضًا(2/390)
فإذا علم بصريح العقل أنه لابد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودًا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية ولذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه والتحقيق انه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم ٍالتزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين الكاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى(2/391)
الوجه الثامن أنه قد أثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يُرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانًا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر(2/392)
الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف(2/393)
كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولون لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسمًا متحيزًا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت هي أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الإثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلاً قال الخلال في كتاب السنة أخبرني(2/394)
حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئًا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبد الله يقول(2/395)
القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبد الله يقول قالت الجهمية إن الله لا يُرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يُرى لقول الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22 , 23] وقال تعالى لموسى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله تعالى أنه يُرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال(2/396)
كلكم يخلو به ربه وإن الله يضع كنفه على عبده فيسأله(2/397)
ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة(2/398)
عن الله تعالى انه يُرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يُرى يوم القيامة وقول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} [طه 7] وقال إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال أبو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانًا مبينًا وسمعت أبا عبد الله يقول من قال إن الله لا يُرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروي عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبد الله يقول صارت محبتهم كفرًا صراحًا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يُرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب(2/399)
وعن حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إن الله لايُرى في الدنيا ويُرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لاتضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية(2/400)
الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلاً كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربًّا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] قال وليس على معنى قول المشبهة فقوله ترون ربكم تعلمون أن لكم ربًّا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة ويس ذلك من جهة العيان فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعًا إسناد(2/401)
واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالاً فأخبر أنه رؤية العيان نصًّا كما تُوهّم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم المقرون بحديثه المعقول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل أليس قد أقررت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع مافيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن(2/402)
المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولا يعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرًا ومصيره النار أبدًا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة بما يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة أو لم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ {12} [السجدة 12] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام 30] فقد أخبر تعالى الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى وقد(2/403)
علموا من قبل أن سألوه أن الله ربهم لايعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا [الأنعام 158] يقال في تفسيره إنه طلوع الشمس من مغربها فإذا(2/404)
لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك وأما إدخالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرًا وعبَّره تعبيرًا ففسر الأمرين جميعًا تفسيرًا شافيًا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا فقال نور أنى أراه حدثنا(2/405)
الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معنى(2/406)
قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنيين على خلاف ما ادعيت والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبه هؤلاء المشبهون في دعواك وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً [النساء 153] أخذتهم الصاعقة وقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] فأخذتهم الصاعقة وقالوا أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً {21}(2/407)
[الفرقان 21] فادعيت أن الله تعالىا أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله تعالى وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافًا فقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا وقد سبق من الله القول بأنه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] أبصار أهل الدنيا فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لاتضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل(2/408)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22, 23] وقال للكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين 15] إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرًا في صدر هذا الكتاب أيضًا فالتمسوها هناك وأعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وضلال تأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى(2/409)
وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين(2/410)
ومثل حديث صهيب في قوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26](2/411)
وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في(2/412)
صحيح مسلم وحديث ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع(2/413)
وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن(2/414)
بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث(2/415)
أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه(2/416)
أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثًا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمسانيد(2/417)
وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي(2/418)
موسى وابن أبي(2/419)
ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة(2/420)
أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضًا النظر إليه عن(2/421)
عمار وانس والضحاك وعكرمة(2/422)
وكعب وعمر بن عبد العزيز والذي تركه من ذلك أكثر(2/423)
مما رواه ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه من مشايخنا ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يروونها ويؤمنون بها لايستنكرونها ولا ينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم(2/424)
القيامة حتى ما يعدلون به شيئًا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلامًا طويلاً في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال وقال بعضهم إنا لانقبل هذه الآثار ولانحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولاأثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لايستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار والأسانيد على مافيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك(2/425)
والنهج الذي درك عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجًا بها واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدي في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي بها القوم لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على(2/426)
ماتروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء محدود موصوف عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نَعْدُ ولكن الله تبارك وتعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {53} [المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما(2/427)
هم عليه والمجهول عندهم ماخالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكن تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ماخالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بيّن في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن نرد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيضين بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ماخالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعمكم فأنى تهتدون قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها(2/428)
مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ماهو معلوم بالمعقول أنه من قال غنه لا يمكن رؤيته فقد لزم أن يعطله ويجعله معدومًا لأنه إذا كان موجودًا جازت رؤيته ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن بن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلزموا ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسئلة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرير الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول(2/429)
معلوم أن الرؤية تتعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لايسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرًا وجوديًّا محضًا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون موجودًا محضًا أو متضمنًا أمرًا عدميًّا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببًا له ولا يكون شرطًا أو جزءًا من السبب إلا أن يتضمن وجودًا فكيف ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلاً عليه ومستلزمًا له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقول ذلك في قياس الدلالة(2/430)
ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لايقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود ولايقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعًا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بين ما تجوز رؤيته وبين ما لاتجوز إما أن يكون وجودًا محضًا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أوبالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحقّ بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لانستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما(2/431)
لايطيق الخفاش أن يراها لا لامتناع رؤيتها بل لضعف بصره وعجزه كما قد لايستطاع سماع الأصوات العظيمة جدًّا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون ذلك المر مما يمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت في الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وغيره بان الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ماعجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له موضع آخر وإنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بدائه العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ترون ربكم كما(2/432)
ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورًا في الدنيا وغنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بدائه العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون مااتفق أهل العقول على أنه من(2/433)
الممتنع في بدائه العقول بل يقولون إن المعلوم ببدائه العقول أنه لايرى إلا ماهو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائمًا بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن ما لا يكون متحيزًا ولا حالاً في متحيز لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي(2/434)
حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع والمعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لافوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم تمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه(2/435)
وهذا أيضًا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد بن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضًا إلى وضع قول في موافقة الحكم للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقى علينا من هذا الجزء ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا(2/436)
الجزء أعني في الجزء المتقدم يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية وقال فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] ولذلك أنكرها المعتزلة وردّت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث(2/437)
أنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في(2/438)
دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزًا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضًا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون(2/439)
المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الأبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم المناظر والهندسة وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطًا في وجود العالم وإن كلن كذلك قلنا لهم وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب منها بالشاهد على أصلكم وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بـ الاقتصاد أن(2/440)
يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك انه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال منه هو في جهة إذا كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة(2/441)
وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو أن يرى من جهة انه متلون أو من جهة انه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي ما هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي الجسم قالوا وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل(2/442)
المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذاك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعًا كما ليس يمكن(2/443)
أن يعود اللون صوتًا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يُسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلابد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا أنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرًا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعًا فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معًا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسب يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة(2/444)
وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وهي هذه الطريقة وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات فإذاً الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما(2/445)
أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه ولكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدًا فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيًّا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشوء على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل(2/446)
الهجينة التي هي ضحكة عند من عني بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودًا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لايليق أيضًا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرّب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لايجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من(2/447)
ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب لهم المثال به إذ كان النور هو اشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني أن تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذاً متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل إنه نور وإن له حجابًا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا في حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفّروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل(2/448)
وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضربت مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفًا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعًا واحدًا في(2/449)
التعليم فهو كمن جعلهم شرعًا واحدًا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وأن ما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال(2/450)
مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا قد لايعلمون أن ذلك نفاقًا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان لذلك وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم كما يرى نحوًا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم انه لايمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولونه إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر عليه دليل حجة وقد بين فيما تقدم أنه لاحجة له على أصل(2/451)
ذلك وهو نفي كونه جسمًا إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد مااحتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة وأيضًا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يُسلك في ذلك ما ذكره من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك الضعيفة إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها(2/452)
لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شُرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزًا وقائمًا بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب ونثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزًا أو حالاً في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات ما لايكون متحيزًا ولا حالاً في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية(2/453)
الوجه التاسع أن يقال قد أثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله تعالى وما اتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز وجل فوق العالم وثبت أيضًا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأمل الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسمًا متحيزًا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي أن المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الملل وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفًا بهذه السلوك لأن أحدًا لم يقل ذلك من(2/454)
العقلاء لأن الفطرة والشرعة تقتضي ذلك فيها أيضًا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه(2/455)
فصل ثم قال الرازي ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى(2/456)
قال أبو عبد الله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} [المؤمنون 12] فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح بالبدن ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية تأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة قلت والكلام على هذا من وجوه(2/457)
أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة له أشبه بكلام أهل الجهل والضلالة ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ماقال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن مايروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحقيقة الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع عن هؤلاء الصابئة المبدلين(2/458)
الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئًا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتًا بنقل نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم وأما ما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه مايدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمَنَّا بِاللهِ(2/459)
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة 136] وفي سنن أبي داود عن ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماحدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلاً(2/460)
لم تصدقوه وإن كان حقًّا لم تكذبوه وروى البخاري أيضًا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزِلَ على رسوله أحدث الكتب عهدًا بالرحمن تقرؤونه محضًا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل(2/461)
عليكم وروى البخاري أيضًا عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق(2/462)
هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئًا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك الوجه أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمونه لنا بالعربية فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو(2/463)
شافهونا ولو كانـ ـوا من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المبدلين المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلاً وتغييرًا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم نقلاً مطلقًا الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابًا وضلالاً فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيُرتقى ولا سمين فينتقل(2/464)
هو قليل كثير الضلالة عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال وهذا المصَنّّف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن(2/465)
هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليب بكلام بطرس صاحب(2/466)
الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لاسبيل لهم إلى العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبد الله(2/467)
الرازي في كتابه الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه الوجه الخامس أن يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة(2/468)
أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقًا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النفي في هذا الباب اعتقادًا واجبًا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفّرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الماس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعًا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يُرد الشروع في معارفك الإلهية(2/469)
الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهم مع ذلك قد نصوا على أن روم نقل الطباع من ردي الأطماع شديد الامتناع فكيف يحدثون فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة فهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر تبديل فطرة الله التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله وشرعته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى مابدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله تعالى التي فطر عباده عليها وغيروا منها ما(2/470)
غيروا ولهذا قيل إن أرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل لهم وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ [البقرة 58] فدخلوا الباب يزحفون على(2/471)
أستاهم وقالوا حبة في شعرة وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد ابن درهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك(2/472)
عنهم وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبيلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه وظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل(2/473)
والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا كثيرًا يميلون إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن(2/474)
سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى(2/475)
البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لاتقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع فقيل يارسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك(2/476)
ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كلما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورًا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج(2/477)
والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلاً وكفرًا كفرهم من جنس كفر(2/478)
فرعون بل شر منه الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ(2/479)
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30 - 32] وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وهم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا امة واحدة كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة 213] ولهذا يوجد بين هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب اقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك ما لا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولئك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم(2/480)
والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ماهم في الحقيقة متصفون به كما قال تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر 56] وقال تعالى وتقدس فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر 83 - 85] وقال تعالى وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ {124} [الأنعام 124] وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدًّا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68} [الأحزاب 64- 68] وكان(2/481)
فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن مافيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم وكان من أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى فيه(2/482)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} إلى قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} [المدثر 11 - 19] فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله(2/483)
فصل قال أبو عبد الله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله سبحانه وتعالى وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية قلت نفي النظير والمثل الكفء والسمي ونحو ذلك عن(2/484)
الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبَيَنَّا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وانه يستلزم كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا قديمًا محدثًا خالقًا مخلوقًا واجبًا ممكنًا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقًّا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل كثيرًا مايقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرًا مايقول ماليس بحق وكثيرًا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه(2/485)
القضية العامة الكلية ولايلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لاينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات ما لانظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإنما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لايقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدًا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يُعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعًا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير(2/486)
ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقًا لعقله على وجود نظيره ويكون عاقلاً له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعًا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناع هذا لم يجوز أن يكون له في نفسه وجود فضلاً عن أن يجوّز وجود نظير له وغن كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله له إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لايعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئًا إلا شيئًا له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئًا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه يسلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه بمعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلاً على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا يقوله كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو اجل ماصنفه في الكلام في المسألة الثالثة في(2/487)
أن مخالف الحق من أهل الصلاة يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضًا فصاروا فرقًا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لاأرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل(2/488)
الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب(2/489)
المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدًا من أهل القبلة وحكى الرازي عن الكرخي(2/490)
وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرًا خلاف ماذكره في تأسيسه ومحصله من(2/491)
تكفير المجسمة دون غيرهم والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن(2/492)
يكون هو أن يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس مشبهًا لخلقه من كل الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولايجوز أن يجمعوا على تكفير من لاوجود له بل المشبه الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسمًا مخصوصًا بحيزٍ معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فلا شك في(2/493)
كفره لكن المجسمة لايقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولايلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه فهذا لايقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضًا كذلك وذلك لايوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقهم على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكهما في الوجود(2/494)
والشيئية فقوله بعد هذا لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيهًا به من كل وجه فقد ذكر أن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك وإن عنى به شبيهًا من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعًا من التشبيه فهو لم يذكر في هذه المقدمة تفصيلاً ولم يوضح سبيلاً ومن العجب انه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه(2/495)
فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لايوجد أمثالهم غلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين(2/496)
والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسئلة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى إني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلامًا يعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضًا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رأي ونزيف كل رؤية سوى مااختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك(2/497)
الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الإلزامات التي منتهى المقصود من إيرادها مجرد التعجيز والإفحام وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب التزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والاجتناب عن الحشو والإطناب وهذا كله لايعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع مباحث العقلاء من المحققين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم مافيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فإني قلما تكلمت في المبادئ والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفًا إلى(2/498)
تلخيص النهايات والغايات قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقًا للمسمى واللفظ مطابقًا للمعنى وجعلته خالصًا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من اليم عذابه وسألت الله تعالى أن يعظم لي الانتفاع به وللمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين إنه قريب مجيب فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ماذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول(2/499)
المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن غناهم متكلم بلفظ التشبيه فلا حجة على تكفيرهم وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحجج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه قوية عظيمة توافق مارجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال الفصل الثاني في أن المجسم هل يوصف بأنه مشبه أم لا قال المجسمة إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة غلا أنا نعتقد أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لايوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال في صفة الإنسان(2/500)
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2} [الإنسان 2] والثاني قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وقال في الإنسان تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة 83] والثالث قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي الإنسان ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج 10] وقال في نفسه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس 71] وفي الإنسان يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] الرابع قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال في الإنسان لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف 13] الخامس قال في صفة نفسه الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر 23] ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ [يوسف 78] وقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35](2/501)
السادس سمى نفسه بالعظيم ثم وصف العرش به فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26} [النمل 26] السابع وصف نفسه بـ الحفيظ العليم ووصف يوسف نفسه بهما فقال إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55} [يوسف 55] وقال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {101} [الصافات 101] وقال في آية أخرى بِغُلَامٍ عَلِيمٍ {28} [الذاريات 28] الثامن سمى تحيتنا سلامًا فقال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب 44] وسمى نفسه سلامًا وكان يقول صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام(2/502)
التاسع المؤمن قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات 9] ووصف نفسه تعالى به فقال السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر 23] العاشر الحكم فقال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ [الأنعام 62] ووصفنا به فقال فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا [النساء 35] الحادي عشر الراحم الرحيم وهو ظاهر(2/503)
الثاني عشر الشكور فقال إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} [فاطر 34] الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم علي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال عن نفسه وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {23} [سبأ 23] وقال إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً [يوسف 78] وقال حكاية عن المرأتين وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} [القصص 23] والخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه في كتابه به فقال تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42} [فصلت 42] السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق فَكَيْفَ إِذَا(2/504)
جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء 41] وقال في حق نفسه أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت 53] السابع عشر الحق قال الله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه 114] وقال وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء 105] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان 26] وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ [الفرقان 33] وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [الفتح 28] الثامن عشر الوكيل قال تعالى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} [الأنعام 102] وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكيل فلان التاسع عشر المولى قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ {11} [محمد 11] ثم قال تعالى في حقنا وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء 33] والنبي صلى الله عليه وسلم(2/505)
قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة 55] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ(2/506)
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} [آل عمران 2] وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] الثاني والعشرون الواحد قال تعالى قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام 19] ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون التواب قال الله تعالى إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً {16} [النساء 16] وسمى الخلق به فقال إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة 222](2/507)
الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد 38] وقال إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء [التوبة 93] وقال النبي صلى الله عليه وسلم خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور 35] وقال يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [الحديد 12](2/508)
السادس والعشرون الهادي قال تعالى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [القصص 56] وقال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {7} [الرعد 7] السابع والعشرون المستمع قال تعالى فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ {15} [الشعراء 15] وقال لموسى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} [طه 13] الثامن والعشرون القديم قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] قال واعلم أنه لانزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لاتوجب أن يكون قائله موصوفًا(2/509)
بأنه شبه الله بالخلق وبأنه مشبه ونحن لانثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأمور والصفات لأنا نعتقد أنه وإن كان جسمًا إلا أنه بخلاف سائر الجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبهة على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسمًا لزم أن يكون مثلاً لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازمًا ولما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في(2/510)
الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق قلت قد ذكر ماذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدًّا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيهًا في بعض الأمور بل هوة مماثلة في كمال الحقيقة والماهية قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلاً في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوًا وشبهًا وندًّا قال فالأشياء المشتركة في الموجودية والعالمية والقادرية لايجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين(2/511)
أو قادرين لايوجب استواءهما في حقيقتهما والغرض انه في هذا الكتاب أيضًا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلاً عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إن شاء الله تعالى مايجب الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة من بعض الأمور وأن ذلك لايستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه(2/512)
المقدمة نفي الشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولاينفعه ذلك وإن أراد به نفي الشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلاً على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لامتصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرًا قد ذكرنا أنه لايقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولايقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرًا وقد ذكر هذا الرازي أنه لايطلب أحد من العقلاء نظيرًا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلاً عن أن يكون ثابتًا لغيره وهذا المنازع له لايطلب إلا نظيرًا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلاً باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدًا فأحد الأمرين لازم إما أن لايكون قال أحد هذا القول أو يكون(2/513)
هذا القول حقًّا مسلمًا بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرًا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودًا لاداخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لايثبتون المشابهة من هذا الوجه قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لايكون داخل العالم ولاخارجه وذلك لو أثبته كان له مغنيًا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لايجب في الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما قد ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو اعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لاتستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفًا له في تلك الخصوصية وإذا لم يكن هذا(2/514)
مدفوعًا في بدائه العقول علمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لايقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضي أنه لايكون مدفوعًا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لايعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد ماذكره عدم العلم البديهي بوجود موجود لانظير له لم يعدم وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودًا ولا يكون له نظير ونعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لانظير له لكان الدليل تامًّا لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان الثاني أن الذي ادعاه أنه لايستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ماسواه مخالفًا له في تلك(2/515)
الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لاداخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلاً على أن وجود موجود لايقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلاً يخص هذا الوجه أو دليلاً يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولايلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لاداخل العالم ولاخارجه ثم قال الحجة الثانية هي أن وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود مايشابهه أو لايتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم(2/516)
فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بدائه العقول يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لايثبت لله مثلاً يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا ظاهر وإذا كان أحدًا من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ماذكره عن منازعه الذي طل التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم الوجه الثاني أنه كثيرًا مايحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولايميز بين دور التقدم والتأخر(2/517)
وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولاً له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يستلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولاً لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلول معلوله جميعًا ولايمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنًا للآخر بحيث لايوجد إلا معه كالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور(2/518)
الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطًا في وجود الآخر بحيث لايوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف المعي بحيث يكون كل منهما موجودًا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف جود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول يقال غايته أنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود مايشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لايقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بدائه العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه(2/519)
أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لايتوقف على وجود مايشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لايتوقف على النظير أنه لايجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود احدهما مستلزمًا لوجود الآخر وأيضًا فالمنازع الذي ذكرته لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت انه يمكن أن يعقل كل ماجاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث إنه(2/520)
هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بدائه العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث إنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لايوجب القول بعدم الشيء يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضًا أغلوطاته فإنه لم يذكر فيها مايدل على مطلوبه لوجوه أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليس عين الآخر إذ لو كانت عينُه عينَه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزمًا لامتناع كون احدهما عين الآخر وثبوت اللازم لايقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لايقتضي نفي ذلك كما لايقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيًا لثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إلا عدم الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ماذكره لايمنع وجوب النظير كما(2/521)
لايوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لايدل على ثبوت النظير لكن قد يقول هو إذا كان تعينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعين وجوده ولا عدمه فيقال هذه الحجة لم تفد غير ماهو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفًا على نظيره لكون وجوده مشروطًا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايقة وأنتم لم تقيموا دليلاً على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجه ماينفي التلازم لكان قوله صحيحًا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلاً في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزمًا لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن عين احدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعًا من وجوب مشابه لكان لازم الشيء بل بعض معناه مانعًا من وجوبه فإن اللازم(2/522)
لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده الوجه الثاني إن كون تعين الشيء ممتنع الحصول في غيره لايقتضي عدم نظير ذلك التعين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعين في الثاني لانفس التعين فلم قلت إن نظير ذلك التعين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل تعين نظيرًا قيل له كل من التعينين نظير الآخر الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب المثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول التعين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لايكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعين الشيء مانعًا من وجود النظير لم يكن مانعًا من وجوب النظير فإنه لايدل على هذا ولا هذا(2/523)
فصل قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة انه على صورة إنسان شاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء لايجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار قال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس(2/524)
على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة واعلم أن كثيرًا من هؤلاء يمنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم لا يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم(2/525)
إن هذا المذهب يحتمل وجوهًا ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد متناه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضًا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم بينهم اختلاف في ذلك قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لايقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك(2/526)
المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرًا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أول ما ذكره فيه أخذ الرازي وغيره(2/527)
مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايردون من ذلك شيئًا وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن اله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كما قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة(2/528)
والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لايقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولايقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسي عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعل دكا فأعلمه بذلك أنه لايراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء(2/529)
والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدًا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون(2/530)
بالكتاب والسنة كما قال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لايتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما(2/531)
قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ثم قال فأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء(2/532)
ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وأن إرادة الله ومحبته قائمتان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة(2/533)
قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرًا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من(2/534)
ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول بأنه في مكان دون مكان قال وقال قائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وانه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وان مكانه هو العرش وانه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحدَّه وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلئ به وأنه يُقْعِد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على(2/535)
العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وانه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولانقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وانه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ماوجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن(2/536)
قال واختلف الناس في حملة العرش ماالذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وان العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل ببينونة ليست على العزلة والبينونة من صفات الذات قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني(2/537)
الأمة في العين واليد والوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب ويذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ماقال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبد الله بن كلاب أطلق العين واليد والوجه خيرًا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولاأطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر 56] أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتأولوا قوله الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج(2/538)
قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن 27] أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجهًا يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر(2/539)
وكهمس وحكي عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في(2/540)
النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة(2/541)
قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة قال واختلفوا أيضًا في ضرب آخر فقال قائلون نرى جسمًا محدودًا مقابلاً لنا في مكان دون مكان وقال زهير الأثري ذات الباري في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه تعالى وتقدس بلا كيف وكان يقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خاليًا منه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ولم تكن خالية منه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا فقال قائلون هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك الأبصار وقال قائلون يرى الله تعالى بالأبصار ولايدرك بالأبصار واختلفوا في ضرب آخر فقال قائلون نرى الله جهرة ومعاينة(2/542)
قال قائلون لا يرى الله جهرة ولا معاينة ومنهم من يقول أحدق إليه إذا رأيته ومنهم من يقول لا يجوز التحديق إليه وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق حاسة يوم القيامة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ماهو بتلك الحاسة وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه فيها وقال الحسين النجار يجوز أن يحول الله تعالى العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي(2/543)
علمًا له قال وأجمعت المعتزلة على أن الله تعالى لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة إن الله تعالى يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية(2/544)
إن الله لايرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ولايجوز ذلك عليه واختلفوا في الرؤية لله تعالى بالأبصار وهل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة على مقالتين فقال قائلون يجوز أن يرى الله تعالى في الآخرة بالأبصار وقال قائلون إنه بيانًا قال نقول إنه يرى بالأبصار وقال قائلون نقول(2/545)
بالأخبار المروية وبما جاء في القرآن أنه مرئي بالأبصار في الآخرة بيانًا يراه المؤمنون قال وكل المجسمة إلا نفرًا يسيرًا يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لايقول بالتجسيم قال واختلفوا هل يقال إن الباري تعالى لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا أم لايقال ذلك على مقالتين فقال قائلون لم يزل الله تعالى عالمًا قادرًا حيًّا وزعم كثير من المجسمة أن الباري كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد تكون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره إنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم وقال قائلون إن حركة الباري غيره واختلف القائلون إن الباري يتحرك على(2/546)
مقالتين فزعم هشام أن حركة الباري هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون الباري يزول مع قوله يتحرك وأجاز عليه السكاك الزوال وقال لايجوز عليه الطفر وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن الباري يسر بطاعة أوليائه(2/547)
وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ الأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان وقال أيضًا اختلف المعتزلة في المكان فقال قائلون الباري بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان وأن تدبيره في كل مكان والقائلون بهذا القول جمهور المعتزلة أبو الهذيل والجعفران(2/548)
والإسكافي(2/549)
والجبائي وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل وهو قول هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر وغيرهم من المعتزلة قال وقالت المعتزلة في قول الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ(2/550)
اسْتَوَى {5} [طه 5] يعنى استولى قال أبو الحسن وهذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون أن الباري تعالى ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قلت هذا الذي أحال عليه ذكره في قول المعتزلة فقال هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض ولا أجزاء(2/551)
وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين ولاشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناهٍ ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ماخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ولم يزل أولاً سابقًا متقدمًا للمحدثات موجودًا قبل المخلوقات ولم يزل عالمًا قادرًا حيًّا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع شيء لا كالأشياء عالم قادر حي لا كالعلماء(2/552)
القادرين الأحياء وأنه قديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق لم يخلق الخلق على مثال سبق وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب منه لايجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولايصل إليه الأذى والآلام ليس بذي غاية فيتناهى ولايجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء قال أبو الحسن فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من الشيع وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين ثم ذكر من اختلافهم في مسائل الصفات ما ليس هذا موضع حكايته كلامًا طويلاً(2/553)
قلت فهذا هو قوله قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محدود ولاذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفت المجسمة فيما بينهم من التجسيم وهل للباري تعالى وتقدس قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشرة مقالة فقال هشام بن الحكم إن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقدارًا في طوله وعرضه وعمقه ولا يتجاوزه في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه وطعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد(2/554)
قال وحكى عنه ابن الراوندي أنه يزعم أن الله يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات ولولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه أنه قال إنه جسم لا كالأجسام ومعنى ذلك أنه شيء موجود قال وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونًا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضُا أو عميقا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصفه هشام غير أنه تعالى على العرش مماس له دون ما سواه(2/555)
قال أبو الحسن واختلفوا في مقدار الباري تعالى بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري عز وجل جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك المقدار وقال بعضهم هو تعالى في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكى عن هشام بن الحكم أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري تعالى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف(2/556)
والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لايقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب وقال بعضهم إن معبودهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به قال وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان(2/557)
إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لايشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكي عن الجواربي أنه كان يقول أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ماسوى ذلك وكير من الناس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله تعالى الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] المصمت الذي ليس بأجوف قال وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله تعالى على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحمًا ودمًا وأنه نور(2/558)
ساطع يتلألأ بياضًا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وأن له وفرة سوداء قال أبو الحسن وممن قال بالتجسيم من ينكر أن يكون الباري صورة وقد ذكر أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الآراء والديانات وهو ممن يذهب مذهب(2/559)
المعتزلة في توحيدهم وعدلهم فقال في كتابه باب قول الموحدين والمشبهين زعمت المعتزلة بأجمعها والخوارج بأسرها وأكثر الزيدية وكثير من الشيع والمرجئة سوى أصحاب الحديث من أهل الإرجاء أن الله ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر ولا جزء ولا عرض وليس يشبه شيئًا من ذلك وقال هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن(2/560)
الخليل السكاك ويونس بن عبد الرحمن ومن قال بقولهم من الشيع إن الله تعالى جم لا كالأجسام هذه جملة اجتمع هشام بن الحكم وأصحابه عليها فاجتمعت حكاية المخالفين لهذا القول عنه إلا ما أومأ إليه الراوندي في كتابه الذي احتج به لمذهب هشام في الجسم فزعم أنه تعالى وتقدس يشبه الخلق من جهة دون جهة والذي صح عندي من قول هشام بعد ذلك عمن وافقه من أصحابه بعد في الحكاية عنه أنه كان يزعم أن الله تعالى بعد حدوث الأماكن في مكان دون مكان وأنه يجوز أن يتحرك وسمع قومًا من أصحابه يحكون عنه أنه يزعم أنه نور وقال آخرون منهم إنه كان يزعم أنه متناهى الذات واختلف(2/561)
الحاكون من مخالفي هشام عن هشام فحكوا عن ضروبًا من الأقاويل مختلفة لا تليق به وما رأيت أصحابه يدفعونها عنه فمن ذلك أن الجاحظ ذكر عن النظام أن هشامًا قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبوده بشبر نفسه سبعة أشبار وحكى أبو عيسى الوراق في كتابه(2/562)
