وقال: "يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم" (1) .
وهذا باب واسعٌ جدًّا.
وقال أيضا: "لعنَ الله اليهودَ، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّر ما فعلوا (2) . قالوا: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه، ولكن كُرِهَ أن يُتَّخذَ مسجدًا (3) ، وهذا قاله في مرضه.
وقال قبل موته بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (4) .
ولما ذكر كنيسة الحبشة قال: "أولئك إذا مات الرجلُ فيهم بَنَوا على قبرِه مسجدًا، وصَوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة" (5) .
وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير.
وقال أيضًا: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجَد والسُّرُجَ". رواه الترمذي وغيره (6) ، وقال: حديث حسن.
__________
(1) أخرجه البخاري (694) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (435، 3453، 4443، 5815) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.
(3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) عن عائشة.
(4) أخرجه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله البجلي.
(5) أخرجه البخاري (427، 434، 1341) ومسلم (528) عن عائشة.
(6) أخرجه أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس.=(3/103)
فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد لعن الذين يتخذون على القبورِ المساجدَ، ويسرجون عليها الضوءَ، فكيف يَستحِلُّ مسلم أن يَجعلَ هذا طاعةً وقربةً؟
وفي صحيح مسلم (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعثَنِي رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرَني أن لا أدعَ قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيتُه، ولا تِمثالاً إلا طَمستُه".
وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد" (2) .
وقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصَلُّوا عَليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (3) .
فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاجتماع عند قبرِه، وأمرَ بالصلاة عليه في جميع المواضع، فإن الصلاةَ عليه تَصِل إليه من جميع المواضع.
وهذه الأحاديث رواها أهل بيته، مثلُ على بن الحسين عن أبيه عن جدِّه علي، ومثل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكانوا هم وجيرانُهم من علماء أهل المدينة يَنهون عن البدع التي عند
__________
=قال الألباني في "الضعيفة" (225) : ضعيف بهذا السياق والتمام. أبو صالح باذام ضعيف عند جمهور النقاد، ولعن المتخذين عليها السرج ليس في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من الحديث ضعيف، وباقي الحديث ورد من طرق أخرى فهو صحيح لغيره.
(1) برقم (969) .
(2) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي في "مسنده" (1025) عن أبي هريرة بسند صحيح.
(3) أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في لأفضل الصلاة على النبي" (20) وغيره عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده. انظر "تحذير الساجد" (ص140) .(3/104)
قبرِه أو قبرِ غيرِه، امتثالاً لأمرِه متابعة لشريعتِه، فإن من مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين والعكوف على تماثيلهم، وإن كانت وقعت بغير ذلك.
وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23 وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا)) (1) . وقد روى طائفة من علماءِ السلف أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوَّروا تماثيلَهم (2) . وكذلك قال ابن عباس في قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) (3) ، قال ابن عباس: كان اللات رجلاً يَلُتُّ السويقَ للحجاج، فلما ماتَ عكفوا على قبرِه (4) .
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد" (5) ، ونهى أن يُصلَّى عند قبره. ولهذا لما بنى المسلمون حُجرتَه حرَّفوا مؤخرها وسئموه، لئلا يُصلَّى إليه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها"، رواه مسلم (6) .
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرجَ إلى أهل البقيع يُسلِّم عليهم ويدعو لهم (7) ،
__________
(1) سورة نوح: 23- 24.
(2) انظر صحيح البخاري (4920) وتفسير الطبري (29/62) وابن كثير (4/454، 455) .
(3) سورة النجم: 19-20.
(4) انظر صحيح البخاري (4859) وتفسير الطبري (27/35) وابن كثير (4/271) .
(5) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي (1025) عن أبي هريرة.
(6) برقم (972) عن أبي مرثد الغنوي.
(7) أخرجه أحمد (6/252) عن عائشة، وأخرجه مسلم (974) من طريق آخر عن عائشة مطولاً.(3/105)
وعلَّم أصحابَه أن يقولوا إذا زاروا القبور (1) : "سلامٌ عليكم أهلَ دارِ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكًم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهمَّ اْجُرْهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم".
هذا مع أنّ في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقيَّة وسيدة نساءِ العالمين فاطمة، وكانت إحداهن دُفِنَتْ فيه قديمًا قريبًا من غزوة بدر، ومع ذلك فلم يُحدِثْ على أولئك السادة شيئًا من هذه المنكرات، بل المشروع التحيةُ لهم والدعاء بالاستغفار وغيره.
وكذلك في حقّه أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد، وقال: "أكثِروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". قالوا: كيف تُعرَض صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يعني بَلِيْتَ، قال: "إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء" (2) .
وقال: "ما من رجلٍ يمرُّ بقبر الرجل كان يَعرفُه في الدنيا فيُسلَّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ" (3) .
وكلُّ هذه الأحاديث ثابتة عند أهل المعرفة بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
__________
(1) أخرجه مسلم (975) عن بريدة.
(2) أخرجه أحمد (4/8) والدارمي (1580) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. وصححه الألباني في تعليقه على "فضل الصلاة على النبي" (22) .
(3) أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/234) من حديث ابن عباس، وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الشرعية الصغرى" (1/345) ، ونقل ذلك العراقي في "تخريج الإحياء" (4/491) والمناوي في "فيض القدير" (5/487) .(3/106)
فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبرِه وغيرِ قبرِه، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعاملَ به موتى المسلمين، من الدعاء لهم بأنواع الدعاء، كما أن في حياته يدعو لهم.
وهذا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونُسلِّم تسليمًا في حياتِه ومماتِه، وعلى آل بيتِه، وأمَرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم، عند قبورهم وغير قبورِهم، ونهانا الله أن نجعل له أندادًا، أو نُشبِّه بيتَ المخلوق الذي هو قبرُه ببيتِ الله الذي هو الكعبةُ البيت الحرامُ، فإنّ الله أمرنا أن نحجّ ونُصلّي إليه ونطوفَ به، وشرعَ لنا أن نَستلم أركانَه، ونُقبِّلَ الحجرَ الأسودَ الذي جعلَه الله بمنزلة يمينه. قال ابن عباس: "الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن استلَمه وصافحَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّلَ يمينَه" (1) .
وشرعَ كسوةَ الكعبةِ وتعليقَ الأستارِ عليها، وكان يتعلَّق من يتعلَّق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجار به، فلا يجوز أن تُضاهَى بيوتُ المخلوقين ببيت الخالق.
ولهذا كان السلف ينهون من زَارَ قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقَبِّلَه، بل يُسلِّم عليه -بأبي هو وأمي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُصلِّي عليه، كما كان السلف يفعلون.
فإذا كان السلفُ أعرفَ بدين الله وسنةِ نبيه وحقوقِه، وحقوقِ السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرِهم، ولم يفعلوا شيئًا من هذه البدع التي تُشبِه الشركَ وعبادةَ الأوثان، لأن الله ورسوله نهاهم عن
__________
(1) أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/96) موقوفًا على ابن عباس. وروي مرفوعًا عن جابر وغيره، وهو منكر. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة" (223) .(3/107)
ذلك، بل يعبدون الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدينَ كما أمر الله به ورسولُه، ويَعْمُرون بيوتَ الله بقلوبهم وجَوارحِهم من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ والدعاء وغير ذلك؛ فكيفَ يَحِلُّ للمسلم أن يَعدِلَ عن كتاب الله وشريعةِ رسوله وسبيلِ السابقين من المؤمنين، إلى ما أحدثَه ناسٌ آخرون، إمَّا عمدًا وإمَّا خطاً؟
فخُوطِب حاملُ هذا الكتاب بأن جميعَ هذه البدع التي على قبورِ الأنبياء والسادة من آل البيت وَالمشايخ، المخالفة للكتاب والسنة، ليس للمسلم أن يُعِين عليها، هذا إذا كانت القبورُ صحيحةً، فكيف وأكثرُ هذه القبور مطعونٌ فيها؟
وإذا كانت هذه النذورُ للقبور معصيةً قد نهى الله عنها ورسولُه والمؤمنون السابقون، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن نَذَرَ أن يطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَ الله فلا يَعْصِه" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) ، وهذا الحديث في الصحاح.
فإذا كان النذرُ طاعةً لله ورسوله، مثل أن ينذرَ صلاةً أو صومًا أو حجًّا أو صدقةً أو نحو ذلك، فهذا عليه أن يَفِيَ به؟ وإذا كان النذرُ معصيةً -كفرًا أو غيرَ كفرٍ- مثل أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم، مثل اللات التي كانت بالطائف، والعُزَّى التي كانت بعرفةَ قريبًا من مكة، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة. وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز، كانوا ينذرون لها النذور، ويتعبدون لها، ويتوسَّلون
__________
(1) أخرجه البخاري (6696، 6700) عن عائشة.
(2) أخرجه مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.(3/108)
بها إلى الله في حوائجهم، كما أخبر الله عنهم بقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (1) . ومثلما ينذر الجهَّالُ من المسلمين لعينِ ماءٍ أو بئرٍ من الآبار أو قناةِ ماءٍ أو مغارةٍ أو حجرٍ أو شجرةٍ من الأشجار أو قبرٍ من القبور -وإن كان قبرَ نبي أو رجلٍ صالح-، أو ينذرون زيتًا أو شمعًا أو كسوةً أو ذهبًا أو فضةً لبعضِ هذه الأشياء-: فإن (2) هذا كلَّه نذر معصيةٍ لا يُوفَى به. لكن من العلماء من يقول: على صاحبه كفارةُ يمين، لما روى أهلُ السنن (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذرَ في معصيةٍ، وكفارتُه كفارةُ يمينٍ". وفي الصحيح عنه أنه قال: "كفارة النذرِ كفارةُ يمين" (4) .
وإذا صُرِفَ من ذلك المنذور شيءٌ في قُربةٍ من القُرُباتِ المشروعة كان حسنًا، مثلَ أن يَصرِف الدُّهنَ إلى تنويرِ بيوتِ الله، ويَصرِف المالَ والكسوةَ إلى من يَستحقّه من المسلمين من آل بيتِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسائرِ المؤمنين، وفي سائر المصالحِ التي أمر الله بها ورسولُه.
وإذا اعتقدَ بعضُ الجهَّال أن بعضَ هذه النذور المحرَّمة قد قَضَتْ حاجتَه بجَلْبِ المنفعةِ منِ المال والعافية ونحو ذلك، أو بدَفْع المضرَّة من العدو ونحوه، فقد غَلِط في ذلك، فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخيرٍ، ولكنّه يُستَخرجُ به من البخيل" (5) . فعدَّ
__________
(1) سورة الزمر: 3.
(2) جواب قوله فيما مضى: "وإذا كان النذر معصيةً ... ".
(3) أخرجه أبو داود (3290- 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة.
(4) سبق تخريجه قريبًا.
(5) أخرجه البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.(3/109)
النذر مكروهًا، وإن كان الوفاءُ به واجبًا إن كان المنذور طاعةً لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد أخبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النذرَ لا يأتي بخير، وإنما يُستَخرج به من البخيل، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ فيما كان قُربةً محضةً لله، فكيف بنذر فيه شركٌ؟ فإنه لا يجوز نذرُه ولا الوفاءُ به.
وهذا وإن كان قد غَمَرَ الإسلامَ، وكَثُرَ العكوفُ على القبور التي هي للصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم، فعَلَى الناس أن يُطيعوا الله ورسولَه، ويتبعوا دينَ الله الذي بَعثَ به نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يَشرَعُوا من الدين ما لم يأذنْ به اللهُ، فإن الله إنما أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ ليكون الدينُ كلُّه لله، وليعبدوا الله وحدَه لا شريك له.
كما قال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (1) .
وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (2) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (3) .
__________
(1) سورة الزخرف: 45.
(2) سورة الشورى: 13.
(3) سورة النحل: 36.(3/110)
وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكةَ والنبيين) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (1) .
وقال: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) .
وردَّ على من اتخذ شفعاءَ من دونه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) (3) .
وقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَى (31)) (4) .
وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (5) .
وقال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ
__________
(1) سورة الإسراء: 56- 57.
(2) سورة آل عمران: 80.
(3) سورة الزمر: 43- 46.
(4) سورة التوبة: 31.
(5) سورة البقرة: 255.(3/111)
أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)) (1) .
وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (2) .
وقال: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3) .
وكُتُبُ الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله، لاسيما الكتاب الذي بُعِثَ به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت الدين، قال تعالى: (اليَومَ أَكَملتُ لَكُم دِينَكُم) (4) ، وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)) (5) .
وقد جعل قِوامَ الأمر بالإخلاص لله والعدلِ في الأمور كلها، كما قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) (6) .
ولقد خَلَّص للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التوحيدَ من دقيقِ الشرك وجليلِه، حتى قال: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وصححه (7) .
وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا
__________
(1) سورة النجم: 26.
(2) سورة الأنبياء: 28.
(3) سورة سبأ: 23.
(4) سورة المائدة: 3.
(5) سورة الجاثية: 18.
(6) سورة الأعراف: 29- 30.
(7) أخرجه أحمد (2/34، 58، 60، 69، 86، 125) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) عن ابن عمر.(3/112)
فليحلف بالله أو ليصمت". وهذا مشهور في الصحاح (1) .
وقال: "لا يقولنَّ أحدُكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمد" (2) .
وقال له رجل: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال: "أجَعلتَني لله نِدًّا؟ بل ما شاء اللهُ وحدَه" (3) .
ورُوِي عنه أنه قال: "الشركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النمل" (4) .
ورُوِيَ عنه أن الرياء شرك (5) .
وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)) (6) .
وعَلَّمَ بعضَ أصحابه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أُشرِكَ بك وأنا أعلم، وأستغفرَك لما لا أعلم" (7) .
ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقةَ أو يُعطُونها لغير الله، مثل
__________
(1) أخرجه البخاري (6646 ومواضع أخرى) ومسلم (1646) عن ابن عمر.
(2) أخرجه أحمد (5/72، 398) وابن ماجه (2118) والدارمى (2702) عن الطفيل بن سخبرة، وهو حديث حسن.
(3) أخرجه أحمد (1/214، 283، 347) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (988) عن ابن عباس.
(4) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/291) عن عائشة، وصححه هو والألباني في "صحيح الجامع" (3730) .
(5) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/4) عن معاذ بن جبل بلفظ "اليسير من الرياء شرك"، وصححه.
(6) سورة الكهف: 110.
(7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (716) عن معقل بن يسار.(3/113)
من يقول: لأجلِ فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذَ السؤالَ بذلك ذريعةً إلى أكل أموالِ الناس بالباطل، ويَصير قومٌ ممن يَنتسِبُ إلى محبة آل البيت يُعطِي الناسَ، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يُعطِي الآخرين، والشيطانُ قد استحوذَ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يُشْرَعُ أن تُفْعَلَ إلا لله، كما قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) (1) .
وقال تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)) (2) .
وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) (3) .
وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9)) (4) .
وقال تعالى كلمة جامعة: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (5) .
__________
(1) سورة الليل: 17- 21.
(2) سورة الروم: 39.
(3) سورة البقرة: 265.
سورة الإنسان: 8-9.
سورة البينة: 4-5.(3/114)
وعبادتُه تَجمعُ الصلاةَ وما يَدخُل فيها من الدعاء والذكر، وتَجمع الصدقةَ والزكاةَ بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك.
والله يجعلنا وسائرَ إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به شيئًا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة، ويَصرِف عنّا شياطينَ الجن والإنس، ويُعِيذُنا أن تفرّق بنا عن سبيله، ويهدينا الصراطَ المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا.(3/115)
مسألة في قصد المشاهد المبنية
على القبور للصلاة عندها والنذر لها
وقراءة القرآن وغير ذلك(3/117)
مسألة
ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيَّده الله تعالى- في مشهدٍ فيه شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلُّوا عنده الصلواتِ الخمسَ، وينذرون له، ومنهم من يَقصِد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطِئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟ وهل يُثابُ من يَتصدَّق أو يَبَرُّ قَيِّمَ المشهد المذكور أو الفقراءَ الذين يقعدون عند المشهد المذكور؟ وأيضًا يَقعُد في المشهد قُرَّاء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرةٍ من العشاء إلى بكرة، فهل يُؤجَرون على ذلك أم لا؟ وهل للميِّت أجر باستماعِه القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في التُّرَبِ بالأجرة وفي الختم التي يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول، ويُنشِدون الأشعارَ الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضًا والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم، فما حكمهم؟ والحديث الذي يُذكَر فيه أن الميت يُعذَّبُ ببكاء أهلِه عليه، وقول عائشة: إنما كانت يهودية، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن بهذا" وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحدٌ يَتحدَّث في عليم أو صلاةٍ أو ذِكرٍ أو حديثٍ مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحدٍ أن يجهر بالقرآن ليُشَوِّش عليهم؟
أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم.
أجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- على(3/119)
أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواءٌ كان عُلِمَ أنه قبر الميت المسمَّى أو عُلِمَ أنه ليس قبره أو جُهِلَ الحال-: اتفقوا كلُّهم على أن الصلاة فيها ليست أفضلَ من الصلاةِ في المساجد، بل ولا في سائر البقاع التي تجوز الصلاةُ فيها، وأنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يَقصِدَها لأجل الصلاة عندها، لا الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدُها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك خصوصًا لم يأمر الله به ولا رسولُه، وولا أحدٌ من الصحابة ولا من أئمة المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابًا أو أجرًا أو قُربة.
بل قد استفاضت السنن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين بالنهي في ذلك، وصرَّح غير واحدٍ من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طفق يَطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفَها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" يُحذِّر ما صنعوا.
وفي الصحيحين (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم (3) عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمسٍ
__________
(1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) .
(2) البخاري (437) ومسلم (530) .
(3) برقم (532) .(3/120)
وهو يقول: "إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيمِ خليلاً، ولو كنتُ متخذًا من أمتي خليلا لاتخذتُ أبا بكير خليلاً. أَلاَ وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".
وعن أبي مَرثد الغنوي أن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها". رواه مسلم (1) .
وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا (3) .
والأحاديث والآثار في هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وسلفِ الأمة وأئمتِها وسائرِ علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يُقصَد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرًا ومثوبةً، فهو مخطئٌ ضالّ باتفاقِ أئمة المسلمين.
__________
(1) برقم (972) .
(2) أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) .
(3) سبق تخريجه.(3/121)
وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعًا باتفاق المسلمين ولا واجبًا ولا مستحبًّا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهيّ عنها. وإنما تكون البقعة التي يُشرَع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله تعالى: (تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (1) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في مسجدِه في العشر الأواخر من رمضان (2) ، واعتكف مرةً عشرين يومًا (3) ، وترك مرةًا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في شوال (4) . وهذا هو المشروع للمسلمين.
وزيارة القبور جائز على الوجه المأذون فيه، فإن كان الميت كافرا فيُزَار للاعتبار بالموت ولا يُدعَى له، كما في صحيح مسلم (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "استأذنتُ ربي في أن أزور قبرَ أمّي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكّركم الآخرة". وإنما زار قبرَ أمّه دون أبيه لأنها كانت على طريقِه عامَ فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند مكة فزارَها، ورُوِي أنه زارَها في ألف مقنع، فبكَى وأَبكَى مَن حولَه (6) . وأما أبوه فلم يمرّ بقبره.
__________
(1) سورة البقرة: 187.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة، انظر صحيح البخاري (2025، 2026) ومسلم (1171، 1172) .
(3) أخرجه البخاري (2044) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (2033) ومسلم (1173) عن عائشة.
(5) برقم (976) .
(6) أخرجه أحمد (5/355، 357، 359) وابن حبان (791- موارد) والحاكم في "المستدرك" (1/376) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/76) من حديث بريدة.(3/122)
ولم يأذن ربُّه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنينِ، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (1) ، ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (2) . فإن إبراهيم استغفر لأبيه بقوله فيما ذكر الله عنه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (3) ، ووعده بذلك في قوله: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47)) (4) . فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (5) .
ولما نَهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض الناس بإبراهيم، فبيَّن سبحانَه الجواب بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ، فإن أباه مات كافرًا. ومن قال "إنه مات مؤمنًا" من الرافضةِ الجهّالِ أو غيرِهم فقد خالفَ الكتابَ والسنة والإجماع.
وكذلك أبو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمُّه أبو طالب، وفي صحيح مسلم (6) أن
__________
(1) سورة التوبة: 113.
(2) سورة التوبة: 114.
(3) سورة إبراهيم: 41.
(4) سورة مريم: 47.
(5) سورة الممتحنة: 4.
(6) برقم (203) عن أنس.(3/123)
رجلاً قال: يا رسولَ الله! أين أبي؟ فقال: "إنّ أباك في النار". فلما أدبَر دعاه فقال: "إنّ أبي وأباك في النار". وفي الصحيحين (1) أنه لما حَضرتْ أبا طالب الوفاة دخلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أمية، فقال: "يا عمِّ! قل لا إله إلا الله، كلمةً أُحَاجُّ لك بها عند الله". فقالا: يا أبا طالبٍ! أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) .
وفي الصحيح (3) أن العباس قال: يا رسولَ الله! عمُّك الشيخ الضالُّ كان يَحُوطُك ويصنع لك، فهل نَفَعْتَه بشيء؟ فقال: "وجدتُه في غمرةٍ من النار، فشَفَعتُ فيه، فجُعِلَ في ضَحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه ماتَ كافرًا، وتُبيِّن كَذِبَ من ادَّعَى من الجهّال الرافضة وغيرِهم أنه مات مؤمنًا. ويحتج بما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" (4) من أنه جعل يُهَمْهِمُ عند الموت، وأن العباس قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ذلك. فإنَّ الذي في الصحيح بيَّن أن العباس لم
__________
(1) البخاري (4675) ومسلم (24) عن المسيب.
(2) سورة التوبة: 113.
(3) البخاري (3883، 6208، 6572) ومسلم (209) .
(4) انظر سيرة ابن هشام (1/417) . وتكلم ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/307 وما بعدها) على هذه الرواية.(3/124)
يكن حاضرًا، وأن العباس علم أنه مات ضالاً، وأنه سألَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل نفَعَه نَصرُه لك مع كفره، فأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك نفعَه، بشفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تخفيفِ العذاب لا في رفعِه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم يُنْهَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستغفار له، ولقُرِنَ ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابنُه عليّ. بل الاستغفارُ للمنافقين الذين يُظهِرون الإسلامَ ويُبطِنون الكفرَ غيرُ نافع لهم ولا جائز إذا عُلِمَ حالُهم، كما قال تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1) ، وقال تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (2) .
وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنَّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلامُ على الميت والدعاء له، بمثل أن يقال (3) : "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء المسلمين، ويرحم الداعين له أيضًا، فيُثيبُ هذا وهذا كما يُثيب المصلين على الجنازة، فمن صلَّى على جنازة إيمانًا واحتسابًا كان له قيراط من الأجر، ومن شيَّعَها حتى تُدفن
__________
(1) سورة المنافقين: 6.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) سبق تخريجه.(3/125)
كان له قيراطان (1) .
والله تعالى يَقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث الصحيح (2) أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر في الصحيح (3) : إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر (4) : إذا كانوا ثلاثة صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة.
والمؤمنون مأمورون بدعاءِ بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضلُ للمفضول وبالعكس، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (5) : "إذا سمعتمٍ المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صَلُّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ مرة صلّى الله عليه عشرًا، ثمَّ سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له شفاعتي يوم القيامة". وقال: "ما من مؤمن يَدعُو لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثلٍ" (6) .
وأما الزيارة البدعية فمثل التمسُّح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من
__________
(1) كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (47، 1325) ومسلم (945) .
(2) مسلم (947) عن عائشة.
(3) مسلم (948) عن ابن عباس.
(4) أخرجه أحمد (4/79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة.
(5) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(6) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.(3/126)
جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه مالك في الموطأ (1) : "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد".
وقد ذكر غير واحدٍ من السلف (2) أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في قوله (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (3) : إن هذه أسماء قوم كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوَّروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى بعث الله رسوله بأن يُعبَد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة الأوثان وغير ذلك، وبيَّن أن أصل الدين أن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا.
وفي الصحيح (4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يَعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يُعذِّبَهم".
وفي الصحيحين (5) عنه أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبةً، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
__________
(1) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
(2) انظر تفسير الطبري (29/62) وابن كثير (4/455) .
(3) سورة نوح: 23.
(4) البخاري (2856، 7372) ومسلم (30) .
(5) مسلم (35) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (9) مختصرًا.(3/127)
وفي الترمذي (1) عنه أنه قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
وفي الموطأ (2) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال: "من قال في يومٍ مئةَ مرة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كانتْ له عِدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَ له مئةُ حسنةٍ، وحُطَّ عنه مئةُ سيئةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسِيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يوم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرةٍ حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثلَ زبَدِ البحر".
وأما النذر لها فينبغي أن يُعلَم أن أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به [من] البخيل" (4) .
وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال: "إن النذر يَرُدُّ ابنَ آدم إلى القدر، فيُعطِي على النذر مالا يُعطي على غيرِه" (5) .
فبيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النذر لا يَجلِب خيرًا ولا يَدفَع شرًّا، ولكن يقع مع
__________
(1) برقم (3383) عن جابر. ورواه أيضًا النسائي في "عمل اليوم والليلة" (831) وابن ماجه (3800) .
(2) 1/422 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً.
(3) البخاري (3293، 6403) ومسلم (2691) عن أبي هريرة.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.(3/128)
النذر ما كان واقعًا بدون النذر، فيبقَى النذرُ عديمَ الفائدة، لكنه يَستخرِج من البخيل، فإنه يُخرِج بالنذر مالا يُخرِجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه التزام شيء لم يكن لازمًا، وقد لا يَفعَلُه فيبقَى متلومًا، كما قال تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (1) .
ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعةً، وإن كان نفس النذر منهيًّا عنه، كما أن العبد منهيٌّ عن الظهار، وإذا ظَاهَرَ لزمتْه الكفارة، فالمنهي عنه إن كان فيه إيجاب أو تحريمٌ لزمَ المنهي عقوبةً له، وإن كان فيه إباحة لم تبح، لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببًا للمنعة الشرعية. وفي صحيحِ البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من نَذر أن يُطيع الله فليُطِعه، ومن نذر أن يَعصِيَه فلا يعصِه". وعلى هذا اتفق أهلُ العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعةً -كالصلاة الشرعية والحج الشرعي وِالصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه يُوفى به، وإذا كان المنذور معصيةً لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة يمينٍ؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارة
__________
(1) سورة التوبة: 75- 77.
(2) برقمي (6696، 6700) .
(3) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.(3/129)
النذر كفارة يمين". وفي السنن (1) عنه: "لا نذرَ في معصية، وكفارتُه كفارةُ يمين".
وإذا كان كذلك فمن نَذَر زيتًا لقبرٍ ليُسْرَج عليه أو للعاكفين عند القبر وسَدَنةِ القبر ونحوهم فهذا نذرُ معصيةِ، فإن الإيقادَ على القبور منهيٌّ عنه، والعكوف عند القبور والمجاورةُ عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعةٍ ولا بِرٍّ، وإذا لم يكن كذلك فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب بنذرِ كل طاعةٍ أو نذرِ ما كان جنسه واجبًا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء إذا نذرَ إتيانَ مسجدِ المدينة أو مسجدِ بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبًا بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاعَ فيه، لأن جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يُوفَى بالنذر في إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصِد الصلاةَ هناك أو الاعتكافَ، لكن إذا أتَى الفاضلَ أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن الآخرَينِ، ومن أتَى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو أفضل المساجد، لا يقوم غيرُه مقامَه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج.
__________
(1) أخرجه أبو داود (3290) والترمذي (1524) والنسائي (7/26، 27) عن عائشة. قال الترمذي: هذا حديث لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة.(3/130)
ولا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها، لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يَصلُح قصدُ المقابرِ للاجتماع على صلاةٍ ولا قراءةٍ ولا غيرها، فإن هذا أعظمُ من صلاة الآحاد عندها، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه أبو داود في سننه (1) : "لا تتخذوا قبري عيدًا". وهذا اتخاذ القبر عيدًا يُعادُ إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضلُ من الاجتماع للقراءة في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءتهِ في مشاهد القبور. وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما اجتمِع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا غشِيَتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
ولم يقل أحدٌ من أئمة الدين أن الميت يُؤجَر على استماعِه للقرآن، وإن قال ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو علمٍ يُنتَفع به أو ولدٍ صالح يدعو له".
فقد أخبر أن عملَه ينقطع من سوى المسمَّى، والاستماع الذي يُؤجَر عليه من الأعمال، والميت يسمع بلا ريب، كما ثبتَ ذلك بالنصوصِ واتفاقِ أهل السنة، كما في الصحيح (4) أً نه "يسمع خَفْقَ نعالِهم حتى
__________
(1) برقم (2042) عن أبي هريرة. ورواه أيضًا أحمد (2/367) ، وإسناده حسن.
(2) مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(3) مسلم (1631) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أحمد (2/445) عن أبي هريرة بهذا اللفظ. وهو متفق عليه من حديث أنس.(3/131)
يُولُّون عنه مُدبرِين"، وأنه لما خاطبَ أهلَ قليب بدرٍ قال (1) : "ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم". ولهذا أمر الزائر أن يُسَلِّم على الميت، ولولا أنه يسمع السلام لم يُؤمَر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (2) : ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ رجلٍ يعرفُه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ". لكن الإدراك لا يستلزم أن يكون مما يُؤجَر عليه ويُثَابُ عليه، وإن كان الميت يَتنعَّم ببعض ما يسمعه، كما يُعذَّب بالنياحة عليه. وليس تعذيبُه عِقابًا على النياحة، لأنها ليست من عمله، وإنما هي من جنس الآلام التي تَلْحَق العبدَ من غير عملِه، كشَمِّ الروائح الخبيثة وسَمْع الأصواتِ المنكرة ورؤية الأشياء المروِّعة. ولو كان هذا الاستماع مما يُؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحقَّ بعمل ذلك.
ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعضُ المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهَها أبو حنيفة ومالك وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخَّص فيها في الرواية الأخرى لما بلغَه عن ابن عمر أنه وصَّى أن يُقرأ عند دفنِه بفواتح البقرةِ وخواتمها. والرخصة إمّا مطلقًا وإمّا حالَ الدفنِ خاصةً، ولكن اتخاذ ذلك سنةً راتبةً لم يذهب إليه أحد من أئمة المسلمين.
فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبًا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز،
__________
(1) البخاري (3976) ومسلم (2874، 2875) عن أبي طلحة.
(2) في "الاستذكار" (1/234) . وقد سبق ذكر الحديث والكلام عليه.(3/132)
كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وفيها قول ثالث في مذهب أحمد وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغِنَي، كما في وليّ اليتيم (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (1) .
ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعُها على غير وجهِ التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يُجوِّز الإجارة، لأنها بالعوض تقعُ غيرَ قربةٍ، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله لا يَقبل من العمل إلا ما أريد به وجهُه. ومن جوَّز الإجارة جوَّز إيقاعَها على غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب.
والعلماء متفقون على أنَّ الصدقةَ تَصِل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم فيها قولان مشهوران، ومن جوَّز إلا هذا فلابدّ أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما أُرِيد به وجهُ الله، فإذا وقعت العبادةُ لمجرّد العوض -مثل أن يعطيه عوضًا على صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قُربةً، فلا ثوابَ ولا إهداءَ، ولكن نفس حفظ القرآن ودراسته وتعلّمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطَّر صائمًا فله مثل أجره" (2) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من
__________
(1) سورة النساء: 6.
(2) أخرجه أحمد (4/114، 116) والترمذي (807) وابن ماجه (1746) عن زيد ابن خالد الجهني.(3/133)
جَهَّزَ غازيًا فقد غَزَا، ومن خَلَفَه في أهلِه بخير فقد غزا" (1) . فإعانة المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغِه بالمال ونحوه حسن مشروع.
ولهذا لمّا تغيَّر الناس وصاروا يفعلون بدعةً ويتركون شِرعةً، وفي البدعة مصلحةٌ مّا إن تركوها ذهبتِ المصلحةُ ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجبُ أمرَهم بالمشروع المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعِلَ ما يمكن وقُدِّم الراجح. فإذا كانت مصلحةُ الفعل أهمَّ لم يُنْهَ عنه لما فيه من المفسدة إلا مع تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدتُه أهمَّ نُهِي عنه.
وهذه الوقوف التي على التُّرَب فيها من المصلحة بقاءُ حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونةً على ذلك وخاصةً عليه، إذ قد يَدرُسُ حفظُ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسدُ أُخَر: من حصولِ القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءتِه على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون بذلك فالواجب النهيُ عن ذلك والمنع منه وإبطالُه، وإن ظنّ حصول مفسدةٍ أكثر من ذلك لم يدفع أدنى الفسادَيْنِ باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح (2) : "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ وملكٌ كذّا وعائلٌ مستكبر". وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقّهم.
__________
(1) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.
(2) مسلم (107) عن أبي هريرة.(3/134)
فينبغي للمؤمن الذي يَقصِد وجهَ الله إذا أراد اللهَ يُثيبُه ويَرحمُ ميتَه أن يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحةٍ عامة من أهل القرآن ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ذلك مما يُخرِج العمل عن أن يكون خالصًا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ أمّي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقَتْ، فهلْ لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري (2) عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيتْ أمُّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! إن أمّي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أُشهِدك أنّ حائطِي المخراف صدقة عنها.
وأما الاجتماع يومَ الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة، وكذلك كلُّ ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعّاظ، وإنما هم نوَّاحون. وإذا كان النساء قد نُهِينَ عن ذلك مع ضعفِ قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن النساء يُباحُ لهنّ من الغناء وضرب الدفّ مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخّص فيما لا يمكن دفعُه من دمع العين وحُزنِ القلب، والنساءُ نُهِينَ عن الأسباب المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدًّا للذريعة، بخلاف الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم يُنهَوا عن ذلك.
__________
(1) البخاري (2760) ومسلم (1004) .
(2) بأرقام (2756، 2762، 2770) .(3/135)
فتبيَّن أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقلُّ عذرًا في ذلك من النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحقُّ ممن ناح في مصيبةٍ كبيرة. وفي صحيح مسلم (1) عن أبي مالك الأشعري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال (2) : "النائحة إذا لمِ تَتُبْ قبلَ موتها تُقامُ يومَ القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِرانٍ ودِرع من جرَبٍ".
والبكاء المرخَّصُ فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح استدعاؤه حزنًا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهيُّ عنه، فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين (3) عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعودُه مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحدَه في غاشيةٍ -وفي لفظ مسلم: في غشية- فقال: "قد قضَى؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، فبكى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رأى القوم بكاءَه بَكَوا، فقال: "إلا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحَم".
وعن ابن عباس قال: لمّا ماتت زينب بنت رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبكت النساء، فجعلَ عمر يَضرِبهن بسوطِه (4) ، فأخذ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده
__________
(1) برقم (934) .
(2) ضمن الحديث السابق.
(3) البخاري (1304) ومسلم (924) .
(4) في الأصل: "بصوته"، وهو تحريف.(3/136)
فقال: "مهلاً يا عمر"، ثم قال: "إياكنّ ونَعيقَ الشيطان"، ثم قال؟ "مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" (1) .
وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجدَه يَجُود بنفسِه، فأخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعَه في حجرِه، فبكَى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أَوَ لم تكن نَهيتَ عن البكاءِ؟ قال: "لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرين: صوتٍ عند مصيبة خمش وجوهٍ وشَقّ جيوب ورنّة". رواه الترمذي (2) وقال: حديث حسن، وذكر غيرُه (3) تمامَ الحديث: "وصوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعب ومزامير الشيطان".
وفي الصحيحين (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس منّا مَن ضَرَب الخدود وشَقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وأما قراءة القرآن في الأسواق والجِبايةُ على ذلك فهذا منهيّ عنه من وجهين:
أحدهما: من جهة قراءته لمسألةِ الناسِ، ففي الحديث: "اقرأوا القرآن واسألوا به اللهَ قبل أن يجيء أقوامٌ يقرأونه يسألون به الناسَ" (5) .
__________
(1) أخرجه أحمد (1/237- 238، 335) والطيالسي في "مسنده" (2694) .
وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران. (2) برقم (1005) .
(3) أخرجه أبو يعلى والبزار كما في "مجمع الزوائد" (3/17) ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
(4) البخاري (1297 ومواضع أخرى) ومسلم (103) .
(5) أخرجه أحمد (4/432-433، 436، 439، 445) والترمذي (2917) عن=(3/137)
والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ولا يُصغِي إليه.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الميت يُعذب ببكاء أهلِه، ومن نِيْحَ عليه يُعذب بما يناحُ عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عمر بن الخطاب وابنِه والمغيرة بن شعبة وغيرهم (1) ، ولكن أَشْكَلَ معناه على طوائف حتى تفرَّقوا فيه:
فمنهم من طعن فيه؛ وظَنَّ أن راويَه لم يحفظْه، كما قالت عائشة ومن معها، كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث" (2) . ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسبٌ معناه، وهو قوله: "إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجبَ لضَعْفِه قولَه تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (3) .
وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا التأويل لا يَصلُح أن يُرَدَّ به أحاديثُ ثابتةٌ عن رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كانوا من صغار الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما فيه أن المذنب لا يَحمِلُ ذنبَه غيرُه، وهذا حق لا يخالف معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحيّ، بل الحيُّ النائحُ يُعاقَبُ على نياحتِه عقوبةً لا يحملُها عنه الميّتُ، كما دلَّ على ذلك القرآن. وأما كون الميّت يتألَّم
__________
=عمران بن حصين. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر "الصحيحة" للألباني (257) .
(1) انظر صحيح البخاري (1286- 1292) ومسلم (927- 933) .
(2) ص 649.
(3) سورة الأنعام: 164.(3/138)
بعمل غيرِه فهذا شيء آخر، كما أنه يَنْعَم بعمل غيرِه لشيء آخر لا ينافي قولَه (وَأَن ليَس لِلإِنسَانِ إلا مَا سَعَى) (1) .
ومن الناس من تأوَّل على ما إذا لم يَنْهَ عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك إقرارًا للمنكَر يُعذَّب عليه. وهؤلاء ظنُّوا أنّ عذابَ الميت عقوبةٌ، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبًا يُعاقَب عليه، وليس كذلك، بل العذاب قد يكون عقابًا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السفر قطعةٌ من العذاب" (2) .
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: إنه يعاقب، بل يُعذَّب.
وقد جاء ذلك مفسرًا، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن النعمان بن بشير قال: أُغْمِيَ على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! تعدّ عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تَبْكِ عليه.
وعن أبي موسى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الميتَ يُعذَّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحةُ: واعَضُداه! واناصراه! واكاسياه! جُبذَ الميتُ وقيل له: أنت عضدها؟ أنتَ ناصرُها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمامَ أحمد في المسند (4) .
وروى الترمذي (5) عن أبي موسى أن رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة.
(3) برقم (4267) .
(4) 4/414. وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (2/471) . وفي إسناده زهير ابن محمد، هو أبو المنذر الخراساني الشامي، وهو ضعيف. ولكن تابعه عبد العزيز الدراوردي عند ابن ماجه (1594) .
(5) برقم (1003) .(3/139)
ميِّتٍ يموتُ فيقومُ باكيهم فيقول: واجَبَلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهَزَانِه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وفي سنن أبي داود (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنسوةٍ في جنازةٍ: "ارجعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكنّ تَفْتِنَّ الحيَّ وتُؤذِيْنَ الميتَ".
فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحيُّ في الدنيا قد يُعذَّب بما يراه ويسمعه ويَشَمُّه من أمورٍ منفصلةٍ عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما يلحقه من هولِ الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع (2) .
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم" (3) وأشار إلى لسانه، فهذا أيضًا حق، وهذا كقوله: "ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من العين والقلب فمن الله" (4) . والميت إنما يعذّب بما نُهِيَ عنه لا بما أبيح له، ولهذا جاء مفسَّرًا أنه النياحة، وهو البكاء بالمدّ، فإن من الناس من يقول: البكاء بالمدّ هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى، ويُنشدون:
__________
(1) لم أجده فيه، وقد أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي (3/77) من حديث علي، وهو ضعيف. انظر الكلام عليه في "الضعيفة" (2742) .
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (24/369- 378) .
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق.(3/140)
بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكَاهَا وما يُغنِي البُكاءُ ولا العَوِيلُ (1)
وأما من يكون في المسجد من مُصَلٍّ وقارئ ومحدِّث ومُفتٍ ونحوهم من يفعل في المسجد ما بُنِيَ له المسجد، فليس لبعضهم أن يُؤذي بعضًا، ففي السنن (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرج على أصحابه وهم يُصلُّون ويجهرون بالقرآن، فقال: "أيها الناسُ! كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المصلِّين أن يجهر بعضُهم على بعضٍ بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صَلَّوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر وغيرِه، فيقوم بعضُ من يُصلي منفردًا أو مسبوقًا، فيرفع صوتَه عليهم بالقراءة حتى يَشغَلَهم.
والمنفرد لا يُستحبُّ له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه وغيره، فإن الجهر إنما يُشْرَع للإمام الذي يُسمِع المأمونين، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإذا قرأ فأنصتوا" (3) . ومن استحبَّ الجهر للمنفرد فإنه ينهاه عن جهرٍ يرفعُ به صوتَه على غيرِه كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يَجهر جهرًا خفيًّا أو يَدَعُه، لما فيه من إيذاء الغير الذي يُنهَى عن إيذائهم. ألا ترى أن استلامَ الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي ذلك إيذاءٌ للناس فإنه يُنهَى عنه، كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) البيت نُسِب لكعب بن مالك في "لسان العرب" (بكا) ولعبد الله بن رواحة في "تاج العروس" (بكى) ولحسان بن ثابت في "جمهرة اللغة" (ص1027) . وانظر الخلاف في نسبته في "شرح شواهد شرح الشافية" (ص66) .
(2) لأبي داود (1332) من حديث أبي سعيد.
(3) أخرجه أحمد (2/420) وأبو داود (604) وابن ماجه (846) من حديث أبي هريرة. قال أبو داود: "وهذه الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد!. ومنهم من صحح هذه الزيادة، والكلام في هذا الحديث طويل.(3/141)
عمر عن ذلك، ففي المسند (1) عن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "يا عمر! إنك رجل قوي، لا تُزاحِم على الحجر فتُؤذي الضعيف، إن وجدتَ خلوةً فاستلمْه، وإلاّ فاستقبلْه وهَلِّلْ وكبِّرْ". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرغنا من الطواف بالبيت: "كيف صنعتَ يا أبا محمد في استلامِ الركن؟ "، قلت: استلمتُ وتركتُ، قال: "أصبتَ" رواه أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه (2) والطبراني في معجمه (3) .
وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفعُ المرأةِ صوتَها مفسدةً نُهِيَ عَمَّا فيه المفسدة، وجُعِلَ جهرُها بالتلبية بقدرِ ما تَسْمَع رفيقتُها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم.
قاله أحمد بن تيمية أيّده الله تعالى.
__________
(1) 1/28.
(2) كما في "موارد الظمآن" (999) .
(3) لم أجده في المطبوع منه.(3/142)
فتوى فيمن يُعظِّم المشايخ
ويستغيث بهم ويزور قبورَهم(3/143)
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلةَ المَحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلُّون عندها.
فهل يَحِلُّ لهؤلاء القوم هذا الفعلُ أم يَحرُم عليهم أم يُكْرَه؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرُهم على ذلك أم يجب عليهم منعُهم من ذلك وزَجْرُهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يُوصُونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازاتٍ بالمشيخة على بلادٍ أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيّات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمةِ مساجدَ يحضرون سَماعَهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على وليّ الأمر في أمرِهم هذا؟ أفتونا مأجورين.
أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقيةُ السلف طِرازُ الخَلَف بحرُ العلوم ناصرُ الشريعة قامعُ البدعة تاجُ العارفين إمام المحققين العارف الرباني الناسك النوراني علاَّمة الوقت مفتي الفِرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورَزَقَه ما رَزَقَ أولياءَه-، قال:
الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج،(3/145)
فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجِوارِك؟ أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه ويَستغيثُ به؟ أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه-: فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك.
ولكن إذا كان حيًّا حاضرًا، وطلب منه ما يَقدِرُ عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، كما كان أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطلبون منه في حياته، وكما يُطلَب منه الخيرُ يومَ القيامة. وهذا هو التوسُّلُ به والاستغاثة التي جاءت به الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيرِه عن أنس بن مالك: أن الناس لمَّا أَجْدَبُوا استسقَى عمرُ بالعبّاس، فقال: "اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بِعَمِّ نبيِّنا فَاسْقِنا"، قال: فيُسْقَون. فكان توسُّلُهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته هو توسُّلهم بدعائه وشفاعتِه، فلما ماتَ توسَّلُوا بدعاءِ عمِّه العباس وشفاعتِه، لقُربِه منه، ولم يتوسَّلُوا حينئذٍ برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبرِه يدعون عنده. فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد سَدَّ الذريعة في هذا الباب، حتى قال: "لا تتخذوا قبرِي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني" (2) . وقال: "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد" (3) . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ" يُحذِّر ما فَعَلُوا (4) . وقال: "إن من كان قبلكم كانوا
__________
(1) برقمي (1010 و3710) . ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1421) .
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.(3/146)
يتخذون القبور مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) .
فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه يَحرُمُ بناءُ المساجد على القبور. فإذا كان قبورُ الأنبياء والصالحين لم تُتَّخذْ مساجدَ، والصلاةُ عندها لله تعالى قد نهى عنها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا تكون ذريعةً إلى الشرك، فكيف إذا كان صاحبُ القبر يُدعَى ويُسْأَل ويُقْسَم على الله به ويُسْجَد لقبرِه أو يُتَمسَّح به؟ فإنّ هذا شركٌ صريح.
وقد قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (2) . وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (3) .
وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعُزَير، فقال الله تعالى: إنّ هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ، ويخافوني كما تخافوني.
وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة سبأ: 22- 23.
(3) سورة الإسراء: 56- 57.(3/147)
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (1) . فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفرٌ، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإنّ هذا لم يَقُلْه أحدٌ.
ولهذا قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2) . فبيَّن أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيحَ ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن الأحبار والرهبان شاركتِ الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركًا فكيف من دَعا ميّتًا غيرَ الأنبياء واستغاث به؟!
ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة بدعية، وزيارة شرعية. فالزيارة الشرعية مقصودُها الدعاءُ للميت كما يُصلَّى على جنازته، فيقال فيها (3) : "السلامُ عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهمَّ لا تَحْرِمْنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدَهم، واغفر لنا ولهم". فهذا من جنس الصلاة على الميت.
__________
(1) سورة آل عمران: 79- 80.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، دون الجزء الأخير، فهو من الدعاء في صلاة الجنازة.(3/148)
وأما الزيارة البدعية فهي من جنس الشرك به من جنس النصارى، مثل: دعاءِ الميِّت والاستغاثة به، والإقسام به على الله تعالى، وتقبيل قبره والتسمح به، والسجود له، وتعفير الخدِّ عنده، ونحو ذلك ممَّا يتضمن طلب الحاجات منه أو بسببه. فليس شيء من هذا من جنس دين المسلمين، ولم يَشرعْ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا من هذا، ولا فَعَلَه أصحابُه، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، بل قد نَهَوْا عنه. حتى قد اتفق أئمةُ المسلمين على أنّ قبرَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُقَبَّل ولا يُتمسَّحُ به ولا يُسْجَد عنده. فإذا كان هذا قبره فكيف يكون قبرُ غيرِه؟ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأقربهم إليه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهًا.
والحديث الذي يرويه بعض الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي" حديث موضوع (1) ، لم يَروِه أحدٌ من أهل العلم، ولا ذُكِرَ في شيء من كتب المسلمين المعروفة.
وكذلك إيقادُ المصابيح وتعليقُ الستورِ على قبور الأنبياء والصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم ليس شيءٌ من ذلك مشروعًا باتفاق المسلمين جميعًا، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأمَّة ولا أئمتُها، ولا استحبَّه أحدٌ من أئمة الدين. بل في السنن (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لعنَ الله زوّاراتِ القبور والمتخذين عليها السُّرُجَ والمساجدَ". قال الترمذي: حديث حسن.
__________
(1) تكلم عليه المؤلف في مواضع من "مجموع الفتاوى" (1/319، 346، 24/335، 27/126) ، وذكر أنه لا أصل له.
(2) لأبي داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) عن ابن عباس.(3/149)
ومن نَذَر لقبرٍ زيتًا أو شمعًا أو قناديلَ أو سِتْرًا أو نحو ذلك لم يكن هذا نَذْرَ طاعةٍ، ولم يكن على أحدٍ أن يوفيَ به، وما أعلمُ في هذا نزاعًا بين العلماء. ولكن هل عليه كفّارة يمينٍ أم لا؟ فيه قولان.
وكذلك الاجتماع عند قبرٍ من القبور لقراءةِ ختمةٍ أو دعاءٍ أو ذكرٍ أو عَملِ سَماع أو غيرِ ذلك هو من البدع المنهيِّ عنها؟ فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبري عِيدًا"، رواه أهلَ السنن كأبي داود وغيره (1) .
فإذا كان قد نُهِيَ عن اتخاذِ قبرِه عيدًا، فقَبْرُ غيرِه أولى بالنهي عن ذلك. والمكان الذي يتخذ عيدًا هو أن يعتاد الناسُ للاجتماع فيه في وقتٍ معيَّنٍ، كما يعتادون الاجتماع فيه بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنَى، وكذلك الزمان الذي يُتَّخذ عِيدًا هو الزمان الذي يعتادون الاجتماع فيه، كيومَي الفِطر والنحر.
والمشركون الذين كفَّرهم رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقاتَلَهم واستباحَ دماءَهم وأموالَهم من العرب لم يكونوا يقولون: إنَّ آلهتَهم شاركتِ اللهَ في خلق السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يُقِرُّون بأن الله وحدَه خالق السماوات والأرض والعالم، كما قال الله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (3) الآيات إلى قوله (تُسْحَرُونَ (89)) وقد قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (4) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة لقمان: 25 وسورة الزمر: 38.
(3) سورة المؤمنين: 84- 89.
(4) سورة يوسف: 106.(3/150)
قال طائفة من السلف: يسألهم مَن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وإنما كانت عبادتهم إيَّاهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائطَ ووسائلَ وشُفعاءَ لهم، فمن سلكَ هذا السبيلَ فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك.
وهذا الشركُ إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه. وإمَّا إذا كان جاهلاً لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولاسِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر.
والواجبُ على المسلمين عمومًا وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا النهيُ عن هذه الأمور، والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله أعلم.
فصل
والواجب على المشايخ أن يأمروا أتباعَهم بطاعةِ الله ورسوله، فيفعلوا ما أمر الله ورسولُه به، ويتركوا ما نَهى الله ورسولُه عنه، ويَتَبعوا كتابَ الله وسنةَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن المقصود بذلك دعوتهم إلى عبادة الله وحدَه لا شريك له وطاعة رسوله. والشيوخُ يبلِّغون عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر به أمته من الدين الذي أمر الله به، ويتبعون لخلفائه الراشدين، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه من يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمسَّكوا بها(3/151)
وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة" (1) .
والوصية الجامعة من وصية الله التي وَصَّى بها عبادَه حيث قال. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (2) . ولما بعثَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذًا إلى اليمن وصَّاه ثلاثَ وَصايا، فقال: "اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبعِ السَّيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ" (3) .
وأما كتابة الإجازات فهي بمنزلة الشهادة للرجلِ أنه أهلُ المَشْيَخةِ، وبمنزلةِ أمرِ الناس بمتابعتِه وطاعتِه، وليس لأحدٍ أن يَفعلَ هذا إلا أن يكونَ عالمًا بمن يَصْلُح للقدوة والاتباع، ومن لا يَصْلُح أن يكون عدلاً فيما يقوله ويأمُر به. فمن كان جاهلاً بطريقِ الله الذي بَعثَ به رسولَه، أو كان صاحبَ غرضٍ يكتب الإجازةَ لمن يُعطِيه مالاً ويَخدِمُه، إن لم يكن مستحقًّا لذلك لم يكن لمثل هذا أن يكتب إجازة، ولا حرمةَ لمن كتبَ له مثلُ هذا إجازة، لاسيَّما إذا كان مضمون الإجازة أن يُعطوه أموالَهم. فهذه إجازةُ الشحَّاذين والسُّوَّال،
__________
(1) أخرجه أحمد (4/126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43-44) عن العرباض بن سارية.
(2) سورة النساء: 131.
(3) اختلفت الروايات في أنّ هذه الوصايا وصَى بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا ذر أو معاذًا، وقد أخرجها أحمد (5/153، 158، 177) والدارمي (2794) والترمذي (1987) .
قال وكيع: وقال سفيان مرةَ "عن معاذ"، فوجدتُ في كتابي "عن أبي ذر" وهو السماع الأول. قال أحمد: وكان حدثنا به وكيع عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ، ثم رجع. وقال محمود بن غيلان بعدما رواه من حديث معاذ: والصحيح حديث أبي ذر.(3/152)
وليس هذا من حكم طريق الله.
ومن قَبَضَ أموالَ الناسِ على أن يُعطِيَها مستحقَّها فلابُدَّ أن يكون هذا عالمًا بالمستحقين عدلاً يُعطي المالَ لمستحقِّيْه. وأما إذا أخذ أموالَ الناسِ يُطعِم بها مَن يُعاوِنُه على أغراضِه، ويأمر بغير ما أمر الله به، وينهى عن شرع الله ودينِه، فهذا من الآكلين أموالَ الناسِ بالباطلِ والصَّادِّيْنَ عن سبيل الله. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (1) .
وإنما الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً متبعين هم الذين يدعون الناسَ إلى طريقِ الله، وهو شرع الله ودينُه الذي بُعِثَ به رسولُه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويَصرِفون الأموالَ في مَصارفِها الشرعية التي يُحِبُّها الله ورسولُه، فيكونون داعينَ إلى الله مُنفِقين الأموالَ في سبيل الله.
وكلُّ من أظهرَ هذه الإشاراتِ البدعية التي هي فُشاراتٌ، مثل إشارة الدم واللاذن والسكر وماء الورد والحيَّة والنّار، فهم أهلُ باطلٍ وضلالٍ وكذب ومحالٍ، مستحقُّون التعزيرَ البليغَ والنَّكال، وهم إمَّا صاحبُ حالٍ شيطاني، وإمَّا صاحبُ حالٍ بُهتاني، فهؤلاء جمهورُهم، وأولئك خواصُّهم. وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه البدع والمنكرات، ويَلْزَموا طريقَ الله الذي بعث به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس لهم أن يكونوا قدوةً للمسلمين، وليس لأحدٍ أن يَقتدِيَ بهم.
ومن كَثَّر جَمْعَهم الباطلَ، وحَضَر سَماعاتِهم التي يفعلونها في
__________
(1) سورة التوبة: 34.(3/153)
المساجد وغيرِها، أو حَسَّنَ حَالَهم، أو قَرَّرَ مُحالَهم من أئمة المساجد ونحوهم، فإنه مستحقّ التعزيرَ البليغَ الذي يَستحِقُّه أمثالُه. وأقلُّ تعزيرِه أن يُعزَل مثلُ هذا عن إمامة المسلمين، فإن هذا مُعِيْنٌ لأئمة الضلالة، أو هو منهم، فلا يَصلُح أن يكون إمامًا لأهلِ الهدى والفلاح. قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى اَلِبرِّ وَاَلتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنوُاْ عَلَى الإثمِ وَالعُدوَانِ) (1) ، وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) إلى آخرها (2) . وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (3) . والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة العصر: 1-3.
(3) سورة آل عمران: 104.(3/154)
مسألة في تأويل الآيات وإمرار
أحاديث الصفات كما جاءت(3/155)
مسألة
سُئِل عنها الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع أوحدُ أهلِ زمانِه شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني -رضي الله عنه وأرضاه- وهو بالديار المصرية، في قوله تعالى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية (2) ، وقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (3) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ينزل ربنا كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا (4) ... " الحديث (5) . وقد تأوَّل طائفةٌ هذه الآيات وأمثالَها من آياتِ الصفاتِ التي أنزلَها الله تعالى، ولم يتأوَّلوا هذا الحديثَ ولا أمثاله من أحاديثِ الصفات. وقد قال طائفة: إذا تأولنا هذه الآيات احتملَتْ هذه الأحاديثُ أيضًا التأويلَ. فما الحجة في تأويل الآيات وإمرارِ الأحاديث كما جاءت؟ بَيِّنوا لنا الصواب في ذلك.
أجاب رضي الله عنه
الحمد لله. الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها
أن يقال: يجب اتباعُ طريقةِ السلف من السابقين الأولين من
__________
(1) في الأصل: "أبي العباس".
(2) سورة المجادلة: 7.
(3) سورة الحديد: 4.
(4) في الأصل: "الدنى".
(5) أخرجه البخاري (1145، 6321، 7494) ومسلم (758) عن أبي هريرة. وفي الباب عن غيره من الصحابة.(3/157)
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ، فإنّ إجماعَهم حجةً قاطعة، وليس لأحد أن يخالفَهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غيرُ واحدٍ من أهل العلم بآثارهم وأقوالِهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (1) ونحوه: إنه بعِلمِه (2) ، وحَكَوا إجماعَهم على إمرارِ [آيات] الصفات وأحاديثها وإنكارَهم على المحرِّفين لها.
ولهذا لا يَقدِر أحد أن يَحكِيَ عن أحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف الأمَّة بنقلٍ صحيح أنه تأوَّلَ الاستواءَ بالاستيلاءِ أو نحوِه من معاني أهل التحريف، بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يَقتضي أنه سبحانَه فوقَ عرشِه، ويُمكِنُه أن ينقلِ بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أنهم قالوا: بعلمه.
قال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب "التمهيد في شرح الموطأ" (3) لمَّا شَرحَ حديث النزول، قال: هذا حديث لم يختلفْ أهلُ العلم في صحتِه، وفيه دليل [على] أن الله في السماء على العرش كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة. وهذا أشهرُ عند العامة والخاصة، وأَعرَفُ من أن يحتاجَ إلى أكثر من حكايتِه، لأنه اضطرارٌ، لم يُؤَنِّبْهم (4) عليه أحدٌ ولا أنكرَه عليهم مسلمٌ.
__________
(1) سورة المجادلة: 7.
(2) انظر: تفسير الطبري (28/10) و"السنة" لعبد الله بن أحمد (ص71-72) و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (3/400- 402) و"الشريعة" للآجري (ص289) .
(3) 7/128، 129، 134.
(4) في الأصل: "يوقفهم"، والتصويب من التمهيد. وينظر تمام السياق هناك.(3/158)
وقال أبو عمر أيضًا (1) : أجمعَ علماءُ الصحابة والتابعين الذين حُمِلَ عنهم التأويلُ قالوا في تأويل قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) : هو على العرش، وعِلمُه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحتَجُّ بقوله.
وقال أيضًا (2) : أهل السنة مُجمِعون على الإقرارِ بالصفاتِ الواردة في الكتاب والسنة، وحَمْلِها على الحقيقةِ لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئًا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلُّهم يُنكِرها، ولا يَحمِلُ شيئًا منها على الحقيقة، ويزعم أنّ من أقرَّ بها مُشبِّه، وهم عند مَن أقرَّ بها نَافُونَ للمعبود.
وقال الشيخ أبو بكر الآجُرِّي في كتاب "الشريعة" (3) في باب التحذير من مذهب الحلولية: الذي يذهب إليه أهلُ العلم أن الله على عرشِه فوقَ سماواتِه، وعِلمُه محيط بكل شيء، قد أحاطَ بجميع ما خلقَ في السموات العلي، وبجميع ما في سبع أرضين، يُرفَع إليه أعمالُ العباد.
فإن قال قائل: فما معنى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية التي يحتجون بها؟ قيل له: علمُه، والله على عرشِه، وعلمُه يُحيط بهم. هكذا فسَّره أهلُ العلم، والآية يدكُ أوَّلُها وآخرُها على أنه العلم وهو على عرشه.
هذا قول المسلمين.
__________
(1) 7/138، 139.
(2) 7/145.
(3) ص288.(3/159)
وقال الشيخ أبو عبد الله بن بَطَّة في كتاب "الإبانة" (1) : باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقِه، وعِلمُه محيط بخلقه: أجمعَ المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشِه فوقَ سماواته بائنٌ من خلقهِ. فأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو كما قالت العلماء: عِلْمُه. وأما قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) (2) معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقُه في كتاب الله: (وَهُوَ الَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ) (3) . واحتجَّ الجهمي [بقول الله تعالى] (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) ، فقال: إن الله معنا وفينا. وقد فسَّر العلماءُ أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4) .
فهؤلاء وأمثالُهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وكلٌّ منهم له من المصنَّفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف وآثارِهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حَكَوا إجماعَ السلف كما ترى.
الوجه الثاني
أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلِّها على طريقةٍ واحدة، والتأويل الذي ذمَّه السلفُ والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراجُ كلامِ الله ورسوله عما دَلَّ عليه وبيَّنه الله به. وقد حَدَّه طائفةٌ
__________
(1) انظر "المختار من الإبانة" (تتمة الرد على الجهمية) 3/136، 143، 144.
(2) سورة الأنعام: 3.
(3) سورة الزخرف: 84.
(4) سورة المجادلة: 7.(3/160)
بأنه صَرْفُ الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل. فقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ونحوها من الآيات ليس ظاهرُها ولا مدلولُها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين ممتزجًا بهم، ولا إلى جانبهم متيامنًا أو متياسرًا، ونحو ذلك، لوجوه:
أحدها: أنه لم يَقُل أحد من أهل اللغة إنَّ المعيَّةَ تقتضي الممازجةَ والمخالطةَ، ولا تُوجبُ التيامنَ ولا التياسُرَ (1) ونحو ذلك من المعاني المنفيَّةِ عن الله مع خَلْقِه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنةَ المطلقةَ. الثاني: أنه حيث ذُكِر في القرآن لفظ المعيّة فإنه لم يَدُلَّ على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (2) ، فليس معنى ذلك أن ذاتَ المؤمنين ممتزجةٌ بذاته.
وكذلك قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (3) ، والمجاهد معهم ليست ذاتُه ممتزجةً بذواتهم ولا مماسَّةً لذواتِهم. وقال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)) (4) ، وليس المراد أن ذاتَه تمتزجُ بذواتهم ولا مماسَّة لها. وقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)) (5) ، وقال تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)) (6) .
__________
(1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله. وقد وجدتُ ما يُكمله في الورقة (53 ب/ سطر8) .
(2) سورة الفتح: 29.
(3) سورة الأنفال: 75.
(4) سورة التوبة: 119.
(5) سورة هود: 40.
(6) سورة الشعراء: 119.(3/161)
وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعيَّة أن يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا ممتزجًا به ولا مختلطًا به، فمن قال: إن ظاهرَ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) ونحو ذلك أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين وممتزجًا بهم وحالاً فيهم أو مماسًّا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادَّعى أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كَذِبٌ على الله ورسوله بلا حجة ولا برهانٍ.
وغاية ما يُقال: أن لفظ "مع" ظرفٌ أو ظرفُ مكانٍ، فيقتضي أن يكون المتعلق بهذا الظرف مكانًا (1) من المضاف إليه، كما في قول القائل: هذا فوقَ هذا، فإن "فوق" من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف إليه أو عن شمالِه، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشمالِه جميعًا، بل أكثرُ ما يَقتضي مطلقُ المكان، فإذا قُذِّر أنه (2) فوقَ المضاف إليه لم يكن هذا مخالفًا لظاهر المعية.
ومن قال: إنه لابُدَّ في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنًا أو متياسرًا أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غَلِطَ غَلَطًا بيِّنًا. وهذا كما أن قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليس ظاهرُه أن ذاتَه في السماوات والأرض، بل ظاهرُه أنه إله أهلِ السماءِ وإله أهل الأرض، فأهلُ السماء يَألَهُونَه، وأهلُ الأرض يألهونَه.
وكذلك قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليس ظاهره أن نفس الله في السماوات والأرض، فإنه لم يقل: "هو في السماوات والأرض"، بل
__________
(1) في الأصل: "مكان".
(2) في الأصل: "أن".(3/162)
قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، فالظرفُ مذكورٌ بعدَ جملةٍ لا بعدَ مفردٍ، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ، بخلاف قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (1) وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً) (2) ، فإنه لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسِه.
وكذلك الأثر الذي يُروَى عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرض، فمن صافحَه واستلَمه فكأنما صافحَ اللهَ وقَبَّلَ يمينَه" (3) ، فمن قال: إن هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفةُ الله، فإنه قال: "يمين الله في الأرض"، فقيَّده بكونه "في الأرض"، وهذا بيَّن أنه ليس هو صفةَ اللهِ. ثم قال: "فمن صافحَه وقَبَّلَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّل يمينَه"، والمشبَّه غيرُ المشبَّه به، فقد صرَّح بأن المستلم له لم يصافحِ الله، وإنما هو مشبَّهٌ بذلك.
الوجه الثالث أن يقال: إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامّا وخاصًّا، فالعام كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4) ، وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
__________
(1) سورة الملك: 16.
(2) سورة الملك: 17.
(3) سبق تخريجه. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (6/397 وما بعدها) .
(4) سورة المجادلة: 7.(3/163)
عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (1) . ففَتَحَ الكلامَ بالعلم وخَتَمه بالعلم.
وأما الخاصّ فكقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (2) ، فهذا بيّن أنه ليس مع الفجّار والظّالمين، ولو كان بذاتِه في كل مكان لكان مخالفاً لهذه الآية.
وكذلك قوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (3) ، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه.
وكقوله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (4) ، فهو مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبه، لا مع الكفّار كأبي جهل وأمثالِه.
فلو كانت المعيَّةُ معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكانٍ بذاته، لم يَجُزْ أن يكون في المعيَّةِ تخصيصٌ. فمن زَعَم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ظاهرها أن يكون في كل مكانٍ فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلَّت على المصاحبة والمقارنة فهي في كل مكانٍ بحسب ما دلَّ عليه السياقُ. فلما كان في تلك (5) الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمَها بالعلم، دَلَّ ذلك على أن من حكم المعية أنه
__________
(1) سورة الحديد: 4.
(2) سورة النحل: 128.
(3) سورة طه: 46.
(4) سورة التوبة: 40.
(5) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "تَينك".(3/164)
عليم بكل شيء. وهنا لمَّا كان السياقُ يدلُّ على أن المقصودَ الإعانةُ والنصر دل على أن من حكم المعيَّة النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني مصاحبك ومقارِنُك، وإذا كان كذلك اقتضَى أنّي أعلم حالك، وقد يقتضِي إذًا أنِّي أُعِينك وأنصرك على أعدائك.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: "اللهم أنتَ الصاحبُ في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحَبْنا في سفرِنا واخْلُفْنا في أهلنا" (1) . وهذا وأمثالُه بيَّن أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا التأويل المتنازع فيه، وهو صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال (2) الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يَقترِن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهرُ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يقتضي أن يكون الله ممتزجًا بنا حَالاًّ في أجوافِنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، وليس هذا مدلولَ لفظ المعية أصلاً، فبطل ما قال. بل يُقال:
الجواب الثاني
وهو أن قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يَدُلُّ على نقيض قولِ الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما يتناوله الاسمُ الظاهر، واسمهُم يتناول جميعَ ذاتهم وصفاتِهم فأبعاضهم، وذلك يمتنع (3) أن يكون في أحدهم شيءٌ من غيره. فإذا كان هو معهم دلَّ ذلك على أنه منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائرِه. بل قوله "رب الناس" "ملك
__________
(1) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.
(2) في الأصل: "احتمال".
(3) كذا في الأصل، والأولى "يمنع".(3/165)
الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغايرٌ للناس مباين لهم، لأنَ الربَّ مُغايرٌ للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغايرٌ لهم، ولمسمَّى "مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: "هذا فوق هذا" اقتضى أنه مغايرٌ مباينٌ لما هو فوقه ولنفس المسمَّى بلفظ فوقه، ولفظُ "مع" هو من هذا الجنس ظرفٌ من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرًا مباينًا له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن يقال: هو معه، وقد يُجعَل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: "هذا الحِمْلُ معي"، وقد يُجعَل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: "هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو مباينٌ منفصلٌ عنه، كما يقال: "هذه الغاشية (1) معي"، وقد يقال: "سِرْنا البارحةَ والقمرُ معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال.
فعُلِم بذلك أن كونه (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا ينفي أن يكون الربّ مباينًا لهم، ولا يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايتُه أن يكون بحيث هو مضافٌ إليه مما يُسمِّيه النحاةُ ظرفًا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة، بل يكون لفظ "المعية" دلَّ على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دلَّ على خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنًا ولا تياسُرًا.
وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحدٌ، وهو المصاحبة والمقارنة والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحبٌ له مفارقٌ له"، وهو يقتضي مطلقَ المصاحبة والمقارنة لا نوعًا منهم إلا بتفصيل وتخصيص.
__________
(1) أي الزوَّار والأصدقاء.(3/166)
وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يُسمَّى مكانًا ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدلُّ إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبةً ونصرةً، كما يقال: فلان معي وفلان علىَّ، إذ كان من شأن المتحابين قربُ كلٍّ منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن المجتمعين من الآدميين في محل [أن] يعرف أحدهما الآخر ومعاونته له.
وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في قوله (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)) (1) ، وكما في قوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) (2) ، وقوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً) إلى قوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14)) (3) .
وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (4) ، وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)) (5) ، وقوله:
__________
(1) سورة النساء: 108.
(2) سورة الإسراء: 47.
(3) سورة النور: 63- 64.
(4) سورة آل عمران: 181.
(5) سورة الشعراء: 218- 219.(3/167)
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عملَكمْ ورَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ) (1) . فهذا ونحوه وإن ذُكِر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل: (إِنَ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)) (2) ، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما يُعنَى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (3) . فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دلَّ عليه السياق.
ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من العلم الذي يتضمن الإحصاءَ والجزاء على الأعمال عمومًا، ومن الموالاة والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (4) ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائِه على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدلّ هذا السياق على
__________
(1) سورة التوبة: 105.
(2) سورة إبراهيم: 39.
(3) سورة آل عمران: 77.
(4) سورة الحديد: 4.(3/168)
أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب عنه شيء من أمرهم.
وكذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث العباس بن عبد المطلب لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (1) .
وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) .
وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة (3) من قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) ، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم.
ومثل هذا قوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) (4) .
وأما قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (5) ، وقوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (6) ، وقوله
__________
(1) أخرجه أحمد (1/206، 257) وأبو داود (4723- 4725) والترمذي (3310) وابن ماجه (193) .
(2) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بثر المريسي" (ص105) وفي "الردّ على الجهمية" (ص21) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص105، 106) والطبراني في "المعجم الكبير" (9/228) وأبو الشيخ في "العظمة" (2/688، 689) مطولاً ومختصراً.
(3) الآية 7.
(4) سورة النساء: 108.
(5) سورة النحل: 128.
(6) سورة طه: 46.(3/169)
عن الرسول: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (1) ، فقد عُلِمَ أن حكم المعية هنا ومقصودها ليس عامًا لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصًّا بالمتقين المحسنين (2) دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون وقومه، وبالنبي وصديقه دونَ مشركي قومِه. فهذه الأمور التي فيها خصوصٌ وعمومٌ تضمَّنها لفظ المعية ودلَّ عليها، كما دلَّ لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنًا ولا تياسرًا.
بل إذا قيل: إنها تتضمن قُربَه من خلقِه، فقربُه ثابت بنصوصٍ صريحة أصرح من لفظ المعية، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (3) ، وقو له تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)) (4) . وفي الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: "أيها الناس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه قريب في عُلُوِّه عليٌ في دُنُوِّه.
وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقربِ عبادِه منه بكلام مبسوط،
__________
(1) سورة التوبة: 40.
(2) في الأصل: "المسبحين". والتصويب من السياق.
(3) سورة البقرة: 186.
(4) سورة سبأ: 50.
(5) البخاري (6384 ومواضع أخرى) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري.(3/170)
وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع (1) ، وبَيَّنَّا أن قربَه لا يُنافِي عُلُوَّه.
الجواب الثالث
أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مُثبتة الصفات ونفاتُها المرادُ به صرفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاَحتمال المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليلٍ يُوجِب ذلك.
وقد يُراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما.
وقد يُراد بلفظ التأويل ما يَؤُوْلُ إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في الخارج التي دلَّ الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (2) ، وقوله تعالي: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (3) ، وأمثال ذلك.
إذا عُرِف ذلك فنقول (4) : أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاعَ فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهرِه إلى ما يخالف ظاهرَه، أو عن حقيقته أو عن
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (5/226 وما بعدها) .
(2) سورة الأعراف: 53.
(3) سورة آل عمران: 7.
(4) انظر الكلام على معنى التأويل عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (13/288- 294، 17/364 وما بعدها، 5/35- 37، 3/55- 57، 4/68- 70) .(3/171)
الاحتمال الراجح، وحينئذٍ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفاتِ الخالق مماثِلةٌ لصفاتِ المخلوقات -مثل أن يظنّ أن استواءَه على العرش كاستواء الإنسان على بعيرِه أو على الفُلكِ، أو أن معيته مع الخلق تَقتضي دخولَه فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" ظاهرُه أن صفة الله حلَّت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، وأنّ قوله (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (1) يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ونحو ذلك- فمن ظنَّ أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقدَ التأويل في ذلك كلِّه، ويعلمَ أن هذه النصوص مصروفةٌ عن هذا المعنى الذي ظنَّه هو الاحتمالَ الراجحَ إلى ما يخالف ذلك المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهرُ هذه النصوص، ولا أنها تَدُلُّ على ذلك.
بل من فَهِم منها هذا المعنى الفاسد بَيَّنُوا له أنها لا تدلّ على هذا المعنى الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد.
فمن ادَّعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دلَّ عليها القرآن كان ما في القرآن من التصريح بنفي ذلك مُثبتًا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعُلُوِّه في غير موضع من الكتاب. وهذه كلها نصوصٌ تنفي أن تكونَ صفاته تُشبِه صفاتًِ خلقِه (2) ، أو يكونَ حالاً
__________
(1) سورة الملك: 16.
(2) هنا انقطع الكلام في الأصل، وتتمته بعد 11 ورقة.(3/172)
في المخلوقات. وأخبر بقوله ليَس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (1) وبقوله (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2) ونحو ذلك أن يُماثِلَه العبادُ في صفاتهم، فتكون صفاته كصفاتِ خلقه.
فهذه النصوص المفسَّرة تُبيِّن أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادةً، سواء سَمَّى المسمِّي ذلك تأويلاً أو لم يُسمِّه.
فقول القائل "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضًا التأويل" حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يُراد بها معنى فاسدٌ بيَّن الله تنزُّهَهُ عنه في موضع آخر، وجب [أن] ننفيَ عن نصوصِ أخرى معاني ونفسِّرها بأمور من غير أن يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلومٌ أن هذا باطلٌ سواء سمَّاه تأويلاً أو لم يُسَمِّه، لوجوه:
أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في بقية (3) النصوص معنى فاسدًا نفاه القرآن وجب نفيُه أيضًا.
الثاني: أن ما فسَّروا به تلك النصوص هو تفسيرٌ يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم (4) : "استوى" بمعنى استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع (5) .
__________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة الإخلاص: 4.
(3) في الأصل: "نفيه"، وهو تصحيف.
(4) في الأصل: "كقولهما".
(5) انظر "مجموع الفتاوى" (5/144-149) ففيه ذكر اثني عثر وجهًا.(3/173)
وقولهم "يَنزِلُ أمرُه أو مَلَكٌ"، فان هذا فاسدٌ من وجوهٍ كثيرة، فكيف يُقاس تأويلٌ فاسدٌ على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسَمَّينا ذلك تأويلاً بحسب فهم هذا الفاهم، وإلاّ فالصواب هو:
الوجه الثالث؟ وهو أن يقال: إذا فهم بعضُ الناس من كلام الله معنىً فاسدًا -مثل فهمهم كونَ المعية تَقتضي المخالطةَ، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه ظاهره- رُدَّ عليه هذا الفهمُ، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلاّ فالنصُّ لم يدلَّ على ذلك، ولا هذا ظاهر النصّ. وظاهرُ الخطاب الذي هو مدلولُه ومعناه يُعلَم تارةً بمفرداتِ ألفاظِه وموضوعِها، وتَارةً بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب الذي يُبيِّن المراد ويُظهِر معنى الخطاب، وتارةً بالسياق الذي سِيْقَ له الكلام.
وإذا كان كذلك لم نُسلِّم أن هذا تأويل، فإن أَصَرَّ على تسمية هذا تأويلاً كان نزاعًا لفظيًّا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلولَ النصّ ومقتضاه، وهذا تأويل يخالف مدلولَه ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نردُّ التأويل الذي يخالف مدلولَ كلامِ الله ومقتضاه.
الجواب الرابع
أن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل، من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يردّ تأويل المعتزلي لعلمِ الله وقدرتِه وسمعِه وبَصَرِه وتكليمِه ومشيئتِه، ويثبتُ هذه الصفاتِ حقيقةً؟ والمعتزلي يَردُّ تأويل المتفلسفِ في معاد الأبَدانِ والأكل والشرب في الجنة؟ والفيلسوف يردّ تأويل القِرمطيِّ في الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ والقِرمطي يردّ تأويلات الجمهور الذين (1) ينازعونه فيها.
__________
(1) في الأصل: "الذي".(3/174)
وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأيّ شيء رددتَ بعضَ التأويلات وقَبلتَ بعضَها؟ فلا يذكر شيئًا إلا عُورِضَ حتى يُبيَّن له تناقُضُه وفسادُ أصَلِه.
فمن كان من المتأولين (1) يتأوَّل المحبّة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويُقرِّر الإرادة ونحوها، قِيْل له: ما الفرقُ بين ما قرَّرتَه وبين ما تأوَّلتَه؟
فإن قال: لأن الغضب هو غَلَيَانُ دمِ القلب لطلبِ الانتقام، وذلك لا يليق بالله.
قيل له: هذا غَضَبُنا، وغضبُ الله ليس مثل غَضَبنا، بل يقال له:
هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى النظر والاستدلال الذي يُحصِّلُ لنا العلمَ، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج يُحصَّل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسانٍ وشفتين.
فكذلك غضبُه لا يَفتقِرُ إلى ما يفتقر إليه غَضبُنا.
فإن قال: أنا لا أعرِفُ الغضبَ إلا هكذا.
قيل له: فتأوَّلِ الإرادةَ، فإن الإرادة فينا هي مَيلُ القلب إلى جَلْب ما ينفعُه أو دفعِ ما يَضرُّه، والله تعالى لا يُوصَف بذلك.
فإن قال: إرادتُه ليست كإرادتنا.
قيل له: فقُلْ في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات.
__________
(1) في الأصل: "المستادين".(3/175)
فإن قال المعتزلي: أنا أتأوَّلُ الإرادة والكلام، وأجعلُ كلامَه ما خَلَقَه في غيرِه، وإرادتَه ما خَلَقَه في المفعولات والأصوات، أو عَرَضًا خَلَقَه قائمًا بنفسِه.
قيل له: فتأوَّلْ أسماءَه الحسنى، وهو الحيُّ العليم القدير، ولا تُثبتْ له حقائقَ هذه الأسماء كما يفعل القِرمطيُّ، قال: لأنّ ثبوتَ هذَه الأسماء يقتضي هذه المشابهة بينَه وبينَ خلقِه، ويقتضي أنه جسمٌ، إذ لا يُسمَّى بهذه الأسماء إلا جسمٌ.
فإذا قال: أنا أُثْبِتُ هذه الأسماءَ له مع الفرق بين المسمَّى والمسمَّى.
قيل له: فكذلك أَثْبِت الصفاتِ، وفَرِّقْ بين الموصوف والموصوف.
فإن قال: الصفات تقتضي التجسيمَ.
قيل له: والأسماءُ تَقتضي التجسيم.
فإن قال: التجسيم (1) إنما يلزم إذا قلتُ: هو حيٌّ بحياة عليمٌ بعلمٍ قديرٌ بقدرةٍ، وأنا أقول: حيٌّ بلا حياةٍ عليمٌ بلا عليمٍ.
قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه:
أحدُها: أن التجسيم الذي تزعُمُه يَلزم في هذا كما يلزم في هذا.
الثاني: أن إثباتَك حيًّا بلا حياة عليمًا بلا عليم قديرًا بلا قدرة مخالفٌ لصريحِ العقل أكثر من مخالفة ما فَرَرْتَ منه.
الثالث: أن خصومك من النُّفاةِ [و] المُثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو
__________
(1) انقطع الكلام هنا في الأصل، وتتمته قبل 12 ورقة.(3/176)
التجسيم الذي نفيتَه ليس بمنتفٍ، والنفاةُ القرامطةُ يقولون: التجسيمُ في إثباتِ الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات.
فإن قال المتفلسف: أنا أتأوَّل هذا كفَه، وأتأوَّل ما وردَ في معادِ الأبدان.
قيل له: فتأوَّلْ ما وردَ في معادِ الرُّوح ونعيمها، وما ورد في إثباتِ واجب الوجود وعنايتِه وإبداعِه وعلمِه الكلّي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيتَه أصرحُ من الخطاب الوارد فيما أثبتَه.
فإن قال: ما نفيتُه يَستلزِمُ تركيبَ واجب الوجود.
قيل له: وكذلك ما أثبتَّه، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل وأمثالَ ذلك مَعانٍ متميزة في العقل كتميُّزِ ما أثبتته الصفاتيةُ.
وقيل له: فتأوَّل العباداتِ كما تأوَّلَها القِرمطي.
فإن قال: العبادات قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ أوجَبَها، أو ليس فيها ما يُنافي العقلَ.
قيل له: منازعون من النفاةِ والمثبتةِ يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم يقولون: إن معادَ الأبدان قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ قد أخبرَ به، والصفاتية يقولون: إن إثباتَ الصفات مما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول أخبرَ به، ويقولون لك: ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة لما أثبتَه من العلميات (1) .
والقرامطة ينازعونك فيما أثبتَه حتى في النفس، فيقولون: لا يُقال هو
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها "الكليات"، لتقابل "الجزئيات".(3/177)
لا موجودٌ ولا معدومٌ، لأن في هذا تشبيهًا له بالموجودات والمعدومات.
فان قال (1) : هذا خروج عن النقيضَيْن، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالفٌ لما عُلِمَ بالاضطرار من السمع.
قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لابُدَّ أن يجمعوا بين النقيضَيْن أو يَسْلُبوا النقيضَيْن كالقِرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا مُحايِثٌ ولا داخل ولا خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسِه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرطِ إطلاقِه لا يُوجَد في الخارج بل في الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جَعلَ المطلقِ بشرطِ الإطلاقِ يَثبُتُ في الخارج جَمْع بين النقيضين.
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبَيَّنا أن هؤلاء أهل التأويلات المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحدٍ منهم قانونٌ مستقيم في التأويل، بل يتناقضون.
فيقال لهم: إذا تأوَّلتم هذا فتأوَّلوا هذا، أو لا تتأوَّلوا شيئًا.
فإن قالوا: ما دلَّ العقلُ على إثباتِه لم نَتأوَّلْه كالإرادة، بخلاف ما لم يَدُلَّ على إثباته كالغضب.
كان الجوابُ من وجوهٍ:
أحدها أن يقال: عَدَمُ الدليلِ ليس دليلاً على العَدَم، فهَبْ أنكم لم تعلموا بالعقلِ ثبوتَ صفةٍ أُخرى، فمن أين لكم نفيُها بلا دليلٍ
__________
(1) في الأصل: "قلت" وأثبتنا ما يناسب "قيل له" آلاتي.(3/178)
والسمعُ قد دلَّ عليها؟!
الثاني أن يقال: فهذا عَزْلٌ للرسول عن الإخبار بصفاتِ مُرسِلِه، فإنكم لم تُثبتُوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تُثبته عقولكم نفيتُموه، فبَقِي كلامُ الَرسولِ عديمَ الفائدةِ في باب أسماءِ الله وصفاتِه.
الثالث: أن يُبيَّن لهم أن العقلَ يدلُّ على ما نَفَيتُموه نظيرَ دَلالتِه على ما أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدلُّ على الرحمة، كما أن ما فيه من التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدلُّ على الغضب، كما قد بُسِطَ في غيرِ هذا الموضع.
فإن قال: إنما نتأوَّلُ (1) ما عُلِمَ نفيُه بدليلٍ قَطعي من العقل أو النقل.
قيل له: ونحن نُسلم لك أن ما عُلِمَ نَفْيُه بصريحِ المعقول أو صحيح المنقول فإنه يجب نفيُه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوصَ يدلُّ على ما يُخالِفُ صريحَ المعقولِ وصحيحَ المنقولِ قولٌ غير مقبولٍ.
الجواب الخامس
أن يقال: التأويل الذي هو صرفُ اللفظِ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، للمُثبِتةِ فيه ثلاثةُ مسالكَ:
أحدُها: أن يَنفُوه مطلقًا، ويقولوا: لا حاجةَ إليه، وتمام ذلك بان يثبِتوا تَنزُّهَ القرآنِ والحديث عن الدلالةِ على المعاني الفاسدة.
المسلك الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي، مثل أن يكون نفيُ ذلك المعنى قد بَيَّنَه الشارع في موضع آخر، فيكون هو
__________
(1) في الأصل: "تأويل".(3/179)
قد بيَّن كلامَه بكلامِه، فلا يكون كلامُ الله ورسوله محتاجًا في البيان إلى ما يُحدِثُه المُحدِثون.
المسلك الثالث: أن يُسلَّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه، لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجةٌ إلى التأويل، ويُثبتون أن ذلك لم يُخالِفْ دليلاً قطعيًّا، لا عقليًّا ولا سمعيًّا، بل يُبيَّن أن العقل الصريح يُقرِّر ما أثبتَه السمعُ، وأن العقل الصريح لا يخالف النقلَ الصحيح أصلاً، كما يُبيَّن أن ما دلَّ عليه القرآنُ من أن اللهَ مُباينٌ لمخلوقاتِه (1) قد دلَّ عليه العقلُ، وأنّ العقلَ يُثبتُ مباينتَه للمخلوقات، والسمعُ زادَ على ذلك وأثبتَ الاستواءَ علىَ العرش، وذلك لا يُعلَم بالعقل، فالسمعُ أثبتَ ما عَلِمَ العقل وزادَ عليه وفَضَلَه، لأن الرُّسُلَ بُعِثَتْ بتكميلِ الفطرة وتقريرِها، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرها. والله أعلم.
(تمت بحمد الله وعونِه وحُسنِ توفيقه، وصلواته على سيّدنا محمدٍ خيرِ خلقِه محمد (2) وآلِه وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، بتاريخ خامس شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمئةٍ) .
__________
(1) بعده في الأصل: "اذ هو بدو العلم"، وهي عبارة غامضة، والسياق واضح بدونها.
(2) كذا في الأصل بتكرار اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/180)
مسألة
فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى
إلى العلوّ من جميع الجهات المخلوقة(3/181)
مسألة
سُئِل عنها سيِّدُنا وشيخنا وإمامُنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع المجتهد السالك المحقّق المدقّق مُفتِي الفِرق ناصرُ السنن قامعُ البدع فريدُ عصرِه وواسطةُ عِقْدِ دِهرِه، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني -متَعَنا الله بعلومه الفاخرة، وأسبغَ عليه نِعَمَه باطنةً وظاهرة، وأثابَه في الدنيا والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العُلُوَّ من جميع الجهات المخلوقة، وأنه يُدعَى من أعلَى لا من أسفلَ، وأنه بائنٌ من خلقِه، لا يُتصوَّر ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذاتَ الحقِّ فلكيَّةٌ محيطةٌ بالفلك؟ إذ الفلك مستديرٌ محيطٌ بالخلق. فهذا التصوُّر حقٌّ أم لا؟ وإذا لم يكن حق (2) فما الدليلُ الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين.
أجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله. بل هذا التصور باطلٌ، وأما بيانُ بطلانِه فله طرقٌ كثيرة، وذلك أنَّ هذا القائل يقول: لو كان البارئ سبحانَه فوقَ المخلوقات وهو بائن من مخلوقاتِه، لَوجبَ أن يكونَ فلكًا محيطًا بالأفلاك، لأنَّ الفلك التاسع مستديرٌ، وهو محيطٌ بسائرِ الأفلاكِ وما في جَوفِها، والمحدّد للجهات هو سَطْحُ الفلك التاسع، فلو قدَّرنا
__________
(1) في الأصل: "أبي العباس".
(2) كذا في الأصل بالرفع.(3/183)
شيئًا فوقَه لَلَزِم أن يكون فلكًا تاسعًا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرةٌ، وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إنّ الأفلاك هي تحت الأرض، فلو كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض … (1) تحت بعض الناس.
فهذا حقيقةُ كلامِه، وأما بيانُ بطلانِه فمن وجوهٍ:
أحدها أن يقال: لا يخلو إمّا أن يكون الخالقُ تعالى مباينًا للمخلوقات، وإما أن يكون محايثاً لها، وإما أن لا يكون لا مباينًا ولا محايثًا لها" وإن شئتَ قلتَ: إمَّا أن يكون داخلَ العالمِ، وإما أن يكون خارجَه، وإما أن لا يكون لا داخلَ العالم ولا خارجَه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلقَ العالم إما أن يكون دخلَ فيه أو أدخلَه في نفسِه (2) ، أو لا دَخَل (3) فيه ولا أدخله في نفسه.
فإن قال: إنه داخلَ العالم مُحايثٌ له أي هو يحيث العالم، والعالم أجسامٌ قام بها أعراض هي اَلصفات، فالذي هو داخلٌ فيه محايثٌ له: إمَّا عَرَضٌ قائمٌ بأجسامه وإما بعضُ أجسامِه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطًا به فالقول بكون الفلك محيطًا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطًا بالفلك.
فإن قال: يُمكِن في العقل أن يكون داخلَ العالم ولا يكون جسمًا من أجسام العالم ولا عرضًا قائمًا به.
قيل له: فإن كان هذا جائزًا في العقل فكونُه خارجًا عن العالم
__________
(1) هنا في الأصل كلمتان مطموستان.
(2) في الأصل: "نفسًا"، وأثبتنا ما يقتضيه السياق.
(3) في الأصل: "ولا داخل".(3/184)
مباينًا له وكونُه عينَ الفلكِ أقربُ في العقل من كونِه فيه والعالمُ لا يحيط به. وهذا بيِّنٌ واضح.
فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارجَ العالم وليس بفلكٍ أولى في العقل.
وإن قال: إنه فيه، والعالم يُحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنًا (1) .
فتبيَّن أنه على التقديرين أيُّ محذورٍ لَزِمَه في كونِه خارجَ العالم مباينًا له كان المحذور في كونه داخلَه محايثًا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا مباين له ولا محايث له.
قيل له: فهل يُعقَل موجودانِ قائمانِ بأنفسهما لا يكون أحدُهما داخلَ الآخر ولا خارجَه؟ وهل يُعقَل إثباتُ خالقٍ للعالم ليس في العالم ولا مباينًا للعالم؟ وهل يُعقَل أن يكون خلقَ العالم لا في نفسِه ولا خارجًا (2) عن نفسِه؟
فإن قال: هذا معقولٌ ممكنٌ متصوَّرٌ.
قيل: فتصوُّرُ موجودٍ قائمٍ في هذا الباب يُستَعمل لثلاث معانٍ: أحدها: أن يُراد بالمباينة المخالفة التي هي ضدُّ المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفقٌ عليها بين الناس، إذ لا نزاعَ بينهم أن الخالق سبحانَه
__________
(1) في الأصل: "متمكنا".
(2) في الأصل: "خارج".(3/185)
مباين لمخلوقاتِه بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تَثبُت لصفاتِ الموصوف القائمةِ بمحل واحدٍ، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والرِّيْح والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلاً، فإن هذه الصفات تُبايِنُ بعضُها بعضًا بهذا المعنى، فإن كلَّ واحدةٍ من هذه الصفات التي تُسَمَّى أعراضًا ليست مثلَ الآخر.
والمعنى الثاني في المباينة: حدّ المحايثة، وهو أن يكون أحدُ الشيئين ليس هو محايثًا له، سواء كان ملاصقًا له مباينًا أو لم يكن كذلك، فكل شيءٍ قائمٍ بنفسِه مباينٍ لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء مَاسَّه أو لم يُماسَّه. وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نَعرِف ربَّنا بأنه فوق سماواته على عرشِه بائن من خلقِه.
وكان المتكلمة الصفاتية الذين سَلكَ مسلكَهم الأشعريُّ -كعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يُثبِتون هذه المباينةَ، لاعتقادِهم أنَّ الله فوقَ خلقِه وأنه مستوٍ على عرشِه، وإنكارهم على الجهمية الذين لا يُفرِّقون بين العرش وغيرِه. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه هو قولُه (1) ، ورَدَّ على الجهمية في (2) كُتبه المعروفة "كالموجز" و"الإبانة" و"المقالات" وغير ذلك من كتبه.
والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يُضادُّ المماسَّة والملاصقة، وهذه المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخصُّ معانيها. وليس
__________
(1) انظر "مقالات الإسلاميين" (ص290، 297) .
(2) في الأصل: "من".(3/186)
المقصود هنا ذِكرُ هذه لا نفيًا ولا إثباتًا، فإن القائم بنفسِه لا يجب أن يكون مباينًا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينةٍ يجب للمخلوق مع المخلوق فالخالقُ أحقُ بها سبحانه وتعالى.
فلمَّا وجب أن يكون المخلوق مباينًا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلتِه للمخلوق ومحايثتِه له، فإن المماثلة والمحايثةَ ممتنعانِ عليه لامتناع مساواته لخلقِه أو احتياجِه إليهم، والمماثلة والمحايثةُ تُوجِب ذلك.
والله سبحانَه له المثلُ الأعلى، كما قال تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (1) ، فكلُّ ما يُفْهَم للمخلوق من صفات كمالٍ فالخالقُ أحقُّ بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ذلك. وكلُّ ما نُزِّه عنه شيء من المخلوقات من صفات النقص فالخالقُ أحق بأن يُنزَّه عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحيُّ القيوم أحقُّ بأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم. وهو الغنى المطلق عمّا سِواه، فكل ما سواه يَفتقِر إليه، وهو غنيٌّ عن كل ما سواه.
وهو سبحانه مع أنه مستوٍ على عرشِه عالٍ على خلقِه فهو الذي يُمسِك السماوات والأرض أن تزولا، وَسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض، ولا يَؤُودُه حفظُهما. فالعرش وحَمَلَتُه هو الذي يُمسِكهم بقوتِه ومشيئتِه، بل قد جاء في الأثر (2) أن الله لما خَلَقَ العرش وأَمَر الملائكةَ بحملِه
__________
(1) سورة النحل: 60.
(2) يُروى عن وهب بن منبه بإسناد ضعيف، أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" (3/956، 958) مطوَّلاً.(3/187)
قالوا: ربَّنا! من يُطِيْق حملَ عَرْشِك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فبذلك أطاقوا حملَ العرش.
والله سبحانه قد جَعَلَ الأعلى من المخلوقاتِ مستغنيًا عن الأسفل، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجةً إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العليُّ الأعلى كيف يَفتقر إلى العرشِ أو حَمَلَتِه فوقَ العرشِ أو إلى غيرِه من المخلوقاتِ؟ فلو كان مُحايثاً لخلقِه لكان وجودُه مشروطًا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاتُه مفتقرةً إلى محايثٍ، سواء كان محايَثته من جنس محايثةِ العَرَض للعرض أو جنس محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدَّعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله في المخلوقات أو اتحادِه بها من الجهمية تَعُود مقالتُهم إلى مثل هذا، فآخِرَ أمرِهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى قالوا: وجودُه وجودُ المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما يقوله ابن عَرَبي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، فإما أن يجعلوا الوجود صفةً للإنسان أو قائمًا بنفسِه مع الأعيان. وكلام ابن سبعين يَرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفًا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة والصورة.
ومن جَعَلَه الوجودَ المطلقَ، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جَعَلُوه مشروطًا بتلك الماهيات، وهو معها إمَّا كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر مع العرض.
وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في(3/188)
الخارج إلا عينَ المشخَّص، فافتقارُه إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل على هذا التقدير ليس مغايرًا لها البتَّةَ. وقول التلمساني -وهو أَحْذَقهم في مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا.
وعلى كلّ وجهٍ يُفْرَض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطًا بوجود المخلوقات، لا يتحقق ذاتُه بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقًا للمخلوقات، بل ولا يجوز أن يكون علَّةً لها، فضلاً عن أن يكون خالقًا لها؛ لأن العلَّة متقدمة بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدمًا عليه، إذْ وجودُ المشروط المستلزم لشرطِه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علَّة. بل ولا يكون واجبَ الوجود بنفسِه، لأن نفسه لا تستغني في وجودِها، بل لابُدَّ لتحقُّقها من ذلك الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودُها مفتقرًا إلى وجود ذلك الشرط. ولأن محايثةَ القائم بنفسه محالٌ، وما يذكره المتفلسفة من محايثةِ الصورة للمادة هو بناءً منهم على أن تصوُّرَ الأجسامِ موادَّ هي جواهرُ قائمةٌ بنفسها. وهذا باطلٌ لا حقيقةَ له.
وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيّاتٌ قائمةٌ بأنفسها غيرُ الموجود المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهياتِ الثابتةِ المغايرةِ للوجودِ المحسوسِ، ومن الموادِّ القائمةِ بنفسها المغايرةِ للجسمِ المحسوس، فهو حادث في الأذهان، لا حقيقةَ لها في الأعيان، سواءً قالوا باستغناء الموادِّ عن الصُّوَر واستغناء الماهيات عن وجودِها -كما يُذكَر عن أفلاطُن وشيعتِه-، أو قالوا بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
فلم يبقَ إذًا محايثةُ العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف،(3/189)
وهذا ممتنعٌ لوجهين:
أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تُحايثُها الأعراض، والعرض مفتقرٌ إليها محتاجٌ إليها، والعرض يمتنعَ أن يكون هذا الفاعل المبدع العلَّة لمحالِّه أو غيرِ محالِّه، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلَّتُه كثيرة، فإن الأعراض ذواتُها مفتقر [ةٌ] إلى ذواتِ محالِّها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالِّها، والواجب مستغنٍ عمن دونه، فلو لم تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مُبدِعةً لها فاعلةً لها أو محالها.
الوجه الثاني: أن كلاًّ من المتحايثَين يمتنع وجودُه دون محايث، فإن العرض لا يوجد دون الجسم، والجسم أيضًا يمتنع خُلوُّه عن جميع الأعراض، فانه لابُدَّ له من شكلٍ، والأبدانُ تكون متحركًا أو ساكنًا. ومن ظنَّ جواز خُلوِّ الأجسام عن الأعراض (1) ، وإذا كان كذلك فكلُّ محايثٍ لمخلوقٍ يمتنع وجودُه بدون وجود المخلوق، ويكون مشروطًا بوجود المخلوق، ومفتقرًا في وجودِه إلى وجود المخلوق، فيمتنع حينئذٍ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم المحايث، فيجب أن يكونا (2) مفعولين لفاعلٍ ثالث، فيكون الخالق مخلوقًا والواجبُ ممكنًا، أو يكون كلٌّ منهما واجبَ الوجود بنفسه، فيمتنع جعلُ أحدِهما خالقًا والآخر مخلوقًا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا مُحدَث ولا ممكنٌ، وهذا خلاف الحسّ، فإنّا نشهد الحدوث والعَدَم يَعتقبانِ على ما شاء الله من
__________
(1) كذا في الأصل دون ذكر جواب "مَن".
(2) في الأصل: "يكون".(3/190)
العالم، وما وُجد بعدَ عدَمِه وعُدِم بعد وجودِه يمتنع أن يكون واجئا بغيره مطلقًا، فضَلاً عن أن يكون واجبًا بنفسه.
ومن تدبَّر هذه المعاني وما يُشبِهها تَبيَّن له أن كل من جعلَه مُحايِثًا للمخلوقات امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مُبدِعًا أو عِلَّةً أو يكون غنيًّا عنها، بل يجب على قوله أن يكون مفتقرًا إليها كافتقارِها إليها، كما يُصرِّح بذلك صاحب "الفصوص" وأمثالُه من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي وجوبَه بنفسه وإمكان غيره، وقد عُلِم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب مستغنٍ بنفسه، ومن موجودٍ مفتقرٍ إلى غيرِه، بل فيه موجودٌ حادثٌ بعد أن لم يكن، والحادثُ لا يُحدِث نفسَه ولا يَحدُثُ بلا مُحدِثٍ، بل لابدَّ للحادث من مُحدِثٍ، فهذا هذا.
الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكًا محيطًا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقَها شيءٌ آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكًا محيطًا بها، مع كونه أكبرَ منها تارةً وأصغرَ منها أخرى، فكيف يَجبُ في الخالق إذا كان فوقَها أن يكون فلكًا مستديرًا؟
وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ذلك هي فوقَ ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقًا أو تقديرًا لا ريبَ أنها فوقَ بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوقَ الأرض، وهي قدرَ الأرض أكثر من مئة وستين مرَّةً، ومع هذا فليست فلكًا محيطًا بالأرض. والقمرُ فوقَ الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فَلكًا مستديرًا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة،(3/191)
ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدارٍ، يُقال: إنّ أصغرَها بقدر الأرض ثماني عشرَ [ةَ] مرة.
وهذا الكلام على نمط من تكلَّم باستدارةِ الأفلاك، فإنّ ذلك لما كان من علم الحساب كان هذا من توابعِه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يُعلَم بالسمع وهذا لا يُعلَم بالسمع فلا ريبَ أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعُه، ولنا عنه غُنْيَةٌ، فنقول: كلُّ كوكبٍ مَرْئيّ في السماء هو فوق الأرض مطلقًا، مع العلم أنه ليس فلكًا محيطًا بها، سواءٌ لا قدَّرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقَه لا يجب أن يكون مُسَامِتًا لجميع أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقَه. وعليه سواء كانَ أكبر منه كالسماء على الأرض… (1) .
__________
(1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله، بل هو من رسالة أخرى. ولم نجد بقية الكلام في موضع آخر من المجموع، ولم نعثر على نسخة أخرى من هذه الفتوى.(3/192)
مسألة في العلوّ(3/193)
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضالٌّ، وقال الآخر: إنّ الله سبحانه لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان. فبيِّنوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه، وما الصواب فيه؟
فأجاب
الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدَى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقادُ هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة.
قال الشافعي في أول خطبة "الرسالة" (1) : "الحمد لله الذي هو كما وصفَ به نفسَه، وفوقَ ما يَصِفُه به خلقُه". فبيَّن رحمه الله أن الله موصوف بما وصفَ به نفسَه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يُوصَف الله إلا بما وصفَ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه، لاْ يتجاوَز القرآن والحديث.
__________
(1) ص 8.(3/195)
وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسَه وبما وصفَه به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يُثبتون له ما أثبتَه لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَي، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاتَه ليست كالذوات المخلوقة فصفاتُه ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ وعيب.
وهو سبحانه في صفات الكمال لا يُماثِله شيء، فهو حيٌّ قيُّومٌ سميعٌ بصير عليم قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلَّم موسى تكليما، وتجلَّى للجبل فجعلَه دَكًّا. ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمِه علمُ أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمةُ أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمعُ أحدٍ ولا بصرُه، ولا كتكليمه تكليمُ أحد، ولا كتجلّيه تجلِّي أحدٍ.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلاً وماءً وحريرًا وذهبًا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء (1) . فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهَدة مع اتفاقهما في الأسماء، فالخالق أعظمُ علوًّا ومباينةً لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء.
وقد سمَّى نفسَه حيّا عليمًا سميعًا بصيرًا ملكًا رءوفًا رحيمًا،
__________
(1) أخرجه هنّاد بن السري في "الزهد" (3، 8) وغيره، انظر "الدر المنثور" (1/96) .(3/196)
وسمَّى أيضًا بعض مخلوقاتِه حيًّا، وبعضَها عليمًا، وبعضها سميعًا بصيرًا، وبعضَها رءوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحيّ، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (1) ، وقال الله تعالى: (وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ (2)) (2) ، وقال: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)) (3) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)) (4) ، وقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)) (5) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143)) (6) ، وقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (128)) (7) .
وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي لسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) (8) . وثبت في الصحيح (9) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعتِقْها فإنها مؤمنة". وهذا الحديث
__________
(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة التحريم: 2.
(3) سورة الذاريات: 28.
(4) سورة النساء:58.
(5) سورة الإنسان: 2.
(6) سورة البقرة: 143.
(7) التوبة: 128.
(8) الملك: 16-17.
(9) مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.(3/197)
رواه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) ومسلم في صحيحه وغيرهم.
لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تَحصُره وتَحوِيه، فإن هذا لم يَقُلْه أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاتِه شيء من مخلوقاته.
وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعِلمُه في كلّ مكان (4) . وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا (5) .
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حقّ قضاها الله في سمائه، فأجمعَ عليها قلوب أوليائه. وقال الأوزاعي (6) : كنّا والتابعون متوافرون نُقِرُّ بأن الله فوقَ عرشِه، ونُؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور مُحاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش أو غيرِ العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل.
__________
(1) في "الموطأ" (2/777) .
(2) في "الأم" (5/280) و"الرسالة" (فقرة 242) .
(3) في "المسند" (5/447، 448) .
(4) أخرجه عنه عبد الله بن أحمد في "السنة" (ص5) وأبو داود في "مسائل الإمام أحمد" (ص263) والآجري في "الشريعة" (ص289) وغيرهم.
(5) أخرجه عثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص50) و"الرد على بشر المريسي" (ص24، 103) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (ص7، 25، 35، 72) . وانظر "درء التعارض" (2/34) .
(6) أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص408) .(3/198)
ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يُعبَد، ولا على العرش ربٌّ يُصلَّى له ويُسجَد، وأن محمداً لم يُعرَج به إلى ربه، ولا نزلَ القرآن من عنده= فهو معطِّلٌ فرعوني ضالٌّ مبتاع؛ فإن فرعون كذَّب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) (1) .
ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدَّق موسى في أن ربَّه في السماوات، فلمّا كان ليلة المعراج وعُرِجَ به إلى الله تعالى وفرضَ عليه ربُّه خمسين صلاةً، ذكر أنه لما رجَع إلى موسى قال له: ارجعْ إلى ربك فاسألْه التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفَّف عنه عشرًا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجعْ إلى ربّك فاسألْه التخفيفَ لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح (2) .
فمن وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمدًا فهو ضالٌ، ومن مَثَّل اللهَ بخلقِه فهو ضالٌّ. قال نعيم بن حماد: من شبَّه الله بخلقِه فقد كَفر، ومن جَحَد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهًا.
وقد قال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (3) ، وقال: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) (4) ، وقال: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (5) ،
__________
(1) سورة غافر: 36-37.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري (349، 3342) ومسلم (163) عن أبي ذر، وأخرجه البخاري (3207، 3887) ومسلم (164) عن مالك بن صعصعة، وأخرجه مسلم (162) عن أنس.
(3) سورة فاطر: 15.
(4) سورة آل عمران: 55.
(5) سورة النساء: 158.(3/199)
وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (1) ، وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)) (2) ، وقال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)) (3) .
فدلَّ ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت قدرته.
والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تَحصُره وتُحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتُها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبًا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متبعًا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطِّلاً لربِّه نافيًا له، فلا يكون له في الحقيقة إلهٌ يَعبدُه، ولا ربّ يسألُه ويَقصِدُه. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل.
والله قد فَطَر العباد عَرَبَهم وعَجَمَهم على أنهم إذا دَعَوا الله توجهتْ قلوبهم إلى العلوّ، لا يقصدونَه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارفٌ قَطُّ "يا الله" إلاّ وجد في قلبه قبلَ أن يتحرك لسانه معنىً يطلب العلوَّ، ولا يلتفت يَمنة ولا يَسْرةً.
والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكانٍ، إن أراد به أنَّ الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد
__________
(1) سورة الأنعام: 114.
(2) سورة الزمر: 1.
(3) سورة الأنبياء: 19.(3/200)
أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوقَ السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك إله يُعبَد، ومحمدٌ لم يُعرَجْ به إلى الله= فهذا جهمي فرعوني معطِّل.
ومنشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه، فيظنّ أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريرُه لسقَط، والله غني عن العرشِ وعن كلِّ شيء، والعرشُ وكلُّ ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوُّه عليه لا يُوجب افتقارَه إليه، فإنّ الله قد جَعَلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلاً، وجَعَلَ اَلعاليَ غنيًّا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو مفتقرًا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجةً إليه. فالعليُّ الأعلى ربُّ السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيًّا عن العرشِ وسائرِ المخلوقات وإن كان عاليًا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
والأصلُ في هذا الباب أنَّ كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجبَ التصديقُ به، مثل عُلوِّ الربّ واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس هو في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نصٌّ، لا عن الرسول ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن هؤلاء لم يقل أحدٌ منهم: إنّ الله في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة؟ ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز؟ ولا قال: هو جسم أو جوهرٌ، ولا قال: ليس بجسم ولا جوهر. فهذه(3/201)
الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا في السنة ولا الإجماع. والناطقون بها قد يُرِيدون معنى صحيحًا، وقد يريدون معنًى فاسدًا، فمن أراد معنًى صحيحًا يوافق الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مقبولاً منه، وإن أراد معنًى فاسدًا يخالفُ الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مردودًا عليه.
