ـ[جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس]ـ
المؤلف: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
تحقيق: محمد عزير شمس
إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد
الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1422 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مجموعة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وفتاواه ومسائله التي لم تنشر من قبل، استخرجتها من مجاميع مخطوطة في مكتبات عديدة، بعد العكوف عليها طويلاً ومراجعة الرسائل الموجودة فيها والتمييز بين ما طبع منها وما لم يطبع. وقد كان يُظَن إلى عهد قريب أن أكثر آثار شيخ الإسلام الموجودة في المكتبات طبعت ونشرت ضمن مجاميع ومؤلفات مستقلة، وإذا بي أقف على عددٍ من كتبه الكبيرة ورسائله الصغيرة لم يُنشَر حتى الآن، وخاصةً تلك التي وصلت إلينا بخطه المعروف الذي يصعب قراءته حتى على المتخصصين في قراءة الخطوط القديمة. فأحببتُ أن أسهم في نشر ما وقفتُ عليه منها.
وهذه المجموعة الأولى من سلسلةٍ تضم رسائل وفتاوى وقواعد مختلفة سميتُها "جامع المسائل".
وقد سبق أن نُشِر عدد كبير من مؤلفات شيخ الإسلام ورسائله في كتب مستقلة وضمن مجاميع، وفي الآونة الأخيرة زاد الاهتمام بنشر مؤلفاته، وتسابق الناشرون والمحققون إلى طبعها أكثر من مرة، واستلّ كثير منهم بعض الكتب والرسائل من "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ونشروها بدون الرجوع إلى المخطوطات القديمة التي وصلت إلينا بخط المؤلف أو أحد تلاميذه. وذلك لعدم وجود فهرس(1/5)
وافٍ بجميع مؤلفات شيخ الإسلام، ونسخها الخطية وأماكن وجودها، وطبعاتها المختلفة التي ظهرت حتى الآن، وما صدر حولها من دراسات، على نحو مؤلفات الغزالي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.
وقد صنع بعض الباحثين قوائم لمؤلفات شيخ الإسلام في مقدمات كتبه المنشورة أو في دراسات مفردة، ولكنها ليست وافيةً بالمقصود، وفيها من الأوهام والخلط والتكرار ما يحتاج بيانه إلى دراسة مستقلة.
وقلَّما انتبه أصحابها إلى أنَ ما ذُكر في المصادر القديمة بعنوان..... توجد نسخه الخطية في مكتبات العالم بعنوان/عناوين..... ونُشِر بعنوان/عناوين..... في رسالة مفردة أو ضمن مجاميعِ. وأذكر هنا مثالا واحدا، فالرسالة "البعلبكية" (التي ذكرها ابن رُشيِّق وابن عبد الهادي) توجد منها عدة نسخ خطية أقدمُها بعنوان "رسالة في العقائد" (قُرِئَتْ على المؤلف سنة 718، وعليها إجازته بخطه) .
وهناك نسخ أخرى بعناوين مختلفة. وقد طبعت ضمن "مجموعة الرسائل" (ط. القاهرة 1328) بعنوان "الرسالة البعلبكية"، وفي "مجموعة الرسائل المنيرية" (2/50-83) بعنوان "قاعدة نافعة في صفة الكلام"، وفي "مجموعة الرسائل والمسائل" (3/89-112) بلا عنوان، وفي "مجموع الفتاوى" طبعة الرياض (12/117-161) كذلك غُفْلاً من العنوان. فالذي يتصدّى لذكر المؤلفات يذكر هذه الرسالة بعناوين مختلفة، ويظنها كتبًا مستقلةً، ثم لا يعرف أنها المنشورة ضمن "مجموع الفتاوى".
هذا ما دَفَعني منذ مدة إلى البحث والتنقيب عن مؤلفات شيخ الإسلام في مجاميع غير معروفة، وفي مكتباتٍ لم تنشر فهارسها حتى الآن أو نُشِرتْ حديثاً. ولدفي النية أن أتجه إلى حَصْر جميع المخطوطات(1/6)
والمطبوعات وما نُشِر حولها من دراسات، في كتاب يضمّ بين دفَّتَيه - إن شاء الله - عناوينَ جميع مؤلفات شيخ الإسلام، وما وَصَل إلينا منها مخطوطًا ومطبوعًا، وما تُرجم منها إلى لغات أخرى، وما عُمِل حولها من شروح أو اختصارات أَو دراسات. أدعو الله أن يعينني على إكمال هذا المشروع، وأن يوفقني لنشر مالم ينشر من تراث الشيخ وإكمال ما نشر ناقصًا ومشوَّهًا، ويجعل هذا العمل نافعًا للعلماء والباحثين وعامة المسلمين.