على المشبهة عن كثير من مخالفي هشام أنه كان يزعم أن القديم على هيئة السبيكة وقال بعضهم إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وحكى بعضهم كما قلت إنه سبعة أشبار قال وحكى بعضهم أنه ذو صورة وحكوا عنه غير ذلك أيضًا مما رأيت أصحاب هشام يدفعونه عنه وينكرونه(2/563)
ويزعمون أنه لم يزد على قوله جسم لا كالأجسام وإنما أراد بذلك إثباته وأنه نور لقول تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] وينفون عنه المساحة والذرع والشبر والتحديد قال وسمعت ذلك من غير واحد منهم ممن ينتحل القول بالجسم وناظرونا به وقد وجدت الأمر على ما حكاه الوراق من ذلك وقد أضاف قوم القول بالجسم وإلى أبي جعفر الأحول المعروف بشيطان الطاق الذي يسميه(2/564)
أصحابه مؤمن الطاق واسمه محمد بن النعمان وإلى هشام بن سالم المعروف بالجواليقي وإلى أبي مالك الحضرمي قال وليس من هؤلاء أحد جرد القول بالجسم ولكنهم كانوا يقولون هو نور على صورة الإنسان وينكرون قول القائل بالجسم فقاس من حكى ذلك عنهم عليهم وحكى من طريق القياس إذ كان الحاكي لذلك يعتقد أن الصور لاتكون إلا للأجسام فغلط عليهم وكذا غلط كثير من أهل الكلام وذكر أن هشام بن سالم وأبا جعفر الأحول أمسكا بعد قولهما بالصورة عن الكلام في الله تعالى رجعا إلى تأويل آية(2/565)
من القرآن فرويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] قال فإذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا فأمسكا عن الكلام في ذلك والخوض فيه حتى ماتا وأقام على القول بالصورة من أقام عليه من أتباعهما قال النوبختي وأقول أن هذا الذي ذكره الوراق قد روي وقد رأيت نفرًا من أصحاب هشام بن سالم يزعمون أنه لم يزل يناظر على القول بالصورة إلى أن مات قال أبو عيسى وأما علي بن إسماعيل بن ميثم فإن(2/566)
أصحابه ومخالفيه مختلفون في الإخبار عنه فبعضهم يزعم أنه كان يقول بالجسم والصورة وبعضهم يزعم أنه كان لايقول بالصورة وبعضهم يزعم أنه كان يقول بالصورة ولا يقول بالجسم قال ولا ثبت عندي في ابن ميثم أنه قال بالصورة ولا بالجسم قال أبو عيسى في هذا الباب وقد حكى ذلك لي كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد المصري وداود الجواربي في خلق كثير من العامة وأصحاب الحديث قالوا الله تعالى في صورة وأعضاء قال أبو عيسى وبلغني عن داود الجواربي أنه قال أعفوني عن الفرج(2/567)
واللحية واسألوني عما وراء ذلك أو قال عما شئتم وقد حكى كثير من المتكلمين عن داود ومقاتل أنهما قالا إن معبودهم جسم ولحم ودم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي حكاية أخرى أنه كان يقول إنه أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وذكر أن مقاتل بن سليمان كان يأبى هذا القول الأخير وحكى إبراهيم النظام في كتابه عن المشبهة أن قومًا لا أدري هم من الملة أم ليسوا من الملة زعموا أن معبودهم جسم فضاء وأن الأجسام كلها فيه وحكى أن آخرين قالوا هو فضاء وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان وهو نفسه المكان وحكى الجاحظ في كتابه عن المشبهة أن(2/568)
بعضهم قال هو جسم في مكانه إلا أنه فاضل عن الأماكن خلا أن له نهاية لازمة قال وزعم بعضهم أنه ذاهب في الجهات الست لا إلى نهاية وهو ليس بجسم وهذا أيضًا قول ما علمت أن أحدًا من أهل الصلاة قال به ولا كان شيء منه وهذه أقاويل أهل الملة قال النوبختي وللفلاسفة القدماء في الباري أقوال مظلمة غير بينة وكان عنايتهم بغير أمر الديانات وكان أكثر كلامهم في أمور الطبيعة والنفس والفلك والكون والفساد والجواهر والأعراض وقد زعم أرسطاطاليس على ما قرأناه في مقالة اللام التي فسرها ثامسطيوس أن الله تعالى(2/569)
جوهر أزلي بسيط غير مركب ليس بجسم ولا تجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وسماه مرة عقلاً وطبيعة تارة وقال في موضع آخر منها إنه يعقل ذاته ويعلم ذاته وسائر الأشياء التي هو علة لها وذكر فرفوريوس في رسالته التي زعم أنه يحكي فيها مذاهب أرسطاطاليس في الباري والمبادئ أنه يصف الله تعالى بأنه خير وأنه حكيم وأنه قوي وزعم(2/570)
أفلاطون في كتابه كتاب النواميس أن أشياء لاينبغي للإنسان أن يجهلها منها أن له صانعًا وأن صانعه يعلم أفعاله فأثبت لله العلم بأفعاله وزعم قوم من فلاسفة دهرنا أن أفلاطون إنما وضع هذا على سبيل التأديب للناس وبحسب السنة وما كان يذهب إليه لا على الاعتقاد قال وهذا ظن من هؤلاء القوم فأما قول أفلاطون فهو ما ذكره في كتابه في تفسير سمع الكنان وأن الله تعالى إنما يعرف بالسلب فيقال إنه لاشبه له ولا مثال إلا(2/571)
الشمس وحدها فإنه كما أن الشمس تفوق جميع الأشياء التي في العالم كذلك تفوق العلة الأولى جميع الموجودات وتفضلها فضلاً يجوز كل قياس قال وكما أن الشمس تدبر جميع الأشياء على طريقة واحدة وقال أبو الحسن الأشعري أيضًا اختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق فالفرقة الأولى هشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر مثل ما تقدم عن هشام وزاد أنهم لم يعينوا طولاً غير الطول وإنما(2/572)
قالوا طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث بالمكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه لجسم ذاهب جاء يتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له فأيما أعظم إلهك أو هذا الجبل قال وأومأت إلى جبل أبي قبيس قال فقال هذا الجبل يوفي عليه أي هو أعظم منه قال وذكر أيضًا ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابهًا(2/573)
بجهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه خلاف هذا انه كان يقول إنه جسم وأبعاض لايشبهها ولاتشبهه غير أن هشام بن الحكم في بعض كتبه كان يزعم أن الله تعالى إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولولا ملابسته لما وراء ما هنالك لما درى ما هناك وزعم أن بعضه يرى وهو شعاعه وأن الثرى محال على بعضه ولو زعم هشام أن الله يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل زعم مرة أنه كالبلورة وزعم مرة أنه كالسبيكة وزعم مرة أنه غير صورة وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام(2/574)
قال وزعم أبو عيسى الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة غلى أن الله تعالى وتقدس على العرش مماس له وأنه لايفضل على العرش ولا يفضل العرش عنه قال والفرقة الثانية من الرافضة الإمامية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله تعالى وتقدس على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن ربهم تعالى وتقدس على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسمًا والفرقة الرابعة منهم الهشامية أصحاب هشام بن(2/575)
سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحمًا ودمًا ويقولون هو نور ساطع يتلألأ ضياءً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه تعالى وتقدس وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان(2/576)
قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فكانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه قال أبو الحسن واختلف الرافضة في حملة العرش هل يحملون العرش أم يحملون الباري تعالى وتقد س وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن(2/577)
عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون الباري واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكُرْكِي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولاً قال أبو الحسن الأشعري واختلفت الروافض في إرادة الله تعالى وهم أربع فرق الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله تعالى حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله تعالى ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله(2/578)
تعالى وتقدس إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراده والفرقة الثانية ومنهم أبو مالك الحضرمي وعلي بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله تعالى غيره وهي حركة الله تعالى كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم وهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله تعالى ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله تعالى لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله تعالى لتكوين الشيء هو الشيء وإرادته لأفعال عباده هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم نافون أن يكون الله تعالى أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن لله تعالى إرادة فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا(2/579)
فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها وذكر عنهم في القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير إله وغير ذلك مقالات يطول وصفها جمهورها يقتضي وصفه بالحركة والتحول كما في الإرادة وقال أبو الحسن الأشعري مقالات المرجئة في التوحيد فقال قائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وقال قائلون منهم بالتشبيه وهم ثلاث فرق فقالت الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب مقاتل بن سليمان إن الله تعالى جسم وإن له جمة وإنه على صورة الإنسان وإنه لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وقالت الفرقة الثانية أصحاب داود(2/580)
الجواربي مثل ذلك غير أنهم قالوا أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقالت الفرقة الثالثة منهم هو جسم لا كالجسام فقد ذكر الأشعري أن القول بأن الله تعالى فوق العرش وثبوت الصفات الخبرية هو قول أهل السنة وأصحاب الحديث وذكر أن ذلك قول ابن كلاب وأصحابه وقوله وذكر التنازع في نفي هذه الصفات وإثباتها بين فرق الأمة فنفيُ الجسم وهذه الصفات هو قول المعتزلة والخوارج وطائفة من المرجئة ومتأخري الشيعة وإثبات الجسم وهذه الصفات قول جمهور الإمامية المتقدمين وطائفة من المرجئة وغيرهم(2/581)
وهو مع هذا لم يذكر تفصيل أقوال أئمة الإسلام وسلف الأمة وعلماء الحديث وإنما ذكر قولاً مجملاً ولهم في هذا الباب من الأقوال المفصلة وعندهم في ذلك من النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما هو معروف عند أهله وقد ذكر الأشعري عشرة أصناف فقال واختلف المسلمون عشرة أصناف الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية وهم النجارية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان ومعلوم أن أئمة الأمة وسلفها ليسوا في شيء من هذه(2/582)
الطوائف إلا في أهل الحديث والعامة وهؤلاء مع جمهور الشيع والمرجئة والكلابية والأشعرية من أهل الإثبات لأن الله تعالى فوق العرش والصفات الخبرية وإن كان فيهم من يثبت الجسم وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وأما نفي ذلك مطلقًا فإنما ذكره عن المعتزلة والخوارج وأما الضرارية والبكرية والنجارية فتوافقهم في بعض ذلك وتوافق أهل الإثبات في بعض ذلك وهذه المقالة التي نسبها هو إلى المعتزلة هي المشهورة في كلام الأئمة وعلماء الحديث بمقالة الجهمية فإن الأئمة نسبوها إلى من أحدث هذه المقالات وابتدعها ودعا الناس إليها والمعتزلة إنما أخذوها(2/583)
عنه كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ ذلك عن الجهم قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب عمرو ابن عبيد هم المعتزلة فإنه أول المعتزلة هو وواصل بن عطاء وإنما كان شعار المعتزلة أولاً هو المنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد وبه اعتزلوا الجماعة ثم دخلوا بعد ذلك في إنكار القدر وأما إنكار الصفات فإنما ظهر بعد ذلك وكذلك حكاية ذلك عن الخوارج إنما يكون عن متأخرة الخوارج الموجودين بعد حدوث هذه المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك أما قدماء الخوارج الذين كانوا على عهد الصحابة والتابعين فماتوا قبل حدوث هذه الأقوال المضافة إلى المعتزلة والجهمية وذلك أن مقالات هؤلاء ونحوهم إنما نقلها من كتب المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك لم يقف هو على شيء(2/584)
من كلام الخوارج والمعتزلة يستكثر بالخوارج لموافقتهم لهم في إنفاذ الوعيد ونفي الإيمان والخروج على الأئمة والأمة ولكن الأشعري كان بمقالات المعتزلة أعلم منه بغيرها لقراءته عليهم أولاً وعلمه بمصنفاتهم وكثيرًا ما يحكي قول الجبائي عنه مشافهة وقد ذكر مقال جهم في كتابه فقال ذكر قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط وأنه لافعل لأحد في الحقيقة إلا لله تعالى وحده وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله تعالى إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارًا منفردًا بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولونًا كان به(2/585)
متلونًا قال وكان الجهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتل جهم بمرو قتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية قال ويحكى عنه أنه كان يقول لاأقول إن الله تعالى شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء قال وكان يقول إن علم الله تعالى محدث فيما حكى عنه ويقول بخلق القرآن وأنه لايقال إن الله لم يزل عالمًا بالأشياء قبل أن تكون وكذلك قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة(2/586)
له بعد الخطبة أما بعد فإن كثيرًا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلاً لم ينزل الله به سلطانًا ولا أوضح به برهانًا ولا نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا رواية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله تعالى بالأبصار وقد جاءت بذلك الروايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وان الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} [المدثر 25] فزعموا أن القرآن كقول(2/587)
البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله تعالى يشاء ما لايكون ويكون ما لايشاء خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن الله ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وردًّا لقول الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] فأخبر الله أنا لانشاء شيئًا إلا قد شاء الله أن نشاءه ولقوله وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة 253] وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة 13] وقوله تعالى فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} [البروج 16] ولقوله سبحانه وتعالى خبرًا عن شعيب أنه قال وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ [الأعراف 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا(2/588)
قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس وأنه يكون من الشر ما لايشاء الله كما قالت المجوس ذلك وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردًّا لقول الله تعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ [الأعراف 188] وانحرافًا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم عز وجل فأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله عز وجل ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وأيّسوهم من روح الله سبحانه وتعالى وحكموا(2/589)
على العصاة بالنار والخلود خلافًا لقول الله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء 48] وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافًا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا فيها فصاروا حممًا ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] ولقوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] ونفوا ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/590)
من قوله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا قال وأنا ذاكر ذلك بابًا بابًا إن شاء الله تعالى قال فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفوا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون(2/591)
قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أحمد بن حنبل نضر الله وجه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المناهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهّم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا أنَّا نقر باله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول(2/592)
الله صلى الله عليه وسلم ولانرد من ذلك شيئًا وأن الله عز وجل واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجها كما قال عز وجل وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال عز وجل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين بلا كيف كما قال عز وجل تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله تعالى غيره كان ضالا وأن الله تعالى علمًا كما قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه(2/593)
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن كما قد قال سبحانه وتعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] وأنه لايكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى وذكر الكلام في مسائل القدر وخلق الأفعال إلى أن قال ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا(2/594)
وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز وجل كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لايراه في الدنيا ونرى ألا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلاًّ لها إذا كان غير معتقد لتحريمها كان كافرًا ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام(2/595)
إيمانًا وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/596)
وندين بأن لاننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز وجل يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان حق والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله عز وجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب(2/597)
المذنبين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وان الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان نضر الله وجهه وأن(2/598)
الذين قاتلوه قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لايوازنهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما أثبتوه ونقلوه خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعوّل فيما اختلفنا فيه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم(2/599)
القيامة كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال عز وجل ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8, 9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج ونرى المسح على(2/600)
الخفين في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى رأي الخوارج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرًا وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار(2/601)
مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى(2/602)
يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وماكان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الأهواء وقال وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقى منه مما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يُذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد(2/604)
فيما افترى على الله تعالى في التوحيد قال فيه باب الحد والعرش وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لاشيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لامحالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لايعلمه غيره ولا(2/605)
يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى ولمكانه أيضًا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن صالح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن مبارك(2/606)
فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لاشيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى وجحد آيات الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء(2/607)
قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لايجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم(2/608)
حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحدًا في(2/609)
السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض وقد اتفقت(2/610)
الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحِنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه تعالى يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفًا بعد حرف وشيئًا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتوك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين(2/611)
سمعوا بذكره وذكر الكلام في الصفات وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روي عن(2/612)
علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز وجل قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي(2/613)
عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] وتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر(2/614)
الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال الخلال(2/615)
أخبرنا حرب بن إسماعيل قال قلت لإسحاق يعني ابن راهوية على العرش بحد قال نعم بحد وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد(2/616)
وقد ذكر أيضًا حرب بن إسماعيل في آخر كتابه في المسائل كلها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدي بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والشام والحجاز وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن(2/617)
منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم إن الإيمان قول وعمل إلى أن قال وخلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد تقدم حكاية قوله إلى قوله لأن الله تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لايخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله تعالى أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره ولكن هذا اللفظ يحتمل أن يعود فيه الحد إلى العرش بل ذلك أظهر فيه(2/618)
قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل رأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت(2/619)
أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تعالى حد فقال نعم لايعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين وروى الخلال أيضًا في كتاب السنة أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئًا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] قال أخبرني(2/620)
عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لاتدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه ليس من الله تعالى شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وكان الله تعالى قبل أن يكون شيء والله تعالى الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير(2/621)
فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحدّ ولاغاية فبين أن الأبصار لاتدرك له حدًّا ولا غاية وقال أيضًا ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود كما قال بعد هذا ولايبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لاتدركه أبصارهم قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله تعالى يرى وأن(2/622)
الله تعالى يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق ونعلم أن ما ثبت عن الرسول صلى اله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وقال حنبل في موضعٍ آخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء(2/623)
فيعبد الله تعالى بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولايبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا حيًّا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفاته وصف بها نفسه لاتدفع(2/624)
ولاترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قال إبراهيم لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42} [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يُعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن لايصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة(2/625)
وقال أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بها قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لاننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما(2/626)
يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ور نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء به والنهي عما نهى(2/627)
وأسماؤه وصفاته منه غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير وقال الخلال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يُقدِّرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكرنا من كلامهم في(2/628)
غير هذا الموضع ما يبين ذلك وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان فحكي عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين وهذه طريقة الروايتين والوجهين ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى ونفى علم العباد به كما ظنه موجَبُ ما نقله حنبل وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان أو تأول نفي الحد بمعنى آخر والنفي هو طريقة القاضي أبي يعلى أولاً في المعتمد وغيره فإنه كان ينفي الحد والجهة وهو قوله الأول قال فصل وقد وصف الله نفسه بالاستواء على العرش(2/629)
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الثالث
الجسم - الحد - الجهة - الفوقية - اليد
الحيز - الرؤية
حققه
د. أحمد معاذ حقي(3/1)
فصل وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على(3/3)
العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة والحلول ولا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم وقد قال أحمد في رواية حنبل نحن(3/4)
نؤمن أن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد قال فقد أطلق القول في ذلك من غير كيفية الاستواء وقد علق القول في موضع آخر فقال في رواية المَرُّوذي يروى عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله تعالى قال على العرش(3/5)
بحد قال قد بلغني ذلك وأعجبه قال القاضي وهذا محمول على أن الحد راجع إلى العرش لا إلى الذات ولا إلى الاستواء وقصد أن يبين أن العرش مع عظمته محدود قلت وهذا الذي قاله القاضي في الاستواء هنا هو الذي يقوله أئمة الأشعرية المتقدمين وهو قريب من قول أبي محمد بن(3/6)
كُلاَّب وأبي العباس القلانسي وغيرهم من أهل الحديث والفقه ولهذا قال خلافًا لمن قال من المعتزلة معناه(3/7)
الاستيلاء والغلبة وخلافًا لمن قال من الأشعرية معناه العلو عن طريق الرتبة والعظمة والقدرة وهذا قول بعض(3/8)
الأشعرية لا أئمتهم المتقدمون قال وخلافاً للكَرَّامية(3/9)
والمجسمة معناه المماسة للعرش بالجلوس(3/10)
عليه ثم إنه قال في الحجة والذي يبين صحة ما ذكرنا أنه مقالة السلف من أهل اللغة وغيرهم فذكر ابن قتيبة في كتاب مختلف الحديث الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] استقر كما قال تعالى فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون 28] أي استقررت وذكر ابن بطة عن ابن(3/11)
الأعرابي قال أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت والله ما يكون هذا ولا أصبته وقال يزيد بن(3/12)
هارون من زعم أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن(3/13)
عبد الوهاب قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد والقاضي في هذا الكتاب ينفي الجهة عن الله كما قد صرح بذلك في غير موضع كما ينفي أيضًا هو وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره(3/14)
التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض(3/15)
ونحو ذلك ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث الأوعال(3/16)
فإذا ثبت أنه تعالى على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كَرَّام وابن(3/19)
منده الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو على العرش فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا الله تعالى فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجاً منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولامعه ولا بعده ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم(3/20)
قال واحتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها فدل على أنه في مكان قلت وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما يقتضي أن الجهة المثبتة أمر وجودي ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجًا منها وأنها غيره وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى وهو ما حاذى لذات العرش فهو الموصوف بأنه جهة وحد ثم ذكر أن ذلك من صفات الذات ثم قال وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي وقد ذُكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك(3/21)
نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال احمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق ثنا أبو بكر احمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله(3/22)
تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات الستة بل هو خارج العالم مميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز ولهذا يسمى البواب حدادًا لأنه يمنع غيره(3/23)
من الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا ثم قال ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالتين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق(3/24)
والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فَسَّر به كلام أحمد أولاً من التفسير المطابق لصريح ألفاظه حيث قال فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما يقال على جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو والثاني أنه صفة يَبِين بها عن غيره ويتميز فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع(3/25)
من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلومًا لعباده فإنهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش وروى شيخ الإسلام في ذم(3/26)
الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله قال لإسحاق بن إبراهيم(3/27)
وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهوية ما تقول في قوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وقال حرب أيضًا قال إسحاق بن إبراهيم لايجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقول الله تعالى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} [الأنبياء 23] ولايجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر(3/28)
المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما يشاء كما(3/29)
يشاء وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال دخلت يومًا على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر(3/30)
وعنده منصور بن طلحة فقال لي منصور يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة قلت ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن أن لك ربًّا في السماء فلا تحتاج أن تسألني عن هذا فقال ابن طاهر ألم أنهك عن هذا الشيخ وروي عن محمد بن حاتم سمعت(3/31)