فإذا قال القائل: إن الله في جهةٍ، قيل له: ما تُريد بذلك؟ أتريدُ بذلك أنه في جهة موجودة تحصرُه وتُحِيط به، مثل أن يكون في جوف السماء؟ أم تريد الجهةَ أمرًا عدميًّا؟ وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردتَ الجهةَ الوجوديةَ وجعلتَ اللهَ محصورًا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردتَ الجهةَ العدمية وأردتَ أن الله وحدَه فوقَ المخلوقات بائن منها فهذا حق، وليس في ذلك شيء من المخلوقات حَصرَه ولا أحاطَ به ولا عَلاَ عليه، بل هو العالي عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) (1) .
وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله يقبض الأرض يومَ القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يُهزهِز، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ". وقال ابن عباس (3) : ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بيتهن في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم.
وفي حديث آخر: أنه يرميها كما يَرمي الصبيانُ الكرةَ. فمن يكون
__________
(1) سورة الزمر: 67.
(2) البخاري (4812، 6519، 7382) ومسلم (2787) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه الطبري في "تفسيره" (24/17) .(3/202)
جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقارة كيف تُحيط به وتَحصُره؟
ومن قال: إنَّ الله ليس في جهة، قيل له: ما تُريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات ربٌّ يُعبَد، ولا على العرش إلهٌ، ومحمدٌ لم يُعرَج به إلى الله تعالى، والأيدي لا تُرفَع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوبُ إليه= فهذا فرعوني معطِّلٌ جاحدٌ لربِّ العالمين.
وإن كان معتقدًا أنَّه مُقِرٌّ به، فهو جاهل متناقضٌ في كلامه. ومن هنا دَخَل أهل الحلول والاتحاد كابن عربي، وقالوا: إنّ الله بذاته في كل مكان، وأن وجود المخلوقات هو وجودُ الخالق.
وإن قال: مرادي بقولي "ليس في جهة" أنه لا تُحيط به المخلوقات، بل هو بائن عن المخلوقات= فقد أصاب في هذا المعنى.
وكذلك من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله "متحيز" أن المخلوقات تَحُوزُه وتُحِيط به فقد أخطأ. وإن أراد أنه منحازٌ عن المخلوقات لا تَحوِيه فقد أصاب. وإن أراد: ليس ببائنٍ عنها، بل هو لا داخلٌ فيها ولا خارجٌ عنها فقد أخطأ.
والناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كلِّ مكانٍ، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجودُ الخالق، كما هو مذهب ابن عربي صاحب "الفصوص" وابن سبعين ونحوهما.(3/203)
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخلَ العالم ولا خارج عنه، ولا مباينٌ له ولا حَالٌّ فيه، ولا فوقَ العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقربُ إليه شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا يتجلى لشيء ولا يراه أحد، ونحو ذلك.
وهذا قول متكلمة الجهمية، كما أن الأول قول عُبَّاد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كلَّ شيء، وكلاهما مرجعُهم إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون.
وقد عُلِم أن الله كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقها، فإمَّا أن يكون دخل فيهما، وهذا حلولٌ باطلٌ وإما أن يكونَا دخَلاَ فيه، وهو أبطلُ وأبطلُ؛ وإما أن يكون بائنًا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شُبُهاتٌ يُعارِضون بها كتابَ الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أجمعَ عليه سلفُ الأمة وأئمتُها، وما فَطَر الله عليه عبادَه، وما دلَّتْ عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة كلّها متفقة على أن الله فوقَ مخلوقاتِه عالٍ عليها، قد فَطَر الله على ذلك العجائزَ والأعرابَ والصبيان في الكُتَاب، كما فَطَرهم على الإقرار بالخالق. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "كل مولودِ يُولَد على الفطرة، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنضِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمة بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاءَ؟ "يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فِطرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلْقِ الله) .
__________
(1) البخاري (1358، 1359، 1385، 4775، 6599) ومسلم (2658) عن أبي هريرة.(3/204)
وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطره الله عليه. فإن الله فَطَر عبادَه على الحق، والرسل بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها.
وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية فيريدون أن يُغيِّروا فطرةَ الله، ويُورِدون على الناس شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ لا يفهم كثير من الناس مقصودَهم بها، ولا يُحسِن أن يُجيبهم. وقد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأصلُ ضلالهم تكلُّمهم بكلماتٍ مجملةٍ لا أصلَ لها في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قالَها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التحيُّز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن كان عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومن لم يكن عارفًا بذلك فليُعرِض عن كلامهم، َ ولا يَقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (1) . ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل.
وكثيرٌ من هؤلاء يَنسُب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه، ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طُولبُوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبيَّنَ كذبُهم في ذلك، كما يتبيَّن كذبُهم فيما ينقلونه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كثير من البدع والأقوال الباطلة.
ومنهم من إذا طُولبَ بتحقيقِ نقلِه يقول: هذا القول قاله العقلاءُ، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاءَ. ويكون أولئك العقلاءُ طائفة من
__________
(1) سورة الأنعام: 68.(3/205)
أهل الكلام الذين ذمَّهم الأئمة.
فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتابَ والسنة وأقبلَ على الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمُه فيمن عارضهما بغيرهما؟.
وكذلك قال أبو يوسف القاضي: مَن طلبَ الدين بالكلام تزندقَ. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما ارتدَى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة.
وكثير من هؤلاء قرأوا كتبًا من كتب الكلام فيها شبهات أضلَّتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوقَ الخلق للزمَ التجسيم والتحيُّز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابُها.
فإن ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة، لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالَها أحد من سلفِ الأمة وأئمتها، لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن الله ليس بجوهر.
ولفظ "الجسم" لفظٌ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إنّ الله مثل بدن الإنسان فهو مفترٍ على الله، ومن قال: إنّ الله يُماثِله شيء من المخلوقات فهو مفترٍ على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسمٍ، وأراد بذلك أنه لا يُماثِله شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إنَّ الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل(3/206)
القرآن العربي مخلوقٌ أو تصنيفُ جبريل ونحو ذلك= فهذا مفترٍ على الله فيما نفاه عنه.
وهذا أصلُ ضلالِ الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يُظهرون للناس التنزيهَ، وحقيقةُ كلامهِم التعطيل، فيقولون: نحن لا نُجسِّم، بل نقول: إن الله ليس بجسم، ومرادُهم بذلك نفيُ حقيقة أسمائه وصفاتِه، فيقولون: ليس لله علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرةٌ ولا كلام ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا يُرى في الآخرة، ولا عُرِجَ بالنبي إليه، ولا يَنزِل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقراَن، بل القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطّلة الفرعونية الجهمية.
والله تعالى يقول في كتابه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (1) أي لا تُحيط به، فكما أنه يُعلَم ولا يُحاطُ به علمًا، فكذلك سبحانه يُرَى ولا يُحاطُ به رؤيةً. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم يَنفِ الرؤية، ونَفْي الإدراك يَدُلُّ على عظمته، وأنه من عظمته لا يُحاطُ به. وأما نفي الرؤية فلا مدحَ فيه، فإن المعدومات لا تُرى، ولا مدحَ لشيء من المعدومات، بل المدحُ إنما يكون بالأمور الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يَحصل المدحُ بالعدم إذا تضمَّن ثبوتًا، كقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (2) ، فنزَّه نفسه عن السِّنَة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياتِه وقيوميته،
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) سورة البقرة: 255.(3/207)
كما قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (1) ، فهو سبحانه حيّ لا يموتُ، قيومٌ لا ينامُ. وكذلك قوله تعالي: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)) (2) ، فنزَّه نفسَه المقدسة عن مسَّ اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبيَّن كمال قدرته.
فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، موصوف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزَّهٌ عن الموت والجهل والعجز والصَّمَم والعمى والبكَم، وهو سبحانَه لا مِثلَ له في شيء من صفاتِ الكمال، وهو منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، فإنه قدُّوس سَلامٌ يمتنع عليه النقائصُ والعيوب بوجهٍ من الوجوه، وهو سبحانه لا مثلَ له في شيء من صفاتِ كمالِه، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ.
ولهذا كان مذهب سلفِ الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصفَ به نفسه وبما وصفَ به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل، فيُثبِتون له ما أثبتَه لنفسِه من الأسماء والصفات، ويُنزِّهونه عمَّا نزَّه عنه نفسَه من مماثلة المخلوقات، إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تعطيل. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (3) ، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على الممثِّلة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) رد على المعطِّلة.
قال بعض العلماء: المعطِّلُ يَعبُد عَدَمًا، والممثل يعبد صنمًا،
__________
(1) سورة الفرقان: 58.
(2) سورة ق: 38.
(3) سورة الشورى: 11.(3/208)
المعطِّل أعمى، والممثل أعشى، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (1) . والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل السنة وسطٌ في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
__________
(1) سورة البقرة: 143.(3/209)
قاعدة شريفة
في الرضا الشرعي وما يحبّه الله من الرضا، وبيان
أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبُّه ولا يشرعه،
ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبُّها ولا يُثيب فاعلها(3/211)
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل
فيما يحبّه الله ويرضاه من رِضا العبدِ، وما لا يحبّه من ذلك ويرضاه، فإن هذا الباب مما كثُر فيه اضطراب كثيرٍ من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا بالقضاء وأن ذلك محمودٌ من العبد يُثَابُ عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات اليقين وأحوال الصديقين، وظنّوا أن المراد بذلك أن كلّ ما كان مخلوقًا للربّ فينبغي أن يُرضىَ ذلك المخلوقُ. ثم صاروا حِزبَيْن:
حِزبًا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلومٌ إلا مأمورون ببغض ما نهى الله ورسولُه عنه وسخطه، فلا يكون بقضاءٍ وقدر.
وحزبًا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دُعِينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما يقع من الكفر والفسوق والعصيان.
وكلٌّ من هذين الحزبين مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمَّة وأئمتها، فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم يَخْلُق ذلك ولم يقدرْه ولم يَقتضِه، بل ذلك واقعٌ في الوجود بغير مشيئتِه ولا قدرتِه ولا خَلْقِه، ومنهم من قال: ولا عَلِمَه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية المكذِّبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حُجَجهم على ذلك أن قالوا: الرضا(3/213)
بالقضاء من أعظم المقامات، وربّما ادَّعوا إجماع المسلمين على أن الرضا بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يُرضَى بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعُلِم أن هذه ليست بقضائه.
ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهلُ الإثبات للقدر، كل طائفة بجوابٍ بحسب أصولهم، فإن من يقول: إن رِضاه هو إرادتُه، وإنّ كلَّ ما قدَّره فقد رضيه وأحبَّه وأرادَه، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم، فله جواب على أصله.
وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحًا مُعاقَبًا عليه، وكذلك رَضِيَه وأحبَّه قبيحًا مُعاقَبًا عليه. ومعنى "قبيحًا" عندهم أي منهيًّا عنه، فهم يقولون: أرادَه ورضيه وأحبَّه ومع ذلك نَهى عنه ونهانا أن نَرضَى به، فحقيقة قولهم أن الله يحبّ أمورًا ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نُحبَّها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما.
وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نُطلِقه على التفصيل.
هذا حكاية لفظهم.
ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نَرضَى بالقضاء ولا نرضَى بالمقضي.
قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق(3/214)
إلى هذا الجواب، قال (1) -:
فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟
قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على حكمه.
وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضَى بقضاء الله في الجملة على كل حال.
فإن قال: أفترضَون الكفر والمعاصيَ التي هي من قضاء الله؟
قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع الإبهام، كما يقول المسلمون كافةً: الأشياءُ لله، ولا يقولون في التفصيل: الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يَفنَون ويبيدون، ولا يقولون: حجج الله تفنَى وتَبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يُطلَق من وجهٍ ويُمنَع من وجهٍ.
ثم يقال لهم: أَوَ ليس قد قَضَى بموتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعَجْزِ المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسَبْي نسائهم، وقَضَى إعانةَ الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءَهم واستظهارهم على المؤمنين؟
فإذا قالوا: أجَلْ.
قيل لهم: أفترضَون بذلك أجمع؟
__________
(1) "التمهيد" للباقلاني (ص368- 369) .(3/215)
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا: لا.
قيل لهم مثله فيما طالبونا به (1) .
قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلتُ: أما تفصيل القول في الرضا بأن بعضَ المخلوق نرضى به وبعضَه لا نرضى به فصوابٌ، لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضِى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه" إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمورٍ غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا.
قلتُ: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في قوله الذي خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة والرضا هي الإرادة، وفرَّعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يُحَبّ ذاتُه، كما لا يجوز أن تُراد ذاتُه، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدومًا فأريد حدوثُه.
قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومَنْع إطلاقه: المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحبّ الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبَّة هي
__________
(1) هذا آخر كلام الباقلاني.(3/216)
الإرادة نفسُها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ويرضاه كفرًا قبيحًا مُعاقَبًا عليه، ويحبّ أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى قوله "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنًا أو يُثنِي على صاحبه بفعلِه، بل يذمُّه بفعلِه ويلعنُه ويعاقبُه عليه.
قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم يَرِد الشرعُ بإطلاقه لا نُطلِقُه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: المحبَّة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر.
قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتَّبُ على ذلك أن يُعلَم أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادةُ لا تتعلق إلا بمتجدد.
قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما قاله في "المعتمد" (1) . وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرِّقون بين المحبّة والرضا (2) .
__________
(1) ص 75.
(2) انتهى الكلام هنا في الأصل.(3/217)
فصل
الأقوال نوعان(3/219)
الأقوال نوعان:
أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًّا، عرفَه من عرفه وجَهِله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادتْه الأنبياء بأقوالهم. ومَن طلب تفسير كلامهم وتأويلَه، ومقصودُه معرفةُ مرادِهم من الوجه الذي به يُعرَف مرادُهم فقد سلكَ طريقَ الهدى؟ ومن كان مقصودُه أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقَه قَبلَه وإلاَّ ردَّه، وتكلَّف له من التحريف ما يُسمِّيه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم تُرِدْه الأنبياءُ= فهذا مُحرَّفٌ للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
والنوع الثاني: ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فقد عُلِم أن مَن سِواهم ليس بمعصوم، وحينئذٍ فلا يُقبَل كلامُه ولا يُرَدُّ إلا بعد تصورِ مرادِه ومعرفةِ صلاحِه من فسادِه، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفاتٍ وطبائعَ وخواصَّ يُميَّز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خصَّ الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنةً مأمورًا بها، ولا المنهيَّ عنها بما لأجله كانت سيئاتٍ منهيًّا عنها، وإنه ليس لشيء من القُوَى والقُدَر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعةِ تأثيرٌ في شيء، بل لا فرقَ بين الماء والنار، تُخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها،(3/221)
والماء يُخلَق الريُّ عنده لا بسبب عذوبةٍ وقوةٍ فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالفٌ لنصوصِ القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.
ولم يقل هذا القول أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) لأشجِّ عبد القيس: "إن فيك لخُلُقينِ يحبُّهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخُلُقَينِ جُبلتُ عليهما أمِ تخلَّقتُ بهما؟ فقال: "بل جُبلتَ عليهما"، فقال: الحمدَ لله الذي جَبَلني على ما يُحِبُّ. وقال تعالىَ: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)) (2) .
ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)) (3) ، فسَلَبَ النارَ طبيعةَ الحرارة التي بها تَسخُن، وجعلَها بردًا وسلامًا، ولو كان ما يَحصُل عند ملاقاتِها لا أثرَ لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردًا وسلامًا" يَقضِي أنه جعل فيها ما تُوجِب برودتَه
__________
(1) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" (28) وفي "الأدب المفرد" (975) وأبو داود (5225) عن زارع العبدي. وأخرجه أحمد (4/205) والبخاري في "الأدب المفرد" (584) وفي "خلق أفعال العباد" (27) عن الأشج نفسه. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.
(2) سورة المعارج: 19- 21.
(3) سورة الأنبياء: 69.(3/222)
وسلامتَه. والأدلة في ذلك كثيرة تُخبِر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)) (1) ، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ) الآية (2) . وقال تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية (3) . وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا ... ) (4) ، فذكر أن الرياح تُقِلُ السحابَ أي تَحمِلُه، فجعلَ هذا الجماد فاعلاً بطبعه.
وقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1)) الآيات (5) . وقال: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) (6) ، وقال: (وَتَرَى اَلأَرض هَامِدَةً) الآية (7) . وقال تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) (8) . وقال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (9) . وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (10) ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحرَّ والبأس. وقال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)) (11) ،
__________
(1) صورة النبأ: 14- 16.
(2) سورة ق: 9- 11.
(3) سورة البقرة: 164.
(4) صورة الأعراف: 57.
(5) سورة الذاريات: 1 وما بعدها.
(6) سورة الزلزلة: 2.
(7) سورة الحج: 5.
(8) سورة الإنعام: 99.
(9) سورة الكهف: 33.
(10) سورة النحل: 81.
(11) سورة الواقعة: 69.(3/223)
أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ) في مواضع أخر (1) ، وبيَّن أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (3) ، فبيَّن أن كلاّ من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتنّ على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجًا، فدلَّ على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلَها بها تُشرب، وأنه لو جعلَه أُجاجًا لما شرِب، وبيَّن أن أحد الجسمين يختصه بصفة يَحصُل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)) (4) ، وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48)) (5) (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (6) ، وقال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)) (7) ، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) (8) أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة.
__________
(1) سورة المؤمنون: 18، سورة الفرقان: 48، سورة لقمان: 10.
(2) سورة الفرقان: 53.
(3) سورة فاطر: 12.
(4) سورة النبأ: 13- 16.
(5) سورة الفرقان: 48.
(6) سورة الحديد: 25.
(7) سورة آل عمران: 138.
(8) سورة لقمان: 10.(3/224)
فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نصَّ الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل إلا، به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (1) ، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (2) ، وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) (3) ، وقال: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (4) .
وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادِّها، في مثل قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (5) ، وقوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)) (6) ، وقال: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18)) (7) .
وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يُسويّ بين مختلفين ولا يُفرِّق بين متماثلين، فقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (8) الآية. وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) سورة المائدة: 16.
(2) سورة البقرة: 26.
(3) سورة التوبة: 14.
(4) سورة التوبة: 52.
(5) سورة الأنبياء: 30.
(6) سورة الرحمن: 14- 15.
(7) سورة نوح: 17- 18.
(8) سورة الجاثية: 21.(3/225)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (1) ، وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (2) الآية. وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20)) (3) الآية. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) (4) الآية. فدلَّ في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مُصْلِحٌ لفسادِها، ليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به، إذْ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمرٍ حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعُلِم أنّ ما يأمر به الرسول مختصٌّ بأنه معروف، وما ينهى عنه مختصٌ بأنه منكر، وما يُحِلّه مختصٌّ بأنه طيب، وما يُحزَمه مختصٌّ بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.
__________
(1) سورة ص: 28.
(2) سورة القلم: 35.
(3) سورة فاطر: 19- 20.
(4) سورة الأعراف: 157.(3/226)
قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة
والإجماع أمرَ الثقلَين الجنِّ والإنسِ،
وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره(3/227)
قال سيدنا وشيخنا شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني رحمه الله:
قاعدة شريفة
ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمرُ الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به في سورة الأنعام في قولهَ تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (1) ، وبقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (2) .
وثبتَ أن محمدًا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولٌ إلى الثّقَلين جميعًا، كما أخبر به في سورة الرحمن (3) ، وقل أوحي (4) ، والأحقاف (5) ، وكما في الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود (6) وغيره.
وثبت بالسنة والإجماع مع ما دلَّ عليه القرآن أنَّ القلمَ مرفوعٌ عن الصبيِّ حتى يَبْلُغَ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يَستيقظ، كما في حديث علي بن أبي طالب وعائشة وغيرهما: "رُفِعِ القلمُ عن ثلاث" (7) ، مع قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
__________
(1) الآية 130.
(2) سورة هود: 119.
(3) الآيات 31- 39.
(4) هي سورة الجن: 1 وما بعدها.
(5) الآيات 28- 32.
(6) أخرجه مسلم (450) .
(7) حديث علي أخرجه أحمد (1/154، 158) وأبو داود (4401، 4402) وابن خزيمة (1003، 3048) وغيرهم. وحديث عائشة أخرجه أحمد (6/100، 101، 144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/156) وابن ماجه (2041) وغيرهم.(3/229)
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (1) ، وقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (2) ، وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) في غير موضع (3) ، مع ما ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نهيِه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرضَ قريظةَ فمن أَنبتَ قَتَلَه، ومَن لم يُنبت لم يَقْتُله. وما رُوِي من الأحاديث التي فيها: "ثلاثة كلهم يُدلي عَلى الله بحجته" (4) .
فأما قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (5) ونحو ذلك، فإنما يتناول من لا يَعقِل من الأطفال والمجانين، فأما الصبي المميِّز فتكليفُه ممكنٌ في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاتِه تارةً مستقلاًّ كإيمانِه، وتارةً بالإذن كمعاوضاتِه الكبيرة.
واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشرٍ، وفي وجوب الصوم على من أطاقَه. والخلاف فيه معروفٌ في مذهب أحمد، حتى اختُلِف في صحة شهادته وأمانه وإمامتِه وولايتِه في النكاح وعتقِه.
وهنا مسائل:
__________
(1) سورة النور: 58- 59.
(2) سورة النساء: 6.
(3) سورة الأنعام: 152؛ سورة الإسراء: 34.
(4) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (404) عن أبي هريرة بلفظ: "أربعة ... ".
ورواه أحمد (4/24) عن الأسود بن سريع بنحوه. وانظر "الصحيحة" (1434) .
(5) سورة الإسراء: 15.(3/230)
المسألة الأولى
أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع.
فأما العقاب: فما علمتُ أحدًا من أهلِ القبلةِ خالفَ في أن الكافر مُعذَّبٌ في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوصُ القرآن متظاهرة بعذاب الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبةُ فُجَّارِ أهل القبلة في الجملة: إمّا في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما غلاة المرجئة فرُوِيَ عنها أنها نَفَتْ ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جَزَمتْ بوقوع ذلك على جميع الفاسقين وخلودِهم في النار.
وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم.
واختلفوا في الجن هل يُثَابُون أو لا ثوابَ لهم إلا النجاة من العذاب؟ على قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد وغيرهم. والثاني مأثورٌ عن طائفة، منهم أبو حنيفة.
وقد اختُلِف في أصولِ الفقه: هل من شرطِ الوجوب العقابُ على الترك؟ على قولين. وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إمّا بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب.
المسألة الثانية
أن مَن لا تكليفَ عليه هل يُبعَثُ يومَ القيامة؟
فأما الإنس والجن فيُبعَثون جميعًا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا(3/231)
-فيما علمتُ- إلا فيمن لم يُنفَخْ فيه الروحُ: هل يُبعَث؟ على قولين. وبَعْثُه اختيارُ القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه.
وأما البهائم فهي مبعوثةٌ بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)) (1) ، وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (2) ، والحديثُ في قول الكافر (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)) (3) معروف (4) . وما أعلمُ فيه خلافًا.
لكن اختلف بنو آدم في مَعَاد الآدميين على أربعة أقوال:
أحدها -وهو قولُ جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح والبدن، وأنهما يُنَعَّمان ويُعذَّبان.
والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن ويُنعَّم ويُعذَّب. وأما معادُ روع قائمةٍ بنفسِها ونعيمها وعذابها فينكرونه.
والثالث: ضدّ هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يُبطِن مذهبهم من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أنّ المعاد للروح دون البدن.
__________
(1) سورة الأنعام: 38.
(2) سورة التكوير: 5.
(3) سورة النبأ: 40.
(4) انظر تفسير الطبري (30/17- 18) .(3/232)
الرابع: أنه لا معادَ أصلاً، لا لروع ولا لبدنٍ، وهو قولُ أكثر مشركي العرب، وكثيرٍ من الطبائعيين والمنجِّمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة.
فعلى هذين القولين يُنكَر حَشْرُ البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف.
المسألة الثالثة
أن من لا تكليفَ عليه -بل قد رُفِع عنه القلم- هل يُعذب في الآخرة؟
وهنا مسألة أطفال المشركين، فمن قال من أصحابنا وغيرِهم: إنهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم، قال بعذاب غيرِ المكلَّف تبعًا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قَال بتنعيمهم.
والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُعذَّبون جميعُهم ولا يُنعَّمُون جميعُهم، بل فريق منهم في الجنة وفريقٌ في السعير كالبُلَّغ. وهذا مقتضى نصوص أحمد، فإن أكثر نصوصِه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يُحكَم لأحدٍ منهم لا بجنة ولا بنارٍ، فدلَّ على جواز الأمرين عنده في حقّ المعيَّن منهم. وأما تجويز الأمرين في حقّ مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره.
وبهذا أجاب رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُئِل عنهم فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (1) ، فبيَّن أن الأمرَ مردودٌ إلى علمِ الله بما كانوا يعملون لو بلغوا.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة وابن عباس، انظر: البخاري (6597، 6598) ومسلم (2659، 2660) .(3/233)
وقد ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البخاري (1) أنه رأى حول إبراهيم عند الجنّةِ أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) أن الغلام الذي قتله الخضر طُبعَ يومَ طُبعَ كافرًا، مع أنه قُتِلَ قبل الاحتلام. قال ابن عباس لنَجْدَةَ الحَروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنتَ تَعلَم منهم ما علمه الخضر من الغلام الذي قتلَه فاقتُلْهم، وإلاّ فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا مؤمنين. وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سُئِل عن أهل الدار من المشركين يُبَيَّتون لِيُصاب من صبيانهم، فقال: "هم منهم".
ويجوز قتل الصبي إذا قاتلَ، وإذا صالَ ولم تندفعْ صولتُه إلاّ بالقتل، وكذلك المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتلُ الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في قولها: عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أو غيرَ ذلك يا عائشة؟! فإن الله خَلَق للجنة أهلاً، خَلَقَها لهم وهم في أصلابِ آبائهم، وخَلَقَ للنار أهلاً، خَلَقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم" (4) .
ولهذا قال أصحابنا: لا يُشهَد لأحدٍ بعينِه من أطفالِ المؤمنين أنه في الجنة، ولكن يُطلَق القولُ: إن أطفال المؤمنين في الجنة.
وقد رُوِي بأحاديثَ حسانٍ (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من لم يُكلّف في
__________
(1) برقم (7047) عن سمرة بن جندب.
(2) برقم (2661) عن أبي بن كعب.
(3) البخاري (3012) ومسلم (1745) عن الصعب بن جثامة.
(4) أخرجه مسلم (2662) .
(5) أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ ابن جبل، انظر "فتح الباري" (3/246) .(3/234)
الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يُمتَحنون يومَ القيامة، فمن أطاعَ دخلَ الجنة، ومن عَصَى دخلَ النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله قال في القرآن (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1) ، فأقسم سبحانَه أنه لابدّ أن يملأ جهنم من إبليسَ وأتباعِه، وأتباعُه هم العصاةُ، ولا معصيةَ إلا بعد التكليف، فلو دخلَها الصبي والمجنون لدخَلَها مَن هو من غير أتباعِه، فلم تَمتلئْ منهم.
وأيضًا فقد قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (65)) (2) ، وقال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (3) ، وقال سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) الآية (4) ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يُعذب إلا من جاءه نذير وأتاه رسولٌ، والطفلُ والمجنون ليسا كذلك كالبهائم.
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) إلى قوله (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (5) .
فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدَهم على أنفسِهم، لئلاّ يقولوا: أتُهلِكنا بما فعل المبطلون، فعُلِم أنه لا يُعاقِبُهم بذنبِ غيرِهم.
وأما البهائم فعامةُ المسلمين على أنه لا عقابَ عليها، إلا ما يُحكَى عن التناسخية بأنهم مكلَّفون، فيستحقون العقابَ، وهذا نظيرُ قولِ من يقول: لا تُحشَر. لكن هنا:
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة الإسراء: 15.
(3) سورة النساء: 158.
(4) سورة الملك: 8- 9.
(5) سورة الأعراف: 172- 173.(3/235)
المسألة الرابعة
وهو ما يُشرَع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب، مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشرٍ، وما يفعلُه من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنونِ لكَفِّ عدوانِه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسَّوْق، ودفعًا لمضرَّتها كقتلِ صائلِها، وما جاء في الحديث (1) أنه يُقتَصُّ في الآخرة للجمَّاءِ من القَرناءِ. فهذه الأمورُ عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبةً في الدنيا لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيرِه.
فأما النوع الأول فمشروعٌ في حق الصبي والمجنون، فإنه يُضرَب الصبي على ترك الصلاة ليفعلها ويَعتادَها، ويُضرَب المجنونُ إذا أَخَذَ يُؤذِيْ نفسَه، ليَكُفَّ عن إيذاءِ نفسِه. ويجوز أيضًا مثلُ هذا في حق البهائم: أن تُضرَب لمصلحتها، وهذا غير الضرب لحقّ الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سَقْي الدواءِ للمريض، فإن المطلوبَ دفعُ ما هو أعظمُ مَضَرَّةً من الدواء.
النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان:
قسم لاستيفاءِ المنفعةِ المباحةِ منه، كذَبْحِ البهائم للأكل وضَربِها للمشي، فإن مالا يَتمُّ المباحُ إلا به فهو مباحٌ.
والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قَتْل الصائل من المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالِهم.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/363) من حديث أبي هريرة.(3/236)
فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله، وقَتْل الكلب العَقُور الذي يُخَافُ من ضَررِه في المستقبل، وقَتْل الفواسقِ الخمس في الحِل والحرم.
وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يَظلم صبيٌّ صبيًّا، أو مجنون مجنونًا، أو بهيمةٌ بهيمة، فيُقتَصّ للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجرٌ عن المستقبل، لكن لاستيفاءِ المظلوم وأخذِ حقَّه، فهذا الذي جاء فيه حديثُ الاقتصاص للجمّاء من القرناء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَتُؤَدَّى الحقوقُ إلى أهلها حتى يُستَوفَى للجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ" (1) .
وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاصَ بين غير المكلفين ثابتٌ في الأموال باتفاق المسلمين، فمن أتلفَ منهم مالاً أو غَصَبَ مالاً أُخِذَ من مالِه مثلُه، سواءٌ في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى أوجبَ دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القَوَدَ لم يُمكِن إيجابُه، لأنه لا يكون إلا ممن فَعَلَ المحرَّم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا يُخاطَبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذِ الحقّ، فإنه لا يُشتَرط فيه الإثمُ. ولهذا تُقَاتَلُ البُغَاةُ وإن كانوا متأوّلين مغفورًا لهم، ويُجلَد شاربُ النبيذ وإن كان متأوِّلاً مغفورًا له.
فتبيَّنَ بذلك أن الظلْم والعدوان يُؤدِّى فيه حقُّ المظلومِ، مع الإثم والتكليف ومع عدمِ ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسِه، وحَرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجَعَلَه محرَّمًا بين عباده.
__________
(1) سبق تخريجه.(3/237)
المسألة الخامسة
دار التكليف
فالدنيا دارُ تكليفٍ بلا خلافٍ، وكذلك البرزخُ وعَرصةُ القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخولِ دار الجزاء، وهي الجنة أو النار، كما صَرَّح بذلك مَن صَرَّح من أصحابنا وغيرِهم، مستدلِّين بامتحانِ منكرٍ ونكرٍ للناس في قبورِهم وفتنتهِم إيَّاهم؟ وبأنّ الناسَ يوم القيامة يُدعَون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا يستطيع؟ وبأن من لم يُكلّف في الدنيا يُكلَّفُ في عرصاتِ القيامة.
وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحانَ فيها، وأما الامتحان قبل دار الجزاء فممكن لا محذورَ فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلَّفًا في الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم.
وأما امتحانُ غيرِ المكلفينَ في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم:
أحدهما: لا يُمتَحنون، وعلى هذا فلا يُلَقَّنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل.
والثاني: يُمتَحنون في قبورِهم ويُلَقَّنون. وهو قول أكثرِهم، حكاه ابن عبدوس" عن الأصحاب، وذكره أبو حكيمِ وغيره، وهو أصحُّ، كما ثبتَ عن أبي هريرة، ورُوِي مرفوعًا أنه صفى على طفلٍ لم يَعملْ خطيئةً قَطُّ، فقال: "اللهمَّ قِهِ عذابَ القبر وفتنةَ القبر" (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد (3/491) وأبو داود (3202) وابن ماجه (1499) عن واثلة بن الأسقع.(3/238)
وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يُشبه الاختلاف في امتحانهم في العرصة، وقولُ من يقول بامتحانهم أقرَبُ إلى النصوص والقياس من قولِ مَن يقول: يُعاقَبون بلا امتحان.
المسألة السادسة
أن غير المكلَّف قد يُرحَم، فإن أطفالَ المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دلَّ عليه قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) الآية (1) ، وكما في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "احتجَّت الجنَّةُ والنارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبّارون المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنتِ رحمتي أرحمُ بكِ مَن شِئتُ، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذِّبُ بكِ من شِئتُ، ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُها". فأما النار فلا يزال يُلقَى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع ربُّ العزَّة فيها -وفي روايةٍ: عليها- قَدَمَه، فيَنزوي بعضُها إلى بعضٍ وتقولُ: قَط! قَط. وأما الجنَّة فيَفضُل فيها فَضْلٌ، فيُنشِئُ اللهُ لها خلفا آخر". فهذا الحديث المستفيض المتلقَّى بالقبولِ نصٌّ في أنَّ الجنَّة يُنْشَأُ لها في الدار الآخرة خَلْق يدخلونَها بلا عمل، وأنّ النارَ لا يدخلُها أحدٌ بلا عملٍ.
وقد غَلِطَ في هذا الحديث المعطلةُ الذين أوَّلوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدَّم في علمِه أنهم أهل النار. حتى قالوا
__________
(1) سورة الطور: 21.
(2) البخاري (4850، 7449) ومسلم (2846) عن أبي هريرة. أما حديث أنس فبغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري (4848، 6661، 7384) ومسلم (2848) .
ويوافق حديثَ أبي هريرة حديثُ أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (2847) .(3/239)
في قوله "رجله": كما يقال: رِجْل من جَرادٍ. وغَلَطُهم من وجوهٍ:
فإنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "حتى يضع"، ولم يقل: حتى يُلقي، كما قال في قوله: "لا يَزَال يُلقَى فيها".
الثاني: أن قوله "قدمه" لا يُفْهَم منه هذا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما تَدُلُّ عليه الإضافة.
الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذَّبين فلا وجهَ لانزوائِها واكتفائها بهم، فإنّ ذلك إنما يكون بأمرٍ عظيمٍ، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفلِ، وفي أوّلِ المعذَّبين لا في أواخرِهم.
الرابع: أن قوله "فينزوي بعضُها إلى بعض" دليلٌ على أنها تَنضمُّ على من فيها، فتضيقُ بهم من غيرِ أن يُلقَى فيها شيء.
الخامس: أن قوله "لا يزال يُلقَى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يَضَعَ فيها قدمَه" جَعَلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها ينتهي الإلقاءُ، ويكون عندها الانزواءُ، فيقتضي ذلك أن تكون الغايةُ أعظمَ مما قبلَها.
وليس في قول المعطِّلةِ معنًى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأوّل أحقُّ به من الآخر.
وقد يَغْلَط في الحديث قومٌ آخرون مُمثِّلةٌ أو غيرُهم، فيتوهَّمون أن "قَدمَ الربِّ" تَدخُلُ جَهنَّم. وقد توهَّم ذلك على أهل الإثبات قومٌ من المعطِّلة، حتى قالوا: كيف يَدخُل بعضُ الربِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقول: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) (1) ؟.
__________
(1) سورة الأنبياء: 99.(3/240)
وهذا جهل ممن توهَّمه أو نَقَلَه عن أهل السنة والحديث، فإنّ الحديث: "حتى يضع ربُّ العزّة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقول: قط قط وعزَّتِك"، فدلَّ ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأتْ بهم، كما أقسم على نفسه إنّه ليملأنَّها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غيرِ ذلك من خالقٍ أو مَخلوق؟. وإنما المعنى أنه تُوضَع القدمُ المضافُ إلى الربِّ تعالى، فتَنزوي وتَضِيقُ بمن فيها. والواحدُ من الخلق قد يَركُضُ متحركًا من الأجسام فيسكن، أو ساكنًا فيتحرك، ويَركضُ جبلاً فيتفجَّر منه ماءٌ، كما قال تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)) (1) ،
وقد يضع يَدَه على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى.
المسألة السابعة
أنَّ التكليفَ بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل اختلافٌ بين العلماء من أصحابنا وغيرِهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتتْ بالعقل؟ ومسألة وجوب معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السَّمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة.
وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يُعلَم بالعقل؟ مبنيٌّ على المعاد، فإنّ المعادَ معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يُعلَم بالعقل؟ قد اختُلِفَ فيه:
فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من
__________
(1) سورة ص: 42.(3/241)
الأمور السمعية التي لا تُعلَم إلاَّ بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا والأشعرية وغيرهم.
وذهبَ طوائفُ إلى أنه يُعلَم بالعقل، ثُمَّ تنوعت مسالكُهم:
منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يَقتضي معادًا غيرَ هذه الدار، يُجزَى فيها الظالموَن بظلمهم، أو يُعَوَّض المعذَّبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقيةٌ بعده، وأن لها من النعيم والعذاب الروحانيينِ ما لا يُفارِقُها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن نحا نحوَهم، ومن هؤلاء من يثبِتُ معادَ الأرواح العالمةِ دون الجاهلة، وفيهم من يُنكِر المعادَيْنِ.
والصواب أنَّ معرفتَه بالسمع واجبةٌ، وأمَّا بالعقل فقد تُعرَف وقد لا تُعرَف، فليست معرفتُه بالعقل ممتنعةً، ولا هي أيضًا واجبةٌ. وأما المتفلسفةُ فتُثبتُ المعادَ بالعقلِ، وتُثبِت التكليفَ العقلي، وأما ما جاء به السَّمع من المعاد والشرائع فلها فيه تأويلاتٌ محرَّفةٌ.
فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلومٌ بالشرع وحدَه أو بالعقل وحدَه أو يُعلَمُ بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلومٌ جميعُه بالشرعِ قطعًا، وقد يُعلَم بعضه [بالعقل] .
بل مثل هذا الخلاف ثابتٌ في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا يُعلَم عندهم وجودُ الربِّ وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب هؤلاء وآخرين في مقابلتهم.(3/242)
وقد كتبتُ تفاصيلَ أقوالِ الناس وبَيَّنتُ مذهبَ أئمة السنَّة والحديث في هذا الأصل في "قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم"، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعُه.
وإنما قَرنتُ بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1) ،
فأشرتُ إلى طرق الناس في معرفتها.
والحمد لله وحده أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا مباركًا دائمًا بدوامِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(فرغتُ يوم الثلاثاء سادسَ عشرَ من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علَّقَها العبد الفقير إلى رحمةِ ربه الغفور، وعفوِه وصفحه وجودِه وكرمِه وسترِه وبزه ومَنِّه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنّه وكرمِه وعن جميع المسلمين) .
__________
(1) سورة البقرة: 62.(3/243)
مسألة فيمن قال:
إن عليًّا أشجعُ من أبي بكر(3/245)
مسألة
في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليًّا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن] أبا بكر أشجع الصحابة.
الجواب
الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتُها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة وأدينُ الصحابة وأشجعُ الصحابة وأكرمُ الصحابة، وقد بُسِط هذا في الكتب الكبار وبُيِّن ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعةَ ليستْ [عند] أهلِ العلم بها كثرةَ القتل باليد ولا قوةَ البدن، فإن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشجع الخلق، كما قال علي بن أبي طالب (1) : كُنّا إذا احمرَّ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ كُنَّا نتّقي برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يكون أقربَ إلى القوم منا. وقد انهزمَ أصحابُه يومَ حُنَين وهو على بَغْلِه يسوقُها نحو العدوّ، ويتسمَّى بحيث لا يُخفِي نفسَه، ويقول:
أنا النبيّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبد المطلبْ (2)
ومع هذا فلم يَقتُل بيده إلا واحدًا، وهو أُبيّ بن خلف، قتلَه يومَ أُحُد.
وكان في الصحابة من هو أكثر قتلاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتلَ مئةَ رجلٍ مبارزةً غيرَ مَن شركَ في دَمِه.
__________
(1) أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (ص58) ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (13/257) . وهو في "المسند" (2/228، 343 طبعة المعارف) بنحوه.
(2) أخرجه مسلم (1775) عن البراء بن عازب.(3/247)
ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا العدد، بل ولا حمزةُ سيّدُ الشهداء -الذي يُقال: إنه أسدُ الله ورسولِه- لم يَقتلُ هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوَّام هو في الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "إن لكل نبيٍّ حواريًا، وحَوارِي الزبيرُ" (1) ، ولم يَقتُل في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا العددَ.
وغزواتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسراياه مضبوطة عند أهل العلم بالسيرةِ والحديث، والله تعالى كان يُبارِك لنبيّه وأصحابه في مغازيهم، فمع العمل القليل يَظهرُ الإسلام وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجًا. ومجموعُ من قَتَلَ الصحابةُ كلُّهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَبلُغون ألفَ نفسٍ، بل أقلّ من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فُتِحتْ أرضُ العرب كلُّها في حياتِه.
وكان القتلُ يومَ بدرٍ، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. وأما يومَ أحد فقُتِلَ الكفّارُ قليلاً جدًّا، وكذلك يومَ الخندق ويومَ فتح مكة، والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظمُ عددًا قُتِلوا جميعًا قَتْلَى قُريظةَ، فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعًا.
وجملةُ مغازي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضغٌ وعشرون غزاةً، وكان القتال فيها في تسعٍ: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة (2) وخيبر والفتح وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ تبوك بَلَغوا عشراتِ ألوفٍ، ولكن لم يكن في تبوك قِتالٌ، بل أقامَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوكَ عشرين يومًا يَقْصُر الصلاةَ، وكان قد جاء لقتالِ النصارى من الروم والعرب وغيرهم، فلم يُقدِمُوا على قتاله.
__________
(1) أخرجه البخاري (2846 ومواضع أخرى) ومسلم (2415) عن جابر بن عبد الله.
(2) في الأصل رسم كلمة غير واضحة، والمقصود ما أثبتُ.(3/248)
وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذّابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل الفِرية، فكذبُها معروفٌ عند كل عالمٍ. وإذا كان القتلى نحوًا ممن ذكروا [و] المُقاتِلةُ في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي دُجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقَتْلُ الواحدِ من هؤلاء يُقارِبُ قتلَ عمر وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ بسيفِه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن تكن أحسنتَ فقد أحسنَ فلان وفلان" (1) وسمَّى طائفة من المسلمين-: عُلِمَ (2) أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قَتَلَ مئة من الكفار مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتلَ الواحدُ منهم مئةً وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لما غَزَوا أهلَ الردَّة وفارس والروم كان القتلى من الكفّار كثيرًا جدًّا لكثرة الجموع. والخلفاء الراشدون لم يَغزُ أحدٌ منهم بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا باشرَ بنفسه قتال الكفّار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر يُشاوِر عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يُشاوِر هؤلاء وغيرهم، وهم عنده. ولكن الزبير بن العوَّام شَهِدَ فتح مصرَ، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام.
وإذا تبيَّن هذا فالشجاعة هي ثباتُ القلب وقوتُه، وقوَّةُ الإقدامِ
__________
(1) كما في سيرة ابن هشام (3/106) عن ابن إسحاق، و"دلائل النبوة" للبيهقي (3/215) عن موسى بن عقبة. وأورد ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/449، 450) روايات أخرى في هذا الباب. وانظر "منهاج السنة" (4/481، 8/94) .
(2) جواب "إذا كان القتلى ... ".(3/249)
على العدوِّ، والبعدُ عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلاَّ فالرجل قد يكون بدنُه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جَبَان، وهذا عاجزٌ. وقد يكون الرجل يَقتُل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دَهَمَتْه الأمور الكبار مالتْ عليه الأعداءُ، فيضعُف عنهم أو يَخاف.
وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبًا وأربطَهم جَأْشًا وأعظمهم ثباتًا وأشدَّهم إقدامًا وأبعدَهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْحَبُه وحدَه في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويَبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يومَ بدرٍ وحدَه والكفَّارُ قاصدون الرسولَ خصوصًا. ولهذا لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهر من شجاعتِه وبَسَالتِه وصبرِه وثباتِه وسياستِه وتدبيرِه وإمامتِه للدين وقَمْعِه للمرتدّين ومعونتِه للمؤمنين وسَدِّ ظهورهم ما لا تَتَّسَح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعةِ أدنى خبرة يَعلَم أَنه لم يكن منهم من يُقارِبُه في الشجاعة فضلاً أن يُشَارِيَه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع العلماء على أن أبا بكر أعلمُ الأمة بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مبسوط في غير هذا الموضع (1) . والله أعلم.
__________
(1) انظر "منهاج السنة" (8/82- 89) .(3/250)
تفسير أول سورة العنكبوت(3/251)
قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
فصل
قال الله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)) (1) .
وقال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (2) . وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) (3) قال بعد ذلك:
__________
(1) سورة العنكبوت: 1-11.
(2) سورة البقرة: 214.
(3) سورة النحل: 106.(3/253)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1) .
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إمّا أن يقول أحدهم: آمنّا، وإما أن لا يقول: آمنّا، بل يستمر على عمل السيئات. فمن قال "آمنّا" امتحنه الرب عزّ وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل "آمنّا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإنَّ أحدًا لن يُعجز الله تعالى.
هذه سنته تعالى، يُرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ) (2) ، وقال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (3) ، وقال تعالى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (4) .
ومن آمن بالرسل وأطاعهم عَادَوه وآذَوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عُوقِب، فحصَلَ ما يؤلمه أعظم وأدوم. فلابد من حصول الألم لكل نفسٍ سواءً آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. والكافر تحصل له النعمة ابتداءً، ثم يصير في الألم.
سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلَى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يُبتلَى، فان الله ابتلى
__________
(1) سورة النحل: 110.
(2) سورة الأنعام: 112.
(3) سورة الذاريات: 52.
(4) سورة فصلت: 43.(3/254)
نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحدٌ أن يخلص من الألم البتَّهَ.
وهذا أصلٌ عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدنيّ الطبع، لابدَّ له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذَّبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم.
ومن اختبر أحوالَه وأحوالَ الناس وجدَ من هذا شيئًا كثيرًا، كقومٍ يريدون الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)) (1) . وهم في مكان مشترك، كدارٍ جامعة أو خانٍ أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سَلِمُوا من شرهم في الابتلاء، ثمَّ قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يُهِينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداءً، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يُجِبهم آذَوه وعَادَوه، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيُهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلاّ عذب بغيرهم.
__________
(1) سورة الأعراف: 33.(3/255)
فالواجب ما في حديث عائشة الذي بَعَثَتْ به إلى معاوية، ويُروى موقوفًا ومرفوعًا (1) : "من أرضى اللهَ بسخط الناسِ كفاه الله مؤونةَ الناس -وفي لفظ: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناسَ بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئًا -وفي لفظٍ: عاد حامدُه من الناس ذامًّا-".
وهذا يجرى فيمن يُعِين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعِين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعلِ المحرم وصبَر على أذاهم وعداوتهم، ثمَّ تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعُبَّادِها وتُجَّارِها ووُلاتِها.
وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطانُ المخالفة، كالمُكْرَه على الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابدّ من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاصَ لأحدٍ ممّا يؤذيه البتَّة. ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لابدّ أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسرَّاء والضرَّاء، ولابدَّ أن يَبتليَ الإنسانَ بما يَسُرُّه ويسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابرًا شكورًا، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)) (2) ، وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)) (3) ، وقال تعالى:
__________
(1) أخرجه بالوجهين الترمذي (2414) . وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (ص66) وأحمد في "الزهد" (ص165) والحميدي في "مسنده" (1/129) وعبد بن حميد في "مسنده" (1524) من طرق مختلفة بألفاظ متقاربة.
(2) سورة الكهف: 7.
(3) سورة الأعراف: 168.(3/256)
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) (1) ، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) . هذا في آل عمران (2) ، وقد قال قبل ذلك في البقرة، فإن البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (3) .
وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيَّدُه من رديئه حتى يُفْتَنَ في كِيْرِ الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمةً، وهي مَنْشأ كلِّ شرٍّ يَحصُل للعبد، فلا يحصل له شرّ إلا منها، قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (4) ، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (5) ، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (6) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (7) ، (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)) (8) .
__________
(1) سورة طه: 123- 124.
(2) الآية 142.
(3) سورة البقرة: 214.
(4) سورة النساء: 79.
(5) سورة آل عمران: 165.
(6) سورة الشورى: 30.
(7) سورة الأنفال: 53.
(8) سورة الرعد: 11.(3/257)
وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت، وفي كلِّ ذلك يقول: إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم، قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) (1) ، وقال لإبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (2) ، وإبليس إنما تبعه الغواة منهم، كما قال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (3) ، وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (4) . والغيّ: اتباع هوى النفس.
وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود (5) : أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
وفي الحديثِ الإلهي حديثِ أبي ذر (6) الذي يرويه الرسول عن ربّه عزّ وجلّ: "يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
وفي الحديث الصحيح (7) حديث سيد الاستغفار أن يقول العبدُ:
__________
(1) سورة الأعراف: 23.
(2) سورة ص: 85.
(3) سورة الحجر: 39- 40.
(4) سورة الحجر: 42.
(5) انظر "جامع بيان العلم" (2/830، 852، 911) و"الإحكام" لابن حزم (6/50) و"تلخيص الحبير" (4/195) .
(6) أخرجه مسلم (2577) . ولشيخ الإسلام شرح عليه، انظرا "مجموع الفتاوى" (18/136- 209) .
(7) أخرجه البخاري (6306، 6323) عن شدّاد بن أوس.(3/258)
"اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". من قالها إذا أصبح موقنًا بها فماتَ من يومِه دخلَ الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة".
وفي حديث أبي بكر الصديق (1) من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علَّمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعَه: "اللهم فاطرَ السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ربّ كلّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنتَ، أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم". قُلْه إذا أصبحت وإذا أمسيتَ وإذا أخذتَ مضجعَك.
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته (2) : "الحمد لله، نستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا". وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافُتَ الفَراشِ" (3) .
شبَّهَهم بالفراش لجهله وخفّة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة الحركة.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/196) والبخاري في "الأدب المفرد" (1204) والترمذي (3529) من طريق أبي راشد الحبراني عن عبد الله بن عمرٍ وفي صحيفته. وأخرجه أحمد (1/14) من طريق مجاهد عن أبي بكر. وأخرجه أبو داود (5083) من طريق شريح عن أبي مالك الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (1/392، 432) وأبو داود (2118) والنسائي (3/104) من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود. وله طرق أخرى عن ابن مسعود وشواهد جمعها الشيخ الألباني وتكلم عليها في رسالة مفردة.
(3) أخرجه البخاري (6483) ومسلم (2284) عن أبي هريرة.(3/259)
وفي الحديث: "مثل القلب مثل ريشةٍ مُلْقَاةٍ بأرض فلاةٍ" (1) . وفي حديث آخر: "لَلقلبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدرِ إذا استجمعتْ غَلَيانًا" (2) . ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل. ولهذا يقال لمن أطاع من يُغويه: إنه استخفَّه. قال عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (3) . وقال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)) (4) ، فإن الخفيف لا يثبت بل يَطِيشُ، صاحب اليقين ثابت. يقال: أيقنَ، إذا كان مستقرًا، واليقين: استقرار الإيمان في القلب علمًا وعملاً، فقد يكون علم العبد جيّدًا، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرًا لا صبرَ له رأيتَه، وإذا شئتَ أن ترى صابرًا لا بصيرةَ له رأيتَه، فإذا رأيتَ بصيرًا صابرًا فذاك. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (5) .
ولهذا تُشبَّه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادِها، وغضبُها وشهوتُها من النار، والشيطان من النار. وفي السنن (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تُطفَأ النّارُ بالماء، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ". وفي الحديث الآخر (7) :
__________
(1) أخرجه أحمد (4/419) وابن ماجه (88) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (6/4) عن المقداد بن الأسود.
(3) سورة الزخرف: 54.
(4) سورة الروم: 60.
(5) سورة السجدة: 24.
(6) أخرجه أبو داود (4784) وأحمد (4/226) عن محمد بن عطية السعدي عن أبيه مرفوعًا. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (ص475) .
(7) أخرجه أحمد (3/19، 61) والترمذي (2191) عن أبي سعيد الخدري.=(3/260)
"الغضب جمر تُوقَد في جوف ابن آدم، إلا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجِه"، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته (1) : "الشيطان يجري من اَبن آدم مجرى الدم".
وفي الصحيحين (2) أن رجلين استبَّا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اشتدَّ غضبُ أحدهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأعلم كلمةً لو قالَها لذهبَ عنه ما يجدُ، لو قال: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم". وقد قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (39)) (3) ، وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)) (4) ، وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)) (5) .
__________
=وضعفه العراقي في "تخريج الإحياء" (3/167) .
(1) أخرجه البخاري (2035، 2038 ومواضع أخرى) ومسلم (2175) عن صفية بنت حيي.
(2) أخرجه البخاري (3282) ومسلم (2610) عن سليمان بن صُرَد.
(3) سورة فصلت: 34- 36.
(4) سورة الأعراف: 199- 200.
(5) سورة المؤمنون: 96- 98.(3/261)
مسألة في قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ…)(3/263)
مسألة
في قوله عز وجل (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) الآية (1) .
الجواب
الحمد لله. المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (2) ، وقال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (3) ، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) (4) ، وقال تعالى عن قوم فرعون: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) (5) .
وهذه الآية نزلت في سياق الأمر بالجهاد وذمّ المنافقين، فقال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) (6) . كانوا إذا أصابهم نصرٌ ورزقٌ ونحو ذلك قالوا: هذا، من الله، وإذا أصابهم خوفٌ وقحطٌ ونحو ذلك قالوا: هذا من
__________
(1) سورة النساء: 78.
(2) سورة الأعراف: 168.
(3) سورة آل عمران: 120.
(4) سورة التوبة: 50.
(5) سورة الأعراف: 131.
(6) سورة النساء: 78.(3/265)
محمدٍ بسبب الدين الذي جاء به، كما قال قوم فرعون في حق موسى، فقال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)) ، فإن محمدًا إنَّما جاءهم بالهدى والحق، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.
ثم قال (1) : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) من نصرِ ورزقٍ ونحو (فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من خوفِ وجَدْبِ وغير ذلك (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي بذنوبك، وكان ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فليس للعبد على الله حجة، بل لله الحجة البالغة.
ونظير هذا قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (2) ، وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)) (3) وقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (4) .
وفي الصحيح (5) : "إن الله يقول: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفيكم إياها، فمن وَجَد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه". وفي سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتَني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أَبُوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأَبُوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". مَن قال ذلك إذا أصبحَ موقنًا به فماتَ من يومِه دخل الجنة، ومن قاله إذا
__________
(1) سورة النساء: 79.
(2) سورة الشورى: 30.
(3) سورة الروم: 36.
(4) سورة آل عمران: 165.
(5) مسلم (2577) عن أبي ذر.(3/266)
أمسى موقنًا به فماتَ من ليلتِه دخل الجنة. رواه البخاري (1) .
وقوله "أبوءُ لك بنعمتك عليَّ" أي أَعترِف وأُقِرُّ بنعمتك، وأعترف وأُدرُّ بذنوبي. فمن قال: إنه لا يُؤاخَذ، أو إنه لم يُذنِب ولم يُخطِئْ، أو إنّ من شَهِدَ الحقيقةَ سقطَ الأمرُ والنهيُ والعقابُ والثوابُ-: فهو مشركٌ أكفر من اليهود والنصارى، ومن قال: إن الله لم يُقدِّرْ ذلك ولم يَقضِه، فهو من مجوس هذه الأمة القدرية. ومن آمنَ بأن كلَّ شيء بقضاءِ الله وقدره، وعَلِمَ أن القدرَ يُؤمَن به ولا يُحتَجُّ به على الله، وأنه ليس للعبد على ربّه حُجَّة، بل لله الحجة البالغة، فإذا عَمِلَ حسنةً شكَرَ الله عليها، وإذا عَمِلَ سيئةً استغفر الله منها-: فهو موحِّد.
ومن قال: إن الحسنات والسيئات في هذه الآية المراد بها الطاعات والمعاصي، كما في قوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (2) فهو مخطئٌ غالط، فإنّ هذا يَلزم منه تناقضُ القرآن، فإنه قد أخبرَ أن كُلاًّ من عند الله، وأخبر أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك. وأيضًا فإنه قال "ما أصابك"، ولم يقل "ما أصبتَ"، فلو أراد أفعالَ العباد لقال: "ما أصبت" أو "ما كسبتَ" أو "ما فعلتَ" ونحو ذلك. ولكن أرادَ النِّعَم والمصائب، وهي جميعُها من عند الله، لكن النعم من إنعامه وإحسانه، والمصائب بسبب ذنوب العباد، ولهذا قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3) . والله أعلم. أجاب به أحمد بن تيمية أيَّده الله تعالى.
__________
(1) برقمي (6306، 6323) عن شداد بن أوس.
(2) سورة الأنعام: 160.
(3) سورة الأنفال: 33.(3/267)
قاعدة حسنة
في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل
بالتكبير والتسبيح بالتحميد(3/269)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرا دائما إلى يوم الدين.
فصل
في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
فقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربعٌ وهنَّ من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (2) ، والمقصود هنا أن نقول: التسبيح مقرون بالتحميد، والتهليل مقرون بالتكبيرِ، فإن الله تعالى يذكر في غير موضع التسبيحَ بحمده، كقول الملائكة: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) (3) ، وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (4) ، وقوله تعالى: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (5) ، وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (6) ، وقو له: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (7) .
ولا ريبَ أن الصلاة الشرعية تتضمن ما أمر به من التسبيح بحمده، كما قد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (8) أنه
__________
(1) مسلم (2137) عن سمرة بن جندب.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (24/231 وما بعدها) .
(3) سورة البقرة: 30.
(4) سورة غافر: 7.
(5) سورة البقرة: 30.
(6) سورة طه: 130.
(7) سورة الطور: 48.
(8) البخاري (7434، 7435، 7436 ومواضع أخرى) ومسلم (633) .(3/271)
نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربَّكمِ كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)) (1) .
وأيضًا ففي صحيح مسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سُئِل أيُّ الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده". وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وأما التكبير فهو مقرونٌ بالتهليل في الأذان، فإن المؤذن يكبّر ويهلّل، وفي تكبير الإشراف: كان إذا عَلاَ نشزًا كبَّر ثلاثًا وقال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعدَه، ونصَر عبدَه وأعزَ جندَه، وهزم الأحزاب وحده". وهو في الصحيحين (4) . وكذلك على الصفا والمروة، وكذلك إذا ركب دابة، وكذلك في تكبير الأعياد.
والتكبير مشروعٌ في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض، كما في السنن عن جابر (5) قال: كنا مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عَلَونا
__________
(1) سورة ق: 39.
(2) برقم (2731) عن أبي ذر.
(3) البخاري (7563 ومواضع أخرى) ومسلم (2694) .
(4) البخاري (1797 ومواضع أخرى) ومسلم (1344) عن ابن عمر.
(5) أخرجه أيضًا البخاري (2993، 2994) والنسائي في "السنن الكبرى" (6/139) والدارمي (2677) وابن خزيمة (2562) .(3/272)
كبّرنا، وإذا هبطنا سبَّحنا". فوُضِعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه وسجوده يُسبِّح، ويكبِّر في الخفض والرفع، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن اقتران التهليل بالتكبير قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدي بن حاتم: "يا عديّ! ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إلهٍ إلا الله؟ ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
رواه أحمد والترمذي (1) وغيرهما.
فنقول: التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات، نَفْي المعائب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم، ولهذا قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2) ، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) (3) . وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم" (4) .
وقال: "أما الركوع فعظِّموا فيه الرب" (5) . فالتسبيح يتضمن التنزيه المستلزم للتعظيم، والحمد يتضمن إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها.
وأما التهليل والتكبير فالتهليل يتضمن اختصاصَه بالإلهية، وما يستلزم الإلهيةَ فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختصّ به، والتكبير
__________
(1) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953، 2954) من طريق سماك بن حرب عن عبَّاد بن حبيش عن عديّ.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) سورة الواقعة: 74، 96 وسورة الحاقة: 52.
(4) أخرجه أحمد (4/155) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر الجهني.
(5) أخرجه مسلم (479) عن ابن عباس.(3/273)
يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يَحصُلُ لغيره من نوع صفات الكمال -فإنّ المخلوقَ متصفٌ بأنه موجود وأنه حيٌّ وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك- فهو سبحانَه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي نوعان: نوع يختصُّ به ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه ربّ العالمين، وإله الخلق أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختصٌّ به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية، فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يُعبَد إلا هو، ولا يُتوكل إلاّ عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُخشَى إلا هو. فهذا كلُّه من تحقيق "لا إله إلا الله".
وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله:
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)) (1) ، وقوله: (فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)) (2) ، وقوله: (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)) (3) و (وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرينَ (155)) (4) ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعديّ بن حاتم: "أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
وأما قول بعض النحاة إن "أكبر" بمعنى كبير، فهذا غلط مخالفٌ لنصّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر. وكذلك قول بعض الناس إنه أكبرُ مما يُعلَم ويُوصَف ويُقَال، جَعَلوا معنى "أكبر" أنه أكبر مما في القلوب والألسنة من معرفته ونَعْته، أي هو فوق معرفةِ
__________
(1) سورة العلق: 3.
(2) سورة المؤمنون: 14.
(3) سورة الأعراف: 151، وسورة الأنبياء: 83.
(4) سورة الأعراف: 155.(3/274)
العارفين، وهذا المعنى صحيح، لكن ليس بطائل، فإن الأنبياء والرسل والملائكة والجنة والنار وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه الناس، قال الله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ، وقال تعالى: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشر" (2) .
فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض، بخلاف ما إذا قيل إنه أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيرُه. وبذلك فَسَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: "أيُفِرّك أن يقال الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
وعلى هذا فعِلمُه أكبر من كل علم، وقدرتُه أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر صفاته، كما قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (3) . فشهادته أكبر الشهادات.
فهذه الكلمة تقتضي تفضيلَه على كل شيء مما تُوصف به الأشياء من أمور الكمالات التي جعلَها هو سبحانه لها. وأما التهليل فيتضمن تخصيصَه بالإلهية، ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها، بل لا إله إلا الله. وهذه تضمنت معنى نفي الإلهية عمّا سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر مطلقًا، فهذه تخصيص وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي والإثبات، فإنّ كل ذلك إما أن يكون مختصًّا به، أو ليس كمثله أحدٌ فيه.
__________
(1) سورة السجدة: 17.
(2) أخرجه البخاري (4780) ومسلم (2824) عن أبي هريرة.
(3) سورة الأنعام: 19.(3/275)
ولهذا كان التكبير مشروعًا على مشاهدة ماله نوع من العظمة في المخلوقات، كالأماكن العالية، والشياطين تهرب عند سماع الأذان، والحريقُ يُطفَأ بالتكبير، فإن مَرَدَة الإنس والجن يستكبرون عن عبادته ويَعلُون عليه ويُحادُّونه، كما قال عن موسى وجاءهم رسول كريم: (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1) . فالنفوس المتكبرة تَذِلُّ عند تكبيره سبحانه.
والتهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه، أو يُرجَى أو يُخَاف أو يُدعَى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحقٌّ لصفات الكمال التي لا يستحقها غيرُه، فهي أفضل الكلمات، كما في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبةً أو ستون، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (2) .
وفي حديث "الموطأ" (3) : "أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وفي سنن ابن ماجه (4) وكتاب ابن أبي الدنيا (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
وهذه الكلمة هي أساس الدين، وهي الفارقة بين أهل الجنة
__________
(1) سورة الدخان: 19.
(2) أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) عن أبي هريرة.
(3) 1/422، 423 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً. وصححه الألباني لشواهده في "الصحيحة" (1503) .
(4) برقم (3800) عن جابر. وأخرجه أيضًا الترمذي (3383) والنسائي في الكبرى (6/208) .
(5) كتاب الشكر (102) .(3/276)
وأهل النار، كما في صحيح مسلم (1) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الموجبتان: من مات لا يُشرِك بالله شيئا دخلَ الجنَّة، ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار". وفي الصحيح (2) عنه: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي الصحيح (3) أيضًا: "لَقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله". وهي الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلاً كشجرةٍ طيبة، وهيِ بُعِث بها جميعُ الرسل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (4) ، (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (5) .
وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عَقِبه: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)) (6) . وهي دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (7) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (8) .
وكل خطبة لا تكون فيها شهادة فهي جَذْماء، كما في سنن الترمذي (9) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي
__________
(1) برقم (93) .
(2) مسلم (26) عن عثمان.
(3) مسلم (916) عن أبي سعيد الخدري.
(4) سورة الأنبياء: 25.
(5) سورة الزخرف: 45.
(6) سورة الزخرف: 28.
(7) سورة آل عمران: 19.
(8) سورة آل عمران: 85.
(9) برقم (1106) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/302، 343) وأبو داود (4841) .(3/277)
كاليد الجذماء". والحمد مفتاح الكلام، كما في سنن أبي داود (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمد فهو أجذم". ولهذا كانت السنة في الخُطَب أن تُفتَتح بالحمد، ويُختَم ذكرُ الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته، وبها جاء التشهد في الصلاة أوّله: "التحيات لله"، وآخره: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه".
وفاتحة الكتاب نصفان: نصفٌ لله، ونصفٌ للعبد، ونصفُ الربّ أوله حمد وآخره توحيد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، ونصف العبد هو دعاء، وأوله توحيد (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) .
والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد، فالمؤذن يقول: "الله أكبر الله أكبر"، ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ويختم الأذان بقوله: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". وكذلك تكبيرات الإشراف والأعياد تُفتَتح والتكبير وتُختَم بالتوحيد، فالتكبير بساط. وكذلك التسبيح مع التحميد "سبحان الله وبحمده"، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يُحمَد عليها.
فصل
وهو في نفس الأمر لا إله غيره، وهو أكبر من كل شيء، وهو المستحق للتحميد والتنزيه، هو متصف بذلك كلّه في نفس الأمر. فالعباد لا يثبتون له بكلامهم شيئًا لم يكن ثابتًا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم يَسْعَدون السعادة التامة، إذا
__________
(1) برقم (4840) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضًا أحمد (2/359) وابن ماجه (1894) .(3/278)
صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خَلَصَ من شرك المشركين، فإن أكثر بني آدم كما قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (1) ، فهم يُقِرُّون أنه ربّ العالمين لا ربّ غيرُه، ومع هذا يُشرِكون به في الحبِّ أو التوكُل أو الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك.
وأما التوحيد أن يكون الله أحبَّ إليه من كلّ ما سواه، فلا يُحِبّ شيئًا مثل ما يُحبّ الله، ولا يخافه كما يخاف الله، ولا يرجوه كما يرجوه، ولا يُجلُّه ويُكرِمه مثل ما يُجلّ الله ويُكرمُه، ومن سَوَى بينه وبين غيره في أمَر من الأمور فهو مشركَ، إذ كان المشركون لا يُسَوُّون بينه وبين غيره في كل [شيء] ، فان هذا لم يقله أحدٌ من بني آدم، وهو ممتنع لذاتِه امتناعًا معلومًا لبني آدم، لكن منهم من جَحَده وفَضَّلَ عليه غيرَه في العبادة والطاعة، لكن مع هذا لم يثبِتْه ويُسوِّ بينه وبين غيرِه في كل شيء، بل في كثير من الأشياء. فمن سوَّى بينه وبين غيرِه في أمرٍ من الأمور فهو مشركٌ، قال الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)) (2) أي يعدلون به غيره، يقال: عَدَلَ به أي جعله عديلاً لكذا ومثلاً له. وقال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)) إلى قوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (3) وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (4) .
__________
(1) سورة يوسف: 106.
(2) سورة الأنعام: 1.
(3) سورة الشعراء: 91- 98.
(4) سورة البقرة: 165.(3/279)
فلا إله إلا هو سبحانه، وما سواه ليس بإلهٍ، لكن المشركون عبدوا معه آلهةً، وهي أسماءٌ سَمَّوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كما يُسمِّي الإنسانُ الجاهلَ عالمًا، والكاذبَ صادقًا، ويكون ذلك عنده لا في نفس الأمر. وهؤلاء آلهة في نفوس المشركين بهم ليسوا آلهةً في نفس الأمر. ولهذا كان ما في قلوبهم من الشرك هو إفكًا، قال الله تعالى عن إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)) (1) ، وقال أيضًا: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (2) ، وقال: (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (3) ، وقال هود لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)) (4) .
والموحِّد صادق في قوله "لا إله إلا الله"، وكلَّما كرَّر ذلك تحقَّق قلبه بالتوحيد والإخلاص، وكذلك قوله "الله أكبر"، فإنه تعالى كل ما يخطر بنفس العباد من التعظيم فهو أكبر منه، الملائكة والجن والإنس، فإنه أيّ شيء قُدّر في الأنفس من التعظيم كان دون الذي هو متصف به، كما أنه سبحانه فوق ما يُثنِي عليه العباد، كما قال أعلمُ الناس به: "لا أحصِي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (5) .
فكلَّما قال العبد "الله أكبر" تحقَّق قلبُه بأن يكون الله في قلبه أكبر
__________
(1) سورة الصافات: 85- 86.
(2) سورة العنكبوت: 17.
(3) سورة الكهف: 15.
(4) سورة هود: 50.
(5) أخرجه مسلم (486) عن عائشة.(3/280)
من كل شيء، فلا يبقى لمخلوقِ على القلب ربَّانية تُساوِي ربَّانيةَ الرب، فضلاً عن أن يكون مثلَها، وهذا داخل في التوحيد لا إله إلا الله، فلا يكون في قلبه لمخلوقِ شيء من التألُّه لا قليل ولا كثير، بل التألُّه كلُّه لله، ولكن المخلوق عنده نوع من القدر والمنزلة والمحبة، وليست كقدر الخالق، والمحبّة المأمور بها هي الحبّ لله، كحبّ الأنبياء والصالحين، فهو يحبُّهم لأنّ الله أمر بحبِّهم، فهذا هو الحبّ الله. فأما من أحبَّهم مع الله فهذا مشرك، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1) . فالحبُّ في الله إيمان، والحبُّ مع الله شرك.
وكذلك إذا قال "سبحان الله والحمد لله" فقد نزَّه الربَّ، فنزَّه قلبَه أن يصف الربَّ بما لا ينبغي له، فكلَّما سبَّح الربَّ تنزَّهت نفسُه عن أن يصف الربَّ بشيء من السوء، كما قال سبحانه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) (2) ، وقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)) (3) .
فهو سبحانَه سبَّح نفسَه عما يَصِفه المفترون والمشركون، فإذا سبّح الربّ كان قد زكى نفسَه. وقد سمَّى الله الأعمال الصالحة زكاة وتزكيةَ في مثل قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (4) . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَيُزَكِّيهِمْ) قال: يعني بالزكاة
__________
(1) سورة البقرة: 165.
(2) سورة الصافات: 180.
(3) سورة الإسراء: 43.
(4) سورة فصلت: 6- 7.
(5) سورة البقرة: 129.(3/281)
طاعةَ الله والإخلاص (1) ، فجمعَ بين التزكية من الكفر والذنوب. وقال مقاتل بن حيّان: "يزكيكم": يُطهّركم من الذنوب. هكذا قال في آية البقرة (2) ، وقال في آية الصيف (3) : يطهّرهم من الذنوب والكفر.
وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلِّصهم منه. وقال السدّي: يأخذ زكاة أموالهم (4) . ففسّروا الآية بما يعمُّ زكاةَ الأموال وغيرها من الأعمال والأفعال، فالإخلاص والطاعة وتزكيتهم من الذنوب والكفر أعظم مقصود الآية. والمشركون نجس، والصدقة من تمام التطهر والزكاة، كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (5) .
وكذلك قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (6) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله (7) . ورُوي عن عكرمة نحو ذلك. وقال قتادة: لا يُقِرُّون بها ولا يؤمنون بها. وكذلك قال السدّي: لا يدينون بها، ولو زكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم. وقال معاوية بن قرَّة: ليسوا من أهلها. وقد قال موسى لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)) (8) ، وقال عن الأعمى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)) (9) ،
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (3/88) .
(2) برقم 151.
(3) هي في سورة آل عمران: 164.
(4) انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري (3/88) و"زاد المسير" (1/146) .
(5) سورة التوبة: 103.
(6) سورة فصلت: 6- 7.
(7) أخرجه الطبري (24/60) ، وكذلك روى الآثار التي ذكرها المؤلف هنا.
(8) سورة النازعات: 18- 19.
(9) سورة عبس: 3.(3/282)
وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (1) ، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى) إلى قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (2) .
وكذلك الحمد، كلَّما حَمِدَ العبدُ ربَّه تحققَ حمدُه في قلبه معرفةً بمحامدِه ومحبةً له وشكرًا له. والألف واللام في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيها قولان (3) ، قيل: هي للجنس، كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة، وتَبعَه عليه بعض المنتسبين إلى السنة. والثاني -وهو الصحيح-: أنها للاستغراق، فالحمد كلُّه لله، كما جاء في الأثر: "لك الحمد كله، ولك الملك كلُّه". فله الحمد حمد مستقل، وله الملك ملك مستقل، ولكن هو سبحانه يُؤتي الملك من يشاء، والذي يُؤتيه هو من ملكه، وكلُّ ما تصرَّف فيه العبد فهو من ملك الربّ، وهو مستقل بالملك، ليس هذا لغيره، كذلك الحمد هو مستقل بالحمد كلِّه، فله الحمد كلُّه وله الملك كلُّه، وكلُّ ما جاء به الإذن من موجود فله الحمد عليه، وكلُّ ما يجعله للعباد مما يُحمَدون عليه فله الحمد عليه، وإذا ألهمهم الحمدَ فهو الذي جعلهم حامدين.
والمعتزلة لا يُقِرُّون بأنه جعلَ الحامدَ حامدًا والمصلّيَ مصليًا والمسلمَ مسلمًا، بل يُثبِتُون وجود الأعمال الصالحة من العبد لا من الله، فلا يستحق الحمد على تلك الأعمال على أصلهم، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل قد أعطَى الكفار مثله، لكن المؤمنون استقلوا بفعل الحسنات، كالأب الذي يُعطي ابنَيه
__________
(1) سورة الشمس: 9- 10.
(2) سورة طه: 74- 76.
(3) انظر الكشاف (1/8) والمحرر الوجيز (1/63) والانتصاف (1/8) والقرطبي (1/133) .(3/283)
مالاً، فهذا يُنفِقه في الطاعة، وهذا يُنفِقه في المعصية. فهو عندهم لا يُمدَح على إنفاق هذا الابن، كما لا يُذَمُّ على إنفاق الآخر.
وأما أهل السنة فيقولون كما أخبر الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (1) ، وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (2) الآية. وقال الخليل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (3) ، وقال هو وابنه إسماعيل: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (4) . ويَحمدون الله حمدَ النعمة وحمدَ العبادة، كما قد بُسِط هذا في الكلام في الشكر.
وهو سبحانه جعل مَن شاء من عبادِه محمودًا، ومحمدًا سيد المحمودين، ومحمدٌ تكون صفاتُه المحمودة أكثر، وأحمدُ يكون أحمدَ من غيره، فهذا أفضل، وذاك أكثر. وهو سبحانه جعلَه محمدًا وأحمدَ. فهو المحمود على ذلك، وحمدُ أهل السماوات والأرض جزء من حمده، فإن حمدَ المصنوع حمدُ صانعِه، كما أن كلَّ ملكٍ هو جزءٌ من ملكه، فله الملك وله الحمد.
والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط التوحيد ومقدمة له، ولهذا يُفتَح به الكلامُ، ويُثنَّى بالتشهد. وكلُّ كلام لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجذماء. وإذا كان الحمد كله له.... (5) بخلاف ما إذا أثبت جنس الحمد من غير
__________
(1) سورة الحجرات: 7.
(2) سورة الأعراف: 43.
(3) سورة إبراهيم: 40.
(4) سورة البقرة: 128.
(5) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.(3/284)
استغراق، فان هذا لا يثبت خصائص الربّ التي بها يمتاز عن غيره، فإن الحمد إذا كان للجنس أوجب أن يكون لغيره أفرادٌ من أفراد هذا الجنس، كما تقوله القدرية. وأما أهل السنة فيقولون: الحمد لله كلُّه، وإنما للعبد حمدٌ مقيَّدٌ، لكون الله تعالى أنعمَ عليه، كما للعبد ملكٌ مقيَّدٌ. وأما الملك المستقل والحمد المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله رب العالمين، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير.
وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال إذا أصبحَ: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدَك، لا شريك لك، فلك الحمد -فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن قال مثل ذلك إذا أمسى فقد أدَّى شكر تلك الليلة". وقال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) (2) . وقال تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)) (3) أي تجعلون شكركم على نعمة الله أنكم تضيفونها إلى غيره بقولكمِ "مُطِرنا بنَوءِ كذا وكذا". وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (4) الآية. وقال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (5) .
وفي حديث آخر (6) : "من قال إذا أصبح الحمد لله ربي لا أشرك
__________
(1) أخرجه أبو داود (5073) والنسائي في الكبرى (5/6) عن عبد الله بن غنَّام.
(2) سورة النحل: 53- 54.
(3) سورة الواقعة: 82.
(4) سورة الروم: 33.
(5) سورة غافر: 65.
(6) أخرجه البزار (كما في "كشف الأستار" 4/24) وابن السني في عمل اليوم=(3/285)
به شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، ظلَّ تغفر له ذنوبه حتى يُمسِيَ، وإن قالها حين يُمسِيْ ظلَّ تُغفَر له ذنوبه حتى يُصبح". رواه أبان المحاربي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال سعيد بن جبير: إذا قرأتَ (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) فقل "لا إله إلا الله"، وقل على أثرها: "الحمد لله رب العالمين". ثم قرأ هذه الآية (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دبر الصلاة: "لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وهذا قد ذكره في أوائل هذه السورة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلى قوله (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)) (2) .
وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كلّ منهما لمن دعا به أنه دعا اللهَ باسمه الأعظم، أحدهما (3) : "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام". والآخر (4) : "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم
__________
=والليلة" (59) من حديث أبان المحاربي. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/116) : فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك.
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (594) فقط عن عبد الله بن الزبير.
(2) سورة غافر: 10- 14.
(3) أخرجه أحمد (3/120) وأبو داود (1495) والترمذي (3544) وابن ماجه (3858) عن أنس.
(4) أخرجه أحمد (5/349، 350، 360) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) عن بريدة.(3/286)
يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤالٌ بكونه محمودًا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية توحيدًا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحقُّ العبادة.
والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الربّ، أوله تحميد وآخرُه تعبيد، وقد بُسِط مثلُ هذا في مواضع، وبُيِّن أن التحميد والتوحيد مقرونانِ، ولابدَّ منهما في كل خطبة، فكلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكلُّ خطبةٍ ليس فيها تشهُّد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله مقرون بالتكبير، كذاك تحميدُه وهذا توحيدُه. قال تعالى: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (1) ، ففي أحدهما إثباتُ المحامد له، وذلك يتضمن جميعَ صفاتِ الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في ذلك، وأنه ليس له كُفُوٌ في ذلك.
وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه، فإثباتُ المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نَفيَ النقص، وإثباتُ وحدانيته وأنه ليس له كفوٌ في ذلك يَقتضِي أنه لا مثلَ له في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّهٌ عن النقائص ومنزَّهٌ أن يماثلَه شي بلا في صفات الكمال، كما دل على هذين الأصلين قولُه تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2) .
__________
(1) سورة غافر: 65.
(2) سورة الإخلاص: 1- 4.(3/287)
واسمُه "الله" تضمَّن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهيةَ المستلزمةَ لذلك، فإذا قيل "لا إله إلا الله" تضمنت هذه الكلمة إثباتَ جميع المحامد، وأنه ليس له فيها نظير، إذ هو إلهٌ لا إله إلا هو. والشرك كلُّه إثباتُ نظيرٍ لله عز وجلِّ، ولهذا يُسبِّح نفسَه ويُعاليها عن الشرك في مثل قوله (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)) (1) . وقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (2) . فان الشرك قولٌ هو وصف، وعملٌ هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يُعبَد معه غيره.
وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (3) . فقوله "الله" هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال، وقوله "لا إله إلا هو" نفي للنُّظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي في التوراة: "يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا"، جمع بين الإثبات ونَفْي الشريك، فالإثبات لردّ التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك.
وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد المتضمنة لصفات الكمال، وهو ردّ للتعطيل، والتوحيد ردّ للشرك، والتحميد يتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه محمودٌ على آلائِه كلِّها، وآياته
__________
(1) سورة المؤمنون: 91- 92.
(2) سورة الأنبياء: 21- 22.
(3) سورة البقرة: 255.(3/288)
كلُّها من آلائه، كما قد بُسِط في مواضع. فهو محمود على كلّ ما خلق، له الحمد مِلْء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله الحمد حمدًا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق هو محمود عليه، بل هو مسبِّح بحمده، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)) (1) .
والتوحيد يقتضي نفيَ كل نِدّ ومثلٍ ونظيرٍ، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفيُ أن يكون له مثل أو نِدٌّ.
وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قد فسَّرها كثير من المفسرين أي فصَلِّ بحمد ربك والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال (2) : وسبّح بحمد ربك أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم.
وأما قوله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقد فسّروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة ربك وعبادة ربك، أي بذكرِك ربَّك وشكرِك ربَّك وطاعتِك ربَّك وعبادتِك ربَّك، ولا ريب أن حمد الربِّ والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي نصفها الأول حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتحميدٌ له، وقد شُرِع قبل ذلك الاستفتاح، وشُرِع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى.
__________
(1) سورة الإسراء: 44.
(2) زاد المسير (5/333) .(3/289)
وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي (1) -: "وسبّح بحمد ربك" أي صَلِّ بأمر ربك، وقيل: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه. فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين الذين أخذ عنهم السُّدِّي التفسيرَ من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم (2) عن أسباط عن السدّي عن أبي مالك: قوله (بِحَمْدِ) أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله "بحمده" أي بكونه محمودًا، كما قد قيل في قول القائل "سبحان الله وبحمده"، قيل: سبحان الله ومع حمده أسبِّحه، أو أسبِّحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله وبحمده سبَّحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلتُ هذا بحمد الله، وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يَستحقُّ الحمدَ عليه. وهو يرجع إلى الأول، كأنه قال: بحمدِنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك.
وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبَّحنا سبَّحنا بحمده، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (3) الآية. وقد يكون القائل الذي قال: "فسبح بحمد ربك" أي بأمره أراد المأمور به، أي سبّحه بما أمرك أن تُسبِّحه به، فيكون المعنى: سَبِّح التسبيحَ الذي أمركَ ربُّك به، كالصلاة التي أمرك بها. وقولنا "صليتُ بأمر الله" و"سبَّحتُ بأمر الله" يتناول هذا وهذا، يتناول أنه أمرَ بذلك ففعلتُه بأمرِه لم أبتدعْه، وأني فعلتُ بما أمرني به لم أبتدعْ.
__________
(1) معالم التنزيل (3/236) .
(2) لا يوجد النص في تفسيره المطبوع.
(3) سورة آل عمران: 164.(3/290)
فأما هذه الآية (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1) في يذكر البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية "ق"، قال ابن الجوزي (2) : "وسبّح بحمد ربك" أي صَلِّ بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرًا للحمد. فأما البغوي (3) فإنه قال: فصلِّ حمدًا لله.
وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر ما قاله غيرُه، سواء قاله ذاكرًا أو آثرًا، ما يكاد هو يُنشئ من عنده عبارةً، وهذه عبارة طائفة قالوا: "سبح بحمد ربك" صَلِّ حمدًا لله، جعلَ نفسَ الصلاة حمدًا، كما يقال: افعلْ هذا حمدًا لله أي شكرًا.
وهذا بنَى على قول من قال: "بحمد ربك" أي بكونه محمودًا، ثم جعل المصدر يضاف إلى المفعول.
وليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله. ولفظ التسبيح يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به النافلةُ خصوصًا، فإن الفرض لما كان له اسمٌ يخصُّه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما في الحديث (4) : كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسبِّح على راحلته حيث توجَّهتْ به راحلتُه. وكان يُصلِّى سُبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه (5) عن حفصة قالت: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى في سبحته قاعدًا، حتى كان قبل وفاته
__________
(1) سورة طه: 130.
(2) زاد المسير (8/23) .
(3) معالم التنزيل (4/226) .
(4) أخرجه البخاري (1093، 1097، 1104) ومسلم (701) عن عامر بن ربيعة.
(5) برقم (733) .(3/291)
بعامٍ -وفي روايةٍ: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدًا، وكان يقرأ فيها بالسورة فيُرتّلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضًا ما أخرجاه في الصحيحين (1) عن عائشة قالت: ما رأيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي سبحةَ الضحى قَطُّ، وإنّي لأسبِّحها، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَدَعُ العمل وهو يُحِبّ أن يعمل به، خشيةَ أن يعمل به الناس فيُفرَض عليهم.
لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سُبْحة، خصُّوه بذلك. وأما في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتاج إلى نقل عنه.
ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يُسبِّح، إذا كان يذكر الله. ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سُمِّيت "السبَّاحة" للإصبع التي يشير بها، وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد "سبحان الله"، وهذا أخصُّ به.
وفي السنن (2) : لما أنزل الله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) قال: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قال: "اجعلوها في سجودكم". وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". وفي الصحيحين (4) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حُطَتْ عنه خطاياه ولو كأنت مثلَ زبد البحر".
__________
(1) البخاري (1128، 1177) ومسلم (718) .
(2) أخرجه أبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر.
(3) البخاري (6406، 6682، 7563) ومسلم (2694) عن أبي هريرة.
(4) البخاري (6405) ومسلم (2692) .(3/292)
وقد قيل: إن الصلاة إنما سُمّيت تسبيحًا لاشتمالها على القيام والقراءة، وتسمّى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله "سبح اسم ربك الأعلى" و"العظيم" -فهذه قد فُسِّرتْ بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله "فسبح بحمد ربك"، فان هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربّك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله "سبحان الله وبحمده".
والمصلي إذا حَمِدَ ربَّه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبَّح في الركوع والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبَّح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك.
وقد فَسَّر طائفة من السلف قوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (1) بالتسبيح بالكلام (2) ، وذكروا أنواعًا: التسبيح عند افتتاح الصلاة، والتسبيح عند القيام من المجلس، فروى ابن أبي حاتم (3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) قال: إذا أراد أن يقوم الرجل من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك. هكذا رواه وكيع، ورواه أبو نعيم وقبيصة فقالا: يقول سبحان الله وبحمده.
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "حين تقوم" قال: من كلّ مجلس.
وعن طلحة عن عطاء: حين تقوم من كل مجلس، إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ خيرًا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارةً له.
وقال طائفة: حين تقوم إلى الصلاة، وكذلك قال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة المفروضة، وكذلك قال ابن زيد: إذا قام إلى الصلاة من
__________
(1) سورة الطور: 48.
(2) انظر تفسير الطبري (22/27- 23) .
(3) لا يوجد النص في النسخة المطبوعة. ورواه أيضًا الطبري (27/22) .(3/293)
ليلى أو نهار، وفي رواية جُويبر عن الضحاك قال: هو قول الرجل إذا استفتح الصلاة "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك". وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك من فراشك. وعلى هذا فهو أمر بالصلاة إذا قام من فراشه من قائلة النهار، فهو أمر بصلاة الظهر والعصر.
و"إدبار النجوم" فسرها طائفة بركعتي الفجر (1) ، وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "وإدبار النجوم" قال ابن عباس: هو التسبيح أدبار الصلاة.
قلت: لعلَّ هذا تفسير لقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (2) ، فإنه أنسب.
وقد رُوِي عن طائفة من السلف (3) أن "أدبار السجود" الركعتان بعد المغرب، و"إدبار النجوم" ركعتا الفجر، فإحداهما تشتبه بالأخرى. فقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) ، إذا فُسِّر هذا بالتسبيح دُبُرَ الصلاة كان اللفظ دالاً على هذا. والسلف الذين فسّروها بهذا كأنهم -والله أعلم- أرادوا أن أولَ ما يُكتَب في صحيفة النهار ركعتا الفجر، وآخر ما يُرفع ركعتا المغرب، فقد رُوِي أنهما تُرفعان مع عمل النهار.
قلت: ولفظ التسبيح يتناول هذا كله، منه واجب ومنه مستحب.
(آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا) .
__________
(1) انظر تفسير الطبري (27/23- 24) و"الدر المنثور" (7/636) .
(2) سورة ق: 40.
(3) انظر تفسير الطبري (26/112- 113) وابن أبي حاتم (10/3310) .(3/294)
مسألة
في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟(3/295)
الذي يدلُّ عليه القراَنُ واللغةُ والاعتبار أن إخوةَ يوسف ليسوا بأنبياء، وليس في القرآن ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل ولا عن أصحابه خبرٌ بأن الله تعالى نبَّأهم. وإنما احتجّ من قال إنّهم نبِّئُوا بقوله في آيتي البقرة والنساء (وَاَلأَسْبَاطِ) (1) ، وفسّر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس المراد بهم أولادُه لصلبه بل ذُرِّيّتُه، كما يقال فيهم أيضا "بنو إسرائيل"، وكان في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل.
قال أبو سعيد الضرير: أصل السِّبْط شجرةٌ ملتفةٌ كثيرة الأغصان (2) .
فسُمُّوا الأسباطَ لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة، كذلك الأسباط كانوا من يعقوب. ومثل السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سِبْطَي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأسباط حفدة يعقوب ذَرارِي أبنائه الاثنَي عشر. وقال تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (3) ، فهذا صريحٌ في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، كلُ سِبْطٍ أمةٌ، لا أنهم بَنُوه الاثنا عشر. بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطًا، فالحال أن السِّبْطَ هم الجماعة من الناس.
ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يُرِد أنهم أولادُه لصلبه، بل أرادَ ذريتَه، كما يقال: بنو إسرائيل وبنو آدم. فتخصيصُ الآية ببنيه
__________
(1) سورة البقرة: 136، وسورة النساء: 163.
(2) انظر "لسان العرب" (سبط) .
(3) سورة الأعراف: 159- 160.(3/297)
لصلبه غلط، لا يدلُّ عليه اللفظُ ولا المعنى، ومن ادّعاه فقط أخطأ خطأً بيِّنًا (1) .
والصواب أيضًا أن كونهم أسباطًا إنما سُمُّوا به من عهد موسى للآية المتقدمة، ومن حينئذٍ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يُعرَف أنه كان فيهم نبيّ قبلَ موسى إلا يوسف. ومما يؤيِّد هذا أنّ الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) الآيات (2) ، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر الأسباط، فلو كان إخوةُ يوسف نُبِّئوا كما نبئَ يوسف لذُكِروا معه.
وأيضًا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة، وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (3) الآية، وقال في يوسف كذلك، وفي الحديث: "أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، نبيّ من نبي من نبي" (4) . فلو كانت إخوتُه أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو تعالى لما قصَّ قصَّةَ يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئا من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبةً باهرةً كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار. ولا ذكر سبحانه عن أحدٍ من الأنبياء -لا قبلَ النبوة ولا بعدها- أنه فعلَ مثلَ هذه الأمورِ العظيمة، من عقوق الوالد وقطيعةِ الرحم وإرقاقِ المسلم
__________
(1) سورة الأنعام: 84 وما بعدها.
(2) انظر من قال بذلك في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي (1/310) .
(3) سورة القصص: 14.
(4) أخرجه البخاري (3382، 3390، 4688) عن ابن عمر بنحوه.(3/298)
وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البيّن وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يَحْكِ شيئًا يناسب الاصطفاءَ والاختصاصَ الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف ما حكاه عن يوسف.
ثمّ إن القرآن يدلُّ على أنه لم يأتِ أهلَ مِصْرَ نبيٌّ قبلَ موسى سوى يوسف، لآية غافر (1) ، ولو كان من إخوة يوسف نبيٌّ لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار نبوته، فلما لم يكن ذلك عُلِمَ أنه لم يكن منهم نبيٌّ. فهذه وجوهٌ متعددة يُقوِّي بعضُها بعضًا.
وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضًا، وأوصىَ بنقله إلى الشام، فنقلَه موسى.
والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حَصَلَ من ظَنِّ أنهم هم الأسباط، وليس كذلك، إنما الأسباط ذرّيتهم الذين قُطِّعُوا أسباطًا من عهد موسى، كل سِبْطٍ أمة عظيمة. ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال: "ويعقوب وبنيه"، فإنه أوجز وأَبْيَنُ. واختير لفظ "الأسباط" على لفظ "بني إسرائيل" للإشارة إلى أن النبوة إنما حصلتْ فيهم من حينِ تقطيعِهم أسباطًا من عهد موسى. والله أعلم.
__________
(1) الآية 34.(3/299)
فتوى
في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته(3/301)
الحمد الله رب العالمين.
ما تقول أئمةُ الدين -رضي الله عنهم أجمعين، وجعلَهم عاملين بما عَلِمُوا، مخلصين مصيبين- في قراءة القرآن بما يُخرِجُه عن استقامتِه التي أجمعَ أئمةُ القراءةِ عليها، من تمطيطٍ أو ترجيعٍ بالألحان المُطْرِبة، أو ملك مُجمَعٍ على قَصْرِه، أو قَصْرٍ مُجْمَعٍ على مَدِّه، أو إظهار ما أُجْمِع على إدغامِه، أو إدْغامِ ما أُجْمِعَ على إظهارِه، أو تَشْدِيدِ ما أجمِعِ على تخفيفِه، أو تخفيفِ ما أُجمِعَ على تشديدِه، أو بما يُزِيلُ الحرف عن مَخْرجه أو صفتِه، وما أشبهَ ذلك مما يُعَانيه بعض القراء، هل تَجُوز تلك اَلقراءةُ؟ وهل يجوزُ سَماعُها أو استماعُها؟ فإن لم تَجُزْ فهل يَلزَمُ سامعَها أن يُنكِر على قارئها؟ فإن لَزِمَه وتَرَكَ فهل يأثَمُ؟ وإن أنكَر على قارئها، ولم يَقْبَل القارئُ، فهل يجب عليه شيء أم لا؟ أَفْتُونا مأجورين، رحمكم الله، والحمد لله وحده.
أجابَ شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية:
الحمد لله. الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع، كما كان يقرأه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ، فإن القراءةَ سنةٌ يأخذُها الآخر عن الأول.
وقد تنازع الناسُ في قراءةِ الألحانِ، منهم مَن كرهَها مطلقًا بل حَرَّمها، ومنهم من رخصَ فيها (1) ، وأعدلُ الأقوالِ فيها أنها إن كانت موافقةً لقراءة السَّلفِ كانت مشروعةً، وإن كانت من البدع المذمومة
__________
(1) انظر تفصيل القول في ذلك في "زاد المعاد" (1/466- 475) .(3/303)
نُهِيَ عنها. والسلفُ كانوا يحسِّنون القرآنَ بأصواتِهم من غيرِ أن يتكلفوا أوزانَ الغِناء، مثلَ ما كان أبو موسى الأشعري يَفعلُ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لقد أُوتِيَ هذا مِزْمازا من مَزاميرِ آلِ داودَ" (1) . وقال لأبي موسى الأشعري: "مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمعُ لقراءتِك"، فقال: لو علمتُ أنك تسمعُ لَحبَّرتُه لكَ تحبيرًا (2) . أي لحسَّنْتُه لك تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذَكِّرْنا ربَّنَا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون لقراءته.
وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زَيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم" (3) . وقال: "لَلّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلى الرجلِ الحسنِ الصوتِ بالقرآنِ من صاحبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه" (4) . وقال: "ليس منَّا من لم يَتَغَن بالقرآن" (5) .
وتفسيرُه عند الأكثرين كالشاْفعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تَحْسِيْن الصوتِ به. وقد فَسَّره ابن عيينة ووكيع وأبو عبيد على الاستغناء به. فإذا حَسَّنَ الرجلُ صوتَه بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري وغيره- فهذا حسن.
وأما ما أُحدِثَ بعدَهم من تكفُفِ القراءةِ على ألحانِ. الغناءِ فهذا
__________
(1) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أبو يعلى كما في "مجمع الزوائد" (7/170) ، قال الهيثمي: فيه خالد ابن نافع الأشعري، وهو ضعيف. وانظر "فتح الباري" (9/93) .
(3) أخرجه أحمد (4/283، 285، 296، 304) وأبو داود (1468) والنسائي (2/179، 180) وابن ماجه (1342) من حديث البراء بن عازب. وصححه ابن حبان والحاكم.
(4) أخرجه أحمد (6/19 و20) وابن ماجه (1340) من حديث فضالة بن عبيد.
(5) أخرجه البخاري (7527) عن أبي هريرة.(3/304)
يُنْهَى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يُورِثُ أن يَبقَى قلبُ القارئ مصروفًا إلى وزنِ اللفظ بميزان الغناءِ، لا يَتدبَّرهُ ولا يَعقِله، وأن يَبقَى المستمعون يُصغُون إليه لأجل الصوتِ الملحّن كما يُصْغَى إلى الغناء، لا لأجلِ استماعِ القرآن وفهمِه وتدبُّرِه والانتفاع به. والله سبحانه أعلم.(3/305)
رسالة في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إذا دَخَل أحدكم على أخيه المسلم فأطعَمه طعامًا
فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه"(3/307)
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وسلَّم تسليما.
روى الإمام أحمد في "مسنده" (1) : حدثنا حسين بن محمد، ثنا مسلم -يعني ابن خالد- عن زيد بن أسلم عن سُمَيّ عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمَه طعامًا، فليأكُلْ من طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابًا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه".
هذا حديث رواه مشهورون، ومسلم بن خالد الزنجي وثَّقه بعض الأئمة وضعَّفه بعضهم. وقد رُوِي هذا الحديث من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة (2) ، وقد رُوِي موقوفًا. وقد رأيت للشيخ أبي عمر بن عبد البر رسالةً (3) أملاها حين بلغَه -وهو بشاطبةَ- أن قومًا عابوه بأكلِ طعام السلاطين وقبول جوائزهم:
قُلْ لمن يُنكِر أَكْلِي لطعامِ الأمَراءِ
أنتَ من جهلِك هذا في مَحل السفهاءِ
لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من المسلمين والسلفِ الماضين هو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت
__________
(1) 2/1369. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في "مسنده" (6358) والحاكم في "المستدرك" (2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/126) من هذا الطريق.
(3) لم أجد لها ذكرًا ضمن مؤلفاته.(3/309)
-وكان من الراسخين في العلم- يَقْبَل جوائزَ معاويةَ وابنِه يزيد، وكان ابن عمر مع ورعه وفضله يَقبل هدايا صِهْرِه المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه ويأخذ جوائزه، وكان المختار غيرَ مختار.
وقال عبد الله بن مسعود -وكان قد مُلِئَ علمًا من قَرنِه إلى مشاعبه- لرجلٍ سأله فقال: إن لي جارًا يعمل الربا، ولا يجتنب في مكسبهَ الحرامَ، يدعوني إلى طعامِه إذا جئتُ، فقال: لك المَهْنَأ وعليه المأثمُ ما لم تعلم الشيء بعينه حرامًا.
وسئل عثمان بن عفان عن جوائز السلطان فقال: لَحمُ ظَبْيٍ ذكي.
وكان الشعبي -وهو من كبار التابعين وعلمائهم- يُؤدِّب بني عبد الملك بن مروان، ويَقبل جوائزَه، ويأكل طعامَه.
وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري -مع زهده وورعه- وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة -حاشا سعيد بن المسيّب- يقبلون جوائز السلاطين والأمراء. وقَبِل الحسنُ والشعبي جائزة ابن هبيرة لما سألهما عن حاله مع عبد الملك. وكان سفيان الثوري مع فضله وورعه يقول: جوائزُ السلطان أحبُّ إليَّ من صِلاتِ الإخوان، لأن الإخوان يَمُنُّون والسلطان لا يَمُنُّ.
ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبوابًا، ولأحمد بن خالد فقيهِ الأندلس وعالِمها في ذلك كتاب حَمَلَه على جَمْعِه ووَضْعه طَعْنُ أهلُ بلادِه عليه في قبوله جوائزَ عبد الرحمن الناصر إذْ نقلَه إلى المدينة بقرطبة، وأسكَنَه دارًا من دُورِ الجامع قُرْبَه، وأَجرى عليه الرزقَ من الطعام والشراب والإدام والناضّ. وله ولمثله في بيت(3/310)
المال حظٌّ، والمسئولُ عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله ابن مسعود: لكَ المَهْنَاُ وعليه المأثمُ لما لم تعلم الشيءَ بعيِنه حرامًا.
ومعنى قولِ ابن مسعود هذا قد اجتمع عليه العلماءُ ما لم تعلم الشيءَ بعينه حرامًا مأخوذًا من غير حبِّه، كالخبزة وشِبْهها من الطعام والثوب والدائة، وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المبيعة غصبًا أو سرقةً، أو مأخوذة بظلمٍ بَينٍ لا شبهةَ فيه، فهذا الذي لم يَختلِف أحدٌ في تحريمه وسقوطِ عدالة مستحل الحلّة وأخذه وتملكه، وما أعلمُ أحدًا من علماء التابعين تورَّع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة ومحمد بن سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلا بالورع، وسلك سبيلَهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهلُ الزهد والورع والتقشف رحمة اللهِ عليهم أجمعين.
والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يَحِل لمن وفَقه الله تعالى وزَهِد فيها أن يُحرم ما أباحَ اللهُ منها. والعجب من أهل زماننا يعيبون الشهواتِ وهم يستحلُّون المحرماتِ والمنكرات، ومثالُهم عندي كالذين سألوا عبدَ الله بن عمر عن المُحرِم يَقتُل القُرادَ والقملة، فقال للسائلين: مِن أين أنتم؟ فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونّي عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي؟!
وروى عبد الله بن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما أتاك من غيرِ مسألة فخُذْه، وتَموَّلْه" (1) .
وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناهُ (2) ،
__________
(1) أخرجه البخاري (1473، 7163، 7164) ومسلم (1045) .
(2) لم أجد حديثهما، وفي الباب عن غيرهما من الصحابة، انظر "مجمع الزوائد" (3/100-101) .(3/311)
وفي حديث أحدهما: "إنما هو رزقٌ رَزَقَه الله"، وفي لفظ بعض الرواة: "فلا تَرُدَّ على اللهِ رِزقَه".
وهذا كله عند أهل العلم مركَبٌ مبنيٌّ على ما أجمعوا عليه، وهو الحق فيمن عرفَ الشيءَ المحرَّم بعينه أنه لا يَحِلُّ له (1) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلّم تسليما.
__________
(1) انظر في هذا الموضوع: "فتح الباري" (3/338، 13/153-154) .(3/312)
جواب سؤال سائلٍ سألَ عن
حرف "لو"(3/313)
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الباهرُ البرهان، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوِله المبعوثُ إلى الإنس والجانّ، صلى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا يَرضى به الرحمن.
سألتَ -وفَقك الله- عن معنى حرف "لو"، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه" (1) على معناها المعروف؟ وذكرتَ أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابًا أوجبَ أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعةَ، مع بُعدِ عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس يَحضُرني الساعةَ ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير:
الجواب مرتبٌ على مقدمات:
إحداها: أن حرف "لو" المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن الشرط يقتضي جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سُمِّيَ المجموع شرطًا، وسُمّيَ أيضا جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كلّه ضروريٌّ لمن كان له عقلٌ وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن يُحصَر،
__________
(1) لم يثبت هذا عن عمر وإن اشتهر على لسان الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية. ورُوِي معناه من حديث عمر مرفوعاً في حق سالم مولى أبي حذيفة، ونصه كما في "الحلية" (1/177) : "إن سالمًا شديد الحبّ لله عز وجل، لو كان لا يخاف الله ما عصاه". وسنده ضعيف، انظر "المقاصد الحسنة": 449، و"الدرر المنتثرة": 196.(3/315)
كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) (1) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)) (2) ، (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) (3) ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4) ، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً) (5) ، (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) (6) .
الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطًا هو في المعنى سببٌ لوجود الجزاء، وهو الذي تُسمِّيه الفقهاءُ علّةً ومقتضيًا ومُوجِبًا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب معنوي. فتَفطَّنْ لهذا، فإنه موضع غَلِطَ فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه، وذلك أن الشرط في عُرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامتُه أنه يلزم من عَدَمِه عدمُ المشروط، ولا يلزم من وجودِه وجودُ المشروط.
ثمّ هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرطٌ لوجوب الصلاة، فإن وجوب الصلاة على العبد يتوقَّف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على الطهارة والستارة واستقبال
__________
(1) سورة النساء: 46.
(2) سورة النساء: 64.
(3) سورة الأنفال: 27.
(4) سورة الأنعام: 28.
(5) سورة التوبة: 47.
(6) سورة المائدة: 81.(3/316)
القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورًا خارجةً عن حقيقة الصلاة. ولهذا يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزءٌ من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارجٌ عنه، فإن الطهارة يلزم من عَدَمِها عدمُ صحةِ الصلاة، ولا يلزم من وجودِها وجودُ الصلاة.
وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما هو شرطٌ للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرطٌ للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير جدًّا، لكن الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يُجوِّز تخصيصَ العلَّةِ منهم، وأما من لا يُسمِّي علةً إلا ما استلزمَ من الحكم ولَزِمَ من وجودِها وجودُه على كل حالٍ، فهؤلاء يجعلون الشرطَ وعدمَ المانع من جملة أجزاء العلة.
وإلى (1) ما يُعرَفُ كونُه شرطًا بالعقل وإن دلَّ عليه دلائل أخرى، كقولهم: الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تُعرَف بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تُسمَّى هذه شروطًا عقلية، والأول شروطًا شرعية.
وقد يكون من هذه الشروط ما يُعرَف اشتراطُه بالعرف، ومنه ما يُعرَف باللغة، كما يُعرَف أن شرطَ المفعول وجودُ فاعلٍ، وإن لم
__________
(1) هذا القسم الثاني مما مضى في قول المؤلف: "هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع".(3/317)
يكن شرطُ الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعولِ المنصوبِ وجودُ فاعلٍ، ولا ينعكس. بل يلزم من وجودِ اسمٍ منصوب أو مخفوضٍ وجودُ مرفوعٍ، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوبٌ ولا مخفوضٌ، إذِ الاسمُ المرفوع -مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا- لابُدَّ منه في كل كلام عربي، سواءٌ كانت الجملة اسميَّةً أو فعليةً.
فقد تبيَّن أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدلُّ عدمُه. على عدمِ المشروط ما لم يَخْلُفْه شرط آخر، ولا يدلُّ ثبوتُه من حيث هو شرط على ثبوت المشروط.
وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلَّم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواءٌ كان المتكلم [نحويًّا] أو فقيهًا وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان وجودَ الشرط يقتضي وجودَ المشروط الذي هو الجزاء والجواب، وعدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط؟ مبنيٌّ على أن عدم العلَّة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أُومِئ إليه.
الخوف (1) لو فُرِضَ عَدَمُه لكان مع هذا العدم لا يَعصي الله، لأن تركَ المعصية له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه كان لا يُحسِنُ أن يَعصِيَ الله. فقد أخبرنا عنه أن عدمَ خوفِه لو فُرِضَ موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمورٍ أخرى: إمّا عدمُ مُقتَضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوف حاصلٌ.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل قبلها سقطًا. وهذا شرحٌ لمعنى الأثر.(3/318)
وهذا المعنى يفهمه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّع -إمّا في التعبير وإمّا في الفهم- اقتضى ذلك خَلَلاً إذا بَنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح رَدَّ الأشياءَ إلى أصولها، وقرَّر النظَر على معقولها، وبَيَّنَ حكمَ تلك القواعد وما وقعَ فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطةَ في الحدود والضوابط غير تحرير (1) .
ومنشأ الإشكالِ أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفي بعد "لو" مُثبَتٌ، والمثبتُ بعدها منفيٌّ، أو أن جواب "لو" منتفٍ أبدًا، وجواب "لولا" ثابت أبدًا، وأن "لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و"لولا" حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيرِه مطلقًا. فإن هذه العبارات إذا قُرِنَ بها "غالبًا" كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعَى أنّ هذا مُقتضَى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمر كما ذكرناه من أن "لو" حرف شرط تدلُّ على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيًّا فهي "لو" محضة، وإن كان الشرط عدميًّا مثل "لولا" و"لو لم" دَلَّتْ على انتفاء هذا العدم بثبوتِ نقيضِه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن العدمَ منتفٍ. وإذا كان عدمُ شيء سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيء لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلَّة المعينة، ومع انتفائها لوجود علة أخرى.
وإذا عرفتَ أنَّ مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأنَ
__________
(1) كذا في الأصل.(3/319)
فهمَ نَفْي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفهَم باللزوم العقلي أو العادة الغالبة، وعَطَفْتَ على ما ذكرتُه من المقدمات زالَ الإشكالُ بالكلية.
وكان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانا على ثبوته: إمّا بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكن جَعْل اللفظ حقيقةً في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغًا في الجملة، فإنّ الناس ما زالوا يختلفون في كثيرٍ من معاني الحروف: هل هي مَقولةٌ بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد بطلانَه ظَنُّ ظانٍّ ظَنَّ أنْ لا معنى لـ "لو" إلا عدمُ الجزاء والشرط، فإن هذا ليس بمستقيم البتَّةَ. والله سبحانه أعلم.(3/320)
فصل
في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع(3/321)
هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد ابن حزم.
قال أبو محمد ابن حزم في كتابه المصنَّف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يُرجَع إليه ويُفزَع نحوه ويُكفَّر من خالفَه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنّا أمَّلنا بعون الله أن نجمع المسائل التي صحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء.