• هذه المجموعة
تحوي هذه المجموعة خمسًا وعشرين رسالة وفتوى ومسألةً، يوجد أكثرها ضمن مجاميع خطية في مكتبة جامعة برنستون، وقد آلت إليها من مكتبة الشطّي (1) بدمشق التي كانت فيها نوادر المخطوطات ونفائس كتب الفقه والحديث، وخاصةَ للمؤلفين الحنابلة. كانت محتويات هذه المكتبة مفقودة منذ أكثر من قرن، حتى أصدرت جامعة برنستون عام 1397/1977 م فهرسًا للمخطوطات العربية المحفوظة في قسم يهودا من مجموعة جاريت بمكتبة الجامعة، من إعداد رودلف ماخ، فظهر للباحثين أنها انتقلت إلى برنستون، ولا زالت محفوظةً هناك.
وسيلاحظ القارىء أن ست رسائل من هذه المجموعة (بأرقام 18-23) تتناول موضوع الطلاق السني والبدعي وجمع الطلاق الثلاث
__________
(1) هو الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطّي، إمام الحنابلة في الجامع الأموي، توفي سنة 1295. كان قد اجتمع عنده من الكتب النفيسة مالم يجتمع عند غيره، فأوقف البعض منها، وبيع غالبها في تركته. انظر "روض البشر" لمحمد جميل الشطي (ص146) و"حلية البشر" للبيطار (2/848-850) .(1/7)
وحكمه، وعندما يعرف أن ما نُشِر لشيخ الإسلام في هذا الباب شيءٌ قليلٌ (1) ، يُدرك أهمية هذه المجموعة الجديدة من الرسائل والفتاوى، التي كانت عمدةً لتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية (2) وغيره ممن تكلم في هذا الموضوع.
وتفيدنا هذه الرسائل في توضيح اختيارات شيخ الإسلام (3) في موضوع الطلاق، التي خالف فيها مذاهب الأئمة الأربعة والمشهور من أقوالهم، وقد نُسِب الشيخُ فيها إلى مخالفة الإجماع، لندور القائل بها وخفائه على كثير من الناس، ولحكاية الإجماع على خلافها، وجرى له بسبب الإفتاء بها مِحَنٌ وقلاقل في حياته. ومن اختياراته المشهورة في هذا الباب: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وإن الطلاق الثلاث جملةً لا يقع إلا واحدة، وإن الطلاق المحرَّم لا يقع، وله في ذلك مصنّفات ومؤلفات كثيرة ذكر المترجمون له عناوين بعضها، وهي:
__________
(1) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (3/2-79) و"مجموع الفتاوى" (المجلد الثالث والثلاثين) .
(2) في "إغاثة اللهفان" (1/283-338) و"إعلام الموقعين" (3/41-62،287- 288) و"زاد المعاد" (5/220-248) و"الطرق الحكمية" (ص 16-17) .
(3) انظر لهذه الاختيارات: "العقود الدرية" 322- 325 (وعنه بدون ذكر المصدر في "مجموعة الفتاوى الكبرى" 3/79-80) ؛ و"رسالة في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية" لبرهان الدين إبراهيم بن محمد ابن قيم الجوزية" و"اختيارات شيخ الاسلام" لابن عبد الهادي (مخطوطة) ؛ و"اختيارات ابن تيمية" لصلاح الدين العلائي (مخطوطة) ؛ و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/404-405) ، و"شذرات الذهب" لابن العماد 6/84- 85 "وعنه في "جلاء العينين" 284- 285) ، و"مجموع المنقور" 1/49-50؛ ونظم اختيارات شيخ الإسلام لسليمان بن سحمان، ضمن "ملتقى الأنهار من منتقى الأشعار" ص134-148.(1/8)
1- "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" (قاعدة كبيرة نحو أربعين كراسة) .