إسحاق بن راهوية يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها أو قال ترونها في النّزول ما هي قال أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجيء الأحكام الحلال والحرام ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف فقال عبد الله بن طاهر صدقت ما كنت أعرف وجوهها حتى الآن وفي رواية قال رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولاً وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال له شفاك الله كما شفيتني أو كما قال وروى أيضًا شيخ الإسلام ما ذكره أبومحمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على(3/32)
الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد ابن الحسن الشيباني رجلاً في التجهم فتاب(3/33)
فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب قال شيخ الإسلام لشرح مسألة البينونة في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا قال شيخ الإسلام وسألت يحيى بن(3/34)
عمار عن أبي حاتم بن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سِجسْتَان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله(3/35)
فأخرجناه من سجستان قلت وقد أنكره طائفة من أهل الفقه والحديث ممن يسلك في الإثبات مسلك ابن كُلاَّب والقلانسي وأبي الحسن ونحوهم في هذه المعاني ولا يكاد يتجاوز ما أثبته أمثال هؤلاء مع ماله من معرفة بالفقه والحديث كأبي حاتم هذا وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ولهذا يوجد للخطابي وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض حيث يتأول تارة ويتركه(3/36)
أخرى وليس بمتناقض فإن أصله أن يثبت الصفات التي في القرآن والأخبار الموافقة له أو ما في الأخبار المتواترة دون ما في الأخبار المحضة أو دون ما في غير المتواترة وهذه طريقة ابن عقيل ونحوه وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وهم مع هذا يثبتونها صفات معنوية(3/37)
قال الخطابي في الرسالة الناصحة له ومما يجب أن يعلم في هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لايجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي قد ثبتت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله صلى الله عليه وسلم فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى(3/38)
أن لله تعالى مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه لفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في روايته كخلاف البينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا معًا وقد تحتمل(3/39)
هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أن يجد ربه عز وجل بمكانه الأول من الإجابة في الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه تعالى في المذنبين من أمته كل ذلك يشفعه فيهم ويشفعه بمسألته لهم قال ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن الله حدًّا وكان أعلى ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك نعرف ربنا بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا(3/40)
الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو نزلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية قد رويت لنا أنه قيل له أتعرف ربنا بجد فقال نعم نعرف ربنا بجد بالجيم لا بالحاء وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال إن له تعالى حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أحوجنا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي أرأيت إن قال جاهل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجيءْ ذكر(3/41)
الرأس لم يجز القول به قلت أهل الإثبات المنازعون للخطابي وذويه يجيبون عن هذا بوجوه أحدها أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما يوصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها الحد وإنماالحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف من لفظ الحد في الموجودات فيقال حد الإنسان وحد كذا وهي الصفات المميزة له ويقال حد الدار والبستان وهي جهاته وجوانبه المميزة له ولفظ الحد في هذا أشهر في اللغة والعرف العام ونحو ذلك ولما كان الجهمية يقولون(3/42)
ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي عالم قدير قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون إنه لايباين غيره بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولون لا داخل العالم ولا خارجه ولا كذا ولا كذا أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجود المخلوقات فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شيء عبد الله بن المبارك بماذا نعرفه قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فذكروا له لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية وبنفيهم له ينفون ملزومه(3/43)
الذي هو موجود فوق العرش ومباينته للمخلوقات فقالوا له بحد قال بحد وهذا يفهمه كل من عرف ما بين قول المؤمنين أهل السنة والجماعة وبين الجهمية الملاحدة من الفرق الوجه الثاني قوله سبيل هؤلاء أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس فيقولون له لو وفيت أنت ومن اتبعته باتباع هذه السبيل لم تحوجنا نحن وأئمتنا إلى نفي بدعكم بل تركتم موجب الكتاب والسنة في النفي والإثبات أما في النفي فنفيتم عن الله أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لايقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس(3/44)
هو بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء من شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدْر أويكون له قَدْر لا يتناهى وأمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام وأما في الإثبات فإن الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات فكنتم أنتم الذين تزعمون أنكم من أهل السنة(3/45)
والحديث دع الجهمية والمعتزلة تارة تنفونها وتحرفون نصوصها أو تجعلونها لا تعلم إلا أماني وهذان مما عاب الله تعالى به أهل الكتاب قبلنا وتارة تقرونها إقرارًا تنفون معه ما أثبتته النصوص من أن يكون النصوص نفته وتاركين من المعاني التي دلت عليه مالا ريب في دلالتها عليه مع ما في جمعهم بين الأمور المتناقضة من مخالفة صريح(3/46)
المعقول فأنت وأئمتك في هذا الذي تقولون إنكم تثبتونه إما أن تثبتوا ما تنفونه فتجمعوا بين النفي والإثبات وإما أن تثبتوا ما لا حقيقة له في الخارج ولا في النفس وهذا الكلام تقوله النفاة والمثبتة لهؤلاء كمثل الأشعري والخطابي والقاضي أبي يعلى وغيرهم من الطوائف ويقول أهل المُثْبِتَة كيف سوغتم لأنفسكم هذه الزيادات في النفي وهذا التقصير في الإثبات على ما أوجبه الكتاب والسنة وأنكرتم على أئمة الدين ردهم لبدعة ابتدعها الجهمية مضمونها إنكار وجود الرب تعالى وثبوت حقيقته وعبروا عن ذلك بعبارة فأثبتوا تلك العبارة ليبينوا ثبوت المعنى الذي نفاه أولئك فأين في الكتاب والسنة أنه يحرم رد الباطل بعبارة(3/47)
مطابقة له فإن هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة بل بينا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته ويقولون لهم قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدل على أن الله تعالى له حد يتميز به عن المخلوقات وأن بينه وبين الخلق انفصالاً ومباينة بحيث يصح معه أن يعرج الأمر إليه ويصعد إليه ويصح أن يجيء وهو يأتي كما سنقرر هذا في موضعه فإن القرآن يدل على المعنى تارة بالمطابقة وتارة(3/48)
بالتضمن وتارة بالالتزام وهذا المعنى يدل عليه القرآن تضمنًا أو التزامًا ولم يقل أحد من أئمة السنة إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لايفهم معناها بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره وهذه نكت لها بَسْط له موضع آخر(3/49)
وممن نفى لفظ الحد أيضًا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السِّجْزِي قال في رسالته المشهورة إلى أهل زَبِيد وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش(3/50)
بلا كيف بحيث لا مكان وقال أيضًا فاعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكَرَّامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضُلاّل وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له وإنما التحديد يقع للمحدثات فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه وتعالى فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد لاتفاقنا أن الله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان قال وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه وتعالى على مكان وقد علم أن الأمكنة محدودة فإن كان فيها(3/51)
بزعمهم كان محدودًا وعندنا أنه مباين للأمكنة ومن حلها وفوق كل محدَث فلا تحديد لذاته في قولنا هذا لفظه وأما قول الرازي وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام(3/52)
كالفرع على مذهب المشبهة فالكلام على هذا من وجوه أحدها أنه من العجب أن يذكر عن أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم الأمر في عبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وقد قيل إنه صنفه لأم الملك علاء الدين محمد(3/53)
ابن تكش أبي جلال الدين وأنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لايشركون به شيئًا ولم يعبدوا لا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا ولا وثنًا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا رَجَعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عندالله لكن لا نزاع بين المسلمين أن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان من مسلم وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم(3/54)
فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم الواجبات وأكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أَنْزَل إلى أنبيائه وماأشبه حال هؤلاء بقوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلى قوله عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60} [المائدة 59-60] فإن هؤلاء النفاة الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يَعيِبون من آمن بالله ورسوله يوضح ذلك أن هذا الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوشا البابلي ومثل طمطم الهندي ومثل(3/55)
ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل بابِل وغيرهم أتباع(3/56)
نمرود بن كنعان البابلي وغيره وأهل الهند هم أعظم المم شركًا وهم أعداء إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام مُعيِّرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحَنِيفِيَّة الذين اتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته فإن هؤلاء الجهمية ينكرون حقيقة خلة إبراهيم لله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء الخليل وأعداء الكليم(3/57)
وأول من أظهر في الإسلام التجهم وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوهما هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وخطب الناس يوم النحر فقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مُضَحٍ بالجعد ابن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليمًا تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ثم نزل فذبحه(3/58)
فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة هو مكذب بحقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى {18} صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {19} [الأعلى 18-19] وقوله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} [النجم 36-37] وهما اللذان رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبو الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى(3/59)
وحده لا شريك له كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الإيمان بالله ورسوله والذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} [الإخلاص 1-3] قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} [الكافرون 1-6] كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وائتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهَّلوا من ينكر ذلك وينهي عنه وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته مالا يتم الإيمان والتوحيد إلا به كيف يصلح لهؤلاء أب يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرًا من أولئك المؤمنين الذين ليس لهم نصيب من قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله نَصِيراً [النساء 51-52](3/60)
فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة فمن آمن بالجبت(3/61)
هو السحر والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ماله ففيه شبيه من أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ [النساء 51] الذين يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء 51] وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً {51} [النساء 51] فيكون لهم نصيب من قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً {52} [النساء 52] وتمام الكلام في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60-61] وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع(3/62)
الوجه الثاني أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه أترى أبي معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئًا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذا لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخذه عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه(3/63)
وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصابئة المشركين عباد(3/64)
الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين الوجه الثالث أن هذه الحكاية تقتضي أن الناس كانوا قبل ابتداع الشرك على المذهب الذي سماه مذهب المشبهة وأنهم كانوا حينئذ يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا كما ذكره فيكون هذا الاعتقاد هو مذهب القوم في الدهر الأقدم قبل عبادة الأوثان ثم إنه بسبب هذا الاعتقاد استحسنوا عبادة الأوثان ومعلوم أن الناس كانوا قبل الشرك على دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي دين الإسلام العام الذي لا يقبل الله من احد غيره كما قال تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس 19] وقال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] وقد ثبت عن ابن(3/65)
عباس رضي الله عنهما أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في حديث الشفاعة عن نوح قول أهل الموقف له وأنت أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال تعالى وَلَقَدْ(3/66)
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] فإذا كان الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولاً يدعوها إلى عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت ونوح أول من بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض علم أنه لم يكن قبل قوم نوح مشركون كما قال ابن العباس وإذا كان كذلك وأولئك على الإسلام ومذهبهم هو المذهب الذي سماه مذهب المشبهة ثَبَتَ بموجب هذه الحكاية أن هذا هو مذهب الأنبياء والمرسلين والمسلمين من كل أمة الوجه الرابع أن في هذه الحكاية أنهم اشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة وقد ذكر الله تعالى قول المشركين في كتابه الذين جعلوا معه إلهًا آخر فلم يذكر أنهم كانوا يعتقدون أنهم يعبدون الله إذا عبدوا الأوثان ولكن ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان شفعاء وذكر أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولكن في هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إن عباد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى(3/67)
وأن عابد الوثن هو العابد لله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم عن صاحب الفصوص وذويه وهو من رؤساء هؤلاء الجهمية وأئمتهم الوجه الخامس أن عبادة الأوثان إنما هي مشهورة ومعروفة(3/68)
عن نفاة الصفات من الفلاسفة الصابئين سلف أبي معشر والرازي وذويهم مثل النمرود بن كنعان وقومه أعداء الخليل عليه الصلاة والسماء وأتباعه وأولياء رهط أبي معشر ومثل فرعون عدو موسى كليم الرحمن عز وجل وأتباعه وأولياء الجهمية نفاة الصفات ومن يدخل فيهم من الاتحادية والقرامطة(3/69)
وكما صرح بعضهم بموالاته فرعون وتعظيمه كما فعل صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي صنفه(3/70)
للقرامطة وكما فعله صاحب الفصوص وذووه ومن لم يصرح بموالاة فرعون ولم يعتقد موالاته فإنه موافق له فيما كذب فيه موسى حيث قال يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] قاله خلائق من العلماء وممن قال ذلك أبو الحسن الأشعري إمام طائفة الرازي قال فرعون كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات(3/71)
وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى الوجه السادس أن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لايوجد إلا في أهل الكتب الإلهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين وأما من ليس له كتاب فلا يعرف عنه شيء من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم فإن الله لم يبعث رسولاً ولم يُنزل كتابًا إلا بالتوحيد كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 36] وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ(3/72)
آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} [الشورى 13] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه [الشورى 21] وقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} [المؤمنون 51-52] ولم يحدث في أهل الكتاب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قَمَعَة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وسلم ابتدعه لهم(3/73)
بمكة بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة للمشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد من عبد منهم الأوثان كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حَدَث فيهم هذا في جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عمن هو من أهل كتابٍ منزل من السماء وأهل الكتاب لم يكونوا هم الذين ابتدعوا الشرك أولاً عُلم أن الشرك لم يبتدعه أولاً القوم الذين سماهم أهل التشبيه(3/74)
الوجه السابع أنه إذا كان الإشراك متضمنًا لما سماه تشبيهًا فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيهًا فليس في القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيهًا ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلاً ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيهًا وذلك يقتضي أنه(3/75)
حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقًّا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقًّا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وإما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه الوجه الثامن أن الشرك كان فاشيًا في العرب ولم يُعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله تعالى وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورًا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن الوثن صورة الله والشرك في أيام الإسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيًا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فَعُلم أن هذا أول مفتر الوجه التاسع لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذين سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في(3/76)
بعض مثبتة هذه الصفات عيبًا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر وكان الطعن والعيب على نفاة الصفاة بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر الوجه العاشر قوله فَثَبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المُشَبِّهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازمًا لأصله فإذا كان الأصل مستلزمًا لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلاً على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزمًا للأصل لا يكون لازمًا له وهوالغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه فالأول كما قال الله تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} [إبراهيم 24-26] فالكلمتان كلمة الإيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب(3/77)
الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدًا أورث عملاً فاسدًا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد وكذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له أما القسم الثاني فالأصل الذي يكون شرطًا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدًا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد(3/78)
المؤمن والمؤمن يلد الكافر وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبًا لعبادة الأصنام ولا داعيًا إليه وباعثًا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله تعالى بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يُجْعَل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطًا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيًّا قادرًا شاعرًا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والإرادات على فساد هذه الصفات والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلهًا آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويق4ولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم(3/79)
مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقد اخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وقال قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال عكرمة يؤمنون أنه(3/80)
رب كل شيء وهم يشركون به فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شيء ومليكه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شيء ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحًا في صحة ذلك الإيمان والإقرار الحق الذي قالوه الوجه الحادي عشر أن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقة من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانًا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود الشمس والقمر والكواكب والملائكة(3/81)
والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيهًا فهل يكون ذلك قادحًا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة به أم لا فإن كان ذلك فلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وفن لم يكن كذلك ما ذكره من الحجة باطلاً الوجه الثاني عشر قوله فَثَبَت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة يقال له الثُّبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب أن ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر ممن يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه لم يكن كافرًا منافقًا كان فاجرًا فاسقًا وقد قال الله تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هذا عنده خبرًا مرسلاً لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف(3/82)
والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تُقبلُ روايته فهل يَحْسن بذي عقل أو دين أن يُثبت بهذا شيئًا في أصل الدين ومن العجب العجيب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توارثها عن أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحًا يشبه قدح الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصل الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين بالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال ونعوذ بالله من شرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم(3/83)
فصل قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة قلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلاً عن أن تكون نصًّا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه قال الحجة الأولى قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 1-4] قال واعلم أنه قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من(3/84)
المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثَبَت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً(3/85)
قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلاً هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد(3/86)
الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب(3/87)
الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وربما نذكر منه هنا ما ييسره الله لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل آية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يُذكر في غيرها من اسمه الأحد(3/88)
الصمد ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعًا وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم فأثبته الله لنفسه ردًّا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكمًا من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يَرِد عليه نفي ولا إثبات وقد قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {60} [الفرقان 60] وقال تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وكذلك قول فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الإخبار عن ذلك بلفظ موسى وكذلك مسألة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون من رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوًا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في(3/89)
رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها اتباعًا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في(3/90)
الظاهر مقرًّا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أَحَدٌ يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أَحَدٌ مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين(3/91)
ينكرون الجوهرالفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لابد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شيء عن شيء فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لايسار ويساره موصوف بأنه يسار لايمين فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفًا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزًا أصلاً وذلك ينفي كونه جوهرًا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فإنه لا يمكنهم الاستدلال(3/92)
على نفي كونه تعالى جوهرًا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضًا نفي الضد والند ولو كان الله تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثْلاً له وذلك ينفي كونه أحدًا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لايكون في شيء من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصًّا بحيز وجهة فإن كان منقسمًا كان جسمًا وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرًا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلاً فثبت أن قوله أَحَدٌ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلاً(3/93)
قلت هذا الاستدلال هو معروف قديمًا من استدلال الجهمية النافية فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لايجعل القديم واحدًا فقط فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة(3/94)
وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد ومبنى ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكَلِم عن مواضعه وقد ذكر تلبيسهم وتحريفهم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية(3/95)
لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلاً في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكَرَب وليف وسَعَف(3/96)
وخُوص وجُمَّار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علمًا فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة(3/97)
المخزومي فقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقد كان الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدًا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب(3/98)
والتجزئة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجِنْس والفصل ويستلزم أيضًا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن(3/99)
الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسوله وهذا أصل تعظيم يجب معرفته فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدر ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه(3/100)
كثرة حد ولا كثرة كم أو يقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم(3/101)
وهذا تعديد ينافي التوحيد أو يقولون أيضًا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددًا في ذاته وذلك خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم له هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وانفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هنا أخذ محمد بن التومرت هذا اللقب وسمى(3/102)
طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من الجهمية في التوحيد ولم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلاً عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا(3/103)
الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفَرد من أصحاب النجار وكان برغوث من(3/104)
أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي(3/105)
وهذا من خصوم أحمد وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعًا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم إن التوحيد يجمع ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له وقَدْر فليس بمركب(3/106)
ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضًا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له وهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لايتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولاً لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك ثم إن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكره الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث(3/107)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئًا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة(3/108)
ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القَدر وأمل الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان(3/109)
جمهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مُصرِحون بالتجسيم قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرًا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هو وواصل بن عطاء(3/110)
وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دَعُوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دُواد قاضي القضاة وأمثالهم ولما أدخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ(3/111)
الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل(3/112)
على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كُلاَّب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقًا للشيء إنه واحد فقال ومعنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدًا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يُدَاخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدًا قال ول كان داخلاً فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها(3/113)
لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوق أو المخلوق فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضاً لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضاً له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا مماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متجزيًا قيل لك والعليم لا يكون إلا متجزيًا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه(3/114)
لا يصح أن يضبط بالوهم شيء واحد أراد أنه إن كان قديماً فلابد من صفات وإن كان محدثاً فمن أعراض قلت هذا الكلام يقال إبطالاً لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة أن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة قولهم للغة والعقل والشرع ولكن كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواقع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك(3/115)
قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبوبكر ولو قلت الواحد هو الشيء كان كافيًا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشيء الذي لاينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغنى عنه وقد(3/116)
لا تفهم من الشيء المطلق ما تفهم من المقيد وليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لاينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء فهما أمران متلازمان فلابد من التعرض لهما ثم قال أبوالمعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشيء لايقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني(3/117)
متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى وقال الأستاذ أبوبكر بن فورك إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصول والفصل قال الأنصاري إشارة إلى وحدة الإله فإن الجوهر(3/118)
واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلاً ولا وصلاً قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ماعدا الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبوبكر إلى هذا وقال الجُبَّائي كونه واحدًا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدًا وغائبًا والذي يدل عليه كلام(3/119)
القاضي أن الاتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة اعتقاد الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرًا مايقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظ الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام(3/120)
وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي(3/121)
أبويعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفي الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المِثْل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار يقهر كل جبار والحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يُقدّر فيها حكم الواحد الذي لاينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقولهم فلان واحد زمانه(3/122)
لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزي فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود هذا الانفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء بن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ لأنه لو كان والدًا لكان متجزأ لأن الولد هو انفصال جزأ من الوالد قال سبحانه وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً [] الزخرف 15] يعني ولدًا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسمًا قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الإيلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظًّا وتعيد منها فضلاً والقديم سبحانه ذات لا يداخله شيء ولا يُداخل شيئًا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت(3/123)
وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم يتسلط عليها التجزئة وكذلك قال أبو الوفاء بن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مُشَبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] معناه ليس مثله شيء والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسمًا لكان مؤلفًا لأن حقيقة الجسم هو المؤتلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجزأ وأكبر جثة ولو كان مؤلفًا لاحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويُجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتيام ولو جوزنا قِدم غائب مع كونه جسمًا لاقتبسنا من العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشيء ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه(3/124)
هذه الأشياء الموجودة أو شيئًا مناه لسد مسده وقام مقامه في القدم والإحداث والصفة والاختراع وإلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لاحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة التي يقوم بها ويتحول إليها وكذلك لوجب قدم الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء الأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال(3/125)
أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شيء من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب والابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناول مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو(3/126)
وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك ثم يقال لهم وإذ قد كان الله عندنا وعندكم موصوفًا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفًا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له وما لكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا قلت مذهب النصارى لكونه متناقضًا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وإن كان الآخرون من النصارى(3/127)
لا يقولون ذلك فإن عندهم كل إله من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم عن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلهًا ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدًا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن الروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضًا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضًا وإذا عُرِفَ أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وإن كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيًا وإثباتًا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام(3/128)
ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ولا يتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المُعَضَّى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل منه بعض كما ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من فضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثرالناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة(3/129)
والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنو آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا هو عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضًا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودًا مطلقًا مجردًا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند(3/130)
جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفى الصفات كان متناقضًا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الصفات الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية وسائر النفاة والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها وهم متناقضون في ذلك عند هؤلاء ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدًا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وأبرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على مايقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي(3/131)
ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلاً إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وإما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجلّ(3/132)
وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني(3/133)
والقاضي أبي الحسين وأبي وإن كانوا يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته وأما التشبيه فهو اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه دون وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضًا منتف عن الله وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد(3/134)
المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم أحدهما مقام الآخر وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين(3/135)
ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فإن مقتضى هذا كونه معدومًا ومنهم طوائف يطلقون هذا لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دَلّ على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضًا بالعقل وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعدوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين(3/136)
المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون هو جسم لا كالأجسام فهذا هو مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات مايستلزمه كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المُبْتَدعة المتنازع فيها لا نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد الاستفسار والتفصيل فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في(3/137)
التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم موحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئًا فقد وحده ومن عبد من دونه شيئًا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أنه لاإله إلا هو ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركًا وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء ونزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص(3/138)
الدين له فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن كما في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث جابر وابن(3/139)
عمر وسعد وغيرهم وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس(3/140)
له فيها شبيه ولاكفؤ والتوحيد في الإرادة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له وقد أنزل الله سورتي الإخلاص قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} [الكافرون 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] الواحدة في توحيد العمل ولهذا كان القول فيها لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} [الكافرون 2] وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم وهي قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] ولهذا كان القول فيها جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة ولهذا قال الله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} [البقرة 163] وقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {108} [الأنبياء 108] وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد [الكهف 110] وقال وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقال أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص 5-6] وفي القرآن من نفي(3/141)
الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكُلفة كقوله فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً {9} [المزمل 9] رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً {14} هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً {15} [الكهف 14-15] لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً {22} [الإسراء 22] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد 19] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} [الصافات 35] ونحو ذلك ممايتضمن وحدانية في الإلهية فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدًا ويفضلهم على النصارى في التوحيد فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون(3/142)
لا موحدون فقلت الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكون صابئة أو هم علماء الصابئة وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين(3/143)
وغيرهم والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وإن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد والطريق الثاني أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا هذا هو المختار عندهم(3/144)
وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبهًا بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك قال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ [التوبة 30] كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى قلت وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدًا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك وأما النصارى فهم لا يقولون عن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولاً متناقضًا حيث يجعلون الثلاثة واحدًا ويجعلون الواحد هو المتحد(3/145)
بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا اصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعًا وعقلاً ولغة أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق(3/146)
على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة من ذكر الواحد مع كونه موصوفًا ذا مقدار بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار كقوله تعالى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر 6] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقال وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أَوَ لكلكم ثوبان وقال لا يصلِّ أحدكم(3/147)
في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وسيأتي بسط هذا إن شاء الله وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولايحاط به وإن سماه المسمي جسمًا وأيضًا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا ولهذا فسر ابن كلاب وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع وإن(3/148)
لم يكن إياه ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم يُعرّف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي(3/149)
العنيد فيما افترى على الله في التوحيد وذكر أن بعض من كان بنواحيه ممن أظهر معارضة السنة والآثار بكلام بشر المريسي وصنف في ذلك إلى أن قال افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشئًا لكلام المريسي مدلسًا على الجهال بما فهم أن يحكى ويرى من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض(3/150)
اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوها كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي وأكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة(3/151)
والقدرية(3/152)
قال وقد أخطأ المعارض محجة السبيل وغلط غلطًا كثيرًا في التأويل لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما لم يشك أحد منهم في إكفارهم سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي أنه سمع(3/153)
وكيعًا يكفر الجهمية وكتب إلى علي بن خشرم أن ابن المبارك يخرج الجهمية من عداد المسلمين(3/154)
وسمعت يحيى بن يحيى وأبا توبة وعلي بن المديني(3/155)
يكفرون الجهمية ومن يدعي أن القرآن مخلوق فلا يقيس الكفر ببعض اختلاف هذه الفرق إلا امرؤ جهل العلم ولم يوفق فيه لفهم فادعى المعارض أن الناس قد تكلموا في الإيمان وفي التشيع والقدر ونحوه ولا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب إذ جميع خلق الله تدرك بالحواس الخمس اللمس والشم والذوق والبصر بالعين والسمع والله بزعم المعارض لايدرك بشيء من هذه الخمس قال قلنا لهذا المعارض الذي لا يدري كيف تناقض أما قولك لا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير(3/156)
الصواب فقد صدقت وتفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاء بها مخلصًا دخل الجنة(3/157)
وأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله من قالها فقد وحد الله وكذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالتوحيد في حجته فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حدثنا(3/158)
أبو بكر بن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد(3/159)
عن أبيه عن جابر فهذا تأويل التوحيد وصوابه عند الأمة فمن أدخل الحواس الخمس أيها المعارض في صواب التأويل من أمة محمد ومن غيرها فأشر إليه غير ما ادعيتم فيه من الكذب على ابن عباس من رواية بشر المريسي ونظرائه(3/160)
ولمن تأول في التوحيد الصواب لقد تأولت أنت فيه غير الصواب إذ ادعيت أن الله لا يدرك ولن يدرك بشيء من هذه الحواس الخمس إذ هو في دعواك لا شيء والله مكذب من ادعى هذه الدعوى في كتابه إذ يقول عز وجل وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء 164] وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ [البقرة 174] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فأخبر في كتابه أن موسى أدرك منه الكلام بسمعه وهوأحد الحواس عندك وعندنا ويدرك في الآخرة بالنظر إليه بالأعين وهي الحاسة الثانية كما قال الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23](3/161)
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر جهرًا لا تضارون في رؤيته وروى عنه عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فذاك الناطق من قول الله وهذا الصحيح المشهور من(3/162)
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي حواس بأبْيَن من هذا فلذلك قلنا إن المعارض قد تأول فيه غير الصواب وروى أبو عبد الرحمن السلمي فيما صنفه في ذم الكلام ما ذكره أيضًا من طريق شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي في تصنيفه المشهور في ذلك قال أبو عبد الرحمن سمعت أبا نصر أحمد بن حامد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس ابن سُرَيج ما التوحيد قال(3/163)
توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله الواحد وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم لعدمه منافٍ لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد الصمد وأنه العلي العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه استوى على العرش وأنه يصعد إليه ويعرج إليه ويوقف عليه وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر وأنه يكلم عباده وأنه السميع البصير وقوله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] إذ هو لا يكون(3/164)
له قَدْر في نفسه وإنما قدره عندهم في القلوب وكذلك لا يكون له في نفسه عظمة وإنما عظمته في النفوس وذلك يظهر بالكلام على حجته وذلك من وجوه أحدها أنه قال الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية يقال له هذا يقتضي أن شيئًا مما يقال له جسم لا يوصف بالوحدة حيث قلت إن الجسم مركب وذلك ينافي الوحدة ومعلوم أن هذا خلاف ما في الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم وحواء خلقت من ضلع آدم القُصيراء من جسده خلقت لم تخلق من روحه حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم(3/165)
من الأجسام وقد سماها الله نفسًا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد فوصفه بأنه واحد أولى ومع هذا فهو جسم من الأجسام وقال تعالى يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] فوصف المرأة بأنها واحدة وهذا جسم موصوف بالوحدة حيث لم يكن لها نظير في كونه بنتاً لهذا الميت وقال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ [التوبة 6] وقال تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف 36] الآيات وقال تعالى قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] والفرد(3/166)
والوِتر من جنس لفظ الواحد وقد قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً {80} [مريم 80] وقال تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء إلى قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 25-26] وقد قال تعالى بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف 19] وقال تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات 12] وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف 32] وقال وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [النساء 20] وقال تعالى أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266] وقال تعالى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى في موضعين(3/167)
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء بل في الصحيح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء وفي الصحيح عن عمر بن أبي سَلمة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به وفي حديث المتلاعنين الذي(3/168)
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب وفي الصحيح عن سليمان بن صُرَد قال استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها(3/169)
لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي حديث إبراهيم اللهم أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهمايعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وفي(3/170)
السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا غضب أحدكما وهو قائم فليجلس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا وفي الصحيحين عن(3/171)
النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن احدهم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا فقُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وهو في البخاري من حديث أبي برزة أن النبي(3/172)
صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أوكلما غزونا غزوة خلف أحدهم له نَبِيب كَنَبِيبِ التَّيْسِ وفي الصحيحين عن(3/173)
أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي(3/174)
صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى وفي لفظ البخاري إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه وفي لفظ مسلم ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع(3/175)
أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح البخاري عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن إذا هَمَّ أحدكم بالأمر(3/176)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل وفيهما أنه قال لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه وفي رواية لأن يأخذ أحدكم وفي الصحيحين قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيح أيضًا أنه قال لا يبولن أحدكم في(3/177)
الماء الدائم ثم يغتسل منه وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى أحدكم الغائط(3/178)
فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وفي الصحيح أنه قال إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بِصَنِفَةِ إزاره الحديث وفيهما إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه وفيهما(3/179)
لا يقولن أحدكم اسْقِ ربك وَضِّئ ربك وفيهما أنه قال بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسِّي وفيهما لا يَمْشي أحدكم في نعل واحد وفيهما إذا شرب(3/180)
الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا وفيهما أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع وفيهما أنه قال إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في داره وفي الصحيحين لو اطلع في بيتك احد ولم تأذن له(3/181)
فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح وفي الصحيحين عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله ونحن في(3/182)
الغار لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا وفي الصحيح أيضًا أن الصحابة قالوا يا رسول الله أينطلق أحدنا إلى منى ومَذَاكِيره تقطر منيًّا وفي الصحيحين أيضًا أنه قال لا يضربن أحدكم امرأته ضرب العبد ثم يجامعها بالليل وفي الصحيحين أنه قال لايزال أحدكم في صلاته مادامت الصلاة تحبسه وفيهما أيضًا أنه قال إن الملائكة تصلي على أحدكم(3/183)
ما دام في مصلاه ما لم يحدث وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده وفيهما أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خير له من أن يمتلئ شعرًا وفيهما أنه قال السفر قطعة من العذاب(3/184)
يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه وفي الصحيحين أنه قال يكون كنز أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حَمْحَمةٌ لا أُلفينَّ أَحَدَكُم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة(3/185)
لها ثُغاءٌ لاأُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح لا أُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاع تخفق لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت وفيهما أنه قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه(3/186)
قبل الإمام وفيهما أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وفيهما أنه قال لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب وفيهما أنه قال إذا صلى(3/187)
أحدكم للناس فليخفف وفيهما أنه قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة وفيهما أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة بعشر أمثالها الحديث وفيهما أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد وفيهما أنه قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل(3/188)
عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه وفيهما في حديث داود فذهب الذئب بابن أحدهما وفيهما أنه قال نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده وفيهما إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وفي لفظ إذا(3/189)
أصبح أحدكم صائمًا وفيه فإن شاتمه أو قاتله أحد فليقل إني صائم وفيهما عن أبي هريرة اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد وفيهما عنه أنه قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وفي مسلم إذا ثُوب(3/190)
بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس(3/191)
الوجه الثاني أن الاستدلال بالقرآن إنما يكون بحمله على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} [الشعراء 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على تلك اللغة فإذا كان أهل الكلام من قد اصطلح في لفظ الواحد والأحد والجسم وغير ذلك من الألفاظ على معانٍ عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرًا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينهاالله لمن خاطبه القرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفًا للكلم عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء(3/192)
وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عمومًا ولغة قريش خصوصًا ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشجرة واحدة وقرية واحدة وثوب واحد وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان وثلاثة رجال وأربعة رجال وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لايوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل كما نذكره إن شاء الله الوجه الثالث أن أهل اللغة قالوا اسم الأحد لم يجئ اسمًا في الإثبات إلا لله لكنه مستعمل في النفي والشرط والاستفهام كقوله تعالى في نفس السورة التي ذكرها(3/193)
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] وكقوله تعالى فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً {110} [الكهف 110] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً {21} قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً {22} [الجن 19-22] وقال تعالى قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً {37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً {38} [الكهف 37-38] وقال وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} [الليل 19] وقال تعالى وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} [الحجر 65] وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ [هود 81] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أغير من الله وفي السنن من غير وجه أنه قال لا أُلِفْيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه المر من أمري مما أمرت به(3/194)
أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم كتاب الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كتبت له مائةُ حسنة وحُطَّ عنه مائة سيئةٍ وكانت له حِرزًا من الشيطان يَومهُ حتى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه وفي الصحيحين أن(3/195)
النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب الناس فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمسلمين وإنها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلّت لي ساعة من نهار وفي رواية فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إنما أَحلّها الله لرسوله ولم يُحِلَّها لك وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال أُحِلَّت لنا الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلنا وقال(3/196)
النابغة وقفتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلها عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَّبْع من أَحَدِ(3/197)
إلا الأَوارِيَّ لَأْياً ما أُبَيِّنُها والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلُومَةِ الجلدِ(3/198)
فلو كان لفظ الأحد لايقع على جسم أصلاً لكان التقدير ولم يكن ما ليس بجسم كفوًا له وهذا عنده ليس إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فيكون المعنى لم يكن الجوهر الفرد كفوًا له وأما سائر الموجودات فلم ينف مكافأتها له ولا أشرك بربي ما ليس بجسم ولن يجيرني من الله ما ليس بجسم ومعلوم أن عامة ما يعلم من المخلوقات القائمة بأنفسها هي أجسام كأجسام بني آدم وغيرهم والأرواح تدخل في مسمى ذلك عند عامة المسلمين وإن لم تدخل عند بعضهم ومن المعلوم أن الله لم ينه عن أن يشرك به ما ليس بجسم فقط بل نهيه عن أن يشرك به الأجسام أيضًا لاسيما وعامة ما أشرك به من الأوثان والشمس والقمر والنجوم إنماهي أجسام وفي السنن حديث أبي بكر الصديق لما استأذنه أبو برزة في قتل بعض الناس فقال إنها لم تكن لأحد بعد(3/199)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يدخل(3/200)