إلى أن قال: وقد أدخَلَ قومٌ في الإجماع ما ليس فيه، فقومٌ عدُّوا قولَ الأكثر إجماعًا، وقومٌ عدُّوا مالا يعرفون فيه خلافًا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عدُّوا قولَ الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا إجماعًا، وقومٌ عدُّوا اتفاقَ العصر الثاني على أحد القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعًا.
قال: وكلُّ هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادِها أنهم يتركون في كثيرٍ من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماعٌ. وإنما نَحَوْا في تسمية ما وصفنا إجماعًا عنادًا منهم وشغبًا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى تركِ اختياراتهم الفاسدة.
قال: وأيضًا فإنهم لا يُكفِّرون من خالفَهم في هذه المعاني، ومن شرطِ الإجماع الصحيح أن يُكفَّر من خالفَه بلا اختلافٍ من أحدٍ من المسلمين في ذلك، فلو كان ما ذكروه إجماعًا لكُفِّر مخالفوهم، بل(3/323)
لكَفَّروهم لأنهم يخالفونها كثيرًا.
قلت: أهلُ العلم والدين لا يُعاندون، ولكن قد يعتقد أحدهم إجماعًا ما ليس بإجماعٍ، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارةً يكون هناك نصٌّ لم يَبلُغْ أحدَهم، وتارةً يعتقد أحدهم وجودَ نصٍّ ويكون ضعيفًا أو منسوخًا.
وأيضًا فما وصفهم هو به قد اتصفَ هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر في هذا الكتاب أنه إجماع.
وكذلك ما ألزمَهم إيَّاه من تكفير المخالف غيرُ لازمٍ، فإن كثيرًا من العلماء لا يُكفِّرون مخالفَ الإجماع، وقوله "إن مخالفَ الإجماع يُكفَّر بلا اختلاف من أحدٍ من المسلمين" هو من هذا الباب. فلعلَّه لم يبلغه الخلافُ في ذلك، مع أن الخلاف في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظَّام نفسُه المخالف في كون الإجماع حجةً لا يُكفِّره ابن حزم والناس أيضًا. فمن كفَّر مخالفَ الإجماع إنما يكفِّره إذا بلغَه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرًا من الناس. وكثير من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إمّا أنّه ظنّي ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقادِه انتفاءَ شروطِ الإجماع.
وأيضًا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يُحتَجّ به؟ كالإجماع الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين للعصر الأول، والإجماع الذي خالفَ فيه بعضُ أهلِه قبلَ انقراضِ عصرِهم، فإنه مبني على انقراض العصر، بل(3/324)
هو شرطٌ في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعُهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع الذي يجب اتباعُهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يُحتَجُّ به، كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبيَّن به بعضُ أعذارِ العلماء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقومٌ قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال قومٌ: إجماع كل عصرٍ إجماعٌ صحيح إذا لم يتقدم قبلَه في تلك المسألة خلافٌ. وهذا هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركِ ما أصَّلُوه له.
إلى أن قال: وصفة الإجماع ما تيقَّنَ أنه لا خلافَ فيه بين أحدٍ من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهرًا، ثم ملكَ بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفِّين والحرَّة، وسائر ذلك مما يُعلَم بيقينٍ وضرورة.
وقال: إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالفَ فيه البتَّةَ، الذي يُعلَم كما يُعلَم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأنَّ شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان، وأنَّ هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحيٌ من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوهِ نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كلّ ما جرَّبه من أحوال دنياه وجدَه ثابتًا مستقرًّا في نفسه.(3/325)
وقال أيضًا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كلُّ ما كتبنا فهو يقين لاشكَّ فيه، متيقّنٌ لا يحل لأحدِ خلافُه البتَّةَ.
قلت: فقد اشترطَ في الإجماع ما يشترطُه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترًا. وجَعَلَ العلم بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبًا من هذا الوصف، فضلاً عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلافٌ معروف، وفيها ما هو نفسُه يُنكِر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف!
وقد قال: إنما نعني بقولنا "العلماء" من حُفِظ عنه الفُتيا.
وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضُّؤ بشيء من المائعات وغيرِها حاشا الماء والنبيذ.
قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله- أنه يُجزئ الوضوء بالمعتصَر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصمّ، لكنّ الأصمّ ليس ممن يعدُّه ابن حزم في الإجماع.
وقال: وأما الماء الجاري فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تَظهر فيه نجاسة.
قلت: الشافعي في الجديد من قولَيْه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري كالراكد في اعتبار القُلَّتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم تظهر فيه.(3/326)
وقال: واتفقوا على أنّ غَسْلَ الذراعين إلى منتهى المرفقين فرض في الوضوء.
قلت: وزفر يخالف في وجوب غَسْلِ المرفقين. وحُكِي ذلك عن داود وبعض المالكية، اللهمّ إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكفّ.
قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعامًا أو رجيعًا أو نجسًا أو جلدًا أو عظمًا أو فحمًا أو حممةً جائز. قلت: في جواز الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا يُجزِئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر ابن المنذر وأبي بكر عبد العزيز.
قال: واتفقوا على أن كل إناءٍ لم يكن فضةً ولا ذهبًا ولا صُفْرًا ولا رصاصًا ولا نُحاسًا ولا مغصوبًا ولا إناءَ كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يُؤكل لحمُه وإن ذُكِّي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك.
قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه، فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان.
قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأتِ الطهرَ ما لم تَغسِل فرجَها أو تتوضأ فوطؤُها حرام.
قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمُها لأكثر الحيض أو مرَّ عليها وقتُ صلاةٍ جاز وطؤُها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تَغسِل فرجَها.
قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يَحِلُّ تأخيرها عمدًا عن(3/327)
وقتها عن العاقل البالغ بعذرٍ أصلاً، وأنها تُؤدَّى على قدر طاقة المرء من جلوسٍ واضطجاع، بإيماءٍ وكيفَ أمكنه.
قلت: النزاع معروف في صور، منها حالُ المسايفة، فأبو حنيفة يُوجِب التأخير، وأحمد في إحدى الروايتين يُجوِّزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين فَّيَ مذهب مالك أنه لا يُصلِّي، رواه معنٌ عن مالك، وهو قول أصبغ، وحُكِيَ ذلك قولاً للشافعي ورواية عن أحمد. وهؤلاء في الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة.
قال: واتفقوا على أن المرأة لا تَؤُمُّ الرِّجالَ وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتُهم فاسدة لا بالإجماع. قال: ورُوِي عن أشهب أن من ائتمَّ بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم عَلِم، فصلاتُه تامَّةٌ، وكذا من ائتمَّ بكافرٍ وهو لا يعلم أنه كافر.
قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان.
قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرضٌ.
قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهِه وركبتيه أجزأه.
قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تُفسِد الصلاةَ.(3/328)
قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي.
قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كلّ مكانٍ، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانًا فيه نجاسة، أو حمامًا أو مقبرة أو إلى قبرٍ أو عليه، أو مكانا مغصوبًا يَقدِر على مفارقته، أو مكانًا يُستهزَأ فيه بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيًا.
قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعةِ الطريق لا تصحُّ في المشهور عند كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحُشّ كذلك عند جمهورِهم، وإن صلَّى في مكانٍ طاهرٍ منه.
قال: واتفقوا أن صلاةَ العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضًا، وكذلك التهجد على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: العيدان فرضٌ على الكفاية في ظاهرِ مذهب أحمد، وحُكِي عن أبي حنيفة أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب شاة، وهو قول في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن كلَّ صلاةٍ ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما نذره المرء ليست فرضًا.
قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاعٌ معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام الحيّ وركعتي الفجر والكسوف.
قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسةَ الوسطى من صلاةِ الظهر والعصر والمغرب والعتمة ساهيًا، أن عليه سجدتي السهو.(3/329)
قلت: الشافعي لا يُوجِب سجودَ السهو.
قال: واتفقوا أنّ في كلّ مائتي درهمٍ خمسةَ دراهم، ما لم يكن حُلِيَّ امرأةٍ أو حِليةَ سيفٍ أو منطقة أو مصحفًا أو خاتمًا.
قلت: النزاع في كلّ حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة في مذهب أحمد وغيرِه. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز أربعةَ أصابع مباحٌ في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كلّه كحلية السيف في إحدى الروايتين عنه.
وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية.
قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة.
قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يُجزِئ الوقوف قبل الزوال وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دمٌ، كما لو أفاض قبل الغروب.
وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه من فَعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامِه شيئًا عامدًا أو ناسيًا أنه لا يَبطُل حجُّه ولا إحرامُه. واتفقوا أن من جادلَ في الحج فإن حجَّه لا يَبطُل ولا إحرامُه. واختلفوا فيمن قَتَلَ صيدًا متعمدًا، فقال مجاهد: بَطَلَ حجُّه وعليه الهدي.
قلت: وقد اختار في كتابه (1) ضدَّ هذا، وأنكرَ على من ادَّعى هذا الإجماعَ الذي حكاه هنا، فقال: الجدالُ بالباطل وفي الباطل عمدًا
__________
(1) المحلى (7/186) .(3/330)
ذاكرًا لإحرامه مُبطِلٌ لإحرامِه والحج، بقوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) . وقال: كلُّ نسوقٍ تعمَّده المحرمُ ذاكرًا فقد أبطل إحرامه وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) .
قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم يُبطِلوه بالفسوق. وقال: كلُّ من تعمَّد معصيةً أيَّ معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ يُحرِم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد بَطَل حجُّه. قال: وأعجبُ شيء دعواهم الإجماع على هذا.
قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه.
قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أدَّاه بمكة أجزأه، واختلفوا فيمن أدَّى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا أنه لا يُجزئ إلا بمكة.
قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يُجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة. وكذلك عندهما تفرقة اللحم تُجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم، وأوجبوا تفرقتَه في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك.
قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي الحجة وقتٌ لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخَّره عن أيام منًى جاز في مذهب الشافعي وأحمد
__________
(1) سورة البقرة: 197.(3/331)
والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نُقِل عن مالك.
وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخَّره إلى ثالث أيام التشريق لزمَه دمٌ -وهو قولٌ مخرَّجٌ في مذهب أحمد- وإن أخَّره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا عند مالك، فإنه عليه دمٌ. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمَه، ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه، بل على من تركَها دمٌ، ولا يُجزِئُ رميُها بعد ذلك.
قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرضٌ على المُحْصَر.
قلت: قد نَقل غير واحدٍ عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور من مذهب مالك.
قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمِه دون أن يُحلِّفه حاكم أو مَن حكَّماه على أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب.
قلتُ: قد نَصَّ أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمِه فحلف له، لم يكن له مطالبته باليمين بعد ذلك.
قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحدٍ، فرض عليه أداء الحق إلى من هو له عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أيامًا هو ومن تلزمه نفقته.
قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من مالِه ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهرُ مذهب أحمد أيضًا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك له ما يتجر به لقُوتِه وقوتِ عياله، وإن كان ذا حرفةٍ ترك له آلة حرفته. وقد نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يُباعُ عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من ثيابه والخادم، إن كان(3/332)
شيخًا كبيرًا أو زَمِنًا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين.
قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحِها، ولا على أن يطأها وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح.
قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن سيّدها يستمتع بها، وإلاّ لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تَحِلُّ له، وكذلك مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحلّ له فهل يلزمُه إجابتُها- على وجهين.
قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلالٌ، إذا كانت العدة في غير رجعية أو كانت من وفاةٍ.
قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثةُ أوجه في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث، لأنها محرَّمة على زوجها، وكذلك كل محرَّمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك، لإمكان عودِها إليه، وهو أحد قولي الشافعي.
قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إن وافقَ وقتَ طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائلٍ الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاقٍ أن الطلاق قد وقع.
قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرجَ مخرجَ اليمين أيلزمُ أم لا؟(3/333)
قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: "طلاق" وما تصرَّف من هجائه مما يُفهم معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقةً واحدةً سنيةً لزمتْه كما قدمنا.
قال: ولا نعلم خلافًا في أن من طلق ولم يُشهِد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا نقطع على أنه إجماع.
قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين (1) ، وذكر أن المؤجل والمعلَّق بصفةٍ -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع بالاتفاق.
وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه "شرح المجلَّى" (2) خلافَ هذا، وأنكر على من ادَّعى الإجماعَ في ذلك. وكذلك اختار (3) أن الطلاق بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادَّعى إجماعًا في هذا وهذا وهذا، كما هو عادتُه في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يُدَّعَى فيه الإجماع، لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامةِ العلماء، وينكر أنه إجماع، كدعواه وجوبَ الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما (4) ، ودعواه وجوبَ الدعاء في التشهد
__________
(1) في الأصل: "قولان".
(2) أي "المحلّى" (10/213) .
(3) "المحلّى" (10/186) .
(4) "المحلَّى" (3/196) .(3/334)
الأول (1) بقوله "اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (2) .
ونحو ذلك مما يُعلم فيه الإجماع أظهر مما يُعلَم في أكثر ما حكاه. بل إذا قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يُشرَع في التشهد الأول، كان هذا من الإجماعات المقبولة، فضلاً عن أن يقول أحدٌ: إن هذا الدعاء واجبٌ فيه، وإن صلاة من لم يَدْعُ فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه، وكان طاووس يأمر من لم يدعُ بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن عدة الحرَّة المسلمة المطلقة التي ليست حاملاً ولا مستريبةً، وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهّم منها= ثلاثة أشهر متصلة.
قلت: من بلغتْ من سِن المحيض ولم تَحِضْ، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند أصحابه أنها تعتدُّ عدَّةَ المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع حيضُها لا تدري ما رفعه.
قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز استقراض الرقيق والجواري والحيوان.
قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك فأبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثلَ له عنده، فالنزاع فيه كالنزاع في الحيوان.
__________
(1) المصدر نفسه (3/271) .
(2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي هريرة. وأخرجه مسلم (590) أيضًا من حديث ابن عباس.(3/335)
قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببرّ ولا معصية ولا تضييعًا للمال جائزة.
قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب أحمد وغيرِه، والصحيح أن ذلك لا يصحّ، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلاّ فبذلُه بما ليس بطاعة ولا معصية لا ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفِه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس، فإنه ينتفع بذلك.
وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطَى -يعني من يُقبل منه الجزية عن نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط الذمة، فقد حرم دمُ من وفَى بذلك ومالُه وأهله وظلُمه.
قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ [قولان] ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم.
قال: واتفقوا أنه لا ينفَّل من ساق مغنمًا أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج.
قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من فَعَل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعًا، ويمكن أن يُحمل كلام أبي محمد ابن حزم على هذا، فلا يكون فيما ذكره نزاع.
قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران، إذا أمّن(3/336)
أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على الجلاء، أو أمّن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا.
قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصحُّ عقدُ الذمَّة إلا من الإمام أو نائبه. وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصحّ من كلّ مسلم كما ذكره ابن حزم.
قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسَل منهم، فإن الحكم الذي عقده أجدادُهم -وإن بعدوا- جارٍ على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم.
قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يُستأنف له العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يُحتاج إلى استئناف عقد، كقول الجمهور.
قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقتٍ واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكانٍ واحد.
قلتُ: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرّامية وغيرِهم جواز ذلك، وأن عليَّا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاَّ منهما ينفذ حكمه في أهلِ ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كلٌّ من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إْمّا أن تُسالِمَ(3/337)
الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررُها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء.
قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلاً، ولم يتقدم بيعتَه بيعةٌ أخرى لإنسانٍ حيّ، وقام عليه من دونَه، أن قتال الآخر واجبٌ.
قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلامٌ يُنقَل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، إلا أن يكون في قصة عليّ ومعاوية. ومعلومٌ أن أكثر علماء الصحابة لم يَرَوا القتالَ مع واحدٍ منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف.
وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاقَ على جوازِه لخلاف الزيدية، هل تجوز إمامة غير علويّ أم لا؟ وإن كنا مُخَطِّئين لهم في ذلك ومعتقدين صحةَ بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فِهْر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بذٌ في صفة الإجماع الجاري عند الكلّ مما ذكرنا.
قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخالِ الزيدية في الخلاف وفتحِ هذا الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) نزاعًا في ذلك، وأن طائفة ادَّعت النصَّ على العباس، وطائفة ادَّعت النصَّ على عمر.
قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر.
__________
(1) "الفصل" (4/75) .(3/338)
قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء.
قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، أنه لا يُؤكَل.
قلت: هذا فيه نزاعٌ معروف، فمذهب طائفة أنه يُلقَى ما قرب منها ويُؤكل، سواء كان جامدًا أو مائعًا. قال البخاري في صحيحه (1) : باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدِّث عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتْ في سمنٍ فماتت، فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها فقال: "ألقوها وما حولها، وكُلُوه". قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدِّثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعتُ الزهريَّ يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد سمعتُه منه مرارًا.
حدثنا عبدان (2) حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغَنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بفأرة ماتت في سمنٍ، فأمر بما قَرُبَ فطُرِحَ، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة.
وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه.
وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارةً عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن
__________
(1) 9/667 وما بعدها (مع الفتح) .
(2) في الأصل: "عبد الرزاق"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري.(3/339)
كان مائعًا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب عن معمر فيه.
وظنَّ طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبَّته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري.
وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعلَّلوا حديثَ معمر وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم (1) . فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعتُه من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: "وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟.
وروى صالح بن أحمد في "مسائله" (2) عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سُئِل عن فارة ماتت في سمن، قال: تُؤخذ الفأرة وما حولَها.
قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كلِّه، قال: عضضتَ بِهَنِ أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت.
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جَرٍّ فيه زيت وقعَ
__________
(1) انظر الكلام على هذا الحديث في "فتح الباري" (9/668- 669) .
(2) لم نجد النصوص المقتبسة منه في مطبوعته، فإنها ناقصة الأول والآخر.(3/340)
فيه جروٌ، فقال: خذه وما حوله، فالقِه وكُلْه.
ورُوِي نحو ذلك عن ابن مسعود -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا يُنَجِّسه يسيرُ النَّجاسة، بل هو كالماء.
قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي السمن الجامد وفي كل شيء جامد.
قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها.
واختلفوا أيلزمُه لذلك كفَّارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس معلَّقا بصفةٍ، وفي النذر الخارج مخرجَ اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارةٌ أم لا؟
قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعةَ فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه.
قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركَه كالنزاع في نذر المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفَّارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين.
قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسِه ظلمًا -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدًا إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحلّ عدوُّ المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني مال فلانٍ، أو أعطوني فلانًا، وهو لا حق له عنده بحًكم دين الإسلام. أو قال: أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحلُّ في دين الإسلام، فإنه لا خلاف بين أحدٍ من المسلمين في أنه لا يُجابُ إلى ذلك، وإن كان في منعه اصطلام الجميع.(3/341)
قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعًا كثيرة ليس مستنده نقلاً في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن مثل هذا ظلم محرَّم لا يُبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاعٌ وتفصيل. كما لو تَترَّس الكفارُ بأسرَى المسلمين وخِيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصدِ الكفار، وإن أفضَى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يُخشَ على جيش المسلمين ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكرهَ رجلٌ رجلاً على إتلاف مال غيره، وإن لم يُتلِفه قَتَلَه، جاز له إتلافه بشرط الضمان. والعدوّ المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدوّ، فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة.
وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرِف انتقاضُها، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعًا، وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبزُّزِه في ذلك على غيرِه، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابدّ(3/342)
لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدمَ المنازع فقد قَفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل.
وقد ختم الكتاب ببابٍ من الإجماع في الاعتقادات، فكفَّر من خالفه، فقال: اتفقوا أنَّ الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق.
قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج وطوائف من أهل الحديث والفقه نُسِبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفّر هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا.
وأيضا فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) أن الصحابة وأئمة الفتيا لا يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فُتيا. وإن كان
__________
(1) "الفصل" (3/144) .(3/343)
أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاعُ في كل منهما.
وأعجب من ذلك حكايته الإجماعَ على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحدَه ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل الذي في الصحيح (1) عنه حديث عمران بن حصين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض"، وفي لفظ: "ثم خلق السماوات والأرض". ورُوِي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ (2) : رُوِي "كان الله ولا شيء قبله"، ورُوِي "ولا شيء غيره"، ورُوِي "ولا شيء معه" (3) ، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال واحدًا من هذه الألفاظ، والآخران رُوِيا بالمعنى. وحينئذٍ فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح (4) أنه كان يقول في دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". فقوله
__________
(1) البخاري (3191، 7418) .
(2) بل باللفظين الأولين فقط في الموضعين.
(3) هذا اللفظ في رواية غير البخاري. انظر "الفتح" (6/289) .
(4) مسلم (2713) عن أبي هريرة.(3/344)
في هذا "أنت الأول فليس قبلك شيء" يناسب قوله "كان الله ولا شيء قبله". وقد بُسِط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع (1) .
والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات.
فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصًّا فيما ذكر فليس هو متواترًا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف يُدَّعَى فيها الإجماعُ ويُدَّعَى الإجماعُ على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بيَّنه في القرآن، وهو أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع (2) . فإذا ادَّعى المدَّعي الإجماعَ على هذا وتكفيرِ من خالف هذا كان قولُه متوجِّهًا. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما ينفي وجودَ مخلوقٍ قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادةٍ كانت قبلهما، كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجنّ، وإنما خلق الإنسان من مادَّة وهي الصلصال كالفخَّار، وخلق الجانّ من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذي لا يُعلَم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشُه على الماء قبل ذلك، فكان العرشُ موجودًا قبل ذلك، وكان الماء موجودًا قبل ذلك.
__________
(1) للمؤلف كتاب مستقل في شرح هذا الحديث، وهو ضمن "مجموع الفتاوى" (18/210-243) .
(2) في سبعة مواضع أولها في سورة الأعراف: 54.(3/345)
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء".
وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض: (ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)) (2) .
وثبت عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق السماء من بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدِّقها ما يُخبِر به أهلُ الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)) (3) . ونظائر ذلك في القرآن.
وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان:
طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنُّوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يُخلَقا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه خلق الإنسان والجانَّ من مادَّةٍ ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقًا لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من
__________
(1) برقم (2653) .
(2) سورة فصلت: 11.
(3) سورة الرعد: 43.(3/346)
حال إلى حالٍ. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بُسِط في موضعه، فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهدْ خلقَ عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهرَ المنفردة، ثم الخلقُ بعد ذلك إنما هو إحداث أعراضٍ قائمة بها.
وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنَّ ما حصل عن غيره بغير اختيارٍ منه فقد تولَّد عنه، لاسيَّما إن كان حيًّا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال.
فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفرِ من قال بقولهم، كان قولاً متوجهًا، فإنه قد عُلِم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادَّعى أن الصانعَ لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعًا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الربّ قادرًا على الفعل أو الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرًا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلومٌ عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن ظنّ من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلُّوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع والعقل.(3/347)
وقد بُسِط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1) ، وذُكِر منشأ غلط الطائفتين حيث لم يُفرِّقوا بين النوع والعين، وذُكِر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضًا، وإن كل ما سوى الله مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلاً باطل شرعًا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق علَّة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطلٌ عقلاً وشرعًا، وموجبةٌ أنه يمتنع ضرورة وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنةُ معلولها بها، بل قد بُيِّن أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطلٌ، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء.
وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ينافي فعلَه بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه من أن ذاتًا مجرَّدة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلاً وسمعًا، فإنّ إثباتَ ذاتٍ مجردةٍ عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مجردٍ عن جميع القيود أو مقيدٍ بالسلوب لا يختص بأمر وجودي مما لا يمكن تحقُّقه في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن كما يقدِّر سائرَ
__________
(1) انظر "شرح حديث عمران بن حصين" الذي سبق ذكره، وانظر "منهاج السنة" (1/360 وما بعدها) و"درء التعارض" (8/287- 290) .(3/348)
الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة واللذيذ والملتذّ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بُسِط الكلام على فسادِها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاوٍ باطلة.
والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعضُ الناس من الإجماع لنوع من الاشتباه، فيظنُّ أمورًا داخلةً في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظنّ أمورًا خارجةً عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يُدخلونه في نصوص الكتاب والسنة وفيما يُخرِجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورًا مختلفةً فيها، وإذا نُظِر إلى مستندهم في الخلاف وُجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظٌ مجمل، وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارةً، كما يقع مثل ذلك فيما ينقلونه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغلط، ويكون قد نشأ من الإسناد تارةً ومن فَهْمِ المتن تارةً. والله سبحانه أعلم.(3/349)
رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفتْ منه(3/351)
فصل
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:
اعلم أن الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ، فأعظم أقوالها القرآن،
وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ. وأول ما أنزله الله من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (19)) (1) ، وختمها بقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (1)) (2) ،
فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادةً مستقلَّةً، فالقراءة في نفسها عبادةٌ مطلقًا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قولٍ.
فالتلاوة الخاصة سبب السجود.
وقد ذكر الله الركوعَ والسجودَ في مواضع، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3) ، فهذا أمرٌ بهما. وقال تعالى:
(تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (4) ، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظمًا لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام والتسبيح والسجود المجرد، وهو من باب التعبير بالبعضِ عن الجميع، وهو دليلٌ على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني إسرائيل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (5) ، فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويُشبِهُ -والله أعلمُ- أن يكون فيه معنيان:
__________
(1) سورة العلق: 1.
(2) الآية 19.
(3) سورة الحج: 77.
(4) سورة الفتح: 29.
(5) سورة البقرة: 43.(3/353)
أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون ذلك من نفس الصلاة.
الثاني: أن قوله (مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) أمرٌ بصلاة الجماعة، ودَل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركًا للركعة، فإذا ركعَ معهم فقد فعلَ بقيةَ الأفعال معهم، وما قبلَ الركوع من القيام لا يجب فعلُه معهم، فما بعده لازم. بخلاف مالو قال "قوموا" أو "اسجدوا" لم يدلَّ على ذلك.
وقال لمريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (1) قد يكون أمرًا لها بصلاةِ الجماعة -وإن كانت امرأةً- لأنها كانت محرَّرةً منذورةً لله عاكفةً في المسجد. وقال تعالى: (وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2) ، قد قيل: إنه السجود. وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)) (3) .
وذكر السجود والقيام في قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (4) ، وفي قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً (64)) (5) .
وذكر السجود في قوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (6) ، وفي قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)) (7) ، وقوله: (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ
__________
(1) سورة آل عمران: 43.
(2) سورة ص: 24.
(3) سورة المرسلات: 48.
(4) سورة الفرقان: 64.
(5) سورة الزمر: 9.
(6) سورة العلق: 19.
(7) سورة القلم: 42-43.(3/354)
سُجَّداً) (1) ، وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)) (2) ، وقوله: (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (3) ، وقوله: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) (4) ..
وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)) (5) ، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)) (6) ، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) (7) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107)) (8) الآية، وقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)) (9) ، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ) (10) الآية، وقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (11) ، وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ
__________
(1) سورة النساء: 154.
(2) سورة الحجر: 98.
(3) سورة ق: 40.
(4) سورة النساء: 102.
(5) سورة الأعراف: 206.
(6) سورة الرعد: 15.
(7) سورة النحل: 49- 50.
(8) سورة الإسراء: 107.
(9) سورة مريم: 58.
(10) سورة الحج: 18.
(11) سورة الحج: 77.(3/355)
نُفُوراً (60)) (1) ، وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) (2) ، وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (3) ، وقوله: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (4) الآية. وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (5) ، وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (6) ، وقوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7) .
فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في الأعراف سجودُ الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعًا وكرهًا، وفي النحل المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يَعُمَّ بني آدم. وسجود الكائناتِ مطلقًا ليس بمقيَّدٍ بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن المؤمن داخل في ذلك أو متشبِّه بصاحبه. وقوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) (8) الآية وقوله (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ) (9) خبرٌ عن سجودٍ بسبب التلاوة، فأمرٌ بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (10) ، وقوله
__________
(1) سورة الفرقان: 60.
(2) سورة النمل: 25.
(3) سورة السجدة: 15.
(4) سورة فصلت: 37.
(5) سورة النجم: 62.
(6) سورة الانشقاق: 21.
(7) سورة العلق: 19.
(8) سورة الإسراء: 107.
(9) سورة مريم: 58.
(10) سورة الانشقاق: 21.(3/356)
(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (1) ، وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (2) نهيٌ عن السجود لغير الله مطلقًا وأمرٌ بالسجود له، فشرع السجود المقابل للمنهيّ عنه. وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60)) (3) ، فأخبر عن امتناع الكافر عن السجود مطلقًا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق.
وأما قوله (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (4) فلا ريبَ أنّ هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك جرى فيه النزاعُ، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) (5) ، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرًا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (6) وقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7) ، وذلك سجود الصلاة، فقيل: هو مختصّ به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببًا، كما أن آيات التلاوة والسجود تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن.
فصل
ولما كَثُر ذِكر السجود في القرآن، تارةً أمرًا به، وتارةً ذمًّا لمن
__________
(1) سورة النمل: 24.
(2) سورة فصلت: 37.
(3) سورة الفرقان: 60.
(6) سورة الحج: 77.
(7) سورة آل عمران: 43.
(8) سورة النجم: 62.
(9) سورة العلق: 19.(3/357)
يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارًا عن سجود عُظماء الخليقة وعمومهم، كان ذلك دليلاً على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضعَ الصلاة سُمِّيتْ به، فقيل "مسجد"، ولم يُقَل "مقام" ولا "مركع"، لوجهين:
أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر.
والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رِجلين. وأما الركوع فسِيَّانِ نسبةُ الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل "مسجد"، وهو موضع السجود دون موضع الركوع. والركوع نصف سجود، والسجود شرِعَ مَثنَى مَثنَى، في كل ركعة سجدتان، ولم يُشرَع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جُعِل أيضًا مثنى، وهو سجدتا السهو. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسميهما "المرغمتين"، وقال في الشك: "إن كانت صلاتُه وِترًا شَفَعَتَا له صلاته، وإن كانت تامَّة كانتا ترغيمًا للشيطان" (1) . فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة هما السجدتان.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعَك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً" (2) . وقال: "أَعنِّي على نفسك بكثرة السجود" (3) . وقال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه مسلم (488) عن ثوبان.
(3) أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي.
(4) أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة.(3/358)
ولمّا كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعةٍ السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعةٍ، فتصير وترًا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:إ إذا أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تَعدُّوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك" (1) ، كما قال: "الحج عرفة" (2) ، فمن أدرك عرفةَ فقد أدرك الحج، ومن فاتَه التعريفُ فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركًا للحج، لكن يكون متحللاً بعمرةٍ أو عَمِلَ عمرةً.
ولهذا قيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (3) ، فالركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه، وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخٌ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله، وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجودُ عن قيامٍ، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفضُ من القيام تكميل للسجود. ولهذا هو ركنٌ تامٌّ كما جاءت به السنة، وليس معادلتُه لبقيَّةِ الأركان -كما كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "لا يقبل الله صلاةَ من لا يُقيمُ صلبَه في الركوع والسجود" (4) - لعدم تكميلها، فإنه أيضًا إذا لم يُقِم صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعِها ولا الثانية بخفضِها.
فالسجود إذًا شُرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبًا من
__________
(1) أخرجه أبو داود (893) عن أبي هريرة، ورواه أيضًا ابن خزيمة (3/57- 58) والدارقطني (1/346- 347) والبيهقي (2/89) وضعفاه.
(2) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889، 890) والنسائي (5/256) وابن ماجه (3015) عن عبد الرحمن بن يعمر الديلى.
(3) سورة البقرة: 43.
(4) أخرجه أحمد (4/119، 122) وأبو داود (855) والترمذي (265) والنسائي (2/183) وابن ماجه (870) عن أبي مسعود الأنصاري.(3/359)
الأرض وأَلْصَقَه فليس هذا بسجود.
ومن هنا غَلِطَ من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنينِ طويلينِ، لما ظنّوا أن المقصود مجرَّد الفضل، والصواب ما جاءت به السنّةُ إيجابًا للاعتدال واستحبابًا لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعًا (1) من بعض الوجوه فالقعودُ في آخر الصلاة أيضًا تابعٌ من بعض الوجوه للسجود، وإنما المقصود المحض: القيامُ المشتمل على القراءة المقصودة، والسجودُ الذي هو غاية الخضوع، كما قال: (سَاجِداً وَقَائِماً) (2) . فإذا كان بعضُ أركان الصلاة الفعلية أفضلَ من بعضٍ وأبلغَ في كونه مقصودًا لم يمنع إيجاب التابع المفضول، كالركعتين الأخْريَين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة.
وحرف المسألة أنّ إتمامَ الأركان فرضٌ، ولا يَتمُّ إلا بذلك، وإتمامُ الصلاة من إقامتها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (3) -فالخوف يُبيح قَصْرَ الأفعال والسفرُ قَصْرَ الأعداد- دليلٌ على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (4) ، وإتمامُها من إقامتها كما جاءت به السنة، حيث قال للمسيىء في صلاته: "ارجِعْ فصَلِّ، فإنك لم تُصلِّ"، وقال: "فإذا فعلتَ هذا فقد تمت صلاتك" (5) ، فجعلَ من لم يُتمها لم يُصلِّ. والله سبحانه أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل بالإفراد.
(2) سورة الزمر: 9.
(3) سورة النساء: 101.
(4) سورة النساء: 103.
(5) أخرجه البخاري (757، 793) ومسلم (397) عن أبي هريرة.(3/360)
فتوى في أمر الكنائس(3/361)
ورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورتُه:
ما يقول السادة العلماء -وفّقهم الله- في إقليمٍ توافقَ أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوةً من غير صلحٍ ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟
وهل يكون الملك شاملاً لما فيه من أموالِ الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيَع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختصّ الملك بما عدا متَعبَّداتِ أهل الشرك؟
فإن ملكَ جميعَ ما فيه فهل يجوز للإمام أن يَعقِدَ لأهل الشرك من النصارى واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمةَ على أن يَبقَى ما بالإقليم المذكور من البِيَعِ والكنائس والديورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟
فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهلِ يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يَتصرَّف فيه الإمام تصرُّفه في الغنائم أم لا؟
وإن جاز للإمام أن يَعقِد الذمَّةَ بشرطِ بقاء الكنائس ونحوها فهل يَملِك من عُقِدتْ له الذمّةُ بهذا العقد رِقابَ البيَع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذاَ العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع.
وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك، وانتقضَ عهدُهم(3/363)
بسبب يقتضي انتقاضه، إمَّا بموتِ من وقع عقد الذمة معه ولم يُعقِبوا، أو أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يُستأنَفُ معهم عَقْدُ الذمةِ -كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصبّاغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقِدُ لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخِلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِلَ مستحقوها وأُيسَ من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بلَ يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تَحقَّق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردّد في أن ذلك كان موجودًا عند الفتح، أو حدثَ بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقق أنه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشكُّ في أنه كان قبل الفتح، وجُهلَ الحالُ فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عُقِدتْ معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمةُ، بل يجري عليهم حكمُ من سلفَ إذا تحقَّقَ أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟
وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقدٍ عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] وبيعهم إليه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحتْ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكعامَّة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا(3/364)
مواضع قليلةً فُتِحتْ صلحًا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فُتِحتْ عنوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد رُوِي في أرضِ مصر أنها فُتِحتْ صلحًا، ورُوي أنها فُتِحتْ عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون للروايات الصحيحة في هذا الباب (1) ، فإنها فتحت أوّلاً صلحًا، ثمَّ نقضَ أهلُها العهدَ، فبعثَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثير فيهم الزبير بن العوَّام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً.
ولهذا رُوِي من وجوهٍ كثيرة (2) أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلالٌ قَسْم الشام (3) ، فشاورَ الصحابةَ في ذلك، فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئًا للمسلمين ينتفع بفائدتها أولُ المسلمين وآخرهم. ثمَّ وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفَه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عنوةً فقد ملّكَهم الله إياه كما ملّكهم ما استولَوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخلُ في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعُهم وسائرُ منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجَها عن ملك المسلمين، فإن ما يُقَال فيها من الأقوال ويُفعَل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلاً أو مُحدَثًا لم
__________
(1) انظر "فتوح البلدان" ص298 وما بعدها، و"الأموال" لأبي عبيد: 186.
(2) فتوح البلدان: 300، 301.
(3) انظر "الخراج" لأبي يوسف: 23 وما بعدها.(3/365)
يَشرعْه الله قَطُّ، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعَه.
[و] قد أوجبَ الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدينُ كله لله، وتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بَعثَ الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون.
ولهذا لما استولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم -كبني قَينقاع والنضير وقُريظة- كانت معابدُهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلتْ في قوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) (1) ، وفي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) (2) و (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (3) .
لكن وإن ملكَ المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يُؤسَرون، وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمُه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة.
ولهذا لما فتح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر أقرَّ أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع ملكًا للمسلمين عاملَهم عليها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في
__________
(1) سورة الأحزاب: 27.
(2) سورة الحشر: 6.
(3) سورة الحشر: 7.(3/366)
خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد.
فصل
وأما أنه هل يجوز للإمام عَقْدُ الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم، لأنه إخراجُ ملكِ المسلمين عنها وإقرارُ الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهلَ خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفَّارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم.
فمن قال بالأول قال: حكمُ الكنائس حكمُ غيرِها من العقار، منهم من يُوجب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يُخَبِّر الإمامَ فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلَّت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث قَسَم نصفَ خيبر وتركَ نصفها لمصالح المسلمين.
ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقولُه أوجهُ وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل مالَه، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المساكن والمعابد.
ومجرَّدُ إقرارِهم ينتفعون بها ليس تمليكًا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو سُلِّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له، بل ما أُقِرُّوا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/367)
من أهل خيبر بأمره بعد إقرارِهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارجَ دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس الصلح، لم يكن لهم أخذُها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذُها عنوةً.
فصل
ومتى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة، كما أخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان لقريظة والنضير لمّا نقضوا العهد، فإن ناقضَ العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصلي، كما أن ناقضَ الإيمان بالردَّة أسوأ حالاً من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهلُ مصرٍ من الأمصار، ولم يبقَ من دخلَ في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا.
فإذا عُقِدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين.
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قَسْمَ العقار فظاهر.
وأما على قول من يوجب قَسمهْ سمه فلأن عين المستحق غير معروف،(3/368)
كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معين.
وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلاً، فلا يُفرَّع عليه، وإنما الخلاف في الجواز.
نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نَقُل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لمِ يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يُعطى إلا ما عُرِف أنه حقُّه، وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيتِ المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلاً بنفسه جُعِل تابعًا لغيرِه في الإيمان والأمان.
وعلى هذا جرت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين، أما ما أُحدِث بعد ذلك فانه يجب إزالتُه، ولا يُمكِّنون من إحداث البيع والكنائس، كما شَرطَ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه (1) : "إلاَّ يُجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولَها كنيسة ولا صومعة ولا دَيرًا ولا قلايةً"، امتثالاً لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكون قبلتان ببلدٍ واحدٍ". رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد (2) ، ولما
__________
(1) ذكرها ابن القيم وشرحها في "أحكام أهل الذمة" (2/657 وما بعدها) .
(2) أخرجه أحمد (1/223، 285) وأبو داود (3032) والترمذي (633، 634) من حديث ابن عباس.(3/369)
رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام" (1) .
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال من يُوفّقه الله من ولاة أمور المسلمين يُنقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمَها بصنعاء وغيرها.
وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة" (2) . وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزمَ أهلَ الكتاب بشروطِ عمر استفتى علماءَ وقتِه في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعثَ بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سوادِ العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (3) : أيما مصرٍ مصَّرتْه العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا.
وأيما مصرٍ مصَّرتْه العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلِّفوهم فوقَ طاقتهم.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 123.
(2) انظر "أحكام أهل الذمة": 676.
(3) أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 126.(3/370)
مسألة فيمن يسمِّي الخميس عيدًا(3/371)
مسألة
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يُسمِّي الخميسَ المعروفَ بعيد النصارى عيدًا؟ وفيمن يَعتقد أن مريم ابنةَ عمران -عليها السلام- تَجُرُّ ذيلَها ذلك اليوم على الزرع، فيَنْمو ويلحق اللقيس بالبكير، ويُخرِجون في ذلك اليوم ثيابَهم وحُلِيَّ النساء يَرجون البركةَ من ذلك اليوم وكثرةَ الخير، ويُكَحِّلون الصبيانَ، ويَمْغَرون الدوابَّ والشجرَ لأجل البركة، ويَصبغون البَيْضَ ويُقامِرون به ويعتقدون حِلَّه، ويَدُفُّون البخورَ ويتبخَّرون به قصدَ البركةِ.
أفتونا مأجورين.
الجواب
قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رحمه الله ورضي عنه-:
الحمد لله وحدَه. كلُّ ما يُفعَل في أعياد الكُفار من الخصائص التي يعظّم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئًا منها، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم" (1) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس منَّا من تَشبَّه بغيرنا" (2) .
وقد شارط عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أهلَ الكتاب أن لا يُظهِروا
__________
(1) أخرجه أحمد (2/50، 92) وأبو داود (4031) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه الترمذي (2695) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه.(3/373)
شيئًا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئًا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شَرَطَه عليهم أمير المؤمنين.
وسواء قَصَد المسلمُ التشبُّهَ بهم أو لم يَقصِد ذلك بحكم العادة التي تعوَّدَها فليس له أن يَفعلَ ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيصُ عيدِهم (1) بلباسِ وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلَمين.
ومن قال: إن مريم تَجُرُّ ذيلَها على الزرع فينمو، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قُتِل، فإذا هذا اعتقاد الكفّار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإنَّ من هو أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- لا سَعْيَ لهم في إنبات النباتِ وإنزالِ القَطْر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القِسِّيسين أنهم ينفعونهم أو يَضُرّونهم، وهذا من شركِهم الذي ذمَّهم الله تعالى به، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2) ، وقال تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) (3) . فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا هو كافرٌ، فكيف مَن اتخذ مريمَ أو غيرَها من الشيوخ؟
__________
(1) في الأصل: "عندهم" تصحيف.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) سورة آل عمران: 79-80.(3/374)
وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (1) . قال طائفة من السلف: كان قومٌ يدعون العُزَير والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما ترجون رحمتي وتخافون عذابي، ويتقرَّبون إليَّ كما تتقرَّبون إليَّ، وأخبر أنهم لا يملكون كشفَ الضرَّ عنهم ولا تحويلاً.
فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم؟ كمريم وغيرها من الصالحين الرجال والنساء. فمن دعا غيرَ الله تعالى أو عَبَدَه فهو مشركٌ بالله العظيم، وإن كان ذلك رجلاً صالحًا (2) أو امرأةً صالحة.
وكذلك التزيُّن يومَ عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن العادة، وتكحيل الصبيان، وتحمير الدوابِّ. والشجر بالمغرة وغيرها، وعمل الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم. ومن فعلَ هذه الأمور يتقرب بها إلى الله تعالى راجيًا بركتَها فإنه يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل، فإن هذا من إخوان النصارى. كما لو عَظَّمَ الرجلُ الصليبَ، وصَلَّى إلى المشرق، وتَعَمَّد بالمعمودية، فإنّ من فعلَ هذا فهو كافر مرتدٌّ يجبُ قتلُه شرعًا وإن أظهرَ مع ذلك الإسلامَ.
وكذلك صَبْغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرامٌ في كل وقتٍ، فيه وفي غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك.
وبالجملة فليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه، ولا يُفعَل فيه شيء
__________
(1) سورة الإسراء: 56- 57.
(2) في الأصل: "رجل صالح".(3/375)
مما يُميِّزونه هم به. ولكن لو صامَه الرجلُ قصدًا لمخالفتهم فقد كرهه كثيرٌ من العلماء، كما رُوِي عن أنس بن مالك والحسن البصري وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم، لأنَّ في (1) تخصيصِ أعيادِ الكفار بالصومِ نوعَ تعظيمٍ لها، وإن كانوا هم لا يصومونه، فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟
إلا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يومَ عاشوراءَ عيدًا، فيصومونَه ويُظهِرون السرورَ فيه، وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيامِه مرَّةً واحدةً قبلَ أن يُفرَض رمضان، فلما فُرِض رمضانُ سَقَطَ وجوبُه (2) وبَقِيَ صومُه مستحبًّا. ثمَّ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قيل له: إن اليهود والنصارى يتخذونه عيدًا قال: "لئنْ عِشْتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسعَ" (3) . فقال أكثر أهل العلم: مرادُه صوم التاسع والعاشر، لئلا يُخَصَّ يومُ عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم (4) ، وكان يقول: "صوموا يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه" (5) . وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هذا في عاشوراءَ بعد أن كان أمرَ بصيامه ليُخالِفَ اليهودَ، ولا يشارِكهم في إفرادِ تعظيمه.
هذا مع أن عاشوراء لم يُشرَع فيه غيرُ الصوم باتفاقِ علماء المسلمين، فكل ما يُفعَل فيه غيرُ ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسُّع على العيال غير العادة فيه من حبوب أو غيرها هو من البدع المحدثة في الدين، لم يستحبَّها أحدٌ من العلماء
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) أخرجه البخاري (2001، 2002 ومواضع أخرى) ومسلم (1125) عن عائشة. (3) أخرجه مسلم (1134) عن ابن عباس.
(4) أخرجه البخاري (1984) ومسلم (1143) عن جابر بن عبد الله.
(5) أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) عن أبي هريرة.(3/376)
ولا السلف، بل كلُّ ما رُوِي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة.
فإذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِه نوعًا من التشبُّه بهم في عاشوراء، فكيف بالمياليد والشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟ وقد ذهب طائفة مِن العلماء إلى كفرِ من يفعل خصائصَ عيدِهم، وقال بعضهم: مَنْ ذبَح فيه بطِّيخةً فكأنما ذَبَحَ خِنزيرًا.
فالواجب على ولاةِ الأمور نهيُ الناس عن هذه المنكرات المحرَّمة، وأَمْرُهم بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يَقبل الله غيرَه، فـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (1) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (2) . آخرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمدِ وآله وصحبه وسلَّم) .
__________
(1) سورة آل عمران: 19.
(2) سورة آل عمران: 85.(3/377)
فصل.
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(3/379)
فصل
قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) (1) . قال بعض السلف: هم خير أمة إذا قاموا بهذا الشرط، فمن لم يقم بهذا الشرط فليس من خير أمة.
قال: واتفق أئمة الدين على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ على الناس، لكنه فرضٌ على الكفاية كالجهاد وتعلُّم العلم ونحو ذلك، فإذا قام به من يُستكفَى به سقطَ عن الناس، وكان الأجر والدرجة لمن قام به. ومن كان عاجزًا عمّا أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأَرَاد أن يقوم به وجبَ على غيره أن يعاونَه، حتى يحصل المقصود الذي أمر الله به ورسولُه، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2) .
فكلُّ رسولٍ أرسلَه الله وكلُّ كتابٍ أنزلَه الله يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف اسمَ جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل ما يكرهه ويَسخَطُه. وتَركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعقوبة الدنيا قبل الآخرة، فلا يَظُن الظانُ أنها تُصيبُ الظالمَ الفاعلَ للمعصية دونَه مع سكوتِه عن الأمر والنهي، بل تعمُّ الجميعَ.
__________
(1) سورة آل عمران: 110.
(2) سورة المائدة: 2.(3/381)
وينبغي أن يكون الآمر فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حكيمًا فيما ينهى عنه، رفيقًا عالمًا قبل الأمر والنهي، رفيقًا حين الأمر والنهي، حليمًا صبورًا بعد الأمر والنهي، كما قال تعالى في قصة لقمان: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)) (1) ، فإن الآمر إنما هو مجاهد في سبيل الله، إذ (2) ……………… أن يفعل ذلك عبادةً لله، وطاعةً لله ورسوله، وطلبًا للنجاة من عقاب الله، ونصحًا لعباد الله، لا يفعله لطلب العلوّ والرئاسة على الناس، ولا لعداوة أو حقد في نفسه على المأمور والمنهي، ولا لغرضٍ ينالُه بذلك، يكون أمره بالمعروف معروفًا غيرَ منكرٍ، ونهيُه أيضًا معروف غيرُ منكرٍ. وإلاّ فمتى أراد أن يُزِيلَ منكرًا بمنكرٍ كان كمن يريد غَسْلَ الخمر بالبول، ومن فعل ذلك فقد يكون خسرانُه أكثر من ربحه، وقد يكون أقلَّ أو أكثر. والله أعلم.
__________
(1) سورة لقمان: 17.
(2) ما بعدها لم يظهر في التصوير عن الأصل.(3/382)
مسألة
في تلاوة القرآن والذكر، أيهما أفضل(3/383)
الحمد لله. سُئِلتُ أيُّ الأمرين أفضلُ: تلاوة القرآن أو الذكر؟
فأجبتُ قائلاً: الظاهر أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الشخص ممن أُوتيَ فهمًا في كتاب الله تعالى، إذا تلا متدبِّرًا لآياته ازداد في الحِكَم والأحكام، وتجلَّت له معانٍ وحقائق في أصولِ الدين وفروع الحلال والحرام، كانت التلاوة في حقّه أفضل، كيف وتلاوة القرآن من أفضل الأذكار، والنظر في أحكام الله تعالى من أفضل أعمال الأبرار. وكان عطاءٌ لا رحمه الله تعالى يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تبيع وتشتري وتصلي وتصوم وتحج وتطلق ونحو ذلك.
وإن لم يكن الرجل ممن له أهلية الفهم عن كلام الله تعالى، وكان الذكر أجمع لهمته وأصفى لخاطره، كان اشتغاله بالذكر أفضل والحالة هذه.
وينبغي للسالك وطالب الزيادة من الخير أن لا يترك حطه منهما، فيذكر الله تعالى إلى أن يجد عنده سأَمةً مَّا، فينتقل إلى الذكر بتلاوة القرآن متدبِّرًّا بترتيل وتفكُّرٍ، وتعظيمٍ عند آيات التوحيد والتنزيه، وسؤالِ عند آيات الوعد والرجاء، وتضرُّع واستعاذة عند آيات الخوف والوعيد، واعتبارٍ عند آيات القصص. فإن القرآن الكريم لا يَسأمُ قارئه، لاختلاف المعاني الواردة فيه.
وعند اشتغاله بالذكر ينبغي أن لا يفوته دقيقة نبَّه عليها بعض المحققين، وهي أن يقصد مثلاً عند ذكر "لا إله إلا الله" تلاوةَ قوله تعالى في سورة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (1) لتُثْمِرَ له هذه
__________
(1) سورة محمد: 19.(3/385)
الكلمة المباركة ثمرة الذكر والتلاوة، فيكون جامعًا بين الفضيلتين.
ولكلٍّ من التلاوة والذكر آدابٌ وشروط ذكرها العلماء، فينبغي له أن يتحرى في المحافظة عليها، وإن كان له شيخ يُرَبِّيه ألقَى زِمامَ أمرِه إليه، ليشير بما هو الأولى له عليه. والله أعلم.(3/386)
فتوى في السماع(3/387)
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- هل السماع بالقضيب على المخادّ (1) مباح وحلالٌ أو حرام؟ لأنه عُدِل به عن الدفّ والشبابة، وما هو ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى.
أجاب سيدنا وشيخنا الشيخ تقي الدين ابن، تيمية- أطال الله في عمره-:
الضرب بالقضيب على المخاد هو التغبير الذي قال فيه الشافعي: خلفتُ ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يُسمونَه التغبيرَ يَصُدُّون به الناس عن القرآن. ويذكر فيه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ونهوا الناس عن الحضور معهم. وكان الذين يحضرونه أهل زهد وعبادة ودين، يحضرونه لما فيه من التزهيد والترقيق وتحريك القلوب بالحبّ والحزن والخوف ونحو ذلك، فعدَّه الأئمة من البدع المحدثة في الإسلام، لأن الله إنما شرع للمسلمين سماعَ القرآن، فهو سماعُ النبيين والعالِمين والعارفين والمؤمنين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه.
ولم يَحضُر هذا التغبيرَ أعيانُ الشيوخ المعروفين، كالفُضيل بن عِياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسرِيّ السقطى، بل ولا الشيخ العارف عبد القادر الكيلاني ولا الشيخ عديّ والشيخ أبي مَدْيَن والشيخ أبي البيان والشيخ حيا، وأمثال هؤلاء من شيوخ المسلمين، والله سبحانه أعلم. وكتبه أحمد ابن تيمية عفا الله عنه.
__________
(1) جمع مخدَّة: حديدة تُشَق بها الأرض.(3/389)
مسألة في رجلٍ شتَم شريفًا(3/391)
مسألة
في رجلٍ من أهل العلم شَتَمه شريفٌ وقال له: يا جاهل! فقال هو للشريفِ: الجاهلُ جَدُّك، ولم يعلم أنه شريف، فقال له الشريف: كَفَرتَ لأنك شَتمتَ جَدِّي رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الجواب
لا يَحِلُّ تكفيرُ المسلم بمثلِ ذلك، ومَن عُرِفَ إيمانُه لا يَقصِد بمثل هذا اللفظ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن ادَّعى على معروفٍ بالخير والدين أنه قصدَ بذلك رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يُعزَّر هذا المفتري على أهل الخير والدين، كما لو ادعى على أحدٍ أنه سَرَق مالَه أو قَطَعَ الطريقَ عليه ونحو ذلك من دعاوي التُّهَم التي يعلم براءة المتَّهم فيها، فإنه يُعزَّر في قولَي العلماء من يفتري على أهل الخير بمثل ذلك.
وسواء كان المتكلم بهذا يعلم أن المخاطبَ شريفٌ أو لم يكن يعلم لا يُحمل ذلك على مرادِه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا أن تكون هناك قرينة تدلُّ على ذلك، مثل أن يكون القائل معروفًا بالنفاق والاستهزاء بالرسالة والقرآن ودينِ الإسلام ونحو ذلك، فمتى ظهرتْ هذه الكلمة ممن هو معروف بالنفاق كان ذلك قرينةً تُقَوِّي إرادتَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُحبَس حينئذ المتَّهَم، ويُكشَف عن بقية أحوالِه، ويُعاقَب إما بالقتل وإما بدونه، لئلاّ يجترئ أهل النفاق والزندقة على انتهاكِ حرمة الرسالة.
والجدّ المطلق يتناول أبا الأب، وقد يتناول من هو أعلى منه بقرينة، ومن الأشراف العالم والجاهل والبرُّ والفاجر والصادق(3/393)
والكاذب، ويجب عليهم طاعةُ اللهِ ورسوله كما يجب على سائر الأمة، ويجب أن تُقامَ عليهم الحدود كما تُقامُ على غيرِهم، فإن في الصحيحين (1) أن امرأةً كانت ذاتَ شَرَفٍ سَرَقت على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدِهما، فشقَّ ذلك على أهلها، وقالوا: من يُكلِّم فيها رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةَ بن زيد، فكلَّمه فيها أسامةُ، فغَضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "يا أسامة! أتَشفَعُ في حدٍّ من حدود الله تعالى؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ.
والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها".
وليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن، ومتى اعتدى الشريف أو غيره على الناس كان لهم أن يعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم، فإن قال لمسلم: يا كلب يا خنزير! كان له أن يقول له: يا كلب يا خنزير!، ولو قال له: لعنَك الله، كان له أن يقول له: لعنك الله، وإن ضربَه بغير حق ضَرَبَ كما ضَربه، وإن أَخذ ماله بغير حق أَخذ من ماله بقدر ما أخذ من ماله. فإن المسلمين متفقون على أن القصاص ثابت بين الشريف وغير الشريف في الدماء ونحوها. ولو قذفَ الشريفُ رجلاً محصنًا أقيم عليه حدُّ القذف كما يقام على غيره. وليس لأحدٍ أن يَسُبَّ من لا يَسبَّ، سواء كان شريفًا أو لم يكن، بل له أن يعاقب من ظلمه ولا يتعدى إلى غيره. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أكبر الكبائر أن يَسُبَّ الرجل والدَيْه"،
__________
(1) البخاري (3475) ومسلم (1688) عن عائشة.
(2) البخاري (5973) ومسلم (90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(3/394)
قالوا: وكيف يَسُبُّ والديه؟ قال: "يَسُبُّ أبا الرجلِ فيسبُّ أباه، ويَسُبُّ أمَّه فيسبّ أمّه". ومن يسبَّ من لم يَسُبَّه من الأشراف أو غيرِهم عُزِّر. ولا يُقتَل أحدٌ إلا بسَبّ نبيّ من الأنبياء، فمن يسَبَّ نبيًّا من الأنبياء وجبَ قتلُه. وفي الرافضة الذين يَسُبُّون الصحابةَ تفصيل ونزاعٌ. والله أعلم. (هذا جواب الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيمية، أثابه الله ورضي عنه، وجزاه عن هذه الأمة كل خير في الدنيا والآخرة) .(3/395)
قاعدة في حضانة الولد(3/397)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما.
فصل
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هو للأب أو للأم؟ أو يُخير بينهما؟.
فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبعَ سنين خُيِّر بين أبويه، أما الجارية فالأب أحقُّ بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعًا.
وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعضُ نصوص أحمد في هذه المسألة، ولم يبلغهم سائرُ نصوصِه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقَلَّ من يَضبط جميعَ نصوصه في كثير من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرةِ من كان يأخذ عنه العلم. فأبو بكر الخلاّل قد طاف بالبلاد، وجمع من نصوصِه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا (1) ، وفاتَه أمورٌ كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جَمعه من نصوصه في أصولِ
__________
(1) ذكر الذهبي في "السير" (14/297) وابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/28) أنها في عشرين مجلدًا أو أكثر. ولم يصل إلينا منها إلا مجلدان.(3/399)
الدين مثل: "كتاب السنة" نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل: "كتاب العلم" الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل "كتاب العلل" الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت، وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو مع الأب أو تُخيَّر؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجهٌ مخرَّجٌ في مذهبه (1) .
فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في "محرَّره" (2) . وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في كتابه "التلخيص" و"ترغيب القاصد" (3) . والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب.
وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في "تعليقه"، نقل عن أحمد في الغلام: أمُّه أحقُّ به حتى يَستغني عنها، ثم الأب أحقُّ به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عَقَلَ الغلامُ واستغنى عن الأم
__________
(1) انظر "زاد المعاد" (5/417- 418) .
(2) 2/120.
(3) لم يصلا إلينا. ومختصره الوجيز "بلغة الساغب" مطبوع نصفُه تقريبًا، بالاعتماد على نسخة ناقصة من أثناء كتاب الفرائض (ص337) إلى الباب السادس من كتاب الشهادات، فلا يحتوي على أبواب النكاح والطلاق والنفقات والرضاع وغيرها.(3/400)
فالأب أحقُّ به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحقُّ بالغلام إذا عَقَلَ واستغنى عن الأم.
وهذا يُشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قَال: إذا أكل وحدَه ولَبِسَ وحدَه وتوضَّأ وحدَه فالأب أحقُّ به. ونقلَ ابن المنذر أنه يُخيّر حينئذٍ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور.
والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نَقَلَ عنه ابنُ وهب: الأمُّ أحقُّ به حتَى يثْغِر. ولكن المشهور عنه: أن الأم أحقُّ به ما لم يبلُغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد.
والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقًا، كمذهب مالك. قال في رواية حنبل: في الرجل يطلِّق امرأتَه وله منها أولاد صغار، فالأمُّ أعطفُ عليهم مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأبُّ أحقَّ بهم ما لم تتزوَّج، فإذا تزوجت فالأب أحقُّ بولده غلافا كان أو جارية.
قال الشيخ أبو البركات (1) : فهذه الرواية تدلُّ على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضًا عند الأمّ، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون عند الأب.
وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في "المدونة" (2) أن الأمَّ أحقُّ به ما لم يبلغ،
__________
(1) المحرر (2/120) .
(2) 2/244.(3/401)
وللأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقَّه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجَّح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمدَ وغيرَه، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما الذين كانوا يسألونه مطلقًا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون.
وأما حضانة البنت إذا صارتْ مميَّزةً فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غيرُ واحدٍ من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيرِه:
إحداهما: أن الأب أحقُّ بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأمَّ أحق بها.
قال في رواية إسحاق بن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها.
وقال في رواية مهنّا بن يحيى: الأمّ والجدَّة أحق بالجارية حتى يتزوَّج الأب.
قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد": وإن كانت جارية فالأب أحقُّ بها بغير تخيير، وعنه: الأمّ أحقُّ بها حتى تحيض.(3/402)
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي "المدونة" (1) : مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى. فإذا بلغَ وهو أنثى نُظِرتْ، فإن كانت الأم في حِرزٍ ومنعةٍ وتحصينٍ فهي أحق بها أبدًا ما لم تنكح وإن بلغتْ أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرزٍ وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها.
وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.
ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحقُّ بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أُخِذَتْ منها إذا بلغتْ، إلا أن تكون صغيرة لا يُخافُ عليها.
وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدَّة أحق بالجارية حتى تحيض، ومَن سِوَى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدًّا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي (2) : "حتى تستغني" كما في الغلام مطلقًا.
ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكلَ وحدَها وتلبسَ وحدَها وتتوضأ وحدَها، ثم تكون مع الأب.
وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحقَّ بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة.
وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهويه. وموافقتُه للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبهُ منها بأصول غيرهما. وكان يثنِي عليهما ويُعظِّمهما ويُرجح أصولَ مذاهبهما على من ليست أصولُ
__________
(1) 2/244.
(2) "مختصره" (ص226، 227) .(3/403)
مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصحُّ من أصول غيرِهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث.
وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة (1) . وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاقَ بالحَجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولاً لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما ونُقِل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نُقِل عن الحسن بن حيّ أنها تُخيَّر إذا كانت كاعبًا.
والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق، للحديث الوارد في ذلك، حيث خيَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامًا بين أبويه (2) ، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نصّ عام في تخيير الولد مطلقًا.
والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف (3) مخالفٌ لإجماعهم.
__________
(1) انظر مناقب الشافعي للبيهقي (1/213 وما بعدها) ومعجم الأدباء (17/293- 298) وطبقات الشافعية للسبكي (2/89- 90) .
(2) أخرجه أحمد (2/246، 447) وأبو داود (2277) والترمذي (1357) والنسائي (6/185) وابن ماجه (2351) من حديث أبي هريرة، وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان. وانظر: "تلخيص الحبير" (4/12) .
(3) أخرجه أحمد (5/446) وأبو داود (2244) والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف" (3594) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن سنان.
وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، قال ابن المنذر: لا يُثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. انظر: "تلخيص الحبير" (4/11) . وسيأتي الكلام على الحديث في آخر هذه الرسالة.(3/404)
والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خُيّر في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين، ثم قد يُصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبًا في اجتهاده حاكمًا بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يُصيبه، فيثاب على استفراغ وُسعِه، ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصنٍ على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: "ألا تَرضَون أن أجعل الأمرَ إلى سيدكم سعد بن معاذ؟! فرَضُوا بذلك، وطمع من كان يحب استبقاءَهم أن سعدًا يُحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكمَ فيهم أن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُغنَم أموالُهم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" (1) . وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكمًا لله في نفس الأمر، وإن كان لابدَّ من إنفاذه.
ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره من حديث بُريدة المشهور، قال فيه: "وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فسألوك أن تُنزِلَهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أَنزِلْهم على حكمك وحكم أصحابك".
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/239، 240) . وأخرجه البخاري (3043، 3804، 4121، 6262) ومسلم (1768) بنحوه مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) برقم (1731) وأخرجه أيضًا أحمد (5/352، 358) وأبو داود (6212، 6213) والترمذي (1408، 1617) والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (1929) وابن ماجه (2858) .(3/405)
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصرَ الإمامُ حصنًا، فنزلوا على حكم حاكمٍ، جاز إذا كان رجلاً مسلمًا حرًّا عدلاً، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للإسلام من قتلٍ أو رِقّ أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يُفرَّق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظنّ المنازع أن المنَّ لا حظَّ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأيّ الدليلين كان أرجح اتبعَه.
ولكن معنى قولنا "يُخيَّر" أنه لا يتعين فعلُ واحدٍ من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعلُ هذا تارةً وفعلُ هذا تارةً. وقولُ الله في القرآن (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (1) يقتضي فعلَ أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تَعيُّنَ هذا في حالٍ وهذا في حالٍ، كما في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (2) . فتربُّصُ أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عينٍ علينا بعض الأوقات، فحينئذٍ يصيبهم الله بعذابٍ بأيدينا، كما في قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) (3) .
ولهذا كان عند جميع العلماء قولُه تعالى في المحاربين: (إِنَّمَا
__________
(1) سورة محمد: 4.
(2) سورة التوبة: 52.
(3) سورة التوبة: 14- 15.(3/406)
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) لا يقتضي أن الإمام يُخيّر تخيير مشيئة، فيفعل أيَّ هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.
ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنصّ، فإن قَتَلوا تعيَّن قتلُهم، وإن أخذوا المالَ ولم يقتلوا تعيَّن قطعُ أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (2) ، وروي في ذلك حديث مرفوع (3) .
ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قَتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعْلِها فيئًا وجَعْلِها غنيمةً، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحةَ في جَعْلِها غنيمةً قَسمها بين الغانمين، كما قَسَمَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر؛ وإن رأى أن لا يَقسِمها جاز، كما لم يَقْسِم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكةَ مع أنه فتحها عنوةً، كما شهدتْ بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء. ولأن خلفاءه بعدَه أبا بكر وعمر وعثمان
__________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) انظر "المغني" (12/475 وما بعدها) .
(3) يُروى مرفوعاً وموقوفًا على ابن عباس، أخرجه أبو يوسف في كتاب "الخراج" (ص177) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/283) . وانظر "الدر المنثور" (3/68) . وفي "المغني" (1/4772) : "قيل إنه رواه أبو داود". ولا يوجد عنده.(3/407)
فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئًا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئًا للمسلمين داخلاً في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية (1) . ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلبَ أكابرُ الغانمين قسمةَ العقار، فلم يُجيبوهم إلى ذلك، كما طلبَ بلالٌ من عمر أن يَقسِمَ أرضَ الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدًا من الغانمين في ذلك، فضلاً عن أن يستطيبَ أنفُسَ جميع الغانمين.
وهذا مما احتَجَّ به مَن جعلَ الأرضَ فيئًا بنفس الفتح، ومن نَصَرَ مذهبَه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلةً في الغنيمة؛ فإن الله حرَّم على بني إسرائيل المغانمَ ومَلَّكَهم العقارَ، فعُلِمَ أنه ليس من المغانم. وهذا القول يُذكَر رواية عن أحمد، كما ذُكِر عنه روايةٌ ثالثةٌ كقول الشافعي: أنه يجب قسمة العقار والمنقول، لأن الجميع مغنومٌ.
وقال الشافعي: إن مكة لم تُفتَح عنوةً بل صُلحًا، فلا يكون فيها حجة. ومن حَكَى عنه أنه قال: إنها فتِحتْ عنوةً -كصاحب "الوسيط" (2) وفروعه- فقد غَلِطَ عليه. وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظنُّ فيه ظنًّا مقرونًا بعلمٍ وظنّ أن عمر استطابَ أنفسَ الغانمين، لما رُوِي من قصة المثنى بن حارثة. وبَسْطُ هذا له موضع آخر.
__________
(1) سورة الحشر: 7.
(2) 7/42. وردَّ عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" (2/127ب) .(3/408)
وقول الجمهور أعدلُ الأقاويل، وأشبهُها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يُخيَّر الإمام بين الأمرين تخييرَ رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئةٍ، وهكذا سائر ما يُخيَّر فيه وُلاةُ الأمر ومن تصرَّفَ لغيرِه بولاية، كناظر الوقف ووصيِّ اليتيم والوكيل المطلق، لا يُخيَّرون تخييرَ مشيئةٍ وشهوةٍ، بل تخييرَ اجتهاد ونظر وطلبٍ، ويُجزى للأصلح.
كالرجل المبتَلَى بعدوَّين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله نفع. وكالإمام في تولية من ولاَّه الحربَ والحكمَ والمالَ يختارُ الأصلح فالأصلح. فمن وَلَّى رجلاً على عصابةٍ، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خانَ الله وخانَ رسولَه وخانَ المؤمنين.
وهذا بخلاف من خُيِّر بين شيئين وله أن يفعل أيَّهما شاءَ، كالمكفِّر إذا خُير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحدُ الخصال أفضلَ فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابسُ الخفّ إذا خُيِّر بين المسح وبين الغَسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خُيِّر بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل.
وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبًا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجبَ أكلُه وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلُها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.
وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يُخيِّرون الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.
وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلاّ متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور(3/409)
الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعًا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلَّتْ في حياته في السفر أربعًا كذبٌ عند حُدَّاق أهل العلم بالحديث، كما قد بُسِطَ في موضعه (1) .
إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خُيِّر فيما يفعله لغيرِه بولايته عليه، أو بوكالةٍ مطلقة، لم يُبَحْ له فيها فعلُ ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرَّف لنفسه، فتارةً يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارةً يُبيح له ما شاء من الأنواع التي خيّر بينهما، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفًا.
وأما الصبي المميِّز فيُخيَّر تخييرَ شهوةٍ، حيث كان كلٌّ من الأبوين نظيرَ الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميِّز من الأم، ولا كلُّ أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعضُ الآباء أصلح، وبعضُ الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أوثقُ بالصغير وأخبَرُ بتغذيته وحملِه وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن بقي تنقيحُ المناط: هل عيَّنهن الشارعُ لكون قرابة الأم
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (22/78-81؛ 24/144-156، 8، 10، 19) .(3/410)
مقدمةً على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقومَ بمقصودِ الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم، مثل: أمّ الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك.
هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد.
وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في "مختصره" (1) وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.
وعلَّل ذلك من علَّله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم، فإن قرابتها فيها رَحِم وتعصيبٌ، بخلاف قرابة الأم، فإنَّ فيها رَحِمًا بلا تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يُقدَّم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعمُّ أولى من الخال. بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجلٍ من العصبة أو لامرأةٍ وارثةٍ، أو مُدْلِيةٍ بعصبةٍ أو وارثٍ، فإن عدموا فالحاكم.
وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحةً لترجح رجالُها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالُها بالاتفاق فكذلك نساؤها.
__________
(1) انظر "المغني" (11/423، 424) .(3/411)
وأيضًا فمجموع أصول الشرع إنما يُقدّم أقاربَ الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدِّم الشارعُ قرابةَ الأم في حكم من الأحكام، فمن قدَّمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
ولكن قدّموا الأمّ لكونها امرأةً، وجنسُ النساء مقدماتٌ في الحضانة على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدَّةِ أمِّ الأب على الجدّ، كما قُدّمت الأمُّ على الأب، وتقديم أخواتِه على إخوته، وعمّاتِه على أعمامِه، وخالاتِه على أخوالِه. هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالفٌ للأصول والمعقول، ولهذا كان من قال هذا في موضعٍ يتناقض، ولا يطرد أصله.
ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصودَه في ذلك أقوالاً متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدّم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدِّم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يُقدّم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفةٍ من أصحاب أحمد. وبَنَوا قولَهم على أن الخالات مقدمات على العمّات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثمّ من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضُمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقضُ. وهم أيضًا قالوا بتقديم أمهاتِ الأب والجدّ على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول(3/412)
الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم. وهذا أَطردُ لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردتْ أصلَها، فقدَّمتْ من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعضُ هؤلاء في طرد قياسِه، حتى قدَّم الخالةَ على الأخت من الأب، كقول زفر وروايةٍ عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن سُرَيج. ولكن أبو يوسف استشنعَ ذلك، فقدَّم الأختَ للأب، ورواه عن أبي حنيفة.
ورُوِيَ عن زفر أنه أمعنَ في طرد قياسِه، حتى قال: إنّ الخالةَ أولى من الجدّة أمِّ الأب. وقد رُوِي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياسُ زفر أقبحُ من البولِ في المسجد.
وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسِه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقامَ قياسُه.
وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يَبطُلُ فيه التوقيتُ، ويصحّ النكاح لازمًا. وخرَّجَ بعضُهم ذلك قولاً في مذهب أحمد.
فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يَصخُ لازمًا غيرَ موقتٍ، وهو خلاف النصوص وخلافُ إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن لمن بعدهم إحداثُ قولي يناقضُ القولين، ويتضمنُ إجماعَ السلف على الخطأ والعدول عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطلٌ، أو يَصِخُ مؤجَّلاً، فالقولُ بلزومِه مطلقًا خلافُ الإجماع.
وسبب هذا القول اعتقادُهم أن كل شرط فاسدٍ في النكاح فإنه يَبطُل،(3/413)
وينعقد النكاح لازمًا بدون حصولِ غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمْه ولا ألزمَه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاحَ الشغار ونحوه مما شُرِطَ فيه نفيُ المهر، وصححوا نكاح التحليل لازمًا مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.
وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عقبة بن عامر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ أحقَّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج". فدكَ النصُّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يَبطُل العقدُ، وإما أن يثبت الخيارُ لمن فاتَ غرضُه بالاشتراط إذا بطلَ الشرط، فكيف بالشروط في النكاح؟.
وأصلُ عمدتهم كون النكاح يصحُّ بدون تقدير الصداق، كما ثبتَ بالكتاب والسنة والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شُرِطَ فيه نفيُ المهر على النكاح الذي تُرِكَ تقديرُ الصداقِ فيه، كما فَعَل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم طَرَد أبو حنيفة قياسَه، فصحَّح نكاحَ الشغار بناءً على أن لا مُوجبَ لفسادِه إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا.
وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلَّفوا الفرق بين الشغار وغيره، بأن فيه تشريكًا في البُضْع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك، مما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (2) ، وبُيِّن فيه أنّ كلَّ هذه فروق غيرُ مؤثّرة، وأن الصواب مذهب أهلِ المدينة مالكٍ وغيرِه،
__________
(1) البخاري (2721، 5151) ومسلم (1418) .
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (20/379) و"نظرية العقد" (ص175 وما بعدها) .(3/414)
وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفسادِه هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد. فإنَّ الله فرضَ فيه المهرَ، فلم يُحِلَّ لغير الرسولِ النكاحَ بلا مهرٍ. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنًا غير مسافح، كما قال تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) (1) . فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحلَّ الله. وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهرٍ لكن لم يقدره، كما قال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلى قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية (2) . فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل.
قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح.
وقد سلَّم لهم هذا الأصلَ الذي قاسوا عليه الشافعيُّ وكثير من أصحاب أحمد في البيع. وأما في الإجارة فأصحابُ أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في خانٍ أو حجرةٍ جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزَه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو
__________
(1) سورة النساء: 24.
(2) سورة البقرة: 236- 237.(3/415)
ركب دابة مكارئ يُكارِي بالأجرة، أو سفينة ملاّحٍ يركب الناس بالأجرة. فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعامًا بمثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يُوجَد في كتبهم إلا القول الآخر بفسادِ هذه العقود، كقول الشافعي وغيره. وبسطُ هذه المسائل في مواضع أخر.
والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأمَّ قُدّمت لتقدم قرابة الأمّ لمّا كان أصلُهم ضعيفًا كانت فروعُهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفسادُ اللازم يستلزم فسادَ الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قُدّمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحقَّ بحضانة الصغير من الرجل، فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجلٌ قريب، فهذا لبسطِه موضع آخر، إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي.
فتخييرُ الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا قالوا: إذا اختار الأبَ مدةً ثم اختار الأمَّ فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نُقِل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلاً،(3/416)
وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأمّ.
قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلاً ونهارًا، ولم يُمنَع من زيارة أمّه، ولا تُمنَع الأمّ من تمريضه إذا اعتلَّ.
فأما البنت إذا خُيِّرتْ -فكانت عند الأم تارةً وعند الأب تارةً- أفضَى ذلك إلى كثرة مرورِها وتبرجها وانتقالِها من مكان إلى مكانٍ، ولا يبقى الأب موكلاً بحفظها ولا الأمّ موكلةً بحفظها، وقد عُرِف بالعادة أن ما تناوبَ الناسُ على حفظِه ضاعَ. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القِدرُ بين طبَّاختَيْن.
وأيضًا فاختيارُ أحدهما يُضعِف رغبةَ الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى الأبُ تامَّ الرغبة في حفظها، ولا الأمّ تامةَ الرغبة في حفظها. وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران (1) (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) إلى قوله (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) إلى قوله (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) . فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟
وهذا أمرٌ يُعرَف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أسترَ لها وأصونَ كان أصلحَ لها.
__________
(1) سورة آل عمران: 35- 44.(3/417)
ولهذا كان لباسُها المشروعُ لباسًا لما يسترها، ولعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يلبس منهن لباسَ الرجال (1) ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "ليَّةً لا ليَّتَين"، رواه أبو داود وغيره (2) . وقال في الحديث الصحيح (3) : "صنفانِ من أهل النار من أمتي لم أرهما بعدُ: نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثلُ أسنمة البُخْت، لا يدخلن الجنةَ ولا يجدن ريحَها؛ ورجالٌ معهم سياطٌ مثل أذنابِ البقر يَضرِبون بها عبادَ الله".
وأيضًا فأمُرت المرأةُ في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي الإحرام أن لا ترفعَ صوتَها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا تَرقَى فوق الصفا والمروة، كلُّ ذلك لتحقيق سترِها وصيانتها. ونُهِيَتْ أن تُسافر إلا مع زوج أو ذِي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرِها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرةً مميزةً، وقد بلغتْ سنَّ ثورانِ الشهوة فيها، وهي قابلةٌ للانخداع؟ وفي الحديث: "النساء لحمٌ على وَضَمٍ إلا ما ذُبّ عنه" (4) .
فهذا مما يُبيِّن أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وتردُّدُها بين الأبوين مما يُخِلُّ بذلك، من جهة أنها هي لا يجتمع قلبُها على مكانٍ معيَّن، ولا يجتمع قلبُ أحد الأبوين
__________
(1) أخرجه أحمد (2/325) وأبو داود (4098) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود (4115) وأحمد (6/294، 296، 306) .
(3) أخرجه مسلم (2128 وبعد رقم 2856) عن أبي هريرة.
(4) رُوِي هذا عن عمر بن الخطاب، انظر "الغريبين" (6/167) و"النهاية" (15/98) . ومعنى ذلك أنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحد إلاَّ أن يُذَبَّ عنه.(3/418)
على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارةً وهذا تارةً يُخِلُّ بكمالِ حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورِها، فكان الأصلح لها أن تُجعَلَ عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تُمكَّنَ من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.
وليس في تخييرها نصٌّ صريح ولا قياسٌ صحيح.
والفرق ظاهرٌ بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيَّما والذكر محبوبٌ مرغوبٌ فيه، فلو اختار أحدَهما كانت محبةُ الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنتُ مزهودٌ فيها، فأحدُ الوالدين قد يَزهَد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدِها فيه؟ فالأصلح لها لزومُ أحدِهما لا التردُّد بينهما.
ثمَّ هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عيَّن الأم -كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين- لابدّ أن يُراعوا مع ذلك صيانةَ الأمّ لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرزٍ وتحصينٍ أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعًا، وقد علَّلوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابدّ من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظةً لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابُه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضررٌ، فلو قُدِّر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يُهمل حفظها لاشتغالِه عنها أو لقلَّة دينه، والأمُّ قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تُقدَّم الأمّ في هذه الحال.(3/419)
فكلُّ ما قدَّمناه من الأبوين إنما نقدِّمه إذا حَصَلَ به مصلحتُها واندفعت به مفسدتُها، فأما مع وجود فسادِ أمرِها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب. حتى الصغير إذا اختار أحدَ أبويه وقدَّمناه إنما نقدِّمه بشرط حصول مصلحته وزوالِ مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن لا يصونُه والأمُّ تصونُه لم يُلتَفتْ إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصدُه الفجور ومعاشرة الفجّار، وتركُ ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يَحصُل له معه ما يهواه، والآخر يَذُودُه ويُصلِحه. ومتى كان كذلك فلا ريبَ أنه لا يُمكَّن ممن يفسد معه حاله.
ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانةَ لفاسقٍ، وكذلك قال الحسن بن حيٍّ. وقال مالك: كلُّ من له الحضانةُ من أبٍ أو ذاتِ رَحِمٍ أو عصبةٍ ليس له كفاية، ولا موضعُه بحرزٍ، ولا يُؤمَن في نفسه= فلا حضانةَ له. والحضانة لمن فيه ذلك وإن بَعُد، ويُنظَر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرُبَّ والدٍ يُضيِّع ولدَه.
وكذلك قالوا -وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في "خلافه"-: إنما يكون التخييرُ بين أبوين مأمونَين عليه، يُعلَم أنه لا ضررَ عليه من كونه عند واحدٍ منهما. فأما من لا يقوم بأمرِه ويُخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مُروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع" (1) . فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك،
__________
(1) أخرجه أحمد (2/180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو ابن العاص. وإسناده حسن.(3/420)
والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر، لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاصٍ الله ورسوله.
فلا يُقدَّم من يَعصي اللهَ فيه على من يُطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسولُه، ويترك ما حرَّم الله ورسولُه، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام= قُدِّمَ من يفعل الواجبَ ولو اختار الصبيُّ غيرَه، بل ذلك العاصي لا ولايةَ له عليه بحالٍ.
بل كلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولايةَ له، بل إمّا أن يُرفَع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب؛ وإمَّا أن يُضمَّ إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يَحصُل طاعةُ الله ورسوله لاحقُه، ومع حصوله عند الآخر لا يَحصُل له= قُدِّم الأوَّلُ قطعًا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يَحصُل بالرحم والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرًا وعاجزًا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لابدَّ فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان.
وإذا قُدِّر أن الأب تَزوَّج بضَرَّةٍ، وهو يتركُها عند ضرَّة أفها، لا تَعمل مصلحتَها بل تُؤذِيها أو تُقَصِّر في مصلحتها، وأمُّها تَعملُ مصلحتَها ولا تُؤذيها، فالحضانة هنا للأم قطعًا، ولو قُدِّر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأمَّ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟
ومما ينبغي أن يُعلَم أن الشارع ليس له نصٌّ عام على تقديم أحد الأبوين مطلقًا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقًا. والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدُهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر لا يُقدَّم من يكون كذلك على البَرِّ العادل المحسن القائمِ بالواجب.(3/421)
وقد علَّلُوا أيضًا تقديم الأب بعلةٍ ثانية: بأنها إذا صارت مميزةً صارت ممن تُخطَب وتُزوَّج، واحتاجت إلى تجهيزها. فإذا كانت عند الأب كان أنظرَ لها وأحرصَ على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم.
وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء، بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحقَّ به مطلقًا. لكن قال: الأمُّ والجدةُ أحق من الأب. فكلاهما قدَّم الأب وغيرَه من العصبة على النساء، لكن أحمد طردَ القياسَ، فقدَّمَه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرَّق بين عمودِ النسب وغيرِه. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: "الخالة أم" (1) . فإذا قُدِّم الأبُ على النساء اللائي يُقدَّمن عليه في حالِ صغرِها دلَّ ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء. وتبيَّن أن أصل هذا القول ليس في مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسَه. وبكلِّ حالٍ فهو قولٌ قويٌّ متوجِّه، ليس بأضعفَ من غيرِه من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رَجَّح الأمَّ مطلقًا بأقوى منه.
ومما يُقوِّي هذا القول أن الولد مطلقًا إذا تعيَّن أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنًا في مصير والأمُّ ساكنة في مصرٍ آخر، فالأب أحقُّ به مطلقًا، سواء كان ذاكرًا أو أنثى عند عامة العلماء، كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إنّ الأب إذا أراد سفرَ نُقلةٍ لغير الضرار إلى مكانٍ بعيد فهو أحقُّ به، لأن كونه مع الأب أصلح له، لحفظِ نسبِه وكمالِ تربيته
__________
(1) أخرجه البخاري (2699، 4251) عن البراء بن عازب بلفظ: "الخالة بمنزلة الأم".(3/422)
وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تَضِيع مصلحتُه. ولا يُختر الغلامُ هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحقّ، فالأب أيضًا أحق، لأن كونه عند الأب أصلحُ له. وهذا المعنى منتفٍ في الابن، لأنه يختر، ولأن تردُّدَ الابن بينهما لا مضرَّةَ عليه فيه، بخلاف البنت.
واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادتْ أن تسافرَ بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عُقِد النكاحُ فالأب أحق به، فلم يُرجِّح أحدٌ منهم الأمّ مطلقًا. فدلَّ ذلك على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا -ذكرًا كان أو أنثى- مخالفٌ لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه. وعُلِمَ أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذُّر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد وإن كان طفلاً يكون في بلد أبيه، بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصرٍ واحدٍ، فهاهنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعًا بين المصلحتين.
ومما يُقوِّيْه أيضًا أن الغلام إذا بلغَ معتوهًا كانت حضانتُه للأم كالصغير، وإن كان عاقلاً كان أمره إلى نفسه، ليسكن حيث شاءَ إذا كان مأمونًا على نفسِه، عند الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن كان غير مأمونٍ على نفسِه فلم يَجعَل أحدٌ الولايةَ عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمُّه إليه وتأديبُه، والأب يمنعه من السلفة.
وأما الجارية إذا بلغت فنُقِل عن مالك: الوالد أحق بضمَّها إليه حتى تُزوَّج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحقُّ بنفسها، وتسكن حيث شاءت، إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع، فيمنعها الأب بضمّها إليه.
وقد تقدَّم في "المدونة" (1) : أن الأم أحق بها ما لم تنكح، وإن
__________
(1) 2/244.(3/423)
بلغت أربعين سنة. وكذلك قال أبو حنيفة في البكر، قال: الأب أحقُّ بها مأمونةً كانت أو غير مأمونة، والثيِّبُ هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة. وقال الشافعي: هي أحقُّ بنفسها إذا كانت مأمونة، بكرًا كانت أو ثيِّبًا.
وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في "المحرر" (1) روايتين ووجهًا:
أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوَّج ويدخل بها الزوج.
وهذا هو الذي نصره القاضي وغيرُه في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها، حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. ولم يذكروا فيه نزاعًا.
والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم. وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نَقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية: الأم والجدة أحقُّ بالجارية ما لم تتزوج.
فجعلَها أحقَّ بها ما لم تتزوَّج في رواية مهنّا. وقال في رواية ابن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها. فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعدُ، وهذا يكون بالبلوغ.
وأما القول الثالث في مذهبه وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام، فهذا يجيء على قول من يُخيِّرها كما يُخيِّر الغلام. فمن خيَّر الغلام قبلَ بلوغه كان أمرُه بعد البلوغ إلى نفسه، كما قاله
__________
(1) 2/121.(3/424)
الشافعي وأحمد وغيرهما. لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في "محرره" (1) في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكًا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب. وهذا يدلُّ على أن الأب أحفظُ لها وأصونُ وأنظرُ في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرقَ بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.
فتبيَّن أن هذا القول -وهو جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح من غيره. والله أعلم.
فصل
والتخيير قد جاء فيه حديثان. وأما تقديم الأمّ على الأب في حقّ الصغير فمتفقٌ عليه، وقد جاء فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إن ابني هذا كان بطني له وِعاءً، وحِجْري له حواءً، وثديي له سقاءً، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: "أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي". رواه أحمد (2) وأبو داود (3) ، لكن في لفظه: "وأن أباه طلقني وزعمَ أنه ينتزعه مني".
وقال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يُحفَظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقَا ولهما ولدٌ طفلٌ أن الأمّ أحقُّ به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري والزهري ومالك والثوري
__________
(1) 2/121.
(2) 2/182، 203.
(3) برقم (2276) .(3/425)
والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وقد روينا عن أبي بكر الصديق أنه حكم على عمر به، وبصبيٍّ لعاصم لأمِّه أمِّ عاصم، وقال: حجرُها وريحُها ومَسُّها خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ فيختار.
وأما التخيير: فعن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه.
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (1) ، ورواه أبو داود (2) وقال فيه: "إن امرأةً جاءت فقالت: يا رسولَ الله! إن زوجي يُريد أن يَذهَب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسْتَهِما عليه". قال زوجُها: من يُحاقِقني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أبوك وهذه أمك، فخُذْ بيد أيِّهما شِئتَ". فأخذَ بيد أمّه، فانطلقت به. ورواه النسائي (3) كذلك، ولم يذكر "استهما عليه". ورواه أحمد (4) كذلك أيضًا، لكنه قال فيه: "جاءت امرأة قد طلَّقها زوجُها"، ولم يذكر فيه قولها "قد سقاني ونفعني".
وقد رُوِي تخييرُ الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، فروى سعيد بن منصور وغيره (5) أن عمر بن الخطاب خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه. وعن عمارة الجَرْمي أنه قال: خيَّرني عليٌّ بين عمِّي وأمِّي وكنتُ ابنَ سبعٍ أو ثمانٍ (6) . ورُوِي نحو ذلك عن
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) برقم (2277) .
(3) 6/185.
(4) 2/447.
(5) أخرجه الشافعي بإسناده كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (8/4) و"زاد المعاد" (6) أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/4) ، وعبد الرزاق في "المصنّف" (12609) .(3/426)
أبي هريرة (1) ، ولم يُعرَف لهم مخالفٌ، مع أنها في مظنة الاشتهار وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جدِّه أن جدَّه أسلمَ وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فجاء بابنٍ له صغيرٍ لم يبلغ، قال: فأجلسَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأبَ هاهنا والأُمَّ هاهنا، ثم خيَّره وقال: "اللهمَّ اهدِه"، فذهبَ إلى أبيه. هكذا رواه أحمد والنسائي (2) .
ورواه أبو داود (3) عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدّي رافع بن سِنَان أنه أسلم وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فأتَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ابنتي وهي فَطيم أو شبيهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقعُدْ ناحيةً"، وقال لها: "اقعُدي ناحية"، وأَقْعَدَ الصبيةَ بينهما، ثم قال: "ادعُواها"، فمالتْ إلى أمّها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمَّ اهدِها"، فمالت إلى أبيها فأخذها.
وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري. وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم، فقال ابن المنذر: في إسناده مقال، وقال غيرُه: هذا الحديث لا يثبته أهلُ النقل، وقد رُوِيَ على غيرِ هذا الوجه، وقد اضطُرِب فيه هل كَان المخيَّر ذكرًا أم أنثى؟ ومن روى أنه كان أنثى قال فيه: "إنها فَطِيم" أي مفطومة.
وفَعِيل بمعنى مفعول إذا كان صفةً يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: عينٌ كَحِيل، وكفٌّ خضيب، فيقال للصغير "فطيم" وللصغيرة "فطيم". ولفظ "الفطيم" إنما يُطلَق على قريب العهد بالفطم، فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يُخيَّر باتفاق العلماء.
__________
(1) رواه أبو خيثمة، كما نقل عنه ابن القيم في "الزاد" (5/416) .
(2) سبق تخريجه في أول هذه الرسالة.
(3) برقم (2244) .(3/427)
وأيضًا فإنه خيَّر بين مسلمٍ وكافر، وهذا لا يجوز عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن القائلين بالتخيير لا يُخيِّرون بين مسلم وكافر، كالشافعي وأحمد. وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يُخيِّرون. لكن أبو ثور يقول بالتخيير، فيما حكاه عنه ابن المنذر. والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوَّار وعبد الله بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة، وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الإصطخري من أصحاب الشافعي. وقد قيَّد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحقّ بولدها ما لم يعقل الأديان، ويخاف أن يألف الكفر.
والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلمًا باتفاقهم. وكذلك إن كانت الأم مسلمة عند الجمهور، كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة، فإنه يتبع عند الجمهور في الدنيا خيرَهما دينًا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرقّ يتبع الأم بالاتفاق.
وقد حمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنها تختار الأبَ بدعائه، فكان ذلك خاصًّا في حقّه.
وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم، والأمّ لم تسلم.
وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار، فلم يكن فيهم إلا مسلمة، حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري (4906) ومسلم (2507) عن أنس بن مالك.(3/428)
ولمّا قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينةَ لم يُكرِه أحدًا على الإسلام، ولا ضربَ الجزية على أحد، ولكن هادنَ اليهودَ مهادنةً. وأما الأنصار ففشا فيهم الإسلام، وكان فيهم من لم يُسلِم، بل كان مُظهِرًا لكفرِه، فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإسلام. وكذلك كان عبد الله بن أبي ابن سَلول وغيره قبل أن يُظهِروا الإسلام.
وقد ثبت في الصحيحين (1) من حديث أسامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهب يعود سعدَ بن عبادة، فمرَّ بمجلسٍ من الأنصار ... الحديث. ففي، هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير إسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ التزامُ حكمِه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك. فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغيرَ، فاستجاب الله. ودعاؤه له أن يهديه دليلٌ على أنه كان طالبًا مريدًا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم لا عند الكافر. لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه المقبول. وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يُجعَل مع المسلم لا يُجعَل مع الكافر.
وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، يُحكَم بينهم بذلك. نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذٍ في تغليب الإسلام بالدعاء كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام ودعاؤه واجباً بحسب الإمكان.
وعلى هذا فالحديث إن كان ثابتاً دليل على التخيير في الجملة.
لكن قد اختُلف في المخيَّر: هل كان صبيًّا أو صبيّة؟ فلم يتبيّن أحدهما، فلا يبقى فيه حجةٌ على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيَّرةُ كانت فطيماً، وهذه لا تُخيَّر باتفاقهم، وإنما كان تخييرُ هذه إن صحَّ الحديث من جنس آخر.
(آخر ما وُجد، والحمد لله وحده، وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وكتب في شهر ربيع الأول من شهود سنة أربع وستين وسبعمئة، أحسن الله عاقبتها بمنّه وكرمه، آمين يا رب العالمين. وكتبها أضعف العباد عبد المنعم البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنّه وكرمه) .
__________
(1) البخاري (4566، 5663، 6207) ومسلم (1798) .(3/429)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، يسرُّني أن أقدِّم إلى القراء المجموعة الرابعة من "جامع المسائل"، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تُنشَر من قبل، ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدةَ إقامته في مصر في السنوات (705-712) . وقد كانت الفتاوى المصرية جُمِعتْ بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستةَ مجلدات أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1) :
وكذاك أجوبة له مصريَّة في ستّ أسفارٍ كُتِبْنَ سِمَانِ
ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2) . أما ابن عبد الهادي (3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوبَّها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تُعرَف بالفتاوى المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية". وذكر بعض المترجمين له
__________
(1) "الكافية الشافية" (ص 164) .
(2) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/403) .
(3) "العقود الدرية" (ص 38) .(4/5)
- مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) - أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة.
ولعلّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستّة مجلدات، وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءًا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة أو السبعة كانت قسمًا من عامة مجلدات فتاواه التي جُمِعَتْ. ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3) :
وكذا فتاواه، فأخبرني الذي أضحَى عليها دائم الطَّوفان
بلغَ الذي ألفاه منها عدةَ الْ أيَّام من شهر بلا نقصان
سِفر يقابل كل يوم، والذي قد فاتني منها بلا حُسْبَانِ
يَقصِد أن ما وُجِد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدًا، أما ما لم يُوجَد منها أو لم يُجمَع بل تفرقَ في البلدان فهذا لا يُعدُّ ولا يُحصَى.
ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبةً على الأبواب، وكانت تسمى "الدرر المضية". ومما يؤسف له أنها أصبحتْ شَذَرَ مَذَرَ، ولم تُوجد كاملةً حتى الآن،
__________
(1) "أعيان العصر" (1/245) ؛ "الوافي بالوفيات" (7/29) .
(2) "فوات الوفيات" (1/80) .
(3) "الكافية الشافية" (ص165) .(4/6)
وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفتُ على أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلتُ في البحث عنها، ولعل الله يُيسِّر الحصولَ عليها في المستقبل.
وقد تَمَّ نَشْرُ كثيرٍ من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (طبعة مصر) و"مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ولكن دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الأصول أو مقابلتها مع "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي (ت 777) ، وهو مطبوع، مرتَب على الأبواب كالأصل (1) ، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصَر فيه المختصِر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبسَ أحيانًا سطرًا أو سطرين أو أسطرًا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن أمثلة ذلك: الفتوى رقم (9) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/8-23) ، نجد منها في "المختصر" (ص 14- 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/39-42) ، اقتُبس منها في "المختصِر" (ص 27) نصفُ سطرٍ. وهكذا في كثير مَن الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان "فيه من الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات" - كما قال الحافظ ابن حجر (2) - ونافعًا لمعرفة آراء
__________
(1) أخطأ ناشر "المختصر" فظن أن التبويب من البعلي!! والصواب أنه تابع الأصل في الاختصار والتهذيب.
(2) "الدرر الكامنة" (4/84) ، وذكر أن البعلي سمَى هذا المختصر "السهيل".(4/7)
شيخ الإسلام في المسائل التي سُئِل عنها، فإنه لا يُغنِي عن الرجوع إلى أصل كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصَّل القول في بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة بين الأصل والمختصر.
عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402] ، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه 207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: "وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي - عفا الله عنه - في خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك".
والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على هوامشها.
وهذا الجزء يحتوي على قسمٍ من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردتُ منها تلك المسائل التي لم تُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى"، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدًّا، مثل المسألة الأولى في شرح حديث أبي بكر "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ... "، والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ورد(4/8)
ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1) بعنوان "شرح دعاء أبي بكر"، وابن عبد الهادي (2) بعنوان " [شرح] حديث الدعاء الذي علَّمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر الصديق "اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا"". والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان "رسالة في إهداء الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عند ابن رشيق (3) . وهناك مسائل أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تُنشَر في هذه المجموعة لأول مرة.
ووجدتُ 13 مسألةً من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم ٍ [3537] (الورقة 89 أ-97ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتُها إلى ما استخلصتُها من المجموعة السابقة.
أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة من نسخةٍ حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظةٍ في المكتبة القادرية ببغداد برقم [491] ، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي على "مسائل وردت من الصلت" ومسائل أخرى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى". وقد ذكر ابن عبد الهادي (4) "أجوبة
__________
(1) انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (ص 249) .
(2) "العقود الدرية" (ص 61) .
(3) "الجامع" (ص 244) .
(4) "العقود الدرية" (ص 57) .(4/9)
كثيرة عن مسائل وردت من الصلت"، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان "أجوبة مسائل الصلط"، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان "جواب مسائل وردت من الصلت". وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه النسخة، فالحمد لله على ذلك.
وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطرٍ قليلة، اقتصر فيها الشيخ على ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل، وبعد مقابلتها على "مجموع الفتاوى" حصلتُ على قدرٍ لا بأس به من المسائل التي لم تُنشَر ضمنَه، فأدخلتُها في هذه المجموعة الرابعة.
والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91] ، (الورقة 137-146) ، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام، وبعضها بخطه. وقد تأملتُ في هذه الرسالة فوجدتها مضطربةً في الترتيب، وينبغي أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138-145، 137) . والرسالة بخط نسخي جيد، وقد كُتِب في أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين "الكلام في الصفات"، ولما قرأتُ
__________
(1) "الجامع" (ص 245) .
(2) المصدر السابق (ص 295،318،332) .(4/10)
فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتُها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه (ت 652) ، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبيَّن مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة.
وقد ذكر شيخُ الإسلام ابنَ حمويه في بعض مؤلفاته (1) وردَّ عليه، ولم أجد من أشار إلى مؤلَّفٍ له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة، وتُضاف إلى جملةِ مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي وأمثاله) .
وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا، والتي تبدأ بأثناء نصٍّ مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليقِ المؤلف عليه، وكُتب في آخرها: "بياض كبير". وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصًا من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمِل النقص، فأبقيتُها كما هي حفاظًا على الموجود منها لِيُستفاد.
وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة. والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد عزير شمس
__________
(1) انظر "الصفدية" (1/248) وهذه المجموعة (ص 66) .(4/11)
- نماذج من الأصول الخطية(4/13)
مسائل من الفتاوى المصرية(4/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة
في شرح الحديثِ الذي ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: "اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفر الذنوبَ إلاّ أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك وارْحَمْني، إنك أنتَ الغفور الرحيم" (1) .
شرحَه الحكيم فقال (2) : هذا عبدٌ اعترفَ بالظلم، ثم التجأَ إِليه مُضطرًّا، لا يجدُ لذنبه ساترًا غيرَه، ثم سألَه مغفرةً من عنده.
والأشياءُ كلُّها من عندِه، ولكن أراد شيئًا مخصوصًا ليس مما بَذَلَه للعَامَّةِ، فلله تعالى رحمة قد عَمَّتِ الخلقَ بَرَّهم وفاجرَهم، سعيدَهم وشقيَّهم، في أرزاقِهم ومعايشهم وأحوالِهم؛ ثم له رحمةٌ خَصَّ بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المتقين، وهي رحمةُ الطاعةِ للهِ تعالى؛ وللهِ رحمةٌ خصَّ بها الأولياءَ نالوا بها الولايةَ، وله رحمةٌ خصَّ بها الأنبياءَ نالوا بها النبوةَ. ولما ذكرَ في
__________
(1) أخرجه البخاري (834،6326،7388) ومسلم (2705) .
(2) "نوادر الأصول" (ص 232) .(4/23)
تنزيلِه الأنبياءَ قال: (وَوَهبنا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) (1) . وقال الراسخون في العلم: (وَهَبْ لَنَا مِن لًدُنكَ رَحمَةً) (2) . فإنما سألوه رحمةً من عنده.
فهذا صورةُ ما شرحَه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفةَ الظلم وأنواعه كما ذكر صفات الرحمة.
والمسئولُ شرحُ ما مفهومُ قولِ الصدّيقِ "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا"؟ والذنبُ بين يَدَي الله تعالى لا يحتمل المجازَ، والصدّيقُ من أئمة السابقين، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَه بذلك، فسيِّدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائلُ، وما هو الظلم الذي نَسَبَه الصديقُ إلى نفسه كما عَلَّمه النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
أجاب
الحمد دلله. الدعاءُ الذي فيه اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين ومَن دُونَهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياءُ وهم أفضلُ الخلق، قال الله تعالى عن آدمَ وحَوَّاءَ: (قَالَا ربنا ظَلمنَاَ أَنفسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لنا وَترحمنا لَنَكونَنَّ مِنَ اَلخَاسِرينَ (23)) (3) ، وقال موسى عليه السلام: (رَب إِنِّى ظَلَمتُ نَفسِى فَاَغفِر لىِ فَغَفَرَ لَهُ إِنه هُو
__________
َ
(1) سورة مريم: 50.
(2) سورة آل عمران: 8.
(3) سورة الأعراف: 23.(4/24)
اَلْغَفُوُر الرحيم (16)) (1) ، وقد دَعَا غيرُهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل عليه السلام: (رَبنا اَغْفِرْلِى وَلولِدَىَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَوم يَقُوم اَلْحِسَابُ (41)) (2) ،
وقال: (وَاَلَذِىَ أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِى خطيئتِى يوم اَلدِين (82)) (3) ، وقال هو وإسماعيل: (رَبنَا تَقَبًل مِنَّا إِنكَ أَنتَ اَلسَمِيعُ العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلينَا إِنكَ أَنت التَوابُ اَلرحيم (128)) (4) ، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرينَ (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك) (5) ، وقال نوح عليه السلام: (رَب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6) ، وقال يونس: (لا إله إِلَّاَ أنتَ سُبْحانكِّ إنى كنت من الظالمين (87)) (7) .
وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنتَ الملكُ لا إله إلا أنتَ، أنتَ ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وَاهْدِني لأحسن
__________
(1) سورة القصص: 16.
(2) سورة إبراهيم: 41.
(3) سورة الشعراء: 82.
(4) سورة البقرة: 127-128.
(5) سورة الأعراف: 155-156.
(6) سورة هود: 47.
(7) سورة الأنبياء: 87.
(8) مسلم (771) .(4/25)
الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنِها إلاَ أنتَ، واصرِفْ عنّي سَيّئَهَا، فإنه لا يَصْرِف عنّي سَيئَها إلا أنتَ، لَبيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كلُّه بِيدَيْكَ، والشرُّ ليس إليك، أنَا بك وإليك، أَستغفرك وأتوبُ إليك". وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في سجوده: "اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وعَلانيتَه وسِرَّه، وأوله وآخرَه".
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بينَ التكبير والقراءة: "اللهمَّ بَاعِدْ (3) بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغرب، اللهمَّ نَقِّنِيْ منَ الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهمَّ اغسِلْنِيْ من خطايايَ بالماءِ والثلج والبَرَدِ".
وثبتَ أيضًا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفعَ رأسَه من الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعدَ أن يقولَ: "أهلَ الثناءِ والمجدِ أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، لا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطِيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ" (5) .
__________
(1) مسلم (483) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (744) ومسلم (598) عن أبي هريرة.
(3) في الأصل "بعد"، وهو خلاف الرواية.
(4) برقم (476) عن عبد الله بن أبي أوفى.
(5) ليس هذا ضمن الحديث السابق، بل رواه مسلم (477) عن آبي سعيد الخدري، و (478) عن ابن عباس.(4/26)
وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ اغفِرْ لي خطيئتي وجهلي، وإسْرَافي في أمري، وما أنت أعلمُ به منّي، اللهمَّ اغفِرْ لي هَزْلي وجدِّي وخَطَأي وعَمْدِي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغفِرْ لي ما قَدمتُ وَما أَخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير".
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: "اللهمَ لك الحمدُ أنت رب السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولِقاؤُك حقٌّ، والجنةُ حق، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقّ، اللهم لك أَسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ. اللهمَّ اغفِر لي ما قَدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلاّ أنتَ".
وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغْفِر لي" يَتأوَّلُ القرآنَ، أي يَمتثِلُ ما أُمِرَ به في قوله: (فَسَبِّح بِحمد ربك وَاَستَغفِرهُ
__________
(1) البخاري (6398،6399) ومسلم (2719) .
(2) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.
(3) البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484) .(4/27)
إِنَّه كانَ تَوابا (3)) (1) . كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله: (فَاَصبِر إِنَّ وَعد اللهِ حَقٌّ وَاستَغفِر لِذنبك وسبح بحمدِ رَبِّكَ بِالعَشىّ وَالإبكار (55)) (2) ، (فأعلم أَنَهُ لَاَ إِلَهَ إلا اللهُ وَاَستَغفِر لِذَنبك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمِنات) (3) .
وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ) (4) ، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" آخر سورةٍ أُنزلتْ. وأيضًا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صَحِبَاه بعد نزول قوله: (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخَرَ) ، فإن هذه الآية قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلتْ عامَ الحديبية لما بايعَه الصحابةُ بيعةَ الرضوان تحت الشجرة وانصرفَ، وقد خالط أصحابَه كآبةٌ وحُزنٌ لرجوعهم، ولم يتِمُّوا العمرةَ التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غَضاضةً عليهم، حتى كرهَه كثيرٌ منهم، وجَرتْ فيه فصولٌ، فأنزل الله سورةَ الفتح بنُصرتِه من الحديبية، وهو في الطريق قبلَ وصولهِ إلى المدينة، ثم إنه تَجهَّزَ من المدينةِ لفتح خيبر، وفي أواخر غَزاةِ
__________
(1) سورة النصر: 3.
(2) سورة غافر: 55.
(3) سورة محمد: 19.
(4) سورة الفتح: 2.
(5) لم يروه البخاري ومسلم، وقد أخرجه النسائي والطبراني عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير (4/600،601) .
(6) مسلم (1786) عن أنس.(4/28)
خيبر قَدِمَ عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم) (1) .
وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس - كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة - يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك) : وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين (2) ، ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.
__________
(1) سورة الفتح: 4.
(2) حكاه المفسرون عن عطاء الخرساني، انظر تفسير البغوي (4/300) و"المحرر الوجيز" (15/88) والقرطبي (16/263) والخازن (6/157) .
(3) البخاري (4712 ومواضع أخرى) ومسلم (194) عن أبي هريرة.(4/29)
وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ) ، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم.
وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ) (1) ، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات.
وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف في حقَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته إليه، ويُجعلَ ما جعلوه (2) من الكبائر - كالزنا والسرقة وشرب الخمر - ذَنْبًا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى) (3) ، ويقول في كتابه: (وَمَن يَعمَل مِنَ الصّالحاَتِ وَهُوَ مُؤمِن فَلَا يَخَافُ ظُلما ولَا هَضمًا (112)) (4) ، قالوا (5) : الظلم أن تُحْمَل عليه سيئات غيرِه، والهَضْم أن يُنْقَصَ هو من حسناتِه، وهو أفضلُ من عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تُحْمَلُ عليه سيئاتُ غيرِه وتُضَافُ إليه؟ وأيُ فرقٍ بين ذنبِ آدمَ وذنب نوح والخليل وكلُّهم آباؤه؟ وأيُّ فرق بين ذنب الإنسان وذنب غيرِه (6) حتى يُضاف إليه هذا دونَ هذا؟ والله يقول: (أَم لَم يُنبّأ بما في
__________
(1) سورة محمد: 19.
(2) كذا في الأصل، ولعلّ الصواب "فعلوه" كما يظهر من السياق.
(3) سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.
(4) سورة طه: 112.
(5) انظر تفسير الطبري (16/159) و"الدر المنثور" (5/601) .
(6) في الأصل: "غيرانه".(4/30)
صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1) والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لرجل معه ابنه: "لا يَجْنِي عليك ولا تَجْنِي عليه" (2) .