2- "الفرق المبين بين الطلاق واليمين" (قاعدة بقدر النصف من ذلك) .
3- "قاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة" (مجلد لطيف) .
4- "قاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة".
5- قاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل".
6- الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق (ثلاث مجلدات) .
7- "لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف".
8- "الاجتماع والافتراق في الحلف بالطلاق".
9- "قاعدة في أن المطلقة بثلاثة لا تحل إلاّ بنكاح زوج ثان".
10- "بيان الحلال والحرام في الطلاق" (= "البغدادية") .
11- "جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثم طلَّق ثلاثًا في الحيض".
12- "الطلاق البدعي لا يقع".
13- "مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك".
14- "الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا".
وغير ذلك من القواعد والأجوبة التي لا تنحصر ولا تنضبط. وقد(1/9)
بيَّض أصحاب الشيخ كثيرًا منها، وكثيرٌ منها لم يُبَيَّض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلَّدّا (1) . وقد ضاع - مع الأسف - أكثر هذه الكتب والرسائل، ولم يصل إلينا منها إلاّ شيء قليل كما سبقت الإشارة إليه، ومنها هذه الرسائل التي تُنشر هنا لأول مرة.
وإلى جانب هذه الرسائل الخاصة بالطلاق هناك رسائل أخرى مهمة في هذه المجموعة، منها رسالتان (برقمي 7،8) في التفسير، ورسالتان (برقمي 9،10) في شرح الحديث، وفتوى في العشق (برقم 12) ، وقاعدة في أفعال الحج (برقم 15) ، وفصل في معنى الحيّ القيوم (برقم 1) ، وفتوى في الغوث والأقطاب والأبدال (برقم 3) ، وقاعدة في الصبر (2) (برقم 14) ، وقاعدة في إثبات علو الله على خلقه (برقم 2) وغيرها. ولم يرد ذكر أكثر هذه الرسائل في مصادر ترجمة الشيخ، ولا غرابة في ذلك، فلم يدَّع أحد من المترجمين له أنه استقصى جميع مؤلفاته ورسائله. وقد ذكَر ابن عبد الهادي (3) أن "له من الكلام على مسائل العلو والاستواء والصفات الخبرية وما يتعلق بذلك من الرد على الجهمية والقدرية والجبرية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع ما يشتمل على مجلدات كثيرة. وله من الكلام على فروع الفقه والأجوبة المتعلقة بذلك شيء كثير يشقّ إحصاؤه ويعسر ضبطه". وقال بعدما ذكر عددًا كبيرًا من مؤلفاته (4) : "وله من الأجوبة
__________
(1) "العقود الدرية": 38. وفي "الوافي بالوفيات" (7/29) أنها تُقدَّر بخمسة عشر مجلدًا.
(2) هي رسالة صغيرة، ويبدو أنها غير "قاعدة في الصبر والشكر" التي ذكرها ابن رشيق في رسالته (ص 236) ، ووصفها بأنها نحو ستين ورقة.
(3) "العقود الدرية": 51.
(4) المصدر نفسه: 64.(1/10)
والقواعد شيء كثير غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه وإحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه". ونقل عن الشيخ أبي عبد الله [ابن رشيق] : "لو أراد الشيخ تقي الدين - رحمه الله - أو غيرُه حَصْرَها لما قدروا".
وقال ابن رجب (1) : "وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها".
وعلى هذا فيجب التأكد من صحة نسبة أي كتاب أو رسالة أو فتوى إلى شيخ الإسلام بالوجوه الآتية:
(أ) أن تكون هذه الرسالة بخط الشيخ نفسه، وحينئذٍ نثبتها له سواء ذكرها المترجمون له أو لم يذكروها، ومن أمثلة القسم الثاني:
"الرد على نهاية العقول للرازي" الذي وصل إلينا بخطه، ولم أجد أحدًا ذكره قديمًا وحديثاً.
(ب) أن تكون الرسالة منقولةً من أصل الشيخ ومنسوخة بخط تلاميذه وغيرهم، مثل ابن المحبّ وابن رشيّق وآخرين. وأكثر رسائل هذه المجموعة من جامعة برنستون ينطبق عليها هذا الوصف، فلا يُشَك في صحة نسبتها إلى المؤلف.