أحدًا منكم عمله الجنة وفي لفظ لن ينجو أحد منكم بعمله وفيهما أنه قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يَتْبَعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سُقُوفها ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفِاتٍ وهو ينتظر أولادها وفيهما أنه قال ما منكم(3/201)
من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان وفي الصحيح أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا وفي الصحيح أنه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة الوجه الرابع أن قوله لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا(3/202)
من جوهرين هذا إنما يتم على رأي المُثْبِتين للجوهر الفرد وإلا فنفاته عندهم الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من الجواهر المنفردة وهذا المصنف قد صرح في أشرف كتبه عنده أن هذه المسألة متعارضة من الجانبين وهو لماأقام أدلته على إثبات الجوهر الفرد في هذا الكتاب في مسألة المعاد وزعم أنها قاطعة ثم ذكر المعارضات قال في الجواب أما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في(3/203)
كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضًا نختار التوقف فإذًا لا حاجة بنا إلى الجواب عما ذكروه فإذا كان أذكى المتأخرين من الأشعرية النافية للصفات الخبرية وإمامهم وهو أبو المعالي وأذكى متأخري المعتزلة(3/204)
وهو أبو الحسين وابن الخطيب إمام مُتَّبعيه توقفوا في كون الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تنقسم أم ليس مركبًا منها كانت هذه المقدمة التي استدل بها مما لايعلم صحتها أفاضل الطوائف المتبوعين الموافقين له فقوله بتسليمهم ذلك حجة فاسدة وأقل ما في ذلك أن هذه المقدمة ممنوعة فلا يُسلم له منازعوه أن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين والنزاع في ذلك بين أهل الكلام بعضهم مع بعض وبين المتفلسفة أيضًا مشهور وهولم يذكر حجة على كونه مركبًا فلا يكون قد ذكر دليلاً أصلاً فإن قيل نفاة الجوهر الفرد يقولون إنه يقبل التقسيم والتجزيء إلى غير غاية فما من جزء إلا وهو يحتمل التقسيم فيكون عدم الوحدة في الجسم أبلغ على قولهم قيل هؤلاء إن قالوا إن لفظ الواحد لا يقال إلا على ما لا يقبل القسمة وعندهم كل شيء قابل للقسمة فهذا اللفظ عندهم ليس له مسمى معلوم متفق عليه أصلاً إذ مورد النزاع فيه من الخفاء والنزاع ما لا يصلح أن يكون اللفظ مختصًّا به إذ(3/205)
اللفظ المشهور بين العامة والخاصة لا يكون مسماه ما قد تنازع الناس في إثباته ولا يعلم إلا بدقيق النظر إن سلم ثبوته وأيضًا فهؤلاء يصرحون بأن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من جوهرين ولا من جواهر وإذا كانوا يصفونه بالوحدة ويمنعون أن يكون مركبًا لا من جوهرين امتنع أن تصح هذه الحجة على أصلهم فهذه الوجوه الأربعة تبين بطلان ما ذكره من دلالة اسم الأحد على نفي كونه جسمًا الوجه الخامس أن الجسم إما أن يكون مركبًا من الجواهر المنفردة وأقل ما يتركب منه جوهران أو لا يكون فإن كان الأول صحيحًا أبطلت الحجة الثانية التي ذكرها على نفي كونه جوهرًا فإنها مبنية على أن الجسم ليس أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وإن كان باطلاً فَسَدت هذه الحجة التي نفى بها كونه جسمًا فثبت بطلان إحدى الحجتين وبقيت الحجة الثالثة التي ذكرها لنفي الجوهر الفرد وسنتكلم عليها إن شاء الله وذلك أن الجسم إن كان أقله مركبًا من جوهرين فالجوهر(3/206)
ليس بمنقسم بل هو فرد فلا تصح تلك الحجة وإن لم يكن أقله مركبًا من جوهرين بَطَلت هذه الحجة فبطلت إحدى الحجتين إما التي نفى بها التجسيم أو التي نفى بها الجوهر ويلزم من بطلان إحداهما بطلان الأخرى الوجه السادس أن يقال ما ذكرته في منع الجوهر الفرد وأن كل متحيز فهو منقسم قد اعترفت بأن هذه الحجة مكافئة لنظيرها ولم تعلم الحق في ذلك ثم يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد هذا لا يصح على قول هؤلاء فإنهم يقولون الجسم واحد في نفسه كماأنه واحد في الحس وهو واحد متصل ليس مركبًا من الجواهر المنفردة فيصفونه بالوحدة وإن قالوا إنه قابل للانقسام فقبوله للانقسام عندهم لا يمنع وصفه بالوحدة عندهم وتسميتهم إياه واحدًا بل يصفون بالوحدة ما هو أبلغ من ذلك فيقولون أحد بالجنس وواحد بالنوع وواحد بالشخص(3/207)
الوجه السابع أن يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد لم تذكر على هذا دليلاً أصلاً لا بينة ولا شبهة وهو لم يذكر قبل هذا إلا أن الجسم مركب من جوهرين وقال وذلك ينافي الوحدة وتلك أيضًا دعوى لم تُقِمْ عليها دليلاً ولو ثبت ذلك في ما هو مركب بالفعل لم يثبت فيما هو قابل للقسمة فإن هذا ليس فيه من التعدد ما في ذلك المركب فكيف إذا لم تذكر حجة على شيء من ذلك فأين هذا الثبوت الذي أحال عليه والشيء لا يقال فيه ثبت إلا إذا كان معلومًا بالبديهة أو قد أقيمت عليه حجة الوجه الثامن أن طوائف كثيرة من أبناء جنسك من المتكلمين من الأولين والآخرين يقولون إنه لا موجود إلا جسم أو ما قام به أو لا موجود إلا الجسم فقط وأنه(3/208)
لا يعقل موجود إلا كذلك فهؤلاء عندهم إذا فسرت الحد بما ليس بجسم ولا جوهر يقولون لك فسرته بالمعدوم مثل أن تفسره بما ليس بخالق ولا مخلوق أو تفسره بما ليس بقديم ولا محدث فتحتاج أولاً أن تثبت وجود موجود غير الجسم ليمكنك تفسير لفظ الأحد به وإذا كان حجتك موقوفة على هذه المقدمة فلو ثبتت هذه المقدمة استغنيت عن هذه الأدلة التي ذكرت أنها سمعية لا تتم الوجه التاسع أن يكون لفظ الحد لا يقال على الجسم والجوهر ليس نصًّا في اللغة ولا ظاهرًا بل إن كان صحيحًا فإنما يُعلم بهذه المقدمات الخفية التي فيها نزاع عظيم بين أهل الأرض ومعلوم أن إفهام المخاطَبِين بمثل هذه الطريق لا يجوز وليس هذا من البلاغ المبين الذي وصف الله به الرسول وقد وصف كتابه بأنه بيان للناس وليس هذا من البيان في شيء لاسيما والقوم كانوا يستعملون لفظ الواحد والأحد في كلامهم وهم لا يعلمون إلا الجسم أو ما قام به لا يطلقون هذا اللفظ إلا على ذلك فإذا قصد بهذا الفظ أن يبين لهم أن معناه ما لا يكون جسمًا كانوا قد خوطبوا بنقيض معنى لغتهم ولو فرض أن لغتهم لا تنفي هذا فهي لا تدل عليه(3/209)
بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام الظاهر بل بلزوم خفي لا يصلح مثله لدلالة اللفظ فإنه يحتاج أن يقال لهم لفظ الأحد والواحد ينفي العدد فهذا ظاهر ثم يقال لهم وكل ما ترونه وتعلمونه من الموجودات فليس هو واحدًا لأنه يمينه ليست بيساره وأعلاه ليس هوأسفله وكل ما تميز منه شيء عن شيء فليس هو بواحد ولا أحد ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال عامة الخلق بل لا يتصورونه إلا بعد كُلْفَة وشدة وإذا تصوروه أنكرته فطرتهم وأنكروا أن يكون هذا هو لسانهم الذي خوطبوا به واستلزم ذلك أن يقال الشمس ليست واحدة والقمر ليس واحدًا وكل كوكب من هذه الكواكب ليس واحدًا وكل سماء من السموات ليست واحدة وكل إنسان ليس بواحد وكل عين ويد ورجل وحاجب وأنف وسن وشفة ورأس وشجرة وورقة وثمرة وغير ذلك ليس بواحد إذ هذا جميعه يميز جانب منه عن جانب وأعلاه عن أسفله الوجه العاشر أن هذه الحجة يحتج بها نفاة الصفات بأسرها الذين يقولون ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة فإن تعدد(3/210)
الصفات يمنع أن يكون الموصوف بها أحدًا وينافي الوحدة لأن هناك عددًا من الصفات والوحدة تنافي العدد ولهذا احتج الجهمية المحضة بهذه الحجة كما ذكره الإمام أحمد وغيره وهذا المستدل هو ممن يثبت الصفات في الجملة ويقول بإثبات الصفات السبع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة فإن كانت هذه الحجة صحيحة لزم إبطال مذهبه ذاك وإن كانت باطلة لزم بطلان هذا الاستدلال وما كان جوابه عن استدلال نفاة الصفات مطلقًا بها كان جوابًا لمنازعيه في إثبات العلو وما يتبعه بل ذلك يبطل استدلاله بذلك على المجسمة المحضة(3/211)
الوجه الحادي عشر أن يقال أعظم الناس نفيًا للصفات غلاة الفلاسفة والقرامطة وأئمتهم من المشركين الصابئين وغيرهم وهم لابد إذا أثبتوا الصانع أن يثبتوا وجوده ويثبتوا أنه واجب الوجود غير ممكن الوجود وأنه ابتدع العالم سواء قالوا إنه علة أو والدٌ أو غير ذلك فمسمى الوجود إن كان هو مسمى الوجوب لزم أن يكون كل موجود واجبًا بنفسه وهو خلاف المشهود بالإحساس وإن كان هذا المسمى ليس هذا المسمى ففيه معنيان وجود ووجوب وليس الوجوب مجرد عدم إذ هو توكيد الوجود والعدم المحض لا يؤكد الوجود فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية كما يزعم ابن سينا وذووه من مرتدة العرب المُتَّبِعِينَ لمرتدة الصابئة أنه إذا كان واحدًا من كل وجه فليس فيه تعدد من جهة الصفة ولا من جهة القَدْرِ ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحدًا وهو معلوم الفساد بالبديهة وإن كان هو في نفسه(3/212)
متسمًا بالأحد والواحد مع ثبوت هذه المعاني المتعددة علم أن هذا الاسم لا يُوجِب نفي الصفات بل هو سبحانه أحد واحد لا شبيه له ولا شريك وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه وكذلك هوأيضًا ذات وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم وسائر الذوات وكل ما هو قائم بنفسه يشاركه في هذا الاسم ومعناه كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه وهو سبحانه يتميز عن سائر الذوات وسائر ما هو قائم بنفسه بما هو مختص به من حقيقته التي تميز بها وانفرد واختص عن غيره كما تميز بوجوب وجوده وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس ومن الذوات كما أن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود فسواء سمى المُسمي هذا تعدادًا أو تركيبًا أو لم يسمه هو ثابت في نفس الأمر لا يمكن دفعه والحقائق الثابتة لا تُدفع بالعبارات المجملة المبهمة وإن شنع بها الجاهلون الوجه الثاني عشر قوله إن مُثْبِتَةَ الجوهر الفرد يمكنهم الاحتجاج بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا فردًا من وجه(3/213)
آخر وهو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثالاً له وذلك ينفي كونه أحدًا وأكدوا هذا الوجه بقوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له يقال هذه الدلالة المشتركة بين جميع الناس نفاة الجوهر وغيرهم فكل أحد يمكنه من ذلك ما أمكن هؤلاء وأيضًا فالمطلوب بهذا الدليل وهو نفي كونه جوهرًا فردًا أمر متفق عليه بين الخلائق كلهم بل هو معلوم بالضرورة العقلية أن رب السموات والأرض ليس في القدر بقدر الجوهر الفرد فإنه عند مُثْبِتيه أمر لا يُحسه أحد من حقارته فهو أصغر من(3/214)
الذرة والهباءة وغير ذلك فكيف يَخْطُر ببال أحد أن رب العالمين بهذا القدر حتى يحتاج هذا إلى دليل على نفيه ولا ريب أن كونه واحدًا يمنع أن يكون له شبيه وكذلك قوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] يمنع الكفؤ فيمتنع أن يكون من الجواهر المتماثلة لكن هذه الدلالة إنما تتم إذا كانت الجواهر المنفردة متماثلة في حقائقها الوجه الثالث عشر قوله وإذا ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات(3/215)
يقال له هذا مما يُنَازِعُك فيه كثير من أصحابك وغيرهم من متكلمي الصفاتية ويقولون قد يكون في الجهة ما ليس بجسم وهذا هو الذي سلمته لهم في أشرف كتبك وهو نهاية العقول قال المسألة الثالثة في أنه تعالى ليس في الجهة وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسمًا هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفي الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل(3/216)
الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات متى ثبت ذلك ثبت أنه لايلزم من نفي كون الشيء جسمًا نفي اختصاصه بالحيز والجهة قال وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي(3/217)
الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الحيز والجهة ثم احتج على ذلك بما تكلمنا عليه في موضعه لما ذكرناه فهذا الكلام وإن كان لمن قال بالأول أن يقول يلزم من نفي كون الشيء جسمًا أو قائمًا بجسم نفي اختصاصه بالحيز والجهة لكن المقصود هنا أن كثيرًا من الصفاتية أهل الكلام كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من أئمة الصفاتية المتكلمين من يقول ليس بجسم ولا جوهر ويقول مع ذلك إنه فوق العرش كما قرروه في كتبهم لكن منهؤلاء من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلق لفظ الجهة ولفظ الحيز وهذا قول طوائف من الفقهاء أهل المذاهب الأربعة ومن الصوفية وأهل الحديث وغيرهم(3/218)
يجمعون بين نفي الجسم وبين كونه نفسه فوق العرش فصل قال الرازي لو كان مركبًا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدًا مطلقًا قلت هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى وقد قدمنا أن لفظ الجوارح(3/219)
والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيديه وخلق عَدْناً بيديه لكان الله محتاجًا في الفعل إلى يد وذلك ينافي كونه صمدًا وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول والكلام على هذا من وجوه أحدها أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه قال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا عبد الله بن صالح(3/220)
حدثني ليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم(3/221)
عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لقد قالت الملائكة يا ربنا منا الملائكة المقربون ومنا حملة العرش ومنا الكرام الكاتبون ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر خلقت بني آدم فجعلت لهم الدنيا(3/222)
وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة فقال لن لأفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك فقال لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان(3/223)
وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أظنه مرسلاً(3/224)
وقال الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن(3/225)
مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد قال عبد الله بن عمر خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدْن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان(3/226)
وقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن(3/227)
عطاء بن السائب عن ميسرة قال إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده(3/228)
وقال حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن(3/229)
زُرَيع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس(3/230)
عن كعب قال لم يخلق الله بيده غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون(3/231)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن موسى يقال له أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده وأما الفعل باليد غير الخلق فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله يَطْوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يَطْوي الأرض بيده الأخرى وفي رواية مسلم بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون(3/232)
أين المتكبرون وقوله تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يَتَكَفَّؤُهَا الجبَّارُ بيده كما يَتَكَفَّأُ أحدكم خُبْزَتَهُ في السفر نُزُلاً لأهل الجنَّةِ وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق وقال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ(3/233)
يَسِيرٌ {70} [الحج 70] وقال تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكِتَاب والكُتَّاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه فَخَلْقُه ما يَخْلُقُه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك الوجه الثاني أن يقال إنه سبحانه الغني الصمد القادر وقد خلق ماخلقه من أمر السموات والأرض والدنيا والآخرة بالأسباب التي خلقها وجعل بعض المخلوقات سببًا لبعض كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال تعالى وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} [ق 9] وقال تعالى يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل 11] وقال تعالى فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل 60](3/234)
فإذا كان خلقه بعض المخلوقات ببعض لا يوجب حاجته إلى مخلوقاته ولا ينافي كونه صمدًا غنيًّا عن غيره فكيف يكون خلقه لآدم بيده وقبضه الأرض والسموات بيده موجبًا لحاجته إلى غيره ومن المعلوم أن فعل الفاعل بيده أبعد عن الحاجة إلى الغير من فعله بمصنوعاته الوجه الثالث أن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات فإن قولهم لو كان له علم وقدرة وحياة وكلام لكان محتاجًا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام بمنزلة قول هذا القائل لو كان له يد لكان محتاجًا في الفعل على اليد وذلك ينافي كونه صمدًا فما كان جوابه لأولئك كان جوابًا له عن هؤلاء لا سيما أن هذا أوكد لأنه قد تقدم أنه قادر على الخلق والفعل بيده وبغير يده ولا يجوز أن يقال إنه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة فإن كان ثبوت الصفات موجبًا حاجته إليها فالحاجة في هذه أقوى وإن لم تكن موجبة حاجته إليها بطلت الحجة الوجه الرابع أن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لايصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته كما تقدم وصفاته تعالى ليست خارجة عن ذاته فوجود الصفات والفعل بها كوجود الذات والفعل بها وقد تقدم الكلام على ما في(3/235)
هذا من الألفاظ المجملة مثل الافتقار والجزء وغير ذلك وبينا أن ذلك مثل قول القائل واجب الوجود بنفسه وبنفسه فعل ونحو ذلك من العبارات الوجه الخامس أن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ما له من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات(3/236)
فصل قال الشيخ رحمه الله للناس في أن الله فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والصوفية والفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهما أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوقات والخالق وبين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني وهو المشهور عن السلف وأئمة الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه(3/237)
وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك فصل للناس في حملة العرش قولان أحدهما أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه والثاني أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة(3/238)
فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعًا فيقال من جهة الأولين لانسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل من فوقه فالمقدمة الأولى ممنوعة وذلك أن من حمل السقف لايجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدًا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولاً لما يحمل السقف وكذلك السموات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السموات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملاً لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملاً للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملاً لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجًا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئًا(3/239)
من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث والثانية تأثير المخلوق فيه وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود المر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سبحانه وتعالى الغني عما سواه وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني(3/240)
عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولايقدر أن ينزل ولايصعد ولاياتي ولا يجيء ولايقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لايقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورًا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى في غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي وصاحبه وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن(3/241)
كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يُضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة(3/242)
ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض وكيف تنكر أيها النفاخ أن عرشه يُقِلُّه والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة فكيف تقله الأرض في دعواك ولايقله العرش الذي هو أعظم منها(3/243)
وأوسع وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما تورد عليك حصائد لسانك فإنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك وقد حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح أنه قال أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة العرش فقالوا ربنا لما خلقتنا فقال خلقتكم لحمل عرشي قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك فقال لهم إني خلقتكم لذلك(3/244)
قال قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك قال فقال خلقتكم لحمل عرشي قال فيقولون ذلك مرارًا قال فقال لهم قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله(3/245)
قال أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده وقال في كتابه حدثني محمد بن بشار بندار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي(3/246)
قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن(3/247)
عتبة عن جُبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه(3/248)
عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالراكب(3/249)
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على(3/252)
الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار قال فيه عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جُهِدَتِ الأنفس وضاعت العيال ونُهِكَتِ الأموالُ وهلكت الأنعام فاسْتَسْقِ الله لنا فإنانستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لايستشفع به على احد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكبِ قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه(3/253)
وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقوله في الحديث بأن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل وهذا كما يقوله بعض الشعراء مخاطبًا للنبي صلى الله عليه وسلم شفيعي إليك الله لا شيء غيره وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق(3/254)
عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات(3/255)
المتصلة الإسناد رواه عن بندار كما رواه الدارمي وأبو داود سواء وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء فقال حدثنا محمد بن بشار ثنا وهب يعني ابن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد(3/256)
ابن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جُهِدت الأنفس وجاعت العيال ونُهِكَت الموال وهَلَكَت الأنعام فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله على عرشه وعرشه على سمواته وسمواته على أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه لَيَئِطّ به أَطِيطَ الرَّحْل بالرَّاكب قال ابن خزيمة قرئ على أبو موسى وأنا أسمع أن وهبًا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء وممن احتج به الحافظ أبومحمد بن حزم في مسألة(3/257)
استدارة الأفلاك مع أن أبا محمد هذا من أعلم الناس لا يقلد غيره ولا يحتج إلا بما تثبت عنده صحته وليس هذا الموضع وهؤلاء يحتجون في معارضة ذلك من الحديث بما هو عند أهله من الرأي السخيف الفاسد الذي يحتج به قياسو الجهمية كاحتجاج أبي القاسم المؤرخ في حديث أملاه في التنزيه بحديث أسنده عن عوسجة وهذا(3/258)
الحديث مما يعلم صبيان أهل الحديث أنه كَذِب مختلق وأنه مفترى وأنه لم يروه قط عالم من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث ولا دونوه في شيء من دواوين الإسلام ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب كماثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات فإنما سلك سبيل من لا عقل له ولا دين وكان في ذلك ممن يتبع الظن وما تهوى النفس وهو من المقلدين لقوم لا علم لهم بحقيقة حالهم كما قال(3/259)
تعالى وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} [الشورى 14] وروى أيضًا عثمان بن سعيد قال ثنا عبد الله بن رجاء ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن(3/260)
خليفة قال أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فَعَظَّم الرب وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقْعُدُ عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع ومد أصابعه الأربعة وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد إذا ركبه من يثقله(3/261)
وقال أيضًا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو(3/262)
ابن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده(3/263)
ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالمس أول النهار فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات(3/264)
العرش والملائكة(3/265)
وأصحاب هذا القول فيستشهدون بما روي عن طائفة في تفسير قوله تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى 5] قال عثمان بن سعيد في رده على الجهمية ثنا عبد الله ابن صالح المصري حدثني الليث وهو ابن سعد حدثني(3/266)
خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن زيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال أتى رجل كعبًا وهو في نفر فقال يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار فأعظم القوم قوله فقال كعب دعوا الرجل فإن كان جاهلاً تعلم وإن كان عالمًا ازداد علمًا ثم قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سماءين كما بين(3/267)
السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك وجعل بين كل أرضين كما بين السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك ثم رفع العرش فاستوى عليه فما في السموات سماء إلا لها أطيط كأطيط الرّحل العُلا في أول ما يرتحل من ثُقل الجبار فوقهن وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار فوقهن فلو كان هذا القول منكرًا في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه(3/268)
وقد ذكر ذلك القاضي أبو يعلى الأزجي فيما خرجه من أحاديث الصفات وقد ذكره عن طريق السنة عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبو المغيرة حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه(3/269)
كان يقول إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش قال القاضي وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في(3/270)
تاريخه بإسناده حدثنا عن ابن مسعود وذكر فيه فإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيه ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين(3/271)
يحملون العرش وذكر الخبر اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره وأن ثُقْلَه يحصل بذات الرحمن إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته قال على طريقته في مثل ذلك لأنا لا نثبت ثقلاً من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى عن ذلك وإنما نثبت ذلك صفة لذاته لا على وجه المماسة كما قال الجميع إنه عال على الأشياء لا على وجه التغطية لها وإن كان في حكم الشاهد بأن العالي على الشيء يوجب تغطيته قال وقيل إنه تتجدد له صفة يثقل بها على العرش ويزول في حال كما تتجدد له صفة الإدراك عند خلق المدركات وتزول عند عدم المدركات فإن قيل ذلك محمول على ثقل عظمته وهيبته في قلوبهم وما يتجدد لهم في بعض الأحوال من(3/272)
ذكر عظمته وعزته كما يقال الحق ثقيل مر وليس المراد به ثقل الأجسام وقال سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] قال القاضي قيل هذا غلط لأن الهيبة والتعظيم مصاحب لهم في جميع أحوالهم ولا يجوز مفارقتها لهم ولهذا قال سبحانه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {20} [الأنبياء 20] وما ذكره من قول القائل الحق ثقيل وكلام فلان ثقيل فإنما لم يحمل على ثقل ذات لأنها معانٍ والمعاني لا توصف بالثقل والخفة وليس كذلك هنا لأن الذات ليست معاني ولا أعراضًا فجاز وصفها بالثقل وأما قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] فقد فسره أهل النقل أن المراد به ثقل الحكم ولأن الكلام ليس بذات قال فإن قيل يحمل على أنه يخلق في العرش ثقلاً على كواهلهم وجعل لذلك أمارة لهم في بعض الأحوال إذا قام المشركون قيل هذا غلط لأنه يُفضي أن يَثْقل عليهم بكفر(3/273)
المشركين ويخفف عنهم بطاعة المطيعين وهذا لا يجوز لما فيه من المؤاخذة بفعل الغير وليس كذلك إذا حملناه على ثقل الذات لأنه لا يفضي إلى ذلك لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم وله أن يُثقِّل عليهم في التكليف ويخفف قلت المقصود هنا التنبيه على أصل كلام الناس في ذلك وأما الكلام في الخفة والثقل ونحو ذلك فربما نتكلم عليه إن شاء الله في موضعه فإن طوائف من المتفلسفة يقولون السموات ليست خفيفة ولا ثقيلة قالوا لن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وهو الوسط والخفيف هو الذي يتحرك على فوق من الوسط والأفلاك مستديرة لا تتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل فلذلك لم نصفها بثقل ولا خفة كما لم يصفوها بشيء من الطبائع الأربعة وهذا النزاع قد يكون لفظيًّا وقد(3/274)
يكون معنويًّا إذا اصطلحوا على أنهم لا يسمون خفيفًا وثقيلاً إلاَّ ما هو كذلك فهو نزاع لفظي وأما النزاع في كون أجسام السموات يمكن صعودها وانخفاضها لولا أن الله يمسكها بقدرته كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [فاطر 41] وقال وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 25] فهذا نزاع معنوي وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث كُرَيْبٍ عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث(3/275)
أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال مازلت على الحال الذي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وفي رواية سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته فالمقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود وغاية ما يمكن من القول والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر(3/276)
عدد خلقه وزنة عرشه الوجه الثالث أن يقال هذه المسألة تدل على نقيض مطلوبك فإنه أثبت أن العرش له حملة وأنه يحمل مع ذلك اليوم ويوم القيامة وظاهر هذا الخطاب أنه على العرش وأن العرش يُحْمَل مع ذلك سواء دلّ الخطاب على أن حملة العرش يحملونه أم لم يدل على ذلك فإن دل على ذلك أيضًا فقد دل على ما هو أبلغ من نقيض مطلوبه ثم إذا خالف هو هذه الآية يحتاج إلى تأويلها أو تفويضها فلا تكون الآيات المثبتة للعرش ولحملته أو لحمل الملائكة لما فوقه تنفي كونه على العرش هذا تعليق على الدليل ضد موجبه ومقتضاه ولكن قوله يلزم الافتقار من باب التعارض فيحتاج إلى الجمع بين موجب الآية وبين هذا الدليل لا تكون(3/277)