وأيضًا فقد قال الله في غيرِ موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلاّ البلاغُ المبين، وقال: (فَإِن تَوَلواْ فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حمُلَ وَعَلَيكم مَّا حُمِّلتُم) (4) . فإذا كان على أمتِه ما حُمِّلُوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكونُ ذنوبُ أمته ذنوبَه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فسادُه على من له أدنى تدبُّرٍ، وإن كان قالَه طوائفُ من المصنِّفين في العصمة، حتى يَرَى ذلك بعضُ مَن له في السنة والفقه والحديث قَدَمٌ، لكن الغُلوَّ أوجبَ اتباعَ الجهال الضُلاَّل، فإنّ مثلَ هذه التفاسير إنما يَصْدُر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة المنافقين، وإمّا من المبتدعة الضالّين.
وأولُ من دخلَ في الغُلوّ من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادَّعَوا في علي وغيرِه أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَهُوا عليًّا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه كان تنزيهُهم
__________
(1) سورة النجم: 36-38.
(2) أخرجه أحمد (4/344،345،5/81) وابن ماجه (2671) عن الخشخاش العنبري. وصححه الألباني في "الصحيحة" (990) .
(3) أولها سورة المائدة: 92، وقبلَها في سورة آل عمران: 20 (وَإن تَوَلًوا فَإِنَّمَا عَلَيك البَلَاغ) .
(4) سورة النور: 54.(4/31)
للرسلِ أولى وأَحْرى.
ثم جاءت القرامطةُ الزنادقةُ المنتسبون إلى الشيعة لمَّا ادَّعَوا عصمةَ أئمتِهم الإِسماعيليةِ العبيديةِ القرامطةِ الباطنيةِ الفلاسفةِ الدهريةِ صاروا يقولون: إنهم معصومون يعلمون الغُيُوب، وصار مَن صار منهم يَعبدُهم ويَعتقد فيهم الإلهيةَ، كما كانت الغاليةُ تَعتقدُ في عليّ وغيرِه الإلهيةَ أو النبوةَ.
وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهيةِ عليّ ولا نبوَّتِه، فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخلَ في سِردابِ سَامَرَّاءَ سنةَ ستين ومائتين وهو طفلٌ غير مميِّز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس. ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوزُ عليه الخطأُ، ويقولون: إنّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد عَلِمَ أهلُ العلم بالأنساب أنَّ (1) الحسن بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عَقِبٌ، ولو كان له ولد صغير لكان تحتَ الحَجْر على ماله، وأن يَحضنَه من يستحقُّ الحَضَانَةَ، فلا يكون له ولاية لا على نفسه ولا على مالِه حتى يَبْلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فحينئذ يُسَلَّمُ إليه مالُه، فكيف يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون معصومًا، فضلا عن أن يكون اتّباعُه ركنًا في الإيمان.
__________
(1) في الأصل: "ابن" تحريف.(4/32)
ثم لما صار مثلُ هذا يُدَّعَى ادَّعَى ابنُ التومَرْتِ صاحبُ "المُرشِدة" أنه المهدي الذي بَشَّر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال في الخطبة له: "المهدي المعلوم" و"الإمام المعصوم" حتى رُفِعَ ذلك.
وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدُهم في شيخه نحوَ ذلك، فإمّا أن يقول: هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإمّا أن يُنكِر ذلك بلسانِه ولكن يُعامله معاملةَ المعصوم.
فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغُلوُّهم فيمن غَلوا فيه من أئمتِهم أهلِ المشيخةِ أو النسبِ يُوجب عليهم أن يَغْلُوا في الأنبياء بطريقِ الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضلُ منهم، وإن كانوا ممن يَعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي - كما يقول ذلك المتفلسفةُ والشيعةُ وغلاةُ المتصوفةِ الاتحاديةِ وغيرِ الاتحادية - فهم لابدَّ أن يُقِرُّوا الغُلُوَّ في الأنبياء حتى تُوافِقَهم الناسُ على الغُلُوَ في أئمتِهم.
وهذا كلُه من شُعَب النصرانية الذين وَصفَهم الله بالغلو في القرآن، وذمَّهم عليه ونهَاهم فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ(4/33)
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهلَ اَلكتاب لَا تَغلُواْ في دِينكم غير الحق و َلَا تَتبِعُوَاْ أَهواء قوم قد ضَلواْ مِن قَبلُ وَأَضلُواْ كثيرا وَضَلُواْ عَن سَواء السَّبِيلِ (77)) (2) .
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (3) . وقال: "إيّاكم والغُلوَّ في الدين، فإنما أهلكَ مَن كان قبلكم الغُلُوُّ في الدين" (4) . وهذا قال لهم بسبب رَمْي الجمارِ لئلاَّ يَغْلُوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟ وهؤلاء أهلُ الغلوِّ النصارى ومن شابَهَهم من هذه الأمة في الغلوّ - كما ثبتَ عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لَتَركَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخلتُموه" - هم قَصَدوا تعظيمَ الأَنبياء والصالحين بالغُلوّ فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبُغضِهم ما جاءوا به، فإنّ المسيح قال للنصارى كما أخبر الله عنه أنه قال: (مَا قلتُ لهم إلا مَاَ أَمرَتَني بِهِ أَنِ اَعبُدُواَْ اللهَ رَبِى وَربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقِيبَ عَلَيهِم وَأَنت على كل شئ شَهِيد (117)) (6) وقال المسيح: (إِني عَبدُ
__________
(1) سورة النساء: 171-172.
(2) سورة المائدة: 77.
(3) أخرجه البخاري (3445،6830) عن عمر بن الخطاب.
(4) أخرجه أحمد (1/215،347) والنسائي (5/268،269) وابن ماجه (3029) عن ابن عباس. وصححه النووي في "المجموع" (8/171) والألباني في "الصحيحة" (1283) .
(5) البخاري (3456،7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.
(6) سورة المائدة: 117.(4/34)
الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1) . والغُلاةُ فيه كذَّبوه وعَصَوه، فقالوا: ما هو عبدَ الله بل هو الله، وأشركوا به الشركَ الذي نهاهم عنه.
وكذلك الغاليةُ في عليّ وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعليٌّ عليه السلام يقول: "لا أوْتَى بأحدٍ يُفَضلُني على أبي بكرِ وعُمَرَ إلا جَلَدتُه حد المفتري" (3) . وحرَّقَ الغاليةَ فيه بالنار، ويقول ما نُقِلَ عنه من نحو ثمانين وجهًا: "خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكر ثم عمر" (4) ، ويَذكُر ذلك لابنِه محمد بن الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعةُ تكذبُه وتُخالِفُه.
فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهودِ مع موسى. وكذلك (6) أَتباعُ الشيوخِ الصالحين المهتدين يَضِلُّون فيهم، ويتركون اتّباعَهم على الطريقة التي يُحِبها اللهُ ورسوله.
وهذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير فأضلَّهم، حتى يجعل أحدُهم قولَ الحق تنَقُّصًا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:
__________
(1) سورة مريم:30.
(2) كذا في الأصل، والأولى "غيره".
(3) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/83) . وانظر "منهاج السنة" (1/ 308،6/138) .
(4) انظر: "منهاج السنة" (1/308) وذكر بعضها في هامشه (1/12) .
(5) برقم (3671) .
(6) في الأصل: "وأولئك"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 106) .(4/35)
(مَّا اَلَمسيحُ ابن مَريَمَ إِلا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قبلِهِ اَلرسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (1) قالوا: هذا تنقيصٌ بالمسيح وسوءُ أدبٍ معه، وهم مع هذا يَشتُمون الله ويَسُبونه مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: "لا تَرحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر".
وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: "شَتَمَنِيْ ابنُ آدمَ وما يَنبغي له ذلك، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتْمُه إيّايَ فقوله إن لي ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأما تكذيبُه إيّايَ فقوله لن يُعِيْدَني كما بدأني، أَوَليس أَوَّلُ الخلقِ بأهونَ عليَّ من إعادتِه؟ ".
وهؤلاء الغاليةُ يَجمعُون بين شتم الربّ وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون إلى هذه الأمّة تجدُ أحدَهم يَغلُو في قُدوتِه، حتى يكرهُ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ويُقالَ عليه الحقُّ، وهو مع هذا يقول في الله العظائمَ التي ما قالتْها فيه لا اليهودُ ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوفٌ بكل ذَم وكل عيب كما هو موصوفٌ بكل حمدٍ وكل مدحٍ، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في المسيح، والله سبحانَه عابَ على المشركين ما هو دون هذا، حيثُ قال: (وَجعلَوا للهِ مِمَا ذَرَأ َمِن الحرث والأَنعَام نَصِيبا فَقَالواْ هَذا لله بِزَعمِهِم وَهَذَا لِشرَكائنا فَمَا كانَ لشركائهم فَلَا
__________
(1) سورة المائدة: 75.
(2) البخاري (3193،4974،4975) عن أبي هريرة.(4/36)
يَصِلُ إلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصلُ إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1) ،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدوا بِغَيرِ عِلم) (2) .
وهؤلاء يرِيدون أن يُقالَ في أئمتِهم الحقُّ، ويقولون على الله الباطلَ، ويَرضوْن بأن يُسَبَّ الله ويُشْتَم، ولا يَرضَوْن بأن يُسَبَّ متبوعُ أحدِهم على ما افتراه على الله ورسوله، بل لا يَرضَون أن يُقال فيه الحقُّ أو أن يُضافَ إليه خطأٌ جائزٌ عليه وواقعٌ منه. وقال تعالى حكايةً عن الخليل عليه السلام: (وَكيفَ أَخَافُ مَاَ أشرَكتم وَلَا تَخَافُونَ أَنّكم أَشْرَكتُم بالله ما لَمْ ينُزل بِهِ عليكم سلطانا فأي الفريقين أَحَقُّ بالأَمن إِن كنُتم تعلَمون (81)) (3) . قال تعالى: (الَذِينَ أمَنُواْ وَلَم يَلبِسُوَا إِيمَانَهُم بِظلم أُوْلئكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُم مهْتَدُونَ (82)) (4) .
كان المشركون يُخوَفون المؤمنين بآلِهَتِهم، ويقولون: إنكم إذا لم تتخذوها شُركاءَ وشُفعاءَ فإنها تَضرُكم، فأنكر الخليلُ عليه السلام وقِال: (وَكيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلَا تَخَافُون أَنكّم أَشرَكتُم بالله مَا لم ينزِل بِهِ عَلَيكمْ سُلطانا) ، أي كيف أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يَضرُّ ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا تخافون اللهَ حيثُ أشركتم به فجعلتم له أندادًا، فأَعدلْتموهم به، تَدعُون من دونه
__________
(1) سورة الأنعام: 136.
(2) سورة الأنعام: 108.
(3) سورة الأنعام: 81.
(4) سورة الأنعام: 82.(4/37)
وتخافونَهم وترجونهم، وهو لم يُنزل بذلك عليكم سلطانًا، وهو الكتاب المنزَّل من السماء، (فأيُّ اَلفَرِيقَين أَحق بالأَمنِ إِن كنُتم تَعلَمُون (81)) .
وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أَيُّنَا لم يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إِنَّ الشركَ لَظلم عظيم (13)) (2) ".
وهذا بابٌ يَطول وصفُه، وإنما المقصود التنبيهُ عليه.
إذا عُرِفَ هذا فقد اتفقَ سلفُ الأمة وأئمتُها وجميعُ الطوائف الذين لهم قولٌ يُعتَبر أنَّ من سِوَى الأنبياءِ ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان صدِّيقًا أو لم يكن، ولا فرقَ بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظٌ من ذلك، أو ممنوعٌ من ذلك.
قال الأئمة: كلُّ أحدٍ يُؤخَذ من قوله وْيترَك إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه هو الذي أَوْجَب اللهُ على أهل الأرض الإيمانَ به وطاعتَه، بحيثُ يَجبُ عليهم أن يصدِّقوه بكل ما أخبرَ ويُطيعوه في كلِّ ما أمرَ.
وقد ذكرَ اللهُ طاعتَه واتباعَه في قريبٍ من أربعينَ موضعًا في
__________
(1) البخاري (32،3360 ومواضع أخرى) ومسلم (124) .
(2) سورة لقمان: 13.(4/38)
القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1) ، وقال: (وَمَا أَرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فيمَا شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أَنفسهم حرَجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (3) ، وقال تعالى: (لَّا تَجْعَلُواْ دُعَاء اَلرَسُولِ بَينكم كَدُعاء بَعْضكم بَعْضا) ، إلى قوله: (فليحذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمره أَن تُصيبَهُم فِتنَة أَؤ يُصِيبَهُم عَذَاب أَليم (63)) (4) ، وقال تعالى: (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحق أَن يُرضوُه) (5) ، وقال تعالى: (قُل إن كنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاَتَّبِعوني يحْببِكمُ اللهُ) (6) ،وقال تعالى: (فَإِن تَناَزعتُم في شَئ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (7) ، وقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مع اَلَّذِينَ أَنعَمَ اللهَُ عَليهِم مِّنَ النِّبينَ وَالصِّدِيقِين وَالشُهَداءً وَالصّالِحِينَ) (8) .
وطاعةُ الله والرسول هي عبادةُ اللهِ التي خُلِقَ لها الجنّ والإنس، فهي غايتُهم التي يُحِبُّها اللهُ ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاءَ من بعضِهم ما هو بخلاف ذلك وخَلَقَهم له، فتلك غايةٌ
__________
(1) سورة النساء: 80.
(2) سورة النساء: 64.
(3) سورة النساء: 65.
(4) سورة النور: 63.
(5) سورة التوبة: 62.
(6) سورة آل عمران: 31.
(7) سورة النساء: 59.
(8) سورة النساء: 69.(4/39)
شاءَها وقَدَّرَها، وهذه غاية يُحِبها ويأمرُ بها ويرضاها. والكلامُ على هذا مبسوط في غير هذا الموضع (1) .
والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغايةِ الذل له، فكل خيرٍ وكلِ كمال ومقامٍ وحالٍ قَرَّبَ إليه ونحوُ ذلك مما يُحمَد من العبادِ ويُطْلب منهم ويُرضى لهم فهو داخلٌ في طاعة اللهِ ورسوله أو مستلزمٌ لذلك. ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله" (2) .
وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟
فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ.
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة،
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (8/159-161، 187-190،197-200،440-442) .
(2) أخرجه مسلم (2361) عن طلحة.(4/40)
فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين، وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه. وفي الأثر (1) : "إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ"، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ.
وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين"، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما (2) من الهدى والصواب.
فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم، فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام، بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى
__________
(1) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص 396،397) وابن المبارك في "الزهد" (162) عن الحسن مرسلاً، فهو ضعيف. انظر "الضعيفة" (2031) .
(2) في الأصل: "فيها"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 107) .(4/41)
الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70)) (1) .
وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: "إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً"، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه.
وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ (4) راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه.
وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله
__________
(1) سورة الفرقان: 70.
(2) مسلم (190) عن أبي ذر.
(3) البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود، والبخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس. ورواه مسلم أيضًا (2745،2746) عن النعمان بن بشير والبراء بن عازب.
(4) في الأصل: "أظل"، وهو خطأ.(4/42)
غَفُورا رَّحيِما (73)) (1) ، فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2) : "كل ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون".
واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ ونحوُ ذلك، فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون (3) أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال، ولما بايعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟ (4) فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم "حُرَّة" تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ كن عَفائِفَ.
وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب قطُ.
__________
(1) سورة الأحزاب: 72-73.
(2) أخرجه أحمد (3/198) والترمذى (2499) وابن ماجه (4251) عن أنس بن مالك. وحسنه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2341) .
(3) في الأصل: "لا يرضوا".
(4) ذكره الطبري في "تاريخه" (3/61-62) بلاغًا ضمن قصة مشهورة. ونقل عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/616-618) .(4/43)
ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر والخُيَلاَء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب.
وقد ذكر الله الذين وعدَهم بالحسنى فلم يَنْفِ عنهم الذنوب، ولكن ذكرَ المغفرةَ والتكفيرَ فقال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) (1) ، وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (2) .
وقد ثبت في الصحيح (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لن يَدْخُلَ أحد منكم الجنةَ بعملِه"، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلاّ أن يَتَغَمَّدَني الله برحمته".
__________
(1) سورة الزمر: 33-35.
(2) سورة الأحقاف: 16.
(3) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) عن أبي هريرة.(4/44)
فصل
إذا ثبتَ هذا فظلمُ العبدِ نَفسَه يكون بتركِ ما ينفعُها وهي محتاجة إليه، أو بفِعْلِ ما يَضُرُها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمَنْع حقِّه أو التعدِّي. والنفسُ إنما تَحتاجُ من العبد إلى فعل ما أمرَ اللهُ به، وإنما يضرُّها فعلُ ما نهى الله عنه، فظلمُها لا يَخْرُج عن تركِ حسنة مأمورٍ بها أو فَعْلِ سيئةٍ منهيٍّ عنها، وما يُضْطَرُّ العبدُ إليه من أكلٍ وشرب ولباس وغير ذلك هو داخلٌ في هذا، فإن جميع ذلك هو من الواجبات المأمورِ بها، حتى أكلُ الميتةِ عند الضرورة يجب في المشهورِ من مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ إلى الميتةِ ولم يأكل حتى ماتَ دخلَ النار.
وكذلك ما يَضرُّها من جنسِ العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو يَقتُلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يَقتُلها ونحو ذلك، هو من ظلمها المحظور، فالله تعالى أمرَ العبادَ بما ينفعُهم ونهاهم عما يَضرُّهم، كما قال قتادةُ: إن الله لم يأمر العبادَ بما أمرَهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غيرِ موضع.
والصلاح كلُّه في طاعة الله، والفسادُ كلُّه في معصيةِ الله، فالصلاح والطلاعة متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازُم الطيب والحِلّ، وكلُّ طيب حلال وكل حلالٍ طيّبٌ، وكل خبيثٍ(4/45)
حرام وكل حرام خبيثٌ. والمعروفُ ملازمٌ مع الطاعةِ والصلاحِ، والمنكرُ ملازم مع المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبيَّنَ له اتصافُ الفعلِ ببعض هذه الصفات قبلَ بعض، كما يَعلم كثيرًا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرًا من المحرَمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يَرى مصالحَ كثيرةً ولا يعلم أمرَ الشارع بها.
والمؤمنُ يعلم أن الله يأمر بكل مصلحةٍ ويَنهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئًا من أحد الوجهين: إما أن يكون في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإِما أن يكون داخلاً فيما أمر الله به ولم يعلم.
ولهذا تنازعَ العلماء في المصالح المرسلة التي لم يُعلَم أن الشارع اعتبرها ولا أهدرها، فقيل: يُستدَلُّ بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يُهمِلُ المصالح، وقيل: بل يُستدَلُّ بعدم اعتبارِ الشارع لها على أنها ليست مصلحةً، بل مضرتُها راجحة إذْ لوَ كانت مصلحتها راجحةً لاعتبرها الشارعُ. وتَتَفَاوَتُ فِطَنُ الناسِ في ذلك بحيث تَعرِفها بجهةِ الاعتبارِ والإهدارِ.
ومما يجب أن يُعرَف أنَ العبدَ قد يجب عليه أسبابُ أمورٍ لا تَجبُ عليه بدونها، فإن قام بها كان مصلحًا محسنًا إلى نفسِه، وإلاّ كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركُها ظلمًا في حق من لم يقبل تلك الأسبابِ، مثل من وَلِيَ ولايةً، ففي "المسند" (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) 3/22،55 عن أبي سعيد الخدري. ورواه أيضًا الترمذي (1329) . وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (1156) .(4/46)
أنه قال: "أحب الخلقِ إلى الله إمام عادل، وأبغضُ الخلق إلى الله إمام جائر".
وكذلك (1) مَن لغيره عليه حقوقٌ، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله الحقوقَ العشرة في قوله: (*وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (2) . فبَدأ سبحانَه بحقِّه، كما في الصحيحين (3) أنَ النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذٍ: "يا معاذُ! أتدري ما حقُّ اللهِ على عبادِه"؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: "أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، يا معاذ!
أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك"؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يُعذبَهم".
فكلَّما ازدادتْ معرفةُ الإنسان بالنفوسِ ولوازمِها وتَقلُبِ القلوب، وبما عليها من الحقوق لله ولعبادِه، وبما حَدَّ لهم من الحدود= عَلِم أنه لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود. ولهذا أمرَ الله عبادَه المؤمنين أن يَسألوه أن يَهديَهم الصراطَ المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبةِ وحدَها سبعَ عشرة مرةً، وهو صراطُ الذين أنعم الله عليهمِ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع اللهَ ورسوله فهم هؤلاء.
__________
(1) في الأصل: "وأولئك" تحريف.
(2) سورة النساء: 36.
(3) البخاري (2856،5967،6267،6500،7373) ، ومسلم (30) .(4/47)
فالصراط المستقيم طاعةُ الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباعُ القرآن، وهو لزومُ السنَّة والجماعة، وهو طريقُ العبودية، وهو طريق الخوف والرجاء. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في خطبته (1) : "الحمد لله نستعينه ونستغفره" لعلمِه أنه لا يفعل خيرًا ولا يجتنب شرًّا إلا بإعانة الله له، وأنه لابُدَّ أن يفعل ما يُوجِب الاستغفارَ.
وفي الحديث الصحيح (2) : "سيّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إلهَ إلا أنتَ خلقتَني، وأنا عبدك وأنا علىَ عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أَبوءُ لك بنعمتِك عليَّ، وأَبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يَغفر الذنوبَ إلا أنتَ".
فقوله "أَبوءُ لك بنعمتك عليَّ" يتناولُ نعمتَه عليه في إعانته على الطاعات، وقوله "أَبوءُ لك بذنبي" يُبيِّن إقرارَه بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار. والله تعالى غفور شكور، يَغفر الكثيرَ من الزلل، ويَشكر اليسيرَ من العمل. وجاء عن غيرِ واحدٍ من السلف أنه كان يقول: إنّي أُصبِحُ بين نعمة وذنب، فأريد أن أُحْدِث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا.
فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكرَ والاستعانةَ والاستغفارَ، الحمد لله وأستغفر الله ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، كما
__________
(1) أخرجه مسلم (868) عن ابن عباس.
(2) البخاري (6306،6323) عن شداد بن أوس.(4/48)
كان بعضُ المشايخ يَقرِن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، والاستغفار لما تقدم من إساءةِ العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره. وهذه الثلاثُ لابدَّ لكل عبد منها دائمًا، فمن قَصَّرَ في واحد منها فقد ظلمَ لنفسِه بحسب تقصيرِ العبد.
وأصل الإحسان هو التصديقُ بالحقّ ومحبتُه، وأصل الشرِّ هو التكذيبُ به أو بُغْضُه، ويَتْبعُه التصديقُ بالباطل ومحبتُه. والتصديقُ بالحقّ وحبُّه هو أصلُ العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيبُ به وبُغْضُه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يُقِرَّ به أو لم يُحِبَّه كان ظالمًا لنفسه، وإن أقرَّ بباطل أو أحبَّه واتَّبَع هواه كان ظالما لنفسه، فظلمُ النفسِ يعود إلى اتباعَّ الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصلُ الشرِّ البدَعُ، وهو تقديمُ الرأي على النصِّ واختيارُ الهَوَى على امتثالِ الأمر، وأصلُ الخير اتباعُ الهُدَى، كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأتينكمِ مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبعً هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى (123) وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنَ لهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنحشره يَومَ الَقيامَةِ أَعمَى (124)) (1) . قال ابن عباس (2) : تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآنَ وعمل بما فيه أن لا يَضل في الدنيا ولا يَشْقَى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلِكَ الكتابُ لَا رَيب
__________
(1) سورة طه: 123-124.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/163) .(4/49)
فيه هُدًى) إلى قوله (أُوْلئكَ على هُدًى مِّن رَّبهِم وَأُوْلَئكَ هُمُ المفلحون (5)) (1) . والضلال والشقاء هو أمرُ (2) الضاليِنِ والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غَيرِ المَغضُوبِ علًيهِم ولا الضاليَن (7)) (3) ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (4) ، فإن اليهودَ عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.
ومن عرفَ الحقَّ ولم يعملْ به كان متبعًا لهواه، واتباعُ الهوى هو الغَي، ومن عَمِلَ بغير علم كان ضالاًّ.
ولهذا نزَه اللهُ نبيَّه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) مَا ضَل صاحِبُكم وَما غَوى (2)) (5) . قال تعالى في صفة أهل الغي: (سَأَصرِفُ عَنْ آياتي الَذِينَ يتَكبَرُون فِي اَلأَرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَإِن يرواْ كلَّ أية لا يُؤمِنُواْ بِهَا وَإن يَرَواْ سَبيلَ الرُّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (6) ، وقال: (وَاَتلُ عَلَيهِم نَبَأَ اَلَذِيَ أتَيْنَاه آيتِنَا فانسَلَخَ مِنهَا فَاَتبعًهُ الشَيطاَن فَكانَ مِنَ الغَاوِيَن (175)) (7) ، وقال في الضلال: (وإنَ كثَيرا لّيُضِلُونَ بِأَهوآئهم
__________
(1) سورة البقرة: 2-5.
(2) في الأصل: "أحد" تحريف.
(3) سورة الفاتحة: 7.
(4) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953،2954) عن عدي بن حاتم. وفي الباب روايات أخرى أخرجها الطبري في تفسيره (1/185-188، 193-195 من طبعة دار المعارف) .
(5) سورة النجم: 1-2.
(6) سورة الأعراف: 146.
(7) سورة الأعراف: 175.(4/50)
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) (1) ، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (2) .
والعبد إذا عَمِلَ بما علم ورَّثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، كما قال سبحانَه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)) (3) ، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)) (4) ، وقال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (5) ، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (6) .
فإذا تركَ العملَ بعلمه عاقَبَه الله بأن أَضلَّه عن الهدى الذي يَعرِفه، كما قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (7) ، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (8) ، وقال: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (9) .
وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة
__________
(1) سورة الأنعام: 119.
(2) سورة القصص:50.
(3) سورة النساء: 66-68.
(4) سورة محمد:17.
(5) سورة الحديد: 28.
(6) سورة المائدة: 16.
(7) سورة الصف: 5.
(8) سورة الأنعام: 110.
(9) سورة البقرة: 10.
(10) برقم (3334) . وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (2/297) =(4/51)
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ العبدَ إذا أذنب نكِتَ في قلبه نكتة سوداءُ، فإذا تاب ونَزَعَ واستغفر صُقِلَ قلبه، فإن زادَ يَزِيدُ فيها حتى يَعْلُوَ قَلْبَه، فْذلك الرَّانُ الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (14) (1) ".
فهذه الأمور تتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفسَه، لكن كل إنسانٍ بحسبه وبحسبِ درجتِه، فما من صباح يُصْبِح إلاّ وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدود عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيعُوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّمَ محارمَ فلا تَنتهِكُوها" (2) .
فإن أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ: مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهيٌّ عنه وهو المحارم؛ ومباح له حدٌّ يُنتَهَي إليه، فتعدِّيه تَعدٍّ لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات والمستحبات تعدٍّ (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) (4) . والذنوب
__________
= والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (418) وابن ماجه (4244) .
(1) سورة المطففين: 14.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (22/رقم 589) والدارقطني في السنن (4/ 183،184) وأبو نعيم في الحلية (9/17) والبيهقي في السنن الكبرى (2/110-13) عن أبي ثعلبة الخشني، وصححه الحاكم وحسَّنَه النووي، وانظر الكلام عليه في "جامع العلوم والحكم" (2/150 وما بعدها) .
(3) كذا في الأصل، والصواب أن يكون "تعدّيًا".
(4) سورة آل عمران: 147.(4/52)
تتناولُ جنسَ الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدِّي الحدودِ، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) .
فالإثم جنسُ المنهي عنه، والعدوانُ تعدِّي الحدِّ في المأذون فيه، والبِرُّ جنسُ المأمور به، والتقوى حفظُ الحدود، بل يُفعَل المأمورُ به ويترَكُ المنهيُّ عنه، ويُفعَل المباحُ من غير تعدِّي الحدودِ في ذلك.
إذا تبيَّن هذا الأصل فقولُ السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا"، والدعاء بين يَدَي الله لا يحتمل المجاز، والصدِّيق من أئمة السابقين، والرسول أمرَه بذلك" يتضمن شُبهةً في هذا الدعاء، ومَثَارُ الشبهةِ أن يُقال: الصدّيقُ أجلُّ قدرًا من أن تكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا، فإنّ ذلك ينافي مرتبةَ الصدِّيقيةِ.
وهذه الشبهة تزول بوجهين:
أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كَمُلَت مرتبتُه وانتهت درجتُه، وتَمَّ عُلُوُّ منزلتِه في نهايتِه لا في بدايته، وإنما قَالَ ذلك بفعلِ ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، وأفضلُ أعمالِه بل
__________
(1) سورة المائدة: 2.(4/53)
أفضلُها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صدّيقٍ إلاّ ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين الأولين، وما وُجِدَ قبلَ التوبة فإنه لم يَنْقُصْ صاحبَه إذا تَعقَّبتْه التوبةُ ولم يُغْضِ من منزلتِه، ولا يتصوَّر أن بَشرًا يَستَغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: "كل بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون" (1) .
وفي صحيح البخاري (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة".
وفي صحيح مسلم (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللهَ في اليوم مائةَ مرةِ". فقد أَمَر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمتَه بالتوبة عمومًا، وأخبرَ أنه يَستغفر اللهَ ويتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً، بل قولُه الذي في الحديث المتفق عليه (4) : "اللهمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنتَ أعلم به مني. اللهمَّ اغْفِر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطأي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغْفِر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) برقم (6307) عن أبي هريرة، وليس فيه الجزء الأول، وقد أخرجه مسلم (2702) عن الأغرّ المزني.
(3) برقم (2702) عن الأغر المزني.
(4) البخاري (6398) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري.(4/54)
لا إلهَ إلا أنتَ". فهذا الدعاءُ فيه من الاعتراف أعظمُ مما في الدعاء الذي أمر به الصدّيق.
والصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرًا ثم يتوب من الكفر ويصير صدِّيقًا، وقد يكون فاسقًا أو عاصيًا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صدِّيقًا. وإنما تنازع الناسُ في الأنبياء، وإن كان القولُ بعصمة الأئمة قد يقوله بعضُ من يقوله من الرافضة، حتى الإسماعيلية يقولون: إن بني عُبيد الله بن ميمون القدَّاحِ كانوا معصومين لا يجوزُ عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاءِ زنادقةٌ مرتدون ليسوا من أهل القبلة الذين يُنْصَبُ معهم الخلافُ. والرافضة الذين يعتقدون العصمةَ في الاثنَي عشرَ أجهلُ الخلق وأضلُّهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويُشبِهُهم من يعتقد في شيخِه أو متبوعِه العصمةَ، لكرامة رآها منه أو لحسنِ ظنٍّ به، فهؤلاء كلُّهم من الجهال الذين ليس لقولهم أصل يُبْنَى عليه.
ومع هذا فتقديرُ أن يكون أحدُ هؤلاء معصوما أو محفوظًا إنما ذاك عندهم بعد أن يَبلُغ منزلةَ الولايةِ أو الصدِّيقية، وأما قبلَ ذلك فليس بمعصوم باتفاق الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخُ الدين أن الولي والصديق لا يجب أن يكونَ معصومًا، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصدّيقُ الأكبر خيرُ هذه الأمة بعده نبيِّها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناسَ: "أيها الناسُ! القويُّ فيكم الضعيفُ عندي حتى آخُذَ منه الحقَّ، والضعيفُ فيكم القويُّ عندي حتى آخُذَ له الحقَّ، أطيعوني فيما أطعتُ اللهَ،(4/55)
فإذا عصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم" (1) .
وثبتَ في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّ رُؤْيا رآها، فقال أبو بكر: دَعْني يا رسول الله أُعبِّرْها، فلما عَبَّرها قال: أصبتُ يا رسول الله أم أخطأتُ؟ فقال: "أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا".
وقال الصديق في الكلالة (3) : "أقولُ فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان".
وأفضلُ هذه الأمة بعدَ أبي بكر عمرُ، وكان محدَّثًا مُلْهَمًا، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كانَ في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمرُ". وفي حديثٍ آخر: "إنَّ الله ضربَ الحقَّ على لسان عمر وقلبِه" (5) .
فعمر رضي الله عنه أفضلُ المخاطَبين المحدَّثين من هذه الأمة، والصدّيق أفضلُ منه، فإنّ الصديق يتلقَّى عن الرسول لا عن قلبه،
__________
(1) أخرجه محمد بن إسحاق من حديث الزهري عن أنس، انظر "سيرة" ابن هشام (2/660،661) . وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (8/90، 9/415) .
(2) البخاري (7046) ومسلم (2269) عن ابن عباس.
(3) كما في تفسير الطبري (4/191-192) .
(4) البخاري (3469،3689) ومسلم (2398) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه أحمد (2/53،95) والترمذي (3683) عن ابن عمر، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2175-موارد) . وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/401) .(4/56)
ولهذا سُمِّيَ صدّيقًا، وما جاء به الرسول فهو معصومٌ أن يَستقِرَّ فيه خطأٌ، فما يأخذُه الصديق فهو صِدقٌ كلُّه وحق كلُّه، وأما المحدّث الذي يأخذُ عن قلبه فقلبُه قد يُصيبُ وقد يُخطِيءُ، فيجبُ على كلِّ محدَّث ومُكاشَفٍ أن يَعرِضَ ما وَقَعَ عليه على الكتاب والسنة، فإن وَافقَ ذلك وإلاّ ردَّه، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه لَيَمُرُّ بقلبي النكتةُ من نكتِ القوم، فلا أقبلُها إلا بشاهدينِ اثنين: الكتابِ والسنةِ. وقال: ليس لمن أُلْهِمَ شيئًا من الخير أن يعملَه حتى يَسمَعَ فيه بأثرٍ، فإذا سَمِعَ بالأثر كان نورًا على نورٍ.
وقال الجنيد بن محمد: عِلْمُنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتبِ الحديثَ لا يصلحُ له أن يتكلم في علمنا.
وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي: كل وَجْدٍ لا يَشهد له الكتابُ والسنة فهو باطل.
وقال أبو عمرو بن نُجَيد أو غيرُه: من أَمَّر السنّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطقَ بالحكمة، ومن أَمَّرَ الهوى على نفسِه قولاً وفعلاً نطقَ بالبدعة، لأنّ الله يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (1) .
ومثلُ هذا كثير في كلام المشايخ، فما يُلقَى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكلُّ ذلك فيه حق وفيه باطل، وليس أحدٌ منهم معصومًا، وكلٌّ منهم عليه أن يَزِنَ ذلكَ بالكتاب والسنة والإجماع،
__________
(1) سورة النور: 54.(4/57)
فما خالفَ ذلك فهو باطل.
ومنزلةُ الصديقِ والفاروقِ دَلَّتْ على أنّ [من] يأخُذُ مِن علمِ النبوة الثابتِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرفعُ منزلةً ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحدِ من هؤلاء أن يكون مُشابهًا لعمرَ ولا يكونُ مثلَه قط، ومنزلةُ الصدّيقِ أفضلُ، ولهذا كان الصديقُ يُعلم عمرَ ومعاويةَ في غير قصةٍ، كما جرى له معه يومَ الحديبية لما قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألستَ رسولَ الله حقًّا؟
قال: فَلِمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولستُ أعصِيْه، قال: ألم تُحدِّثنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، فقلتُ لك إنكَ تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ ومُطَوِّفٌ به. ثم جاء عمرُ إلى أبي بكرٍ، فقال: يا أبا بكر!
ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس هو رسول اللهِ حقا؟ قال: بلى، قال: فَلِمَ نُعطَى الدِّنِيَّةَ في ديِننا؟ قال: إنه رسول اللهِ وهو ناصرُه وليس يَعصِيْه، قال: ألم يكن يُحدِّثُنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، أقال لكَ إنك تأتيهِ هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ وتطوفُ به (1) .
فأبو بكر أجابَ بمثل ما أجابَ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من غير أن يسمعَ كلامَه في تلك القصةِ التي اضطربتْ فيها أكثرُ الصحابةِ، حتى
__________
(1) أخرجه البخاري (2731،2732) ومسلم (1785) عن سهل بن حنيف.(4/58)
قال سهل بن حُنَيف - وهو من كبار المؤمنين وشهدَ مع علي صِفّينَ -: "أيها الناس! اتّهمُوا الرأيَ على الدين، فلقد رأيَتُني يومَ أبي جندلٍ، ولو أستطيعُ أن أَرُدَّ أمرَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرددتُه" رواه البخاري (1) .
فإذا كان الصديق والفاروق - وهما خيرُ الخلق بعدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما اللذان قال فيهما: "اقتَدُوا باللذينِ من بعدي أبي بكرِ وعمرَ - هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرِهما؟ وبهذا يُعلَمً أن كل من ادَّعَى استغناءَهُ عن الرسالة بمكاشفةٍ أو مخاطبةٍ، أو عصمةَ ذلك له أو لشيخِه ونحو ذلك= فهو من أضل الناس.
ومن احتَجَّ على ذلك بقصةِ الخضِر مع موسى ففي غايةِ الجهل لوجوهٍ:
أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجبُ على الخضرِ اتباعُ موسى، بل قال له موسى: إني على علمٍ من علمِ الله عَلَّمنِيهِ الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علمٍ من علم الله عَلَّمك الله لا أعلمه، ولما سَلَّم عليه قال: وأنَّى بأرضِكَ السلامُ؟ قال: أنا موسى، قال: موِسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2) . فالخضر لم يعرف موسى حتى عرَّفه نفسَه. وأما محمدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو رسول الله إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعْه كان كافرًا ضالاًّ من جميع من بَلَغتْه دعوتُه، ومن قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرًا.
__________
(1) برقم (4189) . ورواه مسلم أيضًا (1785) .
(2) أخرجه البخاري (4725 ومواضع أخرى) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.(4/59)
الوجه الثاني: أن ما فعلَه الخضرُ لم يكن خارجًا عن شريعة موسى، ولهذا لما بَيَّن له الأسبابَ التي أُبِيْحَ له بها خَرْقُ السفينة وقتلُ الغلام وبناءُ الجدارِ بغير جُعْلٍ أُقرَّه على ذلك، بل كانت الأسبابُ المبيحةُ لذلك قد عَلِمَها الخِضرُ دون موسى، كما يدخل الرجلُ دارَ غيره، فيأكلُ طعامَه ويأخذ مالَه، لعلمِه بأنه مأذون له في ذلك، وقتلُ الآخرِ لعدم علمِه بالإذن قد يكون سببًا ظاهرًا وقد يكون بسبب باطن، وعلى التقديرينِ هما في الشريعة.
الوجه الثالث: أن الخضرَ إن كان نبيًا فليس لغير الأنبياء أن يتشبَّه إليه، وإنْ لم يكن نبيًا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمرُ أفضلُ منه، فإنّ هذه الأمة خير أمةٍ أخرجتْ للناس، وخيارُ هذه الأمةِ القرنُ الأول من المهاجرين والأنصار، وخيرُ القرنِ الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخيرُهم أبو بكر وعمر.
فإذا كان أبو بكر وعمر أفضلَ من الخضر، وحالُهما مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الحالُ، ونحن مأمورون أن نقتديَ بهما، لا بأن نَقتديَ بالخضر، كان من ترَكَ الاقتداءَ بهما في حالِهما مع محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقتدَى بالخضرِ في حالِه مع موسى= من أضلِّ الناسِ وأجهلِهم. بل من اعتقدَ أنه يجوز له أن يَخْرُجَ عن طاعةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصديقِه في شيء من أمورِه الباطنة أو الظاهرةِ فإنه يجب أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل كائنًا من كان.
وإذا عُرِفَ أنّ التوبة تَرفعُ منزلةَ صاحبِها وإن كان فيه قبلَ ذلك ما كان، لم يكن لأحدٍ أن ينظر إلى صدّيقٍ ولا غيرِه باعتبار مَا وقعَ(4/60)
منه قبلَ التوبةِ والاستغفار، ومن فعلَ ذلك كان جاهلاً أو ظالما مهما أمكن أن يقعَ، إلاّ إذا كانت التوبة قد وُجِدتْ منه، فقد زال أمرُه وارتفعت بالتوبة درجتُه. فلا يُستكبَر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان صديقُ هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام وبعده، حتى إنّه لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفًا عندهم بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يُحسَم مادةُ مثلِ هذا السؤال، لكن مع كونه من أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاجُ أن يتوبَ ويعترفَ بظلم نفسه، كما اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر.
وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة كما تقدم التنبيهُ عليه، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يُعرَف أنواع ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا حاجةَ بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما يُقتدَى فيه بأحدٍ، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي يثاب فيها. والإنسان لا يَقْنَطُ من رحمة الله ولو عملَ من الذنوب ما عسى أن يعمل، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (1) .
__________
(1) سورة الزمر: 53.(4/61)
ونحن نعلم أن التوكلَ على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي تُصِيبُه فرض، وخشية الله وحدَه دون خشيةِ الناس فرض، والرجاء لله وحدَه فرض، وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يَحصُل التقصيرُ في كثيرٍ منها لعامةِ الخلقِ.
وأيُّ نوع من هذه الأنواع إذا تدبَّر بعضُ الصديقين فيه حالَهُ يَجدُه قد ظلم نفسَه فيه ظلمًا كثيرًا، دَعْ ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كلّ واجبٍ كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يُحصَى.
وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مُليكةَ قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه. وفي الصحيح (2) أن حنظلةَ الكتاب لما قال: نافق حنظلة، قال أبو بكر: إنّا لَنَجد ذلك.
فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاقَ لكمالِ علمهم وَإيمانهم، وِلهذا كان عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيَقُول أحدُهم: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وقد تقدم التنبيهُ على مجامع الظلم. والله سبحانَه أعلم.
وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذيُّ من أصناف الرحمة فلا ريبَ أن الرحمة أصنافٌ متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له
__________
(1) تعليقًا في صحيحه (1/109) ، وأخرجه في التاريخ الكبير (5/137) . وانظر "تغليق التعليق" (1/52) و"فتح الباري" (1/110) .
(2) مسلم (2750) .(4/62)
رحمةً عمَّتِ الخلقَ مؤمنَهم وكافرهم، ورحمةً خَصَّتِ المؤمنين، ثم رحمةً خصَّت خواصَّ المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديثُ ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه "فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) (1) ، وهو قد جعلَ هذه المغفرةَ المسئولة من عندِه مغفرةً مخصوصة ليستْ مما تُبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تُبذَل للعامة.
وهذا الكلام في بعضه نظرٌ، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، وتكلُّمِه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يُبدِيه عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في فنونِ (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرًا ما يُوجَد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة بل المُضِلَّة ما لا يجوز الالتفاتُ إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبًا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائدُ ومقاصدُ مستحسنة مقبولة، وفيها أيضًا أقوالٌ لا دليلَ عليها وأقوالٌ مردودة يُعلَم فسادُها، وآثارٌ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها.
__________
(1) سورة آل عمران: 8.
(2) في الأصل: "على".
(3) في الأصل: "صوب".
(4) في الأصل: "كتب".(4/63)
ومن أضعفِ ما ذكره ما تكلَّم عليه في كتاب "ختم الولاية" (1) ، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياءِ بكلام مردودٍ ومخالفٍ لإجماع الأئمة، ويُناقِض في ذلك. وهذا كان سببَ من تكلم في ختم الأولياء وادَّعَى ذلك لنفسِه، كابن العَرَبي وابن حَمُّويَه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارًا من الخطأ، فزادوا على ذلك زياداتٍ كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكلُّ متكلمٍ في الوجود يُوزَن كلامُه بالكتاب والسنة.
وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر:
أحدهما: فإنّ قوله "مغفرة من عندَك"، وقِوله (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاصَ هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يَسُوغْ لغيرهِ أن يَدعُوَ بهذا الدعاء، وهذا خلافُ الإجماع.
وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يُقال في كل مطلوبٍ بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء.
وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد يُنالُ بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضًا قد يُنال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تُنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما
__________
(1) ص 367،421-422. وانظر نقد المؤلف له في "الصفدية" (1/248) .(4/64)
يُطلب من الله قد يُنال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سببٌ لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سببٌ غيرُ الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع.
وأيضًا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصِه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يُفسِّرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثرُ أهلِ الإشاراتِ الذين يقعون في أشياءَ مثل قطعةِ كثيرةٍ من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار.
وهي كشَبَه غيرِ المنطق بالمنطق لكونه في معناه أوْ أولى بالحكم منه، كما يُفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) (1) إذا كان المصحفُ الذي كُتِب فيه طاهرًا لا يمسُّه إلاّ البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطنُ القرآن لا يمسُّها إلاّ القلوبُ المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمسُّ حقائقَه، فهذا معنىً صحيح، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (2) . قال بعض السلف: أَمنَعُ قلوبَهم فهمَ القرآن. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أذنبَ العبدُ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونزعَ واستغفر صُقِلَ قلبُه، فإن زادَ زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
__________
(1) سورة الواقعة: 79.
(2) سورة الأعراف: 146.(4/65)
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) (1) .
فالذنوب تَرِيْنُ على القلوب حتى تَمنعها فهمَ القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحًا فقياسُ طهارةِ القلب على طهارة البدن فيما يُشتَرط له الطهارةُ من مسِّ القرآن إشارةٌ حَسَنَة، فأما أن يُفسَّر (2) المرادُ للفظ بغير المراد وبما لا يدلُّ عليه اللفظ فهذا خطأ.
وقد قال زكريا: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)) (3) ، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يُخرِج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" و"من لدنك"، كان مطلوبًا فعلُ العبد، فإن ما يُعطيه الله للعبد على وجهين:
منه ما يكون بسبب فعلِه، كالرزق الذي يَرزقه بكسبه، والسيئات التي تُغفَر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها.
ومنه ما يُعطيه للعبد ولا يُحوِجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولدَ مع أن امرأته كانت عاقرًا، وكان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يَهَبْه
__________
(1) سورة المطففين: 14. والحديث سبق تخريجه.
(2) في الأصل: "نفس"، وهو تحريف.
(3) سورة آل عمران: 38.(4/66)
بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علَّمه الخَضِرَ من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)) (1) .
وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن الناس من يُفرِّقُ بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يُفرَّق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرقٌ فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرةً من عندك لا تَصِلُها بأسبابٍ، لا من عزائم المغفرةِ التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يُوجب المغفرةَ لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تَهَبُها لي وتَجُودُ بها عليَّ بلا عمل يقتضي تلك المغفرة.
ومن المعلوم أن الله تعالى قد يَغفر الذنوبَ بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فُسِّر به قوله: "من عندك" كان أحسنَ وأشبهَ مما ذكر من الاختصاص.
وأما قوله: "والأشياء كلُّها من عندهِ"، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما جُعِل سببًا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابةً لسؤالِه وإحسانًا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين،
__________
(1) سورة آل عمران: 8.(4/67)
ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدَّين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من عندك".
والله تعالى وإن كان الخلقُ لا يُوجبون عليه شيئًا فهو قد كتبَ على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظلمَ علىَ نفسه، وأوجبَ بوعدِه ما يجب لمن وعدَه إيَّاه، فهذا قد يَصير واجبًا بحكم إيجابِه ووعدِه، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمالُ لفظ "من عندك" في هذا هو شبيهٌ باستعماله فيما يَطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات.
وأيضًا فقوله "من عندك" يُراد به أن يكون مغفرةً تجود بها أنت عليَّ لا تُحوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يُحتاج إلى أحدٍ يَشْفَع فيَّ أو يَستغفر لي، واستعمال لفظة "من عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أَبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليكَ منذ وَلدتْك أمُّك"، فقلتُ: يا رسولَ الله!
أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تابَ عليه من عنده.
وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)) (2) ، فلما كان الرزق لم يأتِ به بشرٌ ولم
__________
(1) أخرجه البخاري (4418 ومواضع أخرى) ومسلم (2769) عن كعب بطوله. (2) سورة آل عمران: 37.(4/68)
يُسْعَ فيه السعيُ المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلامُ الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولاً محتملاً، وقد قال عمرُ: احمِلْ كلامَ أخيك على أحسنِه حتى يأتيكَ ما يَغْلِبُك منه، والله أعلم.(4/69)
مسألة
في رجلٍ قال: إن نبيًّا من الأنبياء أكلَه القُمَّلُ، فاشتكى إلى الله، فأوحى الله إليه: لئن اختلجَ هذا في سِرِّك مرةً أخرى لأمْحُونَّكَ من ديوان الأنبياء.
الجواب
الحمد لله. لا يجوز لأحدٍ أن يقول مثلَ هذا القول من غيرِ بيانِ حالِه، فإن هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول الصحيحة لم يَجُزْ لأحدٍ من أمة محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتبعَ مثلَ هذه الحكاية ويَبِنيَ عليها طريقَه إلى الله تعالى.
وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو نُقِلتْ بالتواتر ونحو ذلك عُلِمَ صحتُها، وإذا صحَّتْ فما وافقَ الشريعةَ اتُبع، وما خالف منها شريعة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّبَعْ؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (2) .
وفي النسائي (3) وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لو كان موسى
__________
(1) في الأصل: "الإسرائيلات".
(2) سورة المائدة: 48.
(3) لم أجده عند النسائي، وقد أخرجه أحمد (3/338) والدارمي (441) من =(4/70)
حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضلَلْتُم". وفي رواية (1) : "لو كان موسى حيًا ما وسعَه إلا اتباعي". وقد قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)) (2) . قال ابن عباس (3) : ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه العهدَ والميثاقَ لئنْ بُعِثَ محمدٌ وهو حيٌّ ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذَ الميثاقَ على أمته لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرنَّه.
وهذا كما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جميع أهل الأرض، عربِهم وعجمِهم، أمّيَهم وكتابيِّهم، إنسِهم وجِنِّهم. فلا يَقبل الله من أحدٍ عملاً يخالف شريعتَه وإن كان ذلك العملُ مشروعًا لبعض الأنبياء. فمن اتبعَ الشرعةَ والمنهاجَ الذي كان مشروعًا لموسى وعيسى ونُسِخ على لسانِ محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو كافرٌ باتفاق المسلمين، وإذا كان هذا فيما عُلِمَ أنه مشروعٌ للأنبياء، فكيف بما يُحكَى عنهم ولا يُعلَم صِحَّتُه؟ فلا يجوز لأحدٍ أن يثبتَ بالإسرائيلياتِ لا صحيحِها ولا ضعيفِها حكمًا يُخالِفُ شريعةً محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنقولاتُ من
__________
= طريق مجالد عن الشعبي عن جابر، وحسَّنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهِده.
(1) لأحمد (3/387) .
(2) سورة آل عمران: 81.
(3) أنظر: تفسير الطبري (3/237) ونحوه عن السدي في تفسير ابن أبي حاتم (2/694) .(4/71)
الإسرائيليات تارةً يُعلَم صحتُها، وتارةً يُعلَم أنها كذبٌ، وتارةً لا يُدرَى.
وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذبوهم، فإمّا أن يحدِّثوكم بحقّ فتكذبوه، وإمّا أن يحدِّثوكم بباطلٍ فتصدِّقوه".
إذا تبينَ هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى الله ما نزلَ من الضرِّ، والله سبحانَه في كتابه قد أمر بذلك، وذمَّ من لا يفعله، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)) (2) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)) (3) ، وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (4) .
وفي الصحيح (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في دعائه: "اللهمَّ إني أعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وفي الصحيح (6) أيضًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك (7) ، وفجاءةِ
__________
(1) أخرجه أحمد (4/136) وأبو داود (3644) عن أبي نملة الأنصاري، وله شاهد من حديث جابر أخرجه أحمد (3/387) . ولا يوجد بهذا السياق في الصحيحين.
(2) سورة الأنعام: 42.
(3) سورة المؤمنون: 76.
(4) سورة الأعراف: 55.
(5) البخاري (6347) ومسلم (2707) عن أبي هريرة.
(6) مسلم (2739) عن ابن عمر.
(7) في الأصل: "تحويل عاقبتك" تحريف.(4/72)
نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك".
وفي الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان لا يَدعو دعاءً إلاَّ خَتَمه بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)) . وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العباسَ وغيره أن يسأل العافيةَ في الدنيا والآخرة (2) ، وعلَّم رجلاً أن يَدعُوَ فيقول: "اللهمَّ اغفر في وارحمني واهدني وعافني وارزقني" (3) ، ومثل هذا كثير.
والعبد إذا اشتكى إلى ربِّه ما نَزل به من الضِّرِّ وسألَه إزالتَه لم يكن مذمومًا على ذلك باتفاق المسلمين، والشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر، بل الشكوى إلى الخلقِ قد تُنافِي الصبرَ، فإنَّ يعقوبَ عليه السلام قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (4) ، وقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) . وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) فسُمِعَ نَشِيْجُه من أواخر الصفوف.
وهذا مما يدل على كَذِبَ الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراقِ ولدِه من البثّ والحُزْن، ولم يكن
__________
(1) البخاري (4522،6389) ومسلم (2690) عن أنس. والآية من سورة البقرة: 201.
(2) أخرجه أحمد (1/3،8،11) من طرق عن أبي بكر الصديق.
(3) أخرجه مسلم (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه.
(4) سورة يوسف: 83.
(5) سورة يوسف: 86.(4/73)
مذمومًا بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)) (1) .
وقد قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) (2) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)) (3) .
فهؤلاء الأنبياء قد اشتكَوا إلى الله، وأزالَ ما اشتكَوا منه من الضرِّ والغمِّ والحزنِ ونحوِ ذلك، فكيف يُمحَى [نبيٌّ من] الأنبياء إذا اشتكى من ضُرِّ القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سِرِّه؟ وأكثر ما يُقال: إنّ العبد ينبغي له أن يَرضَى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه:
أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يُستحبُّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، والصبر لا يُنافي الشكوى.
الثاني: أن الرضا لا يُنافي القضاءَ مطلقًا، بل يَرضَى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرًا آخر، فإن الرضا إنما يكون
__________
(1) سورة الأنبياء: 83-84.
(2) سورة الأنبياء: 87-88.
(3) سورة الشعراء: 75-76.(4/74)
بعد القضاء، والدعاءُ إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعِه، فالرضا بما مضى لا يُنافي طلبَ زوالِ المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدومُ الرضا، فيسألُ اللهَ زوالَ الشدَّة التي يَخافُ معها زوالَ رضاه، فالداعي قد يكون راضيًا وغيرَ راضٍ، كما أن الراضيَ قد يكونُ داعيًا وغيرَ داع.
الثالث: أن اختلاجَ المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوته.
وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبًا، وإمّا أن تكونَ غيرَ مشروعةٍ لنا في دين الإسلام، فلا يحلُّ لأحدِ أن يحكيَها لمن يتبعُها، ولا أن يستحسنَ العملَ بها في ديننا، ولا يمدحَ على ذلك.(4/75)
مسألة
في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (1) ، هل "من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟ فيُحكَم على كلِّ واحدٍ ولدٍ وكل زوج بالعداوة.
فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكُم على من يعتقد زيادتَها؟
ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليلٍ على ذلك فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبيِّنُوه، أم ليس الأمر كذلك؟
الجواب
الحمد لله. بل "من" هُنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج والأولاد عدوًّا، وليس المراد أنّ كل زوجٍ وولدٍ عدوٌّ (2) . فإنّ هذا ليس هو مدلولَ اللفظ، وهو باطل في نفسِه، فإن سبحانَه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
__________
(1) سورة التغابن: 14.
(2) في الأصل: "عدوا".(4/76)
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (1) ، فسألوا اللهَ أن يَهَبَ لهم من أزواجهم وأولادِهم قرةَ أعين، فلو كان كل زوج وولدٍ عدوًّا (2) لم يكن فيهم قرةُ أعين، فإن العدوَّ لا يكون قرةَ عين بل سُخْنَةَ عين، وأيضًا فإنه من المعلوم أن مثلَ إسماعيل وإسحاق ابْنَي إبراهيم، ومثلَ يحيى بن زكريا وأمثالَهم ليسوا أعداءً.
وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه:
أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تُزاد في الإثبات، وإنما تُزاد في النفي تحقيقًا لعموم النفي (3) كقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (4) ، وقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (5) ونحو ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرًا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما رأيتُ رجلاً بل رجلين، فإذا أدخلتَ "من" فقلتَ: ما رأيتُ من رجلٍ كان نصًّا في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيتُ من رجلٍ بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقًا، لكن قد يكون نصًّا وقد يكون ظاهرًا، فإذا كانت ظاهرًا احتملت نفيَ الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضعُ إثبات لا نفي، فلا تُزادُ فيه.
__________
(1) سورة الفرقان: 74.
(2) في الأصل: "عدو".
(3) انظر "مغني اللبيب" (ص 358 وما بعدها) .
(4) سورة المائدة: 73.
(5) سورة هود: 6.(4/77)
الثاني: أنّ من جوَّز زيادتَها في الإثبات - كالأخفش - لا يُجوَّزه إلاّ إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وإلاّ فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأرادَ أنَّ جمعَهم مسلمون، لم يجزْ ذلك بالاتفاق.
الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً.
الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادّعاؤها بغير دليلٍ، والله أعلم.(4/78)
مسألة
فيمن استدل بتحويل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِداءَه في الاستسقاء، وجَعْلِ أعلاه أسفلَه، ورَفْعِ ظاهرِ كفيْه إلى السماء، وجَعْلِ باطنِها إلى الأرض= على أن الله ليس فوقَ السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاتِه لا يختصُّ بجهةِ العُلُوّ، هل هو مصيبٌ في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقولِ طائفةٍ من الفقهاء إنه يُستحب لمن هو في شدةٍ أن يَرفعَ ظاهرَ كفَّيهِ إلى السماء دون باطنِها وجهٌ؟ ولو فُرِضَ أن الحديث يدل على ذلك ولو على بُعْدٍ، فهل مثلُ ذلك مع ما يزعمونه أدلةً عقلية دلَّتْ على استحالة ذلك يُعارِض ما ثبتَ بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقِه فوقَ كل شيء وعالٍ على كل شيء أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين. استدلالُ المستدلِّ بهذا وإن سبقَه إلى نحو منه من المتجهمةِ المنتسبةِ إلى الحديث، فإنه يدلُّ على غايةِ الجهل بما فعله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء، وغايةِ الجهلَ في الاستدلال بذلك على نفي علوِّ الله، إذْ ما فعلَه يدل على نقيضِ مطلوبِ هذا المستدلِّ الجاهل. ونحن نبيّن ذلك بالكلام على ما(4/79)
فعلَه من تحويل الرداء، ومن رَفْعِ يديه في الاستسقاء.
أما الفصل الأول - وهو تحويلُ الرداء - فما علمتُ أحدًا يستدلُّ به على نفي العلوِّ، ولا فيه شبهةٌ تَقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يَعترض به بعضُ الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين.
أما الأول فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أعلاه أسفلَه كما قاله هذا المستدل، وإنما جَعلِ الأيمنَ على الأيسر والأيسَرَ على الأيمن، وقَلَبَه فجعلَ باطنَه ظاهرًا وظاهرَه باطنًا، كما جاء مفسَّرًا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى، فاستسقى، واستقبلَ القبلة، وقَلَبَ رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحوَّل رداءه. فلفظُ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوهٍ بلفظ التحويل (2) ، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3) : جعلَ اليمينَ على الشمال.
ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضًا، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي، قال: فحوَّل رداءَه، وجعلَ عطافَه الأيمنَ
__________
(1) البخاري (1012 ومواضع أخرى) ومسلم (894) .
(2) بأرقام (1005،1012،1023،1024،1025،1028) ، وبلفظ القلب، في (1011،1026،1027،6343) .
(3) برقم (1027) .
(4) برقم (1163) .(4/80)
على عاتقِه الأيسر، وجعلَ عطافَه الأيسرَ على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل.
ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضًا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استسقى لنا أطالَ الدعاء وأكثر المسألةَ، قال: ثم تحوَّلَ إلى القبلة وحوَّلَ رِداءَه فقلبَه ظهرًا لبطنٍ.
ورواه الدارقطني (3) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلَّى يستسقي، فاستقبلَ القبلةَ، فقَلَبَ رداءَه وصلَّى ركعتين. قال سفيان: جعلَ اليمينَ على الشمال والشمالَ على اليمين.
ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضًا عنه قال: استسقى النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه خميصة سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفلَها فيجعلَه أعلاها، فثَقُلتْ عليه، فَقَلَبَها الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ] على الأيمن.
فهذا فيه أيضًا ما في سائر الأحاديث أنه قلبَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه همَّ بجَعْلِ أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعلَ ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فِعْلَه، والظن قد يُصيب وقد يُخطىء.
__________
(1) الموطأ (1/190) .
(2) 4/41.
(3) 2/66.
(4) 4/41.
(5) برقم (1164) .(4/81)
فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديثٍ في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصحُّ الأحاديث في ذلك، فيها تارةً متصلاً بالحديث وتارةً من تفسير الرواة أنه جعلَ الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ على الأيمن] ، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفلَ أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2) ، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا يَستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبَنَا ودعا الله عز وجل، وحوَّلَ وجهَه نحو القبلةِ رافعًا يَدَيْه، ثم قلَبَ رداءَه، فجعلَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن.
وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنةُ الصلاة في العيدين، إلاّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَبَ رداءَه، فجعل يمينَه على يسارِه ويسارَه على يمينه، وذكر تمامَه.
وفي إسناده مقال يَصلُح للاعتضاد (4) والاستشهاد.
وتحويلُ الرداء في دعاء الاستسقاء سنةٌ عند فقهاء الحجاز وفقهاءِ الحديثِ كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ
__________
(1) 2/326.
(2) برقم (1268) .
(3) 2/66.
(4) في الأصل: "للاقتصاد" تحريف. وفي إسناد الحديث محمد بن عبد العزيز، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث.(4/82)
أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة لم يَبلُغْه لا الصلاةُ في الاستسقاء ولا تحويلُ الرداء في دعائه.
وأما صفة التحويل فجعلُ الأيمنِ على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذْ كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المُرَاد كذلك، وفي المربع يُجعَلُ أعلاه أسفلَه، لما تقدَّم من هَمِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحجة الجمهور أنه حوَّله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده فعلوا ذلك، كما فعلَه عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادةُ فلو كانت ثابتة لكانت ظنَّا من الراوي لا يتركُ لها ما ثبتَ مِنْ فعلِه المتيقنِ وفعلِ خلفائِه.
وروى أبو بكر النجَّاد عن عروة بن أُذَيْنَةَ عن أبيه قال: رأيتُ عثمان يَستسقي بالمصلَّى، فرأيتُه صلى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقراءة، ثم خطبَ الناس، ثم حوَّل وجهَه إلى القبلة، ورفع يديه، وحوَّل رداءه، جعلَ اليمينَ على اليسار واليسارَ على اليمين.
فقد ظهر فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل أسفلَه أعلاه، بل قلَبَه، وإن قيل (1) إنه همَّ بذلك.
__________
(1) في الأصل: "فإن قيل".(4/83)
الثاني: هَبْ أنه جعل أعلاه أسفله، أو أنّ ذلك هو المستحب - كما هو أحد قولَي الفقهاء - لكونه همَّ بذلك وتركَه للعُسْر، وأيُّ شيء في جعلِ أسفلِ الرداءِ أعلاه مما يدلّ على أن الله ليس هو العلي الأعلَى، وأنه ليس هو فوقَ العالم؟ أو أيُّ شيء في ذلك ما يُبطِل أدلةَ القائلين بذلك أو يُعارِضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن توجيهِ اليدين إلى الأرض إن قيل (1) : إنه فعل ذلك. وسنبيِّن حقيقةَ ما فعلَه، فإن غاية ما يُقدِّر المقدِّر أنه وجه وجهَه ويَدَيْه إلى الأرض وجعلَ أعلى ردائِه أسفلَه، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصدَ بذلك أن الله في الأرض دون السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مُثبِت ولا منافق، بل جميعُ الخلق متفقون على أنّ الأرض ليست مختصَّة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا فرقَ بين الأرض والسماء، ثم تارةً يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثرُ عُبَّادِهمٍ وعوامِّهم الذين يَدَّعون التحقيقَ والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخلَ العالم ولا خارجَه البتة، ولا فوقَ العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نُظَّارِهم ومتكلميهم.
فإذا قُدِّرَ أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ التوجهَ إلى الأرض دون السماء، لم يقل أحدٌ: إنَّ ذلك يدلّ على أن الله في الأرض دون السماء، بل غايةُ ما يقال: يَبْطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليدين أنه فوق
__________
(1) في الأصل: "أي قيل" تحريف.(4/84)
العالم. وسنتكلم على ذلك ونبيِّن أنه لا يَبطُل هذه الدلالة، وبتقدير أن يَبْطُل هذا الدليلُ المعيَّن لا يَبْطُلُ المدلولُ عليه، فنَفْرِضُ أن رفعَ اليدين لا يدل على هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تُسَطَّر هنا، وفي القرآن نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهرُ وأظهرُ من أن تُذكرَ هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1) .
ثم يُقال: هَبْ أنه يَبْطُل الاستدلالُ برفع اليدين، فأي شيء أدخلَ تحويلَ الرداءِ في ذلك؟ فإنّا ما علمنا أحدًا استدلَّ بتحويل الرداءِ على أن الله فوقُ حتى تَبطُلَ دلالتُه، فعُلِمَ أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالةٌ واضحة، وإنما يُعرَف عن طائفة من المتجهمةِ المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفعَ اليدين، وأما تحويل الرداء فما علمتُ لذكره وجهًا.
الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدلُّ إن كان فيه حجة
فهي عليه لا له، وذلك أنّ عَائبَنا يقولْ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أعلى ردائه أسفلَه، أو أنّ ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا التحويل دليلٌ على مسألة العلوّ بنفي ولا إثباتٍ فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه حجةٌ فثبتَ بحجةٍ على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفلَه أعلاه، فيكون قد قصدَ توجيهَ ردائِه إلى ما فوق كما وَجَّهَ قَلْبَه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب، وهو لا يُمكِنُه
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (5/12،15،54-58،164-178،226-227) .(4/85)
أن يقول: توجيهُه إلى أسفلَ لأن الله في العلوّ، والمثبتُ يمكنُه أن يقول: وَجهَه إلى فوق لكون اللهِ تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمُثْبِت لا للنافي.
ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك تحويلُ السنَةِ من الجَدْب إلى الخِصْب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد عن أبيهَ عليهم السلام قال: استسقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحوَّل رداءَه ليتحوَّل القحطُ.
فصل
وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذُكِرَ في السؤال حديثُ أنس بن مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يَرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يُرَى بياضُ إِبْطَيْه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. ولفظ مسلم (4) : "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء
__________
(1) 2/66.
(2) البخاري (1031) ومسلم (896) .
(3) البخاري (1030) .
(4) برقم (896) .(4/86)
حتى يُرَى بياضُ إبْطَيه". ولمسلم (1) أيضًا عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياضُ إبطيه. وفي لفظٍ لمسلم (2) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فأشار بظهرِ كفيه إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستسقي هكذا، ومدَّ يَدَيْه وجعلَ بطونَهما مما يلي الأرضَ حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. وفي لفظٍ لأبي داود (4) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذاءَ وجهِه، أعني في الاستسقاء.
وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستسقي عند أحجار البيت (5) قريبًا من الزَّوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه لا يُجاوِز بهما رأسَه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7) . وروى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: لم يُحفظْ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه الرفعَ كلَّه إلاّ في ثلاثةِ مواطنَ: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشيَّةَ عرفةَ، ثم كان بعدها رفعًا دون رفع فيها. رواه أبو داود في "المراسيل" (8) .
__________
(1) برقم (895) .
(2) برقم (896) .
(3) برقم (1171) .
(4) برقم (1175) .
(5) في هامش الأصل: "صوابه الزيت، لأن الزوراء في المدينة، والبيت بمكة، فلا يَحسُن ذكر البيت هنا". وهو كما قال المعلّق، فالرواية "الزيت".
(6) برقم (1168) . ورواه أيضًا أحمد (5/223) .
(7) 3/158.
(8) برقم (148) .(4/87)
وعن ابن عباس قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بعرفةَ بالموقفِ ويَدَاه إلى صدرِه كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن تَرفع يديك حذوَ منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعها (1) . وفي لفظ (2) : والابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما ممّا يَلي وجهَه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر نحوه.
إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين:
أحدهما: قوله "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء".
والثاني: ما رُوِي في بعض ألفاظ مسلم "فأشار بظهر كفَّيه إلى السماء".
فإن مِن الناس من غَلِط في كلا الموضعين، فظنَّ بعضُهم أن اليد لا تُرفع في الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفعَ اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يُجعَل باطنُ كفيه إلى السماء وظاهرهما إلى الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما إلى
__________
(1) أخرجه أبو داود (1489) عنه مرفوعًا.
(2) عند أبي داود (1490) .
(3) برقم (1491) .(4/88)
السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغبَ كالمستطعم، والراهب كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلوّ.
أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطُفيل بن عمرو الدَّوسي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله!
إن دَوْسًا قد عَصَتْ وأبتْ فادعُ عليهم، فاستقبل القبلةَ ورفع، وقال: "اللهمَّ اهْدِ دَوسًا وأْتِ بهم".
وفي الصحيحين (2) أيضًا عن أبي موسى قال: أُصيب أبو عامر رضي الله عنه في ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَّره فيها، فقال لي: اقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلامَ وقُلْ له: استغْفِرْ لي واستخلِفْني علىَ الناس، وسكت يسيرًا ثم مات. فلما رجعتُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبرتُه خبرَ أبي عامر وسؤالَه أن يستغفر له، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماءٍ فتوضَّأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهمَّ اغفِرْ لعُبَيْدِك أبي عامر".
وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالدَ بن الوليد إلى بني جَذِيْمةَ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم
__________
(1) بأرقام (2937، 4392،6397) . وأخرجه أيضًا مسلم (2524) .
(2) البخاري (4323 ومواضع أخرى) ومسلم (2498) .
(3) برقمي (4339،7189) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/150) والنسائي (8/ 236) .(4/89)
يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فجعل خالدٌ يقتل ويأسِرُ، ودفعَ إلى كل رجل منا أسيرَه، حتى إذا كان يوم أمرَ خالدٌ أن يَقتل كلُّ رجل منا أسيرَه، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيرَه، حتى قَدِمْنَا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ إني أبرأ إليك ممَّا فعلَ خالد"، مرتين.
وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدِّثكم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعَ نعليه عند رجليه، وذكرتِ الحديثَ الطويلَ في دعائه لأهل البقيع، فرفع يديه ثلاثَ مرات وأطال القيامَ، ثم انحرف وانحرفتُ، وذكرتِ الحديثَ.
وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا قولَ الله عز وجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)) (3) ، وقال عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) (4) ، فرفع يديه فقال: "اللهمَّ أمتي أمتي"، قال الله: يا جبريلُ اذهبْ إلى محمد - وربك أعلم - فسَلْهُ ما يُبكيك؟ فأتاه
__________
(1) برقم (974) .
(2) برقم (202) .
(3) سورة إبراهيم: 36.
(4) سورة المائدة: 118.(4/90)
جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمد فقل له: إنّا سنُرضِيك في أمتِك ولا نَسُوْءُك فيهم.
وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابُه ثلاثمائة وبضعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل القبلةَ ثم مدَّ يديه وجعل يَهتِف برئه: "اللهمَّ وأَنْجزْ لي ما وعدتَني، اللهمَّ آتني ما وعدتَني، اللهمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابَة من أهل الإسلام لا تُعْبَدْ في الأرض"، فما زال يَهتِف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقطَ رداؤُه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه، فألقاه على منكبيه، والتزمَه من ورائه، وقال يا نبيَّ الله! كذاك (2) مُنا شَدَتُك ربَّك، فإنه سيُنْجزُ لك ما وعدك، فأنزلَ الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)) (3) ، فأمدَّهم الله بالملائكة.
وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فيه: فرفع رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وهو يقول: "اللهمَّ اجْعَل صلَواتِك ورحمتك على آلِ سَعدِ بن عبادة".
__________
(1) برقم (1763) .
(2) هكذا وقع لجماهير رواة مسلم "كذاك" بالذال، ولبعضهم "كفاك" بالفاء. انظر "إكمال المعلم" (6/94) وشرح النووي (12/85) .
(3) سورة الأنفال: 9.
(4) برقم (5185) . وأخرجه أيضَا أحمد (3/421) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (325) .(4/91)
وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكَّة نُريد المدينةَ، فلما قدمنا من عَزْوَرَا نَزَل، ثمِ رفع يديه فدعا ساعة، ثم خرَّ ساجدا، قال: "إني سألتُ ربّي وشفَعْتُ لأمتي، فأعطاني ثُلُثَ أمتي، فخَررتُ ساجدًا شكرًا لربي"، وذكر تمام الحديث.
وعن أم عطية قالت: بَعَثَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فيهم عليٌّ، قالت: فسمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رافع يديه يقول: "اللهمَّ لا تُمِتْنِيْ حتى تُرِيَني عليًّا". أخرجه الترمذي (2) .
و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنتُ رِدْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرفع يَدَيه يدعو، فمالتْ به ناقتُه فسَقَطَ خِطامُها، فتناولَ الخِطامَ بإحدى يَدَيْه وهو رافع يدَه الأخرى.
وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما صلَّى الغَداةَ رفع يدَيْه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4) .
__________
(1) برقم (2775) . قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1496) : إسناده ضعيف، فيه يحيى بن الحسن بن عثمان، وهو مجهول كما في "التقريب".
(2) برقم (3737) . وقال: حديث حسن غريب. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (6090) : سنده ضعيف.
(3) أخرجه أحمد (5/209) والنسائي (5/254) وابن خزيمة (2824) . وإسناده صحيح.
(4) في السنن الكبرى (2/211) .(4/92)
فصل
إذا تبيَّن هذا فنقول: الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:
أحدهما: ما قاله طوائفُ من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أنَّ أنسًا ذكرَ الرفع الشديدَ الذي يُرَى فيه بياضُ إبطيه وينحّي فيه يديه، وهذا هو الذي سماه ابن عباس الابتهالَ، وجعل المراتب ثلاثةً:
الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبَعِه، والحديثُ متعدِّدٌ مشهور. وفي سنن أبي داود (1) عن سعد قال: مرَّ علىَّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أدعو بإصبعَيَّ، فقال: "أَحِّدْ أَحِّدْ"، وأشار بالسبابة.
والثانية: المسألة، وهو أن تجعَل يديك حَذْوَ منكبيك، كما في أكثر الأحاديث.
والثالث: الابتهال، وهو أن تمدَّ يديك جميعًا، وفي لفظ: والابتهال هكذا، ورفعَ يديه وجعلَ ظهورهما مما يلي وجهه.
فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى يُرى بياضُ إبْطيه، وإنما يُرَى بياضُ الإبطَيْن بالرفع
__________
(1) برقم (1499) . وأخرجه أيضًا النسائي (3/38) .(4/93)
الشديد، وهذا الرفع إذا اشتدَّ كان بطون يديه مما يلي وجهَه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرًا: "رفعَ يديه حذاءَ وجهِه"، وفي لفظ: "جعلَ بطونَهما مما يلي الأرض".
ولو كان المرادُ به كما يظنُّه بعضُ الغالطين حيث يجعل يديه حذوَ منكبيه ويجعل ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة يكون الظهور مما يلي السماء، يُؤيِّد ذلك ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرِهما.
وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يومَ الجمعة كما في صحيح مسلم (2) والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عُمارةُ بن رُؤَيْبَة بشرَ بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قَبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه المسبِّحة.
وفي مسند أحمد (4) عن غُضَيف بن الحارث الثُّماليّ قال بعثَ إليَّ عبدُ الملك بن مروان أنَّا قد جمعنا الناسَ على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقَصَص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنّهما أَمثلُ بدعتِكم عندي ولَسْتُ مُجِيْبَكَ إلى شيءٍ
__________
(1) برقم (1487) .
(2) برقم (874) .
(3) أبو داود (1104) والترمذي (515) والنسائي (3/108) .
(4) 4/105. قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (187) : سنده ضعيف.(4/94)
منهما، قال: لِمَ؟ قال: لأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أحدثَ قوم بدعةً إلاّ رُفِعَ مثلها من السُّنَّة () . فتَمَسُّك بسنّةٍ خير من إحداثِ بدعةٍ.
وعلى هذا يُحمَل الحديثُ الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعدٍ قال: ما رأيتُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهِرًا يَدَيه يدعو على منبرٍ ولا غيرِه، لكن رأيتُه يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعَقَدَ الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد هذا مقال (2) ، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية.
وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهانِ في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، فقيل: يُستَحبّ لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن عقيل، وقيل: لا يستحبُّ بل يُكْرَه، وهذا أصحُّ، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة للخاطب، إنما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشير بإصبعه إذا دعا، لما تقدم من الآثار.
وأمّا في الاستسقاء لما استسقَى على المنبر رفعَ يديه، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابيٌّ من أهل البدو إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكتِ الماشيةُ وهلكَ العِيالُ وهلك الناسُ، فرفعَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْه يدعو، ورَفَعَ الناس أيديَهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرْنا.
__________
(1) برقم (1105) . وأخرجه أيضا أحمد (5/337) وابن خزيمة (1450) .
(2) قال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1450) : إسناده فيه ضعف، أبو الحويرث قال الحافظ: صدوق سيىء الحفظ.
(3) برقم (1029 ومواضع أخرى) .(4/95)
فقد أخبر أنسٌ في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقَى بهم يومَ الجمعة على المنبر رفعَ يديه ورفعَ الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيَّما وبعض بني أمية كانوا قد أحدثوا رَفْعَ الأيدي يومَ الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رُؤَيْبَة وغُضَيْف بن الحارث عليهما مخالفةَ السنة، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ فيكون هو أيضًا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيرُه من أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر - إلاّ في الاستسقاء. وهذا الوجه يُوافق الذي قبلَه، ويُبين أن الاستسقاء مخصوصٌ بمزيدِ الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تَأتلفُ ولا تختلف.
وأما الموضع الثاني فنَقُول: من ظنَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ، وكذلك من ظنَ أنه قصدَ توجيهَ ظهرِ يَدَيْه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس في شيءٍ من الحديث ما يدلُّ على أنه قصدَ جَعْلَ كفيْه دُونَ بَطْنِهما إلى السماء، ولا على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديثُ المشهورة عنه تُبين أنّ سُنَّتَهُ إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد أحدهما.
ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السَّكُوني ثم
__________
(1) برقم (1486) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (595) .(4/96)
العَوْفي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا سألتم الله فَاسْألوه ببطونِ أَكُفكم، ولا تَسْألوه بظُهورِها". ورَوَى أيضًا (1) من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَظَر في كتاب أخيه بغير إذنِه فإنما ينظر في النار. سَلُوا اللهَ ببطون أكفكم، ولا تَسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن محمد بن كعبٍ كلُّها واهية، وهذا الطريقُ أمثلُها وهو ضعيف أيضًا.
وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يَستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهما صَفْرَاوَيْن". وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهَه بيديه. وقد تقدم في حديث الاستسقاء من حديث عميرٍ مولى آبي اللحم أنه رأى رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أحجار البيت (4) قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه. لكن هذا الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع جاوزَ بهما رأسَه.
__________
(1) أبو داود برقم (1485) .
(2) برقم (1488) . وأخرجه أيضًا الترمذي (3551) وابن ماجه (3865) . وصححه ابن حبان (2399-موارد) والحاكم (1/497) .
(3) برقم (1492) . وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، يروي عن حفص بن هاشم، وهو مجهول كما قال الحافظ في "التقريب".
(4) في هامش الأصل: صوابه "الزيت"، وهو موضع في طيبة، وقد تقدم ذكره.(4/97)
وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضتْ به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ.
وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه، فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعَها حذَاءَ وجهه. وتقدم حديث أنس نفسه أنه رأى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما، وتقدم حديث ابن عباس: الابتهالُ هكذا، ورفعَ يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهَه. فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفعِ الشديد رفع الابتهال، تارةً يذكر فيه أنَّ بطونَهما مما يلي وجهَه وهذا أشد، وتارةً يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظَهْرَ اليد ولا بَطْنَها، لأن الرفع يرتفع وتَبقَى أصابعُها نحوَ السماء مع نوع من الانحناءِ الذي يكون فيه هذا تارةً وهذا تارةً. وأما إذا قصد توجيهَ بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفعُ المسألة.
فبهذا تآلَفُ الأحاديث ويَظهر السنةُ وتبيَّنُ المعاني المتناسبة.
إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نُسلِّم أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدَ توجيه ظهرِ الكفِّ دونَ بطنِه إلى السماء في شيءٍ من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى(4/98)
حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه.
الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصدَ رفعَ ظهرِ كفَّيْه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر مُعارضةً له في ذلك، فإن أمكنَ الجمعُ بينهما وإلاَّ كان الأكثر الأشهر أولَى بالتقديم عند التعارض.
الوجه الثالث: أن يقال: هَبْ أنه قصدَ رَفْعَ كفيه إلى السماء وتوجيهَ باطنِ يديه إلى الأرض، فهذا لا يدلُّ على نفي علوّ الله سبحانَه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قَصَدَ توجيهَ بطنِ يدِه إلى الله، ولم يقل هذا أحدٌ من الخلائق.
الوجه الرابع: أن يقال: غايةُ ما في هذا أنه لم يَقصِدْ رفعَ يده إلى السماء، ولا ريبَ أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبًا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلوّ.
الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدلُّ على أنه رفعَها إلى الله، كما أن جعلَ الكفِّ إلى السماء لا يدل على أنَّ بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يَبقى فيه دلالة على العلوّ، ومعلومٌ أن انتفاءَ الدليل المعيَّن لا يَنفي الحكم.(4/99)
الوجه السادس: أنه لا يَتوهَّمُ عاقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد بذلك تعريفَ أمتِه أنَّ الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرًا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الجهميَّة بذلك. والله قد أمرَ نبيَّه بالبلاغ المبين، فكيف يَتْرُك البيانَ الذي جُعِلَ عليه إلى ما لا بيانَ فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوءٌ من البيانِ الدالِّ على أن الله في العلو؟ فكيفَ يجوز أن يُقال: إنه قصدَ أن يُعرِّفَهم نفيَ العلوِّ بمثل هذا العلو الذي لا يدلُّ؟ ولا يقالُ: إنه قَصدَ تعريفهم العلوِّ بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يُعلَم بالاضطرار أنه من نسبَ الرسولَ إليه فهو من أكذَب الخلقِ عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة وَالقرمطة المُبطِلين للعقليات والسمعيات.
الوجه السابع: أن يقال: لا ريبَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء تارةً كان يُشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يَدَيه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانًا بلا إشارة ولا رفعٍ، فيقالُ: إذا كان بعض هذه الأفعال دالاًّ على عُلوِّ الله تعالى وقد فعلَه بعضَ الأوقات حصلَ المقصود، وليس تركُ الدلالة في بعض الأوقاتِ نافيًا للمدلول بوجود الرفع دليل العلوّ، وعدمُه لا ينافيه، فلا يَضرُّ إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد عُلِمَ أنه لم يَقصِد هنالك توجيهَ بطن يديه إلى غير الله.
الوجه الثامن: أنه قد جاء مُصَرَّحًا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى،(4/100)
كما تقدم من حديث سلمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ ربكم حَيِيٌّ كريم يَستحي من عبده إذا رفعَ يديه إليه أن يَرُدَّهما صَفْرَاوين".
وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في الصلاة وضعَ يَدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه اليمنى التي تَلِي الإبهامَ فدَعا بها، ويدَه اليسرى على ركبتيه باسطَها. وفي لفظٍ (2) : كان إذا قعدَ في التشهد وضعَ يده اليسرى على ركبته [اليسرى] ، ووضعَ يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبَّابة. وفي لفظٍ (3) : كان إذا جلس في الصلاة وضعَ كفَّه اليمنى على فخذِه اليمنى، فقبض أصابعَه كلَّها، وأشارَ بإصبعِه التي تَلِي الإبهامَ، ووضعَ كفه اليسرى على فخذِه اليسرى.
وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى [على فخذِه اليسرى] ، وأشار بإصبعِه السبَّابة، ووضعَ إبهامَه على إصبعِه الوسطى، ويُلْقِم كَفه اليسرى ركبتَه.
وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة
__________
(1) برقم (580) .
(2) عند مسلم أيضًا.
(3) عند مسلم في الموضع السابق.
(4) برقم (579) .
(5) برقم (1218) . وقد جمع الألباني طرقَه في جزء بعنوان "حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها عنه جابر،، فليراجَع.(4/101)
حجة الوداع - وهو أتمُّ حديثٍ جاء في صفة حجَّتِه - قال: حتى إذا زاغت الشمسُ أمرَ بالقَصوَاءِ فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألاَ كلُّ شيء من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دمٍ أَضَعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مُسترضعًا في بني سعد فصَلَبَه هُذيل، وربا الجاهليةِ موضوع، وإن أول رِبًا أضعُه رِبَانَا رِبَا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَ بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئنَ فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضْرِبُوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لم تَضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به كتابَ الله. وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقالَ بأصبعِه السبَّابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهمَّ اشْهَدْ، اللهمَّ اشْهَدْ، ثلاث مرات. ثم أذّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقامَ فصلى العصر.
فهو هنا يدعو ربَّه ويُناجيه، مشيرًا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهمَّ اشهَدْ أنّيْ على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعلَ منه وسمعَ هذا الكلامَ منه على هذا الوجه عَلِمَ ضرورةً أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يَشهدَ على أمتِه بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يُكابِرُ وقال: هذا لا يدل، فلا يُنازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازعَ في الظهورِ لم يُنازع في أن دلالة هذا وأمثالِه على علو الله أبينُ(4/102)
من دلالة تركِ رفع اليدين أو تركِ رَفْع بطونهما على عدم علوِّه، فإن ذلك لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه، فمن تركَ هذه الدلالاتِ المحكماتِ وتمسكَ بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ.(4/103)
مسألة
في رجالٍ يَتْرُكون الصلواتِ الخمسَ تهاونًا، ويُدْعَون في كل وقتٍ إلى فعلها فلا يُجيبُون، فماذا يَجب عليهم؟ وهل إذا سلَّموا على أحدٍ أن يَرُدَّ عليهمَ السلامَ؟ وهل يُهْجَروا في الله؟ وفيهم رجلٌ قال: صليتُ بلا وضوء، وقال أيضًا: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فماذا يجب عليه؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مُقِرِّين بوجوبِها عليهم فهم كفارٌ مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يَجب قتلُهم كلهم إذا لم يَتُوبوا. والذي قال: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم يَتُبْ. وإذا أقَرُّوا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة المسلمين أن يُستتابوا أيضًا، فإن لم يتوبوا ويُقيموا الصلاةَ المفروضةَ عليهم فإنه يجب قتلُهم أيضًا.
وهل يُقْتَلوا (2) كفرًا أو فسقًا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم يُقتَلون كفرًا، وهو قول أكثرِ السلف وقول طائفة من
__________
(1) في الأصل: "مرتدين" منصوبًا.
(2) كذا في الأصل بحذف النون.(4/104)
أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، كما قال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بينَ العبد وبين الكفر والشرك إلا تركَ الصلاة". رواه مسلم (1) ، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة، مَن تركَها فقد بَرِئتْ منه ذمةُ الله ورسوله.
وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طُعِنَ قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاةَ، وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (5) ، فعلَّق الأخوَّةَ في الدين على التوبة من الشرك وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، كما علَّق تركَ القتال على ذلك بقولَه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (6) .
__________
(1) برقم (82) عن جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه أحمد (5/346،355) والترمذي (2621) والنسائي (1/231) وابن ماجه (1079) عن بُريدة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) برقم (2622) . ووصلَه الحاكم في المستدرك (1/7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال، وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (579) .
(4) لم أجده فيه، وقد أخرجه مالك في "الموطأ" (1/39-40) عن المسور بن مَخرمة عن عمر.
(5) سورة التوبة: 11.
(6) سورة التوبة: 5.(4/105)
وفي الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عمن لم يَرَهُ كيف تَعرِفُهم؟
فقال: "يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوضوء". فمن لم يُصلِّ لم يكن فيه علامةُ أمةِ محمد يومَ القيامة.
وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذَكَر الجهنَّميين الذين أُخرِجوا من النار بالشفاعة، قال: "فتأكُلُهم النّارُ إلاّ موضعَ السجود، فإن الله حرَّم على النار أن تأكلَ أثَرَ السجود". وأمثال ذلك كثيرة.
وأما قول القائل: صلَّيتُ بلا وضوء، فإن كان مستحلاًّ لذلك أو مستهزئًا بالصلاة كَفَرَ باتفاق المسلمين، ووَجَبَ قتلُه، وإن كانَ معتقدًا لوجوب الوضوء للصلاة وأن الصلاةَ بغير وضوء حرام، ففي كفرِه قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي حنيفة قالوا: يُكفَّر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يَستحقُّ العقوبةَ الغليظة. والله سبحانه أعلم.
وهَجْرُ هؤلاء وتركُ ردِّ السلام عليهم من أهونِ ما يُعَزَّرُون به، فإنهم يستحقونَ ما هو أغلظ من ذلك، والله أعلم.
__________
(1) مسلم (249) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (6573) ومسلم (182) عن أبي هريرة.(4/106)
مسألة
في رجلٍ مَضَى عليه زمنٌ لم يُصَل فيه، ثم تابَ ولازمَ الصلوات الخمس، ولم يتفرَّغ لقضاءِ ما فاتَه من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يُطالِبُه الله بذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله. أمَّا إن كان أوّلاً ممن لا يعتقد وجوبَ الصلاةِ ويَعزِم على فعلها فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلمًا، كالمنافقين الذين تجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن لم يكُنْ مكذِّبًا في الباطن للرسول، بل قد يكونُ مُقِرًّا في الباطن بصِدْقِه، أو مُعرِضًا عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك مُعرِضٌ عما جاء به، لا يَخْطُر بقلبه الصلاةُ هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمُه فعلُها أو لا يلزمُه؟ وإن خَطَر ذلك بقلبه أعرضَ عنه، واشتغلَ بأمورِ دنياه وشهواتِه عن أن يعتقد الوجوبَ ويَعزِمَ على الفعل، فهؤلاء وإن صَلَّوا لم تُقْبَلْ صلاتُهم. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)) (1) ،
__________
(1) سورة النساء: 142.(4/107)
وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) (1) .
وهذا إذا تابَ فاعتقدَ الوجوبَ، وعَزَمَ على الفعل، وأقام الصلاةَ، كان بمنزلة من قد تابَ من الزكاة، وهذا على أصح قولَي العلماء وأكثرِهم لا يُوجَب عليه قضاءُ ما تركَه قبل الإسلام من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حالِ نفاقهم، ولا أمرَ من تابَ من المرتدِّين بقضاءِ ما تركوه في حال الردَّة. وكذلك الصدِّيق والصحابة لما قاتلوا المرتدينَ لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهرِ مذهبِه أنه يَجبُ على المرتدِّ إذا أسلم أن يَقْضيَ ما تركَه حالَ الردَّة، وفي قضاءِ مَا تركَه قبل الردَّة روايتان عن أحمد، ومذهبُ أبي حنيفة ومالك أنه لا يَجب عليه قضاء شيءٍ من ذلك، ومذهب الشافعي: يَقضِي الجميعَ، وقد بَنَوا ذلك على أن الردَّة هل تُحبطُ مُطْلَقًا أو بشرطِ الموتِ عَليها؟ وفي هذا البناءِ وتقريرِ هذه المسائلِ كلام ليس هذا موضعَه، فإن المسئولَ عنه قد عُرِفَ حكمُه بالسنة المعروفة، مِع ما دلَّ عليه القرآن في قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (2) .
وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يُصلِّي، سواءً كان حربيًّا أو ذميًّا، لا يجب عليه قضاءُ شيءٍ من هذه الفرائض، مع قولِ الجمهور إنه يُعاقَب على تركِها في الآخرة إذا لم يُسلِم.
__________
(1) سورة الماعون: 4-7.
(2) سورة الأنفال: 38.(4/108)
وأمّا إن كان هذا الذي فوَّتَ بعضَ الصلاة عمدًا مؤمنًا، يَعتقدُ وجوبَها ويَعزِمُ على أدائها، ولكن تكاسلَ عنها بعضَ الأوقات، فهذا يجبُ عليه عند جمهور العلماء، وعند بعضهم إذا تابَ فلا قضاءَ عليه، بخلاف ما لو نامَ عنها أو نسيَها فإن هذا عليه القضاءَ بالسنة والإجماع. ومن قالَ: العامدُ لا يَقضِي، فإن ذنبَه أكبرُ ولا ينفعُه القضاء، لكن إذا تابَ فالتوبةُ تَجُب ما قبلَها. والذين أوجبوا عليه القضاءَ أوجبوه بحسب الإمكان.
وأكثرُهم يقولون: إذا كثرتِ الفوائتُ لم يَجبْ قضاؤُها على الفورِ مرتبةً، كأبي حنيفةَ وأحمد في إحدى الروَايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يُوجِبون قضاءَ ما تعمَّدَ تركَه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يُوجب قضاءَ الجميع على الفور مرتبًا لكن بحسب الإمكان، بحيث لاَ يَشْغَله عما لا بدَّ له منه من معيشةٍ ونحوِها، ولا يُضعِفُه عن واجبٍ أو ما لا بُدَّ منه.
والكثيرُ الذي لا يجب فيه الفورُ والترتيبُ، قيل: هو صلاة يوم وليلةٍ، كما هو في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعلُه إلاّ بفوتِ الحاضرةِ، كما هو المنقولُ عن أحمد.
والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهدَ في المحافظةِ على الصلاةِ فيما بقي من عمره، وإن قَصَّرَ في قضاءِ الفوائتِ فليجتهدْ في الاستكثار من النوافل، فإنه يُحاسَب بها يومَ القيامة، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "أولُ ما يُحاسَب به العبدُ
__________
(1) أخرجه بهذا السياق أحمد (4/65،5/72،377) عن يحيى بن يعمر عن =(4/109)
صلاتُه، فإن كان أَتَمَّها كُتِبَتْ تامَّة، وإن لم يكن أَتَمَّها قال الله: انظروا هل تجدون لعبدي مِن تطوُّع فَتكمِلونَ به. فريضتَه، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك".
وأمَّا إنْ قُدِّرَ أنه عَجَزَ عن القضاء، فلم يَتفرَّغْ حتى مات بعد التوبة، فهذا مغفورٌ له، ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله. وكذلك لو قضى البعضَ وعجَزَ عن البعضِ، ومن العَجْزِ أن يكونَ بحيثُ لو اشتغلَ بالقضاء لتَضرَّرَ في معيشتِه وما يَحتاج إليه لنفقةِ عيالِه وقضاءِ دُيونِه ونحوِ ذلك، فإنه ليس عليه أن يُواصِلَ القضاءَ مواصلةً تمنعُه عمّا لا بدَّ منه باتفاق العلماء. والله أعلم.
__________
= رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعًا. وله شاهدٌ من حديث تميم الداري، أخرجه أحمد (4/103) وأبو داود (866) وابن ماجه (1426) ، وشاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/290،4/103) وأبو داود (865) والترمذي (413) والنسائي (1/232،233) وابن ماجه (1425، 1426) من طرق عن أبي هريرة.(4/110)
مسألة
في رجل له عشرين (1) سنة يَشربُ الخمر، ولا يُصلِّي إلاّ بعضَ الأعياد والجمع، لكنه يتصدَّقُ ويُنْظِرُ المُعْسِر، فهل يثابُ على ذلك؟ وهل إذا تابَ يجب عليه قضاءُ ما فاته من الواجبات؟
الجواب
الحمد لله. تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ عقوبة شديدة حَتَّى يصلِّي بإجماع المسلمين. وأكثرُ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه إذا لم يُصَل فإنه يُقتَل، واختُلِفَ هل يُقتَل كافرًا أو فاسقًا على قولين. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبين الكفرِ إلاّ تركُ الصلاة" (2) ، وقال: "العهد الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (3) .
وأما إذا فعلَ شيئًا من الخير فإن الله لا يَظلِمُ، فإنّ اليهود
__________
(1) كذا في الأصل، وهو لحن من السائل.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.(4/111)
والنصارى إذا فعلوا خيرًا فإنَ الله يثيبُهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا يَدفَعُ عنه عقوبةَ تركِ الصلاة. ويَجبُ عليه المحافظةُ على الصلوات في مواقيتها. ومن تركَ الصلاةَ متَعمدًا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يَسقُط ولا غيرُه، ولا يُقبَل منه القضاءُ، بل يتوبُ ويَستغفر. وقال الأكثرون: بل يَقضِي ويَتُوب من التأخير، والله أعلم.(4/112)
مسألة
في رجل عنده زوجة لا تُصلِّي، فهل يجب عليه أو يُستَحبُّ له أن يأمرَها بالصلاة؟ وإذا لم تَأتَمِرْ فهل يجوز له إبْقَاؤُها زوجةً أو يَجبُ عليه أو يُستحبُّ له أن يُفارِقها؟ وماذا يَجبُ على تاركِ الصلاة؟ وهل يَكْفُر بتركِها أم لا؟
الجواب
الحمد لله. بل يَجب عليه أن يأمرَها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن يأمرَ بذلك كلَّ من يَقدِر على أمره به إذا لم يَقُم غيرُه بذلك، وقد قال الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1) ، وقال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (2) ، قال علي عليه السلام: عَلِّموهم وأَدِّبُوهم. وينبغي مع الأمر بذلك أن يَحُضُّها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يَحُضها على ما يَحتاج إليه، فإن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها، وذلك واجبٌ في الصحيح.
وتاركُ الصلاة يَستحق العقوبةَ حتى يُصَلِّي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يُصَلِّ قُتِلَ، وهل يُقتَلُ كافرًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم.
__________
(1) سورة طه: 132.
(2) سورة التحريم: 6.(4/113)
مسألة
في رجل عمره سَبْعِيْن (1) سنةً وهو مقيمٌ في بلده مدةَ ثلاثِ سنين، ما رآه أحدٌ صَلَّى ولا زكَّى.
الجواب
هذا الرجل يجب أن يُستتاب لِيُقِيْمَ الصلاةَ ويُؤتيَ الزكاةَ، فإن لم يُقِم الصلاةَ وإلا قُتِلَ عند جماهير العلماء، وهل يُقْتَل كفرًا أو فسقًا على قولين.
وإن لم يؤدِّ الزكاةَ وإلاَّ أُخِذَتْ منه قهرًا، فإنْ غَيَّبَ مالَه وامتنعَ من أدائها قُتِلَ أيضًا في أحدِ قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يُضرَب ضربًا بعد ضرب حتى يُظْهر مالَه فَيُوخَذُ منه الزكاةُ. ومن عَرف حالَ هذا فينبغي أن يَهجُرَهُ، فلا يُسلِّمَ عليه ولا يُعاشِرَه، ويُوَبِّخه ويُغْلظ له حتى يقيمَ الصلاةَ ويؤتيَ الزكاة.
قال عمر بن الخطاب: لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة.
وقال ابن مسعود: ما تاركُ الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (2) ، وفي الآية
__________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.
(2) سورة التوبة: 5.(4/114)
الأخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1) .
وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فَعلوا ذلك عَصَموا منّي دِماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابُهم على الله".
فقد بيَّن الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يُكَفُّ عن قتالهم وإنما يَصيرون إخوةً في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يُقيمون الصلاةَ ويُؤتون الزكاة، فمن لم يُقم الصلاةَ ولم يُؤتِ الزكاةَ لم يكن من هؤلاء، فيُعاقَب على ذلك باتفاق المسلمين، وإن وقعَ نزاعٌ في صفةِ العقوبة، والله أعلم.
__________
(1) سورة التوبة: 11.
(2) البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر.(4/115)
مسألة
في البنت إذا بَلَغَتْ ولم تُصَل، وإن قيل لها: صَلِّي تقول: ما أنا كَبيرة. والمرأةُ الكبيرة إذا لم تصل فماذَا يجب عليها إذا كان زوجُها حَلَفَ عليها: لا يَطأهُا ولا يُنفِقُ عليها إلاّ أن تُواظِبَ على الصلاةِ؟ هل يَحْنَث أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين. مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه باتفاق المسلمين، والمرأةُ يَحصُل بلوغُها بحيضِها وبإنزالِ الماء، وكذلك الحبل يَدُلُّ على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلتْ ولم تُقِرَّ بوجوب الصلاة عليها بعد أن تَعرِفَ أن الله أوجبَها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تَحل لزوجها، ولا يَصِحُّ عقدُ النكاح عليها، فإنّها مرتدَّة، ونكاحُ المرتدَّةِ باطل عند الأئمة، ويَجبُ قتلُها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجبُ قتلُ سَائرِ المرتدَّاتِ عندَهم.
وإن كانت لا تُقِرُّ بوجوبها لِظَنِّها أنَ الصلاةَ إنما تَجِبُ على العجوزِ دون الشابَّةِ، فهذه لا يُحكَم بكفرِها ورِدَّتِها حتى تَعْرِفَ أنها واجبةٌ عليها، وهل على هذه إعادةُ ما تركتْه في حالِ جهلِها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره.(4/116)
وكذلك المرأةُ الكبيرةُ إذا لم تُقِرَّ بوجوب الصلاة وامتنعتْ من فعلِها فإنها تُستَتاب، فإن تابتْ وإلاّ قُتِلَتْ عند مالكٍ والشافعي وأحمد وغيرهم. وإذا هَجرها وامتنعَ من وَطْئِها حتى تُصلِّيَ كان محسنًا في الهجر والامتناع، ولا نفقةَ لها هذه المدةَ، فإنَ الذي فَعَلَه واجبٌ عليه. ويَجبُ عليها أن تُطِيعَه فيه، وللزوج إلزامُ زوجتِه بتركِ المحرَّمات، وإنَ أمكنَ الوطءُ مع فعلِها، ولهَ أيضًا إلزامُها بغُسْلِ الجنابةِ وإزالةِ النجاسة، وإن أمكنَ وطؤُها مع الجنابة، وهذا وإن عُلِّلَ بأن النفسَ تَعَافُ وَطْءَ المرأةِ الجُنُب، فالتي لا تُصلِّي شرٌّ منها، وتركُ الصلاة شرٌّ مِن فِعْلِ أكثرِ المحرَّمات، إذا كانتْ تطيعُه فيما له أن يُلزِمَها به، وإن كانتْ ناشزًا فلا نفقةَ لها ما دامتْ كذلك، والله أعلم.(4/117)
مسألة
في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حَضَرتِ الصلاةُ قاموا، فيُدْعَون للصلاةِ فيَأبوْا (1) ، فيقالُ لهم: مَن لا يُصلِّي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نَطق بالشهادتين هو مسلم.
فبينوا لنا حُكْمَ هؤلاءِ وما يَجِبُ عليهم، ومنهم من لا يصلي إلاّ من العيد إلى العيد، ومنهم من لا يصلِّي أبدًا.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، من تركَ الصلاةَ غَيْرَ مُقِرٍّ بوجوبها عليه - وهو من أهل الوجوب - فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرًّا بالشهادتين، وهذا يُستَتاب، َ فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ كافرًا مرتدًّا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يَعرِفَ الوجوبَ لحِدْثَانِ عهدِه بالإسلام أو إنشائِه بمكانِ جهلٍ فإنه يُعرَّفُ الوجوب، فإن أقرَّ به وإلاّ قُتِل كافرًا.
والصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء، تجب على الحرِّ والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمِن
__________
(1) كذا في الأصل.(4/118)
والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارقِ العادات ذوي المكاشفات والتأثيرات وغيرِ أهل خوارقِ العادات، وأهل حضورِ القلب مع الله وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يُميِّزون وغير المتولهين، لا تَسْقُط عن العبدِ مع حضورِ عقلِه بسببٍ من هذه الأسباب.
وأما من كان مجنونًا فإنه لا صلاةَ عليه حالَ جنونه، ولا قضاءَ عليه بعد الإفاقة، وإن قَصُرَ زمنُ الجنونِ عند جماهير العلماء، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ القلمُ عن المجنونِ حتى يُفِيْقَ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلمَ، وعن النائم حتى يستيقظَ" (1) . والمجانين منهم من يكون مع جنونه له نصيبٌ من الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يُسمَّى هؤلاء عقلاءَ المجانين، وقد يُسمَّون المولَّهِين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم قومٌ أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً، سَلَبَ عقولَهم وأبقَى أحوالَهم، فأسَقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ.
وأما من كان عاقلاً فلا تَسقُط عنه الصلاةُ، وإن له من الأحوال والمعارف وخوارِق العادات ما عَسَى أن يكونَ، بل إذا لم يُقِرَّ بوجوب الصلاة عليه فإنه يُسْتَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. وكذلك من قَرَّره على ذلك واعتقدَ أنَّ الصلاةَ لا تجب على مثل هؤلاءِ لِحصولِ
__________
(1) أخرجه أحمد (6/100،101،144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وله شاهد من حديث علي، أخرجه أحمد (1/116،118،140) وأبو داود (4403) والترمذي (1423) من طرقٍ عن علي.(4/119)
مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. ومن كان نائمًا فإنه يَقْضِي الصلاةَ إذا استيقظَ. وهذا كلُّه لا نِزاعَ فيه بين المسلمين.
وأما من أُغمِيَ عليه لمرضٍ أو خوفٍ أو حالٍ وَرَدَ عليه من خشيةِ الله تعالى أو استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يَجِبُ عليه القضاء مطلقًا، وهو مذهب أحمد ويُروَى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاءَ عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يَقْضِي صلاةَ يوم وليلةٍ، كمذهب أبي حنيفة ومالك.
وإن زالَ عقلُه بسبب محرم، كالسُّكْرِ بالخمر والحشيشة وأكل البَنْجِ ونحو ذلك، أو بحال محرَّم مثل أن يستمعَ القصائد المنهيَّ عنها فيغيب عقلُه، فهذا عليه القضاءُ بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورًا لا يكون (1) السكرانُ معذورًا.
وأما أن أقر الواحدُ من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلِها فهذا أيضًا يُستَتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويُقتَل في ظاهرِ مذهبهم بترك صلاةٍ واحدةٍ، فإذا مَضَى مِن وقتِ صلاة الفجر قيل له: صَلِّ، فإن لم يُصَلِّ حلَّ دمُه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدَّجال يأمُر السماءَ فتُمطِر والأرضَ فتُنبتُ، ويَسْتَتْبعُ معه الكنوزَ، ومع هذا فهو كافرٌ من خلق الله، يَقتُله المَسيحُ بن مريمَ على بابِ الشَّرْقيّ. ولكن لا يُقتَل
__________
(1) في الأصل: "يكن".(4/120)
حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موَقتة ثلاثة أيام؟ هذا فيه نزاع معروف.
وإذا قُتِلَ فهل يُقتَل كافرًا مرتدًا لا يُدفَن في مقابر المسلمين ولا يُغسل ولا يُصلى عليه، أو يُقتَل فاسقًا كقتلِ قاطع الطريق والزاني إذا كان مُقِرا بوجوبها؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد.
وكلامُ أكثرِ السلف يدلُّ على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعضُ أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلاّ تركُ الصلاة" (1) ، وقال: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر" (2) .
وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة، ولم يَقُل ثلاثة أيام.
وسُئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) (3) ، فقال: إضاعتُها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نَحسب ذلك إلا تركَها، فقال: لو تركوها لكانوا كفَّارًا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (4) . وإذا كان هذا الوعيد لمن نَسِيَها عن وقتها فكيف بمن تركها؟
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة مريم: 59.
(4) سورة الماعون: 4-5.(4/121)
مسألة
هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟
الجواب
الحمد لله، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه ويُهْجَر حتى يُصلي، وأمَّا مع القدرة فيجِبُ أن يُستَتابَ، فإن تابَ وإلا قُتِل.(4/122)
مسألة
فيمن تركَ الصلاةَ عامدًا أو غيرَ عامدٍ، ووجبتْ عليه الزكاةُ ولم يُزَك، وعاق والديه، وقَتَلَ نفسًا خطأ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن حج هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خرجَ من ذنوبِه كيومِ وَلَدتْه أمُّه". وقد قصدَ الحج، فهل يُسْقِط هذا جميعَه ومَظالِمَ العباد؟
الجواب
أجمعَ المسلمون لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحق المقتول عليه وإن حجَّ. والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها يَجبُ قضاؤُها وإن حَج. وهذا كلُّه باتفاق العلماء.(4/123)
مسألة
في رجلٍ ماتَ، وكان لا يُزكَي ولا يُصَلِّي إلاّ إن كان في رمضانَ، فيَجِبُ لنا أن نُصَلِّي على مثلِ هذا؟
الجواب
مثلُ هذا يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه، كما تركَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ على قاتلِ نفسِه، وعلى الغالِّ، وعلى المَدِيْنِ الذي لا وفاءَ له. وإن كان منافقَا فمَنْ عُلِمَ نِفاقُه لم يُصلَّ عليه، ومن لم يُعْلَم نِفاقُه فله أن يُصَلِّيَ عليه.(4/124)
مسألة
في أقوامٍ لم يُصلوا ولم يَصومُوا، والذي يصوم منهم لم يُصَل، ومالُهم حرام، ويأخذون أموالَ الناس، ويُكرِمون الجارَ والضيفَ، ولم يُعرَفوا لهم مذهبٌ (1) وهم مسلمون.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكمِ وُلاةِ الأمور فإنهم يَجبُ أن يأمروهم بإقامة الصلاة ويُعاقِبوا على تركها باتفاق المسلمينَ، وكذلك الصيامُ. فإن أقرُّوا بوجوبِ الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يُقِرَّ بذلك فهو كافر، وإن أقرُّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتِها عُوقِبوا حتى يُقِيموها.