(جـ) أن تكون الرسالة بخطّ متأخر، وبعد دراستها يظهر أنها له، كأن يشير فيها إلى كتبه الأخرى، أو يكون موضوعها مما كتب فيه الشيخ كثيرًا، وتكون الآراء الموجودة فيها متطابقةً مع ما في كتبه المعروفة، وأسلوبه فيها هو أسلوبه المعروف في سائر كتبه.
__________
(1) "ذيل طبقات الحنابلة": (2/404) . وانظر نصوصًا أخرى للمترجمين له في "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية": 220، 418، 419، 446، 486، 519،558،614.(1/11)
(د) أن يقتبس منها المؤلفون، أو يدرجوها بتمامها وينسبوها إلى الشيخ. ومن الأمثلة المعروفة لها تلك الرسائل والنصوص التي وصلت إلينا ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة الحنبلي، و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي، ومؤلفات ابن القيم وابن مفلح وغيرهما.
ولم أدخل في هذه المجموعة شيئا إلاّ بعد التأكد من صحة نسبته إلى الشيخ، وفيما يلي وصف النسخ الخطية لكل رسالة حسب ورودها في الكتاب.
• وصف النسخ الخطية
ذكرتُ فيما سبق أن أكثر رسائل هذه المجموعة من مكتبة جامعة برنستون، وقد أضفت إليها خمس رسائل عثرتُ عليها في مكتبات مختلفة. ووجدتُ لثلاث منها نسخًا أخرى، فاستفدت منها في التصحيح والمقابلة. وراعيتُ عند ترتيبها الموضوعات التي تتناولها، فقدَّمتُ ما يتعلق منها بالعقيدة ثم التفسير ثم الحديث ثم الفقه. وفيما يلي وصف الأصول المعتمدة لكل رسالة:
(1) "فصل في معنى اسمه الحي القيوم": توجد نسخة فريدة منه في مكتبة المسجد الأقصى بالقدس، ضمن مجموعة برقم [2] (الورقة 1-12) ، جاء في آخرها: "كان الفراغ من المسألة العظيمة الجليلة القدر يوم السبت سابع وعشرين من شوال سنة 765، محمد ابن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام ابن نصر، عفا الله عنهم ولطف بهم وبسائر المسلمين".
ويبدو لي أن هذه الخاتمة كانت في الأصل المنسوخ عنه، فنقلها ناسخ هذه النسخة الحديثة الخط، التي كتبت بخط الرقعة في أوائل(1/12)
القرن الرابع عشر تقديرًا. وناسخ الأصل من آل قدامة المعروفين بالعلم والفضل من الحنابلة، له ترجمة قصيرة في "الدرر الكامنة" (3/345) و"إنباء الغمر" (1/127) ، وفي الثاني أنه توفي سنة 776.
وفي رأس الصفحة الأولى من النسخة: "فائدة في اسم القيوم سبحانه وتعالى لا إله إلاّ هو، تأليف شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه. وهي من خطّه الجديد الدمشقي". وهذا يفيد أن الرسالة من مؤلفات الفترة الأخيرة من حياته التي استقر فيها بدمشق وتفرغ للتأليف والكتابة.
وقد قدَّم ناسخ الأصل للرسالة بنقول من كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، منها قوله نقلاً عن شيخ الإسلام: "من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي يا قيوم لا إله إلاّ أنت برحمتك أستغيث، حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه".
ثم قال الناسخ: "سمعتُ الشيخ الإمام العالم فريد عصره ووحيد دهره لسان العرب وحجة الأدب وترجمان القرآن وشيخ الإسلام الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن عبد الله بن شيخ الإسلام أبي عمر محمد - فسح الله في مدته ومتَّعنا به - يقول: لو اجتمع القاضي أبو يعلى وابن عقيل في شهبر لم يعملوا مثلها، وعملها الشيخ رضي الله عنه على البديه". وشرف الدين أحمد هذا مترجم في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/453) و"الدرر الكامنة" (1/120) . وهو من تلاميذ شيخ الإسلام، قرأ عليه مصنفاتٍ في علوم شتى، وأجازه الشيخ بالإفتاء. وكانت وفاته في رجب سنة 771.