الآية لأجل ما يقال أنه يعارضها تدل على نقيض مدلولها هذا لا يقوله عاقل الوجه الرابع في تقرير ذلك ثم إن قوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر 7] وقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] يوجب أن لله عرشًا يحمل ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه وآخرون يكونون حوله وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية إما ثمانية أملاك وإما ثمانية أصناف وصنوف وهذا إلى مذهب المثبتة أقرب منه إلى قول النافية بلا ريب الوجه الخامس أن العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشًا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة(3/278)
إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش الوجه السادس أن إضافة العرش مخصوصة إلى الله لقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] يقتضي أنه مضاف إلى الله إضافة تخصه كما في سائر المضافات إلى الله كقوله بيت الله وناقة الله ونحو ذلك وإذا كان العرش مضافًا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاص وذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله من النسبة ما ليس لغيره فما يذكره الجهمية من الاستيلاء والقدرة وغير ذلك أمر مشترك بين العرش وسائر المخلوقات وهذه الآيات التي احتج بها تنفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك وتوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره كقوله عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] وهذا إما أن يدل على قول المثبتة أو هو إلى الدلالة عليه أقرب وأيهما كان فقد دلت الآية على نقيض مطلوبه وهو الذي ألزمناه فلم يذكر آية من كتاب الله على مطلوبه إلا وهي لا دلالة فيها بل دلالتها على نقيض مطلوبه أقوى(3/279)
قال الرازي الحجة الثالثة عشرة لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لأنه على القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن تكون تهيئة مكان نفسه مقدمًا على تهيئة مكان العبيد لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش لقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي قلت الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا والحمد لله الذي جعل لرسوله منه سلطانًا نصيرًا والحمد لله الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ينصرهم بسلطان الحجة وسلطان القدرة وهو الذي يؤتي رسله(3/280)
والمؤمنين به حجة على من خالفهم وجادلهم فيه بالباطل كما قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] فإن هذا الرجل وأمثاله لا يحتجون بحجة إلا وهي عليهم لا لهم لكن يزيد فيهم ذلك من يكون الله قد أيده بروح منه وكتب في قلبه الإيمان وجعل في قلبه من نور يفهم دقيق ذلك وأما جليله فيفهمه جمهور الناس وهذه من جليل ذلك وذلك أنه لا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب أن العرش خلق قبل السموات والأرض الوجه الأول فقول هذا المحتج لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لا يضرهم بل ينفعهم فإن الأمر في الترتيب(3/281)
ذلك ما كان وقول المثبتة يستلزم تقديم خلق العرش فهكذا وقع ولله الحمد وإن لم يكن مستلزمًا هذا الترتيب بطلت هذه الحجة فهي باطلة على التقديرين وأما قوله لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش فيقال هذا لم يعلمه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين ولا قاله أحد يعرف بالعلم وأما احتجاجه على تقدم خلق السموات بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي فهنا إنما ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض فأين قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] من قوله ثم خلق العرش فهذا لا يخفى على أحد فليس في كتاب الله ما يوهم تأخر خلق العرش فضلاً عن أن يدل فلا دلالة في القرآن على خلق السموات قبل العرش الوجه الثاني أن القرآن يدل على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض بهذه الآية التي ذكرها وبغيرها فإن(3/282)
قوله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] يقتضي أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ولم يذكر أنه خلقه حينئذ ولو كان خلقه حينئذ لكان قد ذكر خلقه ثم استواءه عليه ولأن ذكره للاستواء عليه دون خلقه دليل على أنه كان مخلوقًا قبل ذلك ولأنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين وأهل الكتاب أن الخلق كان في ستة أيام وقد قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود 7] فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان حينئذٍ على الماء وفي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولا شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض(3/283)
قال البخاري في كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة باب قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} [التوبة 129] عن عمران بن الحصين قال إني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وفد بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل من ناس أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى(3/284)
يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكان ذلك مناسبًا في العقل لأن يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده كان ثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه الوجه الرابع أنه لو فرض أن الله خلق العرش بعد السموات والأرض لم يكن في هذا ما ينافي أن يكون عليه كما أنه خلق السموات بعد الأرض فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 29] بعد قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت 11] بعد(3/285)
قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} [فصلت 9-10](3/286)
قال الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه فصل ثم قال أبوعبد الله الرازي في تأسيسه الفصل الرابع في إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع أن بعضها مبني على ما تقدم من نفي أنه جسم فإنه قرر أن ذلك يستلزم نفي أن يكون على العرش وأكثرها غير مبني على ذلك وهذا الفصل يتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق السموات وأن الرسول لم يعرج به إليه وأنه لا يَصْعد إليه(3/287)
شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الأبصار أو الرؤوس أو الأيدي إليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب إلى فوق قصدًا للتوجه إليه أصلاً لا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك ويتضمن أنه ليس فوق العالم رب ولا إله وليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف وأن ما فوق العرش وما تحت الأرض السابعة سواء في ذلك فكما أنه ليس في جوف الأرض فليس فوق العرش بل منهم من يقول إنه في كل مكان أو في كل موجود إما بمعنى أن تدبيره فيهم إما بمعنى أن ذاته في كل مكان أو أن ذاته هي كل موجود وأما ما فوق العرش فليس هناك شيء لأنه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال إنه فيه بمعنى التدبير أو بذاته أو بمعنى أن وجوده وجوده فهذه أقوال الجهمية متكلمهم(3/288)
ومتعبدهم لكن ثَمَّ طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك الأشعري في المقالات عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني(3/289)
وإخوانهم فقال إنهم يقولون إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك مستوٍ على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ [الفجر 22] وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إِنه لا نهاية له ومتكلمو الجهمية إلى النفي المطلق أقرب إذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك وأما عبادهم فلهم قصد وإرادة فيمن يعبدونه والقصد لا يتوجه إلى العدم المحض فلهذا كثيرًا ما يجعلونه(3/290)
هو في كل مكان أو يجعلونه هو الوجود كله والعامة منهم إلى هذا أقرب لأنه لا تخرج القلوب أن تعبد شيئًا موجودًا وبنو آدم قد أشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات فإذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن أن تعطل قلوبهم عن عبادة شيء من الأشياء بالكلية فهؤلاء يشركون شركًا ظاهرًا وأما أولئك فالجحود المحض أغلب على قلوبهم ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الآخرين وكل واحد من الاستكبار والإشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فإن الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له فمن عبد الله وغيره فقد أشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن(3/291)
امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو اكفر من هؤلاء وإن كان مشركًا حيث له آلهة يعبدها ولما كان الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الأولون والآخرون من جميع عباد الله المؤمنين كما قال نوح عليه السلام فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} [يونس 72] عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} [البقرة 131] وقال مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 67] وقال قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} [الأنعام 161] وقال وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {132} [البقرة 132] وقال يوسف عليه السلام تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {101} [يوسف 101] كما قال إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم(3/292)
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {40} [يوسف 37-40] وقال موسى عليه السلام يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} [يونس 84] وقال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة 44] وقالت بلقيس رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} [النمل 44] وقد قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء 125] وقال تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ(3/293)
عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وهذا عام في الأولين والآخرين كما قال سبحانه أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} [آل عمران 83-85] وقال تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران 18-19] ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} [آل عمران 19-20] وقوله إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران 19] فيه بيان أنهم اختلفوا(3/294)
في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي وهذا كما قال شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} [الشورى 13-15] واختلاف أهل الكتاب في دين الله الذي هو الإسلام قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ومن ذلك أن اليهود يغلب عليهم الاستكبار والقسوة فهم يعرفون الحق ولا يتبعونه وبذلك وصفهم الله في القرآن ومن فسد من أهل العلم والكلام كان فيه شبه منهم ولهذا يوجد في متكلمة الجهمية من المعتزلة ونحوهم شبه كثير حتى أن من أحبار اليهود من يقرر الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويوجد فيهم من التكذيب بالقدر والصفات وتأويل ما في التوراة وغير(3/295)
ذلك مما فيه مضاهاة للمعتزلة وأما النصارى فيغلب عليهم الإشراك والجهل فهم يتعبدون ويرحمون لكن بضلال وإشراك وبذلك وصفهم الله في القرآن ولهذا يوجد في متعبدة الجهمية من الاتحادية وغيرهم منهم شبه كثير حتى قد رأيت من هؤلاء الاتحادية من أخذ كلام النصارى النسطورية يزنه بكلامهم وحتى إن من النصارى من(3/296)
يأخذ فصوص الحكم لابن عربي فيعظمه تعظيمًا شديدًا ويكاد يغشى عليه من فرحه به ولهذا يوجد في شيوخ الاتحادية موالون للنصارى ولعلهم يوالونهم أكثر من المسلمين وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن الكلام في هذا الفصل مقصود لنفسه وفيه ينفصل أهل التوحيد من أهل الإلحاد فإن القول بأن الله فوق العرش هو مما اتفقت عليه الأنبياء كلهم وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف وجميع طوائف الصفاتية تقول بذلك من الكلابية وقدماء(3/297)
الأشعرية وأئمتهم والكرامية وقدماء الشيعة من الإمامية وغيرهم بخلاف لفظ الجسم والمتحيز فإن هذا لم يثبته السلف والأئمة مطلقًا ولا نفوه مطلقًا وإن كان فيما أثبتوه ما يوافق ما قد يعنيه مثبتو ذلك وفيما نفوه ما قد يوافق بعض قول نفاة ذلك وذلك أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى كما سمى نفسه بذلك وأنزل به كتبه وعلمه من شاء من خلقه كاسمه الحي والعليم والرحيم والحكيم والأول والآخر والعلي والعظيم والكبير ونحو ذلك وهذه الأسماء كلها أسماء مدح وحمد تدل على ما يحمد به ولا يكون معناها مذمومًا وهي مع ذلك قد تستلزم معاني إذا أخذت مطلقة وسميت بأسمائها عمت المحمود والمذموم مثل اسمه الرحيم فإنه يستلزم الإرادة فإذا أخذت الإرادة(3/298)
مطلقًا وقيل المريد فالمريد قد يريد خيرًا يحمد عليه وقد يريد شرًّا يُذم عليه وكذلك اسمه الحكيم والصادق وغيرهما يتضمن أنه متكلم فإذا أخذ الكلام مطلقًا وقيل متكلم فالمتكلم قد يتكلم بصدق وعدل وقد يتكلم بكذب وظلم وكذلك الاسم الأول يدل على أنه متقدم على كل شيء فإذا أخذ معنى التقدم وقيل قديم فإنه يقال على ما تقدم على غيره وإن تقدم غيره عليه كالعرجون القديم والإفك القديم وكذلك اسم الحق بل وسائر الأسماء تدل على أنه بحيث يجده الواجدون فإذا أخذ لفظ الموجود مطلقًا لم يدل إلا على أنه يجده غيره لم يدل على أنه حق في نفسه وإن لم يكن ثم غيره يجده وكذلك إذا قيل ذات أو ثابت ونحو ذلك لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على(3/299)
خصوصية وكذلك اسم العلي والعظيم والكبير يدل على أنه فوق العالم وأنه عظيم وكبير وذلك يستلزم أنه مباين للعالم متحيز عنه بحده وحقيقته فإذا أخذ اسم المتحيز ونحوه لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على ما يمدح به الرب ويتميز به عن غيره وقد قال من قال من العلماء إن مثل أسمائه الخافض الرافع والمعز المذل والمعطي المانع والضار النافع لا يذكر ولا يدعى بأحد الاسمين الذي هو مثل الضار والنافع والخافض لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دلّ ذلك على عموم قدرته وتدبيره وأنه لا رب غيره وعموم خلقه وأمره فيه مدح له وتنبيه على أن ما فعله من ضرر خاص ومنع خاص فيه حكمة ورحمة بالعموم وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح والله له الأسماء الحسنى ليس له مثل السوء قط فكذلك أيضًا الأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يحمد ويذم لا توجد في أسماء الله تعالى الحسنى(3/300)
لأنها لا تدل على ما يحمد الرب به ويمدح لكن مثل هذه الأسماء ومثل تلك ليس لأحد أن ينفي مضمونها أيضًا فيقول ليس بضار ولاخافض أو يقول ليس بمريد ولا متكلم ولا بائن عن العالم ولا متحيز عنه ونحو ذلك لأن نفي ذلك باطل وإن كان إثباته يثبت على الوجه المتضمن مدح الله وحمده وإذا نفاها نافٍ فقد تقابل ذلك النفي بالإثبات ردًّا لنفيه وإن لم تذكر مطلقة في الثناء والدعاء والخبر المطلق فإن هذا نوع تقييد يقصد به الرد على النافي المعطل وهذا في الإثبات والنفي جميعًا فمن العيوب والنقائص ما لا يَحْسن أن يثنى على الله به ابتداء لكن إذا وصفه به بعض المشركين نفي ذلك ردًّا لقولهم كمن يقول إن الله فقير ووالد ومولود أو ينام ونحو ذلك فيُنفى عن الله الفقر والولادة(3/301)
والنوم وغير ذلك فهذا أصل في التفريق بين ما ذكر من أسماء الله وصفاته مطلقًا وما لا يذكر إلا مقيدًا إما مقرونًا بغيره وإما لمعارضة مبطل وصف الله بالباطل فـ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ومما ينبغي أن يعلم أن المبطل إذا أراد أن ينفي ما أثبته القرآن أو يثبت ما نفاه لم يصادم لفظ القرآن إلا إذا أفرط في الجهل مثل من ينكر من الجهمية إطلاق القول بأن الله كلم موسى تكليمًا أو أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ونحو ذلك وقد يقول إنما أنكرت إطلاقه لأن مطلقه عنى به معنى فاسدًا ويكون المطلق لم يعن غير ما عناه الله ورسوله ومنهم من لا يمكنه منع إطلاق اللفظ فيطلق من التصريف ماجاء به نص آخر وما هو من لوازم هذا النص مثل أن يقول يقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا يقال الله ولا الرب(3/302)
على العرش استوى أولا يقال هو مستوٍ فإذا قيل لأحد هؤلاء فقد قال في الآية الأخرى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وقال اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد 2] بقي حائرًا كما يروى أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء أحب أن تقرأ هذا الحرف وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164} [النساء 164] ليكون موسى هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على أن الله كلم أحدًا فقال له وكيف تصنع بقوله وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف 143](3/303)
وإذاكان ألفاظ النصوص لها حرمة لا يمكن المظهر للإسلام أن يعارضها فهم يعبرون عن المعاني التي تنافيها بعبارات أخرى ابتدعوها ويكون فيها اشتباه وإجمال كما قال الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ومن هذا الباب قول هذا المؤسس ونحوه ممن فيه تجهم إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك فإن المقصود الذي يُورِدُه على منازعه بهذا الكلام أنه ليس على العرش ولا فوق العالم كما يذكره في سائر كلامه ويحرف النصوص الدالة على ذلك ولكن لم يترجم للمسألة(3/304)
بنفي هذا المعنى الخاص الذي أثبتته النصوص بل عمد إلى معنى عام مجمل يتضمن نفي ذلك وقد يتضمن أيضًا نفي معنى باطل فنفاهما جميعًا نفى الحق والباطل فإن قول القائل ليس في جهة ولا حيز يتضمن نفيه أنه ليس داخل العالم ولا في أجواف الحيوانات ولا الحشوش القذرة هذا كله حق ويتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق العالم وهذا باطل وكان في نفيه نفي الحق والباطل ولهذا كان أهل الإثبات على فريقين منهم من يقول بل هو في جهة وحيز لأنه فوق العرش وهذا مما دخل في عموم كلام النافي والنافية الكلية السالبة تناقض بإثبات معين كما في قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [الأنعام 91] ومقصود هذا المثبت جهة معينة وحيزًا معينًا وهو ما فوق العرش ومنهم من لا يطلق أنه في جهة ولا في حيز إمالأن(3/305)
هذا اللفظ لم ترد به النصوص وإما لأنه مطلق لا يبين المقصود الحق وهو أنه على العرش وفوق العالم وإما لأن لفظه لا يُفْهِمُ أو يُوهم معنى فاسدًا مثل كونه قد أحاط به بعض المخلوقات فإن كثيرًا من عامة النفاة وإن كان مشهورًا عند الناس بعلم أو مشيخة أو قضاء أو تصنيف قد يظن أن قول من قال إنه في السماء أو في جهة معناه أن السموات تحيط به وتحوزه وكذلك إذا قال متحيز يظن أن معناه الحيز اللغوي وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته حتى إنهم ينقلون ذلك عن منازعهم إما عمدًا أو خطأ وربما صغروا الحيز حتى يقولوا إن الله في هذه البقعة أو هذا الموضع ونحو ذلك من الأكاذيب المفتراة وأيضًا فمن المثبتة الضُّلال من يقول إن الله متحيز بهذا(3/306)
الاعتبار مثل من يقول إنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في الطواف أو في بعض سكك المدينة وأن مواضع الرياض هي مواضع خطواته ونحو ذلك مما فيه من وصفه بالتحيز أمر باطل مبني على أحاديث موضوعة ومفتراة ولهذا الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفيًا وإثباتًا تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ويتعادون أو يختصمون أو يقتتلون على إثبات لفظ ونفيه والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقًّا ومعنى باطلاً فالمثبت يفسره بالمعنى الحق والنافي يفسره بالمعنى الباطل(3/307)
ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق والنافي ينكر على المثبت أنه قال على الله الباطل وقد يكون احدهما أو كلاهما مخطئًا في حق الآخر وسبب ذلك مع اشتراك اللفظ نوع جهل أو نوع ظلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وإذا كان القول بأن الله فوق العرش وفوق العالم ولوازم هذا القول الذي يلزمه بالحق لا بالباطل هو قول سلف الأمة وأئمتها وعامة الصفاتية لم يكن رد هذا المؤسس ونحوه على طائفة أو طائفتين بل على هؤلاء كلهم وقد ذكرنا بعض ما يعرف به مذاهبهم في غير هذا الموضع فإن المقصود الأكبر هنا إنماهو النظر العادل فيما ذكره من دلائل الطرفين ليحكم بينهما بالعدل وأما ما للمثبتة من الحجج التي لم يذكرها هو وذكر القائلون بالإثبات فلم يكن ذلك هو المقصود لكن(3/308)
الكلام يُحْوِجُ إلى ذكر بعضه فينبه على ذلك فمن ذلك طائفة هذا المؤسس وهم أبو الحسن الأشعري وأتباعه فإن قدماءهم جميعهم وأئمتهم الكبار كلهم متفقون على أن الله فوق العرش ينكرون ماذكره هذا المؤسس وطائفة معه كأبي المعالي وأبي حامد من نفي ذلك أو تأويل آيات القرآن كقوله ثم استوى بمعنى استولى وقد ذكرت قبل ذلك(3/309)
لفظ أبي الحسن الأشعري في كتاب الإبانة حيث قال فإِنْ قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والحرورية(3/310)
والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن ذلك معتصمين وبما كان يقول(3/311)
أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا إنا نقر بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئًا وان الله عز وجل فرد أحد صمد لاإله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من(3/312)
في القبور وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ وأن لله علماً كما قال عز وجل أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله تعالى قدرة وقوة كماقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ(3/313)
مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال سبحانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} [يس 82](3/314)
وأنه لايكون في الأرض شيء من خير ولا شر إلا ماشاء الله وأن الأشياء تكون بمشية الله وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله عز وجل ولا يستغني عن الله ولا يقدر على الخروج من علم الله وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة له كما قال سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} [الصافات 96] وأن العباد لايقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال سبحانه لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ(3/315)
يُخْلَقُونَ {20 { [النحل 20] وكما قال عز وجل أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} [الطور 35] وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف 178] وأن الله سبحانه وتعالى يقدرأن يصلح الكافرين ويَلْطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكن أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأن الله خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره وخيره وشره وحلوه ومره ونعلم أن ما أصابنا(3/316)
لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأنا لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا إلا ماشاء الله وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كم الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا وندين بأن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كمايرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا وأعلم بذلك موسى(3/317)
أن لايراه في الدنيا ونرى أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلاً لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانًا وندين بأن الله يقلب القلوب وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه(3/318)
وأنه يضع السموات علي إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا(3/319)
بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان والحوض حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَدِين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بماأثنى الله عليهم ونتولاهم(3/320)
ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله(3/321)
وجهه قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد(3/322)
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب سبحانه وتعالى يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لماقاله أهل الزيغ والتضليل(3/323)
ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال سبحانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن(3/324)
المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن(3/325)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهم المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن(3/326)
رسم السحر كائن موجود في الدنيا ونؤمن بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه(3/327)
ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال الله عز وجل مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في الأطفال أطفال المشركين إن الله سبحانه يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية(3/328)
بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم إليه صائرون وما كان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين(3/329)
ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ونتكلم عن مسألة رؤية الله بالأبصار وعلى القرآن ثم قال باب ذكر الاستواء وذكر ما قد نبه عنه قريبًا الذي أوله فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه وتعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى(3/330)
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يعني جميع السماء بقوله السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن(3/331)
جميعًا وأنه فيهن جميعًا ورأينا المسلمين جميعًا إذا دعوا يرفعون أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق فذهبوا في الاستواء إلى الاستيلاء ولو كان هذا كما قالوه كان لافرق بين العرش والأرض السابعة(3/332)
السفلى لأن الله تعالى قادر على كل شيء ثم قال أبو الحسن الأشعري باب الكلام في الوجه والعينين والبصر قال الله تبارك وتعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] فأخبر سبحانه أن له وجهًا لا يفنى ولا يلحقه الهلاك وقال تعالى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] فأخبر عن العينين ولله تعالى ذكره عين ووجه كما قال لا يحد ولا يكيف وقال سبحانه وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] وقال الله(3/333)
تعالى وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً {134} [النساء 134] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر عن سمعه ورؤيته وبصره قال ونفت الجهمية أن يكون له وجه كما قال وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر ووافقوا النصارى لأن النصارى لم تثبت لله سمعًا ولا بصرًا إلا على معنى أنه عالم وكذلك قالت الجهمية قال وحقيقة قول الجهمية أنهم قالوا إن(3/334)
الله عالم ولا نقول سميع بصير على غير معنى عالم وكذلك قول النصارى وقالت الجهمية إن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب فقالوا سميع بصير لفظًا ولم يحصلوا تحت قولهم معنى ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا أن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم ولكن خوف السيف منعهم من إظهار كفرهم وكشف زندقتهم وهذا قول المعتزلة الجهال قال وزعم شيخ منهم مقدم عندهم أن علم الله هو سبحانه وأن الله علم(3/335)
فنفى العلم من حيث أوهم أنه يثبته حتى التزم أن يقول يا علم اغفر لي إذا كان علم الله هو الله وكان الله على قياسه علمًا وقدرة وهو أبو الهذيل تعالى الله عما(3/336)
يقولون علوًا كبيرًا ومن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل وجهًا قيل له نقول ذلك خلافًا لما قاله المبتدعون وقد دل على صحة ذلك قوله سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وإن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل يدين قيل له نعم نقول ذلك لقوله سبحانه وتعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن(3/337)
الله خلق آدم بيديه وغرس شجرة طوبى بيده وقال سبحانه وتعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلتا يديه يمين وقال سبحانه لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} [الحاقة 45] وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا وكذا بيدي وهو يعني به النعمة وإذا كان الله سبحانه خاطب العرب بلغتها وما تجده مفهومًا في كلامها ومعقولاً في خطابها ولا يجوز أن تقول في خطابها(3/338)
فعلت بيدي وتعني به النعمة بطا أن يكون معنى قوله بيديَّ النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل لي عليه يدان يعني له عليه نعمتان ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها ودفع ذلك دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد نعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يحتج بها وأن لا يقرأ القرآن(3/339)
ولا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن رجع في تفسير قوله بيديَّ يعني نعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادعاه من ذلك متفقين وإن رجع إلى اللغة أن يقول معنى نعمتي أن يقول القائل بيديَّ نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ويقال لأهل البدع لم زعمتم أن معنى قوله بيديَّ نعمتي أزعمتم ذلك إجماعًا أو لغة فلا يجدون في ذلك إجماع ولا في لغة فإن قالوا قلنا ذلك من(3/340)
القياس قيل لهم من أين وجدتم في القياس أن قول الله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لا يكون معناه إلا نعمتي ومن أين يمكن أن يعلم العقل أن يفسر لفظة كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال سبحانه أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء 82] ولولا أن القرآن بلسان العرب ما جاز أن تتدبره(3/341)
ولا أن تعرف العرب معانيه إذا سمعته فلما كان من لايحسن كلام العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم علموه لأنه بلسانهم نزل قال وقد اعتل معتل بقول الله عز وجل وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال الأيدي القوة فوجب أن يكون معنى قوله بيدي أي بقدرتي قيل لهم هذا التأويل فاسد من وجوه أحدها أن الأيد ليس بجمع اليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي والله عز وجل لم(3/342)
يقل بأيدي ولا قال بأيادي وإنما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فبطل أن يكون معنى قوله بيدي معنى قوله بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] وأيضًا فلو أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا مناقض لقول مخالفينا ومجانب لمذاهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة الله عز وجل فكيف يثبتون قدرتين وأيضًا فلو كان الله عز وجل عنى بقوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس لعنه الله في ذلك مزية والله عز وجل أراد أن يرى فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيديه دونه فلو كان خالقًا لإبليس بيده كما خلق(3/343)