ويَجبُ قتلُ كل من لم يُصَلِّ إذا كان عاقلاً بالغًا عند جماهير العلماء كَمالك والشافعي وأحمد، وكذلك يُقام عليهم الحدودُ، وإن كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكةٍ فإنه يَجبُ قتالهم حتى يَلتزِمُوا أداءَ الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلواَت والصيام والزكاة، وتركَ
__________
(1) كذا في الأصل.(4/125)
المحرماتِ كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يُقِر بوجوبِ الصلاة والزكاة فإنه كافَرٌ يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. ومن لم يُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافرٌ أكفرُ من اليهود والنصارى. وعقوقُ الوالدين من الكبائر الموجِبة للنار.(4/126)
مسألة
فيمن قال: صلاة الجماعة ليستْ بواجبة، وإنما كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط.
قيل له: فقد قال بعضُ العلماء: إن من تركَ الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، فقال: مَن قال هذا هو المنافقُ، وقال: إنه لا يُوجَد اليومَ منافق، وإنما كان النفاقُ في زمنِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن يُقالُ اليومَ: زنديق، ولا يقال: منافق.
فهل ما قاله هذا الرجلُ صحيحٌ أم لا؟
أجاب
الحمد لله، أما من قال إن صلاة الجماعة كانت واجبةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه فقط، فهذا القولُ مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة الدين، بل ما نَعْلَمُ إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعضُ العلماء في صلاة الخوف خاصةً، زعمَ أنها كانت تُصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون غيره، وجمهورُ الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائرِ الأعصار على من يُصلي خلفَه ومن يُصلّي خلفَ غيره. ومنهم من(4/127)
يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيره، ومنهم من يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيرِه. وأما وجوبُها في عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعتُ عالمًا قال هذا.
وقد كانت الجماعة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُقامُ خلفَه وخلفَ غيرِه من أئمة القبائل، وكان في كل دارٍ من دار الأنصار مسجد، أي في كلِّ قبيلةٍ من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يُصلُّون خلفَه، كما كان معاذ بن جبل يُصلي بأهل قُباء، وكان غَسان بن مالك يُصلِّي بقومِه وكذلك غيرهما من الأئمة. وأما الجمعة فلم تكن تُقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب عليهم أن يُصلوا خلفَه الجماعةَ كما كان يجب عليهم أن يصلّوا خلفه الجمعةَ فقد أخطأ خطأً بينًا، وقال قولاً معلومَ الفساد بالتواتر والإجماع.
وأما إطلاقُ النفاقِ على من تخلَّف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا كان بغير تأويلٍ شرعي، فأما من تخلَّف لعذرٍ شرعي، أو مَن اعتقد أنّ ذلك ليس بواجب عليه، فتخلَّف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنًا غيرَ منافق، سواء كان مصيبًا في اعتقاده أو مخطئًا.
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرَعَ لنبيِّه سننَ الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما
__________
(1) برقم (654) .(4/128)
يُصلِّي هذا المتخلفُ في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاّ منافقٌ معلومُ النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أنَّ الجماعة لم يكن يتخلَّفُ عنها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ منافق معلومُ النفاق، وهذا مما يَستدِلُّ به من يُوجبها، لأنه إذا لم يكن يَتركُها حينئذٍ إلاّ منافق معلومُ النفاق عُلِمَ أنها كانت واجبةً إذ لو كانت مستحبةً كقيام الليل وصيام يوم الاثنين والخميس وسنةِ الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم يكن في تركها يُقال: إنه منافق، فإنه قد ثبتَ في الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك لرجلٍ، فقال: والذي بعثكَ بالحق لا أزيد على هذا ولا أَنقصُ منه، فقال: "أفلحَ إن صَدَق". فإذا كان من أدَّى الفرائضَ يكون مُفلحًا وإن لم يأتِ المستحبات، وكانت الجماعة لا يتخلَّف عنها عندهم إلا منافقٌ، عُلِمَ أنها كانت عندهم من الواجبات، ولكن هذا كان لعلمِ الصحابةِ بأقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاني كلامِه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم والإيمان ومعرفتهم بوجوبِها وتوكيدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها. حتى قال: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقُ معي برجالٍ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحُرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار" (2) .َ ومعلومٌ أنَّ التحريقَ بالنار لا يكون إلاّ عن كفرٍ أو كبيرةٍ عظيمة.
__________
(1) البخاري (46 ومواضع أخرى) ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله.
(2) أخرجه البخاري (644، 657، 2420، 7224) ومسلم (651) عن أبي هريرة.(4/129)
وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذزيّة"، وفي رواية لأبي داود (2) : "ثم أنطلق إلى رجالي يُصلُّون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار". فلما عَلِمَ الصحابةُ هذا الوعيدَ والتهديدَ كان المؤمنون يطيعون الله ورسولَه، والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليومَ فقد قل العلمُ والإيمانُ، وكثير من العلماء يخفَى عليه بعضُ السنة فضلاً عن غيرهم، فلهذا صارَ يَتْرُكُها مَن ليس بمنافق معلومِ النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا منافقين، وهم تاركونَ للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصرُّوا على ذلك رُدَّتْ شهادتُهم، بل يُقاتَلُون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها.
فأما من قال بوجوبها فإنه يُقاتِلُ تاركَها، ويُفَسقُ المصرِّينَ على تركها إذا قامتْ عليهم الحجةُ التي تُبِيْحُ القتالَ والتفسيقَ، كما يُقاتَل أهلُ البغي بعد إزالةِ الشبهة ورَفْع المَظْلمة، بل العلماءُ قد يُعاقِبون مَن تركَ واجبًا أو فَعَل محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول أنه يُجلَد وإن كان متأولاً، والشافعي لا يردُّ شهادتَه بذلك، ومالك يردُّها، وعن أحمد روايتان. وكذلك البُغاةُ المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتلَ علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يُفَسَّقون بذلك البغي، لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قُوتلوا.
__________
(1) لأحمد (2/367) .
(2) برقم (548، 549) .(4/130)
وهكذا كل ما ثبتَ تحريمُه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خفي ذلك على بعضِ العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن كان المتأول المعذور من العلماء لا يَلحقُه الوعيدُ، بل يغفر الله له لأنه اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) ، وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: "قد فعلتُ".
وهكذا ما يَتنازعُ فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذا تركه التاركُ متأولاً مع قيامِه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك فاسقًا بل ولا آثمًا، بل الله يَغفِر له خطأه.
ومع هذا فمن يقول بوجوبه يُبين وجوبَه، ويَذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية لبيان العلم وإظهارِ السنة، وليتبينَ خطأُ القول المخالفِ للسنة وصوابُ القول الموافق لها، وإن كان المخالفُ مجتهدًا معذورًا، بل يكون المجتهد من أولياء الله المتقين، وعبادِه الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يَغفِر له خطأه ويَغفِر له ما هو فوقَ الخطأ من الذنوب، إذ لا معصومَ من أن يُقَر على خطأٍ أو ذنبٍ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان صديقًا أو شهيدًا أو صالحًا، لكن يكونون كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (3) .
ووجوبُ الجماعة من هذا الباب، فإن دلائلَ وجوبِها في
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) مسلم (126) عن ابن عباس.
(3) سورة الأحقاف: 16.(4/131)
الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يَسترِيبُ فيه بعد معرفتِه ومعرفةِ ما قيل في ذلك عالم منصفٌ، ولكنّ طائفة من العلماء ظنّوا أنّ الوعيد كان في الجمعة خاصةً، والنصوصُ صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضًا. ومنهم من ظنَّ أن العقوبة إنما كانت للنفاقِ خاصةً لا لتركِ الجماعة، وهذا أيضًا خطأٌ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يُعاقِبُ أحدًا على ما أسرَّه من النفاقِ، وإنما يُعاقِبُه بما أظهره من ترك واجب أو فِعْلِ محرَّم. وأيضًا فإذا [كان] تركُها علامة النفاق، فالدليلُ يَستلزمُ المدلولَ، عُلِمَ أن كلَّ من تركَها كان منافقًا، وهذا دليل الوجوب.
وأيضًا فإنه قد ثبتَ في الصحيح (1) أن ابنَ أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخصَ له في تركها، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. قال: "فأجَبْ". وفي روايةٍ في السنن (2) : فقال: "لا أجدُ لكَ رخصة". وابنَ أم مكتوم مؤمنٌ باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)) (3) ، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَستخلِفُه على المدينة، وكان يؤذِّن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع هذا فلم يَأذَنْ له في التخلف عن الجماعة، فعُلِمَ أنها واجبة على من عُلِمَ إيمانُه.
ومن ادَّعَى أنَّ هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد
__________
(1) مسلم (653) عن أبي هريرة.
(2) لأبي داود (552) عن ابن أم مكتوم.
(3) سورة عبس: 1-2.(4/132)
غَلِطَ، فإن العمل عليه عند من يُوجب الجماعةَ، يُوجبُها على الأعمى كما يُوجبُ عليه الجمعة، فإذَا أمكنه الخروج إليَها وَجَبَتْ عليه وإن لم يكن له قائد، إذ الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيرِه من حوائجه بلا قائدٍ، فكذلك يذهب إلى الجماعة.
فصل
وأما من قال: لا يوجد اليومَ منافقٌ، إنما كان النفاقُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا مخطىء بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن النفاق اليومَ أكثرُ منه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافقُ هو الذي يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، وهذا موجودٌ في سائرِ الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآياتِه وسَماعِ كلامِه يكون المنافقون موجودين فبعدَه أولى وأحرى.
وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهلٌ منه، فإن لفظ "زنديق" لفظٌ معرَّبٌ لم يَنطِقْ به رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابُه، ولكن نَطقتْ به الفُرسُ، فأخذَتْه العربُ فعرَّبَتْه. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفرَ، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتجَّ الشافعي وغيرُه ممن يَرى قبولَ توبةِ الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ علانيتَهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى الله. وكذلك تكلم(4/133)
الفقهاءُ من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثِه، ووجوب إعادة ما فعلَه من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتجُّ على ذلك بأحكام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يُظهِر الإسلام ويُبْطِنُ الكفر فإنه منافق، يُسمَّى منافقًا، ويَدخُل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومَن أنكر هذا فإنه يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ.
واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يُعبر به عن بعض شُعَبِ الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافَتْه الصحابةُ على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1) أن حَنْظَلَة الكاتب لَقِيَ أبا بكر الصديق فقال: نافقَ حنظلةُ، نافقَ حنظلةُ.
وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مُليكة قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه. وقد صنَّف جعفر بن محمد الفِرْيابي الحافظ كتابًا في صفة المنافق (3) ، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يَتسِعُ له هذا الموضعُ، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)) ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (4) ،
__________
(1) برقم (2750) .
(2) 1/109 (مع "الفتح") .
(3) هو مطبوع.
(4) سورة المائدة: 44، 45، 47.(4/134)
قال: كفرٌ دون كفر، وفسوقٌ دون فسوق، وظلمٌ دون ظلم (1) . وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الشِّركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النَّمْلِ، والرياءُ شرك" (2) وفي الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في الأنساب والاستسقاءُ بالأنواء" (3) . وفي حديث آخر: "لا تَرغَبوا عن آبائِكم، فإن كفرًا بكم أن تَرغَبوا عن آبائكم" (4) . ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (6/165-166) .
(2) أخرجه أحمد (4/403) عن أبي موسى الأشعري.
(3) أخرجه مسلم (67) عن أبي هريرة، وفيه: "والنياحة على الميت" بدلاً من "الاستسقاء بالنجوم".
(4) أخرجه البخاري (6830 ومواضع أخرى) عن عمر بن الخطاب.(4/135)
مسألة
في رجل له دكانٌ يبيع فيها ويشتري، وهي بقُرب المسجد من غير حائلٍ بينهما، فهل يَجبُ عليه إذا أقيمتِ الصلاةُ وحضرت الجماعةُ أن يُصلِّي منفردًاَ في الدكان ويَتْرُكَ الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يُؤَخر الصلاةَ مع الجماعة ويُصلي في البيت ويقول: أنا أُؤَخّر الصلاةَ إلى نصف الليل وأُصلِّي في بيتي؟
الجواب
لا يَجبُ عليه باتفاق المسلمين أن يُصلي منفردًا في الحانوت، بلَ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة، وإنما يَأمرُ بالصلاة منفردًا دون الجماعةِ أهلُ البدع المُضلَّة كالرافضة، وبعضُ ضُلاَّلِ النُسَّاك ونحوهم، وأما أهلُ السنة والجماعة فمن أعظم شعائرِهم الصلاةُ في الجمعة والجماعة.
والصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه، بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لقد
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله "يجوز".
(2) سبق تخريجه.(4/136)
هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقَ معي رجالٌ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحرِّقَ بيوتَهم بالنار". وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذرية". فبيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما يَمنعُه من تحريقِ المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساءً وذرية.
وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إنّي رجلٌ شاسعُ الدار، ولي قائد لا يُلائِمني، فهل تَجدُ لي رخصةً أن أصلّي في بيتي؟ قال: "هل تَسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "فأَجبْ". وفي رواية (3) : "هل تسمعُ النداء؟ " قال: نعم، قال: "لا أجد لك رخصة". وفي الصحيح (4) عن ابن مسعود أنه قال: شرعَ الله لنبيِّه سُننَ الهدى، وإنّ هذه الصلوات الخمس في المساجد التي يُؤذَّن بها من سُنن الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتُم سنةَ نبيكم، ولو تركتُم سنةَ نبيكم لضَلَلْتُم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق.
وإذا ظهر من الرجل [الانفرادُ] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه يستحق على ذلك العقوبةَ البليغة، التي تَحمِلُه وأمثالَه على أداءَ
__________
(1) سبق تخريجها.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجها.
(4) سبق تخريجه.(4/137)
الواجبات وإقامةِ شرائع الدين، ومتى ادَّعَى ما يظهر خلافه لم يُقْبَل منه، بل يُؤمَر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ أحدُهم الشمسَ حتى إذا كانتْ بين قَرْنَي الشيطانِ قامَ، فَنَقَرَ أربعًا لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا".
ومن قال: إنه يُؤخر العشاءَ حتى يُصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يُقَرُّ على ذلك، بل يُعاقَب حتى يُصلي الصلاةَ في وقتِها وقتِ الاختيار، فإن تأخيرَ العصر إلى [ما] بعد الاصفرارِ وتأخيرَ العشاءِ إلى ما بعد نصف الليل لا يَجوزُ مع القدرة، بل يجوز ذلك لمن لم تُمكِنْه الصلاةُ وقتَ الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يُسلم، ونحو ذلك، والله أعلم.
__________
(1) مسلم (622) عن أنس.(4/138)
مسألة
في مسلم تاركِ الصلاة ويُصلي يومَ الجمعة، فهل يَجِبُ عليه اللعنةُ؟
الجواب
الحمد لله، هذا يَستوجبُ العقوبةَ باتفاق المسلمين، والواجبُ عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يُستَتابَ، فإن تاب وإلا قُتِلَ.
ولعنُ تاركِ الصلاة على وجهِ العموم جائزٌ، وأما لعنةُ المعينِ فالأولى تركُها، لأنه يُمكِنُ أن يتوبَ.(4/139)
مسألة
في رجلٍ يصوم ولا يُصلِّي ويَلْعَبُ بالنَّرْدِ.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الصلاةُ أعظم من الصيام، وتاركُ الصلاة المفروضة أعظمُ إثمًا من تاركِ الصيام.
وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر حَبطَ عملُه". وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الذي تفوتُه الصَلاةُ صلاة واحدةٌ فكأنما وُترَ أَهْلُه ومالُه" أي سُلِبَ أهلُه ومالُه. فإذا كان هذا فيمن تفوتُه صلاةٌ واحدةٌ فكيف بمن يفوتُه أكثرُ من صلاة؟
فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس بين العبدِ وبينَ الشركِ إلاّ تركُ الصلاة". وتاركُها مستحق للعقوبةِ البليغةِ بإجماع المسلمين، ويُستَتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ. وأما لعبُ النرد فهو حرامٌ باتفاق العلماء.
__________
(1) عند البخاري (553، 594) عن بريدة بلفظ "من تركَ صلاةَ العصر ... " ولم يروه مسلم.
(2) البخَاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر بلفظ "الذي تفوتُه صلاةُ العصر ... ".
(3) سبق تخريجه.(4/140)
مسألة
فيمن عنده زوجةٌ ما تُصَفَي، هل تَحرمُ عليه؟ أو يَنْفَسِخُ العقدُ الذي عُقِدَ بينهما؟ ولها عليه صداقٌ ثقيل ولم يَقْدِرْ على شي؟ منه، ويخافُ إنْ يُفارِقْها يُطَالَبْ بشيٍ لا يَقدِرُ عليه.
الجواب
الحمد لله، أما إقرار الزوجةِ أو غيرِها ممن هو تحت طاعةِ الرجل على ترك الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمُقِرُّ على ذلك مع القدرة على الإنكار آثم فاسقٌ عاص بلا نزاع، بل الأمرُ بالصلاة لمن ليسَ تحت طاعةِ الرجل فرض على الكفاية، إذا تركَه الناسُ عَصَوا وأَثِمُوا، واستحقوا جميعهم عقابَ الله، فكيف تَرْكُ الأمرِ بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1) ، وما أمر اللهُ به نبيه فهو أمرٌ لأمته ما لم يَقُمْ دليل على التخصيص، ولا تخصيصَ هنا بالاتفاق، فيجبُ على كل مسلم أن يأمر أهلَه بالصلاة. وكذلك قال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) (2) ، قال عليه الصلاة والسلام: عَلِّموهم وأدِّبُوهم.
__________
(1) سورة طه: 132.
(2) سورة التحريم: 6.(4/141)
وإذا عَلِمَ الرجلُ أن المخطوبة لا تصلي كان تزوُّجُه أشَرَّ مما إذا علِمَ أنها قَحْبةٌ أو سارقةٌ أو شاربةُ خمر، فإن تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء، إذْ تاركُ الصلاة سواءٌ كان رجلاً أو امرأةً يَجِبُ قتلُه عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، والسارقُ لا يَجبُ قتله، ولا يَجبُ قتلُ الزانية التي لم تُحصن باتفاق العلماء، وإنَ كانت بكرًا بالغًا عند أبوَيها وهي لا تصلي كانت شرًّا من أن تكون قد زَنَتْ عندَهم أو سَرَقَتْ، وإذا كان الناسُ كلُّهم يُنكِرون أن يتزوَّجَ الرجلُ بسارقةٍ أو زانيةٍ أو شاربةِ خمر ونحو ذلك فيجبُ أن يكون إنكارُهم لِتزوُّجِ من لا تصلِّي أعظمَ وأعظمَ باتفاق الأئمة. فإنّ التي لا تصلي شرٌّ من الزانية والسارقة وشاربة الخمر.
وليس لقائل أن يقول: فالمسلمُ يَجوزُ له أن يتزوَّجَ اليهوديةَ والنصرانيةَ، فكيف بهذه؟ لأنَّ اليهودية والنصرانية تُقَرُّ على دينها، فلا تُقْتَل ولا تُضْرَب، وأما تاركُ الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يُعاقَب إما بالقتلِ وإما بالقطع وإما بالجَلْد، وإن كان عقابُه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن لا يجوز لغيره أن يُقِرَّه على فسقِه، فمن أقرَّ فاسقًا على فسقِه ولم ينكر عليه كان عاصيًا آثمًا، ومن أقر ذميًا على دينه لم يكن آثمًا ولا عاصيًا، وقد قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء الطيبات للرجال الطيبين،
__________
(1) سورة النور: 26.(4/142)
والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر.
والخُبْثُ إنْ قيلَ المرادُ به الزنا دل على أن تزوجَ الزانيةِ لا يجوزُ حتى تتوب، وهو أصحُّ قولَي العلماء، لقوله تعالى: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) (1) ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى رجلاً أن يتزوَّج امرأة كان يزني بها اسمها عَنَاق (2) ، وأنزَل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوجُ بها مذمومًا عند عامةِ العقلاء، حتى يقال: شَتَمَهُ بالزين والقاف، أي قال له: يا زوجَ القَحْبَة. والحديثُ الذي يُروَى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَردُّ كف لامسٍ، قد ضعَّفُوه (3) ، ولا شكَّ أنَّ الزانيةَ يُخافُ منها إفسادُ الفراش، وهو من هذا الوجه شرٌّ من غيرها، بخلاف مَن كان فسقُها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بَغَتِ امرأةُ نبى قط، لكن عقوبةَ المرأة التي تَترك الصلاةَ أعظمُ من عقوبةِ بعض البغايا فالمتزوجُ بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظمَ من أن يُقِر عنده أختَه الزانية وبنتَه الزانية.
وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا
__________
(1) سورة النور: 3.
(2) أخرجه أبو داود (2051) والترمذي (3177) والنسائي (6/54) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم (2/166) .
(3) أخرجه أبو داود (2049) والنسائي (6/67، 169، 170) عن ابن عباس.
قال النسائي: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي.(4/143)
دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه.
وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلاَ فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلاّ فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِيَ أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم.(4/144)
مسألة
فيمن لا يُصلِّي هل تُجَابُ دعوتُه إذا دعَا أحدًا؟
الجواب
أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يُسلَّم عليه، ولا تُجاب دعوتُه، بل هو مستحق للقتل، فإذا هُجِرَ فلم يُسَلم عليه ولم تُجَبْ دعوتُه كان ذلك أخفَّ ما يُعاقَبُ به.
مسألة
في رجل ذُكِرَ له الصلاةُ، فقال: قال الله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) (1) ، فقيل له: اقرأ بقيةَ الآية، فقال: كلمةٌ تكفي العاقلَ، وهو يَضحكُ، فما يَجِبُ عليه؟
الجواب
هذا الرجلُ مُستهزىء بآياتِ الله، يُستَتاب، فإن تَابَ وإلا قُتِلَ.
__________
(1) سورة النساء: 43.(4/145)
مسألة
في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل المرور بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليومَ الثالث، ومَن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام، والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم، والضرب بالدفوف والشبابات، هل يُكْرَه ذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، كان الميتُ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخرُج به الرجال، يَحملونه إلى المقبرة ويُسرِعون به وعليهم السكينة، لا يخرج معهم النساءُ، ولا يَرفعُ الرجالُ أصواتَهم لا بقراءةٍ ولا غيرها. وهذه هي السنة باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع الميت شيءٌ من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة.
قال قيس بن عُبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا عليَّ بن أبي طالب-: كانوا يَستحبُّون خَفْضَ الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحامِ الحربِ. وذكروا أن عبد الله بن عمر سمعَ رجلاً(4/146)
في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر اللهُ للأبعد، قال ذلك نهيًا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتُضِرَ: إيايَ وحادِثكُم هذا الذي تَرَحموا على سعيد، استغفرُوا لسعيد.
وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يتبع الجنازة بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أَسْرِعُوا بالجنازة، فإن كانت صالحةً فخيرٌ تُعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم". وفي السنن (3) : "أسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبوا بها دَبِيْبَ اليهود". والآثار في ذلك متعددة.
وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء يَنُحْنَ أو يَضْرِبن خدودَهن ويرفعن أصواتَهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فَعلتْه مع الجنازة أو في حال غَيْبَتِها، لكنه معها بحضور الرجال أشدُّ. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية قالت: نُهِينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نسوةً مع جنازةٍ، فقال لهن: "هل تَحمِلْنَ مع مَن يَحمِلْن؟ " قلن: لا، قال: "هل تَحْفِرن
__________
(1) أخرجه أبو داود (3171) وأحمد (2/528، 531) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة.
(3) بل أخرجه أحمد (2/363) عن أبي هريرة.
(4) البخاري (1278) ومسلم (938) .
(5) أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي في السنن الكبرى (3/77) عن علي.
وهو حديث ضعيف، انظر "الضعيفة" للألباني (2742) .(4/147)
مع من يَحفِرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تُدلِيْن مع من يُدْلِي؟ " قلن: لا، قال: "فارجعنَ مأزورات غيرَ مأجورات، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤذِينَ الميتَ". ومعنى قوله: "تُؤذِينَ الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: "مَن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه".
وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1) ، وبيَّنّا أن ما يَحصُل للألم بنياحة الحيِّ ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحةُ تُعاقَب على نياحتها، كما ثبت في صحيح مَسلم (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبل موتها فإنها تُلبَسُ يومَ القيامة دِرْعًا من جَرَب وسِربالاً من قَطِران".
فالميت ما يَحملُ وِزْرَ النائحة، بل يَحصُل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كلُّ ألم يَحصُل للإنسان بسبب من الأسباب يكون عقوبةً عليه، وفي الصحيحين (3) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من لَطَمَ الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليةِ". فقد تَبرَّأ ممن لَطَم الخدود وشقَّ الجيوب، والجيبُ هو طوقُ الثوب، كما يَفعَلُه بعضُ المُصَابين حين يَشُق ثيابَه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا رُكْنَاه! يا عضداه! يا ناصراه!
ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يَندُب الميتَ، أي يدعوه، والميت لا يُجيب دعاءَه، ولا منفعةَ في هذا الندب لا للحيّ وللميت،
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (24/369-372) .
(2) برقم (934) عن أبي مالك الأشعري.
(3) البخاري (1297، 1298، 1294، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.(4/148)
بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أُغميَ عليه، فجعلتْ أختُه تندُبُ عليه، فلما أَفَاق قال: ما قلتِ فيَّ شيء إلاّ قيل لي: أنتَ كذلك؟ أنتَ كذاك؟ (1) .
وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تبرَّأ من الحالقة والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تَحلِق شعرَها عند المصيبة، والصالقة التي تَرفع صوتَها بالمصيبة، والشاقةُ التي تشق ثيابَها عند المصيبة.
والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصُنْعَهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا اجتمعَ الناس وصَنَع أهلُ الميت للناس وليمةً، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما السنة أن يُصنَعَ لأهل الميتِ طعامٌ لاشتغالِهم بمصيبتهم، كما قالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه نَعِيُّ جعفر: "اصنعَوا لآلِ جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يَشْغَلهم" (4) .
وعملُ العرسِ للميت من أعظمِ البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في الجنائز على وجه النياحةَ منكرٌ باتفاق العلماء، لم يرخّصْ أحدٌ من أهل العلم في ضرب الدفوف في الجنائز والموت،
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.
(3) 2/204. ورواه أيضًا ابن ماجه (1612) ، وصححه النووي في المجموع (5/320) .
(4) أخرجه أحمد (1/205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر.(4/149)
فكيف بالشبابات؟ وإنما يُضْربُ بالدَّفّ في عُرسِ النكاح ونحوه، كما جاءت به السنةُ، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقًا، لكن الصحيح أنه يُفَرقُ بين الضرب به في الموت أو في الفرح، وكان دَفهم ليس له صَلاصِلُ، ولهذا تنازعَ العلماء في الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يُرخّص فيها أحد من الأئمة الأربعة لا في عرس ولا موت.
وكذلك ما يفعله بعض المُصَابين من كشف الرءوس ونَشْر الشُّعور، ولُبْسِ المسوح، ونَبْذِ الأواني والبُسُط، أو كَسْرِ بعض ذلك، أو هَلْب الخيل، أو تقليب سُرُوجها، أو تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في دارِه، وما أشبهَ هذه الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضعُ الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباسُ الميتةِ حُلِيها أو جميلَ ثيابها كما يُصنَع بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية، وكذلك وضعُ طعام وشراب في مُغتسلِهِ أو إِيقادُ ضوءِ في مُغتَسَلِه كل ذلك من البدع المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاثٍ، بل الاختلافُ إلى قبره صبيحةَ موته أو ثالثه وسابعهُ ورأسَ شهرِه ورأسَ حوله هو أيضًا من البدع التي لم يكن يُفعل عهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه، وإنما قال عمرو بن العاص لما احْتُضِرَ: اجلسُوا عند قبري قدرَ ما يُنْحَر جَزُور ويُقسم لحمُها، أَستأنِسُ بكم وأَنظُر ماذا أراجِعُ به رُسُلَ ربي.(4/150)
وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا رسول الله! إنّ أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وأما إخراجُ الصدقة مع الجنازةِ فبدعة مكروهةٌ، وهو يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نَهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في السنن (2) عنه أنه نهى عن العَقْر عند القبر. وتفسيرُ ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم كبيرٌ عَقَروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، حتى نص بعضُ الأئمة على كراهةِ الأكل منها، لأنه يُشبهُ الذبحَ لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما يفعلُه بعضُ الناس من إخراجِ الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك، وهذا فيه عدةُ مفاسدَ:
منها: أن مُشَيعي الجنازة تَشتغِلُ قلوبُهم بذلك.
الثاني: أنه يتبعُ الميتَ من ليس له غرض إلاّ في أخذِ ذلك.
الثالث: أنهم يختصمون عليها.
الرابع: أنه يأخذها الغالبُ غيرَ مستحق ويُحرَمُ المستحق.
__________
(1) البخاري (1388، 2760) ومسلم (1004) عن عائشة.
(2) أخرج أبو داود (3222) والنسائي (4/16) وأحمد (3/197) عن أنصر مرفوعًا: "لا عَقرَ في الإسلام"، قال عبد الرزاق: كانوا يَعقِرون عند القبر، يعني ببقرةِ أو بشيء.(4/151)
الخامس: أنه قد يكون على الميتِ دَينٌ أو في ورثتِه صغارٌ.
السادس: أنها تُصنَع رياءً.
فمن أحبَّ أن ينفعَ ميّتَه بصدقةٍ عنه فليتصدقْ بما يسَّره الله تعالى على من يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقةَ إذا وصلتْ إلى المستحقّ الذي ينتفع بها محمولةً إليه كان أعظمَ للأجر والثواب، وكان في ذلك اتباعٌ للسنة والتخلصُ من البدعة.(4/152)
مسألة
في قوم يقرءون قُدامَ الموتى على طريقة الغناءِ، ويَقِفُون بالميت قليلاً بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعةٌ: هذا حرام على المقرىء والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمرادُ بيانُ ذلك.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، نعم الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه، ولو لم يكن لأجلِ تنقيطِهم، فإذا كان كذلك فهو زيادةُ شرٍّ على شرِّ، بل مجردُ الوقوف بالميت منهي عنه مطلقًا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أَسرِعُوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غيرَ ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم" (1) . وقال: "أَسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبُّوا دبيبَ اليهود" (2) .
والقراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وَقفوا تضاعفتِ المكروهاتُ، والإعطاءُ نقوطًا لمثل هؤلاء مما يُنْهَى عنه فاعلُه، ولا يثابُ عليه، فإنه بإعطائه أعانَ على ما يَكرهُه الله ورسولُه، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (2/364) عن أبي هريرة بلفظ "انبسطوا بها ولا ... ".(4/153)
مسألة
المسئولُ أن يُبيَّنَ لنا عن هذه المشاهد، ومَن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صحَّ من الأنبياء والصحابة في دفنِهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، وخالد بن الوليد ذُكِر أنه كان تُربتُه [في] حمص ورِجْله تخط الأرض. وهل يجوزُ التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقْضِ حاجتي" أو يَندُب له؟ وكيف تكون زيارةُ الرجل الصالح وما صحَّ من دَفْن الأنبياء؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلَيْنِ:
أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول: القبور ثلاثة أقسام:
منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه، مثل قبر نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا منقول بالتواتر، وإن كان بعضُ الرافضة تطعَن في قبرِ أبي بكر وعمر، فهؤلاء مُكابرونَ بَهَّاتُونَ، بمنزلة مَن يُنكِر قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(4/154)
ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقيَّ دمشقَ، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك أمهاتُ المؤمنين كلُّهنّ تُوُفِّيْنَ بالمدينة، فمن قال: إنَّ بظاهرِ دمشق قبرَ أم حبيبة أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذبَ. ولكن من الصحابيات بالشام امرأةٌ يُقال لها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيتْ بالشام، فهذه قبرُها محتملٌ. كما أن قبرَ بلال ممكنٌ فإنه دُفِنَ بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دُفنَ هناك، وأما القطع بتعيُّنِ قبرِه ففيه نظر، فإنه يقال: إنّ تلك القبورَ حَدَثَتْ.
وكذلك القَبرُ المضافُ إلى أُويس القرني غربيَّ دمشقَ كَذِبٌ بلا
ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السُّلَمي حكايةً فيها أنه تُوفي بدمشق، وهي باطلة قطعا، فإن أويسًا لم يجِيءْ إلى الشام وإنما ذهبَ إلى العراق.
وكذلك القبر المضاف إلى هُوْدٍ بجامع دمشق كذبٌ باتفاق أهل العلم، فإن هودًا لم يَجِىءْ إلى الشامِ، بل بُعِث باليمن وهاجرَ إلى مكة، فقيل: إنه ماتَ باليمن، وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاءَ قبرِ معاوية بن أبي سفيان، فإن خلفَ الحائطِ تابوت مكتوبٌ فيه اسمُ معاويةَ بن أبي سفيان.
وأما الذي خارجَ باب الصغير الذي يُقالُ: إنه قبرُ معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيدَ بن معاوية الذي تولى الخلافة مدةً قصيرةً ثم مات، ولم يَعهَد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظنّ الناسُ أنه معاوية بن أبي سفيان.(4/155)
وهكذا يُقالَ في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنُّوا أنه خالد بن الوليد، كان قد عزلَه عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارةِ الشام. وقد اختُلفَ في هذا الذي بحمص هل هو قبرُه أو قبرُ خالد بن يزيد، وكذلك اختُلِف في قبر أبي مسلمٍ الخولاني الذي بداريَّا على قولين، وكذلك قبورٌ غيرُ هذه اختَلَفَ الناسُ فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلفَ فيه أهلُ النقل، فإن كان مع أحدهما ما يُرَجِّح به نقلَه تَرَجح.
وأما المكذوبُ قطعًا فكثيرٌ، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناسِ ودُفِنَ بالبقيع، ويُقَالُ إن قُبةَ العباس بها قبرُه وقبرُ الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها أيضًا رأسُ الحسين، وأما بدنُه فهو بكَرْبَلاءَ باتفاق الناسِ. والذي صحَّ ما ذكره البخاري في صحيحه (1) من أن رأسَه حُمِلَ إلى عبيد الله بن زياد، وجَعل يَنكُتُ بالقَضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبوَ بَرزةَ الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد رُوِي بإسناد منقطع أو مجهولٍ (2) أنه حُمِلَ إلى يزيدَ، وجَعل يَنكُت بالقضيبِ على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر ذلك. وهذا كذبٌ، فإن أبا برزةَ لم يكن بالشام عند يزيدَ، وإنما كان بالعراق.
__________
(1) برقم (3748) عن أنس بن مالك.
(2) انظر تاريخ الطبري (5/465) والبداية والنهاية (11/559) .(4/156)
وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سُبُوا وحُمِلوا على الجمال فنبتت لها سَنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البَخَاتِيُّ موجودةً في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتِلَ أشرافَ بني هاشم، وهذا كذبٌ أيضًا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمِه صَرَفَه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحدًا، وبذلك أمرَه خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني هاشم أن تتعرضَ إلى أحدٍ، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابَهم ما أصابهم، أو كما قال. ولم يُقتَل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم مَن هو معروف، لأنّ زيد بن علي بن الحسين لما صُلِبَ بالكوفة، وقد تزوَّج الحجاج ابنةَ عبد الله بن جعفر وأعظَم صداقَها، فلم يَرَوه كفؤًا لها وسَعَوا في مفارقتِه إيّاها، ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يَقتُل الأشراف أشرافَ الناس وهم رؤوسُ قبائل العرب، فظنَّ من ظنَّ أنهم بنو هاشم، وتخصيصُ لفظ الأشراف بهم عُرْفٌ حادثٌ، والشرف هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفسَد لها مِن حرصِ المرء على المال والشرف لدينه".
وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزومية،
__________
(1) برقم (2733) عن كعب بن مالك. وأخرجه أيضًا أحمد (3/456، 460) والدارمي (2733) . ولابن رجب جزء في شرح هذا الحديث.
(2) البخاري (6787 ومواضع أخرى) .(4/157)
فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: ومن يَجترىءُ عليه إلاّ أسامة بن زيد، فكلَّمه فيها فغضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إنما هلكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفس محمد بيدِه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها". فهذه كانت من أشرافِ قريش، وكانت مخزوميةً.
وكذلك قبرُ نوح الذي بجبلِ بَعلبكَّ كذب قطعًا، وإنما ظهر من مدّةٍ قريبةٍ، وقد بَيَّنْتُ حاله لما سألني عنه أهلُ الناحية وتبيَّن أنه لا أصلَ له.
وكذلك مشهدُ الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتلِ الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرَف، وأهلُ المعرفة بالنقل يعلمون أنّ هذا أيضًا كذب، وأصله أنه نُقِل من مشهدٍ بعسقلانَ، وذاك المشهدُ بنيَ قبلَ هذا بنحوٍ من ستين سنةً في أواخرِ المائة الخامسة، وهذا بنيَ في أثناء المائة السادسة بعد مقتلِ الحسين بنحوٍ من خمسمائة عام، والقاهرة بُنيَتْ بعدَ مقتلِ الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بُنيَ بعد بناءَ القاهرة بنحو مائتَي عام.
وكذلك قبرُ علي عليه السلام الذي بباطنةِ النَّجَفِ بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دُفِن بقصرِ الإمارة بالكوفة، كما دُفِن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودُفِنَ عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم من الخوارج أن يَنْبشوْا قبورَهم، فإن الخوارج كانوا قد تَحالَفوا على قتلِهم، فقتلَ عبدُ الرحمن بن مُلجم عليًّا عليه السلام(4/158)
وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربَه الذي أراد قتلَه على ألْيَتِه فعُولج من ذلك وعاشَ، وعمرو بن العاص استخلفَ على الصلاة رجلا اسمه خارجة، فضربَه الخارجي فظنَّه عمرا، وقال: أردتُ عمرا وأرادَ الله خارجةَ.
ومثل قبر جابر الذي بظاهر حَرانَ، فإن الناس متفقون على أن جابرًا تُوفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.
ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد الله بن عمر ماتَ بمكة عامَ قَتْلِ ابن الزبير، وأوصَى أن يُدفن في الحلّ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدَفنوه بأعلى مكة.
وكثير من هذه الأسماء يَقع فيها الغلطُ من جهة اشتراك الأسماء، كما وقعَ في قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلاً اسمه جابر أو عبد الله بن عمر دُفِن هناك، فظنَّ الجهال أنه الصاحبُ لشهرتِه، ثم اشتهر ذلك.
وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظنّ بعضُ الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أمّ كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن رقية وأم كلثوم ماتَتَا في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة تحت عثمان بن عفان وبهما يسمَّى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفيتْ في حياتِه، ولم يخلف من بناته إلاّ فاطمة، ولم يخرج أحدٌ من بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم.(4/159)
والمسجد الذي بجانب عُرَنَةَ الذي يُقال له مسجد إبراهيم، فإنّ بعض الناس يظن أنه إبراهيم الخليل، وإِنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بنيَ في دولة العباسية علامةً على الموضع الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهرَ والعصرَ يومَ عرفة، فإنه أقام بنَمِرَةَ إلى حينِ الزوال، ثم ركبَ فأتَى بطنَ عُرَنَةَ عند المكان الذي بُني فيه هذا المسجدُ، فخطبَ على راحلته، ثم نزلَ فصلَّى بهم هناك الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم أتى الموقفَ بعرفات. وكان بحرَّان مسجدٌ يقال له مسجد إبراهيم، فيظنُّ الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، وحُبسَ هناك ومات في الحبس، وأوصى إِلى أخيه أبي جعفر الملقب بالَمنصور.
والقبورُ المختلَفُ فيها كثيرة، منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإنّ فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" (1) : توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، قال: وروى يحيى بن سعيد القطّان [عن سفيان] (2) عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل قال: بلغَ عمرَ بن الخطاب أن نسوةً من نساءِ بني المغيرةِ اجتمعن في دار يَبكينَ على خالد بن الوليد، فقال عمرُ: وما عليهنّ أن يبكين على أبي سليمان
__________
(1) 1/409.
(2) زيادة من "الاستيعاب".(4/160)
ما لم يكن نَقْع أو لقلقلة.
وأما قبرُ الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودًا بمنزلةِ حجرةِ النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلِّي أحدٌ هناك، بل المسلمون لما فتحوا البلادَ على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدًا يصلُّون فيه في تلك القرية منفصلاً عن موضع الديْر، ولكن بعد ذلك نُقبتْ حائطُ المقبرةِ كما هو الآن النقبُ ظاهرٌ فيه، فيُقال: إن النّصارى لما استولَوا على البلاد نَقبوه وجَعلوه كنيسةً، ثم لما فتحَه المسلمون لم يكن المتولي لأمرِه عالمًا بالسنة حتى يَسُده ويتخذَ المسجدَ في مكانٍ آخر، فاتخذ ذلك مسجدًا وكان أهل العلم والدين العالمون بالسنة لا يُصلون هناك.
فصل
الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين إنما اضطربَ النقلُ فيها ووقعِ فيها الكذبُ والاشتباهُ لأن ضبطَها ليسَ من الدين، والله تعالى قد ضمنَ حفظَ ما نزلَه من الذكر بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) (1) ، والله قد نزل الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) (2) ، والحكمة: السنة، كما قال ذلك
__________
(1) سورة الحجر: 9.
(2) سورة البقرة: 231.(4/161)
غيرُ واحدٍ من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (1) ، والذي كان يتلَى في بيوتهنّ هو القرآن والسنة، فالذكر الذيْ نزَّله الله ضمِنَ حفظَه، فلهذا كانت الشريعة محفوظةً مضبوطةً، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تُتخَذُ أربابًا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية:
فالزيارةُ الشرعية أن يُسَلم على الميتِ ويَدعو له، كما يُصلِّي على جنازته، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُعلم أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقول قائلُهم: "السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمينَ منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ، اللهمَ لا تَحرِمْنَا أجرَهُم، ولا تَفْتِنا بعدَهم، واغفر لنا ولهم" (2) .
فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرتْ، وقد قال الله تعالى لنبيه في حق المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (3) ، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دلَّ ذلك بطريقِ مفهومِ الخطابِ وتعليلِه على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورَهم، وقد فُسِّر ذلك القيامُ على قبورِهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يُقامُ على قبره بالدعاء له، فهذا
__________
(1) سورة الأحزاب: 34.
(2) أخرجه مسلم (975) عن بريدة.
(3) سورة التوبة: 84.(4/162)
هو المشروع.
وأما زيارةُ المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، والتمسُّح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، فهذا ليس مشروعًا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعلْه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمرَ به، ولا رَغب فيه، ولا تعلَّمه أحدٌ من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يَبْنُون مشهدًا على قبر ولا مسجدًا ولا غيرَه، وإنما حدثتْ هذه المشاهدُ بعدَ القرونِ المفضلة التي أثنى عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرنِ الذي بُعِث فيهم ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرتْ في دولة بني بُوَيْه ونحوهم من أهل البدع والجهل. وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، بل لعنَ من يَفعلُه، كما في الصحيحين (1) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في مرضِه الذي مات فيه: "لَعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، يُحذرُ ما صَنَعوا. قالت عائشةُ: ولولا ذلك لأبرزَ قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2) .
وفي صحيح مسلم (3) عن جُندَب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قبل أن يموتَ بخمس: "إن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدَ، إلاّ فلا تتخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
__________
(1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) .
(3) برقم (532) .(4/163)
وفي موطأ مالك (1) : "اللهمَّ لا تجعلْ قبرِيْ وثنا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن من شِرارِ الناس مَن تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذونَ القبورَ مساجدَ". رواه أبو حاتم في صحيحه (3) .
ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبرِه فإنه لا يتمسَّح بالقبر ولا يُقَبله، بل اتفقوا على أنه لا يُشرَع أن يَستَلِم ويُقَبِّلَ إلاّ الحجرَ الأسودَ، والركن اليماني يُستلَم ولا يُقبَّلُ على الصحيح، وإذا سلَّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادَ أن يَدعوَ استقبلَ القبلة، ودعا في المسجد، ولم يَدْعُ مستقبلا للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلمُ فيه نزاعًا بين أَهل العلم، وإن نُقِل في ذلك [ما] يُخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصلَ لها.
وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يُستَقبَل القبرُ أو يُستقبلُ القبلةُ؟ فقال أصحابُ أبي حنيفة: يُستقبلُ القبلة، وقال الأكثرون: بل يُستقبَل القبر. وكانت حجرتُه خارجةً عن المسجد، فلما كان زمنَ الوليد بن عبد الملك أمر أن يُزَادَ في المسجد، فاشتُرِيَتِ الحجرةُ التي شرقيَّ المسجدِ وقِبْلِيَّها من أهلها وزيدتْ في المسجد،
__________
(1) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلا.
(2) 1/405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789) .
(3) انظر موارد الظمآن (340) .(4/164)
فبقيتْ حجرةُ عائشةَ -التي دُفِن فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحباه- داخلة في المسجد، ولما بَنَى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط حرفوها عن سمتِ القبلة، وجعلوا ظهرَها مثلثًا لئلا يُصلِّيَ إليها أحدٌ، لما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "لا تَجلسوا على القبور ولا تُصلوا إليها". كل ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، فإن الله تعالى قال في كتابه عن قوم نوح: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (2) ، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: هولاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلَهم. وفي رواية: عكَفُوا على قبورهم ولم يَعبُدوها، ثم طالَ عليهم الأمدُ فعبدُوها، فكان ذلك أول عبادة الأصنام.
فنبيُّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتَمُ النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حَسَمَ مادةَ الشرك، حتى أَمَر بما رواه مسلم في صحيحه (3) عن أبي هَيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: إلاّ أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " إلا أدعَ قبرا مُشرِفًا إلاّ سوَّيتُه، ولا تمثالاً إلاّ طَمَسْتُه". فأمرَ بتسوية القبور وطَمْسِ التماثيل، فإن هذين كانا سببًا لعبادة الأصنام.
ولو كان قصدُ المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو
__________
(1) مسلم (972) عن أبي مرثد الغنوي.
(2) سورة نوح: 23.
(3) برقم (969) .(4/165)
الصلاة عندها مشروعا لم يُكْرَه الصلاةُ فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها أفضلَ، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه قبرٌ لا رجل صالح ولا غيره أفضلُ من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر من المشاهد وغيره، بل صرَّح أئمة المسلمين أنَّ بناءَ المساجد عليها حرام، ونَهَوْا عن الصلاة فيها.
وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لَعَنَ الله زواراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". قال الترمذي: حديث حسن.
ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَن يتخذ على القبور مساجدَ وسُرُجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن يُنذَر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي صحيح البخاري (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَه فلا يَعْصِه".
ونذرُ المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاءُ به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارةُ يمين؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما: لا شيءَ عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي.
والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في
__________
(1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (225) .
(2) برقم (6696، 6700) عن عائشة.(4/166)
الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النذر كفارة يمين". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذرَ في معصيةِ، وكفارته كفارة يمين".
وإذا نذرَ طاعة لله، مثلَ صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه الوفاء بذلك، وإن كان أصلُ عقد النذرِ مكروهًا لما في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل". فنفسُ عقد النذرِ منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا نَذَرَ نذرًا فإن طاعةً لله وَفَى به، وإن كان معصيةً مثل نَذْرٍ للكنائس والبيَع، ونَذْرِ الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبَورَ، فهذا لا يجوز الوفاءُ به، وهل عليه كفارةُ يمين؟ على قولين للفقهاء.
ولو سافرَ لزيارة القبور التي عليها المساجدُ فلا أعلمُ أحدًا من السلف أَذِنَ في ذلك، لكن رَخَّصَ فيه طائفةٌ من متأخري الفقهاء، ومَنَعَ منه آخرون، وقالوا: هو بدعةٌ منهيٌّ عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصرُ الصلاة، لأنه قد ثبتَ في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن (5) أن بَصْرة بن أبي بَصْرة لما
__________
(1) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.
(2) أخرجه أبو داود (3290-3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (5125) عن عائشة.
(3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.
(4) البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه أحمد (6/7) والنسائي (3/113) عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري.(4/167)
رأى بعضَ من زار الطُّورَ -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاهُ عن ذلك، وقال له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُشَدُّ الرحَالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد".
فهذا يُبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثارُ الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمةُ العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذرَ السفرَ إلى بُقْعةٍ بعينها غيرِ المساجد الثلاثة لم يجب الوفاءُ بنذره، ولو كان ذلك طاعةً عندهم لوجبَ الوفاءُ به، واتفَقوا على أن نذرَ الإتيانِ في المسجد الحرام يجبُ الوفاءُ به، وتنازعوا في مَن نَذر إتيانَ مسجدِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجبُ الوفاءُ بذلك، لأنّ من أصلِه أنه لا يَجِبُ بالنذر إلاَّ ما كان من جنسِه واجبًا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاءُ بذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه" (1) ، وهذا طاعةٌ لله بالاتفاق، فيُستحب الوفاءُ به.
فإذا عُلِمَ أنَّ غيرَ المساجدِ الثلاثة لم يَقُولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، عُلِمَ أن ذلك ليس بطاعةٍ، حتى مسجد قُباء، قالوا: من قَصَدَه إذا أتى المدينةَ فحسنٌ، وأما شدُّ الرحْلِ له فلا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من تطهر في بيته فأحسنَ الطهور، ثم أتى مسجد قباءَ لا يُرِيد إلاّ الصلاةَ فيه كان له كأجر عمرة" (2) . فإذا رَغبَ في إتيانِ من
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (3/487) والنسائي (2/37) وابن ماجه (1412) عن سهل ابن حنيف.(4/168)
يأتيه من بيته فيمن سَافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصدَ مسجدَ مدينتِه وقريتِه، وليس له أن يُسافرَ إلى مسجد مدينةٍ أو قريةٍ غيرِ المساجد الثلاثة، بالاتفاق.
فهكذا يَزور القبورَ الزيارةَ الشرعيةَ، فيسلِّم على الميت، ويَدعو له، إذا كان قريبًا من مدينةٍ هو فيها، أو اجتازَ به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عَظُمَتْ هذه البدعُ من أهل الأهواء الذين عَطَّلُوا المساجدَ عًن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يَفعلونَه عند المشاهد، حتى صَنَّفُوا كتبًا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرَنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (1) ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (2) ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) إلى قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) (4) ، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)) ، ولم يقل: وأن المشاهد لله.
__________
(1) سورة البقرة: 114.
(2) سورة البقرة: 187.
(3) سورة الاْعراف: 29.
(4) سورة التوبة: 17- 18.
(5) سورة الجن: 18.(4/169)
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "صلاة الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسوقِه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجلَ إذا تطهَّر في بيته فأحسن الطهورَ، ثم أتى المسجدَ لا يُنْهزُه إلاّ الصلاةُ فيه، كانت خطوتاه إحداهما تَرفَعُ درجةً والأخرى تَحُطّ خطيئةً، فإذا جلسَ فإنه في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تُصفَي على أحدِكم ما دامَ في مصلاه الذي صفَى فيه: "اللهمَّ اغفرْ له، اللهُمَّ ارْحَمْه " ما لم يُحدِثْ أو يَخْرُجْ من المسجد".
وأما قول السائل: "بحرمة فلانٍ الميت أن تَقْضِيَ حاجتي أو تَغفر لي " فهذا ليس بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحدٌ من السلف، ولا استحبَّه أحدٌ من الأئمة، ولا فيه أثرٌ عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى والابتداع، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) (2) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة" (3) .
ولو كان هذا مشروعًا لأحدٍ أو في حقّ أحدٍ لكان أحقُّ الناس بذلك أصحابَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أفضلُ الخلق
__________
(1) البخاري (647) ومسلم (بعد رقم 661) عن أبي هريرة.
(2) سورة الشورى: 21.
(3) أخرجه أحمد (4/126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية.(4/170)
وأكرمُهم على ربّه، وأقربُهم إليه وسيلةً حيًا وميتًا، وقد ثبتَ في صحيح البخاري (1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدبَ استسقَى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتَسقينا، وإنّا نَتَوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقِنا، فيُسقَون. فأخذوا العباسَ يتوسَّلُوا به، وجعلَ يدعو ويَدعُون معه، كما كانوا يتوسَّلون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعُوا هناك، ويَفعلون ما يفعلُه كثير من الناس عند من ليس مثلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماءُ في الاستسقاءِ ما فعلَه الصحابةُ، ولم يذكروا ما ابتدعَه الجاهلون.
فالمقصودُ بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيْبُ العبدَ على دعائِه له، كما يثيبُه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعيْ أفضلَ من المدعوِّ له، وقد يكون المدعوُّ أفضلَ، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتُم المؤذنَ فقولُوا مثلَ ما يقولُ، ثم صَلُّوا علي، فإنه مَن صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنه درجة في الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة". رواه مسلم (2) ، والله أعلم.
__________
(1) برقم (1010،3710) .
(2) برقم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(4/171)
مسألة
في امرأةٍ تُوفّيَتْ وهي حاملٌ في سبعة أشهر، فهل يُشَق بطنُها أو تَضَعُ على بطنِها شيئًا ثقيلاً أو تَسْطو عليهِ القوابلُ؟
الجواب
الحمد لله، ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها، إما أن تَسْطُو القوابلُ عليه فيُخرِجْنَه، وإمّا أن يُفتَح فَرجُها بَالمفتاح المصنوع لذلك، فإذا اتسعَ أخرِجَ منه الولدُ، فإن تعذَّر ذلكَ ففيها قولان مشَهوران:
أحدهما: لا يُشَقُّ بطنُها، لأنه مثلةٌ، والعادة أن الولد يموتُ بموتِ أمِّه، فلا يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميِّت بلا استبقاءِ الحي، بل لو اضطُرَّ الجائعُ إلى أكل ميتٍ معصوم لم يَجزْ، لأن بقاءَ نفسِه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كَسْرُ عظم ميتٍ ككَسْرِ عظم الحي" (1) . وهذا مذهبُ مالك وأحمد وغيرهما.
__________
(1) أخرجه أحمد (6/58،105،168،200،264) وأبو داود (3207) وابن ماجه (1616) عن عائشة. وصححه الألباني في "الإرواء" (763) .(4/172)
والثاني: بل يُشَق بطنُها لإخراج الولدِ، فإن مراعاةَ حقِّ الولد الحيِّ أولى من مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجهٌ كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجهٌ كالثاني. وهذا النزاعُ إذا رُجِيَ خروجُه حيًّا، فأما إذا ظهرَ موتُه، فإنه لا يُشَقُّ بطنُها بلا خلافٍ.(4/173)
مسألة
في رجلٍ تُوفِّي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاةُ عليه غائبةً في مصر أو في القلعةِ؟ وكم قدرُ مدةِ البُعْدِ الذي يَجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدارُ بُعدِ صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى على الغائب أو أحدٌ من الصحابة في مقدارِ بُعدِ القاهرة إلى مصر أو أحدٌ من الأئمة؟
الجواب
أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران:
أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه.
والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابنُ أبي موسى (1) - وهو ثبت في نَقْلِ مذهبِ أحمد - رجحانَها في مذهبه.
__________
(1) في "الإرشاد إلى سبيل الرشاد" (ص122) .(4/174)
وسببُ هذا النزاع أنه قد ثبتَ بالنصوص الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي وكان غائبًا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه، وخرجَ بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم". وفيهما عن جابر (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي فكبر أربعًا، وللبخاري عنه (3) : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى على النجاشي، فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث. وله (4) : "قد تُوفي اليومَ رجل صالح من الحبش، فهَلُمَّ فصلُّوا عليه". فصففنَا، فصلَّى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن صفوف. ولمسلم (5) : إن أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فصلُّوا عليه"، فقُمنا فصَفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حُصين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أخًا لكم"، وفي لفظ: "إن أخَاكم قد ماتَ، فقومُوا فصلُّوا عليه"، يعني النجاشي.
فهذه السنةُ ثبتَتْ، ولم يُنقَلْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلَّى على غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) رُوِيَ فيه أنه صلى على مُعاوية بن معاوية
__________
(1) البخاري (1245،1327) ومسلم (951) .
(2) البخاري (1334) ومسلم (952) .
(3) برقم (1317) .
(4) برقم (1320) .
(5) برقم (952) .
(6) برقم (953) .
(7) جمع الحافظ ابن حجر طرقه في "الإصابة" (3/436،437) ، وقوّاه بالنظر إلى مجموع الطرق في "الفتح" (3/188) . وقال ابن عبد البر في =(4/175)
الليثي في غزوة تبوك لكثرةِ قراءتِه "قل هو الله أحد"، وهوِ حديثٌ لا يُحتجُّ به. وقد ماتَ على عهده خلائقُ من أصحابه في غيبتِه فلم يُصلِّ عليهم، وكذلك لم يُصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صَلَّوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.
ولهذا تنازعَ العلماء، فقالت طائفة: لا يُصلَّى على الغائب، إذ لو كانت سنةً لكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرَ من ذلك، ولكان المسلمون يَعملونَ بذلك في مَحْيَاه ومماتِه، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين:
أحدهما: أن ذلك [كان] مختصًّا به، قالوا: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشاهدُه، أو لأنه حُمِلَ إلى بين يديه. وهذا عذرٌ ضعيفٌ، لأن ذلك لم ينقله أحدٌ، ولأن الصحابة الذين صَلَّوا خلفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُشاهِدوه، ولا فرقَ بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو التكرار، وكلاهما موجودٌ شهد أو لم يشهد، ولأن مثلَ هذا قد كان ممكنًا في حق غير النجاشي، فبطلَ الاختصاصُ به.
ولأن الأصلَ مشاركةُ أمتِه في الأحكام ما لم يقمْ دليلُ اختصاصِ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والعذر الثاني: قالوا: إنّ النجاشي قد كان بين قومٍ نصارى،
__________
= "الاستيعاب" (3/395) : أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة.(4/176)
وكان يُخفِيْ قومَه إسلامَه حتى سَعَوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرتْ هناك حتى يكونَ عنده من يُصلِّيْ عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذرُ أقربُ من الأول، وبه يَظهر تخصيصُ النجاشي بالصلاة دونَ غيرِه من الموتى.
ثم من قال هذا ولم يجوِّز الصلاةَ على الغائب بحالٍ نقضَ كلامَه، ومن قال هذا [و] جوَّز الصلاةَ على الغائب الذي لم يُصل عليه فقد أحسنَ فيما قال، ولعل قولَه أعدلُ الأقوال، فإن الشريعةَ استقرتْ على قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أَمَرتكَم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم" (2) . فما تعذَّر من العبادات سقط بالعجزِ، وإذا كانت الصلاة على الميت مأمورًا بها ولم تكنْ إلاّ مع الغَيبةِ كانتْ هي المأمورَ به.
وقالت طائفة: بل تجوز الصلاةُ على كل غائب عن البلد وإن كان قد صُلِّيَ عليه، كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز على الغائب عن البلد، سواء كان فوقَ مسافةِ القصر أو دونَها، وسواءٌ كان الميتُ خلفَ المصلِّي أو أمامه.
وأما الغائبُ في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين مَنَعُوا الصلاةَ عليه، [و] لم يَرِدْ بها أثرٌ ولا نُقِلَ ذلك عن أحد من
__________
(1) سورة التغابن: 16.
(2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.(4/177)
السلف، فالفاعلُ لها مبتدعٌ دِينًا لم يشرعْه الله، ولو ساغَ ذلك لم يكن لذلك ضابطٌ، بل كان يجوزُ أن يُصلِّي الرجل في هذه الدار أو الدَّرْبِ على من مات في هذا الدرب أو هذه الدار، ومعلومٌ أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزًا لكان قربةً، ولكان السلفُ يبادرون إليه، لاسيَّما ولا يزال في المسلمين من لا يُمكِنه شهودُ الجنازة من مريض ومحبوسٍ ومشغول. فلما لم يَفْعَل هذا أحدٌ من السلف عُلِمَ أنَّه غيرُ مشروع، وإنْ كانَ يُشرَعُ الدعاءُ للميتِ على كل حالٍ، بطهارة أو غير طهارة، إلى القبلة وغيرها، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبيرٍ، وأما صلاةُ الجنازة فيُشتَرط لها الشروطُ الشرعية.
وجوَّزَ طائفة من أصحاب الإمامين الصلاةَ على الغائب في البلد الواحد، ثم محقِّقُوهم قيَّدوا ذلك بما إذا ماتَ الميتُ في أحد جَانِبَي البلدِ الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يُقيِّدها بالكبيَرة، كما إذا ماتَ في أحدِ جانبي بغدادَ فَصُلِّي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وَقعتْ في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغدادَ، فصلَّى عليه أبو عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثرُ الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يُصلَّى عليه فيه إذا كان غائبًا، كما إذا كان الرجل عاجزًا عن حضور الجنازة لمطرٍ أو مرضٍ فإنه لا يُصلِّي على الغائب وفاقًا.(4/178)
لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في البلد وإن أمكن حضوره، وألحقَ ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضورُه، فإنّ فيه وجهًا ضعيفًا بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاةَ عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يَستريب من له أدنى معرفة أن تشريعَ مثل هذا حَدَث وبدعة ظاهرةٌ. وأمثالُ هذه الوجوه تُخَرَّجُ عند ضِيْق مناظرةِ المخالف طردًا لقياسٍ واحترازًا عن نقضٍ، ولا يُدَانُ الله بها.
وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يُصلَّى إلاّ على الغائب عن البلد لم يَبلُغني أنهم حَدُّوا البلدَ الواحدَ بحدٍّ شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارجَ السُّوْرِ أو خارجَ ما يُقدَّر سورًا يُصلَّى عليه، بخلاف من كان داخلَه، لكن هذا لا أصلَ له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إمّا أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابُدَّ أن يكون منفصلاً عن البلد بما يُعَدُّ الذهابُ نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى خمسين خطوة.
وإما أن يكون الحدُّ ما يجب فيه الجمعةُ، وهو مسافةُ فرسخ، حيث يسمع النداءَ، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعدُّ غائبًا عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.(4/179)
وإما أن يُقال مسافة العدوَى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو ما لا يمكن الذاهبَ العودُ إليه في يومه، وهذا يُناسب قولَ من جعل الغائبَ عن البلد كالغائب عن مجلسِ الحكم. وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق الحضورُ، بخلاف مَن يُمكنه العَوْد. ولكن إلحاقَ الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق الصلاة بالحكم.
فهذه هي المآخذ التي يَنْبني عليها جوابُ هذه المسألة. إذا تبيَّن ذلك فنقول: القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوَّز الصلاةَ في أحد جانبي بغداد على من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يُجوِّز أن يُصلَّى على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء فصلاةُ أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاةُ أهل القلعة على من مات بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سورٌ واحدٌ، ومصر خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبانِ أشبه، لكن أكثر العلماء كأصحابِ أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يُجوِّزون الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرًا على من مات في الجانب الآخر، حتى صرَّحوا بأن بغدادَ - مع كونها محالَّ كثيرةً، ولها جانبان بينهما دجلةُ، ومع كون الجمعة تُقامُ بها في مواضع من حين بُنيَتْ بغدادُ من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة - صَرَّحوا مع ذلك أنه لا يُصلَّى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر.(4/180)
ومما يُبيِّن ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قِطع كثيرة كبغداد كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين أن يُصلُّوا في هذه القطعة على من مات في القطعة، فلم يُعرَف أن المسلمين كانوا يُصلُّون في قطعةِ مصر أو دمشق أو غيرهما على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عُرِف أنهم كانوا يُصلُّون بمصر على من مات بالقلعة وبالعكس مع اشتمالِ هذه الأمصار على أئمةٍ من أصحاب الشافعي وأحمد، وهم أهل الترخُّصِ في هذه المسألة، وإن لم يقلْ بهذا القول.
والأضعفُ الصلاةُ على الغائب جدًّا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع الأمصار لم يُصلُّوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يُصلُّون بقُباءَ والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد ماتَ خلق كثير على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقباءَ والعوالي ونحوهما، مما هو عن المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابةُ والتابعون يُصلُّون في أحدِهما على من مات في الآخر.
وأما الصلاةُ بمصر على من يموتُ بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور - وهو منعُ الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر - فمبني على ما ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السُّوْرِ، أو ما يجب فيه الجمعةُ، أو مسافة العدوى؟
فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا(4/181)
يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات بمصر وبالعكس لا تجوزُ عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي وأحمد.
وأما قول السائل: كم مقدارُ بُعْدِ النجاشي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامةُ، وهو مسافة كبيرة.
وأما قوله: هل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أحدٌ من الصحابة أو التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من هؤلاء، وغاية ما بلغَنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع في جانبي بغداد، وكان هذا بعدَ الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن حنبل فلم يَبْلُغْنا أن أحدًا صلَّى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرةِ الموتى وتوفُّرِ الهِمَم والدواعي على نقل ذلك. فتبينَ أن ذلك مُحْدَث لم يفعَلْه الأئمة.
وأما ما يفعلُه بعضُ الناس من أنه كل ليلة يُصلِّي على جميعِ من مات من المسلمين، فلا ريبَ أيضًا أنه بدعة لم يفعلها أحدٌ من السلف، والله أعلم.(4/182)
مسألة
في روح ابن آدم إذا خرجتْ منه وإذا نزل في قبره، هل تَعُود إليه كما كانتْ في دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (1) هل هي روحُ ابن آدم أو روحُ الله؟ وهل يموت المهدي إذَا أمَّ بعيسى بن مريم قبل إتمامِ الصلاة؟ وقد رُوِي أن جنازة مرَّتْ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت عائشة: يا رسول الله! ما أحسنَ هذه! عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وما يُدْريْكِ أن الله خلقَ خَلْقًا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي".
أجاب
نعم، إذا وُضِع الميتُ في قبره فإن الروحَ تَعادُ إليه، ويُسأل عن ربه ودينه ونبيه، ويَسمَعُ الميتُ خَفْقَ نعالِ المشيِّعين إذا وَلَّوا عنه مُدبِرين، وما من رجل يَمُرُّ بقبر الرجل كان يَعرِفُه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام. ومع هذا فمُستَقَرُّ أرواحِ المؤمنين الجنةُ، لكن للروح شان آخر بعدَ الموت
__________
(1) سورة الإسراء: 85.(4/183)
ليس لها نظيرٌ في هذا العالم.
وأما المسيح فإنه يَنزِل على المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ، ويُدرِكُ الدجَّالَ فيقتلُه بباب لُدٍّ الشرقي، ويأمر الله تعالى بعدَ قتلِ الدجال أن يُحصن الناسَ إلى الطُّور، ويقال له: يا روحَ الله! تقدَّمْ، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضَكم على بعضٍ أميرٌ، فيُصلِّي بالمسلمين بعضُهم، ويتمُّ الصلاةَ ولا يموت فيها.
وأما الروح المسئول عنها فأكثرُ الناس على أنها روحُ ابن آدم، وهي وإن كانت من أمر اللهِ فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كلُّه عبدُ الله، جسمُه وروحه.
وأما حديث عائشة فصحيح (1) ، فإنا لا نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة] إلا ما شَهِدَ له النصُّ، أو شَهِدَ له الناسُ شهادةً عامةً على أحد القولين، فإن الله خلقَ للجنةِ أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقولُ بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون في النار، ولا نُعيِّن أحدًا أنه في جنة أو في نار إلا أنْ نَعلَم عاقبته.
والمهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسمُه محمد بن عبد الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح يملأ الأرضَ قسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا، ويَحثُو المالَ حَثْوًا. وقد جاءتْ أخبارُه في الترمذي وسنن أبي داود ومسند
__________
(1) أخرجه مسلم (2662) .(4/184)
الإمام أحمد، ووقع التنبيهُ عليه في الصحيحين (1) .
وأما ما يدَّعيه الضالُّون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامرَّاء، كان له ابنٌ اسمه محمدٌ دخلَ سرداب سامرَّاء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي، فهذا كذبٌ باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضًا فإن الحسن بن علي العسكري عند العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم ينسلْ ولم يُعقبْ، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل الأرض، وأنه باقٍ إلى الآن، وهذا مخالفٌ للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو كان حقا لكان يتيمًا يَجبُ الحَجْرُ عليه في نفسِه ومالِه، ولا يجوز أن يُوَلَى مثلُ هذا ولَايةً أصلا، ولا معصومَ بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحدَ يَجبُ أبدًا طاعته في كل شيء إلاّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز أن يُكلِّفَ الله العبادَ طاعةَ من لا سبيلَ إلى العلمِ بأمرِه، ولا وجهَ لهذه الاحتجاجاتِ. والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريج هذه الأحاديث في المجموعة الثالثة.(4/185)
مسألة
في رجل ماتَ، وأوصى أن يُعمل له ختمة في أسبوعِه وتمام شهره، جائز أم لا؟
الجواب
الحمد لله، الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ من هذه الختمِ له، فإنّ الصدقة تَصِلُ إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم".
وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاعٌ إذا قُرِئ لله، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِي للميّتِ فهذا لم يستحبَّه أحدٌ من العلماء المشهورين، فإن المُعطِيَ لم يتصدقْ لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، والاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز،
__________
(1) البخاري (1388،2760) ومسلم (1004، وبعد رقم 1630) عن عائشة بهذا اللفظ دون ذكر اسم السائل. وهو سعد كما في حديث ابن عباس عنده البخاري (2756، 2762) .(4/186)
وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعةٌ تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلاّ إذا كان العمل للهِ، وما وقعَ بالأجر فلا ثوابَ فيه وإن قيل: يصحُّ الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعامَ من ليس يحتاج إليه، وأن يُقرأ القرآنُ والناسُ يتحدثون لا يسمعون، وأن القراءَ ينتهبون الطعامَ، وهذا كلُّه أمورٌ مكروهة. وإذا تصدَّق على من يَقرأ القرآن ويُعلِّمه ويَتعلَّمه كان له مثلُ أجرِ من أعانَه على القراءة، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، وينتفع الميت بذلك.
وإذا وصَّى الميتُ بأن يُصرَف مالٌ في هذه الختمة، وقَصْدُه التقربُ إلى الله، فصُرِفَتْ إلى مَحاوِيجَ يقرؤون القرآنَ ختمةً وأكثرَ، كان ذلك أفضل وأحسن من جَمْع الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم.(4/187)
مسألة
في رجل جامعَ زوجتَه ولم تغتسِلْ، ثم ماتتْ، فهل يُجزِئُها غسلُ الموت؟
الجواب
الحمد لله، يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين.(4/188)
مسألة
في رجل غسلَ صبيًا، وأبو الصبيّ يَسكُب عليه الماءَ، والغاسلُ لا يحفظ القرآنَ، فهل يجوزُ تغسيلُه أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يَحفظ القرآنَ أن يصلِّي عليه؟
الجواب
الحمد لله، نعم يجوزُ تغسيلُه، والفرضُ في ذلك أن يعمَّ جميعَ بَدنه بالماء كلّه، وهو أخفُّ من اغتسالِ الحي، فإن الحيّ يتمضمضُ ويَستنشِقُ، والميتُ لا يُفعَلُ به ذلك، لكن يُستَحبَّ أن يَمْسَح مَنخَريْه وفمَه بالماء.
والسنة أن يُنَجَّى ثم يُوَضَّأ، ثم يُفاضُ عليه الماء كالحيّ، لكن ينبغي أن يُغسل الميتُ ثلاثًا.
ويجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للميت.(4/189)
مسألة
في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصاحَ وخرَّ ميتًا، وكان ثَمَّ فقير، فقال: هذا لا يُصلَّى عليه، ودُفِنَ ولم يُصلَّ عليه، فماذا يجب على من أفتَى بذلك؟ وهل يُصلَّى على مثل هذا؟
الجواب
أما الميت فتجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر، بل تجبُ الصلاةُ عليه. وأما سماعُ المُكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقُون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية، والتصويت هو المُكَاء، فأنزل الله تعالى بذمّهم: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1) .
وأما حبّ الله ورسوله فهو أصلُ الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبدَ الله بما شَرَعَ، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يُقَرِّبُه إلى الله متحريًا لاتباع الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفورٌ له. والله تعالى قد غَفَر للمؤمنين خَطأَهم، فالذي عَمِلَ السماعَ مجتهدًا، والذي أنكره وتركَ الصلاةَ عليه مجتهدًا، حكمُهم ذلك إلى اللهِ. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنفال: 35.(4/190)
مسألة
هل صحَّ أن الأنبياءَ أحياء في قبورِهم يُصلُّون؟ وكيف كيفيةُ عرضِ أعمالِ الأمةِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعادُ روحُه إلى جسدِه؟ وإذا صلَّى عليه أو سلَّم عليه العبدُ هل يَرُدُّ عليه السلام؟
الجواب
الحمد لله، الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون كما ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مررتُ بموسى ليلةَ أُسرِيَ بي يُصلِّي في قبره" (1) . وثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من مسلم يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي، حتى أردَّ عليه السلام" (2) . وقال: "صلُّوا عليَّ حيثُ ما كنتم، فإنَّ صلاتكم تَبلُغُني" (3) . وقال: "أكثِرُوا من الصلاة عليّ يومَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ"، قالوا: كيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنَّ الله حَرَّم على الأرضِ
__________
(1) أخرجه مسلم (2375) عن أنس.
(2) أخرجه أحمد (2/527) وأبو داود (2041) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (2/367) وأبو داود (2042) عن أبي هريرة.(4/191)
أن تأكلَ لُحومَ الأنبياء" (1) .
وأما عرضُ الأعمالِ عليه فإنها تُعْرَضُ عليه، وهو حق، وأمَّا مَحَلُّ ذلك فمما لا يتعلقُ به غَرَضٌ، والله أعلم.
__________
(1)
أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس.(4/192)
مسألة
في حديث قيس يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واعلم يا قيسُ أنه لابدَّ لك من قرين يُدفَن معك وهو حي، وتُدفَن معه وأنت ميت، فإن كان كريمًا أكرمَك، وإن كان لئيمًا أسلمَكَ، ثم لا يُحشَر إلاّ معك، ولا تُسأَل عنه، ألا وهو فعلُك أو عملُك". فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحًا كان شابًّا حسن الوجه طيبَ الريح فيأنَسُ به، وإن كان طالحًا فبعكسِه فيستوحش منه إلى يوم القيامة أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما هذا المعنى فقد رُوِي في أحاديثَ حسانٍ بأن العمل الصالحٍ يُصوَّر لصاحبه صورةً حسنة، والعمل السيء يُصوَّر لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تُنعِم صالحًا والثانية تُعذبه.
وجاء أيضًا مخصوصةً بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1) ، وذلك في البرزخ في القبر وفي عَرَصاتِ القيامة، فأما جَرْيُ الأعمال بالعُمَّال فإن كان معناه أن عبورَهم على الصراط
__________
(1) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أحمد (2/174) مرفوعًا: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ... " وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1429) .(4/193)
يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يَجرِي كالبرق، ومنهم من يَجرِي كالريح، ومنهم من يسعى كأجَاوِيد الخيل، ومنهم من يَسعى كركاب الإبل، ومنهم من يَعدُو عَدْوًا، ومنهم من يَمشي مشيًا، ومنهم من يَزْحَف زَحْفًا، وذلك على قدر أعمالهم الصالحة، فهذا حق (1) .
وأما تصويرُ العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يَبلُغْني فيه شيءٌ، والله أعلم.
__________
(1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث عائشة الذي أخرجه أحمد (6/110) ، وحديث ابن مسعود الذي أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/590-592) مرفوعًا و (2/376) موقوفًا. وصححه الألباني في تعليقه على "شرح الطحاوية" (ص 415) .(4/194)
مسألة
فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكةً نقَّالةً يَنقُلون من قبورِ المسلمين إلى قبورِ اليهود والنصارى، وكذلك من قبورِهم إلى قبورِ المسلمين، هل وردَ في ذلك خبرٌ أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تُنقَل من القبور، ولكن يُعلَم أن في بعض من يكون ظاهرُه الإسلام ممن يكون منافقًا إما يهوديًّا أو نصرانيا أو زنديقا معطِّلاً فقد يكون في الآخرة مع نُظَرائِه، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) (1) أي أشباهَهم ونُظراءَهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهرُه كافرٌ أن يكون آمنَ بالله ورسوله قبل الغَرْغَرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتمَ أهلَه حالَه إما لأجل ميراثٍ أو لغيرِ ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورًا بين الكفار.
وأما أثر في نقلِ الملائكة فما سمعتُ في ذلك بأثرٍ، والله أعلم.
__________
(1) سورة الصافات: 22.(4/195)
مسألة
فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئًا منه هل الأفضلُ أن يُهدِيَ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعَا عَقِيبَ القراءةِ يقولُ: اللهم أوصِلْ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعلُ ثوابَه لنفسِه خاصةً؟
الجواب
أفضلُ العبادات ما وافقَ هَدْيَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهَدْيَ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته (1) : "إن خيرَ الكلامُ كلام الله، وخيرَ الهَدْيَ هَدْيُ محمد، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة"، وقد قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (2) ، فرَضِيَ عن السابقين مطلقًا، ورَضِيَ عمن اتبعَهم بإحسان.
وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال: "خيرُ
__________
(1) أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله.
(2) سورة التوبة: 100.
(3) أخرجه البخاري (2652،3651،6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651،4628،6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.(4/196)
القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم"، وقال عبد الله بن مسعود (1) : من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤمَنُ عليه الفتنة. أولئك أصحابُ محمدٍ أبرًُ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامِة ديِنه، فاعرِفُوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقال حُذيفةُ بن اليمان (2) : يا معشرَ القُرَّاءِ! استقيموا وخُذُوا طريقَ مَن قبلَكم، فواللهِ لقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدَا، ولئِنْ أَخذتُم يمينًا وشَمالاً لقد ضَلَلتم ضلالاً بعيدًا.
وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، قال الفُضيل بن عِياض: أخلصُه وأصوبُه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون صوابا خالصًا، والخالص أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفُضَيل من الأصولِ المتفق عليها، فإنه قد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن أحدثَ في ديننا ما
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/97) من طريق قتادة عنه، فهو منقطع. ورُوي نحوه عن ابن عمر، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/305-306) .
(2) أخرجه البخاري (7282) .
(3) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.(4/197)
ليسَ منه فهو ردٌّ" (1) ، وصحَّ عنه أنه قال: "الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرىءٍ ما نَوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه" (2) .
وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير موضع من كتابه، كقوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (3) ، وقوله (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)) (4) ، وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) (5) وغير ذلك، وقد ذَمَّ من دانَ بغير شرعِهِ في غير موضع، كقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (6) ، وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)) (7) .
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعةِ فرضِها ونَفْلِها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير
__________
(1) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (1، ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب.
(3) سورة البينة: 5.
(4) سورة الزمر: 2.
(5) سورة غافر: 14.
(6) سورة الشورى: 21.
(7) سورة يونس: 59.(4/198)
ذلك، وكانوا يَدْعُون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يَدْعُون لأحيائِهم وأمواتِهم في صلاتِهم على الجنائز وعند زيارةِ قبورِهم وغيرِ ذلك. ورُوِيَ عن طائفةٍ من السلف أن عند كل خَتْمَةٍ دعوة مجابة، فإذا دعا الرجلُ عقيبَ الختمةِ لنفسه ولوالديه ومشايخِه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع، وكذلك دعاؤُه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمرَ بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يُصامَ عنه الصوم الذي نذره (1) ، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنةُ في الصوم عنهم ونحو ذلك.
وبهذا وغيرِه احتجَّ من قال من العلماء: إنه يجوزُ إهداءُ ثوابِ العباداتِ البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهبُ أحمد وأبي حنيفة وطائفةٍ من أصحاب مالك والشافعي، فإذا أُهدِيَ لميّتٍ ثوابُ صيام أو صلاةٍ أو قراءة جازَ ذلك، و [قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يُشْرَع ذلك في العبادات المالية كالصدقة والعتق ونحوِ ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تَقْبَل النيابةَ ويجوز التوكيلُ فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثوابٌ ليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يَستنيبَ عنه، وله أن يُعطِيَ أجرتَه لمن شاء. وأصحابُ أبي حنيفة من أبعدِ الناسِ عن الاستنابةِ في الصيام ونحوه، وجوَّزوا مع هذا إهداءَ الثواب، والنيابةُ إنما تجوز في مواضعَ مخصوصةٍ بخلاف الإهداء.
__________
(1) سبق ذكر الأحاديث الواردة في الباب فيما مضى.(4/199)
ومن احتجَّ على منع الإهداءِ بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) فهو مُبْطِلٌ لتواترِ النصوصِ واتفاقِ الأئمةِ على أن الإنسانَ قد ينتفع بعملِ غيرِه، والآيةُ إنما نَفَتِ الاستحقاقَ لسعي الغيرِ لم تنفِ الانتفاعَ بسعي الغير، والفرق بينهما بَيِّنٌ، ومع هذا فلم يكن من عادات السلفَ إذا صَلَّوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآنَ أن يُهْدُوا ثوابَ ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا بخصوصهم، بل كان من عاداتِهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يَعدِلُوا عن طريق السلف فإنه أفضلُ وأكملُ. وقد بَسطنا الجوابَ في الإهداءِ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جواب كبير (2) ، وبيَّنا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من الحِكًمِ والمعاني، والله أعلم.
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) سيأتي فيما بعد.(4/200)
مسألة
في رجل في مسجدٍ وللمسجد مَصِيْفٌ، وإن الفقير قد حَفَر فيه قبرًا وبنى فَسْقِيَّةً (1) بقصد أن يدفن فيه، وقد حصلَ من يُنازِعُه في ذلك، وهل يجوز له أن يُدْفَن فيه؟ وهل يجوزُ أن يُقَر هذا البناءُ في المكانِ أم لا؟
الجواب
الحمد لله، لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد، فكيف في مسجد بنيَ قبلَ موته؟ فإن دَفْنَ الميتِ في مثل هذا المسجد حرامٌ بإجماع المسلمين. ولا يجوزُ لأحدٍ أن يَبنيَ قبرًا بفَسْقِيَّةٍ ولا غيرِ فسقية في مسجد، ولا فرقَ بين سَقْفِ المسجد ومَصِيْفِه، والمساعِدُ على ذلك عاصٍ لله ورسوله آثمٌ مخطيءٌ باتفاق المسلمين، والمُنكِر لذلك الناهِيْ عنه مطيعٌ لله ورسوله، ويَجبُ على كل مسلم قادرٍ إعانتُه، ويجبُ أن يُهدَمَ ما بُنيَ في المسجَدِ من المَصِيفِ وغيرِه من فسقيةِ المقبرة باتفاق المسلمين.
والسنةُ التي كان عليها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يُدفَنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر منهم أحدٌ
__________
(1) الفسقية: حوض من الرخام ونحوه مستديرٌ غالبًا، تَمجُّ الماءَ فيه نافورة.(4/201)
أن يُدفَن في مسجدٍ، ولا دُفِنَ أحدٌ منهم في مسجدٍ، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يفعل ذلك، كما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال قبلَ أن يموت بخمس: "إن من كان قبلَكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك".
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّرُ ما فعلوا، قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كَرِهَ أن يتخذَ مسجدًا، وقال (4) : "إنّ من شِرارِ الناس من تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبورَ مساجد".
فهذا سيد ولد آدم يَكرهُ أن يتَّخَذَ قبرُه مسجدًا، ودَفَنوه في حُجرتِه لأن لا [يُجْعَل] قبرُه مسجدًا، وكان المسلمون يُدفَنون في مقابرهم، فالذي يَقصد أن يُدفَن في دارٍ لِيُصَلَّى عنده مقصودُه خلافُ مقصودِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ومن قصدَ ذلك فقد ضادَّ أمرَ الله ورسوله.
وفي السنن (5) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لعنَ الله زَوَّاراتِ القبور
__________
(1) مسلم (532) عن جندب بن عبد الله.
(2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة.
(3) أخرجه البخاري (1330،1390،4441) ومسلم (529) عنها.
(4) أخرجه أحمد (1/405،435) وابن خزيمة في صحيحه (789) عن ابن مسعود.
(5) أخرجه الترمذي (320) وغيره عن ابن عباس. وقد سبق تخريجه.(4/202)
والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُجَ". فمن قَصدَ أن يُدفَن بعضُ الشيوخِ في موضع ليُنْذَرَ له ويُسْرَجَ عليه فقد لعنه الله ورسولُه، وليس لهم أن يُغيّروا المسجد بفتح شبّاكٍ لأجلِ ذلك، والله سبحانه أعلم.(4/203)
مسألة
في عملِ طعام في الخَتْمِ هل هو جائز؟ ومن يتحدثُ بين الناس بكلامٍ أو حكاياتٍ مفتعلةٍ كلها كَذِبٌ هل يجوز ذلك؟
الجواب
الحمد لله، أما المتحدث بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسوله، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال (1) : "إن الذي يُحدِّثُ فيَكذِبُ لِيُضْحِكَ القومَ منهم ويلٌ له ثم ويلٌ له ثم ويل له"، وقال ابن مسعود: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ، ولا أن يَعِدَ أحدُكم صَبيَّه شيئًا ثم لا يُنْجِزَه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلمٍ وضررٌ في الدين فهذا أشدُّ تحريمًا من ذلك، وبكل حالٍ ففاعلُ ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تَرْدَعُه عن ذلك.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/2،5،7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والدارمي (2705) .(4/204)
وأما ما يُصْنَع للميّت فالذي يَنفع الميتَ ويَصِلُ إليه باتفاق العلماء هو الصدقةُ ونحوُها، فإذا تَصدَّق عن الميت بذلك المال لقومٍ مستحقينَ لوجهِ الله تعالى ولم يَطُلْب منهم عملا أصلاً كان ذلك نافعًا للميتِ وللحيِّ الذي يَتصدقُ عنه باتفاق العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدًا قال: يا رسولَ الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقتْ، فهل يَنفعها إن أَتصدَّقْ عنها؟
قال: نعم.
وأما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ، لم يفعلها السلفُ ولا استحبَّها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسانُ القرآنَ لله وأهداه للميتِ وصلَ إليه الثوابُ عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تَصِلُ إليه الصدقةُ، فإن هذا تصدقَ لله وهذا قرأَ لله، وذلك عمكٌ صالح ينفعُ الله به الحيَّ والميتَ، بخلاف الذي يَكْتَرِي من يقرأ، فإن القارىءَ إنما قرأ لأجلِ العوضِ، والمُعطِي إنما أَعطَى عِوضًا عما استعملَه فيه.
والفقهاء تَنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِيْ فما علمتُ أحدًا من العلماء ذَكَرَ ذلك، ولكن إذا قُرِىءَ القرآنُ فاستماعُه حسن.
__________
(1) سبق تخريجه.(4/205)
وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صَنَعَه الوارثُ من مالِه لم يَحْرُم الأكلُ منه، وإن كان قد صُنِعَ من تَرِكةِ الميتِ - وعليه ديون لم تُوْفَ، وله ورثة صغار، وفي ذلك من حقوقِهم - لم يُؤكَل منه.(4/206)
مسألة
في رجل ماتَ وتزوج أخوه امرأتَه ثم إنها ماتتْ، فهل يَحِلُّ أن تُدفَن مع زوجها الأولِ في قبرٍ واحد؟
الجواب
الحمد لله، يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ، سواء كان أجنبيًا أو لم يكنْ، وإذا احْتِيْجَ إلى ذلك جُعِل بينهما حاجزٌ.
مسألة
في الصلاةِ على الجنازةِ قُدَّامَ الإمامِ.
الجواب
تنازع العلماء في الصلاة قُدَّامَ الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل: يصحُّ مطلقًا كقول مالك، وقيل: لا يصحُّ مطلقًا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه في مذهبه، وقيل: يَصحُّ عند العذر، فإذا كان زَحْمة وتَعذَّر معها الصلاةُ خلفَه صلَّى أمامَه، وذلك خير من أن يَدَعَ الصلاةَ، وإن أمكنَه الصلاةُ لم يُصَلِّ أمامَه، وهذا أعدلُ الأقوال.(4/207)
مسألة
فيمن يُصلِّي على جنازةٍ قُدَّامَ الإمام وقُدَّامَ الجنازةِ، فهل تَصِحُّ أم لا؟ وهل تَصِحُّ صلاتُه لمن هو لابِسٌ مَدَاسَه؟
الجواب
أما صلاته قُدَّامَ الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغيرِ ذلك فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجوز، وهو مذهبُ أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم.
وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلاَّ فلا، مثل أن يكون قُبَالَ وجهِه ولا يُمكِنُه الصلاةُ إلا قُدَّامَ الإمام، فالصلاةُ أمامَه خيرٌ من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنَه الصلاةُ خلفَه فلا يُصلِّي إلاّ خلفَه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيرِه، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(4/208)
مسألة
في رجل كلَّما ختمَ القرآنَ أو قرأ شيئًا منه يقول: اللهمَّ اجعلْ ثوابَ ما قرأتُه هديةً مني وَاصِلةً إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميعِ أهلِ الأرضِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.
فهل يجوز ذلك أو يُستحبُّ؟ وهل يَجبُ إنكارُ ذلك على فاعلِه؟ وهل فَعَلَه أحدٌ من علماء المسلمين؟
الجواب
الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصلِ، وهو أن إهداءَ ثواب العبادات إلى الموتى هل يَصِلُ إليهم أم لا؟
فأما العباداتُ المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تَصِلُ إلى الميت، إذ قد ثبتَ في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله!
إني أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلَّمتْ لتصدقتْ، فهل يَنفعُها إن أتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم.
وأما العباداتُ البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: يجوز إهداءُ ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي
__________
(1) سبق تخريجه.(4/209)
حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.
والثاني: لا تَصِلُ، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نَذرتْ صيامَ شهرٍ، فقال: "صُومِي عن أمك".
فهذه الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن العبادات البدنية تُفعَلُ عن الميت كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يُضَحِّيْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ موته، ويَذكُر أنه أَمَرَه بذلك.
إذا عُرِفَ هذا فإهداءُ ثواب القرآنِ إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى جميع أهل الأرض هو مثلُ إهداءِ ثوابَ الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثلُ إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائر المسلمين، ولم يَبلُغْنا أن أحدًا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يَفعلُ ذلك، وأقدمُ مَن بَلَغَنا أنه فعلَ شيئًا من ذلك عليُّ بن الموفَّق أحدُ الشيوخ من طبقةِ أحمد الكبار وشيوخِ الجنيد.
وبعضُ الناس يُنكِر هذا لأجل كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلَى من أن أحدًا يُهدِي إليه شيئًا، وهذا الإنكارُ ليس بجيدٍ، فإنّا مأمورون أن نُصلِّيَ
__________
(1) البخاري (1953) ومسلم (1148) عن ابن عباس.
(2) برقم (1495) . قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث شريك.(4/210)
على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن نُسلِّم عليه وأن نسألَ له الوسيلةَ، وقد ثبتَ عنه أنه قال (1) : "إذا سمعتم المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقول، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ ذلك العبدَ، فمن سألَ اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة".
والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "لا تنسَنا مِن دعائِك" (2) ، ولما أخبره بأُوَيس القَرَنِيّ قال: "إن استطعتَ أن يَستغفِرَ لك فليستغفرْ لك" (3) .
وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميتُ أفضلَ ممن يصوم عنه ويتصدقُ عنه، فكونُ الشخصِ الميتِ أفضلَ من الحيّ أو كونُه نبيًّا أو صِدِّيقًا لا يَمنَعُ أن يُشرَعَ للحيّ الدعاءُ له، كما أنه يُصلِّي على جنازته، ولا يُمنَع أيضًا أن يُهدِيَ إليه ما يُهدِيْ إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضلِه يرحم هذا وهذا، كما قال (4) : "من صلَّى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا". و"من سألَ لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة" (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه أحمد (1/29) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) عن عمر بن الخطاب. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (2248) .
(3) أخرجه مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب.
(4) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة.
(5) سبق تخريجه.(4/211)
لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعتُ أحدًا فَعَلَه، ولا سمعتُ أن أحدًا كان يُهدِيْ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ ما بَلَغَني عن علي بن الموفَّق ونحوه. والاقتداءُ بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان أن يفعلَ المشروعَ من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ورسولُه. وفي السنن (1) عنه: "أَكثِرُوا على من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكُم معروضة عليَّ"، قالوا: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إن الله حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكلَ لحومَ الأنبياءِ". وقال له رجل: أَجعلُ لك ثُلُثَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَ أمرِك"، قال: أجعلُ نصفَ صلاتي، فقال: "إذًا يكفيك الله نصفَ أمرك"، قال: أجعلُ ثُلُثَيْ صلاتي، قال: "إذًا يكفيك الله ثُلُثَيْ أمرِك"، فقال: أجعلُ صلاتي كلَّها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما أَهَمَّك من أمرِ دنياك وآخرتك" (2) .
وفي فضل الصلاة عليه - بأبي هو وأمي - من الآثار ما يَضِيْقُ هذا الموضع عن ذكره، وكذلك الدعاءُ للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3) ، وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس.
(2) أخرجه أحمد (5/136) والترمذي (2457) عن أبي بن كعب.
(3) سورة محمد: 19.
(4) لم أجده فيها.(4/212)
مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا عليُّ! عُمَّ فإن فضلَ العموم على الخصوصِ كفضلِ السماء على الأرض"، وفي السنن (1) : "أسرعُ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائب لغائبٍ". وفي الصحيح (2) : "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيب بدعوةٍ إلاّ وكَّلَ اللهُ به ملكًا، كلَّما قال الملك الموكَّلُ به آمينَ قال: ولكَ بمِثْل". فالأفعال الشرعية هي التي ينبغي للمؤمن أن يتحرَّاها، والله أَعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (623) وأبو داود (1535) والترمذي (1980) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعَّفه الترمذي لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي.
(2) مسلم (2732) عن أبي الدرداء.(4/213)
مسألة
في الميت هل غِسْلُه طاهر أم نجس؟ وهل تُلْحِدُ المرأةُ الرجل أو الرجلُ المرأةَ؟ وهل يجب أن يَحُجَّ عن المرأةِ الرجلُ وعن الرجلِ المرأةُ؟ وما يُعطِي الحاجُّ عن الميت؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، بل غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء، فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميتُ لا ينجس حيًّا ولا ميتًا، وثبت في الصحيح (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيَ بعضَ أصحابه في طريقٍ فاختفى منه، فذهبَ فاغتسلَ ثم جاء، فقال: "أين كنت"؟، قال: إني كنتُ جُنُبًا، قال: "سبحان الله! إنّ المؤمنَ لا يَنْجسُ".
ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غُسْلِ الجنابةِ والحيضِ والوضوءِ طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأَ وصبَّ وَضوءَه على جابر.
وأما دَفْنُ الرجلِ للمرأة فإذا كانت المرأة تُدفَن في المقابر
__________
(1) أخرجه البخاري (283، 285) ومسلم (371) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (194 ومواضع أخرى) عن جابر.(4/214)
فالسنةُ أن لا يَشهَدَ جنازتَها إلا الرجالُ لا يحضر النساء، فحينئذٍ فيَدفِنُها رجلٌ من أهل الخير، كما ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة أن يَنزِلَ في قبر ابنته (1) . وهذا وإن كان فيه مسُّ المرأة فوقَ الكفنِ فهو جائز لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهيٌّ عنه.
وأما إن قُدِّرَ أن المرأةَ تُدفَن في موضع فيه النساءُ، فإلحادُ المرأةِ لها أولى من إلحادِ الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة.
والرجلُ يُلْحِده الرجالُ إلاّ إذا احتِيْجَ إلى إلحادِ النساء له، فإن ذلك جائز، وإلحادُ النساءِ الرجالَ أخفُّ من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيلِ ذواتِ محارمِه له وتغسيلِ الرجلِ لذواتِ محارمِه نزاعٌ مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجلِ للمرأة أيضًا نزاعٌ، لكن الذي ذكرناه صحَّتْ به السنة.
ويجوز أن يَحُجَّ الرجلُ عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعضُ الفقهاء لأن حجَّها أنقصُ، وليس بشيء، فإنه قد ثبتَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ امرأةً أن تَحُجَّ عن أبيها (2) ، وليس لأحدٍ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولٌ.
ويُحَجُّ عن المُعتَقةِ كما يُحجُّ عن الحرَّةِ الأصل، فإن كان الحج وجبَ عليهما في حياتهما وجبَ أن يُخرَج عنهما من رأسِ المال في
__________
(1) أخرجه البخاري (1285،1342) عن أنس.
(2) أخرجه البخاري (1513 ومواضع أخرى) ومسلم (1334) عن عبد الله بن عباس. وفي بعض الروايات عندهما عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس.(4/215)
مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلاّ إذا وَصَّتْ به، ويكون من الثلث، وينبغي أن يُخرَجَ عنها حجةٌ تامةٌ من حيث أمرتْ بالحاجّ، ويخرج عنها حجة مثلها، وإذا أُخرِجَ من القاهرةِ ما ينوي الخمسَ مئة إلى الألف كان مقاربًا. وإن لم يجب الحجُّ عليها في حياتها فيُستحَبُّ أن يُحَجَّ عنها بعد موتها، والحجة تامةً أفضلُ من حجةٍ مقامية، ويُعطَى الحاجُّ ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دَبَّرها - وهي التي يُعتِقها بعد موته - إذا ماتتْ في حياتِه فلا حَجَّ عليها بإجماع المسلمين، لكن إن أُخرِجَ عنها حجُّ التطوع كان ذلك حسنًا، والله أعلم.(4/216)
مسألة
في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟ "، قال؟ قلنا يا رسول الله! الذي لا يُولَد له، قال: "ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجلُ الذي لم يُقدِّمْ من ولدِه شيئًا"، الجواب عن الرقوب ما هو؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الرَّقُوبُ في اللغة هو الذي لا وَلدَ له أو الذي لا يَعيش له ولد، وهو مشتق من الرُّقْبَى، والرقبى أن يَرقُبَ كل واحدٍ من الشخصين موتَ الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاءَ لِدَينه، والمسكين في اللغة هو الطوَّاف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2) : "ما تَعُدُّونَ المفلسَ فيكم؟ "، قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: "لا، ولكن المفلسَ من يجيء يومَ القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، قد ظَلَمَ هذا وشَتَم هذا وأخذَ مالَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإذا لم يَبْقَ له حسنةٌ أُخِذَ من سيئاتِهم فألُقِيَتْ عليه، ثم يُلْقَى في النار".
__________
(1) برقم (2608) .
(2) أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة.(4/217)
فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن لهم أن المفلسَ الحقيقي هو من أفلسَ في الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولدٌ يُؤجَر عليه، ومن لم يُقدِّم من ولده شيئًا لم يُؤجَرْ على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفعَ، ويَعُدُّ عَدَمَ ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل أن يَعُدَّها منفعةً ومصيبةً هو حالُ من نَظَرَ في عواقب الأمور ونهاياتِها لا في أوائلِها وبداياتِها، والله أعلم.(4/218)
مسألة
في رجل عَزَمَ على حَفْرِ قبرِه في حال حياته، فماذا يُستحبُّ أن يَفعلَ مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل فيه؟
عَرِّفُونا مبسوطًا.
الجواب
لا يُستحبُّ للرجل أن يَحفِرَ قبرَه قبل أن يموت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلِ ذلك هو ولا أصحابُه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (1) ، والعبد لا يدري أين يموت، وكم مَن أعدَّ له قبرًا وبني عليه بناءً وقُتِلَ أو ماتَ في بلدٍ آخر، وإذا كان مقصودُ الرجل الاستعدادَ للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما يُؤنسُه في قبره عملُه الصالح، فكلَّما أكثر من الأعمال الصالحة - كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كان ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناءُ القبر ولا توسيعُه ولا ترتيبُه، بل قد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يُجصَّصَ القبرُ وأن
__________
(1) سورة لقمان: 34.
(2) مسلم (970) عن جابر.(4/219)
يُبنَى عليه، فكيف بمن يَبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما يُنكَر من الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا يَنفع الميّتَ شيئًا، وإنما ينفعه العملُ الصالح، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الكيِّسُ من دَانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَواها وتَمنَّى على اللهِ الأماني" (1) .
فمن ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ، وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلَّما كان الإيمانُ في قلبه أعظم كان في قبره أسرَّ وأنعمَ، قال الله تعالى:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)) (2) ، فجمعَ سبحانَه بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمشركين عامَ الخندق: "ملأَ الله قبورَهمِ وأجوافَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاةِ الوسطى صلاة العصر حتى غرَبتِ الشمسُ". وهذا باب واسعٌ لا يتسعُ له هذا الموضع، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/124) والترمذي (2459) وابن ماجه (4260) عن شداد بن أوس.
(2) سورة العاديات: 9-11.
(3) البخاري (2931، 4111، 4533،6396) ومسلم (627) عن علي.(4/220)
مسألة
في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائفُ أعمال يُكتَب فيها ما يُهدَى لهم من قرآنٍ وصدقة أم لا؟ وهل يُسأَلون في قبورهم ويُحاسَبون أم لا؟ وهل يَدُومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يَكبرون ويتزوجون إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يُدفَنَّ أبكارًا هل يُزَوَّجْنَ في الجنة؟ وهل في الجنة حَبل وولادة في الناسِ كلِّهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، أما ما يُهدَى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من العبادات المالية فتَصلُ إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران، لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تَصِلُ أيضًا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمُهدَى إلى الصغارِ والكبارِ سواء في باب كتابتِه، فلا يقال إنَ ما يُهدَى إلى الكبارِ يُكتَب دون ما يُهدَى إلى الصغارِ، بل حكمُ النوعين واحد.
وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل السنة:(4/221)
أحدهما: أنهم لا يُسأَلون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفًا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس بمكلف فلا يُسأَل.
والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يُسأَلون، لما في "الموطأ" (1) أن أبا هريرة صلَّى على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهمَّ قِهِ عذابَ القبرِ وضيقةَ القبر. وهذا قد ينبني على امتحانِهم في عرصاتِ القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2) .
وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنةَ دخلوها كما يدخلها الكبارُ على صورةِ أبيهم آدمَ، طولُ أحدِهم ستونَ ذراعًا في عَرْضِ سبعةِ أَذرعُ، ويتزوجون كما يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوجْ فإنها تتزوجُ في الآخرة، وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة.
__________
(1) 1/228.
(2) سبق ذكرها في المجموعة الثالثة.(4/222)
مسألة
في مقبرة للمسلمين، وأهلُ الذمة يُدفَنون فيها، هل يَجبُ على ولي الأمرِ منعُهم أم لا؟
الجواب
الحمد لله، ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين لا الشهداءِ ولا غيرِهم، بل لابدَّ أن تكون مقابرُهم متميزة عن مقابرِ المسلمين تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبورُ المسلمين بقبور الكفار، وهذا أوكدُ من التمييز بينهم حالَ الحياة بلُبْسِ الغِيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمةُ، ومقابر الكفار فيها العذابُ، بل ينبغي مباعدةُ مقابرِهم عن المسلمين، وكلَّما بَعُدَتْ عنها كان أصلحَ، والله أعلم.(4/223)
مسألة
في الخلائقِ إذا حُشِروا يومَ القيامة هل يُحشَرون جميعُهم عَرَايَا، أو بعضُهم عُراةً وبعضُهم بأكفانِهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بَالِغُوا في أكفانِ موتاكم، فإن أمتي تُحشَر بأكفانها، وسائرُ الأمم عراة" كما ذكره الغزالي. وهل يموتُ إدريسُ من الصَّعْقَة؟
الجواب
الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الميت يُبعَث في ثيابه التي قُبِض فيها". أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (1) وغيرُه. وقد رُوِي أن أبا سعيد لما حضرتْه الوفاةُ دَعَا بثيابٍ جُدُدٍ، فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الميتُ يُبعَث في ثيابه التي يموتُ فيها" (2) .
فأبو سعيد على هذا حملَ الحديثَ على أن الثياب التي يموتُ
__________
(1) بر قم (2575- موارد) .
(2) أخرجه أبو داود (3114) والحاكم في "المستدرك" (1/340) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/384) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (1671) .(4/224)
فيها العبدُ يُبعَث فيها، ولم يقل: إنه يُبعَث في أكفانه، فإن الكفن غير الثياب التي يموتُ فيها، فإن عامة الموتى لا يُكفَّنون في ثيابهم التي يُقبَضون فيها، لا سيما والكفن الذي كُفِّن فيه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه مما يُمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، فإنه إذا عُرِفَ أن الحديث المأثور إنما هو أنه يُبعَث في ثيابه التي قُبض فيها، فقيل: يُبعَث في نفس الثوب الطاهر.
وقال طوائف من أهل العلم - كأبي حاتم وغيرِه -: إن المراد بذلك أنه يُبعث على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحًا أو سيئًا، كما قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير النفس من الرذائل (2) . ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل:
ثِيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقية (3)
ويقال: "فلانٌ طاهر الثياب". يؤيد هذا شيئان:
أحدهما: أن الذي جاء في الحديث أنه يُبعَث على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ، كما جاء، فما خُتِم له به يُبعَث عليه، كما في حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُبعَث كل عبدٍ على ما مات عليه".
__________
(1) سورة المدثر: 4.
(2) انظر تفسير الطبري (29/91،92) وابن كثير (4/470) .
(3) عجزه: وأوجههُم عند المشاهدِ غُرَّانُ. والبيت لامرىء القيس في ديوانه: 83.(4/225)
رواه أبو حاتم في صحيحه (1) .
الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تُبين أنهم يُحشَرون عُراةً، كما في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً"، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (3) . وفي لفظٍ في الصحيح (4) : "أوّلُ من يُكسَى إبراهيم الخليل". وفي الصحيح (5) أيضًا عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً"، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضُهم إلى بعض! قال: "يا عائشة! الأمرُ أشدُّ من أن يَنظُر بعضُهم إلى بعضٍ". فهذا وأمثالُه أحاديث صحيحة لا يجوز أن تُعَارَضَ بمثل ذلك اللفظ المجمل.
وأيضًا فإن بَعْثَه على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم، وقد ثبت في الصحيح (6) "أن العبد ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ،
__________
(1) 9/210 (ط. الحوت) . وأخرجه أيضًا مسلم (2878) وأحمد (3/314، 331،366) .
(2) البخاري (6527) ومسلم (2759) عن عائشة.
(3) سورة الأنبياء: 104.
(4) البخاري (6526) ومسلم (2860) عن ابن عباس.
(5) هو الحديث الذي مضى آنفًا.
(6) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) عن ابن مسعود.(4/226)
فيعملُ بعمل [أهل] الجنة فيدخلُ الجنة". فهذا وأمثاله تُبين أنه في الآخرة يُحشَر على ما ماتَ عليه.
وأما ثوبُه الذي كان عليه وقتَ الموت فلا مناسبةَ في بَعْثِه فيه، فقد تموتُ الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرَّثَّةِ، وقد يموتُ الكفار والمنافقون في ثياب حسنةٍ، فهل يكون قيامُ الكفّار والمنافقين من قبورهم أجملَ وأبهَى من قيام الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحًا لكان تكفينُه في ثيابه التي مات فيها ويُبْعَثُ فيها أولى من تكفينه في غيرِها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم في ذلك.
وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إذا كَفنَ أحدُكم أخاه فليُحسِنْ كَفنه". وقد رُوِي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بشَدِّ الفخذِ في بعض الجنائز، وقال: "إن هذا لا يُغنِيْ شيئًا، وإنما تَطِيب نفسُ الحيِّ" (3) ، ولو كان الميتُ يُبْعَث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها.
وأما الأكفانُ فلا أصلَ لكونه يُبعَث فيها بحالٍ.
وأما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء (4) ، فلا يحتاج إلى موتٍ ثانٍ، والله سبحانه قد أخبرَ بصَعَقِ من في السماوات ومن في
__________
(1) في الأصل: "الصالحين".
(2) مسلم (943) عن جابر.
(3) لم أجده فيما بين يديّ من المصادر.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/72) عن كعب الأحبار. انظر "البداية
والنهاية" (1/234-236) .(4/227)
الأرض إلاّ من شاء الله (1) ، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر "أن الناس يَصعَقون يومَ القيامة فأكونُ أوَّلَ مَن أفيقُ، فأجدُ موسى باطش بساقِ العرش، لا أدري هل أفاقَ قبلي أم كان ممّا استثنى الله" (2) .
فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد توقَّف في مثل هذا فكيف يَجْزِمُ أحدنا بما لا علمَ له به؟ والله أعلم.
__________
(1) سورة الزمر: 68.
(2) أخرجه البخاري (6517 ومواضع أخرى) ومسلم (2373) عن أبي هريرة.(4/228)
مسألة
في معنى قوله "من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد" (1) ، وهل يجب على الشخص أن يَبذُل ثُلُثَ مالِه قبلَ القتال - كما هو متعارفٌ بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفعُ عن نفسه وأهلِه ومالِه دون البذل؟
الجواب
قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دونَ حُرمتِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد" (2) .
واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن
__________
(1) أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه أحمد (1/190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/116) عن سعيد بن زيد.(4/229)
يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم.
وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده.
وأما الدفعُ عن الحرمة مثل أن يريد الظالمُ أن يَفجُر بامرأةِ الإنسان أو ذاتِ محرمِه أو بنفسِه أو بولدِه ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفعُ، لأن التمكينَ من فعلِ الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلاّ بالقتال وهو قادرٌ عليه قاتَلَ.
وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء هما روايتان عن أحمدَ:
أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قَتْلَه لم يَدفعْ عن نفسِه، وقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) (1) .
وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارجُ قتلَه لم يدفع
__________
(1) سورة المائدة: 28-29.(4/230)
عن نفسه، وأمرَ الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانِه وأقاربِه والحسن ابن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه.
والقول الثاني: يجب الدفعُ عن نفسه، لأن قتلَه بغير حقٍّ محرَّمٌ، فلا يجوز له التمكين من محرَّمٍ.
وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلانِ أو طائفتان على مُلْكِ أو رئاسةِ أو على أهواء بينهم، كأهواءِ القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيسٍ أعتقَهم، فيقاتِلون على رئاسةِ سيدهم، وأهواءِ أهل المدائن الذين يتعصَّبُ كل طائفة لأهلِ مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصَّب كل قومِ لحزبهم ويقتتلون، كما كانَ يَجري في بلادِ الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة يُنهَى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أرادَ قتلَ صاحبِه" (1) .