ولشيخ الإسلام رسالة أخرى في هذا الموضوع نشرت بعنوان(1/13)
"فصل في اسمه تعالى القيوم" (1) ، وفيها مباحث أخرى تتعلق بهذا الاسم ينبغي مراجعتها.
(2) "قاعدة جليلة في إثبات علو الله تعالى على خلقه": توجد نسختها ضمن مجموع في مكتبة تشسشر بيتي برقم [3537] (الورقة 86 أ-ب) ، وهذا المجموع بخط نسخي جميل، ويحتوي على رسائل ومسائل عديدة لشيخ الإسلام، وفي آخرها: "نجزت المسائل بحمد الله تعالى وحسن توفيقه على يد أضعف خلقه الراجي عفو ربّه علي بن حسن بن محمد الحرَّاني في ثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة، غفر له ولوالديه ولمالكها ولمن قرأ فيها وجميع المسلمين".
وقد اطلع الشيخ محبّ الدين الخطيب على هذه النسخة في بداية نشأته العلمية سنة 1318 لما كان في الخامسة عشرة من عمره، فنقل منها مسائل، ولا زالت نسخته محفوظة في مكتبة المسجد الأقصى برقم [1] (ق 14-29) بعنوان "مجموعة مسائل دينية متعددة".
ويستنبط منه أن الأصل كان في دمشق في أوائل القرن الرابع عشر، ثم انتقل إلى إيرلندا، واستقر في مكتبتها.
(3) "فتوى فيمن يدعي أنَّ ثمَّ غوثًا وأقطابًا وأبدالاً": هذه الفتوى غير الفتوى التي وصلت إلينا بخطه، والتي سندرجها في المجموعة الثانية من "جامع المسائل"، وفي كل منهما فوائد ومباحث لا توجد في الأخرى.
__________
(1) ضمن "تفسير آيات أشكلت" (1/421-443) ، وليست منه، وقد كانت ملحقة به في بعض النسخ مثل غيرها من الرسائل، فظنَّ المحقق جميعها من الكتاب المذكور، ونشرها معه!!.(1/14)
توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [5542] (الورقة 1ب-7ب) ، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، وليس عليها تاريخ النسخ، وهي من القرن العاشر تقديرًا. وقد ورد في صفحة عنوانها: "سؤال رفع لشيخ الإسلام والحبر الهمام والعلامة الإمام، فريد العصر والأوان، وحيد الدهر والزمان، علاّمة المسلمين فهّامة المحققين الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله بمنه". وفي الركن الأيسر منها من فوق: "من كتب الفقير الغريب أحمد نجيب 1288". وتحته: "ما زالت تسوقه أقدار اللطيف إلى دخوله سلك مِلكِ العبد الضعيف صاحب هذا الرقيم، ابن أبي بكر الصالحي إبراهيم ثم الحنبلي". ثم ختم الشخص المذكور. ولم أجد ترجمة الرجلين فيما بين يديّ من المصادر.
(4) "فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان": يوجد أصله بدون عنوان مع المجموعة السابقة (الورقة 8أ-10ب) وبخطها، وفي آخره: "تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين.....".
(5) "مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال": توجد منها نسختان، الأولى في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 44 ب-45ب) .
وهي نسخة ناقصة، تنقصها ثلاث أوراق من أثنائها. وهي بخط نسخي جيد، وقد كتبت في حياة شيخ الإسلام كما يظهر من عبارة الناسخ التي في آخرها: "فرغ من تعليقها والمسألة التي قبلَها (1) أقل عَبيد الله: أيوب بن أيوب بن صخر بن أيوب بن صخر بن أبي الحسن بن بقا بن مساور العامري الحمصي، رحمه الله ورحمَ والديه ومن استغفر له
__________
(1) هي الآتية برقم 9.(1/15)
ولهم، ورحم جميع المسلمين المؤمنين، في نهار الجمعة يوم عاشوراء من شهر المحرم من شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة".