آدم بيده لم يكن لتفضيله على إبليس بذلك وجه وكان إبليس محتجًّا على ربه عز وجل أن يقول وأنا أيضًا خلقتني بيدك كما خلقت آدم بها فلما أراد تفضيله عليه بذلك قال له توبيخًا على استكباره على آدم أن يسجد له مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص 75] فدل ذلك على أنه ليس معنى الآية القدرة إذْ كان الله عز وجل قد خلق الأشياء جميعها(3/344)
بقدرته وأنه إنما أراد إثبات يدين لم يشارك إبليس لعنه الله آدم عليه السلام في أنه خلق بهما قال وليس يخلو قوله عز وجل لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات جارحتين أو يكون معنى ذلك إثبات قدرتين أو يكون معناه معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين ولا يوصفان(3/345)
إلا كما وصف الله ولا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز أن يقول القائل عملت بيديّ وهو يعني نعمتي ولا يجوز أن يعني عندنا ولا عند خصومنا جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله عز وجل بيدي إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين ولا يوصفان إلا أن يقال إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجًا عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت وأيضًا فلو كان معنى قوله بيدي نعمتي لكان(3/346)
لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله قد ابتدأ إبليس بنعمة على قولهم كما ابتدأ بذلك لآدم فليس تخلو النعمتان أن يكون عنى بهما بدن آدم أو تكونا عرضين خلقا في آدم فإن عنى بذلك بدن آدم فالأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كان الأبدان عندهم جنسًا واحدًا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ماحصل في جسد آدم وكذلك إن كان عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس فهذا يوجب أنه(3/347)
لا فضيلة لآدم على إبليس في ذلك والله عز وجل إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز وجل قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لم يعن نعمتي ويقال لهم ماأنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله يدي يدين ليستا نعمتين فإن قالوا لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة قيل لهم ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم(3/348)
يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقصين وإن أثبتم حيًّا لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي أخبر الله عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين(3/349)
ولا كالأيدي وكذلك يقال لم تجدوا مدبرًا حكيمًا إلا إنسانًا وأثبتم الباري مدبرًا حكيمًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف للشاهد فإن قالوا فإذا أثبتم لله يدين لقوله سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فلم لا أثبتم له أيدي لقوله سبحانه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] قيل لهم(3/350)
قد أجمع على بطلان قول من قال ذلك فوجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل قد دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحًا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره(3/351)
ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أولنا بها ذكر الأيدي على الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة فإن قال قائل إذا ذكر الله الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يكون ذكر الأيدي ويريد به يدًا واحدة قيل له ذكر الله عز وجل أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على(3/352)
بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقال من قال يد واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف ظاهره فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] على المجاز قيل له حكم كلام الله على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذاكان ظاهر كلام عموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم بغير حجة فكذلك قوله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ظاهره من إثبات الأيدي ولايجوز أن يعدل به عن(3/353)
ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا بغير حجة فلو كان ذلك جائزًا لجاز مدع أن يدعي أن ماظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه وأنه محال أن يكون مجازًا بغير حجة بل واجب أن يكون لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] إثبات يدين لله تعالى في غير نعمتين إذْ كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم فعلت بيدي وهو يعني نعمتي(3/354)
قلت وهذا القول الذي ذكره الأشعري في الإبانة ونصره ذكره في كتاب المقالات الكبير الذي فيه مقالات الإسلاميين ومقالات الطوائف غير الإسلاميين وكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين أنه قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة فقال بعد أن ذكر مقالات الشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المجسمة ثم الجهمية ثم الضرارية ثم(3/355)
البكرية ثم قوم من النساك ثم قال هذه حكاية قول(3/356)
جملة أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن الله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ(3/357)
إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير 29] وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا(3/358)
صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علمهم وخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولن إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم(3/359)
عن الله محجوبون قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل ربه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان(3/360)
ويقرون بأن الله مقلب القلوب ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله تعالى حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله(3/361)
ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون(3/362)
الله ينزلهم حيث شاء ويقولن أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في(3/363)
القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون بأن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدًا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبابكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًّا رضي الله عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم(3/364)
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كماقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر(3/365)
عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال تعالى وأن السحركائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم ويقولون إن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله(3/366)
وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً كانت أو حرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ بالقرآن(3/367)
وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمر بيد الله ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والكبر والفخر والإزراء على الناس والعجب(3/368)
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه ونذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير ثم قال وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان وهو ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري تعالى لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا(3/369)
ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى ويقولون أسماء الله وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هوهو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات ولا يقولون العلم هو القدرة ولا يقولون غير القدرة ويزعمون أن الصفات قائمة بالله وأن الله لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا ساخطًا على من يموت كافرًا وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة وكان يزعم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقوله في القدر كما حكينا عن أهل السنة والحديث وكذلك قوله في أهل الكبائر وكذلك(3/370)
قوله في رؤية الله بالأبصار وكان يزعم أن الباري سبحانه وتعالى لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستوٍ على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء تعالى وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو تحمل العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول أنه في مكان دون مكان قلت وكان قد ذكر في شرح اختلاف الناس في(3/371)
التجسيم فقال فاختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك يتناهى غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم ثم قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب(3/372)
قال وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية فهاتان هما الفرقتان قال وقال قائلون هو جسم خارج عن جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه في كل مكان(3/373)
دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له وقال من ينتحل الحديث أن العرش لم يمتلئ به وأنه يقعد نبيه عليه السلام معه على العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم(3/374)
ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه(3/375)
بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل فقال قائلون الحملة تحمل الباري وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل ويحمله الحملة وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه على العرش وإنه مباين(3/376)
منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الله بكل مكان وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على مالم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن في كتاب الإبانة هو الذي يذكره من ينقل مذهبه جملة ويرد بذلك على الطاعنين فيه كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى(3/377)
الشيخ أبي الحسن الأشعري والذي ذكره الأشعري في كتاب المقالات هو الذي ذكره أبو بكر بن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبوالحسن في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره أنه هو يقول بجميع ذلك وأن أبا محمد عبد الله بن سعيد يقول بذلك وبأكثر منه وهكذا ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في عامة كتبه مثل التمهيد والإبانة وكتابه الذي سماه كتاب الرد على من نسب إلى الأشعري خلاف قوله بعد فصول ذكرها قال وكذلك قولنا في جميع المروي عن رسول اله صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى إذا ثبتت بذلك الرواية من إثبات اليدين اللتين نطق بهما(3/378)
القرآن والوجه والعينين قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقال تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال في قصة إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] قال وروي في الحديث من رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال قال إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور فأثبت له العينين(3/379)
قال وهذا حديث غير مختلف في صحته عند العلماء بالحديث وهو في صحيح البخاري وقال عليه السلام فيما يروى من الأخبار المشهورة وكلتا يديه يمين ونقول إن الله تعالى يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام والملائكة كما نطق بذلك القرآن وأنه ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى أو مستغفر فيغفر له الحديث وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قد بينا دين الأئمة وأهل السنة وأن هذه الصفات تُمَرُّ كما جاءت بغير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير كما روي عن(3/380)
ابن شهاب وغيره وروى الثقات عن مالك أن سائلاً سأله(3/381)
عن قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة قال فمن تجاوز هذا المروي من الأخبار عن التابعين ومن بعدهم من السلف الصالحين وأئمة الحديث فقد تعدى وضل وابتدع في الدين ما ليس منه وذكر باقي الكتاب وهذا لفظه فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة وأن الله فوق العرش وأن له وجهًا ويدين وتقرير ما ورد من النصوص الدالة على أنه فوق العرش وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين ونحو ذلك علم أن هذا الرازي ونحوه هم المخالفون(3/382)
لأئمتهم في ذلك وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه وكذلك نقل الناس مذهبهم كما قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف(3/383)
المتأخرين في الاستواء قول الطبري يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير وأبي محمد(3/384)
عبد الله بن أبي يزيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه(3/385)
أعني القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصًّا وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه قال القاضي أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا كون فيه ولا مماسة قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح الأسماء الحسنى هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد(3/386)
الأوائل وقاله الأستاذ أبوبكر بن فورك في شرح أوائل الأدلة له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي(3/387)
وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات(3/388)
وقال هذا القرطبي في تفسيره الكبير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس 3] هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً قال والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون وذلك(3/389)
مستلزم للتحيز والتغير والحدوث هذا قول المتكلمين قال وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم يعني في اللغة والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وكذا قالت أم سلمة رضي الله(3/390)
عنها وهذا القدر كاف قال والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار وذكر كلام الجوهري وغيره(3/391)
وأما نقل مذاهب سلف الأمة وأئمتها وسائر الطوائف فروى أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد صحيح من الأوزاعي قال كنا والتابعون(3/392)
متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق سماواته ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته وقال أبو بكر النقاش صاحب(3/393)
التفسير والرسالة حدثنا أبو العباس السراج سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام(3/394)
والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة(3/395)
له وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان ن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن(3/396)
سلمة وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء(3/397)
وقال الإمام أبو عمر الطلمنكي في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضًا قال أهل السنة في قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز(3/398)
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال وهذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله(3/399)
تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة قال وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم(3/400)
عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وماخالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة وتزعم أن من أقر بها مشبه وهم(3/401)
عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله فهم أئمة الجماعة قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين فذكر عقيدة قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلاكيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة(3/402)
ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأنه سميع بصيرعليم خبير متكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر قال ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة(3/403)
المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لايحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي سألت أبي(3/404)
وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار قالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع(3/405)
جهاته إلى أن قالا وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا وهذا مشهور عن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم من وجوه وقد ذكره عنه الشيخ نصر المقدسي في كتاب(3/406)
الحجة له وقال نصر في هذا الكتاب إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فأذكر مذاهبهم وما اجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن(3/407)
بلغني قوله من غيرهم فذكر جُمَل اعتقاد أهل السنة وفيه وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 28] ونقل أقوال السلف من القرون الثلاثة ومن نقل أقوالهم في إثبات أن الله تعالى فوق العرش يطول ولا يتسع له هذا الموضع ولكن نبهنا عليه ولم يكن هذا عندهم من جنس مسائل النزاع التي يسوغ فيها الاجتهاد بل ولا كان هذا عندهم من جنس(3/408)
مسائل أهل البدع المشهورين في الأمة كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة بل كان إنكار هذا عندهم أعظم عندهم من هذا كله وكلامهم في ذلك مشهور متواتر ولهذا قال الملقب بإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة فيما رواه عنه الحاكم من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة(3/409)
كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يدورون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويَدُورون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا(3/410)
وعن عباد بن العوام الواسطى من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء(3/411)
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعى من هذه الطبقة وهو إمام البصرة إذ ذاك علمًا ودينًا أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شرٌّ قولاً من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب الإمام(3/412)
المشهور قال سمعت حماد بن زيد وهو الإمام الكبير المشهور وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وعن عاصم بن علي بن عاصم(3/413)
شيخ أحمد والبخاري قال ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا وقال أحمد بن حنبل ثنا سريح ابن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك(3/414)
ابن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله(3/415)
ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا وكذلك قال الإمام أحمد وغيره وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الجامع(3/416)
الصحيح في كتاب خلق الأفعال باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله قال وقال وهب بن جرير الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى قال وقال حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله(3/417)
قال وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على العرش وقال لرجل منهم أتظنك خال منه فَبُهِت الآخر وقال من قال لاإله إلا هو مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي(3/418)
وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا قال أبو عبد الله البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل(3/419)
ما يشاء وقال وحديث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي قال وقال ضمرة بن ربيعة عن صدقة سمعت(3/420)
سليمان التيمى يقول لو سئلت أين الله تبارك وتعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا اعلم وروى عن يزيد بن هارون أنه ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم(3/421)
قال وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي أو عدل فصلِّ خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة قال وقال وكيع بن الجراح الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهم والجهمية شر هذه(3/422)
الأصناف قال البخاري وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار وكلام السلف والأئمة في هذا الباب أعظم وأكثر من أن يذكر هنا إلا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى(3/423)
أن يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك وليس بينهم في ذلك خلاف ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفًا واحدًا يخالف ذلك لم يقولوا شيئًا من عبارات النافية إن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه ليس في مكان أو أنه لا تجوز الإشارة غليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة بأن يكون فوق العرش لا نصًّا ولا ظاهرًا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الأمة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم(3/424)
الأشعري أئمة أصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم أكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث وحينئذ فيذكر ما يُتكلم به على حججه ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الرازي الفصل الرابع في إقامة الحجج والبراهين على أن الله ليس بمختص بحيز ولا جهة بمعنى أنه يشار بالحس أنه هاهنا أو هناك ويدل(3/425)
عليه وجوه البرهان الأول وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسمًا أو غير منقسم فإن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وإن لم يكن منقسمًا كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وأيضًا فإن من ينفي الجوهر الفرد يقول إن كل ما كان مشارًا إليه بأنه هاهنا أو هناك فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا فثبت بأن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس يفضي إلى هذين الباطلين فوجب أن يكون القول به باطلاً فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا(3/426)
قوله العظيم يجب أن يكون مركبًا منقسمًا وذلك ينافي كونه أحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل وأيضًا لِمَ لا يجوز أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر قوله إنه حقير وذلك على الله محال قلت الذي لا يمكن أن يشار غليه ولا يحس به يكون كالعدم فيكون أشد حقارة فإذا جاز هذا فلم لا يجوز ذلك والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا(3/427)
إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد أو جزء لا يتجزأ مع كونه جبلاً وذلك شك في البديهات فثبت أنه لابد من التزام التركيب والانقسام وإما أن لا يحصل فوقها شيء آخر ولا على يمينها ولا على يسارها ولا من تحتها فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءًا لا يتجزأ وذلك باتفاق العقلاء باطل فثبت أن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والإثبات قال واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف(3/428)
أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فزعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة ولا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل أما قولهم الذي لا يحس ولا يشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أما إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم(3/429)
يلزم وصفه بالحقارة يقال هذه الحجة مع كل من قال إنه فوق العرش وقال مع ذلك إنه غير مؤلف ولا مركب ممن يثبت له معنى الجسم كمن ذكره من الكرامية وممن ينفي عنه معنى الجسم كالكلابية وأئمة الأشعرية ومع كل طائفة ممن يوافقها من الفقهاء والصوفية وغيرهم وإن كان عامة أهل السنة وأئمة الدين وأهل الحديث لا يقولون هو جسم ولا يقولون ليس بجسم وهو قد نصها وهي أيضًا مع من نقل عنه أنه يُوصَفُ بالتركب والتأليف يرجع إلى قوله والكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال قد تقدم أن لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات فالمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها(3/430)
القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين كما قال الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر 28] وقال تعالى لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر 44] وقال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف 32] وقال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم أقسم بينكم وهذا هو حقيقة المقسوم بدليل صحة نفي اللفظ عما ليس كذلك كما في الحديث الصحيح قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقْسَم وكما في قوله أيما ميراث قسم في الجاهلية(3/431)
فهو على ما قسم وأيما مال أدركه الإسلام فهو على قَسْم الإسلام(3/432)
وكما قال لا يَقْتَسِمْ ورثتي دينارًا ولا درهمًا وتقول الفقهاء العقار إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة فإن كان كالرحى الصغيرة والحانوت الصغير التي لا تحتمل القسمة ففي ثبوت الشفعة فيه نزاع مشهور بين الفقهاء وإن كان يحتمل القسمة كالأرض البيضاء الكبيرة ونحو ذلك ثبتت فيه الشفعة بالاتفاق وكذلك يقولون في باب القسمة إن(3/433)
المال إما أن يحتمل القسمة وإِما أن لا يحتملها فالذي لا يحتمل القسمة كالعبد الواحد والفرس الواحد وكالجوهرة والإناء الواحد ونحو ذلك فهذا الباب باب القسمة وما فيه من المسائل كقولهم القسمة هل هي إفراز الحقوق وتمييز الأنصباء أم هي بيع وقولهم مالا يمكن قسمته إذا طلب أحد الشريكين بيعه ليقسم الثمن هل يجبر الآخر على البيع وقولهم إذا كان في القسمة ضرر على أحد الشريكين فهل يجبر الممتنع فيها ونحو ذلك ومن ذلك قولهم في المضاربة والغنيمة ونحوها هل يملك الربح أو المغنم بالظهور أو لا يملك إلا بالقسمة وقولهم باب قَسْم الصدقة والغنائم والفيء وأمثال ذلك مما(3/434)
لا يحصيه إلا الله إنما يريد الخاصة من العلماء والعامة من الناس بلفظ القسمة هنا تفصيل الشيء بعضه عن بعض بحيث يكون هذا في حيز وهذا في حيز منفصل عنه ليتميز أحدهما عن الآخر تميزًا يمكن به التصرف في احدهما دون الآخر وإذا كان هذا المعنى هو الظاهر في لغة الناس وعادتهم بلفظ القسمة فقوله بعد ذلك إما أن يكون منقسمًا أو لا يكون يختار فيه المنازع جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر كالأعيان المقسومة وما نعلم عاقلاً يقول ذلك وما كان منقسمًا بهذا المعنى فهو اثنان كل منهما قائم بنفسه ولم يقل أحد من الناس إن الله أو إن خالق العالم هما اثنان متميزان كل منهما قائم بنفسه إلا ما يحكى عن بعض الثنوية من قولهم إن أصل العالم النور والظلمة القديمان(3/435)
لكن هؤلاء لا يقولون بتساويهما في الصفات وأيضًا فهؤلاء لا يسمون كلاًّ منهما الله أو رب العالمين ولا يسمون اثنيهما باسم واحد فلم يقل أحد من العقلاء إن مسمى الله أو رب العالمين هو منقسم الانقسام المعروف في نظر الناس وهو أن يكون عينان لكل منهما حيز منفصل عن حيز الآخر وأيضًا فلم يقل أحد إن الله كان واحدًا ثم إنه انفصل وانقسم حتى صار بعضه في حيز وبعضه في حيز فهذا المعنى المعروف من لفظ المنقسم منتف باتفاق العقلاء وهو مناف لأن يكون رب العالمين واحدًا منافاة ظاهرة ولكن لا يلزم من بطلان هذا بطلان مذهب المنازع الذي يقول إن الله واحد(3/436)
ليس هو اثنين منفصلين كل منهما في حيز منفصل عن حيز الآخر وقد يريد بعض الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد تنهى عنه الشريعة كالحيوان الحي والآنية ونحو ذلك فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرًا من الأجسام ليس منقسمًا بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلاً عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله تعالى قسمته لكن العباد لا يقدرون على قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك كما لا يجوز أن يقال إنه يمكن عدمه أو موته أو نومه وأنه قادر على ذلك فإنه واحد لا إله إلا هو وهذه القسمة تجعله اثنين منفصلين كل منهما في حيز آخر وهذا ممتنع على الله وذلك ظاهر ولا نزاع بين المسلمين بل بين العقلاء في ذلك وإنما تنازع الناس في كثير من الأجسام هل يمكن(3/437)
قسمتها وتفريقها أم لا يمكن كأرواح بني آدم والملائكة بل كالعرش وغيره وقد خالف كثير من الفلاسفة المسلمين في أن الأفلاك تقبل الانقسام والتفريق أو لا تقبلها فالناس تنازعوا في كون بعض الأجسام تقبل الانقسام الذي هو تفريق بعض الجسم عن بعض فأما الخالق تعالى وتقدس فما علمنا أحدًا منهم يصفه بذلك ولو وصفه واصف بذلك لم يكن ما ذكره الرازي حجة على بطلان قوله كما سنذكره وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول الذي هو وجود الانقسام المعروف ولا بالمعنى الثاني الذي هو إمكان هذا الانقسام فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد(3/438)
من الأجسام كقوله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك جسم واحد ومتحيز واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسمًا بالمعنى الأول فإن المنقسم بالمعنى الأول لا يكون إلا عددًا اثنين فصاعدًا كالماء إذا اقتسموه وكالأجزاء المقسومة التي لكل باب من جهنم منها جزء مقسوم وإذا كان هذا فيما يقبل القسمة كالإنسان والذي يقدر البشر على قسمته وما لايقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس بديهي لا نزاع فيه فإن أحدًا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيجعل في حيزين منفصلين أولا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية الكبر والعظم(3/439)
ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدًا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ور يلزم من كونه جسمًا أو متحيزًا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسمًا بهذا الاعتبار وإن قال أريد بالمنقسم أن ما في هذه الجهة منه غير ما في هذه الجهة كما نقول إن الشمس منقسمة يعني أن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما يتنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وتقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبًا وتبين(3/440)
أنه لا حجة أصلاً على امتناع ذلك بل تبين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والحيز والغير والافتقار من الإجمال وان المعنى الذي يقصدونه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبًا أو ممكنًا وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبًا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وأنه ألزم الفلاسفة مثل ذلك فقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسمًا أو مركبًا بهذا(3/441)
الاعتبار فإنه لا يكون واحدًا ولا يكون أحدًا فإن الأحد هو الذي لا ينقسم خلافا لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدًا كقوله وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك وتحرير هذا المقام هو الذي يقطع الشغب والنزاع فإن هذه الشبهة من أكبر أو أكبر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهو عند التحقيق من أفسد الخيالات ولاحول ولاقوة إلا بالله فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس كما قال الخليل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ(3/442)