وفي الصحيح (2) أنه قال: "مَن قُتِل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبةٍ ويدعو لِعَصَبةِ فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من
__________
(1) أخرجه البخاري (31،6875) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(2) مسلم (1848) عن أبي هريرة.(4/231)
الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خيرٌ من المرجِع" (1) .
والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارِها، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سمعتموه يتعزَّى بعَزَاءِ الجاهلية فأعِضوهُ هَنَ أبيه ولا تكنُوا" (2) ، يعني: إذا قال الداعي: يا لفُلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له:
اغْضَضْ ذَكَرَ أبيك.
وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفرٍ، فاقتتل - يعني - رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أبدعوى الجاهلية وأنا بينَ أظهرِكم؟ دَعُوها فإنها مُنْتِنَةٌ".
وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (4) ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
__________
(1) أخرجه البخاري (3601،7081،7082) ومسلم (2886) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (5/136) والبخاري في "الأدب المفرد" (963) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (975،976) عن أبي بن كعب. وانظر كلام الألباني عليه وتصحيحه في "الصحيحة" (269) .
(3) البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر.
(4) سورة البقرة: 193.(4/232)
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (1) . قال ابن عباس: تَبيَضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتَسودُّ وجوهُ أهل البدعة والضلالة.
وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (2) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلا فضلَ لعربيّ على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلاّ بالتقوى، الناسُ من آدمَ وآدمُ من تراب" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهَر" (4) .
فالله قد جعل المؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وأَمَر بالعدل بينهم، فقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
__________
(1) سورة آل عمران: 102-106.
(2) سورة الحجرات: 13.
(3) أخرجه أحمد (5/411) عن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/100) عن أبي نضرة عن جابر، وفي إسناده بعض من يُجهل. وانظر "الصحيحة" (2700) .
(4) أخرجه البخاري (6430) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.(4/233)
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (1) . فجعلنا إخوةً مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم.
فيجب على كلِّ أحدٍ أن يُعَظِّمَ أهلَ التقوى والحق ويكونَ معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويَقصِدَ أن يكونَ الدينُ لله لا لمخلوقٍ، فإذا فُضِّل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يَسعَى بينهم بالعدل والإصلاح.
فإذا طُلِب قتلُ الرجلِ في هذه الحال وهو لا يُريد أن يُقاتِلَ أحدًا، فهل له أن يَدفعَ عن نفسِه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا يَدفَعُ عن نفسه وإن قُتِل، حتى لا يكون مقاتلاً في الفتنة، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دَعْهُ حتى يَبُوْءَ بإثمِه وإثْمِك" (2) .
والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تُبين أنه نهَى عن القتال في الفتنة وإن قُتِل مظلومًا، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يُفضِي إلى الفتنة. والله أعلم.
__________
(1) سورة الحجرات: 9-10.
(2) أخرجه مسلم (2887) عن أبي بكرة.(4/234)
مسألة
سؤال منكر ونكير، الميتُ إذا ماتَ تدخل الروح في جسده ويجلس ويُجاوِب منكر ونكير، فيحتاج موتًا ثانيًا؟
الجواب
عودُ الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عَودِها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكملَ من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ليست مثلَ هذه النشأة وإن كانت أكملَ منها، بل كل موطنٍ في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يَخُضُّه.
ولهذا أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الميت يُوَسَّع له في قبرِه ويُسْألَ ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تُعادُ إلى بدن الميت وتُفارِقُه، وهل يُسَمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان:
قيل: يُسمَّى ذلك موتًا، وتأوَّلوا على ذلك قولَه (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (1) . قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.
__________
(1) سورة غافر: 11.(4/235)
والصحيح أن هذه الآية كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (1) . فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت. قال: (*مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)) (2) ، وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)) (3) .
فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتُفارقه متى شاء الله، لا يتوقَّتُ ذلك بمرّةٍ ولا مرَّتين، والنومُ أخو الموت، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول إذا أَوَى إلى فراشِه: "باسمك اللهمَّ أموتُ وأحيَا". وكان إذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُور" (4) . فقد سمَّى النومَ موتًا والاستيقاظَ حياةً.
وقد قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)) (5) ، فبيَّن أنه يتوفَّى الأنفسَ على نوعين، فيتوفاها حينَ الموت، ويتوفّى الأنفس التي لم تَمُتْ بالنوم، ثمَّ إذا ناموا فمن مات في منامِه أمسكَ نفسَه، ومن لم يَمُتْ
__________
(1) سورة البقرة: 28.
(2) سورة طه: 55.
(3) سورة الأعراف: 25.
(4) أخرجه البخاري (6312،6314،6324،7394) عن حذيفة. وأخرجه البخاري (6325،7395) عن أبي ذر.
(5) سورة الزمر: 42.(4/236)
أرسلَ نفسَه. ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أَوَى إلى فراشِه قال: "باسمك ربّي وضعتُ جَنْبي، وبك أرفعُه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفَظُ به عبادك الصالحين" (1) .
والنائمُ يَحصُلُ له في منامِه لذّةٌ وألمٌ، وذلك يحصلُ للروح والبدن، حتى إنه يحصلُ له في منامِه من يَضْرِبُه، فيُصبِحُ والوجَعُ في بدنِه، ويَرى في منامِه أنه أطعِمَ شيئًا طيبًا، فيُصْبِحُ وطَعْمُه في فمِه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يَحْصُل لروحِه وبدنِه من النعيم والعذاب ما يُحِسُّ به والذي إلى جَنْبِه لا يُحِسُّ به، حتى قد يَصِيح النائمُ من شِدَّةِ الألم والفزع الذي يحصُل له ويسمع اليقظان صياحَه، وقد يتكلَّم إمّا بقراَن وإمّا بذكرٍ وإمّا بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينُه مُغْمَضَة، ولو خُوطِب لم يَستَمعْ، فكيف يُنكَرُ حالُ المقبور الذي أخبرَ الرسولُ بأنه يَسمعُ قرعَ نعالِهم، وقال: "ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" (2) .
والقلبُ يُشبَّه بالقبر، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فاتته صلاةُ العصر يومَ الخندق: "مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا" (3) ، وفي لفظ: "قلوبهم وقبورهم نارًا"، وفرّق بينها في قوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري (6320،7393) ومسلم (2714) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (1370،3980،4026) عن ابن عمر.
(3) سبق تخريجه.
(4) سورة العاديات: 9-10.(4/237)
وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلُ ما يجده النائمُ في منامِه، بل ذلك النعيم والعذاب أكملُ وأبلغُ وأتمُّ، وهو نعيمٌ حقيقي وعذابٌ حقيقي، ولكن يُذكَر هذا المثل لبيان إمكانِ ذلك إذا قال السائل: الميتُ لا يتحرك في قبرِه، أو الترابُ لا يتغير، ونحو ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطولُ وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله أعلم.(4/238)
مسألة
الميت في أيام مَرَضِه أدركَه شهرُ رمضانَ، ولم يكن يَقدِر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدةَ مرضِه، ووالداه بالحياة، فهل تَسقُط الصلاة والصيام عنه إذا صامَا عنه وصلَّيَا إذا وَصَّى أو لم يُوص؟
الجواب
إذا اتصلَ به المرضُ ولم يُمكِنْه القضاءُ فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة فلا يُصلَّى عن أحدٍ، ولكن إذا صلَّى عن الميت واحدٌ منهما تطوُّعًا وأهداه له، أو صامَ عنه تطوعًا وأهداه له، نفعَه ذلك.(4/239)
مسألة
في الشهداء، هل يَشفَع الشهيدُ منهم في أربعين من أهلِ بيته أم لا؟ وهل هم سبعةٌ أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيًا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دَيْن أو مَظلمةٌ يُطالَبُ بها أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، لا حميَّةً ولا لدُنْيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يُشَفع في اثنين وسبعين من أهل بيته (1) .
وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعةٌ (2) :
__________
(1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث المقدام بن معدي كرب الذي أخرجه أحمد (4/131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799) . وفيه "سبعين".
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1/233،234) وأحمد (5/446) وأبو داود (3111) والنسائي (4/13،14) وابن ماجه (2803) عن جابر بن عتيك.
وصححه ابن حبان (1616- موارد) والحاكم في المستدرك (1/352) . وهو صحيح بشواهده.(4/240)
المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الرَّدْمِ شهيد، وصاحب ذاتِ الجنب شهيد، والمرأة التي تموت بالطَّلق شهيد.
وإن كان أحدهم مذنبًا يُرجَى أنَّ الشهادة يُغفَر له بها، لكن حقوق الآدميين دَيْنٌ عليه لابدَّ لصاحبها من استيفائها. والله أعلم.(4/241)
مسألة
في أقوامٍ لهم تُربةٌ، وهي في مكانٍ منقطع، وقُتِل فيها قَتيلٌ، وقد بَنَوا لهم تُربةً أخرى، هل يجوز نَقْلُ موتاهم إلى التربة المستجدَّة أم لا؟
الجواب
لا يُنْبَش الميتُ لأجل ما ذُكِر. والله أعلم.(4/242)
مسألة
فيمن يَحُضُّ الناسَ من أهل الإيمان على أن يصوموا ويُصلُّوا ويتصدقوا، ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبلَ منهم، ويُوصِلَ أجورَ ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى أزواجه وأولاده، فَسُئِل عن ذلك، فقال: لأنه كان يُحِبُّ الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن الإمام علي رضي الله عنه كان يُضحِّيْ عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال: "ما شِئْتَ"، قال الربع؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: الثلثين؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعلُ لك كلَّها، قال: "إذًا تكفَى هَمَّك، ويُغفَر ذنبُك".
فما هذه الصلاة المقسَّمةُ بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاةُ عليه فكلُّها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرفَ المفهومُ أنها صلاةُ نوافلِه وتطوعاتِه، وأنْ يَجعَلَ له ربعَها ونصفها وثلثيها وكلَّها، فهل أصابَ فيما أمرَ به وحَضَّ عليه؟
وبَنَى على ما رواه الدارقطني: أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوانِ، وكنتُ أبرُّهما حالَ حياتهما،(4/243)
فكيفَ لي بالبرِّ بعد موتهما؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من البر بعد البرّ أن تُصَلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصومَ لهما مع صيامِك، وأن تَصَدَّقَ لهما مع صدقتِك".
فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحقٌ بالوالدين، لوجوبِ حقِّهما.
فقال: حقُّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبُ، وحق أزواجه أمهاتِ المؤمنين أوجبُ من أمهاتِ الأولاد.
فقيل له: فهلاَّ فعلَ أبو بكر ذلك؟
قال: وما يُدرِيْك؟ قد فعلَه عليٌّ رضي الله عنه حين ضَحَّى عنه.
فقيل: إن النبي دعا الناسَ إلى الهدَى والخيرِ كلِّه، وله أجرُ كلِّ من تَبِعَه.
فقال: إن الواحديَّهَ حقٌّ لله في الأزل والأبد لا يُزِيلُها إنكارُ منكرٍ لها، ويثابُ المقر بها طوعًا راضيًا مختاراً، والكون وما فيه مُلْكُه ثانيًا لا يُزِيلُه ملكُ مالكٍ، ونحن نتقرَّبُ منه بِشِقِّ تمرةٍ.
فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟
أفتونا مأجورين.
أجاب رضي الله عنه
أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه مِن إهداءِ ثواب القُرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد ذهب إليه طائفة من المتأخرين من الفقَهاء والعُبَّاد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريقَ التي ذكرتَ عنه، ولكن بَنَوا ذلك على(4/244)
إن إهداء ثواب القُرَب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل المؤمنين، ولاَ ريبَ أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء، وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سَوَّى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة مِن أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب مالك والشافعي فرَّقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يَستنيبَ في صدقتِه، ولا يجوز له أن يستنيبَ في صلاته وصيامه.
والأولون أجابوا عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صامَ عنه ولله"، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يَعجز عما وجب من الصلاة، فلا عذرَ له في (2) ، والصوم له بَدَلٌ وهو الإطعام، كما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (3) ، فلما نُسِخَ ذلك وتعيَّنَ الصيامُ على القادر بقي العاجزُ كالشيخِ الذي لا يُرجَى قدرتُه والمريضِ المأيوسِ من بُزْيه، فإنه يُفطِر باتفاق العلماء، وأكثرهم
__________
(1) البخاري (1952) ومسلم (1147) عن عائشة.
(2) هنا كلمة مطموسة في الأصل.
(3) سورة البقرة: 184.(4/245)
يوجبون عليه الفِدْيةَ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا يُوجِب عليه فديةً. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يُصام عنه بحالٍ، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يُطعَم عنه إذ الإطعامُ هو البدل، وقيل: بل يُصام عنه الفرضُ والنذرُ، وهو قول للشافعي، وقيل: يُصام عنه النذر، وأما الفرض يُطعَم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعًا لابن عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه" (1) ، ورَوَتْه عائشة أيضًا (2) ، وكلا الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسّرًا في النذر كما في الصحيحين (3) عنه: "أن امرأة قالت: يا رسولَ الله! إن أمي ماتتْ وعليها صومُ نذرِ، أفأصومُ عنها؟ قال: "أرأيتِ لو كان على أمّكِ دَيْنٌ فقضيتِه أكان يُؤدِّي ذلك عنها؟ "، قالت: نعم، قال: "فصُومي عن أمكِ".
وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلاً، وهو الإطعام من مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين أطعم ستين مسكينًا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على عباده ما يَعجِزون
__________
(1) سيأتي لفظه برواية ابن عباس.
(2) سبق تخريجه.
(3) البخاري (1953) ومسلم (1148) .(4/246)
عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجوُّ إلى ما بعدَ رمضانَ ولم يتمكنْ من القضاء فلا إطعامَ عنه ولا قضاءَ باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على نفسِه فإنه قد يُوجب ما يَعجِزُ عنه، كما يَستدينُ ما لا يُطِيق وفاءَه، فيكون فعلُ الغيرِ عنه كقضاءِ الذَينِ عنه، وذلك جائز.
وحقيقة هذا القول أن من عَجَز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج أن يصوم عنه، ومن قَدَر على أحدِهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن الشارع سَوغ الصومَ عن الميت كما سَوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال: لا تدخله النيابة بحالٍ.
والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابةً عنه، وإنما العامل عَمِلَ لنفسِه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلاّ ما سعى، فهذا السعي للحى لا للميتِ، لكن الميت استحق عليه أجرًا من الله، فتبرعَ به للميت كما يتبرع الأجيرُ بأجرتِه لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسِه لا للغير، ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويُعطِي الأجرة لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزمَ العملَ في ذمته، إذا أعطاه لبعض الناس ليعمل عنه كان ذلك عملاً بطريق النيابة عمَن وجب عليه العمل، وهو نظير قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاصّ أو المشترك الذى عَمِلَ ما عليه، وأَخذَ أجرتَه فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يُجوزون النيابة في العبادات البدنية، ويُجوزون إهداءَ ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يُجوِّزون إهداء(4/247)
ثواب العبادة حيث لا يُجوِّزون النيابةَ، حتى يُجوِّزون إهداءها إلىَ الحي في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان.
وبعض الناس يَحتجُّ على أنَّ إهداء ثواب القُرَب لا يَصِلُ إلى الميت بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) . واَحتجاجُه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دلّ على الاستغفار للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سَعْيِهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3) ، وقال تعالى عن نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4) ، وقال عن إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (5) .
وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الصلاة على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) سورة غافر: 7.
(3) سورة محمد: 19.
(4) سورة نوح: 28.
(5) سورة إبراهيم: 41.(4/248)
الميتَ كما ثبت في الصحيحين (1) : أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدقْ عنها؟ قال: "نعم ". فما كان جوابُ هذا المحتجّ عن الدعاء والصدقة عن الميت كان جوابًا لغيره عن الصيامِ عنه ونحوِ ذلك من العبادات.
وقد ذكر الناس عن الآية أجوبةَ متعدد (2) ، على أنها منسوخةٌ، وقيل: مخصوصة، وقيل: مختصة بشرعِ مَن قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول الثواب من سَعْيِه.
والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبرَ عما في الصحف أنه (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (3) ، ولم يقل: لا يَنتفعُ إلاّ بما سعى، وأنَ الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يَملِكه وبما لا يَملِكه، فلا يلزم من نَفْيِ الملكِ نَفْي الانتفاع، لكن هو يستحقُّ الثوابَ على سَعْيِه لأنه حفُه، فلا يَخاف منه ظلمًا ولا هَضْمَا، وأما سعيُ غيرِه فهو لذلك الغير، فإن سعَى له ذلك الغيرُ أثابَ الله ذلك الساعيَ على سَعْيه، ونفعَ هذا مِن سَعْيِ ذلك بما شاء، كما يثيبُ الداعيَ على دعَائِه لغيره وينتفع المدعوُّ له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه قال: "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيبِ
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر تفسير القرطبي (17/114-115) .
(3) سورة النجم: 39.
(4) سبق تخريجه.(4/249)
بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ الموكَلُ به: آمين، ولك بمثلٍ ".
ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبتَ عنه أنه قال: "من صلَّى على جنازةٍ فله قيراط" (1) ، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائةٍ (2) ، ورُوِيَ أربعين (3) ، ورُوى ثلاثة صفوف (4) . فهو يثيب الداعيَ وينفع المدعوَّ له، وكذلك المتصدّق عن الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة.
ومن هذا الباب الصلاةُ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلبُ الوسيلة، كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: "من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا"، وقال: "ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَفَتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة".
فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فِعلُ القرَبِ عن الأموات مطلقًا، وبعضُ الناس يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن
__________
(1) البخاري (47، 1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة.
(2) مسلم (947) عن عائشة.
(3) مسلم (948) عن ابن عباس.
(4) أخرجه أحمد (4/79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة السكوني. وحسَّنه الترمذي والنووي في "المجموع" (5/212) .
(5) سبق تخريجه.(4/250)
يقول عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا أجل مِن أن يُهدَى له ثوابٌ أو أن يُفْعَلَ عنه قُربةٌ، ويرى أن هذا من باب الخَفْضِ من منزلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه من باب حاجتِه إلى هذا الفاعلِ.
وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونسلِّمَ تسليمًا، والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن الخطاب: "إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يَصْعَدُ منه شيءٌ حتى تُصلِّيَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: "إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا بمثل ما يقول، ثم صَلُّوا على، فإنه من صَلّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سألَ الله لي الوسيلةَ حلَّت عليه شفاعتي يومَ القيامة". وفي السنن (3) : "ثم سَلْ تُعْطَه ".
فهذه أربعُ سننٍ أُمِرَ بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد جاء مفسَّرًا بالأمر بذلك في الحَيْعَلَة والحوقَلَة، لأنه دعاء للَادميين لا ذِكْرٌ، فيقالُ ما يُستَعان به على فعلِ ما دُعِيَ العبدُ إليه. ثم أن يصلِّيَ عليه، ثم أن يسألَ له الوسيلةَ، ثم قال: "سَلْ تُعْطَه"، فإن هذا ليس بِمَظَان إجابةِ الدعاء.
__________
(1) برقم (486) .
(2) سبق.
(3) أبو داود (524) عن عبد الله بن عمرو.(4/251)
وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلّوا على فإن صلاتكم تَبلُغني حيثُ ما كنتم ".
وعن أبي ليلى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المَلَكَ جاءني فقال: يا محمد! إن اللهَ يقول لك: أما ترضى إلاّ يُصلِّي عليك عبدٌ من عبادي إلاّ صلَّيتُ عليه عشرا؟ ولا يُسلِّم عليك تسليمةً إلاّ سلَّمتُ عليه عشرًا؟ قلت: بلى أيْ رَب". رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره.
وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أفضل أيامِكم يومَ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، فأَكثِروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة"، قالوا: وكيف تُعرَضُ عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: "إنّ الله حَرَّم على الأرضِ أن تَأكلَ أجسادَ الأنبياء". رواه أبو داود والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) 3/445. وأخرجه أيضًا أحمد (4/29، 30) والدارمي (2276) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (915) والحاكم في "المستدرك" (2/420) ، كلهم من حديث أبي طلحة الأنصاري، لا أبي ليلى.
(3) أخرجه أبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91، 92) وابن ماجه (1585، 1636) وأحمد (4/8) وابن حبان في "صحيحه " (555) والحاكم في "المستدرك " (1/278) ..(4/252)
وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: "ما من مسلم يُسلَم على إلاّ رَدَّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام ".
وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لته ملائكةً سيَّاحينَ في الأرضِ يُبلَغونّي عن أمتي السلامَ".
والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام [عليه]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي من هذا الباب من باب الدعاء، والدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى، والداعي إذا دعا لغيره أثابَ الله الداعيَ على دعائِه، ونفعَ المدعوَ له بالدعاء، فلم يكن لأحدٍ عليه مِنَّة بصلاتِه عليه وسلامه، إذ كان الله يُصقَي على المصلِّي عليه عشرًا، ويُسلِّم على المسلَمِ عليه عشرًا، فيُعطِيه بالحسنةِ عَشْرَ أمثالها، فللهِ المِنَّةُ على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنةُ على رسوله وعلى جميع عباده إذ نَصَبَ أسبابًا يَرحمُهم بها، والخلقُ كلُّهم فقراءُ إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جَعلَ أحدًا من الأنبياء أو غيرهم مستغنيًا عن مزيد الرحمة والرضوان وعُلوَ الدرجاتِ فهو جاهل بالته، ومن ظنَّ أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين منه مِنة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يُثيبه
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (1114، 9204) وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (914) وأحمد (1/387، 441، 452) وا لدارمي (2777) والحاكم في "المستدرك" (2/421) وغيرهم.(4/253)
على عملِه ولا يظلمه، والمنةُ لله على هذا وعلى هذا.
ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب جميع ما يعمله العباد من القُرَب والطاعات، فإن للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلَ أجورهم من غير أن يَنْقُص من أجَورهم شيئًا، كما ثبت عنه في الصحيحَ (1) أنه قال: "من دعا إلى هُدً ى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعَه، من غيرِ أن يَنْقُصَ من أجورهم شيئًا، ومن دَعَا إلى ضلالة كان له من الوِزْرِ مثلُ أوزارِ من اتبعَه من غير أن يَنقُص من أوزارِهم شيئًا". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) : "من سَن سنةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سن سُنَنَ الهدى جميعَها لأمته.
ومن هذا الباب يَبيْنَ جوابُ المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداءُ القُرَب إلى الموَتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بالُ السلف لم يكونوا يفَعلون القربَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن الخلفاء الراشدين؟
بل ولا عن شيوخهم معلّميْهم ومؤدّبيهم الذين علَّموهم العلمَ والإيمان؟ والسلفُ كانوا أحرصَ على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، وهذا هو الذي يَظهر به إشكالُ المسألة، فإن ما تقدم يَحتبئُ به من يستحب إهداءَ ثواب القرباتِ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّادَ من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدمُ من بَلغَنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد
__________
(1) مسلم (2674) عن أبي هريرة.
(2) مسلم (1017، وقبل رقم 2674) عن جرير بن عبد الله.(4/254)
الشيوخ المشهِورين، كان أقدمَ من الجُنيد وطبقتِه، وقد أدرك أحمدَ وعصرَه وعاش بعده.
ومن لا يَستحبُّ بل يراه بدعةً -وهو الصواب المقطوعُ به- يحتجُّ بأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغبُ، وليس فعلُ [المذكورِ] وأمثالِه ولا قولُ طائفة من متأخري الفقهاء مما يُعارَضُ به أقوالُ السلف.
وأما احتجاج المحتجَّ بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حَنَش الصنعاني، قال: رأيتُ عليًّا عليه السلام يُضحِّيْ بكَبْشَين، فقلتُ له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاني أن أضحِّيَ عنه، فأنا أُضحِّيْ عنه". وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شَرِيك. ومثل هذا الإسناد قد يقال: لا تقومُ به سنة، فإن حنشًا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير الوهم، وشَرِيك بن عبد الله القاضي في حديثه لين.
وإن صح هذا الحديث فإنه إنما ضحَّى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإذنه، وهذا جائز ولو لم يردْ هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يُضحَّى عنه كان كما لو أوصى أن يُحجَّ عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصَّى بالصدقة عنه جارْ بإجماع المسلمين، بل
__________
(1) أبو داود (2790) والترمذي (1495) وأحمد (1/107) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/149، 150) من الطريق المذكور.(4/255)
هذا الحديث إن صح فقد يُستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا بإذنه، ولو كان مشْروعًا عندهم التضحيةُ عنه بدون إذنه لما أُنكِر ذلك على عليّ، ولبيّن عليٌّ أنه يُشرَع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه.
وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه "أجعل صلاتي كلَّها لك، قال: إذًا تُكفَى همَّك ويُغفَر ذنبك"، فيقال له: ليس حَمْلُك هذا الحديثَ على صلاتِه المتطوعة بأولى من حَمْلِ غيرك له على الدعاء، إذ قد سلّمتَ أنه ليس المراد به الصلاة الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يُعرَف أن في السنة أن يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يُعرَف مثل ذلك في الصيام والحج.
فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثرُ من ثواب التطوع، قيل: فسَوُّوا ذلك في الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يُهدِيَ الرجلُ ثوابَ فرائضه لبعض الموتى، ويكون ما يحصل من ثواب ذلك أعظمَ من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره.
والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرضُ له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا يمكن إهداؤُهُ، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤُهُ، ولا ريبَ أن الحديث لا يمكن(4/256)
حَمْلُه على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بَقِيَ المفهومُ الثالث وهو الدعاء، فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (1) ، فيكون هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن يجعل ثُلثَه دعاءً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شَطْرَه، ويمكن أن يكون جميعُ دعائِه دعاءً للنبي، مثل أن يُصلِّي عليه بدلَ دعائه. وقد ثبتَ (2) أنه من صلَّى عليه مرة صلَّى الله عليه عشراً، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: "يَكفِيْ همَّك ويَغفِر ذنبَك"، أي إنك إنما تطلب زوالَ سبب الضرر الذي يُعقِب الهمَّ ويُوجب الذنب، فإذا صليتَ على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمثلٍ. وثبت عنه (4) أنه قال: "واللهُ في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه"، فإذا كان بدلَ دعائِه لنفسه يدعو للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصلَ له أعظمُ مما كان يطلب لنفسه.
واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن
__________
(1) سورة التوبة: 103.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق.
(4) مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(5) 1/16.(4/257)
أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في البر بعد البر أن تُصلِّيَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خِراشٍ، قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: يا أبا إسحاق! إنَّ بين الحجاج بن دينار ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفاوزَ تَنقطعُ فيها أعناق المَطِيِّ. وليس في الصدقة خلاف.
ولو احتجّ في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن عبد الله بن عمرو أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بَدَنةٍ، وأن هشام بن العاص نحرَ حصتَه خمسين، وأن عمرًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصمتَ أو تصدقتَ عنه نفعه ذلك". وقد رواه أبو داود (2) ، ولفظه: "لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعَه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية.
وقد احتجّ بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديثَ رُوِيتْ فيمن مرَّ على القبور فقرأ كذا وكذا، وليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية. وقد قدَّمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها أن الوليَّ يصومُ عن الميتِ الصومَ الذي نذره كما يحجُّ عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح
__________
(1) 2/181.
(2) برقم (2883) .(4/258)
رواه مسلم (1) وغيره عن بُريدةَ بن الحُصَيب أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفيُجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال: "نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها"، قالت: يا رسول الله! إنها لم تحجَّ، فقال؟ "حُجِّي عنها".
ولا يقال: هذا مختصّ بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: "أرأيتِ لو كان على أختِكِ دَين أكنتِ تقضيه؟ " قالت: نعم، قال: "فحقُّ الله أحقُّ". وفي رواية (3) : أن امرأة ركبتْ في البحر، فنذرتْ إن نَجَّاها الله أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرتْ ذلك، فقال: "صومي عنها".
وأيضًا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليُّه" يتناول الولد وغيره ممن يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (4) : "إذا مات ابن آدم
__________
(1) برقم (1149) . وأخرجه أيضًا أحمد (5/349، 351، 359، 361) وأبو داود (1656، 2877، 3309) والترمذي (667، 929) وابن ماجه (1759، 2394) .
(2) البخاري (1953) ومسلم (1148) .
(3) لأحمد (1/216) .
(4) مسلم (1631) عن أبي هريرة.(4/259)
انقطع عملُه إلاّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له". فهنا خصّ الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولُده من كَسْبِه، كما قال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)) (1) وإن ولده من كَسْبه. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاحَ مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك" (2) . وقد قال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)) (3) ، فَجعل الولد موهوباً للوالد، فجعل بيت الولد بيت الرجل في قوله تعالى: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) (4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه المولود له، كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (5) .
فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عملِه المنقطع، كما استثنى ما ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن للوالد بمنزلة المباح، فيُهْلِكُ منه ما لا يضرُّ بولده. وهذا الحديث لا يدل على أن غير الولد لا ينفع دعاؤه
__________
(1) سورة المسد: 2.
(2) أخرجه، ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله، وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرَّج أحاديثهم وتكلَّم عليها الألباني في "إرواء الغليل" (838) وصحَّحها.
(3) سورة الشورى: 49.
(4) سورة النور: 61.
(5) سورة البقرة: 233.(4/260)
للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجةَ إلى تعليل ذلك بوجوب حقهما.
وأما جوابه لمن قال له: "النبيُّ قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه " بأنّ الواحديَّهَ لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشِقِّ تمرة -فهذا مثلٌ ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملكٌ له، إذ هو خالقها وربّها ومليكها، وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا، وهذا الملك لا يتعلق به ثوابُ العباد ولا عقابُهم ولا وعدُهم ولا وعيدُهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وأما تقربُ العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض العباد آمنَ به وعبدَه وأطاعَه وفعلَ ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفرَ به وفسقَ وعصى، وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائِه وقدرِه، والذي يتقرب إليه بشقِّ تمرة إذا أقرضَه قرضًا حسنًا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو وفعله وقدرته داخل في ملك الرّب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، لكن بِبذلِه في الجهة التي يُحِبُّها ويرضاها صار العبد مستوجبًا لما وعده في تلك الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو(4/261)
الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (1) ، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)) (2) ، وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (3) . والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)) (4) .
وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلَّت فيه أممٌ من الأنام، وبينا الفرقَ بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين الحقيقة الكونية التي يُقِرُّ بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة الدينية الحَي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر وأكبر الالحاد، فالأشياء
__________
(1) سورة القلم: 35.
(2) سورة الجاثية: 21.
(3) سورة ص: 28.
(4) سورة هود: 56.(4/262)
التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافتهٌ بحكم ربوبيته، وهذه إضافة إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبَّد، فجميع الخلق عباد الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)) (1) ، وقد يعني به العابد، فيَختص به المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (2) ، وقال الشيطان: (وَلَأُغْوِيَنَهُم أَجمعِينَ (39) إِلَّا عبادَكَ مِنهُمُ اَلمُخلَصِينَ (40)) (3) ، وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (4) ، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (5) ، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (6) ، وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (7) .
وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وَطَهِّر بَيتِيَ) (8) وقوله: (نَاقَةَ الله وَسُقياهَا (13)) (9) ، وبين سائر البيوت والنُّوقِ، فإن سائر البيوت
__________
(1) سورة مريم: 93.
(2) سورة الحجر: 42.
(3) سورة الحجر: 39-40.
(4) سورة الإنسان: 6.
(5) سورة الفرقان: 63.
(6) سورة الإسراء: 1.
(7) سورة النجم: 10.
(8) سورة الحج: 26.
(9) سورة الشمس: 13.(4/263)
والنوق وإن كانت ملكًا لله لكن ليست محلَّ عبادتِه وطاعته والصلاة عليه، كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه] ، فالإضافة العامة بحكم الربوبية الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا البيت وبيت الكنيسة مثلاً كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي هو خلقه، وهو معبَّدٌ له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) ، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (2) ، فإضافةُ الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (3) . بل هذه الإضافةُ بحكم أمره ودينِه الذي بعث به رسوله، ولهذا قَرنَ هذا بالرسول، فإنّ أمْرَه الذي أمرَ به ما يُحبُّه ويَرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده.
ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرمًا، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أَضَع حيثُ أُمِرْتُ" (4) .
__________
(1) سورة الأنفال: 1.
(2) سورة الأنفال: 41.
(3) في مواضع كثيرة من القرآن.
(4) أخرجه البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.(4/264)
وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرقَ بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ضعف القياس الذي قاسَه، وتبين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عمل المؤمن من أمته عملاً فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه مملوكًا ملكًا قدره وقضاه.
يُبيِّن هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموالَ المحرمة في الشريعة، فالظالم والغاضب إذا أخذ مالاً فالله هو أيضًا مالكه، وقد ملَّكَه إياه قدرًا لا شرعًا ودينًا، ولو أنفقَ منه لم يتقبل الله منه، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا يتقبل صلاةً بغير طهورٍ ولا صدقةً من غلولٍ" رواه مسلم (1) وغيره، فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أُذِنَ في إنفاقه شرعًا، لا يكفي الإذن القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يُرادُ به ما مُلِكَ شرعًا ويراد به ما يتنعَّم به الحيُّ، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حرامًا، فالأول كقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)) (2) ، والثاني كقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (3) . والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقًا
__________
(1) برقم (224) عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/19، 39، 51، 57، 73) والترمذي (1) وابن ماجه (272) .
(2) سورة البقرة: 3.
(3) سورة هود: 6.(4/265)
بناءً على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس عندهم مقدورًا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل.
فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له مثل
أجور أمته، فلا حاجةَ إلى الإهداء- ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن الابن من كَسْبِ أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، بالسنة الصحيحة.
الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حصل له مثل أجر العالم من أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضًا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاةَ بين الأمرين.
قيل عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل للأب مثلَ عملِ جميع أمته، ولا يعلم دليلاً على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعوّ، وهذا الفرق ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعلَ ذلك الهدى بحسب قدرته، وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملاً إرادةً جازمة وعمل منه ما يقدر عليه كان بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا فصلَ الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل(4/266)
يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، وقد يحكى ذلك إجماعًا.
واحتجّ هؤلاء بأحاديث الهمِّ (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتلَ صاحبه" (2) ، وقوله: "فهما في الأجر سواءٌ" (3) ونحوهما.
وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يَقدر عليه العبد، وحينئذٍ فيترتب عليها العقاب، كالذي يَهُمُّ بالذي يتمنى وينظر، ويفعل بعض المحرمات ويترك الباقي عجزًا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله حتى قتل، بخلاف من هَمَّ ولم يفعل مقدورَه كالذي همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها أصلاً، فهذا لا تكون إرادته جازمةً. وكذلك قوله: "فهما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء"، لأن كلاًّ منهما قال بلسانه: لو أن لي مثلَ ما لفلانٍ لفعلتُ فيه مثلَ ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل.
والله تعالى في كتابه ذكر الفعلَ، وذكر ما يتولَّد عنه، وجعله من عملِ العبد، كما في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ
__________
(1) منها حديثا أبي هريرة وابن عباس في الصحيحين، انظر صحيح البخاري (42، 6491) وصحيح مسلم (128- 131) .
(2) أخرجه البخاري (31، 6875، 7983) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(3) أخرجه أحمد (4/230، 231) والترمذي (2325) وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة.(4/267)
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (1) ، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ) (2) ، فالإنفاقُ وقطع الوادي نفس عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدًا للفعل عاملاً ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سَنَّ سنةً حسنةً ومن سَنَّ سنة سيئةً، والبيان للفعل الذي هو رَسَمَه ليُحتَذَى، فهو يقصد أن يُتَّبع فيه.
فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتلَ". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل.
قيل: هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل هنا إنَّ عليه مثلَ ألمِ كل قاتل، بل قال: "عليه كِفلٌ من دمها"، لأن ذلك من أثر فعلِه، كما كتب ابتداءً بهذا الفعل، وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
__________
(1) سورة التوبة: 120.
(2) سورة التوبة: 121.
(3) البخاري (3335، 6867، 7321) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.(4/268)
مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)) (1) ، وقال: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) . فما تولد عن فعل العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع أخص من ذلك.
الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملاً، فلابدَّ أن يُثابَ العاملُ على إهدائه، فيكون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل إهداء الثواب أيضًا، فإهداءُ هذا الثواب إن جُوِّزَ لزم التسلسلُ، وإن لم يُجوَّزْ فما الفرق بين عمل وعمل؟ بَخلاف الولد إذا بَرَّ والدَه بدعاءٍ أو صدقةٍ عنه أو نحو ذلك، فإن الله يُثيب الولدَ على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلَّى منا أو سلَّم عليه بأن الله يصلّي على المصلِّي عشرًا، ويُسلِّم على المسلم عشرًا، ويحصلُ للرسول مثلُ ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يُفضِي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم أن يحصل له مثلُه، فإن جوزنا أن يهدى ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين أمرين: إما أن نقول: يُهدَى إليه عملٌ، فيلزم أن يُهدَى إليه ثواب الإهداء،
__________
(1) سورة العنكبوت: 12.
(2) سورة النحل: 25.(4/269)
وهلم جرًّا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يُهدى إليه، بل ما حصل له من الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. وعلى هذا فيقال: لا يُهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في كونهم لم يكونوا يُهدُون لمثل هؤلاء لا ثواب العباداتِ البدنية ولا المالية.
وأما تضحية علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ ذلك فإنه كان بإذنه، كما لو وصَّى بصدقة وغيرها فإنها تنفذُ باتفاق المسلمين، فإن الوصي بمنزلة الوكيل في ذلك، والمُوصِيْ هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا يدعون لهم.
ولكن يقال: هَبْ أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض والنوافل، فإذا أنشأ عملاً آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من العبادات البدنية والمالية؟ وهلاَّ كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم الذين علّموهم الدين؟
وسيد هؤلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين.
فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أَهْدَوا لهم ثوابَ عملٍ وجب أن يكون لهؤلاء أجرٌ على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا الخير وعلَّمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عَنَى أن يهدى إليه ثواب(4/270)
العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثوابَ عن نفسه من غير فائدة تحصل لغيره، إذِ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا، فإذا أهداه وبَذَل ثوابه لغيره فإن لم يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررًا في حقه، من غير منفعة حصلت للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا يشرعه، ولا يأمر أحدًا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعةٍ تحصل له لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (1) : "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقال (2) : "من صلى عليّ مرةً صلى الله عليه عشرا"، وقال (3) : "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال
__________
(1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.(4/271)
الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة.
وإن قيل: إنه يثَاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرًا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ذلك.
فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلَّمه ونحو ذلك.
قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1) : "من أَسْدَى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60)) (2) . وهم إذا كافأوا المحسنَ بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثوابُ المكافأة، فحصل له مثل ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل والإحسان الذي دعاهم إليه.
ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليما، فنحن إذا صلينا عليه أُثِبْنَا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك من
__________
(1) أخرجه أحمد (2/68، 99، 127) والبخاري في الأدب المفرد (216) وأبو داود (1672، 5109) والنسائي (5/82) عن ابن عمر.
(2) سورة الرحمن: 60.(4/272)
المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه عشرا" يوهم أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلها، من جهة كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضًا ما جعله الله لذلك.
فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبًا عليها، إذًا ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من وجهين:
أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) . وفي الحديث الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يُكسَى والداهُ من حُلَلِ الجنة" (2) ، ويقال: بأخْذِ ولدِكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان لآدم
__________
(1) أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/72، 73) والبيهقي في "الشعب" (4/ 556، 557) عن معاذ بن جبل. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 160) : فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيرًا، وبقية رجاله ثقات.(4/273)
من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي إلى الخير كنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن له مثل أعمال أمته التي دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعوِّ العامِل، بخلاف الوالد والولد، ولهذا حقّ النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1) ، وفي القراءة الأخرى: "وهو أب لهم" (2) .
وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، وهذا هو الأب الجثماني، وهذا هو سببٌ للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا سببٌ لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعوُّ ذلك الخير، وسعى في ذلك بحسب وُسْعِه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصدهُ، ولو قصده بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة
__________
(1) سورة الأحزاب: 6.
(2) انظر تفسير القرطبي (14/123) .(4/274)
للشيطان، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) ، فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جَاهَداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمرَ مع ذلك فصاحِبْهما في الدنيا معروفًا، وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيلُ أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد فيصاحبه في الدنيا معروفًا ويُحسِن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتُنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله.
وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه الثواب، ويثاب الولد على بِرِّهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يُفضِي ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرُّرِ الولد، فلهذا كان مشروعًا مسنونًا، ولو قُدِّر أن المعلم كان والدًا، وعلَّم ولدَه الخيرَ كلَّه، كان له مثلُ أجر عمل
__________
(1) سورة لقمان: 14.(4/275)
الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، والولد إذا تصدّق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضًا مشروعًا لما تقدم.
وتبين بهذا الجوابُ عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين" بوجهين أيضًا، أحدهما: أن ذلك يُفضِيْ إلى التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال.
وقول القائل "حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب من حق الوالد" كلام صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم.
وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية.
وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر "وما يُدرِيك قد فعلَه عليٌّ حينَ ضحَّى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية عليّ إن صحَّ الحديثُ فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما(4/276)
يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش الصنعاني قال: رأيتُ عليًّا يضحِّي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. فسؤال حنش لعلي دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تُفعَل العباداتُ البدنيةُ أو الماليةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجوابُ علي له بقوله "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاني أن أضحِّي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل الوصية، وأنه لو لم يُوصِّه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يُفعَل بوصية وبغير وصية لكان عليّ يجيب بهذا الجواب أيضًا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا يشترك فيه عليٌّ غيرَه، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات المالية.
وأما قول القائل: "إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكًا لكل شيء وربّه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنًا سعيدًا، ومن لم يقم بها كان كافرًا شقيا، وأنه(4/277)
ربُّ هذا وهذا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)) (1) .
وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبيّنا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقرَّ بها اليهود والنصارى بل المشركونِ عُبَّادُ الأصنام، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) (3) .
وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفسَّاق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية،
__________
(1) سورة الإسراء: 18-20.
(2) سورة لقمان: 25، سورة الزمر: 38.
(3) سورة المؤمنون: 84- 89.(4/278)
ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1) :
الربُّ حقّ والعبد حقّ يا ليتَ شِعْرِيْ مَنِ المكلَّفْ
إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلت ربّ أنَّى يُكَلَّفْ
وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عُرِفَ من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عُبَّاد الأصنام، ويدَّعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد.
وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدَّره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوُّون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ولهذا يُفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)
__________
(1) انظر الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في "مجموع الفتاوى" (2/111-120) .(4/279)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)) (1) ، والثاني كقوله: (إِنَ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَان) (2) ، وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (3) ، وقوله: (عَينًا يشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) (4) ، وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (5) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6) ، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (7) ، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (8) .
وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (9) ، وقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (10) ، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية
__________
(1) سورة مريم: 93- 94.
(2) سورة الحجر: 42، سورة الإسراء: 65.
(3) سورة الفرقان: 63.
(4) سورة الإنسان: 6.
(5) سورة الإسراء: 1.
(6) سورة الجن: 19.
(7) سورة البقرة: 23.
(8) سورة النجم:10.
(9) سورة البقرة: 185.
(10) سورة الأنعام: 125.(4/280)
القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية.
فإذا عُرِف هذا فتَقرُّبُ العباد بفعلِ ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهةِ أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم.
والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه".
وقد قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (2) ،
__________
(1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.
(2) سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15.(4/281)
وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (1) ، قال لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (2) ، وقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3) .
فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نَصْرٌ له، وإقراضٌ منه، فقال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (4) ، وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (5) ، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (6) .
وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويُبَشِّره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى
__________
(1) سورة الإسراء: 7.
(2) سورة لقمان: 12.
(3) سورة آل عمران: 97.
(4) سورة محمد: 7.
(5) سورة البقرة: 245، سورة الحديد: 11.
(6) سورة محمد: 4.(4/282)
والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علويةٌ مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع.
فمن سوى بين ... (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (2) ، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في
__________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(2) سورة آل عمران: 181.(4/283)
حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديثُ الذي في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء فصبر كان خيرًا له". فالمؤمن الذي منّ الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرًا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر.
الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء همِ أهل النعمة المطلقة المذكوريِن في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7)) (2) ، كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
__________
(1) برقم (2999) عن صهيب، مع اختلاف في اللفظ.
(2) سورة الفاتحة: 6- 7.(4/284)
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (1) .
الوجه الثالث: أن الله سبحانه منَّ عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابًا غير ما يستحقه من النفقة عليه.
فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"، وقاس على هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون له مثل أجرنا ويهدي إليه من ذلك ما يهديه، غالطٌ غلطًا عظيمًا. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يَفْطَنْ لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب المُهدَى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة وغيرها، وأين هذا من هذا؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعيِن بالله لا يستعين بغيره، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2) ، فإن لم يعبده بل عبدَ غيرَه أو أعرضَ عن العبادة خَسِرَ الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان مخذولاً لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
__________
(1) سورة النساء: 69.
(2) سورة الفاتحة: 5.(4/285)
ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه.
ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرَّها في الكتب الأربعة، وجعل سرّ الأربعة في القرآن، وسرّ القرآن في المغصل، وسرِّ المفصل في الفاتحة، وسرّ الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . وهذه هي التي نصفها للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حقّ لله، كما قال في الصحيحين (1) : إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذِّبَهم".
والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا غضاضة بالأعلى، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما منَّ به علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد منَّ عليه بمثله، لدعائه
__________
(1) البخاري (2856، 5967، 6267) ومسلم (30) .(4/286)
لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما منّ به عليه من أجر عمله.
والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عقيب الصلاة (1) : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
فعلى العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، قال تعالى: (فادعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين) (2) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجًا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيًّا أو غير نبي هو محتاج إلى الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب يُيَسِّرها، وإذا ساق إليه خيرًا على يدي العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يَدَيِ العباد من النفع بصلاتهم عليه وسلامهم
__________
(1) أخرجه مسلم (594) عن ابن الزبير.
(2) سورة غافر: 65.
(3) سورة الفاتحة: 2.(4/287)
عليه ومسألتهم له الوسيلةَ ونحو ذلك هو خالقه، وهو مُجازِي العباد، والله غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ فمن شبه الله بخلقه فقد كفر.
ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضُلاَّل هذه الأمة الذين يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب إلى الملوك يحتاج إلى وسائلَ ووسائطَ وشُفعاءَ من خواصِّ الملك، فكذلك المتقرب إلى الله، على هذا بَنَتِ الصابئةُ والنصارى وغيرهم دينَهم الفاسد، وهذا أصل عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ليسوا أسبابًا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة.
ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) (1) ، وقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (2) ، وقال تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (3) ،
__________
(1) سورة القصص: 56.
(2) سورة النحل: 37.
(3) سورة الأنعام: 50.(4/288)
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (1) ، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد الله، مطيع لربه، مبلِّغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهمّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (2) . وكان ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (3) ، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (4) .
فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا
__________
(1) سورة الأعراف: 188.
(2) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة.
(3) سورة النساء: 172.
(4) سورة سبأ: 22- 23.(4/289)
تنفع إلا لمن أذن له، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) ، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (28)) (1) .
ولهذا كان سيد الشفعاء - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررتُ ساجدا، فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أي محمد، ارفعْ رأسَك، قُلْ تُسمعْ، وسَلْ تُعطَه، فأشفع" (2) . فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه. إذا أتى ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه في الشفاعة.
وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم،
__________
(1) سورة الأنبياء: 26- 28.
(2) متفق عليه من حديث أنس وأبي هريرة ضمن حديث الشفاعة الطويل. انظر صحيح البخاري (4712، 7510 ومواضع أخرى) وصحيح مسلم (193، 194) .(4/290)
وجعلوا الربً محتاجًا إلى عباداتهم، مفتقرًا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصدقاتهم من الله لا من - مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتفق عليه (1) : "إن أَمنَّ الناسِ عَليَّ في صحبته وذاتِ يدِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلا".
قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)) (2) .
وهذه الآية نزلت في الصديق (3) ، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يُرادُ بها قطعًا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من هذه الأمة، كقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (4) ، قالوا: ولا يجوز أن تكون نزلت في على دونه، لأن عليًّا عليه السلام كان فقيرًا في كفالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَفَلَه لمَّا وقعتْ بمكة المجاعةُ، فبعث الله نبيه وعليٌّ عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مالٌ ينفقه عليه.
__________
(1) البخاري (3954) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري.
(2) سورة الليل: 17- 20.
(3) انظر تفسير الطبري (30/146) وابن كثير (4/556) .
(4) سورة الحجرات: 13.(4/291)
وأما أبو بكر فكان رجلاً بالغًا مُوْسرًا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أمنَّ الناسِ علينا في صحبته وذاتِ يده أبو بكر" (1) ، وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مستغنيًا في نفقة نفسه عن أبي بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعةً يعذَّبون في الله منهم بلال وغيره، وفعلَ غير ذلك.
والمقصود هنا أن الأعمال لا تُعمَل إلا لله، ولا يُطلب أجرُها إلا من الله، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (2) ، وقال تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)) (3) ، وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)) إلى قوله (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)) (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله" (5) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة الرعد: 40.
(3) سورة يونس: 46.
(4) سورة الغاشية: 21- 26.
(5) البخاري (2946) ومسلم (21) عن أبي هريرة.(4/292)
وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)) (1) وقال:) (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)) (2) ، وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3) .
كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4) .
وكذلك من عمل صالحًا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة القبور أن نسلِّم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى الله، كما قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (5) .
__________
(1) سورة الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.
(2) سورة الفرقان: 57.
(3) سورة الشورى: 23.
(4) رواه البخاري (4818) ، ولم أجده عند مسلم.
(5) سورة الشرح: 7- 8.(4/293)
ولكن كثير من أهل الضلال صار يُشبه النصارى، فيُنزل المخلوق بعد موته بمنزلةِ الخالقِ، يطلب منه ماَ يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، يَطْلُب الثوابَ منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، لأنهم في حياتهمِ لا يمكنون أحدًا من الإشراك بهم، كما قال المسيح: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) (1) ، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) ، فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر.
ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملَّة الحنيفية كما نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3) : "إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لستَ بفظّ ولا غليظٍ ولا صخّاب بالأسواق، ولا تَجزِيْ بالسيئة السيئةَ، ولكن تَجزِي بالسيئة الحسنةَ والعفوَ، ولن أقبضه حتى أُقيمَ به الملةَ العوجاء، فأفتح به أعينًا عُمْيًا وآذانًا صفا وقلوبًا غُلْفًا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله".
__________
(1) سورة المائدة: 117.
(2) سورة آل عمران: 79-80.
(3) البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص نقلاً عمَّا في التوراة.(4/294)
وفي الصحيح (1) أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله".
وفي الصحيح (2) أيضًا: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا".
وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمسٍ: "إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ [مساجدَ] ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي السنن (4) عنه أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلُوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم".
وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبِن سَنَنَ من كان قبلكم حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ".
وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط المستقيم في غير هذا الموضع (6) . والمقصود
__________
(1) البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق.
(4) سبق.
(5) البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.
(6) يشير إلى كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم".(4/295)
هنا أن النصارى فيهم إشراكٌ وغلوّ وابتداع، قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1) ، وقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه) (2) ، وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (3) ، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (4) .
فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراكٌ وغلو وابتداع، كما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم، كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضَاهَوا المخلوق بالخالق، وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يَسُنَّه لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤه الراشدون.
__________
(1) سورة التوبة: 31.
(2) سورة الحديد: 27.
(3) سورة النساء: 171.
(4) سورة المائدة: 77.(4/296)
وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: "من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". وقال (2) : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". والغلو حيث جعلوا في البشر شَوبًا من الربوبية والإلهية والغِنَى عن صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله.
والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيرُه، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها غيرُهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)) (3) ، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح بكرةً وأصيلاً لله وحده، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (4) ، فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (5) ، فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
__________
(1) البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة، واللفظ لمسلم.
(2) سبق.
(3) سورة الفتح: 8-9.
(4) سورة النور: 52.
(5) سورة التوبة: 59.(4/297)
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1) ، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (3) .
وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو الكافي، والله وحده كافي عبادِه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (4) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (5) ، أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن أنه معناه "أن الله والمؤمنين يكفونك" فقد غلط غلطًا عظيما من وجوه كثيرة في اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يُجعَل لله نِدٌّ فيما يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يُعبَدَ الله بعبادة لم يَدُلَّ عليها دليلٌ شرعي. ومن الغلو أن يُرفع المخلوقُ إلى درجةِ الخالق.
__________
(1) سورة الحشر: 7.
(2) سورة النساء: 80.
(3) سورة النساء: 64.
(4) سورة الزمر: 36.
(5) سورة الأنفال: 64.(4/298)
وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شركٌ وغلو ولم تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها من هذين الوجهين.
وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداءَ العبادات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلَّصوا من الإشراك والغلو لم يتخلَّصوا عن الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لمِ يقم على استحبابه دليل شرعي.
وقد بيَّنا فسادَ ما احتجّ به من سَوَّغه، وإنا لم نعلم أحدًا من القرون الثلاثة المفضلة فعلَ مثلَ هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجبَ اتباعُه. والله أعلم.
__________
(1) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.(4/299)
مسألة
فيمن قال: إن إبليس أودعَ وَلَدَه لآدم عليه السلام، وأنّ آدم طرده مرتين، وبعد الثالثةِ ذَبَحَه وسَلَقَه، وأكله، فلهذا يَجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم. وهل عُرِضَ على إبليسَ أن يسجد عند قبرِ آدمَ أو يُعْرَضُ عليه في القيامة؟ وفي قوله تعالى (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (1) هل هذا القولُ عن الكافر خاصَّةً -وهو إبليس- أو عن الكفّار؟
الجواب
أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا يقولُه أحدٌ من العقلاء فضلاً عن أهل العلم والإيمان.
ولم يذكر هذا أحدٌ من أهل العلم والدين، وإنما يَروِي هذا أو يُصدِّقُه أجهلُ العالمين.
وأكلُ الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرَّمات، فإن الله تعالى قد حرَّم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرَّم علينا مع ذلك كلَّ ذِي نابٍ من السباع، لأنَّ
__________
(1) سورة النبأ: 40.(4/300)
هذه البهائم فيها البغيُ والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهَى الله تعالى عن أكلِها لئلا يَصِيرَ في أخلاق المسلمين البغيُ والعدوانُ الذي هو بعض أوصاف الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامعٌ لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما يُؤكَل فهل في كل الشيطان إلاّ شيطان؟ وبالجملة فمثلُ هذا الكلام يَستحقُّ من يقولُه أو من يُصدِّقُه العقوبة البليغة التي تَردَعُه وأمثالَه.
وأما عَرضُ السجودِ لقبرِ آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعضُ الناس، لكن ليس له إسناد يُعتَمد عليه. وأما عرضُ السجود له على إبليسَ في الآخرة فلم يذكره أحدٌ مما علمتُه.
وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبرَ عن إبليسَ بما أخبرَ به من إنظارِه وإغوائِه الذرّيّة، وقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1) ، وأخبر أنه عدوّ لهم بقوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (2) ، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)) (3) . وأخبرَ بما يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة الكهف: 50.
(3) سورة يس: 60-61.(4/301)
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1) . وهذا وأمثالُه مما يُبيّن أن الشيطان حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يُحتاجُ إلى إعادةِ ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر.
وأما قوله: (وَيَؤمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيه) (2) ، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (3) ، فالكافر اسم جنس، ليس كافرًا بعييه، بل قد جاء في الحديثِ: "إن البهائمَ يُقتَصُّ بعضُها من بعضٍ، ثم يقال لها: كوني ترابًا" (4) ، فأعيدت البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوقٌ من مارجٍ من نارٍ، وذلك لا يناسب عودَه إلى التراب.
__________
(1) سورة إبراهيم: 22.
(2) سورة الفرقان: 27.
(3) سورة النبأ: 40.
(4) أخرجه أحمد (2/363) عن أبي هريرة.(4/302)
مسألة
في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تَروحِيْ لبيتِ أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: علي الطلاق ما تروحي لبيتِ أبوك (1) لسنة، فجاءت أمُّ الزوجة، فقالت لها: قُومِي الدار، فقالت: ما أقدِرُ أروح، فغَصَبَتْها أمُّها وأخذتْها، وراحتْ إلى دار أبيها من غيرِ رضيً منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تَأثيرًا (2) لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله. إذا أخرجتْها مكرهةً ولم تقدرْ أن تمتنعَ لم يحنث الحالف، ولو قَدَرَتْ أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا تكون مخالفةً له به، لم يحنث الحالف أيضًا. وأما إذا فعلَتِ المحلوفَ عليه عالمةً فإنه يحنث.
__________
(1) كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل.
(2) كذا في الأصل منصوبًا، وهو لحن من السائل، والصواب الرفع.
(3) كذا في الأصل، والصواب "محلوفًا".(4/303)
ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدَها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت أيمانًا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدةٌ، والأظهر أنه لا يقع به إلا واحد، فإنه لو كرَّر اليمين بالله على فعلٍ واحدٍ لأجزأتْه كفارةٌ واحدة في أصحّ القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وفرَّقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم.
__________
(1) تكررت في الأصل "بين اليمين".(4/304)
فصل
ما ضُمِن بالعقد الصحيح ضُمِن بالعقد الفاسد، وما لم يُضمَن بالعقد الصحيح لم يُضمَن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات:
ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما.
وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما.
وضمان الإتلاف. كلُّ من أتلفَ لغيرِه بمباشرةِ أو سببٍ محرم وما أشبهها. والله أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل، ويبدو أنها بمعنى الخيانة، ولم أجدها في المعاجم.(4/305)
مسألة
في رجلِ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح.
الجواب
الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله! متى كنتَ نبيًّا؟ وفي لفظٍ: متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (1) . وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إني كنتُ مكتوبًا عند الله خاتمَ النبيين وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام" (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد (5/59) وابن أبي عاصم في "السنة" (410) وأبو نعيم في "الحلية" (9/53) . وانظر "الصحيحة" (1856) .
(2) أخرجه أحمد (4/128) والبزار كما في "كشف الأستار" (2365) والحاكم في المستدرك (2/600) وأبو نعيم في "الحلية" (6/89-90) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (2085) .(4/306)
ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نُبوَّتَه وأظهرها بين خلقِ آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - -وهو الصادف المصدوق- أن خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أفه أربعين صباحًا، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُبعَث إليه المَلَك، فيؤمَر بأربعِ كلمات، فيقال: اكتبْ رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيّ أو سعيد، ثمّ يُنفخ فيه الروحُ. قال: فوالذي نفسي بيده إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة.
فبيّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد وقبلَ نفخِ الروح يُكتَب رزقُ العبد وأجله وعملُه وشقيّ أم سعيد.
وآدم هو أبو البشر، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم، فكتب الله نبوتَه بعد خلقِ آدم وقبلَ نفخ الروحِ فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين" فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماءٌ وترابٌ، ولم يكن آدم قطُّ بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذٍ مكتوبًا عند الله خاتم النبيين.
وأما تبيّن ذاته وصفاتِه وجَعْلُ الله له نبيًّا ورسولاً فإنما كان حتى خَلَقَه، ونبّأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه
__________
(1) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) .(4/307)
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (1) ، فكان نبيًّا، ثم أنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)) (2) .
فكان رسولاً. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو ضالٌ مفترٍ بإجماع المسلمين. وما يُروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه كان كوكبًا في السماء يُرَى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق علماء المسلمين. والله أعلم.
__________
(1) سورة العلق: 1.
(2) سورة المدثر: 1.(4/308)
مسألة
في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1) ، وقوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية (2) ، فمن هو في هؤلاء أعلى درجةً؟
الجواب
الحمد لله. أما قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) فهي تتناول
جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكلُّ من ذُكِر في غير هذه الآية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنفٌ ممن دخلَ فيها، وبعضُ هذه الأصناف أعلى من بعضٍ.
ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذُكِر في الآية، لأن أولئك بعضُ هذه الجملة، إلاّ أن يُراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافِها أفضلُ أهلها. ولا يقال أيضًا: إن كل من في هذه الآية أفضل ممن ذُكِر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع المذكورين فيها أفضل من بعضهم.
__________
(1) سورة يونس: 62.
(2) سورة النور: 37.(4/309)
وأما قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) الآية، فهؤلاء ممن دَخَل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد يكون من له تجارة وبيعٌ لا تُلهِيْه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) (1) هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجبٌ على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس.
والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحزاب: 23.(4/310)
مسألة
في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبًا، واستخدمه بالضرب، فلما ضربه حلفَ يمينًا ثانيًا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟
الجواب
إن أمكنه الامتناعُ عن الفعل وامتنع فلا حِنْثَ عليه، وإن أُكرِهَ على فعلِ المحلوف عليه فلا حنثَ عليه. والله أعلم.(4/311)
مسألة
في رجلٍ صلَّى صلاةَ الصبح إمامًا بسورة المدثر و"لا أقسم بيوم القيامة" في الركعتين، وسبَّح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحاتٍ إلى عشر، فقال بعض الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يُصلَّى خلفه. فهل يجب على وليّ الأمر تعزيرُ من يقول هذا القول واستتابتُه؟ وما على من يُنكِر هذه الصلاة؟ أفتونا رحمكم الله أجمعين.
الجواب
الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل، والمفصَّلُ من قاف. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة (1) ، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوِها من السُّور (2) ، وهي أطول مما ذُكِر، وقرأ فيها أيضًا بالصافات (3) ،
__________
(1) أخرجه البخاري (771) ومسلم (461) عن أبي بَرْزَة الأسلمي.
(2) أخرجه مسلم (457) عن قطبة بن مالك، و (458) عن جابر بن سمرة.
(3) أخرجه أحمد (2/40) عن ابن عمر.(4/312)
و"ألم تنزيل" و"هل أتى" (1) ، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سَعلةٌ في أثنائها (2) ، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلّي" (3) .
وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطِوال المفصّل، وقرأ أبو بكر الصديق مرةً فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادتِ الشمسُ تطلعُ، فقال: لو طلعتْ لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، وقد أَمَرَنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين فقال: "إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة" (4) .
وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيتُ أشبهَ بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة هذا الفتى، وكان يُسبِّح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات.
وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلّين بكم صلاةَ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي،
__________
(1) أخرجه البخاري (891، 168) ومسلم (880) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. وعلّقه البخاري (106) .
(3) أخرجه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث.
(4) سبق تخريجه.
(5) أخرجه أبو داود (888) والنسائي (2/224) وأحمد (3/162) .
(6) البخاري (800، 821) ومسلم (472) .(4/313)
وإذا قَعَدَ من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول.
وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رَمقتُ الصلاةَ خلفَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان قيامُه فركوعه فاعتدالُه في الركوع فسجودُه فجلوسُه بين السجدتين فسجودُه فجلوسُه ما بين السلام والانصراف قريبًا من السَّواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود.
وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخفَّ الناس صلاةً في تمام. فهذا الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو من التخفيف الذي أَمَرَ به، كما قال: "إذا أمَّ أحدُكم الناسَ فليُخَفِّفْ، فإنّ من ورائِه السقيمَ والكبيرَ وذا الحاجة" (3) . وقال لمعاذٍ: "أفَتَّان أنتَ يا معاذ؟ " (4) لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذٌ يُنهَى عنه الإمام.
ومن أنكرَ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه ليس من الشرع، فإنّه يُعزَّر على ذلك تعزيرًا يُناسِبُ حالَه، زجرًا له ولأمثالِه. والله أعلم.
__________
(1) البخاري (792، 801، 820) ومسلم (471) .
(2) البخاري (706، 708) ومسلم (469) .
(3) أخرجه البخاري (703) ومسلم (467) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (705 ومواضع أخرى) ومسلم (465) عن جابر بن عبد الله.(4/314)
مسألة
في رجلٍ إمامِ مسجدٍ: هل يجوز له أن يُكبِّر أحدٌ خلفَه من المؤتمِّين؟ أو يواضبَ (1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يَدعِيْ (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟ أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب.
الجواب
الحمد لله. لا يُشرَع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يُسمَّى التبليغ لغير حاجةٍ باتفاق الأئمة، فإن بلالاً لم يكن يُبلِّغ خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ولا غيره، ولم يكن يبلّغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لمّا مرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى بالناس مرةً وصوتُه ضعيف، فكان أبو بكر يُصلِّي إلى جنبه يُسمعُ الناسَ التكبيرَ (4) . فاستدلَّ العلماء بذلك على أنه يُشرَع التبليغ عند الحاجة، مثل ضعف صوتِ الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على أنه مكروهٌ غيرُ مشروع.
__________
(1) كذا في الأصل بالضاد، والصواب بالظاء.
(2) كذا في الأصل بالياء.
(3) كذا في الأصل منصوبًا.
(4) أخرجه البخاري (712) ومسلم (418) عن عائشة.(4/315)
وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعلُه على قولين، والنزاعُ في الصحة معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلّها.
وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعًا رافعينَ أصواتَهم أو غيرَ رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبُّه في أدبارِ الخمس. لكنّ الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة الصلاة، ولا يُستحبُّ المداومةُ عليه، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويُرغَب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك.
والناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:
منهم من لا يستحبّ ذكرًا ولا دعاءً، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو والمأمومون كأنهم فَرُّوا من قَسْوَرة، وهذا ليس بمستحب.
ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم.
وهذا أيضًا خلافُ السنة.
__________
(1) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) .
(2) أخرجه مسلم (594) .(4/316)
والوسَطُ هو اتباع ما جاءت به السنةُ من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع.
لكن إذا دعوا أحيانًا لأمرٍ عارضٍ كاستسقاءٍ أو استنصارٍ أو نحو ذلك فلا بأس بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمرٍ عارضٍ جاز ذلك ولم يُكرَه، وكل ذلك منقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) .
وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يُسلِّم، وقبلَ أن يستقبلَهم يَستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" (2) . وكان يجهر بالذكر، كقوله: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (3) . وأحيانًا كان يقوم عقيبَ السلام إذا عرض له أمر، كما قامَ مرةً يخطب خطيبًا (4) للناس، وقال: "ذكرتُ ذُهَيْبَةً كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي".
وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبةً باتفاق العلماء، ويُكرَه أن يتعمد الرجل سجدة غير "الم تنزيل". وأما قراءة "هل أتى"
__________
(1) أخرجه البخاري (851) عن عقبة.
(2) أخرجه مسلم (591) عن ثوبان.
(3) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة.
(4) كذا في الأصل.(4/317)
و"الم تنزيل" في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين (2) . لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشيةَ أن يَظُنَّ الناس أنها واجبة، كما لم يواظب (3) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذلك، بل كان يقرأ في الجمعة والعيدين سورًا متنوعة، لا يلازم شيئًا بعينه.
والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجها في أول المسألة.
(2) أخرجه مسلم (879) عن ابن عباس.
(3) في الأصل "يواضب" بالضاد.(4/318)
مسألة
في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاقٍ أو غيرِه، فاستفتَى بعض العلماء، فأفتاه بقولِ أحد الأئمة المذكورين، فعارضَه آخر وقال: من استفتَى غيرَ أهلِ مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكِر مصيبٌ في هذَا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟ أفتونا رحمكم الله.
الجواب
الحمد لله. بل هذا المنكر مُخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثمٌ في ذلك مستحق للعقوبة التي تَزجُره وأمثالَه عن مثلِ ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق وأنّ الزنديق الكافر، وجعلَ اتباعَ المسلم في بعض المسائل لإمامٍ غيرِ إمامِه كفرًا: فإنه يُستَتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلاّ قُتِل؟ وإن كان يظن أن الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يُعزر على هذا الكلام.
ولا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله، وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسولِه، ومن قال: إنه يجب(4/319)
على الناس طاعة شخصٍ بعينِه غيرِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كلَّ أحدٍ من الناس يُؤخَذُ من قولِه ويُترَكُ إلاّ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأئمة الأربعة رضي الله عنهم نَهَوا الناسَ أن يُقلِّدوا واحدًا بعينِه في جميع ما يقوله وإنْ وُجدَتِ الحجة بخلافه.
والذي كَرِهَه العلماء للرجل أن يكون رخيصًا يَستفتي في كلّ حادثة بما يكون له فيه رخصة. فأما أخذُه في بعض المسائل بقولِ إمام وفي بعضها بقولِ إمامٍ مع تحرِّي التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم.(4/320)
مسألة
في رجلِ لم يؤدِّي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولدٌ صالح، فكان الولد بعد أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلِّي صلواتٍ دائمًا، ويحتسبها لوالدِه عن فرضِه، فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله.
الجواب
الحمد لله. أما الفرض فلا يَسقُط عنه بصلاة غيرِه، ولكن من مات مؤمنًا فإذا صلّى عنه وَلَدُه أو تصدَّقَ عنه أو أعتقَ عنه أو صامَ عنه نفعَه الله بذلك. وأفضل ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة. والله أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل بإثبات الياء.(4/321)
مسألة
في رجل أوقف زاويةً قطعةَ أرضٍ مخللة بنَخْل، بعضه طازج وبعضُه غير طازج، وشرطَ النظرَ لشخصٍ من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واَجَرَ الأرضَ مدةَ عشر سنين بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يُؤجر مع وجودِ الناظر الذي شرط له الواقفُ النظرَ أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها، ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم يعترض عليه، فيُلْزِمه بالواجب، أو يَستبدل به، أو يَضمُّ إليه أمينًا. وليس للناظر ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم.(4/322)
مسألة
متى فُرض الصوم والصلاة والزكاة؟
الجواب
الحمد لله. صوم رمضان فُرِضَ من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعَ رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأُمِر بهما بمكةَ قبلَ الهجرة، لكن فرائض الصلاة شُرِعت بالمدينة. والله أعلم.
مسألة
هل يجب للحائض أن تَغسِلَ باطنَ فرجِها من الحيضِ والجنابة؟
الجواب
الحمد لله. لا يجب على المرأة غَسْلُ باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة. والله أعلم.(4/323)
مسائل وردت من الصلت(4/325)
مسألة
في الكلب إذا وَلَغَ في طستِ لبنٍ أو طعام أو شراب، هل يحل أكلُه أم بيعُه أم لا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا كان فيه أثرُ الولوغ أو كُشِطَ وجهُه جاز أكلُه في أحد قولَي العلماء.
مسألة
في الفأرة إذا وقعتْ في سمنٍ أو زيتٍ وهو مائع، هل يَحِلُّ أكلُه أم بيعُه أم لا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا لم يتغير يُلقَى وما قَرُبَ منها، ويُوكَل المال ويُبَاعُ في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم.(4/327)
مسألة
في رجلٍ يدخُل على امرأة أخيه وبناتِ عمِّه وبناتِ خالِه، هل يجوز له ذلك أم لا؟
الجواب
لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوةٍ ولا ريبةٍ جاز له ذلك. والله أعلم.
مسألة
في التيمُّم، هل يجوز لأحدٍ أن يصلّيَ به السُّنن والرواتب والفريضة ويقتصرَ عليه إلى حين الحَدَث أم لا؟
الجواب
نعم، يجوز في أظهر قولَي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلّي به الفرضَ والنفلَ، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يَنقُض التيممَ إلاّ ما يَنقُض الوضوءَ والقدرةُ على استعمال الماء.(4/328)
سئِل
عن رجلِ يأمر الناسَ بالصلاة ولم يُصَلِّ، فماذا يجب عليه؟
الجواب
من لم يُصلِّ فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. والله أعلم.
وسُئِل أيضًا
فيمن يصلّي الفرضَ خلفَ من يُصلِّي نفلاً.
الجواب
يجوز ذلك في أظهر قولَي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وسُئل أيضًا
عن الماء إذا غَمَسَ الرجلُ يدَه، هل يجوز استعمالُه أم لا؟
الجواب
لا ينجس بذلك، بل يجوز استعمالُه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يَصير مستعملاً.(4/329)
وسُئل أيضًا
عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟
الجواب
السنة في التراويح أن تُصلّي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم.
وسُئل أيضًا
عن الرجل يَمَسُّ المرأةَ، هل ينتقضُ الوضوء أم لا؟
الجواب
إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلّى ولم يتوضأ صحَّتْ صلاتُه في أظهر قولَي العلماء.(4/330)
وسُئِل
عن الرجل إذا اغتسلَ من الجنابة، ولم يتوضأ بعدَه ولا قَبلَه وصلَّى بالغُسل، فهل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب
نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأتْه الصلاةُ بذلك الغسل وإن لم يَنوِه عند جمهور العلماء. والله تعالى أعلم.
وسُئل أيضًا
عن الرجل لا يُواظِب على السُّنن الرواتب.
الجواب
من أَصرَّ على تركِها دَلَّ ذلك على قلَّةِ دينه، ورُدَّتْ بذلك شهادته في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما.
وسُئل أيضًا
فيمن يَحلِفُ بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا، ثم أراد أن يفعلَه.
الجواب
يجوز أن يَفعَل ما حَلَفَ عليه ويُكفِّر عن يمينه. والله أعلم.(4/331)
وسُئل أيضًا
في الرُّعَاف هل يَنقُض الوضوءَ أم لا؟
الجواب
إن توضأَ منه فهو أفضلُ، ولا يجب عليه في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم.
مسألة أيضًا
في الفصاد في شهر رمضان، هل يُفسِد الصوم أم لا؟
الجواب
إن أمكنَه الفصادُ بالليل أخَّرَه، وإن احتاجَ إليه لمرضٍ افتصَدَ، وعليه القضاء في أحد قولَي العلماء، والله أعلم.(4/332)
وسُئل أيضًا
في سفر يومِ رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يُفطِر أم لا؟
الجواب
هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهلُ مكَّة خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومزدلفة، وعرفةُ عن المسجد بَرِيدٌ. ولأن السفر مطلقٌ في الكتاب والسنة.
وسُئل أيضًا عن رجلٍ معه مالٌ من حرام وحلالٍ، فهل يجوز أن يأكلَ من عيشِه أم لا؟
الجواب
إذا عُرِف الحرامُ بعينِه لم يُؤكَلْ حتمًا، وإن لم يُعرَف بعينِه لم يَحرُم الأكلُ، لكن إذا كَثُر الحرامُ كان تركُ الأكلِ وَرَعًا. والله أعلم.(4/333)
مسألة أيضًا
في رجلٍ باعَ متاعًا لإنسانٍ تاجر، وكسبَ عليه، وقَسطَ عليه الثمن، والمديونُ يطلُب السفر ولم يُقِمْ له كافلاً، فهل لصاحب الدين أن يمنعَه من السفر أم لا؟
الجواب
إن كان حالاً وهو قادرٌ على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه، وكذلك إن كان مؤجّلاً ومَحِلُّه قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهنٍ يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يَحُلُّ إلاّ بعد قدوم المدين ففيه نزاعٌ بين العلماء. والله أعلم.(4/334)
وسُئل أيضًا
عن رجل يعمل عملاً يستوجب أن يُبنَى له قصر في الجنة ويُغرسَ له أغراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنّة وهو في النار؟
الجواب
إن تاب من ذنوبه توبة نصوحًا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعدَه، بل يُعطيه ذلك. وإن لم يَتُبْ وُزِنتْ حسناتُه وسيئاتُه، فإن رَجحتْ حسناتُه على سيئاتِه كان من أهل الثواب، وإن رجحتْ سيئاتُه على حسناتِه كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب يحبط حينئذٍ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عملَ سيئاتٍ استحقَّ بها النار ثم عملَ بها حسناتٍ تذهب السيئات. والله أعلم.(4/335)
مسألة
في رجلٍ استلفَ من رجلٍ دراهم إلى أجل على غلَّةٍ، بحكم أنه إذا حَلَّ الأجلُ دفع إليه الغلَّة بأنقصَ مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يَحلُّ أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة أم لا؟
الجواب
إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم وتراضيَا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلفٌ بناقصٍ عن السعرِ بشيء، وقدر هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو نقصِ درهم في كل غرارة.
وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضَوا بها أولى من قيمةٍ بمثلٍ لم يتراضَيا بها.
والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح الفاسد أنه يجب فيه المسمَّى لا مهرُ المثل، فإنّا إذا أوجبنا فيه مهرَ المثل أوجبنا ما يستحقُّه نظيرُها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقُّه غيرُها في النكاح الصحيح، فإنه على التقديرين(4/336)
قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتُبِر فاسدُها بصحيحها، وعلى الآخر اعتُبر فاسدُها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم، فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم.(4/337)
مسألة
في رجلٍ فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجدَ المغربَ قد أقيمت، فهل يصلّي الفائتةَ قَبلُ أم لا؟
الجواب
بل يُصلِّي المغرب مع الإمام ثم يصلّي العصرَ باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصحُّ، فإنّ الله لم يُوجب على العبد أن يصلّي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم.(4/338)
مسألة
في رجل خَصَّ بعضَ بناتِه، فجهَّزها ومَلَّكَها بنحو مئتَي ألف درهم، وخَصَّ بعضهم بوقفِ بعضِ مالِه عليه، فهل لورثة الواقف فسخُ ذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولادِه كما أمر الله ورسولُه، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لبشير بن سعد: "اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادكم"، وقال: "لا تُشهِدْني على جورٍ" (2) ، وأمره أن يَرُدَّ التفضيلَ بين أولادِه، وإذا ماتَ ولم يَعدِلْ فإنّه يُرَدُّ جَورُه في أظهر قولَي العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مالِ سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد المظلومين طلبُ حقِّهم وفَسْخ التخصيص الذي فيه ظلمُهم، وإعَانتُهم على إيصالِ حقِّهم إليهم من القُرَب التي يُثابُ فاعلُها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) البخاري (2587) ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير.
(2) هذه رواية لمسلم في الموضع السابق.(4/339)
مسألة
في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس اليومَ -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصحّ من تلك القبور شيء أم لا؟
الجواب
الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فلا يُعرَف [قبورهم] ، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود. والله أعلم.(4/340)
مسألة
في أكل لحم الضبع والثعلب وسِنَّور البرّ وابن آوى وجلودهم، وهل يَحِل لُبسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودُهم بالدباغ؟
الجواب
أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلْدُه يطهر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في روَاية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحّ قولَي العلماء. وهذا إذا دُبِغ بعدَ موته، وأما إذا ذُكِّيَ ودُبغَ كان طاهرًا في مذاهب الأئمة.
وأما سنّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما: يحل، ويكون جلده طاهرًا إذا ذُكّي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول فإذا مات ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعلى هذا إذا ذُكّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا يطهر.(4/341)
وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ.
وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن من وجوهٍ أنه نَهى عن جلود السباع (1) ، كما ثبت أنه حَرَّم لحمها (2) . فما ثبت أنه من السِّباع -كالنَّمِر وابن آوى وابن عِرسٍ- فلا يَحِلُّ لحمُه ولا لُبْسُ الفِراءِ من جلدِه، ما لم يكن من السِّباع المحرَّمة كالضَّبُع فإنه يُؤكَلُ لحمُه وَيُلبَسُ جلدُه. وأما الثعلب وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/74، 75) وأبو داود (4132) والترمذي (1771) والنسائي (7/176) عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه.
(2) متفق عليه من حديث أبي ثعلبة، أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932) .
وفي الباب أحاديث أخرى رواها مسلم وغيره.(4/342)
مسألة
في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحةٌ أم لا؟
الجواب
أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبَيْ أبي حنيفة-، وهو مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خيبر وأَذِنَ في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نَحَرْنا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرسًا فأكلنا لحمَها. ولم يثبُت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حرَّم لحم الخيل في حديث صحيح (3) .
__________
(1) البخاري (5520) ومسلم (1941) .
(2) البخاري (5519) ومسلم (1942) .
(3) انظر الكلام على الحديث المرويّ فيه في "نصب الراية" (4/196-197) .(4/343)
والقرآن لا يَدُلُّ على تحريمه، فإن قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (1) امتَنَّ الله بها على عبادِه بما يُقصَد منها في العادة، ولم يُرِد بذلك تحريمَ أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يومَ خيبر حتى نهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآية مكية، فلو كان فيها دليلٌ على التحريم كان الصحابةُ رضي الله عنهم أعلمَ بذلك. وأما الذين نهوا عنها من العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه.
وأما ألبانها فإن كانت لا تُسْكِر فهي مباحةٌ كلُحْمانِها، وإن كانت مُسكِرةً فهي حرام. رواه البخاري ومسلم (2) . ولمسلم (3) : "كلُّ مُسْكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ". وتحريم كلِّ مسكرٍ هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وغيرِه من أصحابِ أبي حنيفة.
ويجوز للرجل أن يأكل لحمَها ويشرب لبنَها إذا لم يكن مسكرًا، كما يجوز أكلُ اللحم باللبن مطلقًا، ولم يُحرِّمْ أكلَ اللحم باللبن إلاّ اليهودُ الذين حرَّموا طيباتٍ أُحِلَّت لهم لظلمِهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة النحل: 8.
(2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي موسى ومعاذ. البخاري (242، 4344، 4345) ومسلم (2001، والرقم الذي بعده) . وفي الباب أحاديث أخرى.
(3) برقم (2003) عن ابن عمر.(4/344)
مسألة
فيمن ماتَ وخَلَفَ بنتًا وأخًا لأمّ وابنَ عمّ.
الجواب
للبنت النصف، والباقي لابن العمّ، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة المسلمين، وما وصَّى به يُنفَّذ من الثُّلُثِ ثُلثِ التركة، والباقي للورثة.
مسألة
في رجلٍ حلفَ بالطلاق، ثم استثنَى هُنَيهةً بقدرِ ما يمكن فيه الكلام.
فأجاب
لا يقع فيه الطلاق، ولا كفّارةَ عليه، والحال هذه لو قيل له: قل "إن شاء الله" ينفعه ذلك أيضًا، ولو لم يَحْضُر له الاستثناءُ إلاّ لما قِيلَ له. والله تعالى أعلم.(4/345)
مسائل متفرقة(4/347)
مسألة
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد بيت المقدس وقد جُعِل فيه أئمة، كلّ منهم يصلّي في موضع منه، فهل إذا صلّى أحدٌ منهم في وقتِ صلاةِ الآخر هل يدخل في النهي فيُكْرَه له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة مكروه أم لا؟ وأيُّ الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تَبطُل صلاةُ الإمام الذي صلَّى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نُكرَه؟ وهل يصح قول من قال: إن كلَّ بُنْيةٍ فيه لما اختُصَّتْ بإمامٍ صارت كالمسجد المستقلّ؟
فأجاب الشيخ تقي الدين وقال:
الحمد لله، صلاة إمامين في وقتٍ واحدٍ في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريقُ الجماعات وتقليلُها، والسنةُ اتحاد الجماعة وكثرتُها، ولو كان مثلُ هذا مشروعًا لكان يُشرَعُ في صلاة الخوف أن يُصلًيَ بالناس عدَّةُ أئمة، لكن السنة جاءتْ بصلاتهم خلفَ إمامٍ واحدٍ، مع ما في ذلك من مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة، واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلامِ إمامِه،(4/349)
وتخلُّف الصفّ الثاني عن متابعة الإمام. فهذا كلُّه جاءت به السنة ليصلُّوا جميعًا خلفَ إمامٍ واحد.
والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتبٌ هل يُصلِّي فيه جماعةً من فاتته الجماعةُ، أو يُفرَّق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين المساجد العظام وغيرِها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتّب في المسجد إلاّ إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد ترتّب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يُصلّيَ واحدٌ بعد واحدٍ، ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلّى مع الثاني، ولأنّ إقامة جماعة بعد الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع الحاجة، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن فاتته الصلاة: "إلاّ رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه" (1) . ولأن أنس بن مالك أتى المسجدَ وقد صلَّى فيه الناسُ، فأقامَ الصلاةَ وصلَّى فيه جماعةً أخرى (2) .
فأما إمامةُ اثنين في وقتٍ واحدٍ في مسجدٍ واحدٍ فهذا لا يُعرَفُ أحدٌ من السلف فعله، وكلُّ ما كان أقربَ إلى السنة وأبعدَ عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي أحدثَ الصلاةَ مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يُصلّي وحدَه. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/5، 45، 64، 85) وأبو داود (574) والترمذي (220) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري.
(2) ذكره البخاري (2/131) تعليقًا. قال الحافظ في "الفتح": وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان، وأخرجه ابن أبي شيبة من طرقٍ عن الجعد.(4/350)
وسئل الشيخ -رحمة الله عليه-
عن رجل يشتري القمحَ في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى الجند الشِّرَى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيُمسِك يَدَه عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكرٌ أم لا؟ ولابدَّ أن يُرى في قلبه حبٌّ للغلاء، فهل يأثمُ بذلك أم لا؟ وهل تركُ ذلك خيرٌ أم لا؟
وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تُدرِكْه اللذة الكبرى والإنزال إلاّ بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟
أفتونا مأجورين.
فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال:
الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخَزْنه فتركُه خيرٌ من فعلِه، فإنه يُورِثُه محبته ارتفاعَ السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن مالاً جُمع من عموم المسلمين لمالُ سوءٍ. ولكن هذا عند طائفةٍ من العلماء إذا كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضرّ ذلك أهلَها لا يَحرُم، بخلاف ما إذا كان شراؤه وخَزْنه يضرّ أهلَ المكان، فإنّ هذا احتكار محرَّمٌ،(4/351)
كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَحتكِرُ إلاّ خاطئٌ". ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذَ بعموم هذا الحديث، وقولُه متوجِّه.
وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم يُنزِل حتى استيقظ، فخرج منه الماء بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزلَ في منامِه، لأن الماء خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المنيُّ بغير سعيٍ منه ولا عملٍ لم يُفطِر، كما لو ذَرَعَه القيءُ فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يُفطِر من استمنَى واستقاءَ. ولهذا لو غلبَه الفكرُ حتى أنزل لم يَفسُدْ صومُه باتفاق الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكرَ حتى أنزلَ، ففي فساد صومِه قولان للعلماء: أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقولُ الآخر من مذهب أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة.
وأما إذا كرّر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطرَ إلاّ أن يُنزِل بمباشرةٍ كالقُبلة ونحوها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) برقم (1605) عن معمر بن عبد الله.(4/352)
مسألة
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهمٍ أجمعين- في سورة الأنعام: هل أنزلتْ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملةً واحدة أم آياتٍ متفرقةً متتابعةً؟ وقد وُجد في كتاب "الوسيط في تفسير القرآن العظيم" (1) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُنزِلتْ عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً، وتَبعَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليَل". أفتونا مأجورين.
فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية
-رضي الله عنه وعن سائر العلماء-
الحمد لله. قد ذُكِر عن طائفةٍ من السلف أنها نزلتْ جملةً واحدةً (4) ، وذكره الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد
__________
(1) 2/250.
(2) في الوسيط: "أبو سعد".
(3) في الوسيط: "أبو عمرو".
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/126) .(4/353)
المذكور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضوع. وبكل حالٍ فلا تُقرأ في شهر رمضان إلاّ كما تُقرأ في غيرِه، لا تُقرأ جملةً واحدةً دون غيرها، كما يفعله بعض الناس يقرؤونها وحدَها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبّة باتفاق العلماء. والله أعلم.(4/354)
مسألة
ما تقول السادة العلماء في رجلٍ كسبَ جاريةً من ملطيةَ وباعَها، ثم اشترى بثمنها جارية، فتبيّن أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه الخمس أم لا؟
قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه-
بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسولُه أن يُصرفَ إلى مستحقّه. والله أعلم.
مسألة
ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشِه وفي خُرجة، وحمله سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبيّ، وإن كان القماش فوقها وتحتها.
مسألة
وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة مبتدعة، كما نصّ على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة.(4/355)
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-
عن قومٍ لهم عيونٌ ما عليها زروع، فجاء رجلٌ فحقَنَ الماءَ، وأحدثَ عليه سدًّا وطاحونًا، فتضرَّر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثَه؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إن كان قومٌ يستحقّون الانتفاعَ بتلك العين، وقد أُحدِثَ ما يُزِيل بعضَ المنفعة التي يستحقُّونها بغير إذنٍ منهم، فلهم إزالة ما أحدثَه من الضرر حتى يعودَ حقُّهم كما كان. والله أعلم.(4/356)
وسُئل -رحمه الله-
عن رجلٍ خَطَبَ ابنةَ رجلٍ فركَنَ إليه، ثمّ خَطَبها آخر، فرَغِبَ عن الأول وركَن إلى الثاني، فهل للثاني تزويجُها؟ وهل يكون ملعونًا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا كانت المرأةُ ووليُّها قد ردًّا الخاطبَ الأولَ وامتنعا من تزويجه جازَ لغيره أن يخطبها. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى أن يخطب الرجلُ على خِطبة أخيه (1) حتى ينكح أو يردّ، فمتى رُدَّ الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق العلماء. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (5142) ومسلم (1412) عن ابن عمر.(4/357)
مسألة
السؤال محرَّمٌ إلاّ عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويُمكِنه السؤال جاز له أكلُ الميتةِ، ولو ماتَ ماتَ عاصيًا، ولو ترك السؤالَ فماتَ لم يَمُتْ عاصيًا.
والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدًّا نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن، وفي سؤال الناس مفاسدُ الذّلّ والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذل لغير الله عزّ وجل، وظلمٌ في حقّ ربّه بالشرك به، وظلمٌ للخلق يسؤالهم أموالَهم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن عباس: "إذا سالتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله" (1) .
مسألة
لا يحرم على الرجل النظرُ إلى شيء من بدنِ امرأتِه ولا لمسُه، لكن قيل: يُكرَه النظرُ إلى الفرج، وقيل: لا يُكره إلاّ عند الوطء.
والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/293، 353، 307) والترمذي (2516) عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد تكلم على الحديث وشرحه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/459 وما بعدها) .(4/358)
مسألة
في المسافر إذا نَزَل في موضع وهو يَعلم أنه يُقيم فيه عشرَ ليالٍ أو أكثر، فهل يجوز له أن يقصر ويجمع أو يُتمُّ؟
الجواب
السنة للمسافر أن يقصر الصلاةَ ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، والجمع إذا احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلاً فالسنّةُ أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلاّ احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يُقِيم فإنه يقصر أبدًا، وإن عَلِمَ أنه يُقيم خمسًا أو عشراً أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضًا. والله أعلم.(4/359)
مسألة
قال المجد في الوديعة (1) : وإذا قال: أذنتُ في دفعها إلى فلان وقد فعلتُ قُبِل قوله فيهما.
وقال في الوكالة (2) : ومن وكّل في قضاء دَينٍ، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن. وعنه لا يضمن، كالوكيل في الإيداع.
وقال في الضمان (3) : وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوعَ له، فإن صدَّقه ربُّ الحق وحده فوجهان، وإن صدّقه المديون وحدَه رجع عليه إن قضى بحضرته أو بإشهاد، وإلاّ فلا.
وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته.
فمتى أمر رجل بدفع ألفٍ إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله.
__________
(1) "المحرر" (1/364) .
(2) المصدر نفسه (1/350) .
(3) المصدر نفسه (1/340) .(4/360)
قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه، فثبت أنه أراد في حق الأمر.
قلت: هذا صريح في الرواية الأولى.
وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالاً فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمِر إلاّ ببينة.
قلت: وهذا يوافق الثانيةَ أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يُقبَل قولُه في ذلك إلاّ ببينة أنه فعل، فلو صدَّقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخِرقي، فيكون الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر.
قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدَّقه في القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد.
وقال الشيخ أبو محمد (2) : وإن وكّله في إيداع ماله فأودعَه ولم يُشْهِد، فقال أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع.
__________
(1) في "مختصره" (ص61) .
(2) أي ابن قدامة في "المغني" (7/225) .(4/361)
قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يُقبَل قوله على الآمر، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلاّ بالبينة، فهي كالدين. وقال أصحابنا: لا يصحّ القياسُ على الدَّين، لأنّ قول المودَع يُقبل في الردّ والهلاك، فلا فائدةَ هنا في الاستيثاق، بخلاف الدَّين. فإن قال الوكيل: دفعتُ المالَ إلى المودَع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في تصرُّفه فيما وُكِّلَ فيه، فكان القول قوله فيه.
قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الردّ إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان.
وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكَّله في قضاء دَين، فقضاه في غيبة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل.
قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي.
وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني.
قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يُناقِض ما اختاره في كتاب الرهن. وصرَّح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين.(4/362)
وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتَني أن أدفَعها إلى فلان وقد دفعتُها إليه، فقال المالك: ما أمرتُك، فالقول قول المودع، نمن عليه.
قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يُقبل قولُه في ذلك، وهو ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قولُه في الدفع، إلاّ الأوزاعي، فإنه قال: لا يُقبَل قوله بدون بينة، ويضمن.
قلت: هذا الذي محلُّ وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان. وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدَّين.
وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعيّن المودع، بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يُقبل قولُه عليه في الإذن في الدفع من غير إشهاد، فهذا أبلغ من قبول قوله في مجرّد الدفع. وقوله "ادفعها إلى فلان" يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي،(4/363)
لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يُقْبَل قولُه هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل ولا في الدفع أيضًا.
وأما مسألة الضمان فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامنُ قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضموِن له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالبَ المضمونَ عنه فأخذ منه لم يكن للضامن الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم يوجد.
وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنُه له مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق، اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذّبه حلفَ لا يعلم أنه قضى عنه.
ثم وجدتُ القاضيَ قد ذكر في "التعليق" مثل ما ذكرتُه، وأن قول الخرقي هو في الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدّقه لم يضمن، فقال في مسألة: إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردّها قُبِل منه، نصَّ عليه في رواية ابن منصور، وذُكِرَ له قولُ سفيان في رجل استودعَ رجلاً ألف درهم، فجاءه فقال: ادفعْ إليَّ دراهمي، قال: قد دفعتُها إليك يُصدَّق. فإن قال: أمرتَني أن أدفعَها(4/364)
إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يُصدَّق. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يُقبَل منه إلاّ ببينة.
وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلتُ لأبي عبد الله: إذا كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يُقبَل منه حتى يُقيم بينة.
وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم، والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه والدفع إلى فلان. وقول أحمد "يصدَّق" قد يقال: إنه لا ينافي قول من يضمن لتفريطه لا لكذبه.
ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظِّه، فيجب أن يكون القول قوله في الردّ. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردّها دليلُه إذا قبض بغير بينة.
قلت: الأول كلامٌ مرسلٌ لا أصل له يَشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من غير إلغاء الفارق.
قال: ولا يلزم على هذا: المرتهنُ إذا ادَّعى ردَّ الرهنِ أنه لا يُقبَل قولُه وإن كان أمانة، لأن ممسكٌ للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادَّعى الرّدّ لم يُقبَل منه، نصّ عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقرّ بالوديعة وادّعى الردّ قُبِل منه.
ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى(4/365)
رجل، فدَفَعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نصّ عليه في رواية ابن منصور في المسألة التي قبلها.
قلت: نصّ أحمد أن يُصدَّق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضًا.
قال: وقال أيضًا في رجل أمرَ رجلاً أن يدفع إلى رجلٍ ألف درهم، فدَفَعها، وأنكر المدفوع له أنه قبضَها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالكٌ والشافعي: لا يُقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصيّ إذا ادّعى دفعَ المال إلى اليتيم بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يُقبل قولُه إلاّ ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا.
إلى أن قال: واحتجّ المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها
على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يُمكنُ المالكَ أن يقيمَ عليه بينة، ولا يقبل الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطًا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه.
قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعدَّ، لا أنه غير مقبول القول كما تقدم، وهذا خلاف ما صدّر به المسألة.(4/366)
ثم قال: احتجّ بأنه ادّعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ادّعى تسليمها إلى أجنبي. والواجبُ أن الأجنبي لو صدَّقَه صاحبُ الوديعة أنه سلّم إليه ضمن كذلك إذا لم يصدِّقه.
وفي مسألتنا لو صدَّقه أنه سلّم إليه لم يضمن إذا ادّعى التسليم، وله فيه حق. وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطًا بترك الإشهاد عندنا في الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يُترك في الظاهر بخلاف المشهود به.
قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر أبو محمد في "المغنى" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن يقال: إذا وكَّله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير تفريط.
أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاءِ الضمانُ دُونَ الإذن، لا سيّما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن غيره واجبًا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع وإيجابه فالمتصرف عن غيرِه بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر(4/367)
عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعَه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرَّف بحكم المصلحة كالولي. وأيضًا من يُريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء. وبهذا يظهر الوجه المذكور فيما إذا كان الوفاء بحضرتِه في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن الموكِّل، فسكوتُه رِضىً بذلك، والضامن يُوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين.
فصل
الذي يُكْرَه من شِرَى الأرضِ الخراجية إنما كان لأن المشتريَ يشتريها فيدفع الخراج عنها، وذلك إسقاطٌ لحقّ المسلمين، كما كانوا أحيانًا يُقطِعون بعضَها لبعضِ المجاهدين إقطاعَ تمليك لا إقطاعَ استغلالٍ، كإقطاع المَوَات، فهذا الابتياع والإقطاع يُسقِط حق المسلمين من الرقبة والَمنفعة.
والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعةً دائمة للمسلمين، فإذا قُطِعتْ منفعتُه عن المسلمين صارَ ظلمًا لهم، بمنزلة من غَصب طريقَ المسلمين وبَنَى في منى ونحوِها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاّه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثَها، فإن الإرثَ(4/368)
مُجمع عليه أن الوارثَ أحقُّ بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءَها لمن أُعطِيَتْه بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبَّدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات.
فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شَبَه من البيع دون الإجارة، ويشبه في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقًا ولم يستأجرها، وأما ملك هذه المنفعة مؤبدة.
وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضًا، لأنها للمسلمين إذ فُتِحَتْ عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كَرِى الأرضِ يُساوِي أضعافَ الخراج، ولكان على المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل والأعناب وغيرها، كمن استأجَر أرضًا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعةً كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفعَ للمسلمين اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر، فإنه لا فرقَ إلاّ أن مُلاَّك خيبر معيّنون وملاّك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلاّ فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لربّ الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة.(4/369)
وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضًا، ولا بيع يكون بثمن مؤبَّد إلى يوم القيامة، فالتخريج أصل دلَّت عليه السنَّة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "منعتِ العراقُ قفيزَها ودرهمَها، ومنعت الشامُ مُدْيَها ودينارَها، ومنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارها" (1) .
واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (2) ، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها.
وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمّي من الذمّي الأول بالخراج، وعاوضَه في ذلك عوضًا، لم يكن في ذلك ضررٌ أصلاً، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفًا، بل مستحقّ أهل الوقف باقٍ كما كان. وبيع الوقف إنما مُنِع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتُكَ هذه بما على من الخراج وبالزيادة التي تُعجِّلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبةُ مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سُمِّيت بيعًا أو إجازةً. ولهذا جوَّز أحمد -رحمه الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون ثمنًا وأجرةً، وما كان ثمنًا كان مثمنًا، فهذا ينبغي تأملُّه.
__________
(1) أخرجه مسلم (2896) عن أبي هريرة.
(2) سورة الحشر: 7.(4/370)
يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصَّغار، ولما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة، فهو مانعٌ آخر غير كونه وقفًا يختلف باختلاف المصالح والأوقات، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَ اليهودَ على خيبرَ لقلّة المسلمين، فلما كثُر المسلمون أجلاهم عمرُ بأمر النبي- - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفعَ لهم من أن يَبقَوا فقراءَ محاويجَ، والكفّار يستغلُّون الأرضَ بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمنَ عمر قليلاً وأهل الذمة كثيرًا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملَهم على خيبر، ثم عَمرها المسلمون لفا كثُر المسلمون وتضرَّروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرّروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمّي ويقوم مقامَه فيها، فإن كان المؤدَّى أجرةً فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنًا فهو أحق باشترائها، وإن كان عوضًا ثالثاً فهو أحق به أيضًا.
ومتى كثُر المسلمون لم يبقَ صَغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده مؤديًا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعَها إلى مسلم غيره بعوضٍ أو غيرِه؟(4/371)
والمسلم لا صَغارَ عليه بحالٍ، فلو كان المانع كونها صغارًا لم يجامع الإسلام لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرقّ يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن الرقّ قَهَرْناهم عليه بغير اختيارهم لم نُعاوضْهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا نمكِّنهم من المُقَام بالأرض الإسلامية إلاّ بهما، فهي نوع من الرقّ، لثبوتها بغير اختيار المسترقّ.
وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها أهلَ خيبر، سواء كان هناك العوض جزءًا من الزرع وهُنا العوض مسمى معلوم، وهناك لا يستحقّ شيئا إلاّ إذا زرعوا، وهنا يستحقّ إذا أمكنهم الزرعُ. فنظيرُه أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقلّ من الجزء الذي استخرج، وأن المضارب يدفع المال مضاربةً، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق.
وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر فيها العاقبة، أما جهة الوقف يتوجه كونها مانعًا على أصول الشريعة أبدًا، وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عُشْرِيّها وخراجيّها، وذلك شيء آخر. ونظير هذا الغلط ما علَّلوا به أرضَ مكة.(4/372)
فصل
ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريبَ فُتحتْ عنوةً، ومن قال: إنها فُتحت صلحًا فاستقرَّ ملكُ أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرة من المنقولات.
وأيضًا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمامُ قومًا من المشركين بغير جزية ولا خَرَاجٍ لم يَجزْ إلاّ لحاجة، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامَ الحديبية. أما إذا فُتِحت الأرض فتحَ صلحٍ وأهلُها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارُهم بغير جزية بإجماع المسلمين.
وأيضًا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في العام المقبل لما حجَّ أبو بكر لمن لم يُسلِم منهم أجلَ أربعة أشهر، وإلاّ جعلَه محاربًا يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحًا لم يجز ذلك.
وأيضًا فإنه قد استباح قتلَ جماعةٍ سماهم، لكن فتحها عنوةً وأمَّنَ من تركَ القتالَ منهم على نفسه وماله إلاّ نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قَبلَه فانعقدَ له، ومنهم من لم يقبل فحاربَ أو هَرَب، والأمان لا يثَبت إلاّ بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتالَ فلم يؤمِّنْه بحالٍ، لكن خصَّ وأمَّ في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن دخل المسجدَ فهو آمن، ومن دخلَ دارَه فهو آمن، ومن ألقى(4/373)
السلاحَ فهو آمن، ومن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من استسلمَ فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سمَّاهم الطُلَقاء، كأنهم أسرَهم ثمَّ أطلقَهم كلَّهم.
فقالت الحنفية: لما فَتَحها عَنْوةً ولم يَقْسِمْها، بل أقرَّها في يد أهلِها، صار هذا أصلاً في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعُها وإجارتُها، لكونها فُتِحتْ عنوةً ولم تُقسَم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم.
وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعِها، فقد عُلِمَ بالنقل المتواتر فسادُ قوله مع إجرائِه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوهٍ:
أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتُها بالإجماع، وبيوت مكة أحسنُ ما فيها أنه لا يجوز إجارتُها، بل يجوز بذلُها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدكُ عليه الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوةً لما منع إجارتها.
الثاني: أن أرض العنوة إنما تُمنَع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يُمنَع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق.(4/374)
الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدًا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعَها أو إجارتَها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟
الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إعادتَها إليهم فلم يَفْعَل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعُرِف صاحبُها قبل القسمة= أعيدت إليه.
الخامس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أَجرَى عليها أحكامَ غيرِها من العنوة لغنمَ المنقول والذرية.
بل الصواب أن المانع من إجارتها كونُها أرضَ المشاعر التي يَشتركُ في استحقاق الانتفاع بها جميعُ المسلمين، كما قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1) ، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبقَ إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصةَ مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا في رباطٍ أو مدرسةٍ أو نحو ذلك له اختصاصٌ بسُكناه وليس له المعاوضة عليه، أو من يبني بيتًا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة
__________
(1) سورة الحج: 25.(4/375)
المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك.
فإذا قال: البناءُ لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو لك فقد اعتضتَ عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة.
أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قَسْمُها فيهم صارَ يجب على المكيين إنزال الناس في منازِلهم، مقابلةَ الإحسان بالإحسان. فصاحب الهَدْي له أن يأكلَ منه مثلاً حيث يجوز، ويُعطي من شاء ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يَسْكُنُه ويُسْكِنُه ولا يعتاضُ عنه.
وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيدِ أربابها من غيرِ خراجٍ مضروب عليهم أصلاً، لأن للمقيمين بمكة حقًّا وعليهم حقًّا وليست لغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوةً متناسبًا لمنع إجارتها كما ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة.
فإن قيل: فالأرض إذا فُتِحتْ عنوةً يجوز أمانُ أهلِها على نفوسهم وأموالِهم كذلك؟
قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤَمَّن من تركَ القتالَ على نفسه ومالِه، لما فيه من الانتفاع بتركِ قتالِه، وهو أمان بشرط.(4/376)
بل إذا جوزنا المنَّ على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكمٍ فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عَصَمَ نفسَه ومالَه، لأنه لم يتمّ القهر.
فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلَها قهرًا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي أدحضتْ كلاًّ من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمنّ على المقهورين ويدفع إليهم الأرض مُخارجةً. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثمّ أمَّنَهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمنّ، ولهذا سمَّاهم الطُلقاء. وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله أعلم.(4/377)
مسألة
أيُّهما أولَى: معالجةُ ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغِل والكِبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختصّ بالقلب، من دَرَنِه وخَبَثِه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين.
جوابُ
شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تقرَبَ إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه"، ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه" (1) .
والأعمال الظاهرة لا تكون صالحةً مقبولةً إلاّ بتوسطِ عملِ القلب، فإن القلب مَلِكٌ والأعضاءُ جنودُه، فإذا خبثَ الملكُ خبث جنودُه. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلاّ وإن في الجسد مُضْغَةً إذا
__________
(1) أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة.(4/378)
صَلَحتْ صَلَح لها الجسدُ كلّه، وإذا فَسَدَتْ فَسدَ لها الجسدُ كلّه، إلاّ وهي القلب" (1) .
وكذلك أعمال القلب لابُد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو الأوجب سُمي باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يُسمَى باطنًا أوجبَ، مثل تركِ الحسد والكبرياء، فإنه أوجبُ عليه من نوافلِ الصيام. وقد يكون ما سُميَ ظاهرًا أفضل، مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد تركِ بعضِ الخواطر التي تَخْطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها. وكل واحدٍ من عمل الباطن والظاهر يَعنِي الآخر، والصلاةُ تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُورِث الخضوعَ ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي أفضل الأعمال، والصدقةُ. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير.(4/379)
مسألة
ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهمِ أجمعين - في مدينة لا يُذبَحُ فيها شاة إلاّ ويأخذ المكّاسُ سقطها ورأسَها وأكارعَها مَسْكًا، ثم يضع ذلك ويبيعُه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكلِه من أهل الذمة وغيرها، وليس يُباعُ في المدينة رءوسٌ وأكارعُ وأسقاطٌ إلاّ على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك. فهل يَحْرُم شراءُ ذلك وأكلُه والحالةُ هذه أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمُها حكم ما يأخذها الملوكُ من الكُلَفِ التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تُؤخذ من أموال أصحاب الغنم التي يبيعونَها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخَذ من المشتري فهي في الحقيقة من مالِ البائع.
وهذه الكُلَفُ دخَلَها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذَّرَ معرفةُ أصحابه وردها إليهم، فوجبَ صرفُه في مصالح(4/380)
المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحضَ الذي لا تأويلَ فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقالَ: إنه فعلَ محرَّمًا يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس وإفسادٌ بالأموال من غير منفعةٍ تعودُ على المظلوم، والمظلومُ له أن يطالب ظالمَه بالثمن الذي قبضَه إن شاءَ أو بنظيرِ مالِه.
والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يُحكَم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يُقال: إنه فَعَلَ محرَّمًا لا تأويل فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتَوا طائفة من الملوك بجواز وضعِ أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" (1) ، وكما ذكر بعضُ الحنفية. وما قُبض بتأويل فإنه يَسُوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضَه، وإن كان يعتقدَ المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باعَ خمرًا وأخذَ ثمنَها، جاز للمسلم أن يعامِلَه في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "وَلُوهم بيعَها وخُذوا أثمانَها" وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2) ، وهو مذهب الأئمة.
__________
(1) ص 283.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9886، 10044) عن سويد بن غفلة، والبيهقي في السنن الكبرى (9/205- 206) عن ابن عباس، كلاهما عن عمر.(4/381)
وهكذا مَن عمل معاملةً يعتقد جوازَها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن يشتريَ منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يَرى جواز تلك المعاملة، فإذا قُدّر أن الوظائف يدفعها من يَعتقِد جوازها لإفتاء بعض الناسِ له بذلك، أو لاعتقادِه أن أخذَ هذا المال وصَرْفَه في الجهاد وغيرِه من المصالح جائزٌ، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جوازَ أصل هذا القبض.
وعلى هذا فمن اعتقدَ أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ما فعلوه، وإن كان هو لا يُجوز ما فعلوه، مثل أن يَقبض ولي الأمر عن الزكاة قيمتها فيشتري منه، أو مثلَ أن يُصادر بعضَ المالِ مصادرةً يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من المال الذي يجوز أخذُه وصرفُه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد.
وإن كان قبضَ ولي الأمر المالَ على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمرَه بقبضه، وإن كان المشتري لا يُسَوِع قبضه. والمشتري لا يَظلم صاحبَه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يتعقد جوازه، وما كان على هذا الوجه فشراؤه حلالٌ على أصحّ القولين، وليس من الشبهات.