وعلى صفحة العنوان منها: "فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله تعالى عنه وعنّا به (1) ، آمين". وتحته إلى اليسار: "قد ساقه القدر لأحقر البشر عبد السلام بن المرحوم الشيخ عبد الرحمن الشطي الحنبلي، عُفِي عنه".
والنسخة الثانية تامة وهي في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2758] (الورقة 92أ-97أ) ضمن مجموعة كان الفراغ من نسخها في رجب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، والنسخة بخط نسخي لا بأس به. وفي آخر الرسالة من هذه النسخة: "بلغت المقابلة على الأصل"، ولكنها لم تُفِد كثيرًا، ففيها أخطاء فادحة وخاصةً في أسماء الأعلام.
(6) "مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه": ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [276] (الورقة 156ب- 158ب) ، وهي بخط نسخي متأخر لعله من القرن الحادي عشر.
(7) "قاعدة شريفة في تفسير قوله تعالى (أَغيرَ اللهِ أَتخذُ وَليا ... ) ": هي من مجموعة نفيسة تحوي عدة رسائل لشيخ الإسلام، في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 70ب-81ب) . وكلّها بخط واحد، وناسخها محمد بن أبي شامة الحنبلي كما في الورقة 52ب، وقد فرغ من نسخ بعضها في شعبان سنة 814 كما في الورقة 29ب.
وقد أفاد الناسخ في صفحة العنوان أن الشيخ كتب هذه القاعدة
__________
(1) هذا توسل غير مشروع.(1/16)
بقلعة دمشق في آخر عمره.
(8) "فصل في سورة حم السجدة": هو من المجموعة السابقة في برنستون برقم [1377] (الورقة 43ب-45ب) . وقد سبق وصفها.
(9) "فصل في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "أتدري ماحق الله على العباد؟ ": توجد منه نسختان، الأولى في جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 42ب-44ب) ، والثانية في دار الكتب الظاهرية برقم [2758] (الورقة 88أ-92أ) . وقد سبق وصفهما برقم (5) .
(10) "فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الاستغفار أن يقول العبد ... ": ضمن مجموعة في جامعة برنستون برقم [4095] (الورقة 8أ-10ب) ، بخط محمد بن إسحاق التميمي داري نسبًا الحنفي مذهبًا. ولم يذكر تاريخ النسخ، ولعله من القرن التاسع تقديرًا. وعنوانه على صفحة الغلاف: "شرح حديث سيد الاستغفار". وقد ذكر ابن عبد الهادي في "العقود الدرية" (ص 40) وابن رشيِّق في "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ص237 من "الجامع لسيرة شيخ الإسلام") أن للشيخ "قاعدة في الاستغفار وشرحه وأسراره"، ولعلها غير الفصل الذي ننشره هنا.
وقد كتب في أسفل صفحة العنوان: "دخل في ملك الفقير إليه تعالى الحاج علي بن الحاج عثمان اللبدي الحنبلي، عفا عنه مولاه، آمين"، وتحته ختمه وسنة 1269.
(11) "قاعدة في الصبر": توجد منها نسختان، إحداهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [4095] (ق1أ-8أ) ، وقد سبق وصفها برقم (10) . والثانية في مكتبة جامعة ليدن برقم [2990] (في خمس صفحات) ، كتبت سنة 808. وكانت أولاً في مكتبة السيد أمين(1/17)
المدني بالمدينة المنورة، ثم باعَها ضمن ما باع من النفائس، فانتقلت إلى دار بريل المشهورة، وتوجد حاليًّا بمكتبة جامعة ليدن، ولها فهرس من إعداد لاندبرج. (12) "فتوى في العشق": توجد نسختها في مكتبة مولانا آزاد بجامعة علي كره (الهند) برقم [16/17 عربية-فقه حنبلي] (4 ورقات) ، وقد انتقلت إليها من مكتبة الشيخ حبيب الرحمن الشرواني التي كانت في قريته حبيب كنج واشتهرت ببعض المخطوطات النادرة. والنسخة بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من القرن العاشر.
وقد كتب على صفحة العنوان: "سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، في رجل عاشق في صورة. نفع الله به آمين".
(13) "مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة تشستر بيتي برقم [3537] (الورقة 87أ- 89أ] . وقد سبق وصفها فيما مضى برقم (2) .
(14) "مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة": هي ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 37أ-ب) .
وقد سبق وصفها برقم (7) .
(15) "قاعدة في أفعال الحج": نسختها في مكتبة جامعة ليدن برقم [2989] (في 7 ورقات) . جاء في آخرها: "تمت بحمد الله تعالى وعونه في ليلةٍ يُسفِر صباحُها عن سادس جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثمان مئة، والحمد لله رب العالمين ... ". وكتب على صفحة العنوان بخط متأخر: "هذه الرسالة بخط العلامة بيدكين التركماني(1/18)
الحنفي تلميذ ابن تيمية الحراني"، ثم شطب عليها.
(16) "فتوى في البيع بفائدةِ إلى أجل": توجد نسختها الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [3890] (الورقة 45ب-47ب) ، وهي ضمن مجموعة مهمة من رسائل الشيخ وفتاواه نقلها أحمد بن عبد الله بن المحب من خط الشيخ في 21 من رجب سنة 747. وقد قوبلت على الأصل المنقول منه، فلم يبق فيها تحريف أو سقط.
(17) "مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح": هي في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 46ب-52ب) .
وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (7) .
(18-23) ست رسائل في الطلاق، وكلها في مكتبة جامعة برنستون بالأرقام التالية:
1-[1384] (الورقة 31ب-42أ) .
2-[1384] (الورقة 29ب-30ب) .
3-[3890] (الورقة 1ب-10ب) .
4-[1384] (الورقة 14أ-23ب) .
5-[3890] (الورقة 11أ-31أ) .
6-[2992] (الورقة 98ب-102ب) .
وقد سبق وصف المجموعة ذات الرقم [3890] ، وذكرنا أنها بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، أما المجموعة ذات الرقم [1384] فهي أيضًا بخط أحمد بن عبد الله بن المحب، ومنقولة من مسوَّدة(1/19)
المؤلف ومقابلة عليها، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنّا نعرف أن الناسخ توفي سنة 749، فتُعتَبر هذه المجموعة قديمة وموثقة.
ومما يوسف له أن بعض الرسائل منها وصلت إلينا ناقصة من الأول أو من الآخر، ولعل بعضها فصول من كتبه المستقلة التي أشرنا إليها فيما مضى. ففي المجموعة ذات الرقم [3890] نجد الكلام غير متصل بعد الورقة 10ب، حيث تبدأ رسالة أخرى في الموضوع، ولكنها ناقصة الأول، ولا نعرف مقدار الضائع منها. وفي المجموعة ذات الرقم [1384] نجد الكلام يبدأ من الورقة 14أبدراسة الأحاديث الواردة في الباب دون تمهيد سابق، وينتهي في الورقة 23ب دون أن تكمل الرسالة.
أما الرسالة السادسة ضمن مجموع [2992] فهي نسخة متأخرة كتبت في 15 من جمادى الآخرة سنة 1187، وليس عليها اسم الناسخ، وخطها رديء، والنسخة مقابلة ومصححة كما كُتِب في آخرها، ومع ذلك ففيها أخطاء عديدة.
(24- 25) "فصل في الإيلاء" و"فصل في الظهار": كلاهما في مكتبة جامعة برنستون برقم [1384] ، الأول من الورقة 24ب إلى 28ب، والثاني من الورقة 1ب إلى 13ب، وهو ناقص الآخر. وقد جاء في صفحة العنوان: "فصل في الظهار من كلام شيخ الإسلام إمام الأئمة الأعلام تقي الدين أوحد العلماء العاملين أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه، مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير". وكذا في صفحة عنوان الرسالة الأولى: "فيه فصل في الإيلاء..... كتبه أخيرًا بقلعة دمشق". وفي آخرها: "بلغ مقابلةً بالأصلِ خَطِّ المؤلف، ومنه نُقِل، والحمد لله رب العالمين". وقد وصفنا هذه المجموعة قريبًا، فلا نطيل الكلام عليها.(1/20)
• منهج التحقيق
قمت بنسخ هذه الرسائل من الأصول الخطية، ثم قابلتها عليها وعلى غيرها من النسخ إن وجدت، وأثبتُّ ما يصحّ عندي في النصّ مع الإشارة إلى القراءة المرجوحة إن كان لها وجه، ولم أثقل الهوامش بذكر الأخطاء والتحريفات. وقد عُنِيت بضبط المشكل من الكلمات والأعلام والأماكن دون شرحها والتعريف بها، ومن أراد ذلك فليراجع المعاجم اللغوية والجغرافية وكتب التاريخ والتراجم والرجال. أما النصوص المقتبسة فقمت بتوثيقها وتخريجها من المصادر المهمة، وحاولت الربط بين كلام المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه ورسائله.