فإنه إذا جاز أن يُشتَرَى من الكفار ما قبضوه بعقودٍ يعتقدون جوازَها وإن كانت محرمةً في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يُشتَرى من المسلم ما قبضَه بعقدٍ يعتقد جوازَه- وإن كنا نراه محرمًا- بطريق الأولى والأحرى،(4/382)
فإن الكافر تأويلُه المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم. ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالاً يعتقدون جوازها، كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (1) . فأمرهم بترك ما بقي في الذمَم، ولا يحرِّم عليهم ما قبضوه.
وهكذا من كان قد عامل معاملاتٍ دنيوية يعتقد جوازها، ثمّ تبيّن له أنها لا لَجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه قبضُه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة البقرة: 278.(4/383)
مسألة
في الحلاّج، هل قَتَلَه الشرعُ مظلومًا؟ وهل كان قتلُه بحكم الشرع أم لا؟ وهل إذا قال قائل: إنه قُتِلَ مظلومًا وإن الذي قاله الحلاّج حق- فهل هو مصيب أم مخطئ؟ أفتونا مأجورين.
جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
بل قُتِل ظالمًا غيرَ مظلوم، وقُتِل على الزندقة التي تُعرِّف حالَه، وإن الذي قالَه كفرًا باطنًا وظاهرًا يُوجبُ قتلَه باتفاقِ أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإنْ أصرَّ على خلافَِ ذلك عُوقِبَ عقوبةً مُردعة. ولا ينتصر للحلّاج إلاّ جاهل بحالِه أو منافق عدوّ لله ورسوله. والله أعلم.
وأخبار الحلاّج مذكورةٌ في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج ابن الجوزي (2) وسبطِه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلَمي (3) أن جمهور المشايخ أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرًا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) في "تاريخ بغداد" (8/112- 141) .
(2) في "المنتظم" (6/160- 164) .
(3) في "طبقات الصوفية" (ص 307- 308) .(4/384)
مسألة
في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هديةٌ مني للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاجٌ إلينا حتى نُصَلِّيَ عليه أو نُسلَمَ عليه؟
الجواب
لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلُّون ويصومون ويقرأون ويُهدُون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ,وكذلك لم يكونوا يتصدَّقون عنه ويعتقون عنه وإن فعلوا ذلك، لأن كلَّ ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غيرِ أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، لما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من دعَا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل أجور من تَبعَه، مِن غير أن يَنقُص في لك من أجورِهم شيئًا". بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعلُه الولدُ يكون لوالِده مثلُه، وإن كان الأب ينتفع بعملِ ولدِه.
__________
(1) مسلم (2674) عن أبي هريرة.(4/385)
وأما صلاتُنا عليه وسلامنا عليه وطَلَبُنا له الوسيلةَ فهذا دعاءٌ فيه لنا، يهحيْبُنا الله عليه، ويُستَحبُّ هذا الدعاء في حقّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيزيدُه الله به من فضلِه ويثيب عليه الداعي، ولا منَّةَ له عليه، بل لله المنَّةُ عليه، وسائرُ الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعثَ الله تعالى به نبيَّها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله أعلم.(4/386)
رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه(4/387)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
.......... أهدابُ الجَفْن التحتاني، والتفرقة الملكية في العُلْوِيَّات أهدابُ الجَفْنِ الفوقاني، والنفسُ الكلّيةُ سوادُها، والروح الأعظم بياضُها، والله تعالى نورُها. وإنما قلنا: إنّ العُلْوِياتِ والسفْلِيّاتِ أجفانُ العين، لأنهما يُحافظان على ظهور النُّور، فلو قُطِعَتْ أجفانُ عينِ الإنسان لتفرق نورُ عينه وانتشرَ، بحيث لا يَرى شيئًا أصلاً، فكذلك العُلْوِيَّات والسفليات لو ارتفعتْ لانْبَسَط، بحيث لا يظهر فيه شيءٌ أصلاً ورأسا. ونَعنِي بعينِ اللهِ ما يَتعيَّنُ الله فيه. هذا هو الحق الصريح المتبع، لا كما يرى المنحرفُ عن منهاج الإسلام ودِينه، المتحيِّر في مبدأ ضلالتِه وجهلِه.
فنقول: هذا الكلام لولا أني علمتُ مقصودَ الشيخِ به وأنه عنده كلامٌ عظيمٌ فيه كشفُ حقيقةِ الأمر، وأن مقصودَ الشيخ إنما هو المعرفةُ والهداية، لكُنا نُقابلُه بما يستحقُّه، على حدِّ ما توجبُه الشريعةُ على من قامت عليَه الحجة، لكنّ الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (1) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله" (2) ، وقال: "إن الله رفيقٌ يُحِب الرفق، ويُعطي
__________
(1) سورة الإسراء: 15.
(2) أخرجه البخاري (6927) ومسلم (2165) عن عائشة.(4/389)
على الرفق ما لا يُعطي على العنف " (1) ، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلاّ زانَه، ولا كان العنف في شىء إلاّ شانَه" (2) . وقد قال لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) (3) .
فهذا الكلام وأمثالُه الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخزُ الجبال هدًّا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، إذا صَدَرَ من قومٍ يظنّون ويظنّ بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضبٍ لله، وسلطان حجهٍ، وقدرة يدفع بها شَتْمَ الله وسَبَّه والكُفْرَ به؛ ورفقٍ ولينٍ يُوصِل به إلى المخاطبين حقيقةَ البيان. والرفقُ في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في الجهاد، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ الله كتبَ الإحسان على [كلّ] شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحةَ" (4) .
فلابدّ من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، وكذلك دفعُ الكفرِ والفريةِ على الله والإلحادِ في
__________
(1) أخرجه أحمد (4/87) والبخاري في "الأدب المفرد" (472) وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل. وفي الباب عن عليّ أخرجه أحمد (1/ 112) ، وعن أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (3688) .
(2) أخرجه مسلم (2594) عن عائشة.
(3) سورة طه: 44.
(4) أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس.(4/390)
أسمائه وآياتِه وجحودِ ذاتِه وصفاتِه، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلاّ بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1) ، وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (2) . فمن ظلم وظَهرَ عنادُه عُوقِبَ حينئذ عقوبة مثله، بالقتل المشروع إن إستحقَّ ذلك، وإلاّ فيما دونَه على حسب الأفعال والأحوال وما يتعلق بذلك.
ولا شكَّ أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خَلَّطوا في هذا الباب تخليطًا عظيمًا، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جَرَّد الإلحاد تجريدًا، فيغترُ بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهدايةِ والحق الصريح، فإذا وضحَ الحقُّ الذي أنزلَ الله به كتبه وبعثَ به رُسُلَه، قامت الحجةُ على من بلغه ذلك. فمن خرج عنه حينئذٍ استوجبَ ما أمر الله به في مثله.
وعلمتُ أن الشيخ لما وقفَ على الذي كتبَه إليَ الشيخ نصرٌ في الاتحادية، ظنَ مَن ظنَ أنه قد يَرُدُّ عليهم مَن لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخُ أن يُبيِّن ذلك، ولم يَعلَم أن مثلَ هذا الكلام وأمثالَه قد صار مَضْحَكة عند الصبيان ومُكفِّرةً عند ذوي العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يَعلَمْه غيرُهم، وهم أعرف بمذهب كلِّ واحدٍ من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسِه. فإن الواحدَ من
__________
(1) سورة النحل: 12.
(2) سورة العنكبوت: 46.(4/391)
هؤلاء يتناقض في كلامِه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل والدين.
ولا ريبَ أن الشيخَ إنما استمدَّ هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن حمويه، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ خطأ شيخك فاجلس إلى غيرِه. وقد كان من الواجب على من خاطَبَنا في هذا المقام أن يتأمَّلَ مع كلام سعد الدين كلامَ ابن العربي في "الفصوص" وفي كتاب "الهُو" و"الجَلالة"، وفي مواضعَ من "الفتوحات" وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلامَ القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛ ويتأمَّلَ كلامَ ابن سَبعين في "البُدّ" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلامَ التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمَّلَ آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم السلوك"، مثل قوله: (1)
لها صَلَواتي بالمقامِ أُقِيمُها وأشهدُ فيها أنها ليَ صفَتِ
كلانا مُصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ
وما كان لي صلَّى سِوايَ ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي
ومثل قول ابن إسرائيل (2) :
__________
(1) ديوانه: (ص 34) .
(2) هو محمد بن سوار بن إسرائيل، نجم الدين الشيباني الدمشقي، شاعر حذا في بعض شعره حذوَ ابن الفارض. توفي سنة 677. له "ديوان شعر" مخطوط. ترجمته في "فوات الوفيات" (3/383 وما بعدها) ، وهذا البيت فيه (3/384) .(4/392)
وما أنتَ غير الكون بل أنتَ عينُه ويَفهمُ هذا السر من هو ذائقُ
وقوله:
وقلقل أن مزَتْ على جَسدِي يَدي لأنيَ في التحقيقِ لستُ سِواكُمُ
إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات.
ثمَّ يتأمَّل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاهُ اليهود والنصارى والمشركون، أم هو شرٌّ من مقالات هؤلاء؟ ويَعرِض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزلَه من السماء وسنةِ رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليهَ أهل العلم والإيمان، فإن ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثمّ بعد هذا يتكلم.
ونحن فلم نكن أدخلنا سعدَ الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحبَ الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجلِّ شيوخ تلك البلاد وأصحِّهم إسلامًا وأبعدِهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ منه طريقة صحيحةً، لكنّه أيضًا مَزَجَها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد الدين أربعة:
عمه صدر الدين، وإليه تنسب خِرقتُه، فإن بني حمويه بيتٌ قديم معروف بالمشيخة والتصوف.
والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرًا وأصحّهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي لالا، والشيخ سيف الدين(4/393)
الباجوري وغيرهم.
والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضًا من أجِلاَّءِ المشايخ، وأكثرِهم حِرصًا على متابعة السنة في أعمالِهم.
وأما الرابع فهو الملقَّب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في كلام سعد الدين الاتحادُ.
وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّا، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله. مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين.
وحدَّثني هذا الشيخ عن شيخه عزّ الدين الطاوسي أنه سمعَ الشيخ سعد الدين- وقد سئِل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ساحلَ له، ولكن نور متابعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جبين الشيخ شهاب الدين شيء آخر.
وهدْا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محبّ لسنةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشريعتِه، سالك طريقةَ أمثالِه من المشايخ أهلِ المعرفة والدين، عظيمُ القدر في وقتِه، رضي الله عنه.(4/394)
وأما قوله عن ابن العربي: "بحرٌ لا ساحلَ له" فلعَمري إنه بحرٌ، لكن مِلحٌ أُجاجٌ، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر على الكلام، وهو في باطلِه أشدُّ تمكُّنًا من الشيخ شهاب الدين في حقّه، فلهذا جعله سعد الدين أوسعَ، وإن كان شهاب الدين أقومَ، لكن الشيخ شهاب الدين من خيار أمة محمد، وإن كان غيرُه من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعثَ الله به رسولَه، وما اشتمل عليه من أسماء الله وصفاتِه، التي بها يقتدرون على قَمْع هؤلاء الملاحدة ودَفْع الجهمية وضروبهم؛ أرفعُ درجةً، وأعظمُ عَلمًا وإيمانًا، وأعظمُ جَهادًا ممن ليس مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهلُ المعرفة والسنة المحمدية ممن خَرَج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضَعُفَ إيمانُهم وجهادُهم عن مقاومة جنكسخان ونحوه، بخلاف المؤيَّدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع قائمة.
فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(4/395)
وأما صاحبُه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والباطلِ شيء كثير جدا. وتكلم في الحروفَ والدوائر بكلامٍ انفرد به، لا يُشبه كلام أبي الحسن الحَرَالّي ولا كلام أبي العباس البُوني، وهو كلام فيه أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولُها عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا.
وإذ قد ابتدأ الشيخُ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحنُ نذكرُ ما تبيّن به حقيقتُه. أوّل ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟
ثمّ إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمنٍ بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنةِ؟) ألم يَسمع الله يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (1) ، ألم يسمع الله
__________
(1) سورة النساء: 171.(4/396)
يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1) .
ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه:
الأول
قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيءَ معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يُؤثَر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذِكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترفَ بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان الله ولا شيءَ معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه كان".
وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجعلون هذه الكلمة أُسَّ زندقتهم، وغرضُهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سِوى، بل الوجودُ هو عينُه ونفسُه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيرُه، وهو الآن ليس معه غيرُه.
__________
(1) سورة الأعراف: 33.
(2) أخرجه البخاري (3191، 7418) بلفظين آخرين عن عمران بن حصين.
وهذا اللفظ في غير رواية البخاري، انظر "الفتح" (6/289) .(4/397)
فإذا عُرِف أن هذه الكلمة لا أصلَ لها في الشريعة انهدمتْ قاعدتُهم. ولفظُ الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفدُ بني تميم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، فقالوا: بشَّرتَنا فأعطِنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألكَ عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولا شيءَ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذكر كلَّ شيء". قال: وجاء رجل فقال: أَدرِكْ ناقتك، فخرجتُ فإذا السراب ينقطع دونها، فودِدتُ أني كنتُ تركتُها ولم أَقُمْ.
والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوِز أن نجعلَ مع الله إلهًا آخر، فقال تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)) (2) ، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)) (3) ، وقال: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (4) . لم يَقُلْ: لا تجعل مع الله مخلوقًا ولا مصنوعًا، أو لا تجعل مع الله عبدًا ولا مملوكًا، أو لا تجعل مع الله عبادًا له مخلصين، بل صرَّح بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا، فقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (5) ، وقال
__________
(1) برقم (7418) .
(2) سورة الإسراء: 22.
(3) سورة الإسراء: 39.
(4) سورة الحجر: 96.
(5) سورة المجادلة: 7.(4/398)
لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1) ، وقال: (إنا معكم مستمعون (15)) (2) ، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40)) (3) ،َ وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (4) ، وقال: (واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5) .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل، اللهمَّ اصحَبْنا في سفرنا واخْلُفنا في أهلِنا" (6) . وقال "أفضلُ الإيمان أن تعلمَ أنّ الله معك حيثما كنتَ" (7) . وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8) .
فإذا كان ما ثمَّ غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (9) يقتضي أنه ثمَ شيء غيرُه، شيء لا يجوز أن نجعلَه إلهًا، ولكن يجوز أن نجعله غيرَ إله عبدًا ومملوكًا.
__________
(1) سورة طه: 46.
(2) سورة الشعراء: 15.
(3) سورة التوبة: 40.
(4) سورة النحل: 128.
(5) سورة الأنفال: 46.
(6) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.
(7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/124) من حديث عبادة بن الصامت، وضعّفه الألباني في "الضعيفة" (2589) .
(8) لم أجده.
(9) سورة الإسراء: 39.(4/399)
وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلهًا فما جعلتَ معه إلهًا، إذ ما ثَمَّ غيرُه، فيجوز عندهم أن يُجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلهًا، إذ ما ثمّ معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرَّح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن الحكمة النوحية: (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنّه ما عُدِم في البداية، فيُدعَى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبودٍ وجها، يَعرِفه من عرفَه ويَجهله من جَهله. كما قال في المحمديين: (*وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (3) ، وما قضَى الله بشيء إلاّ وقعَ. فالعارف يعرف من عبد، وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود.
ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عُباد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله، وإنه لا يتصور أن يُعبَد إلاّ الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) ؟ وكيف يتصوَّر عنده أن يُنهَى أحدٌ عن أن يَجعل مع
__________
(1) سورة نوح: 22.
(2) سورة نوح: 23.
(3) سورة الإسراء: 23.(4/400)
الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم هو الله، وليس هو غيره!
الوجه الثاني
قوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه، وأن المعلومات بأَسْرِها كانت منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها".
هذا الكلام مضمونُه أنّ الله كان عالمًا بالأشياء قبلَ كوبها، وهذا صحيح، لكنّ العبارة فيها طولٌ، وفيها ألفاظٌ مُوهِمة، مثل قوله: "بما يصدر منه "، فإن هذا يُوهِم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدرَ منه وفاض عنه. فلو قيل: "عالم بنفسه وبما يخلقُه وبما يُريد أن يخلقه" كان ذلك من عبارات المسلمين التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: "كان رائيًا لنفسه" كان ذلك مطابقًا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء.
وأما لفظ التجلّي فإنه لا يكاد يُستعمل إلاّ في ظهور الشيء بعد خفائِه، كما قال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)) (1) ، وكما قال: (فَلَما تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (2) ونحو ذلك. فيُشعِر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم
__________
(1) سورة الشمس: 3.
(2) سورة الأعراف: 143.(4/401)
يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يَقصِد ذلك، ولكن بتعمُّقِه في العبارات وخروجِه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق.
وأما قوله "كانت بأسْرِها منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها"، فهنا كلامان:
أحدهما: أن هذا يقتضي أنه كان يرى المعدوماتِ قبل وجودِها. وهذه مسألةٌ قد تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودِها فهو حقّ، لم يخالف به إلاّ شرذمة كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سَمْعُ المعدوم ورؤية المعدوم فذهب أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب، ليس هذا مما يُخاطَب فيه هؤلاء الاتحادية، فإنّ هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة أو اليهود أو النصارى كان خيرًا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام إلاّ مع ظهور دولة التتار. لكن كان حقّ القائل أن يذكر حجة تَدُكُ على أن المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى مجرَّدة.
الكلام الثاني: أن يُعلَم أن قولنا "كان يعلم الأشياء قبل كونها" ليس في ذلك إثبات لكون المعدومِ شيئًا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير العقلاء أن الشيء قبل وجودِه ليس بشيء أصلاً، وأنه وإن كان معلومًا لله فالعلمُ بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودًا ولا ثابتًا، إلاّ أن يُقَيَّد فيقال: موجود في العلم وثابت(4/402)
في العلم. وذلك أنَّ الله يعلم الموجود والمعدومَ والواجب والممكن والممتنع، وقد اتفق العقلاءُ على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضُهم في الممكن، فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجًا عن العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكنٍ وُجِد.
فهذا أيضًا ينبغي أن نعرفه، فلا فرقَ عند أهل السنة وجماهير الخلق بين الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)) (1) ، وقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) (2) . فإذا قال: "إنه معلومٌ لله" فهذا حقٌّ، لا فرق بين أن يقال: هو ثابت في العلم أو موجود في علم الله.
الوجه الثالث
قوله: "فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يَعرِضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه في تجلِّيه المطلق، نزلتِ الحِلية الإلهية من حقيقةِ كانِه إلى سِرِّ شأنِه، فعند ذلك قارن الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميتْ عقدة "حقيقة النبوة"، فهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآةً
__________
(1) سورة مريم: 9.
(2) سورة مريم: 67.(4/403)
لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفًا يصف نفسَه ويُحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛ والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة طرفان: طرفٌ إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفًا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمَّى بالروح الإضافي".
ومضمونُ هذا الكلام أنّ الله لما أرادَ أن تتجلَّى الحقائق الثابتة في علمِه كما كانت متجلية له نزلَ من الذات إلى الفعل فقال: "أنا"، وظهرتْ حينئذ حقيقةُ النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاعُ أحد المرآتينِ إلى الأخرى، وصارتْ محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فصار الحقُّ واصفًا موصوفًا، واصفًا باعتبار ظهورِ علمِه المطابق له وموصوفًا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه الحقيقة التي سماها عقدة "حقيقة النبوة" طرفًا إلى الحق لكونها عالمةً به، وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمَّى بالروح الإضافي.
وهذا كلُّه عندهم في نفس الرب، وهذا كلُّه عنده قديم أزلي كما قال في آخر كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيًا في الأزل والأبد وسطًا بين الله وعبادِه.
وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء تخيَّلوه، ولهذا يصعبُ تصوُّرُه، لأن الخيالات(4/404)
الفاسدة ليس لها حدٌّ. وما أكثر ما يُوجَدُ هذا في كلام هؤلاء الملحدة في أسماء الله وآياتِه المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسعٌ، والخيال والوهم محل الشياطين الذين يتنزلون عليهم بهذا.
فيقال: قولك "تحركتِ الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال: "توجَّهت أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمةٌ معه لم تزَلْ أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديمًا بَطَلَ قولك "فلما تحركت الإرادة الأزلية نزلَ من كَانِه إلى شأنِه"، فإن هذا ظرفٌ لفعلاتٍ يقتضي تحوُّلاً من حالٍ إلى حال، والفعل الذي له ظرف زمانٍ لا يكون إلاّ حادثًا، ولذلك قلتَ: "فعند ذلك قارنَ الألفُ النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمانٍ يتحوَّل فيه، فإنه لم يزل، وإن قلت: إن هذا مُحدَث بَطَلَ قولك بعد هذا بنبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأزل إلى الأبد.
وأيضًا فقولك "يَعرِض نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه" كلام باطل، فإنّ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء، وإنما يتجلى لأوليائه يومَ القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ويتجلى أيضًا لعبادِه في عرصاتِ القيامة. وقد قيل: إن محمدًا رآه ليلةَ أُسرِيَ، وأما من سِوى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ثبت في صحيح(4/405)
مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر الدجَّال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت". وكذلك رُوِي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن تَرَوا ربَّكم حتى تموتوا" (2) . ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه ليلةَ المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلَّى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلتُ لأبي ذر: لو رأيتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسألتُه، قال: عمَّا كنتَ تسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: قد سألتُه فقال: "نور أنَّى أراه"! وفي رواية: "رأيتُ نورًا". فهذا من يثبت الرؤيةَ يقول: أراد نفي العين، لأن نوره أعشى بصرَه، ومن ينفيها يحتجُّ به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة -واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعينَي رأسه أو بعينَي قلبه، أو يقال: رآه ولا يُقَيِّد؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد.
فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانَه يُرى في صُوَرٍ بحسب حال الرائي، فإنَّ رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: "رأيتُ ربّي في صورة كذا وكذا، فوضعَ
__________
(1) برقم (2937) .
(2) أخرجه أبو داود (4320) عن عبادة.
(3) برقم (178) .(4/406)
يدَه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أناملِه على صدري" (1) فهذه كانت في المنام، فإن هذه لم تكن ليلةَ المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإنّ فيها أنه احتبسَ عنهم في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطُّفيل وغيرهما ممن لم يُصلِّ خلفَه إلاّ في المدينة، والمعراجُ كان بمكة بنصِّ القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم يقل أحدٌ: إنه رآه بالمدينة.
فأما الأحاديث التي رُوِي فيها أنه رآه في سِكَكِ المدينة أو في الطواف أو في عرفةَ فكلُّها موضوعة مكذوبة (2) .
والغرض هنا أنه لم يقل قطُّ مسلمٌ: إن الله عَرَضَ نفسَه على معلوماتِه أو مخلوقاتِه، ولا إنه تجلَّى لمعلوماتِه أو لجميع مخلوقاتِه، بل موسى قد سألَ الرؤيةَ فقال: (لَنْ تَرَانِي) (3) ، وقال: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (4) . فإذا كان موسى عليه السلام عجزَ عن
__________
(1) أخرجه أحمد (4/66، 5/378) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعا مطولا. وأخرجه أحمد (5/243) والترمذي (3235) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل قال، فذكره بطوله. وصححه الترمذي والبخاري. وأخرجه أحمد (1/368) والترمذي (3233، 3234) عن ابن عباس.
(2) انظر "الموضوعات" لابن الجوزي (1/124-125) و"اللآلىء المصنوعة" (1/27-30) .
(3) سورة الأعراف: 143.
(4) سورة الأعراف: 143.(4/407)
رؤيتِه في هذه الدار، والجبل جعلَه دَكًّا لما تجلى له، وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يدلُّ على أنه لم يكن متجليًا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرضَ نفسَه أو تجلَّى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجنّ والشياطين؟ كما قال: "عرضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانُها في علمه"، فإن علمه محيطٌ بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كلّه فقد لَزِمَ ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو أفحش منه.
ثمّ وأيضًا فإنّ المعلوم قبل وجودِه ليس هو سببًا موجودًا ثابتًا يُعرَضُ فيه شيءٌ أو يتجلى له شيءٌ أصلاً، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (1) ، وقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (2) ، وقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (3) ، وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (4) ، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)) (5) ، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (6) ونظائره متعددة.
__________
(1) سورة الأنفال: 23.
(2) سورة الأنعام: 28.
(3) سورة التوبة: 47.
(4) سورة السجدة: 13.
(5) سورة النساء: 82.
(6) سورة الأنبياء: 22.(4/408)
بل قد يُعلِمُ اللهُ بعضَ عبادِه ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فإنّا نعلم ما مضَى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه سيدخلُ قومٌ الجنّةَ وقومٌ النارَ، وقومٌ ما أخبر الله به من أن أهل النار لو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه.
ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانُها الحقيقي الخارجية موجودةً في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف يتصور أن يعرض نفسَه أو يتجلى لشيء ما وُجدَ بعدُ ولا صارَ له حقيقة؟ ولكن علم أن سيُوجَد. فإذا علم الله أَنه سيُولَد وُلِدَ بعدَ حولٍ، فهل يتصوَّر قبلَ أن تَحْبَل به أمُّه أن يعرض عليه شيئًا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون المعدوم -وإن عُلِمَ أن سيُوجَد- هل يتصور أن يكون عليمًا تجلتْ له الحقائق؟ فضلاً عن أن يعرض نفسه عليه.
وأيضًا "نَزَلتِ الحلية الإلهية من حقيقةِ كَانِه إلى سرّ شأنِه" فيه أوّلاً لفظه "كانه" كما استعملتْ أولاً، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يُضَاف، ولا يُقال: "كانه وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ.
ثم ما هذا "الشأن" الذي نزلَ إلى سرِّه؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصلٌ به؟ فإن كان منفصلاً عنه فكيف يكون شيء منفصلاً عنه قبلَ أن يخلق شيئًا؟ لا سيما على أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيءٌ(4/409)
منفصلٌ عنه. وإن كان متصلاً به فكيفَ ينزل مِن كانه إلى متصلٍ به وقائم به؟ وهل كان قبل هذا النزول في غير شأنِه ثم نزلَ إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟
ثمّ عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأنُ الذي نزلَ إليه مِن كانِه الأوّل هو شيءٌ أم لا؟ إن كان شيئًا فقد صارَ معه شيءٌ آخر لم يكن معه، وإن لم يكن شيئًا فلم ينزل إلى شيء، فلم يَزل في كانِه ولم يتجدَّد شيء، فما الذي بدا مما بدا؟
هؤلاء قوم تخيَّلُوا خيالاتٍ فاسدةٍ، وسمعوا ألفاظًا، فوضعوها على غير مواضعها بحسب تلك الخيالات، فإذا حُقِّقَتْ معانيها جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) (1) .
سمعوا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)) (2) مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقولُ الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأنٍ من شئونه، وهو أفعالُه كما جاء في الحديث: "يَغفِرُ ذنبًا ويفرج كَرْبًا ويرفعُ قومًا ويَضعُ آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنِه، وإنما هو خالق خلقَ وأبدعَ وفَطَر وأنشأ، ويُحدِث الله من أمرِه ما يشاء.
__________
(1) سورة الرعد: 17.
(2) سورة الرحمن: 29.(4/410)
وأيضًا "فعندَ ذلك قارنَ الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجبَ اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حَدَثا حينئذ فما الموجِب للحدوث؟ وقوله "عبّر عنها بأنا" فقبلَ ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا حتى نزلَ هذا النزولَ الذي ليس له حقيقة ولا معقول.
وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ثم أغربُ من هذا كلِّه تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليتَ شعري مَن الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟
قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترَى ليس له وجود في شيء من الكتب المنزلة من السماء، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من الأنبياء، ولا تكْلم به أحد السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلاّ هؤلاء المقاربون لدولة التتار الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيَّروا ما بعثَ الله [به] رسوله من الهدى ودين الحق الذي وَعَدَ أن يُظهِرَه على الدين كلّه.
ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات(4/411)
التي لابُدَّ لها من محلّ؟ فإن كانت عينًا قائمةً بنفسها فإما أن تكون هي الحقّ أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الربّ، فقد جعل الحقّ يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسمًا لغير الله. وإن كانت صفةً من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلاّ الربّ، فتكون هذه النقطة صفة له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علمٌ لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفرٌ لا يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالمًا بنفسه وبسائر المعلومات.
ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلومًا متجليًّا لمعلوماتِه بعد أن كان عالمًا بها وهي متجلية له، وقد قدّمنا أنه لا يتجلَّى لجميعها إلاّ أن يُعنَى بتجليه لها دلالتُها عليه أو علمُها به، كما قيل في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (1) . ففي الجملة كون الحقّ يصير معلومًا لبعض الخلق أو كلَهم هذا معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم.
فإن قيل: لأنهم في علمه.
قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم المؤمن مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والعالم عالمًا والجاهل جاهلاً، وأيّ حالٍ تجدَّد للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن
__________
(1) سورة الإسراء: 44.(4/412)
يكون، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات عالمةً في الخارج إلاّ بعد وجودِها في الخارج، كما لا يُعلم أنها عالمة إلاّ إذا علمتْ هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال.
فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدَوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه الحقيقة إن كانت صفةً لله ليعلم بها نفسَه ومعلوماتِه، فالله علم بذلك قبل ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفةً لغيرِه فلا يتصوَّر وجودُها قبل وجود ذلك الغير.
وقوله "ظهرتْ نقطة" لفظ مجمل، أيَعني حدثَتْ؟ فالمحدَث لابدّ له من محدِث، ولابد للصفة من محل، أم يعني انكشفَتْ وتجلت؟ فلمن تجلَّتْ "وما ثَمَّ إذ ذاك إلاّ الله؟ وهو عالمٌ بنفسِه ومعلوماتِه، فأيُّ شيء انكشف له وتجلَّى بهذه النقطة العجيبة الشأن؟ ما أشبهَ هذه النقطةَ بالكلمة التي تعبدها النصارى وتَزعُم أنها دخَلَتِ الناسوتَ، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلامٌ لله، فإن كان كذلك لم يكن إلهًا يخلق ويرزق ويُعبَد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرًا خالقًا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو الحال، وإن كان غيره فيكون جوهرانِ منفصلانِ إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إلهٌ واحد.
وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلاًّ ولم يجعلوا لها محلاًّ، فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة(4/413)
حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسِه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصورة المعلومية التي صارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفًا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن".
فيقال: قد عُلِمَ أن هذان اسمانِ من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلُّها متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسمٍ خاصَّةٌ ينفرد بها عن الاسم الآخر، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضًا متباينةٌ من كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل كالمتباينة، ولهذا يُسمى هذا النوع المتكافئة. وكلُّ اسمٍ فإنه يدلُّ على ذاتِ الله وعلى خصوصِ وصفهِ بالمطابقة، ويدلُّ على أحدهما بالتضمن، ويدلُّ على الصفة التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدلُّ على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، فبين كل اسمينِ اجتماعٌ وامتيازٌ إلاّ اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه الأسماء، بل هو متضمنٌ للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق.(4/414)
والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقًّا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يُسمَّى الاشتقاق الوضعي، وذاك يُسمَّى الاشتقاق الوصفي.
والأسماء جميعها هي أسماءٌ لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه الاتحادية فعندهم أسماء الله نِسَب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيرُه يقول: نسبةٌ بين أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادًا في أسماء الله.
إذا عُرِف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفًا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخولٌ في معنى اسم الله والاسم الرحمن.
ثم يُقال لهم: فهل كان اللهُ في كانِه قبلَ نزولِه إلى سِرِّ شأنِه مستحقٌّ لهذه الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفرٌ، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سرِّ شأنه!(4/415)
فصل
اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطربٌ مخبط، فإنه ليس توحيدًا محضًا، ولا إلحادًا محضًا، وإنما يظهر بظهور مذهب أهل التوحيد من المسلمين وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ثمّ يتبينُ قولُ هؤلاء، فنقول:
أما مذهب المسلمين وسائر أهل الملل من اليهود والنصارى بل وسائر المقرِّين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم.
والقرآن من أوّله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويُبيّنه.
ومع هذا فلله أسماءٌ وصفاتٌ وصف بها نفسه ووصفَه بها رسولُه، ومن الجهمية من يُنكِرها أو بعضَها، ويَصِف الله بصفاتٍ سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يُقِرُّون أو لا يعتقدون أنها تستلزم التعطيل.
والفلاسفة الصابئة القائلون بقِدَم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس هو العالَم ولا جزءًا منه، لكن يُحكَى عن فريقٍ من الدهرية إنكارُ الصانع، وهذا هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه(4/416)
أنكر ربّ العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (1) ، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ0وقال له موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) (2) .
وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوقَ عرشه يقولون: إنه بذاته في كلّ مكانٍ، وإنه حالٌ في كل مكانٍ، وهو رأيَ طائفةٍ من متصوفة الجهمية مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلاّ بالسلب، ليس داخلَ العالم ولا خارجَ العالم، ولا هو فوقَ العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفيَ ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل.
وهذا هو الذي أوقعَ هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يَقدِر أن يَعبُد إلاّ شيئًا موجودًا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يُثبتوا وجودًا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يَغلِب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفتْه رسلُه
__________
(1) سورة النمل: 14.
(2) سورة الإسراء: 102.(4/417)
لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (1) ، الذي هو فوق السماوات، فلابُدَّ أن تتعلق قلوبهم بموجودٍ ما، فتارةً يتعلقون بأنه بذاته في كلّ مكان، وتارةً تتعلق بحلوله أو اتحادِه ببعض الأشخاص كالمسيح وعُزَير وغير ذلك، وتارةً يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابُدَّ للقلب من صَمَد يُقْصَد إليه بالعبادة حق موجودٍ.
والصفات السلبية لا يتعلق بها القلبُ ولا يطمئن، فإنّ قصدَ العدم كعدمِ القصد، وعبادة المعدوم كعدمِ العبادة.
فهذا الجهل والضلال بصفات ربّهم هي التي أوقعتْهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجُّهٌ إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانَه سارِي في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلاّ صُنْعَ الخالق وخَلْقَه وملكَه وسلطانه، ولهذا تارةً يجعلون الربّ في ذلك كالروح في الجسد، وتارةً كالماء في الصوفة، وهذا قولٌ بالحلول، والربُّ -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفةِ- فوقَ سماواته على عرشِه، بائنٌ من خلقِه. فجاء هؤلاء الاتحادية المستأخرون جعلوه نفسَ الموجودات لم يُخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق
__________
(1) سورة الحديد: 4.(4/418)
المصنوع هو الوجود الخالق. ثُمَّ قد علموا أنّ ثَمَّ خالقًا ومخلوقًا، فاضطربوا هنا:
فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفسَ وجود الحقّ فاضَ عليها وظهرَ فيها، فوجودُها هو وجود الحقّ، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنتَ به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك، وإنّ الله ما أحسن إلى أحدٍ ولا أنعمَ على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلتْه في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات.
وهذا القول كفرٌ، وهو باطلٌ من وجهين:
من جهة أنه جعلَ المعدومَ شيئًا ثابتًا، وفرَّق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهتُه ثبوتُها في علم الحقّ، ولا يلزم من علم الحقّ بها ثبوتُها في نفسها ولا وجودُها.
الوجه الثاني: أنه لو فُرِض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجودُ الحقّ، بل الِربُّ أبدعَ وجودَها وخلقها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (1) ، وقال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (2) .
وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم،
__________
(1) سورة طه: 50.
(2) في مواضع كثيرة من القرآن.(4/419)
يقولون: إنه خلقَ وجودَه، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق.
وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرِّق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعيَّن لم يكن هو الحقّ. وعلى قول هذا ليس لله وجودٌ إلاّ ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودُها. وهو أيضًا جَحْدٌ لربّ العالمين في الحقيقة، وإثباتٌ للوجود الذي أقرَّ به فرعون.
وأصحاب هذا القول والذي قبلَه يُفرِّقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلِّي، فيقولون: ظهرَ وجودُه في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه "الفصوص"، أو ظهرَ الوجودُ المطلقُ في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي.
وأما التلمساني وغيرُه فعندهم ما ثمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجهٍ من الوجوه، ولا يُفرّقون بين المطلق والمعيّن والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارةً يُشبِّهون الله بالشمع والفضّة الذي يظهر في صورٍ مختلفة وهو هو.
ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحدٌ في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.(4/420)
وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركَب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسلُ عن الله، ومن مذهب هؤلاء الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يُشبِه قولَ صاحب "الفصوص" من وجهٍ، وقولَ صاحبِه الرومي من وجهٍ، وليس مَثلَهما. وذلك أنه جعل ثبوتَ الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، وثبوتُ الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلّي على شيء عُلِمَ قبلَ أن يُوجَد. ثم جعل تجلِّيَ الحقّ لها بمنزلة ظهور وجودِه في الأعيان الممكنة.
فهذا القول أقل كفرًا، لكنّه أظهرُ تناقضًا، فإنه لم يُصرِّح بأنّ وجودَها عينُ وجودِه، ولا صرّح بثبوتِ ذواتها، لكنّه زعم أن تجلّيه لأعيانها الثابتة في علمه، مثلَ ما ذكرَ صاحبُ "الفصوص" أنه حصولُ وجودِ الحقّ في أعيانِ الممكنات. وتكلّم في التعيّن بكلامٍ قاربَ مذهبَ القونوي، كما سنذكره إن شاء الله.
وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرُهم لا يفهمونه، ولعل فاضلَهم يَفهم بعضَ مذهبَ نفسِه فقط، لأنها أقوال هي في نفسِها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى.
(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)) (1) ، وكما قال تعالى.
__________
(1) سورة الذاريات: 8-9.(4/421)
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)) (1) .
فصاحبُ هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلَّى لنفسه بوحدتِه الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق".
وهنا يضطرب أمرُه، فلم يُصرِّح بأن وجودَه قامَ بالأعيان الممكنة كما صرَّح ابن العربي، فيكون اتحاديًّا محضًا، ولا اكتفَى بمجرَّد كونِه يَعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا عَلِم الأشياء وعَلِمَ أنها ستعلمه لتكن حينئذٍ قد صارت موجودةً عالمةً حتى توجد. بل استعملَ اللفظ المشترك كما فعلَه في عين الحقّ، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علمًا بمنزلة ظهور وجودِه في ذواتها.
فتدبَّر هذا، فإنه يُبين حقيقةَ مطلوب هذا، ومعلومٌ أن وجودَه الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسمٌ إلاّ إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،
__________
(1) سورة النساء: 82.(4/422)
وذلك لأن الحق كان متجليًا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلَّى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه.
فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلَّى لهذه النقطة كما تجلَّى لنفسه، فصار شهودُها له مطابقًا لشهوده لنفسِه، ولهذا قال: فصارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة.
لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفةٌ أصلاً. وهذا وإن كان مطابقًا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عينَ مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريًا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفتُ على مقالة غلاةِ الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يَضنُّون بها إلاّ على خواصّ أكابرهم، فرأيتهم يصرِّحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحِزبِه، وعن الذي حاجَّ إبراهيم في ربّه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سرّ دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم(4/423)
والردّ عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم.
وأما غالبُ الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي الأسماء والصفات عن ذاتِه، كما يُظهِره هؤلاء الاتحادية، ليظنّ الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تائمٌ، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: [ليس] له إلاّ صفة سلبية أو إضافية.
وقريبٌ منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قَرَّرتُ فسادَ مذاهب هؤلاء في مواضع، وبيّنتُ في مخالفتَها للكتاب والسنة والإجمَاع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة.
وقد رأيتُ هؤلاءِ الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحودُ النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلافٌ إلاّ في واجب الوجود، يعنون الذي صدرتْ عنه الممكنات، فإنهم يُثبتونه ونحن لا نُثبته.
وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن(4/424)
سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلاّ فرقٌ لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبيَّنَ أنواع كفرهم، ولئلاّ يحسب الجهّال بهم أنَّ تحتَها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملاً أو مفصَّلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدَّعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهادِ فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجَّه في ربّه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1) .
__________
(1) انتهى ما في الأصل. وكتب بعده فيه: "بياض كبير".(4/425)
مقَدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مجموعة خامسة من "جامع المسائل" تحوي 18 رسالة وفتوى لم تُنشر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، اعتمدتُ في إخراجها على أصول خطية، ووجدتُ اثنتين منها (برقمي 3 و9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدتُ عليها لعدم العثور على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتُها أو راجعتُ فهارسها.
والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تُطبع هنا لأول مرة، والبقية طُبِعتْ من قبلُ طبعاتٍ متفاوتةً في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق والتحقيق. ومجملُ ما لاحظتُه في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق للقائمين عليها- أنهم لم يهتمّوا بضبط النصّ وتحريرِه وإخراجه سالمًا من التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونَقْل كلام المؤلف من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء الفروق بين النسخ (وجلُّها من تحريف النسّاخ) . وألحقَ بعضُهم بالكتاب فصولاً ليست منه، كما في "الأموال السلطانية" (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409) ص 93-99، وفي "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (ط. دار ابن حزم) ص 46-55.(5/5)
ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39) : "وما نقله بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان لا يصلُ إليها". وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدِّق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [وقد] قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم".
انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب الحاصل في هذه العبارة.
ومنهم من اجتهد في إخراج النصّ بالاعتماد على نسخٍ متأخرة وناقصة، ولم يطلع على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة ولم يُحسِن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحبُّ الخوض فيها وبيان ما حصل من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمّن أساء، ووفقنا جميعًا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب.
• وصف الأصول المعتمدة
الأصول التي اعتمدتُ عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقِدم، وفيها ما يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلتُ الجهد في قراءتها قراءةً صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها، وتوقفتُ عند(5/6)
بعض العبارات والألفاظ أيامًا حتى توصّلتُ إلى حلّها وفكّ الرموز عنها، وأشرتُ إلى المواضع التي لم أهتدِ فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصفُ هذه الأصول:
(1) "ضابط التأويل": توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775] ، وهو أول كتاب من "مجموعة رسائل" لشيخ الإسلام بخطوطٍ مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد أوراقه 22 ورقة، وليس كاملاً، فقد كُتِب في آخره: "آخر ما وُجد، والله أعلم، وليست كاملة". ويبدو أنه مأخوذ من "الكواكب الدراري"، فقد ذكر في آخر الكتاب: "وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد المئة تفسير سورة سبّح، وهي مكية" وفي النسخة بياض في مواضع، أشرتُ إليها في التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأنّ الناسخ نقلَ من الأصل فرسَم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها.
والكتاب في الأصل ردٌّ على من انتقد "الرسالة المدنية في الصفات" التي أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين. الدُّباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام المنتقد لها الذي لم يُسمِّه، وأطالَ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا بتمامه. وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابةَ فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في مقدماتِ بعض كتبه، مثل(5/7)
"شرح حديث إنما الأعمال بالنيات" (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب "تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل" (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" ص 29- 35) وغيرهما.
(2) "قاعدة في الوسيلة": توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088 (We. 1708) ] (الورقة 83-99) ، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1) . والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه.
(3) "الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) ": ذكرها ابن رشيِّق (2) وقال: إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضًا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة خطية منها، والمنشور هنا يُمثل قطعة منها توجد في "شرح الكوكب المنير" (2/34-45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400) .
(4) "فتوى في الخضر": ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل ماتَ أو هو حيٌّ؟، وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: "واختار أنه مات".
وقد نُشر في "مجموع الفتاوى" (4/338-340) ما يخالف
__________
(1) انظر فهرس مكتبة برلين (2/449) .
(2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" ضمن "الجامع" (ص 235) .
(3) "العقود الدرية" (ص 36) .
(4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 237) .
(5) "العقود الدرية" (ص 54) .(5/8)
هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فردَّ عليه قطب الدين الخيضري (ت 894) في كتابه "افتراض دفع الاعتراض"، وقال (ق 13أ) : "هذا الذي نقله عن ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعتُ جوابَ ابن تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرتُ به، فوجدتُه قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصُّه ... ".
ثم نقل الفتوى، وقال بعدها (ق 14ب) : "فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى".
ونظرًا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في كتاب "افتراض دفع الاعتراض" نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (Lbg. 604) ] ، (الورقة 13أ-14ب) (1) .
والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه "الرد على المنطقيين" (ص 184-185) و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 198) و"مجموع الفتاوى" (4/337، 27/100) ، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في "المنار المنيف" (ص 68) .
__________
(1) أشكر أخي الأستاذ أحمد الحاج الذي أوقفني عليه وصور لي الصفحات المطلوبة منه.(5/9)
(5) "سؤال في يزيد بن معاوية": توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب) ، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد". ولعلها من مخطوطات القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي سنة 1280، كما يدلُّ عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان.
وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (4/481-488) يختلف عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما.
(6) "فصل في اسمه تعالى القيوم": أصله في دار الكتب المصرية برقم [330 تفسير تيمور] (ق 102-115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح.
(7) "فصل في معنى الحنيف": هو ضمن المجموع السابق (ق 88-97) .
(8) "فصل إذا كان في العبد محبة": توجد مخطوطته ضمن
__________
(1) أسماء مؤلفات شيخ الإسلام (ص 237) .
(2) "العمود الدرية" (ص 54) .(5/10)
مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي] (الورقة 117-121) ، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه المجموعة ما يفيد أنها كانت في "ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين".
وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن "دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى محمود محمد شاكر" (ص 437-452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة جيدة.
(9) "فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره": هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ في "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" (4/236- 237) ، وقد أرشدني إليه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرًا. ووجدتُه باختصارٍ في مصادر أخرى، مثل: "حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي" (4/416) و"حاشية الصاوي على تفسير الجلالين" (4/142) و"روح البيان" لإسماعيل حقي (9/248-249) .
ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن "مجموع الفتاوى" (24/306-313) قرَّر فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البرّ، وأن هذا مما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سردَ بعض هذه الأدلة.(5/11)
وقال في "شرح حديث أبي ذر" ضمن "مجموع الفتاوى" (18/143) : "وقد بيّنا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلاً شرعيًّا يبيِّن انتفاع الإنسان بسعي غيره".
وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ.
(10) "رسالة في الاتباع": هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755) ] .
(الورقة 6-20) ، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها.
وفيها خرمٌ آخر بين الورقتين 14 و15، فالكلام ليس بمتصل فيهما.
والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرًا. وقد عنونها مفهرسُ المجاميع بـ "رسالة في التوحيد" (1) ، والكلام فيها يدور حول اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسُن أن تسمَّى "رسالة في الاتباع".
ولشيخ الإسلام "قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كلّ خير في العالم فأصله متابعة الرسل" (2) ، و"قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) ، و"اتباع الرسول بصريح المعقول" (4) .
(11) "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": ذكر
__________
(1) انظر (فهرس مجاميع المدرسة العمرية" (ص 82) .
(2) "العقود الدرية" (ص 49) . ونشرت ضمن "مجموع الفتاوى" (19/93-105) .
(3) "العقود الدرية" (ص 47) و"أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 46) .
(4) ضمن "مجموع الفتاوى" (10/430-453) .(5/12)
ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مراتٍ عديدة. وقد
وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة
بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1-9) ، وقد كتبت بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرًا. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرتُ إليه فيما مضى.
(12) "فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر ... ": هو ضمن المجموع الموصوف سابقًا برقم (7) ، الورقة 97-102.
(13) "المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية": وصلت إلينا ثلاث نسخ منها:
إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 40] (الورقة 320-325) بخط العلاّمة المحدّث ابن الملقِّن (ت 804) ، فقد جاء في آخرها: "تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وهو ابن الملقن كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن.
والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع] الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان "جواب عن حكم
__________
(1) "العقود الدرية" (ص 62) .(5/13)
الصلاة خلف المالكية وغلط المانع". وهي بخط قديم (1) .
والنسخة الثالثة: ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة، في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6-8) ، وفيها بعض الأخطاء.
وتوجد هذه المسألة ضمن "مجموع المنقور" (1/111-115) ، ولكنها مختصرة هناك، واعتمدتُ على النسخة الأولى في إثبات النصّ لكونها أصحّ من غيرها.
(14) "رسالة إلى الملك المؤيد": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي سبق وصفها برقم (9) ، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) بعنوان "رسالة إلى ملك حماة".
(15) "رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار": توجد النسخة الفريدة منها في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174- 179) ، وقد كتبت سنة 758 بخط نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرتْ ضمن "العقود الدرية" (ص 182-194) . ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق (4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان "رسالة إلى ملك مصر".
__________
(1) انظر فهرس الخزانة التيمورية (4/30) .
(2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249) .
(3) "العقود الدرية" (ص 51) .
(4) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص 249) .
(5) "العقود الدرية" (ص 51) .(5/14)
(16) "قاعدة في الانغماس في العدوّ": ذكرها ابن عبد الهادي (1) ، وتوجد نسخة خطية منه بعنوان "رسالة في الجهاد" ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور] ، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كُتِبت في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد ... ، كما في خاتمة الرسالة الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرتُ إلى بعضها في التعليق.
(17) "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور.
(18) "قاعدة في الأموال السلطانية": توجد منها نسخة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب) ، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط نسخي جيّد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: "نقلتُها من النسخة التي نُقِلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قُوبلتْ".
ومنها نسخة أخرى بعنوان "قاعدة شريفة في الأموال المشتركة" في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات) ، وهي مكتوبة بخط فارسي حديثٍ، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ
__________
(1) المصدر نفسه (ص 48) .(5/15)
النسخ، ولعلها كُتِبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلاّ في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح الخطأ في النسخة الأولى.
وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني قد وُفّقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة، وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة.
والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهو حسبي ونعم الوكيل.
محمد عزير شمس(5/16)
نماذج من النسخ الخطية(5/17)
ضابط التأويل(5/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يَسِّرْ و [أعِنْ] (1)
قال الشيخ الإمام العالم العامل شيِخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدَّس الله روحَه ونوَّرَ ضريحَه:
الحمد لله ربّ العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعثَ إلينا رسولاً يتلو علينا آياتِه و [يُزكِّينا] ، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنّا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين. إنه أكمل لنا [ديننَا] ، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينا، وأخبرَ أنّ الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يَبتغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعلَ الكتابَ الذي أنزلَه بيانًا للناس وهُدًى وموعظةً [للمتقين] ، وأخبرَ أنه أنزلَه بلسانٍ عربيٍّ مبين، كما أخبرَ أنه ليسَ على الرسول [إلاّ البلاغ المبين] ، وذكرَ أن آياتِه أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصلَتْ، إذ الإحكام والتفصيل يجمع خبرًا وطلبًا، وكمال القصد واللفظ الذي تتمُّ به وتتبيَّنُ الأشياء، (مِن لَّدُن حَكِيمٍ) يحصلُ بحكمتِه الإحكامُ، (خَبِيرٍ (1)) (2) يُفصِّل الخطاب للمخاطبين. [فليس] كل من هُدِي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كلّ من سدّد الخطاب يَبلُغ
__________
(1) ما بين الأقواس المربعة في هذه الصفحة مطموس أو مخروم، وقد أثبتنا ما يناسب السياق.
(2) سورة هود: 1.(5/35)
إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هُدِي للحق. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي بن أبي طالب (1) : "يا عليُّ! سَلِ الهدى والسداد، [واذكُر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] " إلى
كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وَصَف سبحانه كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ…) (2) .
ثم إنه سبحانَه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مّل] والفقه لهذا البيان عبادَه المبلَّغين، وجَعلَ رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو [المبيِّن] لما حَصَل مجملاً أو مشكلاً على المكلَّفين، وثبتَ بالأدلة المتعددة ضَبْطُ علماء أصحابه لمعانيه كضَبْطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يُلْقُون ما تَلَقًّوه عن رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظَهرًا وبطنًا ومن الحكمة صورةً ومعنًى مشتركين دون مختصّين، فيشتركون كلُّهم أو أكثرهم في كثير من ذلك أو أكثر، ويختصُّ بعضهم ببعضِ ذلكَ وكلٌّ على ما يأثِرُه أمين، شائع بينَهم معرفةُ أصول دينهم وعمل ملّتهم جملةً وتفصيلاً ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعضِ ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضتِ النقول عنهم أنهم تعلَّموا من نبيِّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميعَ ما يحتاجون إليه فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/268) . وأصله عند مسلم (2725) .
(2) سورة النحل: 44.(5/36)
ولهذا كانت البدعُ محرمةً في وقتِ جماعتِهمِ، لعدمِ مُقْتضيها أو لوجودِ مُنافِيها عن هذا الدين، ثم نبغتِ البدع وتعَدَّت من الصغير إلى الكبير على قضاءٍ سبق من الكتاب المبين، فلما قُتِلَ الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نَبغ في آخر خلافة النبوة بدعتانِ متقابلتانِ تقابُلَ المغضوب عليهم والضالّين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاّهما، يُحِلُّون دماءَ أهل القبلة، ويفعلون بأهلِ الإيمان فعلَ اليهود بالنبيين؛ والروافض يَغْلون فيمن يَستحقُّ الولاية والمحبَّةَ، فيُطْرونَه إطراءَ النصارى، حتى وَصفوا البشرَ بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولَّى أميرُ المؤمنين عقوبة الطائفتين: بقتالِ الطائفة الممتنعة من المارقين، وقَتْل المقدورِ عليه من الغالين، والتعزير بجَلْدِ المفترين.
ثمَّ لما صارتِ الجماعةُ على الأقذاء، وانصرف عن ضبطِ دقيقِ الدين وعنايةِ الأمرِ في أواخرِ عصر الصاحبين حدثتْ أيضًا بدعتان متقابلتانِ: بدعة القدرية والمرجئة على منهاج الأولين، هؤلاءِ عَظَّمُوا أمرَ المعاصِي، حتى أوجَبُوا نفُوذَ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومَنَعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأعظَموا أن يكون الله قدَّرَها أو شاءَها أو يَسَّرها، وسَلَبوا الإيمانَ بالكلية لمن اتصفَ بها من المسلمين. وهؤلاءِ استخفُّوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعدَ بعضُهم نُفُوذَ الوعيدِ على الكبائر المُوبِقاتِ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين. وربما احتجُّوا لنفوسِهم بالقدرِ السابق، وتَشَبَّثُوا بكونهم مجبورين، وسَوَّى عامَّتُهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفُجَّار والصالحين والفاسقين.(5/37)
ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين.
ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلاَّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1) ، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين.
فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.(5/38)
ثم آل الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى أن عمَّمَ هذا فيما جاءت به الرسلُ من الوعد والوعيد، وما وصفتْه من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسَلَبوا داري القرارِ ما عُرِفَ لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتِهم إله المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية، وتارةً يثبتُون ذلك في حقّ العموم دون المتميزين، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيلٍ يسمونه بالمعقول، ونوعُ تحريفٍ يسمونه بالتأويل ويُزخرِفونه بالتزيين.
وهؤلاء الممثِّلة يُمثِّلون صفاتِه بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعاتِ وصِنْفِ الآدميين، حتى وصفَه بعضُهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مُضاهاةً لكثير من اليهود في تمثيلهم لربِّهم بالمخلوق، حتى عَبَدُوا العِجْلَ وكانوا أتباعَ الدّجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرُهم معطِّلةً جهميةً ذاتَ تحريفٍ يسمونه التأويل، يَفِرُّون به -زعموا- من تحيُّزِ ذي القوة المتين، فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "لَتَركِبُنَّ سنَنَ مَن قبلَكم حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتُموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ". وجبَ بمقتضى هذا الخبر البيِّن أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضلَّ بعدم اتباع نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك افترقت أمتنا زيادةً عليهم ثلاثةً وسبعين.
__________
(1) أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.(5/39)
واليهود والنصارى فيهم معطِّلةٌ وممثلّةٌ، وإن كان الغالبُ على خاصّتهم التعطيل، فلذلك كانت المعطِّلة فينا أكثر من الممثّلين، حتى إنّ المعطِّلة يكثر وجودُهم، والممثّلة لا يكاد يُوجَد منهم إلاّ الواحد بعد الواحد في الأحايين.
فلما حدثتْ بدعةُ التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظمَ من جميع بدع المبتدعين، حتى أَعْظَمَ السلفُ أمرَ الجهمية ونحوهم وكَفَّروهم، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين، وكان أسعدُ الناس بهذه الوراثة أصحابَ الكتاب والآثار المأخوذةِ عن سيّد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كلّ باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليلِه، الفاهمين بمنطوقِه ودليلِه، السالكين سبيلَ السابقين، الذين أخبرَ بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: "يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهَلين" (2) .
وكانوا هم أئمةَ الإسلام الذين هم قدوةُ المؤمنين، بحيث كان
__________
(1) كذا بالنصب هنا وما بعده، وهو صفة لـ "أصحاب الكتاب ... ".
(2) أخرجه البيهقي (10/209) وابن عبد البر في التمهيد (1/59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 29) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. ورُوِي موصولاً من حديث أسامة بن زيد، وصححه العلائي في بغية الملتمس (ص 34) .(5/40)
أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلاَن القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين.
إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلاَةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن.
وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين.
وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين.(5/41)
وظهَرَ بأثرِ ذلك من أَبْطَنَ ذلك من القرامطةِ الباطنية والطائفة الإسماعيلية الذين كثُرَ فسادُهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين.
وانتدبَ للردِّ على صُنُوْفِ الكُفَّار والمبتدعةِ طوائفُ من المتكلمين بِحُجَجٍ بعضها صحيح قويّ وبعضها مَهِيْن، لِصعوبَة الزام (1) علمًا وقصدًا، وعسر الاستبداد في هذا الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ما يلزم الحجْةَ في سائر المواضع (2) . وهذا من أعظم الآفة على الناظرين والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن فيه إحالة، وإن كان مخالفًا لنصِّ مبين.
وهذا هو السبب كثيرًا أو غالبًا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما عليه كلُّ ذي عقل رصين، حتى صار من نَصَرَ السنةَ في غالب الأمر يُعدُّ من متكلميها، وإن اضطرَّه تحققُ حدِّه وطردُ دليلِه أحيانًا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامضٌ إلاّ على الأقلين. وخَرَج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يَسُوغُ لأولي الأبصار، إمّا لضعف الإسناد، وإمّا لعدم المتن المتين، وكثُر في العلماء المحسنين في أكثرِ قولهم من المتأخرين مَن يقع في كلامِه من المخالفةِ للسنةِ ما يَرُوجُ عليه وعلى كثير من الناظرين، فيردُّ هذا عليه سائر حقِّه لأجل باطلِه، ويُلحِقُه بالمعطِّلين، ويَقبَلُ هذا جميعَ كلامِه لاعتقادِه فيه أنه كالسلف الماضين، ثم إذا صارتِ الشبهاتُ أهواءً أخرجتْ من النفوس الداءَ الدفين.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.(5/42)
وصَار كثير من طلبة العلم وأذكياءُ المباحثين يقفون على أقسام محصورةٍ وأمثال مَسْبورةٍ في كلام كثير من الآخرين، فتُوجبَ حُسْنَ الظنّ بعقولٍ تُدرِك تلك المطالب، وافتقارَ رجالٍ ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس عندهم من السلف إلاّ أسماءٌ مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرةِ المعتبرة. ولولا أُبَّهةُ الإسلام في قلوبهم لعدُّوهم من العَمِيْنَ، وإن كان في الناس مَن يَعتقد هذا أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين.
وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبتْ أوهامُهم إلى قومٍ من الرواة وضَرْب من النساخ والمستمعين، وإن رفعوا البابةَ إلى قومٍ من الحفّاظ لبعض الأسماء واللغات إذا حدَّثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ما أوجبَ نقصَ العلم والدين. فهذا وأمثالُه أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين.
ثم مع ذلك فللهِ في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسُلِ -كما قال الإمام أحمد (1) - بقايَا من أهل العلم، يَدعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب اللهِ الموتَى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمَى، وإن كانوا هم الأقلينَ. بهم تقوم حجةُ الله في دِقّ الدين وجلِّه، ويُحفَظ بهم عمودُ الدين فرعُه وأصلُه إلى يوم الدين. هم الوَسَطُ في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، فهم شُهَداءُ عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثةُ الأنبياء فيما جاءوا به من العلم، وخُلفاءُ الرسُلِ فيما قاموا به من البلاع المبين،
__________
(1) في مقدمة "الرد على الجهمية والزنادقة".(5/43)
وقد يتفرَّقُ فيهم علمُ النبوةِ إذا لم يَقُم به واحد، ويُغفَر للمخطىء منهم في مجتهداتِه إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائدٍ، كما يُعذر بعَدَمِ البلاع كثير من المؤمنين.
فالحمد لله على ما بيَّن وأمرَ، وعلى ما قَضَى وقدَّر من هذه الأقانين (1) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له] ، شهادةً تُحصن قائلَها من النارِ وتُوجبُ له نورَ المتقين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَله بأفضلِ كتاب وأَقْومِ دين، وأيده بأكمل الآيات وأَشرفِ البراهين، وبعثَه في خير أمةٍ وأتمِّ مكان وحِيْنٍ، وبيَّن به الحق بأفصحِ لغةٍ وأبلغ تبيينٍ، وأخرجَ به الخلقَ من الظلماتِ إلى النور المستبين، وجعله سراجًا منيرًا، كما جعلَ الروحَ الذي أوحاه إليه نورًا يَهدِي به المهتدين، وعَصمَه من مخالفةِ سِرِّه لعلانيته لا سيَّما في إيمائِه وخطابِه المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين (2) ، ولا يُومِضُ إيماضًا يَخفَى على الحاضرين، كلُّ ذلك تحقيقًا لكمالِ البلاغ وتنزُّهًا عن ظنون الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلَّى على إبراهيمَ إمام المسلمين، وباركَ عليه وعلى آله كما باركَ على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانَه حميد مجيب سميع لدعاءِ الطالبين، والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاته وعلينا وعلى عبادِ الله الصالحين.
أما بعد، فقد كان جَرى بيني وبين بعضِ الناس من نحوِ عشرِ
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله جمع "قانون" على غير المشهور.
(2) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (7/105) عن سعد بن أبي وقاص.(5/44)
سنينَ أو قريبٍ منها أو أكثر منها مناظرة في الصفاتِ والكلام على مذهب أهل التأويل فيها، التمسَ مني بعد ذلك بعضُ الأصحاب حكايتَها، فكتبتُها إليه، مع أن الكتابةَ لابُدَّ فيها من نوع زيادةٍ غيرِ متعمدةٍ ونقصانٍ، لكن المنقوصَ كثير، إذ الخطاب يحتملُ مَن البسط ما لا يحتمله الكتابُ، ومن الوَرعِ أن تنقُصَ من الحكايةِ ولا تزيدَ فيها.
وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصولِ المحرَّرة- لم تخْرُج مخرجَ تصنيفٍ، وإن كان لا غَرْوَ في جَعْلِها تصنيفًا.
وصورةُ ما كاتبتُ به الطالبَ: فإن الله سبحانَه وتعالَى خلقَ عبادَه على الفِطرة، وكمَّل فطرتَهم بالنبوة، واصطفَى من الملائكة رسُلاً ومن الناس، ليُعلِّموا الأممَ ما لم يكونوا يعلمونَه، كما قال سبحانَه وتعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)) (1) .
ولم يَبعَثْ رُسُلَه بغير فطرتِه التي فَطَرَ عبادَه عليها، ولا بإفسادِ عقولهم التي بها ينالون علمَ ما أنزلَه عليهم، بل بَعَثَ الرسُلَ بتعليم ما تَقصُرُ عقولُهم عن دَرْكِه، لا ما تَقضِيْ عقولُهم بإحالتِه، وأمرَهم بتقريرِ الفِطَر لا بتغييرِها. ولهذا قال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (2) ، وقال في صفة المستحقين الرحمةَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
__________
(1) سورة البقرة: 151.
(2) سورة الأعراف: 199.(5/45)
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (1) . وجَعَلَ حجتَه التي يَستحقُّ العذابَ تاركُها رُسُلَه المنذرين، دونَ مجرَّدِ الفطرةِ والعقل، كما قال سبحانَه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) (2) .
فأخبر أنه أرسلَ الرسُلَ لئلاّ يَبقَى لأحدٍ حجة، فعُلِمَ أنّ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل، وأنه لم يَبْقَ لأحدٍ بعدهم.
و"الحجةُ" اسم لما يُحتجُّ به، سواءٌ كانت بينةً أو شبهةً، وإن كان قد اصطلح كثير من المتأخرين قَصْرَ هذا اللفظِ على البينات دون الشُّبُهات. فإنّ الأول هو لغة القرآن ولغةُ العرب، كما قال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (3) ، وقال تعالى: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) (4) . وهي اسم لما يقصده المُحَاجُّ ويَؤُمُّه في حجاجه، ومثل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أحد أحبَّ إليه العذرُ من الله، من أجلِ ذلك بعثَ الرسُلَ مبشّرين ومنذرين" (5) .
وقال سبحانه وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
__________
(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة النساء: 163-165.
(3) سورة البقرة: 150.
(4) سورة الشورى: 15.
(5) أخرجه مسلم (2760) من حديث ابن مسعود.(5/46)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) (1) . فأخبرَ سبحانَه أن كلَّ عامل يَلزَمُه عملُه، وأنَّ منفعةَ هداه وضلالته عائدةٌ عليه، وأنه لا يَحمل من سيئاتِ غيرِه شيئًا، وأنه لا يُعذَّبُ أحد حتى يُبعَث إليه رسول، وأنّ القُرى إنما تُهلَكُ بعد فِسقِ مُتْرَفيها.
وقال سبحانَه وتعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47))
إلى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)) (2) .
فهذه الآيات تُشْبِهُ تلك الآيات.
وأخبر سبحانَه عن عذاب الآخرة مثلَ ما أخبرَ به عن عذابِ الدنيا، فقال سبحانَه وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إلى قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
__________
(1) سورة الإسراء: 13-16.
(2) سورة القصص: 47-59.(5/47)
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) (1) . فأخبر سبحانَه عن المعذَّبين من الجن والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبرَ أنه لا يُهلِكُ القرى إلاّ بعد الرسل المذكِّرين.
وقال سبحانَه: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (2) . فأخبر سبحانَه أنّ الزمر المَسُوقةَ إلى جهنم من الذين كفروا قد جاءتهم رسلُ الله يتلون عليهم آياتِه ويُنذِرونهم
يوم القيامة.
وقال سبحانه: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (3) .
فأخبر سبحانَه وُتعالى أن كلَّ فَوج يُلقَى في النار يَعترِف بمجيء النذير ويُقِرُّ بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقلٌ أو سمع لكان ذلك سببًا لنجاتهم.
وهذا نظيرُ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (4) ، وقولي تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
__________
(1) سورة الأنعام: 128-131.
(2) سورة الزمر: 571
(3) سورة الملك: 6-10.
(4) سورة الحج: 46.(5/48)
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (1) . ودل ذلك علي أنه ليس مرادُه بالعقل أو بالقلب العاقلِ ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: "لو كنا نسمع أو نعقل" أنّ النذيرَ جاءَ كلَّ فوجٍ منهم، فكذَّبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيبِ لا يَبْقَى عَقْل مُنْجِي، وإن كان العقلُ باقيًا.
وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2) ، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (3) ، فإنما ذكر ذلك لبيان الاعتبار بآثار المُهْلَكِين من الأمم الذين كذَّبوا الرسلَ وعصوهم، وهذا إنما هو عقلٌ يُنتَفَعُ به في الإيمان بالرسلِ وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذْ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى مُوقِظ. وقد أخبر سبحانَه وتعالى في غيرِ موضع العقلَ المتعلقَ بآياته، كقوله سبحانَه وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (4) .
وقال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
__________
(1) سورة ق: 37.
(2) سورة ق: 36-37.
(3) سورة الحج: 46.
(4) سورة العنكبوت: 43.(5/49)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)) (1) . فبيَّن سبحانَه أن من تَرَك عهدَ الله إليه وَضَل عنه لم يكن يَعقل.
وقال سبحانَه وتعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)) (2) . وقال أيضًا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)) (3) . قال ابن عباس (4) : تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه أن لا يَضِل في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة، وقرأ هذه الآية.
فأخبر سبحانَه أن من اتبعَ ما جاءَه من الهدى على ألسُنِ الرسلِ لا يَضِلُّ ولا يَشقى، فلا يحزن ولا يُعذب، وأنّ من أعرضَ عنه فإنه يُعذَّب بالمعيشة الضَّنْكِ، وأنه يكون أعمى يوم القيامة، ضِدّ المتبع لهداه. ثم بيَّن سبحانَه أنه يَعمى في الآخرة وإن كان بصيرًا في الدنيا، لأنَّ آياتِ اللهِ أَتَتْه فتَركها وأعرضَ عنها.
__________
(1) سورة يس: 60-62.
(2) سورة البقرة: 38-39.
(3) سورة طه: 123-127.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/147) .(5/50)
وفي هذا بيانٌ واضح لأن المعرضَ عن آيات الله بتركِ الاستهداءِ بها يَعمَى ويُعَذَّب، ولا ينفعُه بَصَرُه وعقلُه. وبيَّن أن هذا الحقّ يَلْحَقُه وإن لم يكن مكذّبًا للرسل، لأنه علَّقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبيَّن أن ذلك نِسيانُ آياته التي هي تركها.
ثم قال: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ) ، فمجردُ عدمِ الإيمان هو المؤثر وإن لم يكن ثَمَّ تكذيبٌ، فإنَّ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما. وكلّ واحد من التكذيبِ وعدمِ التصديق كفرٌ.
ولما كانَ الغالبُ على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجابَ بآرائهم وبصائرِهم وعقولهم، والاستخفافَ بأتباعِهم، قال سبحانَه عن قومِ هود: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) (1) . فأخبرَ سبحانَه أن السمعَ والبصرَ والفؤادَ لا يُغنِي مع الجحود بآياتِ الله.
ومثل ذلك قوله سبحانَه: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (2) . فأخبرَ أن المنذَرين
__________
(1) سورة الأحقاف: 26.
(2) سورة غافر: 83-85.(5/51)
أُعجبُوا بما عندهم من العلم، وهذه حالُ من استغنى بعقلِه وعلمِه عمّا جاءت به الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أنَّه أحاطَ بهم ما كانوا يستهزئون به ممَّا أنذرتْ به الرسلُ. وهذه حالُ عامة المتكايسِين من هؤلاء الذين يُنكرون العقوباتِ التي أخبرتْ بها الرسلُ.
وأخبرَ سبحانَه أنَّ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم بقوله سبحانَه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)) (1) ، وقال سبحانَه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)) (2) . وكما أخبرَ سبحانَه أنه لم يكن معذِّبًا أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا، أخبر سبحانَه أنه بعثَ في كل أمة رسولاً، لكن قد كان يَحصُلُ في بعض الأوقاتِ فَتَرات من الرسُل، كالفترةِ التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلَّم، كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) (3) .
وزمان الفَترةِ زمان دَرَسَتْ فيه شريعةُ الرسول وأكثرُ الدُّعاةِ إليها
__________
(1) سورة النحل: 36.
(2) سورة فاطر: 24.
(3) سورة المائدة: 19.(5/52)
إلاّ القليل، ولم يَدْرُسْ فيها علمُ أصولِ دينِ المرسلين، بل يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ، كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فَتْرَةٍ من الرسلِ بَقَايَا من أهل العلم، يُحيُون بكتاب الله الموتَى، ويُبصِّرونَ بها أهل العَمَى".
وكما قال علي بن أبي طالَب -رضي الله عنه- في حديث كُمَيْل بن زياد: "لن تَخلُوَ الأرضُ مِن قائمٍ لله بحجةٍ، لئلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا" (2) . فمن قامت عليه الحجةُ في الإيمان والشريعة التي جاء بها الرسولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجبَ عليه اتباعُ ذلك، ومَن دَرَسَتْ عنه شرائعُ الرسُلِ أو لم يكن رسولُه جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين المرسلين ففرضُه ما تواطأتْ عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح، دونَ ما تميَّزَت به شريعةٌ عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم- هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (3) .
__________
(1) في مقدمة كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" كما سبق.
(2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/79-80) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/49-50) ضمن حديث طويل. قال الخطيب: هذا الحديث من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظًا. وشرحه ابن القيم شرحًا وافيًا في كتابه "مفتاح دار السعادة" (1/123-153) . وفي إسناده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف، وشيخه عبد الرحمن بن جندب الفزاري مجهول.
(3) سورة البقرة: 62.(5/53)
فحمِدَ سبحانَه من هذه الأصناف الأربعة مَن آمن بالله واليوم الآخر وعملَ صالحًا، وجعلَهم من السعداء في المعاد، وهذا يُبيِّن أنّ في الصابئين من يكون سعيدًا في الآخرة حميدًا عند الله.
وكذلك قال في سورة المائدة (1) : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ) ، والنصارى مقدَّمون على الصابئين كما في سورة البقرة، ويُشبه -والله أعلم- أنهم قُدِّموا هنا لفظًا لتقدُّم زمنِهم، وجيىءَ بهم بَصيغة الرفع ليبيّن أن مرتبتهم التأخير، لأنّ المعطوفَ على "إنَّ" واسمِها بصيغة المرفوع إنما يُعطَف بعد تمام الكلام. والصابىء هو الخارج، ولهذا كانوا يُسمُّون مَن خَرج من دينهم الصابىءَ. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين فالأشبهُ بظاهر القرآنِ والعربية وما دلَّت عليه السِّيَر وما تقتضيه أصول الشريعة: أنَّ الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو المتفَّقُ عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك يَصْدُق عليهم أنهم خارجون من خصوصِ كل شريعة، ويَصدُق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا.
فأما من كان صابئًا لا يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحًا فهؤلاء الكفّار منهم، كعُبَّاد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بُعِث إليهم إبراهيم كانوا صابئة، وكذلك فرعون وقومُه، وكذلك أكثر
__________
(1) الآية 69.(5/54)
أهل الأرض، وكان غالبُهم مشركين، وعلماءُ الصابئين هم الفلاسفةُ، فمن كان من أولئك الفلاسفة مؤمنًا بالله واليوم الأخر عاملاً صالحًا فهو من الصابئين الذين أثنى الله عليهم، ومَن لا فلا (1) .
وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإنّ الله لم يَحْمَد أحدًا منهم، وإنما ذكرَهُم لبيان حكم الله بينهم وبينَ غيرِهم يومَ القيامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2) .
ولما كان معلومًا أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة إلاّ أتباعُ الأنبياء، إذ مَن لم يتبع الأنبياءَ من الصابئين وغيرِهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس هو اليوم الآخر عُلِمَ أنّ من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء.
فتبيَّن أن كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء، وأنّ كل عذاب اسْتُحِقَّ في الدار الآخرة فهو بالإعراض عمّا جاءوا به، ومَن لم تبلُغْه دعوتُهم فقد ورد أنَّه يُكلَّف في الدار الآخرة، وليس غرضُنا ذِكْر ذلك.
ويُبيِّن ما قدَّمناه أنّ من استَقْرأ أخبارَ الأمم -علمائِها وعوامِّها-
__________
(1) ذكر المؤلف في "درء تعارض العقل والنقل" (7/334) القسمين من الصابئين، كما ذكر هنا.
(2) سورة الحج: 17.(5/55)
لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا.
وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان:
نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء. ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه.
وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص.
وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة.(5/56)
وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط.
وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟
ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق (1) .
ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.(5/57)
معتمدين -زعموا- على ما أوجبَه ذلك القياسُ العقلي. وبإحْكَامِ دلالاتِ الوحي والقياس يَبِيْنُ الحقُّ من الباطل.
ولستُ أعني بالقياسِ هنا مجردَ قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثيرٌ من فقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه قياسٌ مجازًا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرام، وإن كان طائفة من متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما هو أعمُّ من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسميةُ الأول قياسًا ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيرِه، كما يقال: قِستُ الجراحةَ بالميلِ، وقستُ الأرضَ أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاصَّ إذا أدرجتَه تحتَ المعنى العام فلا بدَّ أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنتَ تطلبُ مماثلةَ تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها.
وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تُدْرَكُ] العلوم العامة الكلية، فإذًا لا يمكنك هذا القياس إلاّ بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسمُ بمعرفة الواحد منها مثالٌ في الذهن يُوزَن به سائرُها، ولا كانت حقيقتُه مما يمكن أن تتعدد، حتى يأخذها العقل كليةً، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت حقيقتُه لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف يمكن أن يُعلَم(5/58)
هذا الذات بالقياس العقلي أبدًا؟ ولهذا قال ابن عباس…… (1)
فتبيَّن أن خواصَّ الربّ سبحانَه لا تُعلَم بالقياس الكلّي الذي يُسميه المتكلمون الدليل العقلي. بل قد تُعلَم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيرِه، لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامةُ ما يُدرِكُه أهلُ القياس من معرفةِ الأمور السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك الأمرِ بالعدم، وذلك الأمر المعدومُ يدخلُ تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمرٍ إليه هي حكم على ذلك المضافِ باستلزام الإضافة إلى أمرٍ ما، وذلك المضافُ يدخل تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصُّه فتُعلَم تارةً بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارةً بالهداية الخاصة التي يمتاز بها المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاصّ الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارةً بالوحي الذي يمتاز به الأنبياء، وكلٌّ من هذه الأقسام فأهلُه فيه على درجاتٍ غيرِ محصورةٍ لنا.
فهذا أصلٌ ينبغي ضبطُه.
وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرةُ خير قرون هذه الأمة تَشهدُ بأن الله ورسولَه بيَّنَ وهَدَى وشَفَى، وأنه بَلَّغَ البلاغ المبين، وبيَّن باللسان العربي المبين، وأنه لم يُحِلِ الخلقَ على غيرِه في هذا الباب، ولا وَكَلَهم إلى القياس الذي لا يُجدِيْ كما تقدم، بل تولَّى بيانَ ما تحتاج إليه الأمة. وهذه جملةٌ سيأتي -إن شاء الله- تفصيلُها.
__________
(1) بعده كتب في الأصل: "بياض".(5/59)
ثم لما كان للقياسِ على العقول سلطان عظيمٌ إذا لم يهتدِ إلى مواقفه ومجاريه، وللوحي في القلوب برهانٌ عظيم لعلمِها بما اشتملَ عليه، ورأى أكثرُ الخلقِ أن بينَ مقتضى القياس والوحي تعارضًا بينًا وتنافِيًا واضحًا، تحزَّبَ الناسُ هنا فِرَقًا:
فريقٌ غلبَ عليهم معرفةُ القياس دون الأثارة (1) ، فاتبعوا موجبَه، ثم ردُّوا ما بلغَهم من الأثارة أو تأولوها.
وفريقٌ غلبَ عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهلِه سلطانًا عظيمًا، فأحجموا عن النظرِ فيه ومفاوضةِ أهلِه، صونًا لأبْصارِهم من العمَى ولقلوبهم من الحيرة. وهؤلاء أحسن حالاً، بل هم على نهج سلامةٍ.
وفريقٌ أعرضوا عن تدبُّرِ هذا والنظرِ في هذا، وشَغَلُوا نفوسَهم بغير هذا.
وفريق قَوِيَ إيمانُهم بالأثارة، وأحسُّوا بسُوءِ حالِ أهل القياس، فذَمُّوهم وعابوهم على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فَكَّ أقيادِهم ولاتذليلَ قيادهم، وهذه حالُ كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتَّب عليها الجورُ أحيانًا، لكن من كان [من] هؤلاء سببًا لدلالةِ الأثارة نافيًا عنها تحريفَ المخالفين كان من علماء الدين، وإن كان دفعُه للمعارضِ إجماليا.
__________
(1) هنا وفيما يأتي وردت كلمة "الأثارة" بدل "الآثار"، وفي القرآن: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)) .(5/60)
وفريقٌ فوقَ هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أُوتُوا من الهداية الخاصة ما عَلِمُوا به فسادَ القياسِ تفصيلاً، فزالتْ عنهم المعارضاتُ بالكلية، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مُثبتا لفؤادِه.
ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلصَ إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعُه، فكان حكمُه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، فربّما أخذَ يُؤيِّد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيءُ الأثارة لم يَطمئن إلى موجبِ القياس.
وقومٌ منهم ضَعُفَ علمُهم أو إيمانُهم بالأثارة حتى نَأَوْا عن الهُدَى، ثمّ عَظُمَ قدرُ الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات. ولا يَشُكُّ لبيبٌ أن الموغلين في القياس إذا طَرَقَ سَمْعَهم جمهورُ ما جاءت به الأثارة بقُوا متحيرين كما يُخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضًا يَقضِي باستحالةِ اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياسُ يَقضِي بفساد القياس.
وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدُّد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهدُ إلاّ بحقّ، وما يُخبِر به أهل
__________
(1) كذا في الأصل.(5/61)
البرّ والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سُوءِ حالِ هذا وحُسْنِ حال هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءَه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجِب رجحانَ موازينهم وخِفّةَ موازينِ مخالفيهم، صارت تُثبتُ أفئدتهم وتَزيد إيمانهم وتدفع عنهم شُؤم المعارضات.
والأمرُ كما أصِفُ وفوقَ ما أصِف، وكان حَصَلَ عندي من هذا ما حَصَلَ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حَدَثَ من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين، عينُ أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومَن تتبيّن الفوائد بمذاكرته وتُستفاد المقاصد بمناظرته، فعَلق عليها من الأسْولةِ ما التمسَ حَلها، ومن المباحثِ ما اقتضى فرعها وأصلها…… (1)
قلتُ في حكاية المناظرة (2) : "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلكَ سبيلَ السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قُلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه: آمنتُ بالله وما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنت برسولِ الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا سلكنا طريقَ البحث والتحقيق فإن الحقَّ مذهبُ مَن يتأَوَّلُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَ الصفات من المتكلمين.
__________
(1) كتبت بعده في الأصل: "بياض".
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/354)(5/62)
فقلتُ له: أما ما قالَه الشافعي فإنه حق يجبُ على كل مسلمٍ أن يقوله ويعتقدَه، ومن اعتقده ولم يأتِ بقولٍ يُناقِضه فإنه سالك سبيلَ السلامةِ في الدنيا والآخرةِ. وأما إذا بَحَثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ أنَّ الحقَّ مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا. فاستعظم ذلك وقال… (1) .
قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وجدَ
ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلاً": الكلامُ على [هذا] من ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يُخالف قولَهم ويُناقِضه، لا القول بما لم يُصرِّحوا بنفيه ولا بإثباتِه، ولا أُسَلِّم أنَّ المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإنْ نُقِلَ ما ظاهرُه ذلك حَملناه على التأويل بغيرِ دليلٍ أو على غيرِ القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئةِ بعضِهم. وبالجملة فلا أُسلِّم أنَّ معتبرًا حزَمَ تأويلاً يَشهَدُ العقلُ بصحتِه عند الحاجةِ إليه، لعالمٍ متبحرٍ لا يَرضى بأسرِ التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العباد.
فإن قيل: فقد اشتهَرَ النهيُ عن الكلام في التأويل.
__________
(1) اقتبس المؤلف من كلامه هذا القدر لأنه المقصود بالبحث هنا، وتتمته في المصدر السابق.(5/63)
قلتُ: لعلَّ ذلك للعوامِّ، أو على طريق الورع لا التحريمِ، لِمَ قُلتم إن الأمر ليس كذلك؟
والوجه الثاني: لو سلَّمنا أنّ بعضَهم حرَّم ذلك، فهل نُقِلَ التحريمُ عن نصِّ الله أو عن نصِّ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجةَ ليستْ في قولِ البعض، لاسيما إذا خالفوا البعضَ الآخر.
الوجه الثالث: أنّا ننقلُ عنهم الإجماعَ على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي، ونطالبُ بالفرق.
والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين:
المقام الأول: في بيان أنّ هذه الأسوِلةَ هل هي متوجهة واردة يَجبُ الجواب عنها أم لا؟
والثاني: في التبرُّع بالجواب بتقديرِ عَدَمِ وجوبِه.
أما المقام الأول
فيمكن أن يقال: نحنُ نطالبكم بتوجيه هذه الأسولةِ، فإنه ليس منها شيء واردًا، فضلا عن أن يستوجبَ جَوابًا.
أما القول بالموجب فعليه أولاً مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما يَرِدُ على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا قيل: إن القول بالموجب سؤال يَرِدُ على كل دليلٍ. لكن المعترض يَدَّعي أنه يقول بموجب دليلِ المستدلّ من غير التزامٍ لدعواه، ببيان عدم دلالتِه على محلّ النزاع،(5/64)
وحاصلُه أنه يمنع دلالةَ الدليلِ على محل النزاع، ويُضيف إلى ذلك أنه قائلٌ بموجبه، وموجبُه غيرُ محلِّ النزاع، فالقولُ بالموجب إبداءٌ لسندِ المنعِ.
أما الدعوى قبلَ ذكرِ دليلِها، فإذا قيل بموجبها، بأن كانَ قولاً بموجب قصد المدعي، فهو موافقةٌ في المسألة وليس باعتراضٍ، فإن من قال: لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، فقيل له: تقول بموجب هذا؟
أي تقول بما قصدتَه بهذه العبارة، كان هذا وفاقًا لا سؤالاً، وإن كان قولاً بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركًا أو مجملاً ونحو ذلك، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلامًا قليل الفائدة، ولم يُعَد من الأسولةِ الواردةِ، بل يُعَدُّ من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهرُ اللفظ ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرّر الدعوى، بل ادَّعيتَ الذي ادعيتَ بلفظٍ مجملٍ أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره يَنفي القولَ بالموجب فلا مناقشة فيه أصلاً. ثمَّ إذا توجَّهت المناقشة اللفظية مِن الناس مَن يترك مثلَ هذا السؤال ويقول: هو خروجٌ عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظٍ قد لحن فيه. ومنهم من يُورِده ويَعدُّه من ضَبْطِ آداب المناظرة، والأمر في ذلك قريب.
أما مسألتُنا فالدعوى محرَّرةٌ تمنع القول بالموجب إلاّ على سبيل الموافقة، وعلى سبيل الموافقة لا يَبقَى نزاعٌ، فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفحصَ وجدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون(5/65)
به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ الحقَّ مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". والمخالفةُ لا تكون إلاّ بما يخالف قولَهم ويناقضه، فنصيرُ مدَّعينَ أنَّ قولَ المتكلمين الذي يناقض قولَ أهلِ الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إنّ قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقولَ قول باطل. وهذا ليس بدليلٍ حتى يكون القول بموجبه سؤالاً جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، فإمّا أن نُوافَق عليها أو نُخالَف، فإنْ خُولفْنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن وُوْفِقْنا فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
يَبقَى أن يُقال: فهل للمتكلمين قولٌ يخالف قولَ أهلِ الحديث، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظرِ على وجودها وعدمها؟ ولا شكَّ أن مرادَنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنًا، بأن نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديثِ فهو باطل، وإلاّ فلا نصَّ.
ومثل هذا السؤال إذا قيل: كلّ قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياءَ لا مخالفون، وإنما يَعتقد مخالفتَهم لهم عوامُّ أهلِ الملل ومتكلمو أهلِ الجدل، فإذا قال: أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالاً، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها.
ومع هذه المناقشة فتسميةُ مثل هذا الكلام قولاً بالموجب لا تأباه اللغة العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناسُ في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ما أوجبتَه بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين(5/66)
أنا أقولُ به، لكن لم تُوجَد المناقضةُ بين القولين، فكأنك تدَّعي بطلانَ ما لا وجودَ له، وأنا قائلٌ بموجب عبارتك لا بموجب إرادتِك. وأنتَ تحكمُ على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يُوجَد. لكن إذا قال السائل هذا قال له المدَّعي: أنتَ كما قد وافقتَني على مُدَّعايَ، فإن لفظي إمّا أن يَعنِيَ نوعًا أو عَينًا، إن عُنِيَ به النوعُ فليس من ضرورة الحكم على النوع وجودُه في الخارج، بل قد يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ذلك.
وإن عُنِيَ به العينُ كان التقديرُ: هذا التأويل المعيَّن الذي يخالف أهلُ الكلام [فيه] أهلَ الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين، ثم تَبقَى المنازعةُ في تسميتِه خلافًا لأهل الحديث. ومعلوم أن هذا ثَلْمٌ للمسألة ونزاع في نَفْيِها.
فحاصلُه أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عُنِي بها النوعُ وتنازع في وجودِها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتِها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدلَّ عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يَضُرُّ بعد ذلك النزاعُ في اسمها.
وتحريرُ السؤال أن يقال: لا نُسَلِّم أن أهلَ الكلام خالفوا أهلَ الحديث، فإنهم لو خالفوهم لقلنا: الصوابُ مع أهلِ الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقديرِ وجودِها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: لو سلّمنا أن بعضهم حرَّم ذلك فهل نُقِلَ التحريم عن الله أو رسوله أو أهلِ الإجماع، ومن سَلَّم الحكمَ لم يكن له أن يُطالِبَ بالدليل، لأنه منعٌ بعد تسليم، وهو غير مقبول.(5/67)
وأما السؤال الثالث -وهو نقلُ الإجماع على بعض التأويلات- فلا يَرِدُ أيضًا، لأن ذلك إن صحَّ لم يدخل في الدعوى، لأنّا قلنا: تأويلُ المتكلمين المخالفُ لأهل الحديث باطل، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تُبطِلون بعضَ التأويلات وتُصحِّحون البعض؟
والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة.
وأيضًا مما يُبيِّن عدمَ ورودِ هذه الأسوِلة: السؤال الأول، وهو منعُ الاختلاف بين أهلِ الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع مَن يدَّعي أن الحق مع أهل التأويل دونَ مَن خالفَهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردًّا على من نَصَرَ أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نَصَرَ أهلَ الحديث.
وأيضًا فإنه عَقِبَ هذا الكلام قد قلنا (1) : "إنّ أمهاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصفِ الله بالعلُوّ، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلَف فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهرُ من أن يُحتَاجَ إلى نَقْلٍ.
فإن قيل. لا نُسلِّم أن أحدًا خالفَ أحدًا في هذه المسائل، بل كلُّ تأويلٍ فيها للمتكلمين فإنّ أهلَ الحديث لم يَنفُوه، بل سكتوا عنه.
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (6/354، 355) .(5/68)
قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مَهَّدَتْه الكتب المصنَّفَة دليلٌ على وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية.
وأيضًا فإنّ الفاضل المُباحِث -أيَّده الله- قد حكَى في مَباحثِه هذه عن القاضي عياض (1) : "أما من قال منهم بإثباتِ جهةِ "فوق" له تعالى من غير تحديدٍ ولا تكييف مِن دَهْماءِ المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيَتأوَّل "في السماء" بمعنى على، وأما دَهْماءُ النُّظَّار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] المُحِيْلِيْنَ أن يختصَّ به جهة أو يُحيط به حدٌّ، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها".
ومعلوم بأنّ هذا تصريح بأنّ لهؤلاء النُّفاةِ تأويلاتٍ يخالف فيها المثبتون لكونه فوقَ العرش، وهذه التأويلات مما قضَينا بإبطالها، فكيفَ يَتوجَّهُ مع هذا أن يُقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهلَ الحديث؟
ونحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ، بل قلنا: كلُّ تأويلٍ للمتكلمين يخالفهم فيه أهلُ الحديث فهو باطلٌ.
ومعلوم أن هذا تكفِي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد سلمتُموها وحكيتُموها.
وهَبْ أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنَّا سنتكلَّم على هذا إن شاء الله- لكن مضمون هذه العبارةِ أن التأويل الذي أثبتَه المتكلمون ونَفَاه أهلُ الحديث باطل.
__________
(1) إكمال المعلم (2/465) .(5/69)
وأيضًا فقد قلنا في عَقِبَ هذا (1) : "إنَّ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل، وتكييفٍ يُفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حقٌّ صريح وحكم صحيح، فهذا التأويلُ الذي يُفضي إلى التعطيل معلومٌ أنه قد وُجِدَ، فإن كثيرًا من المتأوِّلينَ يَنفي الصفات كلَّها وأحكامَها، وبعضهم يثبتُ أحكامَها، وبعضهم يثبت أحوالَها، وبعضهم يثبت بعضها دونَ بعض، فهؤلاء مُعطِّلةُ الصَفاتِ أو بعضِها، وأهلُ الَحديث يخالفونهم في هذا.
ولم نُرد بالتعطيلِ تعطيلَ اللفظ عن معنًى، فإن التأويل لا يتصَوَّر أن يُفضي إلى هذا التعطيل، لأنَّ المتأوّل لابُدَّ أن يَحمِلَه على معنًى مَّا، فلا يكون قد عَطَّله عن جميع المعاني، وإنما عَطَّل الصفةَ التي دلَّ عليها النصُّ، وعَطَّلَه عن معناه المفضول المفهوم. ومعلوم أن التأويل المُفْضي إلى هذا التعطيل قد وقعَ فيه كثيرٌ من المتكلمين نُفَاةِ الصفاتِ أو بعضِها، ومعلوم أنّ هذا التأويل يُنكِره أهل الحديث، وكلُّ من وافقَهم من المتكلمين على إثباتِ صفةٍ فإنه يُنكِر التأويلَ الذي يُفضي إلى تعطيلها. فكيف يَصِحُّ بعد هذا أن يُقال بالموجب إلاّ بالموافقة؟
نعم، لو قيل: بعضُ هذه التأويلات التي ينفونَها نقول بصحتها، لكان هذا سؤالاً متوجِّهًا، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعَه، وإنما موضعُه الأدلة.
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (6/355) .(5/70)
ثمّ إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليلَ على بطلان التأويل في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرةٍ جَرَتْ، وكان الكلامُ في صفة اليد نموذجًا يُحتَذَى عليه غيرُه من الكلام في غيرِها.
وأيضًا فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وَجَدَ ما يقولُ المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنّا لا نُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين، وليس هذا المنع مطابقًا للدعوى، فإنّا لم نقلْ: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: "تأويل المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلُهم المخالفُ لأهل الحديث يَدخُلُ فيه تأويلُ كلِّ متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجبَ أن يُحملَ هذا اللفظُ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟
من غيرِ أن يكون في اللفظ ما يدلُّ عليه، بل تمامُ الكلام يُصرِّح بالعموم حيثُ قلنا: "أمهات المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين -ممن يَنتحِلُ مذهب الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة".
فهذا يدلُّ على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهلَ الحديث في أكثر من ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنعُ المتوجّهُ "لا نُسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلاّ بمنزلةِ أن يُقال: ما خالفَ به الفلاسفةُ الأَنبياءَ فهو باطل، فيقال: لا نُسَلِّم أن فُضَلاءَ الفلاسفة خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: ما خالفَ به(5/71)
المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نُسلِّم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ معتَبرِي الآدميين خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: كُفَّارُ مكةَ من قريش والعرب في النار، فيقال: لا نُسَلِّم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا.
وأيضًا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تَعنُون بالمعتبرين من المتكلمين لا يَخلُو: إمّا أن تُريدوا بالمعتبرين ناسًا معيَّنينَ أو موصوفينَ، فإن أردتم ناسًا معيَّنين فاذكروا مَن شِئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكُرَ لكم أنَّ أقوامًا من أعيان المتكلمين رَدُّوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلاً عن أهلِ الحديث. بل سَمُّوا مَن شِئتم، حتَّى أُبيِّنَ أنه نفسه يَرُدُّ بنفسِه على نفسِه، وأنّه يتأوَّلُ التأويلَ في كتابٍ، ثمَّ يمنعُه أو يُبطِلُه في كتابٍ آخر، وربما فَعَلَ ذلك في المصنَّفِ الواحدِ.
وإن أردتم بالمعتبَرِين موصوفِين، مثل أن يقال: المعتبرُ مَن له بَصَرٌ ثاقب وعلم بما يجوز ويجب ويمتنع على اللهِ وما يَسُوغُ في لسان العرب، حتى يتأوَّل بعقلِه وعلمِه ومعرفتِه بالمعقولاتِ والمسموعاتِ تأويلاً سائغًا= فهذا أوسعُ عليكم من الأول، فإن المتكلمين أنواعٌ مختلفة، وكلٌّ منهم يَرُدُّ على الآخر تأويلاتِه ويُبطِلُها ويُحرمُها عليه، بل كثير منهم يُكَفِّر الآخر ببعضِ تلك التأويلات، حتى إنّ التلميذَ منهم يُكَفِّر أستاذَه.(5/72)
وأهلُ الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلاتِ لا في إثباتِ شيء منها:
فنُفاةُ الرؤيةِ من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوصَ فيها تارةً برؤية أفعال الله، وتارةً برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومُثبِتُو الرؤية من أهل الحديث والكلام يَرُدُّون ذلك ويُنكِرونَه.
ومُنكِرُوْ الكلامِ الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدثَ في غيرِه كلامًا خاطبَ به عبادَه، ومُثبِتو الكلامِ الحقيقي من أهل الحديث والكلام يُبطِلون هذا التأويلَ ويُحرِّمونَه.
ونفاةُ الصفات يتأولون (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1) و (ذُو الْقُوَّةِ) (2) والسمع والبصر ونحو ذلك، ومُثبتو الصفاتِ من أهل الحديث والكلام يُنكِر [ونَ] هذه التأويلات. بَل الأشعريةُ المتمسكون بالقولِ الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاّني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- يُنكِرون على من يتأؤلُ صفةَ اليد والوجه وغير ذلك، كما صَرحوا به في كُتُبهم (3) .
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأوَّلون ما وردَ في صفة الملائكة والجنّ والجنّة والنّار والقيامة وحَشْر الأجساد.
وأهلُ الإثبات جميعًا -أهل الحديث وأهل الكلام- يُنكِرون
__________
(1) سورة النساء: 166.
(2) سورة الذاريات: 58.
(3) انظر "الإبانة" للأشعري (ص 35-39) و"التمهيد" للباقلاني (ص 295-298) .(5/73)
على القدرية الذين يتأولون آياتِ الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوصِ القدر.
وأهلُ الحديث قاطبةً مع مَن وافقَهم من أهل الكلام يُنكِرون على من يتأوَّلُ النصوصَ المُدْخِلةَ للأعمال في الإيمان.
وجميعُ أهل القبلة إلاّ الوعيديَّة يُنكِرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوصَ الشفاعة.
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقةِ الفلاسفة وغُلاةِ الصوفيةِ تأويل نصوصِ الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك.
وأهلُ الحديثِ قاطبةً والفقهاءُ والصوفية مع من اتبعَهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة يُنكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوصَ الفوقية والعلوّ. وكذلك يُنكرون على الذين يتأوَّلون نصوصَ الصفات بما سنذكره إن شاء الله.
وأهلُ القبلة جميعًا محدِّثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويلَ هاتينِ الفرقتين النصوصَ المُدخِلةَ للعُصاةِ في اسم الإيمان في الجملة.
دعَ التأويلات المتعلقةَ بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضُهم يَرُدُّ تأويلاتِ بعضٍ ويُبيِّنُ فسادَها قديمًا وحديثًا، ويُوافقُهم على ذلك الردّ أهل الحديث، مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلِّم أن معتبرًا ردَّ تأويلَ معتبرٍ، بل مفسِّرو القرآن وشُرَّاح الحديث(5/74)
لا يزال أهل الحديث وغيرهم يَرُدُّون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، وذلك أشهرُ وأكثرُ من أن يُسَطَّر.
ثمّ كلٌّ من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويلُهُ معتبر، بمعنى أنه ذو ذهنٍ ذكيّ وعلمٍ واسع وفضيلةٍ جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهمِ يَعتقد أتباعُه فيه أنه أفضلُ من كثيرٍ من المعظَّمين عند غيرِه، فإن فسَّرتَ "المعتبر" بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نُسلِّم أن تأويلَ مثلِ هذا لا يُرَدُّ، بل تأويلُه الباطل يُرَدُّ، كما تُرَدُّ فتواه الضعيفة وحديثُه الذي غَلِطَ فيه.
الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يَشهَدُ به استعمالُ لفظ المتكلمين.
الثالث: أنّ هذا منع لغير ما ذُكِر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نُسَلم أن تأويل من [عُلِمَ] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطلٌ، ونحنُ ما ادَّعَينا هذا قَطُّ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزولٌ مع المخاطب، فإنه فَهِمَ من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدلُّ عليه لفظُنا ولم نَعْنِه، فإنّ أهلَ الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادًا وفقهًا وعملاً، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رَوَوا الحديث أو لم يَروُوه، بحيث يدخلُ في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذَوِيْه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي(5/75)
والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادَيْن والسفيانَين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث.
فإن قلتم: مرادُنا لا نسلِّم أن المعتبرين من المحدثين حرَّموا على المتكلم المعتبر أن يتأوَّل، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعيَّن، لكن سوَّغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاتِه، وإن لم يكن ممنوعًا من جنسها.
قلنا أولاً: كلامُكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إنْ نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ من التأويل حَملناهُ على التأويل بغير دليل أو على غيرِ القواعد الكلية، ومعلوم أنّ كلَّ من تأوَّلَ تأويلاً من المشاهير وقد ردَّه عليه غيرُه فإنما تأؤله بدليل من عندِه، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يُقيم الأدلة التي يَزعُم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناعِ الإقرار على الظاهر، مع مخالفةِ جماهير علمَاءِ القبلة وقَطْعِهم بأنه ضالٌّ أو مخطىء في تأويلِه، ولعلَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم أو كلّهم قد يُكفِّرونه بذلك التأويل، كما يُكفِّرون نُفاةَ حَشْرِ الأجساد، وإنْ تأوَّلُوا ما جاءت به الرسُلُ لأدِلَّةٍ ادَّعوها وعلى قواعدَ وَضَعوها.
وأعجب من هذا -ولا عَجَبَ- قولُكم: "توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم من تخطئِه بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد عُلِمَ بالاضطرار اختلافُ أهلِ القبلةِ في كثيرٍ من تأويل الآيات والأحاديث: هل تُصْرَف عن ظاهرها أم تُقَرُّ على ظاهرِها؟ وإذا صُرِفَتْ فهل تُصْرَفُ(5/76)
إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتبُ والنقول مشحونةٌ بتكفير بعض المتأولين فضلاً عن تخطئتِه. وأما تخطئةُ بعضِ المتأولين فهذا أمرٌ معلومٌ بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامةُ الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئةِ بعضهم في فهمِه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجهٍ يخالفُه فيه الباقونَ.
فإن قلتم: كلُّ من تأوَّلَ بدليلٍ على القواعد سَوَّغناه له، وإن كان قد يُخطِىءُ.
قلنا: فيكون تأويلُ الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية والباطنية والفلاسفة كلُّها سائغةً وإن كانت خطأً، وهذا مما عُلِمَ بالإجماع القديم بل بالاضطرار من دينِ الإسلام أنَّ جميعَ هذه التأويلات ليست سائغةً، بل تسويغ جميعِ هذه التأويلات على خلافِ إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق الأمة لا يسوِّغ جميع التأويلات.
وقلنا ثانيًا: فنحنُ إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون
به أهلَ الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلانِ النوع المقيَّد بطلانُ الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويلَ المخالفَ لأهل الحديث [لا] يلزمنا أن نمنعَ كلَّ تأويلٍ في الدنيا، وأن نُحرِّم على كلّ معتبرٍ أن يتأوَّل تأويلاً لا يخالف أهلَ الحديث…… (1) .
__________
(1) كتب في الأصل بعده: "بياض".(5/77)
وقلنا ثالثًا: نحنُ قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونُها سائغةً أو محرمةً فهذا لم نتعرضْ له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين أن يتأولوا، وإنّ معتبرًا لم يُحرِّم التأويل الموصوف" كلامٌ لا يَمَسُّ كلامَنا ولا يُقابلُه، بل هو أجنبيٌّ عنه غيرُ متوجهٍ، فلا يستوجبُ الجواب. نعم، َ إن ادَّعيتم أن كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صوابٌ فهذا نقيضُ قولنا، ففَرقٌ بينَ صحةِ التأويل وفسادِه وبينَ حرمتِه وحِلِّيتِه، ألا تَرى أن الفقهاء في تأويلهم نصوصَ الأحكام يجوزُ لهم التأويلُ في الجملة، وإن كان كثيرٌ من تأويلِ بعضهم قد يَظهر أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهادُ في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يُحكَم ببطلان بعض الفتاوى والأقضية.
على أنّ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ، فإن المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يُرِد هذا، والنفيُ والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلاّ أن يقول قائلٌ: إن الله أراد من زيد أن يفهم هذا، وأراد من عمروٍ أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكادُ يقوله إلا من يخالفه جمهورُ الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من المتكلمين.
فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صِنفًا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك.
فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه ما من واحدٍ من هؤلاء إلاّ له تأويلاتٌ يُنكِرُها عليه(5/78)
بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [مَن] هو نفسه يُحرِّم التأويل أو يُبطِله تارةً، ويُسِيْغُه ويُصحِّحه أخرى لأصحاب الحديث.
أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهلُ الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يُنكِرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريمًا وإبطالاً.
وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف:
صنف يُحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ويُبطِل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضلُ أصحابه (1) ، وأبو علي ابن شاذان، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني.
وصنف يُحرِّم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فسادِه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته "النظامية" (2) ، وهو قولُ أكثرِ المفوِّضة من المتكلمين.
وصنف يُبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يُبيحه مطلقًا.
وهذا قولُ الجَويني في "إرشادِه" (3) وغيره، وجميعُ هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها.
__________
(1) سبقت الإحالة إلى كتابي الأشعري والباقلاني فيما مضى.
(2) ص 32-33.
(3) ص 67-71.(5/79)
فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريمًا وجوازًا، وصحةً وفسادًا.
وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلاً فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحةً وفسادًا، ومختلفون أيضًا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تُتأؤل أو تُجرَى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط والميزان والحوض:
هل تُتأوّل أو لا تُتأوّل، إلى غير ذلك. منهم من يُبيح تأويلَ ذلك ويصححه، ومنهم [مَن] يُحرِّمُه ويُبطِله.
وسأذكر إن شاء الله مذاهبَ الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن من تعصَّب لفرقةٍ من أهل الكلام وجَعَلَهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يُبيح لهم التأويل ويَدَّعي أن أحدًا من المعتبرين لم يَحْظُره عليهم= لم يصحَّ له ذلك؛ إذ ما من طائفة إلاّ وقد حُرِّم وأنكِرَ عليها أنواع من التأويل.
الوجه الثاني: أن تعيينَ القائل طائفةً دون غيرِها وتسميتها بالمعتبرين لا يَخفَى أنه نوعٌ من التحكّم والتعصب، فإن مجرَّد [قول] القائل: أنا معتزلي أو أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث يُباحُ له في الشرع بذلك ما كان محظورًا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورًا عليه.
الوجه الثالث: أنّا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"، وذلك لا يُوجب أن يكون تأويلُ طائفة معينة باطلاً،(5/80)
ولا يُوجب أن يكون تأويل معتبرٍ باطلاً، فلا يَرِدُ هذا علينا.
الوجه الرابع: أنّا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يُبيِّن ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله.
فهذا كلُّه في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سَنَده "لا نُسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين".
قولكم: "فإن نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ حَملناه على التأويل بغير دليل، أو على غير القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئة بعضهم" غير واردٍ لوجوهٍ:
أحدها: أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيْحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواءَ كانوا كفّارًا أو مؤمنين، مستنة أو مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلاً من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زَعَموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يُجرونَها على القواعد العقلية والسمعية.
وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فُرسان الكلام ودُعاة الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن مَن خالفَهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكُلاّبية والكرَّامية وغيرهم هم حَشْوُ الناس. وهم أهل فتنة واضطراب،
__________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.(5/81)
ثم بَين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكلٌّ منهم إنما يتأوَّل بدليلٍ عنده وعلى القواعد العلمية.
بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحةً وفسادًا وحِلاًّ وحَظْرًا، والمتأوّل منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد.
فإذا كان كلُّ متأوّل إنما تأوَّل بدليلٍ وعلى القواعد، فقد خالفَه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يُحمَل إنكارُهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟
فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي لا يَعضُده دليل صحيح، ولم يكن جاريًا على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوِّلُه يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة.
قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها خاليةٌ عن دليلٍ صحيح وعن القواعد الصحيحة.
وإذا كان هذا مدّعيًا لم يَسُغْ أن يقال بموجبه إلاّ على سبيل الموافقة لنا، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يُبين المتأوّل اقترانَ تأويلِه بدليلٍ وقواعد ليبين فساد قوله.
الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالاً وتحريمًا صرَّحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادَّعى المتأولون اقترانَها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعضَ ما حَضَر. وصرَّحوا أيضًا بتحريم التأويل وإن زعمَ صاحبُه اقترانَه بدليل.(5/82)
الوجه الثالث: أنّا لم نحكم إلاّ ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيًا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي رفعناه خليٌّ عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعًا من التأويل، ووافقتم على إبطالِ نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، نازَعْناكم فيها.
فحاصله أن ما ذكرتموه لا يَصلُح مستندًا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات.
الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليلٍ الجاري على القواعد العلمية صحيح"، لا نُنازِعُكم فيه، وإنما الشأنُ في تقريرِ الدليلِ المصحِّح للتأويل وتثبيتِ القواعد المحقِّقة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعدُ يضعون تأويلاتهم عليها.
ثمَّ هذا القدر لا يَصلُح أن يكون سندًا لقولكم "لا نُسَلِّم أنّ أهلَ الحديث منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرضُ هنا أنّ القول بالموجب لا يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعَه، لأنّا بعدُ في تحرير الدعوى وما يَرِدُ عليها.
قولكم: "لا أسلِّم أن معتبرًا حرَّم تأويلاً يَشهدُ العقلُ بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحرٍ لا يرضى بأَسْر التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرة الذي هو من أجلّ نعم الله على العبيد".
فنقول أوّلاً: مَن الذي حكى عن أحدٍ من الناس تحريمَ مثلِ(5/83)
هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نَقصِده، فمنعُه منعُ شيء أجنبي خارج عن كلامنا، وهذا منع لا توجيهَ له.
ونقول ثانيًا: نحن قررنا بطلانَ التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات، والكلام في صحة التأويل وفسادِه غيرُ الكلام في حله وحَظْرِه، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاءُ صحيحًا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحةً، بل جاز أن تكون باطلةً، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء كان آثمًا أو معفوًّا عنه أو مأجورًا.
ونقول ثالثًا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرفُ الكلام [من] الاحتمالِ الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه.
وكلّ تأويل فإنما هو بيان مقصودِ المتكلم أو مرادُه بكلامه، ومعلومٌ أن العقل وحده لا يَشهد بمعرفةِ مقصود المتكلم ومرادِه، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقلُّ بها العقلُ، نعم العقلُ أخذَ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضمَّ [إلى] المعقول العلمُ بلغة المتكلم وعادتِه في خطابه فقد يَحصُل بمجموع هذين العلمين العلمُ بتأويلِ كلامِه، نعم قد يُعلَم بالعقلِ وبأدلةٍ أخرى أن المتكلِّم لم يُرِد معنًى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما يعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (1) أنها أوتيتْ مُلْكَ
__________
(1) سورة النمل: 23.(5/84)
السماوات وملكَ سليمان وفَرْجَ الرجل ولحيتَه؛ ولم يُرِد بقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (1) أنها تُدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يُرِدْ بقوله: (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (2) شمولَ ذلك للخالق بصفاتِه. ونعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (3) يَدَيْنِ مثل يَدَي الإنسان، ولم يُرِد بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (4) نفيَ الصفاتَ المذكورة في الكتاب والسنة.
فإذا كان العقلُ وحدَه يَشهد بصحة تأويلٍ، وإنما قد يَشهدُ بعدمِه، فالتأويل الذي يدَّعي صاحبُه أنه عَلِمَ بمجردِ العقل صحتَه تأويلٌ مردودٌ محرمٌ. نعم إن فَسَّرتم كلامَكم أن العقلَ بما استفاده من العلوم السمعية وغيرِها يعلم صحةَ التأويل، فهذا حقٌّ وإن لم يكن ظاهرُ اللفظ دالاًّ عليه، ونحن ما حكينا تحريمَ مثلِ هذا التأويل عن أحدٍ، ولا يَمنعُ تحريمَه كلامٌ آخر.
وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإنّ الغرضَ تقريرُ الحقائق وتحصيلُ الفوائد، لا ما يَقصِده المبطلون من التجاهل والتعانُد.
ونقول رابعًا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أنّ] التأويل اضطرَّ إليه العلماء، وبيانُ ذلك أنّا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلاً انتفاءَ أمرٍ من الأمور، ورأينا بعضَ
__________
(1) سورة الأحقاف: 25.
(2) سورة الأنعام: 102.
(3) سورة ص: 75.
(4) سورة الشورى: 11.(5/85)
النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر.
ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانَه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام.
والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ:
فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة.(5/86)
ومنهم من يُحرم التأويلَ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1) .
ومنهم من يُحرِّمُه على أكثر الخلق إلاّ على القليل، كأبي حامد الغزالي (2) وغيره.
ومنهم من يُسوغِّ كلَّ واحدٍ من التفويض والتأويل، ويَعُدُّ هذا من العلوم التطوُّعية التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصافِ الملائكة والجنّ ونحو ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضًا على الكفاية.
منعُكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوهٍ:
أحدها: أن لا مُوجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مرادِ الله ورسوله، وجنس العلم خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرَّمًا؟
الثالث: أن المخالف للحق من الكفّار والمبتدعة إن لم نتأوَّل لهم هذه النصوص لَزِمَ سوءُ الظن بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووقوعُ شبهة
__________
(1) في "العقيدة النظامية" كما سبق.
(2) في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام".(5/87)
الاختلاف في كلام الله وكلامِ رسوله، ونفورُ الناس عن القرآن والإسلام، ونفورُ أهل الباطل عن الحق. والتأويلُ هو أسرعُ إلى القبول وأدعَى إلى الانقياد، فأقلُّ أحوالِه أن يكون بمنزلةِ تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يَحصُل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهرُهُ القواطع العقلية والسمعية.
الرابع: أن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلاّ بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه، والبدنُ لو احتاجَ إلى طعام وشراب لغذاءٍ أو دواءٍ يَحصلُ له الضَّرَرُ بفَقدِه لأباحَهُ الله له، بل قد أباحَ الأكلَ في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وَجَدَ مشقةً بالصوم، وأباحَ تركَ القيام في الصلاة إذا خافَ زيادةَ المرض أو لِطول البُرْء. فكيف لا يُبيحُ ما يَضرُّ عَدَمُه القلوبَ لِعقولها والنفوس لِوجودِها، ويَزِيد بعَدَمِه مرضُ القلب والدين، أو يتأخر بفَقْدِه الشفاءُ من مرضِ الكفرِ والنفاق. وكما أَن الأطعمة والأشربة تختلف شهوةُ الناس وحاجتُهم إليها باختلاف قُواهم وأمزاجهم، فرُبَّ مزاج يَقْرَمُ إلى اللحم ما لا يَقْرَمُه غيرُه، ومن كان مقيمًا بطَيْبَةَ إبَّان الجدادِ كانت شهوتُه إلى الرُّطَب بخلافِ شهوة سُكّان الشام، ومن كانت رياضتُه البدنية أقوى وأكثر -كالحمّالين والحرَّاثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشدَّ.(5/88)
كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-: "لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد".
الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه.
السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها(5/89)
يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا.
وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ.
وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال.
وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.(5/90)
السابع: أن السلف تكلَّموا في تفسير القرآن كلِّه، وما رأيناهم حَرَّموا تفسير شيء منه، إلاّ أن يُنقَل عن أحدِهم أنه تَرَكَ القولَ فيه، أو حرَّم القولَ على غيرِه بغيرِ علم، أو تَركَه خَوفَ الخطأِ على سبيل الورع ونحوه. وكتبُ التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرِها، فكيف يَدَّعِي هذا أن المعتبرين حَرَّموا ذلك؟
فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نُسَلِّم أنَّ معتبرًا حِرَّم تأويلاً يَشهَدُ العقل بصحتِه عند الحاجة إليه، لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسْرِ التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرةِ الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العبيد".
وجوابه من وجوهٍ:
أحدها: ما تكلَّمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئًا، وإنما تكلمنا في صحته وفسادِه، فقلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ [الحديث] باطلاً، وتيقَّن [أن] الحق مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا".
وسنبيِّنُ إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقعَ في أعيانٍ هل هي صحيحة أو فاسد، بل قد بيّنَّا في نفس تلك المناظرة
__________
(1) الكلام السابق في أربع صفحات من قوله (ص 79) "منعكم أن التأويل" إلى هنا تقريرٌ وتوضيحٌ من المؤلف لكلام الخصم، ثم بدأ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا تمامُه.(5/91)
فسادَ تأويلِ اليدِ بما ذكروه فيها من التأويل (1) ، ولم نتعرض للتحريم ولا للتحليل. وإذا كان أوَّلُ الكلام وأوسطُه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعيَّن والمطلق وفسادِه، فالكلامُ في التحريمِ نفيًا وإثباتًا كلامٌ آخر ليس بواردٍ علينا. ولولا أنّا في هذا المقام غرضنا بيان عدمِ ورود الأسولةِ علينا بالكلية لذكرنا نصوصَ المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله.
إن الأسولةَ تارةً تكون موجَّهةً واردةً، وتارةً لا تكون كذلك، والسؤال الواردُ منه [ما] يُوجبُ انقطاعَ المستدلّ، ومنه ما لا يُوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط حدود النظر والمناظرة هُدِيَ إن شاء [الله] إلى الهدى والسَّداد، اللَّذَين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليًّا بمسألتِهما من الله، والغرض الضبط العلمي الديني، لا الضبط العِنادي الذي مضمونُه الكلامُ بلا علمٍ أو عدمُ قصد الحقّ. وأما الاصطلاح المحضُ فأنتَ فيه بالخيار، ويَجِب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين في قولهم: "الإسنادُ من الدين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاءَ" (2) . فإن كان النقلُ مشهورًا -مثل أن يقال: مذهبُ أهل الحديث أنّ الله يُرى في الآخرة، والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يُطلَب في مثل هذا الإسنادُ. فإن نُقِلَ: مذهبُ أهلِ الحديث بأن الله يُرى هو الصحيح، فقد تضمنَ هذا نقلاً وحكمًا، فيجوز أن يُقالَ: لا نُسلِّم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضًا: من أين علمتم؟
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (6/362-372) .
(2) قاله عبد الله بن المبارك، كما روى ذلك عنه مسلم في مقدمة صحيحه (1/15) .(5/92)
فالمستدلُّ في الأدلة في خطاب أو كتابٍ إذا قال: مذهبُ فلانٍ كذا، لم يَرِدْ علمه لا مَنْع ولا معارضتُها، وقد يُعتَرضُ النقلُ بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منعُ النقلِ ومعارضتُه بأن: مَن ذكرَ هذا؟ أو مَن حكاه؟ أو قد نَقَلَ فلان عنه بخلافِه. لكن فرق بين مَنع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يُمنَع منعًاَ محضًا إلاَّ أن يكون المانعُ يعلم انتفاءَ ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سَمِعَ مالك ابنَ عمر يقولُ كذا، فحقول المعترضُ: ما سمعَ مالكٌ منه شيئًا. وأما إن كان صدقُه ممكنًا، فإن غَلَبَ على الظنّ خيرته وعدالتُه اكتفي بذلك.
(آخر ما وُجِد، والله أعلم. وليست كاملة) .(5/93)
قاعدة في الوسيلة(5/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين وهُداةُ المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن عابَ أقوالاً نَقَلَها جماعة من أكابرِ الأئمةِ وأعيانِ ساداتِ هذه الأمة:
أولها: ما أوردَه الشيخ أبو الحسين القُدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمَّى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورةُ اللفظ: "قال بِشرُ بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحدٍ أن يَدعُوَ الله إلاّ به، وأكرهُ أن يقولَ: بمَعَاقدِ العِز من عرشِك أو بحقِّ خَلْقِك. وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: "بمعقدِ العزِّ من عرشك" هو الله، فلا أكرهُ هذا. وأكرهُ أن يقولَ: بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أَنبيائك ورسلك، وبحقّ البيتِ والمشعرِ الحرام.
قال القدوري: المسألة بخلقِه لا تجوز، لأنه لا حقَّ للخلقِ على الخالق، فلا يجوز.
__________
(1) شرح مختصر الكرخي من أمهات الكتب في الفقه الحنفي، توجد نسخه الخطية في مكتبات تركيا والهند. انظر "تاريخ التراث العربي" (3:1/102) .
والمسألة مذكورة في "نتائج الأفكار شرح الهداية" لقاضي زاده أفندي (10/ 64) و"الفتاوى الهندية" (5/318) وحاشية ابن عابدين (6/395-397) .(5/97)
وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القُشَيري في كتابه المسمَّى "التحبير في علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عزَّ وجلَّ، وصورةُ اللفظ أنه قال (1) : عَلِمَ الحقُّ سبحانَه أنه ليس لك أَسَام مرضية، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، (2) وَلأن تكون بأسماءِ ربك داعيًا خيرٌ لك من أن تكونَ بأسماء نفسك مَدْعِيًّا، فإنك إن كُنتَ بك كنتَ بمن لم يكن، وإذا كُنتَ به كنتَ بمن لم يَزَلْ، فشَتَّانَ بين وصفٍ وبين وصفٍ.
وقال (3) : مَن عرفَ اسمَ ربَه نَسِيَ اسمَ نفسِه، بل مَن صَحِبَ اسمَ ربِّه تَحَقَّق بروحِ أنْسِه قبلَ وصوله إلى دارِ قُدْسِه، بل مَن عرفَ اسمَ ربِّه سَمَتْ رتبتُه، وعَلَتْ في الدارينِ منزلتُه.
وثالثُها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة، وصورةُ اللفظِ أنه قال: لا يجوزُ التوسُّلُ في الدعاء بأحدٍ من الأنبياء والصالحين إلاّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن صحَّ حديث الأعمى.
وزعمَ العائبُ لهذه الأقوالِ والطاعنُ على معانيها أنَّ فيها تنقُّصًا بعبادِ الله الصالحين، واستخفافًا بحرمةِ البيتِ والمشعر الحرام.
فهل في هذه الأقوال المذكورةِ تنقُّصٌ واستخفافٌ والحالةُ هذه أو لا؟
__________
(1) ص 23.
(2) سورة الأعراف: 185.
(3) التحبير (ص 22) .
(4) ص 83.(5/98)
وهل يجوز ردُّها بمجرد رأي الإنسان وما جَرَتْ به عَوائدُ بعضِ أهل الزمانِ أم لا؟
وهل اشتهرَ عن الأئمة الأكابرِ المتبوعين خلافٌ لهذه الأقوال؟
وهل صحَّ حديثُ الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعِه (1) ؟
وهل في صريح لفظِه ما يُبطِلُ الأقوالَ المذكورةَ ويُوجِبُ اعتقادَ خلافِها؟
وهل يجوز الحلفُ بغير الله تعالى؟ وإذا لم يَجُزْ هل يجوز التحليفُ والإقسامُ بغير الله؟
والرادُّ لهذه الأقوالِ المتقدمِ ذكرُها والطاعاتِ فيها، إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعُها به، هل يُردَعُ عن ذلك ويُزْجَرُ؟
فأجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقُّصٌ ولا استخفاف، لا بصالحي عبادِ الله ولا بشعائرِ الله، وإنما يكون متنقِّصًا من نقصَهم عن منزلتِهم التي جعلَهم الله بها، كمن لا يَرى حجَّ البيتِ قُربة وطاعةً لله، ولا يَرى الوقوفَ بعَرفةَ ومزدلفةَ ومِنًى، كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية لا يَرَونَ الصفا والمروةَ من شعائرِ الله، وكان بعضهم يَخافُ -إذْ كانوا يُعظِّمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائرِ الله
__________
(1) برقم (3578) . وسيأتي الكلام عليه.(5/99)
في الإسلام، فأنزلَ الله قولَه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) جوابًا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2) .
وكمن لا يَرى تعظيمَ الهَدْي والضحايا التي قال الله فيها:
(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)) (3) .
وكمن لا يَرى تعظيمَ حُرُماتِ الله، فلا يُحرِّمُ صيدَ الحرم ونباتَه وسائرَ ما حرَّم الله تعالى من المحرّمات، فإنّ الواجبَ على الخَلقِ فِعلُ ما أمر الله به من العبادات، واجتنابُ ما حرَّمه من المحرَّمات، فإنَّ هذا وهذا من دين الله الذي بَعثَ به رُسُلَه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (4) .
ومن تمام تعظيم البيتِ أن يُعبَد اللهُ فيه كما شَرعَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُطَاف به، ويُستَلم الركنانِ اليمانيانِ، ويُقبَّل الحجرُ الأسودُ.
فلو قال قائلٌ: من تعظيمه استلامُ الركنينِ الشاميينِ، وتقبيلُ مَقام إبراهيم والمَسْحُ به، أو تقبيلُ غيرِ الحجرِ الأسودِ من جُدران الكعَبة، ونحو ذلك مما قد يَظنُّه بعضُ الناس تعظيما= كان هذا غلطًا.
وإذا نهاهُ ناهٍ عن ذلك فقال: نَهْيُك لي عن هذا تنقُّصٌ واستخفاف بحرمة البيت، كان قد غَلِطَ غلطًا ثانيًا.
__________
(1) سورة البقرة: 158.
(2) أخرجه البخاري (1643) ومسلم (1277) من حديث عائشة.
(3) سورة الحج: 32-33.
(4) سورة الحج: 30.(5/100)
ولهذا لمّا طافَ ابنُ عباس ومعاويةُ بالبيت فكان ابن عباس لا يَستلم إلاّ الركنينِ اليمانيين، واستلم معاويةُ الأركانَ الأربعةَ، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستلم إلاّ الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيتِ شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (1) ، فسَكتَ معاويةُ ووافقَ ابنَ عباس (2) .
فمعاويةُ احتجَّ بأنّ البيت كلَّه معظَّم لا يُهجَر منه شيء، فأجابَه ابن عباسٍ بأن العباداتِ يجبُ فيها اتباعُ ما شَرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمّتِه، ليس لأحدٍ أن يَشرعَ برأيه عبادةً لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر.
فوافقَه معَاويةُ، وعَلِمَ أنَ الصوابَ مع ابن عباسٍ.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لمّا قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ قال: والله إني أعلَمُ أنكَ حجرٌ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لَمَا قَبَّلْتك.
بيَّن عمر -رضي [الله] عنه- أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ:
أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.
__________
(1) سورة الأحزاب: 21.
(2) أخرجه بنحوه أحمد (1/217) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (3/473، 474) . وأصله عند البخاري (1608) ، والجزء المرفوع منه فقط عند مسلم (1269) .
(3) البخاري (1597، 1605، 1610) ومسلم (1270) .(5/101)
والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (1) .
فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك -وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً- لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (2) ، فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وكذلك قال عمر (3) : فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟
وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ فعلناه.
وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين
__________
(1) سورة الشورى: 21.
(2) سورة الأحزاب: 45-46.
(3) أخرجه أبو داود (1887) عنه. وأصله عند البخاري (1605) .(5/102)
اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم (1) .
ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك.
ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله- فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح.
فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3) ، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يتمسَّح به= فمعلوم أن
__________
(1) كما في رواية ابن عباس المعلقة عند البخاري (4256) ، ووصلها الإسماعيلي كما ذكر الحافظ في "الفتح" (7/510) .
(2) أخرجه أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(3) أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/96) وعبد الرزاق في المصنف (5/39) .
موقوفًا على ابن عباس، وهو صحيح عنه. ويُروى مرفوعًا عن جابر وغيره، ولا يثبت رفعُه. انظر "الضعيفة" (223) و"جامع المسائل" (13/63) .(5/103)
قُبورَ سائرِ الأنبيِاء والصالحين التي ببقية البلاد (مثلَ ما بالشامِ وغيرها من الأمكنة التي يُقال: إنها مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقامِ إبراهيم ببَرْزَةَ، وكمغَارةِ الدّم، والرَّبوة التي يُقال: إنه كان بها المسيحُ وأمُّه، وكطورِ موسى وغارِ حِرَاءَ وغيرِهما من الجبالِ والمغاراتِ، وكسائر قبور الصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصَخْرةِ بيتِ المقدس وغيرها) أولَى [بأن] لا يُقبَّلَ شيء من ذلك ولا يُستَلَم ولا يُطافَ به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلةِ الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أني رأيت رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبِّلُك لما قَبَّلتك.
يدلُّ على أنه ليس من الأحجارِ ما يُقبَّل، إذ كان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشرع تقبيلَ شيء من ذلك.
والحديث الذي يرويه بعضُ الكذابين: "لو أحسنَ أحدُكم ظَنَّه بحجرٍ لَنفَعَه الله به" (1) كَذِب مُفترى باتفاقِ أهلِ العلم، وإنما هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام الذين يُحسِنون ظنَّهم بالحجارةِ، وقال تعالى لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)) (2) ، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)) (3) ، وقال الخليل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ
__________
(1) موضوع لا أصل له، قال المؤلف في مجموع الفتاوى (24/335) : إنه من المكذوبات. وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 139) : هو من وضع المشركين عباد الأوثان.
(2) سورة الأنبياء: 98.
(3) سورة البقرة: 24.(5/104)
وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئًا (42)) (1) ، وقال تعالى عن عُبَّاد العِجْل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (2) . وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) (3) . وفي الموضع الآخر: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) (4) .
فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنَّهم بالحجارة، فكان عاقبتُهم أنهم في النار خالدون. وإنما يُحسِن العبدُ ظنَّه بربِّه، كما
__________
(1) سورة مريم: 42.
(2) سورة الأعراف: 148.
(3) سورة الأنبياء: 52-67.
(4) سورة الصافات: 95-96.(5/105)
ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقولُ الله: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، وأنا معَه إذا دعاني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإن ذكرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خير منه". وفي صحيح مسلم (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَموتَن أحدُكم إلاّ وهو حَسَنُ الظنِّ بالله".
وبالجملة فهذا أصل متفقٌ عليه بين أئمةِ الدين أنَّ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ وطاعةِ أمرِه والاقتداءِ به، فلا يكون شيءٌ عبادة إلاّ أن يَشرعَه الرسولُ، فيكون واجبًا أو مستحبًّا، وما ليسَ بواجب ولا مستحبٍّ فليسَ بعبادةٍ باتفاقِ المسلمين. ومن اعتقدَ مثلَ ذلك عبادةً كان جاهلاً، وإن ظَنَّ أنّ ذلك تعظيمٌ لمن يَجِبُ تعظيمُه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلاّ واجبًا أو مستحبًّا.
ومَن نُهِيَ عن اتخاذ الأحبارِ والرُّهبانِ أربابًا من دونِ الله والمسيح ابن مريم، وعن اتخاذ الملائكةِ والنبيين أربَابًا، وعن الغُلُوِّ في الأنبياء والصالحين، فزَعمَ أنَّ هذا تنقُّصٌ واستخفافٌ بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس النصارى وأشباهِهم من المشركين وأهلِ البدع، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
__________
(1) البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة.
(2) برقم (2877) .(5/106)
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)) (1) .
وقد قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) .
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3) .
فهذه الأمور التي ذمَّ الله بها النصارى، إذْ نُهُوا عنها قالوا: هذا تنقُّص بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفّارًا بجعلِهم هذا النهيَ تنقُّصًا مذمومًا، إذ كانوا عظَّموا الأنبياء والصالحين تعظيمًا لم يُشرَع لهم.
__________
(1) سورة النساء: 171-173.
(2) سورة آل عمران: 79-80.
(3) سورة التوبة: 30-31.(5/107)
وكذلك من اتخذَ قبورَهم مساجدَ تعظيمًا لهم، أو سَجَدَ لهم تعظيمًا لهم، أو دَعَاهم وسألهِم -كما يَدعُو الله ويسألُه- بعد مَماتِهم وفي تغيّبِهم، أو رَجَاهم وخافهم كما يَرجو الله ويخافه= فإنه مشركٌ مبتدع. وإذا نُهِيَ عن ذلك فقال: هذا تنقُّصٌ، زادَ ضلالةً، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (2) .
فجعل الله الخشيةَ والتقوى والتوكُّلَ والرغبةَ لله وحدَه، وجَعَلَ للرسول أن يُطاعَ، فمن يُطِع الرسولَ فقد أطاعَ الله، وأن يرْضَوا بما آتاه، وهو ما حَلَّلَه، فلا يَطلب ما حرَّمه الله، بل الحلالُ ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعَه. ويجب أن يكون أحبَّ إلى المؤمنين من أنفُسِهم وأهليهم، إلى غيرِ ذلك من حقوقِه (3) .
ولا يُعبَد إلاّ الله، ولا يتَوكَّل إلاّ على الله، ولا يُرغَب إلاّ إلى الله، ولا يُخشَى ولا يُتَّقى إلاّ الله.
وقد اتفقتْ أئمة المسلمين على أن من قَصَد الصلاةَ في المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، وقَصَد الدعاءَ عندها، معتقدًا أن الصلاةَ فيها والدعاءَ عندها أفضلُ من الصلاةِ والدعاءِ في المساجد
__________
(1) سورة النور: 52.
(2) سورة التوبة: 59.
(3) في الأصل: "حقوقهم".(5/108)
المبنية لله لا على قبرِ أحد= فإنه مخطىء ضالٌّ، وإن كان كثير من الجهال يَرَى ذلك من تعظيمهم.
وكذلك اتفقَ الأئمة الأربعةُ وغيرهم على أنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ، لا قبورَ الأنبياء ولا حجرةَ بيت المقدس ولا غيرَ ذلك، ولا مقامات الأنبياء كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين وغير ذلك مما يَستلمُه ويُقبِّلُه كثير من الجهال، ويَرون ذلك من تعظيمها، وذلك ليس بواجب ولا مستحبّ باتفاق المسلمين. ومن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنّه بِرّ وقُربة فهو ضالّ مبتدعٌ مشابهٌ للنصارى.
واتفق أيضًا أئمةُ المسلمين على أنّه لا يُشرَعُ لأحدٍ أن يَدعوَ ميتًا ولا غائبًا، فلا يدعوه ولا يَسألُه حاجةً، ولا يقول: اغْفِرْ ذنبي، أو انصُرْ ديني، أو انصُرْني على عدوّي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يَشتكي إليه، ولا يَستجير به، كما يَفعلُه النصارى بمن يُصوِّرون التماثيلَ على صورته، ويقولون: مقصودُنا دعاءُ أصحاب هذه التماثيل والاستشفاعُ بهم، فمثلُ هذا ليس مشروعًا -لا واجبًاَ ولا مستحبًّا- في دين المسلمين باتفاقِ المسلمين. ومَن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنه يُستحبُّ فهو ضالّ مبتدع.
بخلافِ طلب الدعاءِ والشفاعةِ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصالحين، كما كان أصحابُه يَطلبُون منه الدعاءَ ويَستشفعون به ويتوسَّلُون بدعائِه في حياته، كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه
__________
(1) برقمي (1010، 3710) .(5/109)
قال: "اللهمّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك [بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنّا نتوسَّلُ إليك] بعَمِّ نبيِّنَا فَاسْقِنا"، فيُسْقَون.
وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسَّلُوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يَدعُوَ لهم، حينَ قال له الأعرابي: جُهِدتِ الأنفسُ وجاعَ العِيالُ وهَلكَ المالُ، فادعُ الله لنا، فدَعَا الله لهم، فأُمْطِروا سَبْتًا. ثم شَكَوا إليه بهَدْم الأبنية وانقطاع الطُرق، وسألوه أن يدعُوَ الله بِكَشْفِها عنهم، فدَعاه، فكَشَفَها عنهم.
وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة (2) .
ولما ماتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاسِ عَمِّه، ولم يتوسَّلُوا به بعد موتِه، فإنهم إنما كانوا يتوسَّلُونَ بدعائه في حياتِه، وذلك ينقطع بموته، فتوسَّلُوا بدعاء العباس.
وكذلك معاويةُ بن أبي سفيان استشفَعَ في الشام وتوسَّلَ بيزيدَ ابنِ الأسودِ الجُرَشي، وقال: "اللهمَّ إنّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا، يا يزيدُ! ارفَعْ يديك"، فرفَعَ يَدَيْه فدعَا ودَعَا الناسُ، حتى نزلَ المطَرُ (3) .
__________
(1) البخاري (933 ومواضع أخرى) ومسلم (897) .
(2) وهي مخرجة في الصحيحين وغيرهما.
(3) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/602) والفسوي في المعرفة=(5/110)
ولهذا قال الفقهاء: يُستحَبُّ الاستسقاءُ بأهلِ الصلاح والدين، والأولى أن يكونوا من أهلِ بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اقتداءً بعمرَ لما استسقَى بالعبّاس. ولو كان توسُّلُهم في حياتِه هو إقسامًا به على الله وتوسُّلاً بذاتِه من غيرِ أن يدعُوَ لهم، لأمكنَ ذلك بعدَ مماتِه، ولكانَ توسُّلهم به أولَى من توسُّلِهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسَّلون بدعائه، كما ثبتَ ذلك في الصحاح أنهم توسَّلُوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال: ربّما ذكرتُ قولَ الشاعر:
وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه … ثِمَالُ اليتامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ
ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياتِه يُقسِمُون به ويتوسَّلون بذاتِه، بل حديثُ الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2) ، ألفاظُه صريحة في أن الأعمى إنما توسلَ بدعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قد بسطت ألفاظه في موضع
__________
= والتاريخ (2/380) عن سليم بن عامر، وصححه الحافظ في "الإصابة" (3/ 673) . وفي طبقات ابن سعد (7/444) : أُخبِرتُ عن أبي اليمان عن صفوان بن عمرو عن سليم، فذكره. وانظر "البداية والنهاية" (12/161) .
(1) برقم (1009) . والبيت من قصيدة أبي طالب التي أوردها ابن هشام في "السيرة" (1/272-280) ، ثم قال: هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
(2) أخرجه أحمد (4/138) والترمذي (3578) والنسائي في عمل اليوم والليلة (658، 659) وابن ماجه (1385) وابن خزيمة (1219) وغيرهم من حديث عثمان بن حنيف، وصححه الترمذي والحاكم (1/313، 519) وغيرهما.(5/111)
آخر (1) . وفي أول الحديث أن الأعمى سألَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ الله أن يَرُدَّ إليه بَصَرَه، فهو طلبَ من النبي الدعاءَ، فأمرَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ ويُصلِّيَ ركعتينِ، ويقول: "اللهمّ إني أسألَك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمد يا رسولَ الله إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي لتَقضِيَها، اللهمّ فشَفِّعْهُ فيَّ". وفيِ رواية ثانيةٍ رواها أحمد والبيهقى وغيرهما (2) : "اللهمَّ شَفِّعْه فيَّ وشفِّعْنِي فيه".
فلما سألَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوَ أمرَه أن يدعوَ هو أيضًا. كما قال له ربيعةُ بن كعب الأسلمي: أسألُ مرافقتك في الجنة، فقال: "أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود" (3) . فإنّ شفاعةَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسؤالَه الإنسان قد يكون مشروطًا بشروطٍ، وقد يكون هناك مانعٌ، كاستغفارِه للمنافقين.
فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصولِ المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروطٌ وموانعُ، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يُغفَر له، وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنافقين: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (4) ، وقيل له: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5) ، لم يَمنَعْ ذلك أن يكونَ دعاءُ
__________
(1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ضمن مجموع الفتاوى (1/265-279) . و"الرد على البكري" (ص 128-138) .
(2) هذه الرواية أخرجها أحمد (4/138) والحاكم في المستدرك (1/313، 519) والبيهقي في كتاب الدعوات وغيرهم.
(3) أخرجه مسلم (489) وأبو داود (1320) والنسائي (2/227) عن ربيعة.
(4) سورة المنافقون: 6.
(5) سورة التوبة: 84.(5/112)
إبراهيم ومحمد عند الله أعظمَ الدعاءِ إجابةً، وجَاهُهما عند الله أعظمَ جَاهٍ للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البريَّةِ. لكنَّ الدعاءَ وإن كان سببًا قويًّا فالكفرُ مانعٌ معارضٌ، فإن الله لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، وقد حرَّمَ الجنةَ على الكافرين والمنافقين وإن استغفرَ لهم محمد وإبراهيم، لوجودِ المانع لا لنَقْصِ جَاهِ الشفيع العظيمِ القدير.
وكذلك ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: "استأذنتُ ربّي في أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لي".
وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2) ، ثم اعتذرَ عن إبراهيم بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (3) .
فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لربيعة: "سَلْ"، قال: أسألُ مرافقتَك في الجنة، فقال: "أَوَ غيرَ ذلك"؟ فقال: بل هو ذاك، قال: "أَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ". فإن المطلوبَ عَالٍ لا يُنَالُ بمجرَّدِ الدعاءِ، بل لابُدَّ من عملٍ صالحٍ يكونُ من صاحبه، يكونُ عونًا للداعي، فقال: "أعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود".
__________
(1) مسلم (976) عن أبي هريرة.
(2) سورة التوبة: 113.
(3) سورة التوبة: 114.(5/113)
كذلك أَمَرَ الأعمى -لما طلبَ منه الدعاءَ له- أن يُعِينَه هو أيضًا بصلاتِه ودعائِه، وقال: "صَلِّ ركعتينِ ثم قُلْ: اللهمّ إني أسألكَ وأتوسَّلُ إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة" أي بدعاءِ نبيِّك وشفاعتِه. كما قال عمر: "كنّا نتوسَّلُ إليك بنبينا، وإنا نتوسلُ إليك بعم نبينا".
ومعلومٌ أنهم إنما توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاس، كما كانوا يتوسَّلُون بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا فَعَلَه عمرُ بين المهاجرين والأنصار عامَ الرَّمَادَةِ، ولم يُنكِرْهُ أحدٌ ولم يَقُلْ له: بل التوسُلُ بذاتِ النبي أو الإقسامُ به مشروعٌ، فلِمَ يَعْدِلُ عن التوسُّلِ بالرسولِ إلى العباس؟
فلما أقرُّوا عمرَ على ذلك ولم يُنكِره أحدٌ عُلِمَ أنَّ ما فَعَلَه عمرُ وأصحابُه معَه هو المشروعُ دونَ ما يُخالِفُه.
وكذلك أمرَ الأعمى أن يتوسَّلَ بدعائِه وشفاعتِه، ويَدُلُّ على ذلك قولُه في آخر الحديث: "اللهمَّ فَشَفِّعْه فيَّ"، عُلِمَ أنه كان يدعو ويَشْفَع له، وأن الأعمى إنما توسَلَ بدعائِه وشفاعتِه، وإلاّ فكان يقول: "اللهم وهذا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
والتوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه، وهو معنى التوسُّل به عندهم، كما قد بَيَّن ذلك حديثُ عمر وحديثُ الأعمى. ولكن من الناس مَن ظنَّ أن المراد بلفظ التوسُّل به هو التوسُل بذاتِه أو الإقسامُ بذاتِه، وهذا غلطٌ على الصحابة.
وأما كلامُ العلماء في أن ذلك مشروعٌ أو لا؟ فقد ذكرَ السائلُ النقلَ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف وغيرِهما أن ذلك منهيٌّ عنه،(5/114)
وما ذكرَه عن أبي محمد بن عبد السلام يوافقُ ذلك. وأما استثناؤُه الرسولَ إن صحَّ حديثُ الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يَستحضِر الحديثَ بسياقه حتى يتبيَّنَ له أنه لا يُناقِضُ ما أفتَى به، بل ظنَّ أنه يَدُلُّ على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته. والحديثُ صحيح، لكن لا يدلُّ على هذه المسألة كما تقدَّم.
وأما ما نقله (1) السائلُ عن القُشَيري فأَجنبي عن هذه المسألة، لا يَدُلُّ عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ.
وقد ذكرَ المرُّوذي في مَنسَكِه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلِّمَ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوسَّلُ به في دعائِه. فهذا النقلُ يُجعَل معارضًا لما نُقِلَ عن أبي حنيفة وغيره.
ونقل أيضًا عن عثمان بن حُنَيف أنه أمر رجلاً بعد موتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَدعُوَ بهذا الدعاءِ، لكن لم يقل فيه: "اللهم فشفَعْه فيَّ".
وقد تكلَّمتُ على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبَسطتُ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع (2) ، وبيَّنتُ أنه [على] تقديرِ ثبوته يكون معارضا لما فَعَلَه عمرُ بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاعٍ رُدَّتْ إلى الله والرسول.
وما نُقِلَ عن أحمد رضي الله عنه فإنه يُشبهُ ما نُقِلَ عنه من جوازِ الإقسامِ برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يجب بذلك الَكفارةُ، فإن الإقسامَ به
__________
(1) في الأصل: "فعله".
(2) انظر مجموع الفتاوى (1/268-276) .(5/115)
في اليمين كالإقسامِ به على الله، وكالتوسُّل بذاتِه.
وهذه الرواية عن أحمد لم يُوافِقْها [أحد] من الأئمة، بل جمهورُ الأئمة على الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يُشرَع الحلفُ بمخلوقٍ لا النبيِّ ولا غيرِه، ولا يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونَصَرُوها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثمّ أكثر هؤلاء يقولون: هذا الحكمُ مختصٌّ به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنًا في الإيمان، لا يتمُّ الإيمان إلاّ بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين بالحلف بهم.
وأما جماهيرُ علماء المسلمين من السَّلَف والخلف فعلَى أنه لا ينعقد اليمينُ بمخلوقٍ، لا الأنبياء ولا غيرِهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة واختيارُ طائفةٍ من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تحلفوا إلاّ بالله"، وقال: "من كان حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليَصْمُت". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك".
وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلفَ كاذبًا أحبُّ إليَّ
__________
(1) البخاري (3836، 6108، 6646، 6648) ومسلم (1646) عن عبد الله بن عمر.
(2) أخرجه أبو داود (3251) والترمذي (1535) عن عبد الله بن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن.(5/116)
[من] أن أحلفَ بغيرِه صادقًا" (1) . وذلك لأن الحلفَ بغير الله شركٌ، والشركُ أعظمُ إثمًا من الكذب. وهذا يوافقُ أظهرَ قولَي العلماء أن النهيَ عن الحلف بالمخلوقات نهيُ تحريم لا نهيُ تنزيهٍ، وهذا قول أكثرِ العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
وإذا كان الحلفُ بغير الله من باب الشرك، فمعلومٌ أنه لا يجوز أن يُشرَكَ به ولا يُعْدَلَ به ولا يُسَوَّى به الأنبياءُ وغيرُهم، قال تعالى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2) ، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (3) . قال طائفة من السلف (4) : كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء، فأنزلَ الله هذه الآية بيَّن فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، فلا يجوز دعاءُ الملائكةِ والأنبياءِ. وقد قال رجلٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال: "أجَعَلْتَني لله نِدًّا؟ قُلْ: ما شاء الله وحدَه" (5) . وقال: "لا تقولوا ما شاء الله
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (8/469) عن ابن مسعود.
(2) سورة آل عمران: 80.
(3) سورة الإسراء: 56-57.
(4) انظر صحيح البخاري (4714، 4715) وتفسير الطبري (15/72-73) وابن كثير (5/2103) .
(5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (783) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"=(5/117)
وشاءَ محمدٌ، بل قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمدٌ" (1) . فنهاهم [أن] يُشرِكوا به حتى في مثلِ هذه الأقوالِ.
وقد أمرَ الله أن يقولَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومَن يَعْصهما فقد غَوى، قال: "بئسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ: ومن يَعْصِ الله ورسولَه" (3) .
مع أنه قد رُوِيَ عنه أنه قال: "ومَن يَعْصِهما" (4) ، وذلك لأن هذا إذا قاله من جَعَلَ طاعةَ الرسولِ تابعةً لطاعة الله ويجعله عبدًا للهِ ورسولاً، لم يُنكَر عليه الجمعُ بينهما في الضمير، بخلافِ من قد لا يَفهم ذلك، بل يجعل الرسولَ ندًّا، كقولِ القائل: ما شاء الله وشاء محمد.
وأيضًا فقد نهَى معاذًا وغيرَه عن السجودِ له، وقال: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا لقبرِي"؟ قال: لا، قال: "فإنه لا يَصلُح السجودُ إلاّ لله" (5) .
__________
= (988) . وابن ماجه (2117) من حديث ابن عباس. وفي إسناده الأجلح الكندي مختلف فيه. والحديث صحيح لشواهده.
(1) أخرجه أحمد (5/393) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (984) وابن ماجه (2118) من حديث حذيفة بن اليمان. وله شواهد من حديث الطفيل بن سخيرة وقتيلة بن صيفي وجابر بن سمرة.
(2) سورة آل عمران: 64.
(3) أخرجه مسلم (870) وأبو داود (1099، 4981) والنسائي (6/90) عن عدي بن حاتم.
(4) أخرجه أبو داود (1097، 2119) عن ابن مسعود، وصححه النووي في شرح مسلم (6/160) .
(5) أخرجه الدارمي (1471) وأبو داود (2140) عن قيس بن سعد.(5/118)
وأيضًا فقد ثبتَ في الصحيح (1) أنهم لما صَلَّوا خلفَه قيامًا وهو قاعدٌ لمرضِه قال: "لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا".
فنهاهم أن يقوموا -مع أنّ قيامَهم كان لله- لئلاّ يُشبِهوا مَن يقوم له.
وقال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد" (2) .
وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذر ما فَعَلُوا. قالت عائشة (4) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذَ مسجدًا.
وفي السنن (5) عنه أنه قال: "لا تتخذوا بيتي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني".
وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا [عبدٌ] فقولوا: عبد الله ورسوله".
فهذه النصوص وغيرُها تُبيِّن أنه نهاهم عن الشركِ به والغُلوِّ فيه، وسَدَّ هذه الذريعةَ بنَهْيِهم أن يتخذوا قبرَه مسجدًا، وأن يقولوا
__________
(1) أخرجه مسلم (413) عن جابر بمعناه.
(2) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي في مسنده (1025) بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
(3) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.
(4) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) .
(5) أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) بسند حسن عن أبي هريرة.
(6) أخرجه البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب.(5/119)
ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دُفِنَ في بيتِه ولم يُظْهَر قبرُه خوفَ الإشراك.
وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوقِ شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا بغيرِه، فلا يجوز القسمُ به، كما قال الجمهورُ، ولا تنعقدُ اليمينُ به، ولا يجبُ بذلك كفارة.
وقد تنازعَ العلماءُ في الصلاة عليه عند الذبيحةِ، فكرِهَ ذلك مالك وأحمد وغيرهما، لئلاَّ يُذكرَ على الذبيحة غيرُ الله، خوفًا من الإهلال بها لغيرِ الله من أن ذلك صلاة عليه. ورخَّصَ في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلافِ الإقسَامِ به، فإنَ الإقسامَ بسائرِ المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال.
وكلُّ ما كان من خصائص الربِّ: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الربِّ= فإنه لا يجوز أن يُفعَل بمخلوق، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، ولا يُستثنَى من ذلك أحد.
وإذا كان الإقسامُ به منهيًّا عنه لا يَنعقِدُ به اليمينُ ولا يجبُ به الكفّارة، فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيًّا عنه، وكذلك الإقسامُ بسائرِ المخلوقات على الله.
وكذلك التوسُّلُ بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا كذلك، فإن أعظم الوسائل للخلقِ إلى الله هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم وسائل الخلقِ إلى الله التوسّل بإيمانٍ به: بتصديقِه فيما أخبرَ،(5/120)
وطاعتِه فيما أوجبَ وأمرَ، وموالاةِ أوليائِه ومعاداةِ أعدائه، وتحليلِ ما حَلَّل، وتحريمِ ما حرَّم، وإرضائِه ومحبتِه، وتقديمِه في ذلك على الأهلِ والمال. فهذه الوسيلة التي أمرَنا الله بها في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (1) . فالوسيلة ما يتوسَّلُ به، [و] هو ما يتوصَّل [به] ، والتوسل والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقِه وطاعتِه، لا وسيلةَ للخلقِ إلى الله إلاّ هذه الوسيلة. ثمّ من آمن بالرسول إذا دَعا له الرسولُ وشفعَ فيه، كان دعاءُ الرسولِ وشفاعتُه مما يتَوسَّلُ به. فهذا هو التوسُّلُ بالرسول.
فأمّا إذا قُدِّر أن الرجلَ لم يُطِعْه، وهو لم يَدْعُ للإنسانِ، فنفسُ ذاتِ الرسول لا يَنفعُ الإنسانَ شيئًا، بل هو أعظمُ الخلقِ عند الله قَدْرًا وجاهًا، وذلك فضلُ الله عليه وإحسانُه إليه، وإنما يَنتفِعُ العِبادُ من ذلك بما يقومُ بهم من الإيمان به، أو ما يقومُ به من الدعاءِ لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤُه والإقسامُ به فهذا لا يَنفعُهم.
والدعاء من أفضل العبادات، ولم يَنقُل أحدٌ عنه أنه شَرَع لأمتِه الإقسامَ بأحدٍ من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جَعَلَ ذلك مشروعًا -واجبًا أو مستحبًّا- فقد قَفَا ما لا عِلْمَ له به، وقال قولاً بلا حجةٍ، وشرع دينًا لم يأذَنْ به الله.
وإذا لم يكن ذلك واجبًا ولا مستحبًّا كان من فَعَلَه معتقدًا أنه واجبٌ أو مستحب مُخطِئًا في ذلك، وإذا كان مجتهدًا [أو] مقلِّدًا
__________
(1) سورة المائدة: 35.(5/121)
فله حُكْمُ أمثالِه من المجتهدين والمقلدين يُعفَى عنِ خَطَئِه. فأما إذا أنكرَ على غيره بلا علم، ورَدَّ الأقوالَ بلا حجةٍ، وذمَّ غيرَه ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئًا، فإن المجتهدَ المخطىءَ غَفَر الله له خَطأَه، فكيف إذا كان المنازعُ له المصيبَ وهو المخطىءُ؟!
ولكنّ شأنَ أهل البدع أنهم يبتدعون بدعةً، ويُوالونَ عليها ويُعادُون، ويَذُمُّون بل يُفسِّقون بل يُكفرون من خالفهم، كما يَفعلُ الخوارجُ والرافضةُ والجهميةُ وأمثالُهم. وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحقَّ الذي جاءَ به الكتابُ والسنة، ويَعذُرونَ مَن خالفَهم إذا كان مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا له، فإنَّ الله سبحانَه وتعالى تجاوَز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1) . وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن الله استجابَ هذا الدعاء، وقال: قد فَعلتُ.
والكلامُ على هذه المسائل قد بُسِطَ في مواضعَ غيرِ هذا، وصنّفت فيه مصنفات، وللعلماء في ذلك وما يتعلقُ به من الكلام ما لا يَتَّسِعُ له هذا الموضع. والله أعلم.
(آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا) .
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس.(5/122)
الفُتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله)(5/123)
(قال في فُتيا له تُسمى "بالأزهرية":)
ومن قال: إنّ القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقعَ في محذوراتٍ:
أحدها: قولهم "إنّ هذا ليسَ هو كلامَ الله"، فإنَّ نَفْيَ هذا الإطلاقِ خلافُ ما عُلِمَ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، وخلافُ ما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ.
والثاني: قولهم "عبارة" إن أرادوا أنَّ هذا الثاني هو الذي عَبَّرَ عن كلامِ الله تعالى القائمِ بنفسِه، لَزِمَ أن يكونَ كلُّ تالٍ مُعبِّرًا عمّا في نفسِ الله تعالى. والمعبِّرُ عن غيرِه هو المُنشِىءُ للعبارةِ، فيكونُ كلُّ قارىءٍ هو المُنْشِىء لعبارةِ القرآن. وهذا معلومُ الفسادِ بالضرورة.
وإن أرادوا أنَّ القرآنَ العربيَّ عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذْ كلُّ كلامٍ فلفظُه عبارة عن معناه، لكنَّ هذا لا يَمنع أن يكون الكلامُ متناوِلاً للفظ والمعنى.
الثالث: أنَّ الكلام قد قيل: إنّه حقيقةٌ في اللفظِ مجازٌ في المعنى، وقيل: حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كلٍّ منهما. والصوابُ الذي عليه السلفُ والأئمةُ أنه حقيقةٌ في مجموعهما.
كما أنَّ الإنسانَ قيل: هو حقيقةٌ في البدنِ فقط، وقيل: بل في الروحِ فقط. والصوابُ أنه حقيقة في المجموع. فالنزاعُ في الناطق كالنزاع في مَنْطِقِه.(5/125)
وإذا كان كذلك فالمتكلِّمُ إذا تكلَّم بكلامٍ له لفظ ومعنى، وبُلِّغَ عنه بلفظِه ومعناه، فإذا قيل: مَا بلَّغَه المبلِّغُ من اللفظ إنّ هذا عبارة عن القرآن، وأرادَ به المعنى الذي للمبلَّغِ عنه= نَفَى عنه اللفظَ الذي للمبلَّغ عنه، والمعنى الذي قام بالمبلِّغ. فمن لم يثبتْ إلاّ القرآن المسموعَ الذي هو عبارة عن المعنى القائمِ بالذات، َ قيل له: فهذا الكلامُ المنظومُ الذي كانَ موجودًا قبلَ قراءةِ القُرَّاءِ هو موجود قطعًا وثابت، فهل هو داخلٌ في العبارةِ والمعبرِ عنه أو غيرُهما؟
فإن جَعلتَه غيرَهما بَطَلَ اقتصارُك على العبارة والمعبرِ عنه، وإن جعلتَه أحدَهما لَزِمَك إن لم تُثْبتْ إلاّ هذه العبارةَ والمعنى القائمَ بالذاتِ أن تجعلَه نفسَ ما سُمِعَ منَ القرّاء، فتَجعلَ عينَ ما بلغَه المبلِّغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي فررتَ منه.
وأيضًا فيقالُ له: القارىء المبلِّغُ إذا قَرأ فلابُدَّ له فيما يقوم به من لفظٍ ومعنى، وإلاّ كان اللفظُ الذي قام به عبارةً عن القرآن، فيجبُ أن يكون عبارةً عن المعنى الذي قامَ به، لا عن معنًى قامَ بغيرِه.
فقولهم "هذا هو العبارةُ عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين:
أخطأوا في بيان مذهبِهم، فإنَّ حقيقةَ قولهم: أنَّ اللفظَ المسموعَ من القارىء حكايةُ اللفظِ الذي عَبَّر به عن معنى القرآن مطلقًا، وذلك أنَّ اللفظ عبارةٌ عن المعنى القائم بالذات، ولفظُه ومعناه حكايةٌ عن ذلك اللفظ والمعنى.(5/126)
ثمَّ إذا عُرِفَ مذهبُهم بَقِيَ خَطَؤُهم في أصولٍ:
منها: زَعْمُهم أنَّ معاني القرآنِ معنىً واحد هو الأمرُ والنهيُ والخبرُ، وأنَّ معنى التوراةِ والإنجيل والقرآنِ معنى واحدٌ، ومعنى آية الكرسي معنى آيةِ الدَّين. وفسادُ هذا معلومٌ بالضرورة.
ومنها: زَعْمُهم أنَّ القرآنَ العربيَّ لم يتكلَّم الله به.
(وأطالَ في ذلك وبَرهنَ عليه بما يَطولُ هنا ذِكْرُه، وقال بعد ذلك:)
وأوَّلُ من قال هذا في الإسلام عبدُ الله بن سعيد بن كُلاَّب، وجَعَلَ القرآنَ المنزَّلَ حكايةً عن ذلك المعنى. فلما جاءَ الأشعريُّ واتبعَ ابنَ كُلاَّب في أكثرِ مقالتِه ناقشه على قوله: "إنّ هذا حكايةٌ عن ذلك"، وقالً: الحكايةُ تُماثِلُ المحكيَّ. فهذا اللفظُ يَصِحُّ من المعتزلةِ، لأنَّ ذلك المخلوقَ حروفٌ وأصواتٌ عندهم وحكايةٌ مثله، وأما على أصلِ ابن كُلاَّبٍ فلا يَصِحُّ أن يكون حكايةً. بل نقولُ: "إنّه عبارةٌ عن المعنى".
فأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ. وكان البلاقلاَّني -فيما ذُكِرَ عنه- إذا دَرَّسَ مسألةَ القرآن يقولُ: هذا قولُ الأشعري ولم يَتبيَّنْ صحتَه، أو كلامًا هذا معناه.
وكان الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني يقول: مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري، وقولُهم هو قولُ الإمام أحمد (1) .
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (12/160-161) .(5/127)
وكذلك أبو محمد الجويني ذكرَ أنَّ الأشعريَّ خالفَ في مسألةِ الكلامِ قولَ الشافعيِّ وغيرِه، وأنه أخطأ في ذلك.
وكذلك سائرُ أئمةِ أصحابِ مالكٍ والشافعيّ وغيرِهما يَذكرون قولَهم في حَدِّ الكلام وأنواعِه من الأمر والنهي والخبر العامّ والخاصّ وغير ذلك، ويجعلونَ الخلافَ في ذلك مع الأشعري، كما هو مبيَّنٌ في أصول الفقه التي صنفها أئمةُ أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم.
(ثم قال بعدَ ذلك:) ومن قالَ من المعتزلةِ والكُلاَّبيَّة: إنّ القرآنَ المنزَّلَ حكايةُ ذلك، وظَنّوا أنَّ المبلِّغ حاكٍ لذلك الكلامِ، ولفظُ الحكايةِ قد يُرادُ به مُحاكاةُ الناسِ فيما يقولونه ويفعلونَه اقتداءً بهم وموافقةً لهم؛= فمن قال: إنَّ القرآن حكايةُ كلامِ الله تعالى بهذا المعنى، فقد غَلِطَ وضَلَّ ضلالاً مُبينًا، فإنّ القرآنَ لا يَقدِرُ الناسُ على أن يأتوا بمثلِه، ولا يَقدِر أحد أَن يأتي بما يَحكِيْه.
وقد يُراد بلفظ "الحكاية" النقلُ والتبليغ، كما يقال: "فلان حكَى عن فلانٍ أنه قال كذا"، كما يقال عنه: "نقلَ عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد يقال: "حُكِيَ عن فلان أنه قالَ كذا وكذا"، لِما قالَه بلفظِه ومعناه، فالحكايةُ هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يُفَرَّق بينَ أن يقول: حَكيتُ كلامَه على وجهِ المماثلةِ له، وبينَ أن يقول: حكيتُ عنه كلامَه، وبَلَّغتُ عنه أنه قال مثلَ قوله من غيرِ تبليغ عنه، وقد يُرادُ به المعنى الآخر، وهو أنه بَلَّغَ عنه ما قالَه.
فإن أُرِيدَ المعنى الأولُ جازَ أن يُقالَ: هذا حَكايةُ كلامِ فلانٍ،(5/128)
وهذا مِثلُ كلامِ فلانٍ، وليسَ هو مبلِّغًا عنه كلامَه. وإن أُريدَ به المعنى الثاني -وهو ما إذا حكى الإنسانُ عن غيرِه ما يقولُه وبلَّغَه عنه- فهنا يُقال: هذا كلامُ فلانٍ، ولا يُقال: هذا حكايةُ كلامِ فلانٍ.
كما لا يُقال: هذا مثلُ كلام فلان. بل قد يُقال: هذا كلامُ فلان بعينه، بمعنى أنه لم يُغيِّرْه ولَم يُحرِّفْ، ولم يَزِدْ ولم يَنقُص.(5/129)
فتوى في الخضر(5/131)
بسم الله الرحمن الرحيم
(قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:)
وقالت طائفةٌ: هو ميت، فإنَّ حياتَه ليس فيها دليلٌ يَصلُح مثلُه للخروج عن العادة المعروفةِ في بني آدم، وذلك بأنَّ حياتَه ليس فيها خبرٌ صحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1) مرسل ضعيف. والحديث الذي يُروَى في اجتماع الخضر وإلياس كلَّ عامٍ بالموسم وافتراقِهما على تلك الكلمات (2) هو أضعفُ من ذلك الحديث، والكلماتُ كلماتٌ حسنةٌ، لكنَّ الخبرَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باجتماعِهما كلَّ عامٍ وافتراقِهما على هؤلاء الكلمات خبرٌ ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبرٌ صحيح عمن عَلَّم أمَّتَه كلَّ شيء،
__________
(1) انظر ترتيبه لمحمد عابد السندي (1/216) . ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/268) عن علي بن الحسين مرسلاً. وفي إسناده شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. وروي من وجه آخر ضعيف، ولا يصحّ. انظر "البداية والنهاية" (2/258) .
(2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/426-427) وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/195) عن ابن عباس. قال الدارقطني في "الأفراد": هذا حديث غريب من حديث ابن جريح، لم يحدّث به غير هذا الشيخ عنه. يعني الحسن بن رزين. وقال ابن المنادي: هو حديث واهٍ. انظر "البداية والنهاية" (2/261) .(5/133)
وقال أبو ذر (1) : لقد توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما طائرٌ يُقلِّب جَناحَيْه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، ونحو ذلك، مع أنه أخبرَهم بقصته مع موسى وتفصيلِ ما جَرى له معه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَدِدْتُ أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من خبرِهما" (2) . فلو كان حيًّا كانت حياتهُ أعجبَ من ذلك كلِّه، فكيف لا يُخبِر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أم كيف يُخبِرُ به فلا يُبلغُه أصحابُه ولا كانَ هذا معروفًا عندهم؟
وأيضًا فلو كان حيًّا لكان يجتمع بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد اجتمعَ به ليلةَ المعراجِ من ماتَ قبلَه، فكيفَ لا يَجتمعُ به مَن هو حَيّ في وقتِه؟
وأيضًا كان يجب عليه الإيمانُ به والمجاهدةُ معه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) (3) الآية. قال ابن عباس (4) : ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأمرَه أن يأخذ الميثاقَ على أمتِه لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه.
والخضر إما نبيٌّ أو من أتباع الأنبياءِ، وعلى التقديرين فعليه أن يُؤمنَ بمحمدٍ ويَنصُرَه، ومعلوم أن ذلك لو وقعَ لكان مما تَتوفَّر الدَّواعي والهِمَمُ على نقلِه، فقد نَقَلَ الناسُ مَن آمنَ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحبارِ
__________
(1) أخرجه أحمد (5/153، 162) عنه.
(2) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.
(3) سورة آل عمران: 81.
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/728) .(5/134)
والرُّهبان، فكيف لا يُنقَل إيمانُ الخضرِ وجهادُه معه لو كان قد وقعَ؟
وقولُ من قال: "الخضر كان حيًّا في حياته" بمنزلةِ قولِ من يقولُ: "يُوشَع بن نُون كان حيًّا أو بعضُ أنبياءِ بني إسرائيل كإلياسَ"، وهذا باطلٌ لمقدمتين:
إحداهما: لو كانَ حيًّا لوجبَ عليه أن يُؤمنَ به ويُهاجِرَ إليه ويُجاهِدَ معه.
والثانية: أنَّ ذلك لو وقعَ لتوفَّرتِ الدواعيْ والهِمَمُ على نقلِه.
وإذا كانَ هارونُ ونحوُه تبعًا لموسى، وكان أنبياءُ بني إسرائيلَ تبعًا لموسى، فكيفَ لا يكون الخضرُ ونحوُه إنْ قُدِّرَ نبوتُه تبعًا لمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي ما خَلَقَ الله خلقًا أكرمَ عليه منه، وما تَلَقَّوه عن الله بواسطةِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضلُ مما تَلَقَّوه بغيرِ واسطةِ موسى.
وأيضًا فإنَ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرَ بنزولِ المسيح ابنِ مريمَ آخرَ الزمانِ، وذكرَ أنه يَحكُمُ فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1) ، والمسيحُ أفضلُ من الخضرِ، فلو كان الخضرُ حَيًّا لكان يكونُ مع محمدٍ ومع المسيحِ ابنِ مريمَ. وقول بعضِ الناس (2) : "إن الرجلَ الذي يقتلُه الدَّجَّالُ هو الخضرُ" لا أصلَ له.
__________
(1) أحاديث نزول المسيح متواترة، وقد جمعها السيوطي وغيره.
(2) قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. انظر مصنف عبد الرزاق (20824) . وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. انظر صحيح مسلم (2938) . وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول.(5/135)
(ثم قال:) وعدمُ إيمانه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبعَثْ إليه، كما في الحديث الصحيح (1) : إنَّ موسى لمّا سلَّم عليه قال له: وأنَّى بأرضِك السلامُ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم. وقال في أثنائِه: يا موسى إني على علمٍ علَّمنِيْه الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علم من علمِ الله عَلَّمَكَه الله لا أَعْلَمه.
وأما محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعوتُه عامةٌ لجميع الخلقِ أَسْودِهم وأَحْمرِهم، فلا يُمكِنُ الخضرَ وغيرَه أن يُعامِلَ محمَدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويُخاطِبَه كما عاملَ موسى وخاطبَه، بل على كلِّ من أدركَ مبعثَه أن يُؤمِنَ به ويُجاهِدَ معَه، ولا يَستغنِيَ بما عنده عما عنده. وكلُّ مَن جَوَّزَ لأحد ممن أدركَتْه دعوةُ الرسولِ أن يكونَ مع محمدٍ كما كان الخضرُ مع موسى= فهو ضَالّ ضلاَلاً مُبِيْنًا، بل هو كافرٌ يُستَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ.
ولهذا لم يكن في العلم بحياةِ الخضرِ بتقديرِ صحتِها ولا في وجودِه حيًّا مَنفعة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابرٍ (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى بيدِ عمر بن الخطاب ورقةً من التوراةِ، فقال: "أَمُتَهَوكَونَ يا ابنَ الخطّاب؟ لقد جِئتكُم بها بَيضاءَ نقيَّة، لو كان موسى حيًّا لَما وَسِعَه إلاّ اتباعِيْ".
فإذا كانَ هذا حالَ الأمةِ مع موسى فكيفَ مع الخضرِ وأمثالِه؟
__________
(1) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.
(2) أخرجه أحمد (3/387) والدارمي (441) . وفي إسناده مجالد ضعيف.
ومع ذلك صححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/458) . وقد حسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1589) لشواهده.(5/136)
والمسيحُ إذا نَزلَ إنّما يَحكُم في الأمَّةِ بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيها. فليستْ هذه الأمة محتاجةً في شيء من دِينها إلى غيرِ كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيرِ نبيٍّ لا خَضِرٍ ولاَ غيرِه، فإن الذي يَجيْئُهم إن جاءَهم بما عُلِمَ في الكتاب والسنَّةِ لم يُحْتَجْ إليه فيه، وإَن جاءَهم بخلافِ ذلك كانَ مردودًا علَيه.
ولهذا كان أكثرُ من يتكلم في هذه الأشياءِ أهلُ الضَّلالِ والحيرةِ والتهوُّكِ الذين لم يَستبينُوا طريقَ الهدى من كتاب الله وسنَّةِ رسوله، بل يتعلقون بالمجهولاتِ ويرجِعون إلى الضلالاتِ. ونجدُ كثيرًا منهم يَعنُون بالخضر الغوثَ.
(ثم أطالَ الكلامَ في تقريرِ ذلك) .(5/137)
سؤال في يزيد بن معاوية(5/139)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن معاوية هل كان صحابيًّا؟ وما حكمُ مَنْ يعتقدُ أنه [كان] صحابيًا أو أنه كان نبيًّا؟ وهل في الصحابة مَنْ اسمه يزيد؟
فأجاب رضي الله عنه فقال:
الحمدُ لله رب العالمين. يزيدُ بن معاوية بن أبي سُفيان الذي تولَّى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدّة أولاد: منهم يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، تزوَّجها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت قد آمنت قبل أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حَلَّتْ من زوجها، فخطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وزوَّجَها ابن عمها خالدُ بن سعيد (1) . وأصدقَ النجاشيُّ صَداقَها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) .
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد (8/99) .
(2) أخرجه أحمد (6/437) وأبو داود (2107) والنسائي (6/119) عن أم حبيبة.(5/141)
وزوجة أبي سفيان هندُ بنت عتبة بن ربيعة.
فلما كان عامُ فَتْحِ مكة أسلم أبو سفيان وامرأتُه وأولاده، وأسلم سائرُ رؤساء قريش مثل سُهَيْل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمّ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير هؤلاء، وأسلم أيضًا عِكْرِمَةُ بن أبي جهل، وصَفْوان بن أمية، وغيرُهما.
وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرَهم بعد الذين قُتلوا منهم ببدْر، وكانوا قبل ذلك كُفَّارًا مُحاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحُد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة مَنَّ عليهم وأطلقهم فسُمّوا الطلَقَاء.
وكان قد أخذ بعضادتَي البيت فقال (1) : ماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نقولُ: أخٌ كريم وابنُ عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)) (2) .
وكان إسلامُ أبي سفيان قبل دخول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة بمرّ الظهران.
وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حُنينًا وهم كُفّار، ثم أسلموا بعد ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 143) بإسناد حسن، ولكنه مرسل. وانظر طبقات ابن سعد (2/141-142) .
(2) سورة يوسف: 92.(5/142)
وعامةُ هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حَسُنَ إسلامُهم، مثل سُهَيْل بن عمرو، ومثلُ عِكْرِمَة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي سفيان بن الحارث.
فإنّ هؤلاء صاروا من خيار المسلمين.
فلما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستُخْلِفَ أبو بكر وقام بجهاد المرتدِّين والكافرين أمَّر الأمراءَ لقتال النصارى بالشام وفَتْحِ الشام. فكان ممن أمَّره يزيدُ بن أبي سفيان أخو معاوية وعمُّ يزيد الذي تولّى الملك. وأمر خالدَ بن الوليد، وأمَّر عمرو بن العاص، وأمَّر شرحبيل بن حَسَنَة، وهؤلاء كلُّهم من الصحابة.
ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد عليها العلماء في الجهاد.
ففي "الموطأ" (1) عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصدّيق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا أنَّ يزيد قال لأبي بكر: إمَّا أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله.
ثم قال: إنك ستجد قوما حَبَّسوا أنفسهم لله، فَذَرْهُمْ وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. وستجد قومًا فَحَصُوا عن أوساط
__________
(1) 2/447-448.(5/143)
رؤوسهم، فاضربْ ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشرٍ: لا تقتلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تَقطعنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخربنّ عامرًا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تُفَرِّقنه، ولا تَجْبُنْ ولا تغلُلْ. وذكر وصية أخرى.
ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية.
فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام.
وكان الشامُ أربعةَ أرباع:
الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة.
والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق.
والربع الثالث: دمشق.
والربع الرابع: حمص.
وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص.(5/144)
ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس.
وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان.
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم (1) ، فكان كما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان.
ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال.
فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان.
وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر. ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه.
وفي خلافة عثمان وُلد لمعاوية ولدٌ سمّاه يزيد باسم أخيه يزيد.
__________
(1) أخرجه البخاري (2788، 2789 ومواضع أخرى) ومسلم (1912) عن أنس ابن مالك.(5/145)
وهذا يزيد الذي وُلد في خلافة عثمان هو الذي تولّى الملك بعد أبيه معاوية، وهو الذي قُتِل الحسينُ في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرّة ما جرىَ. وليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين المهديين، بل هو خليفةٌ من الخلفاء الذين تولَّوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس.
وهؤلاء الخلفاء لم يكنْ فيهم مَنْ هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حَسَنات وسَيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم مَنْ هو خير وأحسنُ سيرةً من غيره، كما كان سليمانُ بن عبد الملك الذي وَلّى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني أمية، والمهديُّ والمُهْتَدي، وغيرُهما من خلفاء بني العباس، وفيهم مَنْ كان أعظم تأييدًا وسلطانًا، وأقهرَ لأعدائه من غيره، كما كان عبدُ الملك والمنصورُ.
وأما عمرُ بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان غيرُ واحد من العلماء كسُفيان الثَّورِيّ وغيره يقولون: الخلفاءُ خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمرُ ابن عبد العزيز. وإذا قيل: "سيرة العمرين" فقد قال أحمد بن حنبل وغيرُه: العُمران عمرُ بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز. وأنكر أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر.
وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السُنَّة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقَمَعَ الظَّلَمَة مِنْ أهل بيته وغيرهم، وردَّ المظالم التي كان الحجاجُ بن يوسف وغيرُه ظلموها للمسلمين، وقمع أهلَ البدع - كالذين كانوا يسبّون عليًّا، وكالخوارج الذي كانوا يكفّرون عليا(5/146)
وعثمان ومَن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القَدَريّ وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله.
وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن كانوا مسلمين باطنًا وظاهرًا، لم يكونوا معروفين بكفرٍ ولا نِفاقٍ، وكان لهم حسناتُ كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرُهم له حسناتٌ يرحمُه الله بها، وتترجح على سيئاته، ومقاديرُ ذلك على التحقيق لا يعلمه إلاّ الله.
ويزيدُ هذا الذي ولي الملك هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أول جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له".
ومَن قال إنَّ يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مُفْتَرٍ، يُعَرَّفُ أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصرَّ على ذلك عوقب عقوبةً تردعُه.
وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتدٌّ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل.
ومَن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضالٌّ مُبْتَدِعٌ كاذب.
ومَن قال أيضًا إنه كان كافرًا، أو إنَ أباه معاوية كان كافرًا،
__________
(1) برقم (2924) عن أم حَرام بنت ملحان لا ابن عمر.(5/147)
وإنه قتل الحسينَ تشفّيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضًا كاذبٌ مفترٍ، ومَن قال إنه تمثل لما أُتي برأس الحسين:
لمّا بدتْ تلك الحمولُ وأَشْرَفَتْ ... تلكَ الرؤوسُ على رُبى جَيْرونِ
نَعَقَ الغُرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُح ... فَلَقَدْ قضيْتُ مِنَ النَّبيّ دُيوني (1)
أو "من الحسين ديوني".
والديوان الشعري الذي يُعزى إليه عامته كذب، وأعداءُ الإسلام كاليهود وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه أنشد (2) :
ليْتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا … جَزَعَ الخزْرجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ
قَدْ قَتَلْنا الكَبْشَ مِنْ أَقْرَانِهم … وَعَدلْناهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
وأنه تمثل بهذا ليالي الحرّة فهذا كذب.
وهذا الشعر لعبد الله بن الزّبَعْرَى أنشده عام أُحُدٍ لما قتل المشركون حمزة، وكان كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامُه، وقال أبياتًا يذكر فيها إسلامه وتوبته.
__________
(1) الشعر ليزيد في "تذكرة الخواص" لسبط ابن الجوزي (ص 261) والمصادر الشيعية، ولا شك أنه كذبٌ عليه.
(2) ذكر ذلك محمد بن حميد الرازي وهو شيعي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" (5/343) وابن كثير في "البداية والنهاية" (11/558) . والبيتان من قصيدة لعبد الله بن الزبعري في سيرة ابن هشام (2/136-137) .(5/148)
فلا يجوز أن يُغْلَى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحدٍ إلا بعلم وعدل.
ومن قال: إنه إمام ابنُ إمام، فإن أراد بذلك أنه تولّى الخلافة كما تولاها سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحَه وتعظيمَه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كلُّ مَن تولّى أنه كان من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فمجرّدُ الولاية على الناس لا يُمدحُ بها الإنسانُ ولا يستحقُّ على ذلك الثواب، وإنما يُمدحُ ويثابُ على ما يفعلُه من العدل والصدق، والأمرِ بالمعروف والنهْي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدودِ، كما يُذمُّ ويُعاقَبُ على ما يفعلُه من الظلم والكذب والأمرِ بالمنكر والنهْي عن المعروف وتعطيلِ الحدودِ، وتضييع الحقَوق، وتعطيلِ الجهاد.
وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟
وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟
ومع هذا فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" (1) ، ولا طِيْفَ برأسه
__________
(1) برقم (3748) عن أنس.(5/149)
في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغرّوه، فأشار عليه أهلُ العلم والنُّصْحِ بأن لا يقبلَ منهم، فأرسل ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فرجع أكثرُهم عن كتبهم، حتى قُتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن سعد حتى قتلوا الحسين مظلومًا شهيدًا، أكرمه الله بالشهادة كما أكرم بها أباه وغيره من سلفه سادات المسلمين.
وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تُبغِضُ عليًّا وتشتمه، وكان منهم الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تُظهِر موالاة أهل البيت منهم المختارُ بن أبي عبيد الثقفي. وقد ثبتَ في "صحيح مسلم" (1) عن أسماء، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذّابٌ ومُبير" فكان الكذّاب هو المختارُ بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاجُ بن يوسف الثقفي.
وكان المختارُ أظهرَ أولاً التشيّعَ والانتصارَ للحسين، حتى قَتل الأمير الذي أمَرَ بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكتَ بالقضيب على ثناياه: عُبيد الله بن زياد.
ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأنّ جبريل يأتيه، حتى بعث ابنُ الزبير إليه أخاه مُصعبًا فقتله، وقتل خَلْقًا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب بن الزبير. فصار النواصبُ والروافض في يوم عاشوراءَ حزبيْن، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم ونَدْبٍ ونياحة،
__________
(1) برقم (2545) .(5/150)
وهؤلاء يتخذونه يوم عيدٍ وفرح وسرور. وكلّ ذلك بدعة وضلالة.
وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "ما من مسلمِ يُصابُ بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدُمَتْ فيُحْدِثُ لها استرجاعًا إلاًّ أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أُصيب بها".
فدلّ هذا الحديث الذي رواه الحسين على أنّ المصيبة إذا ذُكِرتْ وإن قَدُم عهدُها فالسنّة أن يُسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع تقدّم العهد أولى وأحرى.
وقد قُتل غيرُ واحدٍ من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلومًا شهيدًا، وليس في دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتمًا، وكذلك اتخاذُه عيدًا بدعة. وكلُّ ما يُروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب (3) ، مثل ما يُروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ومثل ما يُروى: "مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وَسّع الله عليه سائر سنته" (4) . قال أحمد
__________
(1) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.
(2) 1/201. ورواه أيضًا ابن ماجه (1600) .
(3) انظر "جامع المسائل" (3/94-95) و"مجموع الفتاوى" (25/299 وما بعدها) .
(4) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7/375) وابن عبد البر في "الاستذكار" (10/140) =(5/151)
ابن حنبل: لا أصلَ لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوبُ أو غيرُها، أو ادّخارُ لحم الأضحية حتى يُطبخ به يوم عاشوراء.
كلُّ هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض.
وأهلُ السنّة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولّون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسولُه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه في الصحاح (1) من غير وجهٍ أنه قال: "خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه".
وثبت عنه في "صحيح" مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناسَ بغدير يُدعى خُما بين مكة والمدينة، وذلك منصرفَه
__________
= عن جابر. قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر جدًّا. أنظر "اللآلىء المصنوعة" (2/63) . وتكلم المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (25/ 300 وما بعدها) ، ونقل كلام أحمد في "منهاج السنة" (7/39) .
(1) أخرجه البخاري (2652، 3651، 6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651، 4628، 6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.
(2) البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد، ومسلم (2540) عن أبي هريرة.
(3) برقم (2408) .(5/152)
من حجّةِ الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقَلَيْن أحدهما كتاب الله". فذكر كتاب الله وحضّ عليه، ثم قال: "وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بَيتي، أُذكّركُم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِموا الصدقة: آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كلُّ هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم.
وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنّ يزيد بن معاوية الذي تولّى على المسلمين بعد أبيه لم يكن من الصحابة، بل وُلد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ولكن عمّه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، لا يُعرف له في الإسلام ما يُذَمُّ عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولّى عمرُ أخاه معاوية مكانه، ثم بَقي متوليًّا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قُتل عثمان وقعت الفتنةُ المشهورةُ.
وكان عليٌّ ومَنْ معه أولى بالحقّ مِنْ معاوية ومَنْ معه. كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تَمرقُ مارقةٌ على حينِ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفُرْقة، فقتلهم عليٌّ وأصحابه. فدلَّ على أنهم كانوا أولى بالحق
__________
(1) مسلم (1065) عن أبي سعيد.(5/153)
من معاوية وأصحابه.
ثم لما قُتل عليّ وصالَحَ الحسنُ معاوية، وسلّم إليه الخلافة كان هذا من فضائل الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولُ للحسن: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصْلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
ومات الحسن في أثناء مُلْكِ معاوية.
ثم لما مات معاويةُ تولّى ابنُه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: "سيكون نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافةُ نبوةٍ ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض" (2) .
فكانت نبوّةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبوّة ورحمة، وكانت خلافةُ الخلفاء الراشدين خلافةَ نبوّةٍ ورحمة، وكانت إمارةُ معاوية مُلكًا ورحمة، وبعده وقع مُلكٌ عَضُوض.
وكان عليّ بن أبي طالب لما رجع من صِفّين يقول: لا تسبّوا معاوية، فلو قد مات معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها.
وكان كما ذكره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________
(1) برقم (3746) .
(2) أخرجه أحمد (4/273) والبزار في مسنده (1588) عن النعمان بن بشير.
وصححه الألباني في "الصحيحة" (5) .(5/154)
وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "النجومُ أمَنَة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهبتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون".
وكان كما أخبر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنّه لمّا توفي ارتدّ كثير من الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدّوا، وثبتَ على الإسلام أهلُ المدينة ومكة والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه من الطواغيت الثلاثة المذكورة في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)) (2) .
فكانت اللاّت لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، ومَنَاةُ لأهل المدينة، حتى أذهب اللهُ ذلك وغيرَه من الشرك برسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ارتدّ مَن ارتدّ عن الإسلام وقَعَ في أكثر المسلمين خوف وضَعْف، فأتاهم ما يُوعَدون، فأقام الله أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوّةِ والتأييد، والعلمِ والشجاعة، ما ثبَّتَ الله به الإسلامَ، وقمع به المرتدّين، حتى عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل اللهُ مُسَيْلِمةَ الكذّاب المتنبي المدّعي للنبوة، وأقر جاحدو الزكاة بها.
ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح
__________
(1) برقم (2531) .
(2) سورة النجم: 19-22.(5/155)
الله بعضَ الفتوح في خلافته.
ثم انتشرت الفتوحُ والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فُتحت الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان.
ثم فُتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرُها في خلافة عثمان.
ثم لما قُتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفّار وفتح بلادهم، بل استطال بعضُ الكفّار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا لبعضهم مالاً. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي مِن أرض الشام وغيرها. وكان معاوية أوّلَ الملوك. وكانت [ولايتُه] ولايةَ ملكٍ ورحمةٍ.
فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد مات قبله عائشةُ والحسنُ وسعدُ بن أبي وقّاص وأبو هُريرة وزيدُ بن ثابت وغيرُهم من أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابنُ عمر وابنُ عباس وأبو سعيد وغيرُهم من علماء الصحابة.
فحَدَثَ بعد الصحابة من البدع والفتنِ ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان المسلمون لمَّا كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن لأهلِ البدع والفجورِ ظهور، فلما قُتلَ عثمان وتفرّق الناسُ ظهرَ أهلُ البدع والفَجور، وحينئذ ظهرتِ الخوارجُ، فكفَّروا عليَّ بن أبي طالب وعَثمانَ بن عفان ومن والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب طاعةً لله ورسوله وجهادًا في سبيله.(5/156)
واتّفق الصحابةُ على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجَمَلِ وصِفّين. وقد صحّ الحديثُ فيهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال الإمام أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم من غير وجهٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) .
وحدثَتْ أيضًا الشيعةُ، منهم مَنْ يفضل عليًّا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد أنّه كان إمامًا معصومًا نصّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خلافته، وأنّ الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتُهم يعتقدون أنّه إله أو نبيّ، والغاليةُ كفّار باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبيٍّ من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحدٍ من الصحابة كعليّ بن أبي طالب، أو في أحدٍ من المشايخ كالشيخ عَدِيّ أنّه إله، أو جعل فيه شيئًا من خصائص الإلهية فإنه كافرٌ يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل.
وقد عاقب عليّ بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين اعتقدوا إلهيّته بالنار، وطَلَبَ قَتْلَ ابن سبإٍ لما بلغه أنّه يسبّ أبا بكر وعمر فهربَ منه. وروي عنه أنه قال: لا أُؤتَى بأحدٍ يُفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه حدَّ المفتري (2) . وقد تواتر عنه أنه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر (3) . ولهذا كان
__________
(1) جمع ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/592-631) هذه الأحاديث وطرقها، وبيّن من خرجها من الأئمة بإسانيدهم.
(2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/83) .
(3) قال المؤلف في "منهاج السنة" (1/308) : "رُوِي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره". وهو عند البخاري برقم (3671) عن محمد بن الحنفية عن علي.(5/157)
أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه.
ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدريَّة، ثم في أواخر عصر التابعين حدثت الجهميَّة، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا.
(بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد) .(5/158)
فصل في اسمه تعالى "القيُّوم"(5/159)
فصل
في اسمه تعالى "القيُّوم"
وقد قرأ طائفةٌ "القَيَّام" و"القَيِّم"، وكلُّها مبالغاتٌ في القائم وزيادة. قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (2) ، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (3) . فهو قائمٌ بالقِسط وهو العدلُ، وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وقيامُه بالقسط على كلِّ نفس يَستلزمُ قدرتَه، فدلَّ هذا الاسمُ على أنه قادر وأنه عادل.
وسنبيِّن أن عدلَه يستلزمُ الإحسانَ، وأن كلَّ ما يفعله فهو إحسانٌ للعبادِ ونعمةٌ عليهم. ولهذا يقول (4) عقيبَ ما يعدده من النعم على العباد: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)) ، وآلاؤه هي نِعَمُه، وهي متضمنةٌ لقدرته ومشيئته، كما هي مستلزمةٌ لرحمتِه وحكمتِه.
وأيضًا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوةَ والثبات والاستقرار، ويقتضي العدلَ والاستقامةَ، فالقائم ضدّ الواقع، كما أنه ضدّ الزائل،
__________
(1) انظر تفسير الطبري (3/109-110) ، ففيه ذكر هذه القراءات وبيان أن معناها متقارب.
(2) سورة آل عمران: 18.
(3) سورة الرعد: 33.
(4) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.(5/161)
والمستقيم ضدّ المعوجّ المنحرف، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "ما من قلب من قلوب العباد إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه". (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (2) ، وقال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (3) .
ومنه تقويم السَّهم والصفّ، وهو تعديله، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أقيموا صفوفكم، فإنّ تسويةَ الصفّ من تمامِ الصلاة" (4) .
وكان يُقوِّمُ الصَّفَّ كما يُقوَّم القِدْحُ (5) .
ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (6) من طريقة أهل التوراة.
وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه] ، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (7) ، ثم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .
__________
(1) أخرجه أحمد (4/182) وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان.، وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الترمذي (3522) وقال: حديث حسن.
(2) سورة آل عمران: 8.
(3) سورة الصف: 5.
(4) أخرجه البخاري (723) ومسلم (433) عن أنس بن مالك.
(5) كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم (436) .
(6) سورة الإسراء: 9.
(7) سورة الإسراء: 2.(5/162)
ولمّا كانَ القيامُ بالأمور بطريقةِ القرآن يَقتضي شيئين: القوة والثبات، مع العدل والاستقامة، جاء الأمرُ بذلك في مثل قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه) (1) ، و (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) (2) .
وقولُه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامّةً مستقيمةً، فإن الشاهد قد يَضعُفُ عن أدائها وقد يُحرِّفها، فإذا أقامَها كان ذلك لقوته واستقامته.
وكذلك إقامُ الصلاةِ يَقتضيْ إدَامتَها والمحافظةَ عليها باطنًا وظاهرًا، وأن يأتيَ بها مستقيمةً معتدلةً. ولمّا كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجلِ الجهاد قال: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (4) ، فإن الرجل قد يصلّي ولا يقيمٍ الصلاة لنقصِ طمأنينتِها والسكينةِ فيها، فلا تكون صلاتُه ثابتة مستقرةً، أو لنقصِ خضوعِه لله وإخلاصِه له، فلا تكون معتدلةً، فإن رأسَ العدلِ عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، كما أن رأسَ الظلم هو الشرك، إذ كان الظلمُ وضعَ الشيء في غيرِ موضعه، ولا أظلم ممن وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها فعَبَدَ غيرَ الله، فعبادةُ الله أصلُ العدل والاستقامة. قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5) ، فأمرَ بإقامةِ الوجهِ له عند كلِّ مسجد،
__________
(1) سورة النساء: 135.
(2) سورة المائدة: 8.
(3) سورة الطلاق: 2.
(4) سورة النساء: 103.
(5) سورة الأعراف: 29.(5/163)
وهو التوحيدُ وتوجيهُ الوجهِ إليه سبحانَه، فإنّ توجيهَه إلى غيرِه زَيغ. وبالإخلاصِ يكون العبدُ قائمًا، وبالشركِ زائغًا، كما قال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (1) ، وقال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (2) .
وإقامتُه: توجيهُه إلى الله وحدَه، وهو أيضًا إسلامُه، فإن إسلام الوجهِ لله يَقتضِي إخضاعَه له وإخلاصَه له.
وفي القرآن إقامةُ الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامُه لله، وتوجيهُه وإسلامُه هو إقامتُه، وهو ضدُّ إزاغتِه. فلما كانت الصلاةُ تضمنت هذا وهذا، وهو عبادتُه وحدَه وإخلاصُ الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابُدَّ من هذا ولابُدَّ من الطمأنينةِ فيها، وهي إنما تكون مُقَامَةً بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن الخشوع يجمعُ معنيَينِ: أحدهما الذلُّ والخضوعِ والتواضع، والثاني السكون والثبات. ومنه قوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (3) ، ودوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (4) ، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع الأرض، وهو سكونُها وانخفاضُها، فإذا أُنزِلَ عليها الماءُ اهتزَّتْ بدلَ السكون، ورَبَتْ بدلَ الانخفاض.
وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (5) ، (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) (6) . و"القَوَّام"
__________
(1) سورة الروم: 30.
(2) سورة الروم: 43.
(3) سورة القلم: 43.
(4) سورة الشورى: 45.
(5) سورة النساء: 135.
(6) سورة المائدة: 8.(5/164)
هو القَيَّام، فإنَّ "قَيَّام" و"قَيُّوم" أصلُه قَيْوَام وقَيْوُوم، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقتْ إحداهما بالسكون فقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ إحداهما بالأخرى، لأنّ الياءَ أخفُّ من الواو. قال الفراء (1) : وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَال، ويقولون للصوَّاغ: صَيَّاغ.
قلتُ: هذا إذا أرادوا الصفةَ، وهي ثباتُ المعنى للموصوف، عَدَلُوا عن "فَعَّال" إلى "فَيْعَال" كما في سائرِ الصفاتِ المعدولة، فإنّ مِن هذا قلبَ المضعَّف حرف عينه، والحروف المختلفة أبلغُ من حرفٍ واحد مشدَّد. وأما إذا أرادوا الفعلَ فهو كما قال تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) ، ولم يقل "قيَّامِينَ".
وقد قرأ طائفة من السلف: "الحيُّ القيَّام"، ولم يقرأ أحدٌ قطُّ: "كونوا قيَّامين بالقسط"، لأن المقصودَ أمرُهم أن يقوموا بالقسط، والأمرُ طلبُ فعل يُحدِثُه المأمورُ. بخلافِ الخبرِ عن الموصوف بأنه صَيَّاغ، فإنه خبرٌ عن صفةٍ ثابتةٍ له. ولهذا جاء في أسماء الله "القيَّام"، ولم يَجىءْ "القَوَّام"، قرأ عمر بن الخطاب وغيرُ واحد "القيَّام"، وقرأ طَائفةٌ "القَيِّم". قال ابن الأنباري (2) : هي كذلك في مصحف ابن مسعود. ومِن دعاءِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (3) : "ولك الحمدُ، أنتَ قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن".
__________
(1) "معاني القرآن" (1/190) .
(2) "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/186) .
(3) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.(5/165)
ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوةَ والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسِه إقامتَه لغيرِه، خُصَّ لفظ "القَوم" بالرجال دون النساء، فلا تُسمَّى النساءُ بانفرادِهنّ "قومًا"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا. قال تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) (1) ، فإنه قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (2) . ومنه قول الناظم:
ومَا أدرِيْ وظَنِّي كلُّ ظَنٍّ … أقَوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ (3)
ولمّا كان "القيام" يقتضي الثباتَ -وهو ضدُّ الزوال- قال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (4) ، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) (5) . وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلْقُهما معتدلتَيْنِ كما قال: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) (6) ، وقال: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (7) . والعدل لازم في كلّ مخلوق، ومأمور به كلّ أحدٍ، كما قد بُسِطَ في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)) (8) .
ولِما في لفظ "القيام" من العدل سُمِّيَ ما يُساوِي المبيعَ: قيمةَ
__________
(1) سورة الحجرات: 11.
(2) سورة النساء: 34.
(3) البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه (ص 136) برواية مختلفة.
(4) سورة الروم: 25.
(5) سورة فاطر: 41.
(6) سورة البقرة: 29.
(7) سورة الملك: 3.
(8) سورة الأعلى: 2. وانظر تفسير الآية في "مجموع الفتاوى" (16/127-135) .(5/166)
عَدْل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) : "مَن أعتقَ شِركًا له في عَبْدٍ، وكان له من المال ما يَبْلُغ ثمنَ العبد، قُومَ عليه قيمةَ عَدْلٍ لا وَكْس ولا شَطَط، فأُعْطِيَ شركاؤُه وعُتِقَ عليه العبدُ".
وكذلك يُسمَّى تعديلُ الحساب تقويمًا، فإذا جُمِعتْ حركةُ الشمس والقمر وغيرهما السريعةُ والبَطيئةُ، وأحدٌ يُعدِّلُ ذلك، سُمِّي ذلك تعديلاً وتقويمًا، ويُسمَّى ما يُكتَب فيه ذلك تقويمًا، كما يُصنَع بالمكان إذا أَخَذَ مُغَلُّه في إقبالِه وإدبارِه، فإنه يوجد معدّلُ ذلك، ويُقوم باعتبار ذلك.
ويقال: قامتِ السوقُ، إذا حَصَلَ فيها التبايعُ بالتراضي الذي هو أصل العدل، ولابدَّ أن يَبقَى ذلك زمنًا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر:
أقامتْ سُوْقها عشرينَ عامًا
ومنه قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (2) ، أي يقوم عليه كما يقوم القيِّمُ على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه. والإقامةُ أبلغُ من القيام، فإنّ فيها زيادةَ الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغَ مما يدلُّ عليه لفظُ القيام. والمُقامُ بالمكان هي السُّكنَى فيه واستيطانُه، والمقيم خلاف المسافر.
__________
(1) أخرجه البخاري (2521-2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.
(2) سورة آل عمران: 75.(5/167)
ولما كان اسمه "القَيوم" يتناول هذا وهذا، وهو قَيُّومُ السماوات والأرضِ ومُقِيمُ كل مخلوقٍ من الأعيان والصفات، دَلَّ ذلك على أنّ كلَّ مخلوق له نصيب من القيام، فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرًا بالخلق، فإن اسمه "الخالق" يَقتضي الإبداعَ والتقدير، فقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)) (1) ، وقال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) (2) .
وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دَلَّ ذلك على فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ، ومَن قال: العَرَضُ لا يَبْقَى زمانَيْنِ.
فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبِتُون شيئًا لا تتميَّزُ يمينُه عن يَسارِه، ولا يُعرَف بالحسِّ، وهو ممتنع وجودُه، فإنَّ وجودَ ما لا يَتميَّز منه جانب عن جانب ممتنع، وإنما يَفرِضُونَه في الذهن.
وعلى قولهم لا قدرَ له، والله تعالى قد جعلَ لكل شيء قدرًا، فما لا قدرَ له لم يُخلَقْ، بل هو ممتنع.
وما يَفرِضُه أهلُ الهندسةِ من نقطةٍ مجرَّدةٍ وخطٍّ مجرَّد وسَطْحٍ مجرَّد، هي أمور مقدَّرة في الأذهان واللسان، لا تُوجَد مجرَّدةً في الخارج، بل لا تُوجَد إلاّ نقطة معينة مثلُ نقطة الماء والحِبْرِ ونحوِ ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) ، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)) (3) .
__________
(1) سورة القمر: 49.
(2) سورة الطلاق: 3.
(3) سورة الفرقان: 2.(5/168)
والله سبحانَه خالقُ الموجوداتِ العينية ومُعلِّمُ الصور الذهنية، وأول ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (1) .
ومن الناس من يقول: المعدومُ شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوتُه قديم. وآخرون يقولون: الماهياتُ غيرُ مجعولةٍ.
وهؤلاءِ وهؤلاءِ اشتبهَ عليهم ما في الأذهانِ بما في الأعيانِ، فأخرجوا بعضَ مخلوقاتِه عن أن تكونَ مخلوقةً له.
وتحقيقُ الأمر أن كلَّ ما يُقدَّر فإمّا أن يكون ثابتًا في الأعيانِ والموجودِ الخارج، أو في العلم والوجودِ الذهني، وهو سبحانَه خالقُ هذا ومُعلِّمُ هذا، فلا يَخرجُ شيء أصلاً عن تخليقِه وتعليمِه، بل هو الذي خلقَ فسوى، وقدَّرَ فهدَى، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) (2) . فهو خالقُ كلِّ شيء وقَيُّومه، وكلُّ ما أقامَه القيوم فله قِيام، والحركةُ وإن وُجدتْ شيئًا فشيئًا فلابدَّ لها من لُبْثٍ، لا يتصوَّر أن تُعْدَمَ قبلَ أن تلبَثَ زمنًا من الأزمان، وقيُّومُ السماوات هو الخالقُ الذي يُبدِعُه ويَجعلُ له ذلك القدرَ، فجَعَلَ للأعيانِ قدرًا، وللحركاتِ قدرًا، ولزمانِها قدرًا، وبعضُ ذلك يُطابِقُ بعضًا، فإن الزمان مُساوِقٌ للحركة، والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (3) ،
__________
(1) سورة العلق: 1-5.
(2) سورة الشمس: 7-8.
(3) سورة الحج: 61.(5/169)
والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلافَ الليل والنهار وتكويرَ الليل على النهار وتكويرَ النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية.
وهو سبحانَه (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (1) ، وهو (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) (2) .
فذكر أنه فالقُ الإصباح بعد ذكره فَلقَ الحب والنوى، فإنه بسبب فَلْقِه الإصباحَ وجَعْلِ الليلِ والنهارِ يَتِمُّ ما يخلقُه ويَنمو ويَحصُلُ مصلحتُه، ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجَعْلِهما بحساب على وفْقِ العدلِ في الحكمة، لا يتقدم شيء على وقتِه ولا يتأخر شيء عن أجلِه، وهو سبحانَه يَسوقُ المقاديرَ إلى المواقيتِ.
واستحالةُ الأجسامِ بعضِها إلى بعضٍ معلوم بالمشاهدة، وهو مما تَطابقَ عليه أهلُ الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاءُ تكلَّموا في استحالةِ الطاهرِ إلى النجس، واستحالةِ النجسِ إلى الطاهر، وفي الماء والمائعِ إذا خالطَتْه النجاسة هل يستحيل أم لا؟
والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كلَّ ما شهدَ العبادُ أنَّ الله يخلقُه من سحاب ونباتٍ ومطرٍ وإنسان وحيوانٍ، فإنَّ الله -فيما زعموا-[لَمْ] يُبدِعْ تلك الأعيانَ والجواهرَ القائمةَ بأنفسها،
__________
(1) سورة الأنعام: 95.
(2) سورة الأنعام: 96.(5/170)
وإنما يُحدِثُ أعراضًا، وهو تركيبُ الجواهرِ بعضِها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر إنما يُعلَم أنه خلقَها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراضِ الحادثة، وما لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خَلْقِ الله للعالم وفي إثباتِ الصانع، وجعلوا ذلك أصلَ دين المسلمين، ثمَّ التزموا لوازمَ من إنكار الصفات أو بعضها، ومن إنكارِ الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك.
فتسلَّطَ عليهم السلف والأئمةُ وعلماءُ السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل والتضليل، وتسلَّط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامَهم بالتجهيل والتضليل، وخالفوا الحسَّ والعقلَ والشرعَ الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أولِ كتبهم.
أما مخالفة الحسّ فقولهم: إنّ الله لم يُبدِع عين الإنسان والحيوان، ولا عينَ الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدثَ تأليفًا. وعلى قولهم تلك الجواهرُ التي كانت في بني آدمَ باقية بأعيانها في كلِّ واحدٍ من ولدِه، ومعلومٌ أنّ هذا غير ممكن، فإنَ مَنِيَّ الرجلِ الواحد لا يحتمل أن ينقسمَ أقسامًا بعددِ كلِّ مَن وُلِد من الآدميين. وكذلك عندهم أن كلَّ بني الآدميين فيه جزء من بني نوحٍ، لأنه عندهم لم يُبدِع الله عينًا، بل نفسُ مَنِيِّ الأبِ فيه الجواهر، ركَّبَها تركيبًا آخر، وضَمَّ إليها جواهرَ أُخرَ.
وأما مخالفة العقل فإثباتُ الجوهر الفرد إثباتُ شيء موجودٍ لا يتميز منه شيء عن شيء، فإذا وُضِعَ جوهر بين جوهرينِ، فإن كان(5/171)
الذي يُمَاسُّ هذا الجانب فقد التقَى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت الانقسام.
وأيضًا فنحنُ نشاهد الهواءَ يستحيل ماءً إذا وُضِعَ في الزجاج، ونحوه ثلج صار عليه ماء يَقطُر، ومعلومٌ أن الثلجَ لم يَثْقُب الزُّجاجَ، بل الهواء الذي أحاطَ به بَردَ فاستحالَ ماءً، كما يُحِيلُ الله سحابًا وماءً. هذا مشهود، يكون الإنسانُ على حَيْدٍ، فيَرى البُخَارَ قد صَعِدَ من البحار فانعقَد سحابًا، وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رَأس الجبل. وكذلك الهواءُ يستحيلُ نارًا، فإذا قرّبَ ذُبَالةَ المصباحِ إلى النار أوقدَ، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط بالذُّبالةِ استحالَ نارًا لمّا سَخُنَ سُخونةً شديدةً. فالهواء يَبْرُدُ فيستحيلُ ماءً، ويَسْخُنُ فيستحيل نارًا.
وكذلك ما يَقْدحُ النار، قال تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)) (1) ، وقال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)) (3) . والعرب يقولون: "في كلّ شجرٍ نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ" (4) ، يأخذون عُودَينِ أخضرين يَحُكُّون أحدَهما بالآخر حتى يَسْخُن، فإن الحركة
__________
(1) سورة العاديات: 2.
(2) سورة الواقعة: 71.
(3) سورة يس: 80.
(4) انظر أمثال أبي عبيد (ص 136) و"جمهرة الأمثال" (1/173) و"فصل المقال" (ص 171) وغيرها من كتب الأمثال.(5/172)
تُوجبُ السخونةَ، والسخونةُ تحصلُ بالحركة وبالنار وبالشُّعاع، فإذا سخَنَ انقدحَ منه نارٌ باستحالةِ بعض تلك الأجزاء نارًا، وما كان هناك قبلَ هذا نارٌ، بل سبحانَه يُحدِثُ النارَ عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالتْ فخُلِقَ منها شيءٌ آخر، والأولى هلكتْ وأعدمَها الله على هذا الوجه، كما أوجدَ ما خلقَ منها على هذا الوجه. وقد بُسِط الكلام على هذا في موضع آخر.
والمقصود الكلامُ على اسمه "القَيُّوم"، والتنبيهُ على بعضِ ما دلَّ عليه من المعارف والعلوم، فهو سبحانَه قَيُّومُ السماوات والأرض، لو أخذَتْه سِنَةٌ أو نومٌ لهلكتِ السماوات والأرض. والمخلوقُ ليس له من نفسِه شيء، بل الربُّ أبدعَ ذاتَه، فلا قِوَامَ لذاتِه بدون الربِّ، والمخلوق بذاتِه فقيرٌ إلى خالقِه، كما أن الخالقَ بذاتِه غنيٌّ عن المخلوق، فهو الأجَل الصَّمَدُ، والمخلوقُ لا يكون إلاّ فقيرا إليه، والخالقُ لا يكون إلاّ غنيّا عن المخلوق، وغِناهُ من لوازم ذاتِه، كما أن فَقْرَ المخلوقِ إلى خالقه من لوازم ذاتِه. وهذا المعنىَ مما يتعلق بقول الله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)) تعلُّقًا قويًّا.
والناسُ يشهدون إحداثه لمخلوقاتٍ كثيرة وإفناءَه لمخلوقاتٍ كثيرة، وهو سبحانَه يُحدِثُ ما يُحدِثُه من إرادةٍ يُحِيلُها ويُعدِمُها إلى شيء آخر، ويُفْنِي ما يُفنِيه بإحالتِه إلى شيء آخر، كما يُفنِي الميتَ بأن يَصِيرَ ترابًا.
وعلى هذا تترتبُ مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأةِ الثانية فرعٌ عن النشأةِ الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يَعلم الثانية؟(5/173)
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)) (1) . فهؤلاء غَلِطُوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلطَ، كما قد ذُكِرَ هذا في غير هذا الموضع.
وكان غلطهم لأنهم ظَنُّوا أن الله يُفنِي العالمَ كلَّه ولا يَبقَى موجودٌ إلاّ الله، كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلاّ هو، فقَطَعوا بعَدَمِ كلِّ ما سوى الله. ثم اختلفوا، فقال الجهم: إنّه يُفْنِي العالمَ كلَّه، وإنّه وإن أعادَه فإنه يُفنِي الجنةَ والنارَ، فلا يَبقَى جنة ولا نار، لأن ذلك يَستلزمُ دوامَ الحوادث، وذلك عند الجهم ممتنع بنهايةٍ وبدايةٍ في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو إذا أعدمَ العالمَ بالكلية فإنه يُعِيدُه ولا يُفنِيه ثانيًا، بل الجنة باقية أبدًا، وفي النار قولان (2) .
وهؤلاء قطعوا بإفناءِ العالم، وللنُّظَّار فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: القطع بإفنائه.
والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يُقطَع بوجودِه ولا عدمِه.
والثالث: القطع بأنه لا يُفنِيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدلُّ على أن العالم يَستحيلُ من حالٍ إلى حالٍ، فتَنشَقُّ السماءُ فتَصير
__________
(1) سورة الواقعة: 58-62.
(2) انظر "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار".(5/174)
وردةً كالدِّهان (1) ، وتُسَيرُ الجبالُ (2) وتُبَسُّ بَسًّا (3) ، وتُدَكُّ الأرضُ (4) ، وتُسَجَّرُ البحارُ (5) ، وتنكدرُ النجومُ (6) وتتناثَر (7) ، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن، لم يُخبِر بأنه يُعدِمُ كلَّ شيء، بل أخبارُه المستفيضةُ بأنه لا يُعدِمُ الموجوداتِ.
فقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)) (8) أخبر فيه بفناءِ مَن على الأرض فقط، والفناءُ يُرادُ به الموتُ ولا يُرادُ به عَدَمُ ذَواتِهم، فإن الناس إذا ماتوا صارتْ أرواحُهم إلى حيثُ شاء الله من نعيمٍ وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يًبْلَى كأبدان الأنبياء (9) ، والذي يَبْلَى يَبقَى منه عَجْبُ الذَّنَب، منه بَدَأ الخَلْقُ ومنه يُرَكَّبُ (10) . فهؤلاء لما قالوا: إنّه يُفنِي جميع العالمِ وإنّ ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوالِ الفاسدة، وإلاّ فالفناء الذي أخبرَ به القرآنُ هو الفناء المشهودُ بالاستحالة إلى مادة، كما كانَ الإحداثُ
__________
(1) كما في سورة الرحمن: 37.
(2) كما في سورة النبأ: 20.
(3) كما في سورة الواقعة: 5-6.
(4) كما في سورة الفجر: 21.
(5) كما في سورة التكوير: 6.
(6) كما في سورة التكوير: 2.
(7) كما في سورة الانفطار: 2.
(8) سورة الرحمن: 26.
(9) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس.
(10) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2955) .(5/175)
بالحق من مادة.
فاسمُه سبحانَه "القَيوم" يَقتضي الدوامَ والثباتَ والقوةَ، ويَقتضي الاعتدال والاستقامةَ، وقد وَصَفَ نفسَه بأنه قائم بالقِسط (1) ، وأنه على صراطٍ مستقيم (2) . ومنه قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) (3) ، ومنه قَامَةُ الإنسانِ وهو اعتدالُه، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينةٍ، ومنه قول الشاعر (4) :
أَقِيْميْ أمَّ زِنْباع أَقِيْميْ … صُدُورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تَميمِ
فإنه أراد: وجهي صدورَ العِيْس نحوَ بني تميم. والعِيْسُ هي الإبل التي تُركَبُ ويُحَملُ عليها، ويقال: الإبلُ العِيْسُ، جمعُ عَيْسَاءَ.
__________
(1) كما في سورة آل عمران: 18.
(2) كما في سورة هود: 56.
(3) سورة التين: 4.
(4) البيت لأبي جندب الهذلي مطلع قصيدة له في "شرح أشعار الهذليين" (1/ 363) . قال الأصمعي: وتُروى لأبي ذُؤيب. وفي "لسان العرب" (شطر) لأبي زنباع الجذامي. والرواية فيهما: أقول لأم زنباع ...(5/176)
فصل في معنى "الحنيف"(5/177)
فصل
في معنى"الحنيف"
فإن هذا الاسمِ قد تكرَّر في القرآن، وقد فرضَ الله على الناس أن يكونوا حُنَفَاءَ، فرَضَه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجبَ عليه وعليهم أن يتبعوا ملةَ إبراهيم حنيفًا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (1) ، وهذا أمر لجميع الخلقِ من
المشركين وأهلِ الكتاب وغيرِهم.
وقال تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)) (2) وقال عن إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) (3) ، وقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)) (4) ، وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (5) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
__________
(1) سورة البينة: 5.
(2) سورة البقرة: 135.
(3) سورة آل عمران: 67.
(4) سورة آل عمران: 95.
(5) سورة النساء: 125.(5/179)
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) (1) ، وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) (2) ، وقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (3) ، وقال
تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)) (4) .
والقرآنُ كلُّه يدلُّ على أن الحنيفيَّةَ هي ملةُ إبراهيم، وأنها عبادةُ الله وحدَه والبراءةُ من الشرك. وعبادتُه سبحانَه إنما تكون بما أمَرَ به وشرعَه، وذلك يدخل في الحنيفية. ولا يدخلُ فيها ما ابتُدِعَ من العبادات، كما ابتدَعَ اليهودُ والنصارى عباداتٍ لم يأمر بها الأنبياءُ، فإنّ موسى وعيسى وغيرَهما من أنبياء بني إسرائيل ومن اتبعَهم كانوا حُنَفاءَ بخلافِ من بَدَّلَ دينهم فإنه خارج عن الحنيفية. وقد أمر الله أهلَ الكتاب وغيرَهم أن يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، فبدَّلوا وتصرَّفوا من بعد ما جاءتهم البينة.
وكلامُ السلفِ وأهل اللغة يدلُّ على هذا وإن تنوعتْ عباراتهم.
روى ابنُ أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء
__________
(1) سورة الأنعام: 161.
(2) سورة النحل: 120.
(3) سورة الحج: 30-31.
(4) سورة الروم: 30-31.
(5) 2/674. وانظر لهذه الأقوال والآثار التي ذكرها المؤلف: تفسير الطبري=(5/180)
الخراساني عن أبيه في قوله: (حَنِيفًا مُسْلِمًا) قال: مخلصًا مسلمًا.
قال: ورُوِيَ عن مقاتل بن حيان مثلُ ذلك. وقال خُصَيْف:
الحنيف المخلص.
وذكر ذلك الثعلبي وغيرُه عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قُتَيبةَ البصري نُعيمِ بن ثابتٍ عن أبي قِلابةَ قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسُلِ كلِّهم.
وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم.
وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نَجيح عن مجاهدٍ: (حَنِيفًا) قال: متبعًا، وقال: الحنيفية اتباعُ إبراهيم.
وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، ورُوِي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس.
قال مجاهد: هو اتباعُ إبراهيمَ فيما أتى به من الشريعةِ التي صار بها إمامًا للناس.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حَنِيفًا) قال: حاجًّا.
وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسدّي نحو ذلك.
ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلمُ فهو الحاجّ، وإذا لم يكن معه فهو المسلم.
__________
= (1/441) والبغوي (1/119) و"زاد المسير" (1/150) وتفسير ابن كثير (1/419) و"الدر المنثور" (1/337، 338) .(5/181)
وذكرَ الثعلبي ومَن اتبعَه كالبغوي (1) وغيرِه عن ابن عباس قال: الحنيف المائلُ عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصلُه من حَنَفِ الرِّجْل، وهو مَيْل وعِوَج في القَدَم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنفَ القدم.
قلتُ: والحج داخل في الحنيفية من حينِ أوجبَه الله على لسان محمد، فلا تتمُّ الحنيفيةُ إلاَّ به، وهو من ملَّة إبراهيم، وما زالَ مشروعًا من عهد إبراهيم، فحجَّه الأنبياء موسى ويونسُ وغيرُهما، وما زال مشروعًا من أول الإسلامِ، وإنما فرِضَ بالمدينةِ في آخر الأمر بالاتفاق. والصوابُ أنه فُرِض سنةَ عَشْرٍ أو تسعٍ، وقيل: سنةَ ستٍّ، والأولُ أصحُّ.
والله أمرَ محمدًا وأمتَه أن يكونوا حنفاءَ، فقال في النحل (2) -وهي مكية-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ، فكان الحج إذْ ذاك داخلاً في الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمرَ الله أهلَ الكتاب أن يكونوا حنفاءَ، ولم يكن الحج مفروضًا عليهم، بل كان مستحبًّا.
ومثلُ هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الحنيف الذي يستقبل البيتَ بصلاتِه، ويَرى حجَّه عليه واجبًا إن استطاعَ إليه سبيلاً.
__________
(1) في تفسيره (1/119) .
(2) الآية 123.
(3) 1/242.(5/182)
فهذا تفسيرُه للحنيف بعدَ أن حُولَتِ القبلةُ إلى الكعبة وأُمِرَ الناسُ باستقبالِها وبعدَ أن فُرِضَ الحجُّ، وإلاّ فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن اتبعَه وهم بمكة حنفاءَ وهم يُصلُّون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما أُمِرُوا باستقبالِها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن اتبعَه والمسيحُ ومن اتبعَه كانوا حُنَفَاءَ أيضًا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس.
وروى ابن أبي حاتم (1) وغيرُه من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي عَرُوبةَ عنه قال: الحنيفية شهادةُ أن لا إله إلا الله، يدخلُ فيها تحريمُ الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ والعماتِ والخالاتِ وما حَرَّمَ الله والختانُ، وكانت حنيفية في الشرك، وكانوا يُحرِّمون في شركِهم الأمهاتِ وما تقدَّم من القرابات، وكانوا يحجون البيتَ وينسكون المناسكَ.
فذكرَ قتادةُ أنها التوحيدُ واتباعُ ملَّةِ إبراهيم بتحريم ما حرَّم الله والخِتان، وأنهم في شِركِهم كانوا ينتحلونَ الحنيفيةَ، فيُحرِّمون ذواتِ المحارمِ ويحجُّون ويَختَتِنونَ، وهذا مما تَمسَّكوا به من دينِ إبراهيم مع شِركِهم الذي فارقوا به أصلَ الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها.
وكان هذا فارقًا بينهم وبين المجوسِ ومن لا يُحرم ذواتِ المحارم، وبين النصارى ومن لا يرى الخِتانَ، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حجَّ البيت. فإن الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها
__________
(1) 1/242.(5/183)