وفي الختام أحمد الله على أنه وفقني لإخراج هذه الرسائل، وأسأله أن يعينني على جمع بقية الكتب والمسائل المنثورة، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد عزير شمس(1/21)
نماذج من النسخ الخطية(1/23)
فصل في معنى "الحيّ القيوم"(1/35)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيراً، وعلى آله وصحبه وسلم.
فصل
في معنى اسمه "الحي القيوم"
قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (1) .
وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (2) . وقال تعالى: (*وعنت الوجوه للحى القيوم) (3) . وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهُ "الحيّ القيَّام" (4) . والقيَّام فَيْعَال، والقيّوم فَيعول، وفيعال من جنس فَعَّال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتلّ، كقولهم تَقَضَّى البازِيْ وتقضَّضَ.
__________
(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة آل عمران: 1-2.
(3) سورة طه: 111.
(4) كما في "صحيح" البخاري (في أول تفسير سورة نوح) و"المحرر الوجيز" (2/274) و"زاد المسير" (1/302) والقرطبي (3/272) .(1/37)
والقَيُّوم والقَيَّامِ من قام يقوم، فهو معتلٌّ، فإن عينَه واو، فلهذا قيل فيه: فَيْعال وفيْعُول، ولو لم يكن في ألفاظه حرفٌ معتلّ لا ياءٌ ولا واوٌ لقيل: فَعَّال، كما قيل "حمَّاد" و"ستّار"، وفُعُّول كما قيل "سُبُّوح" و"قُدُّوس"، والغالب فعُّول بالفتح، وهو القياس في شرح "قُدُّوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس بالضم سبوح وقدوس وذو الروح.
وقد تبينِ أن قراءة الجمهور "القَيُّوم" أتمُّ معنًى من قراءة "القيَّام"، فإن فَعُّول وفيْعُول أبلغُ من فَعَّال وفَيْعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتلّ منه واو، فهو أبلغُ مما عينُه مفتوحة والمعتلُّ منه ألف. ودائمًا في لغة العرب الضمُّ والواوُ أقوى من الياء والكسرة، والياءُ والكسرةُ أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر الحركات، فإن المتحرك إلى أسفلَ كحركةِ الماء أثقلُ من المتحرك إلى فوق كالريح والهواء، والمتحركُ على الوسط هو الفلك أقوى منهما.
ولهذا كان الرفعُ لما هو عمدةٌ في الكلام، وهو: الفاعلُ، والمفعولُ القائمُ مقامَه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصبُ لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل وغيرها: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجرُّ لما هو متوسِّطٌ بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة تارةً والفضلةُ تارةً، فتقول: قام غلامُ زيدٍ، وأكرمتُ غلامَ زيدٍ.
ولما كانت "كان" وأخواتُها أفعالاً تُستَعملُ تارةً تامَّةً مكتفيةً بالفاعل، وتارةً ناقصةً فتحتاج إلى منصوب، كان الرفعُ فيها مقدمًا، فإنه العمدةُ، ولابُدَّ منه في النوعين التامّة والناقصة.(1/38)
وأما "إنّ" وأخواتها فإنها تختصّ بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار لها منصوبٌ ومرفوعٌ كالأفعال، ونقصتْ درجتُها عن درجة الأفعال، فقدّمَ منصوبُها لذلك، ولأنه أخفّ، ولأن الخبر يكون غيرَ اسمٍ، مثل الجار والمجرور به، فلا يظهر فيه النصب، بل قد يقدَّم على الاسم.
وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعالٌ، تُستعمل تارةً مع الاقتصار على الفاعل، وتارةً يُذكرَ معها المفعولاتُ، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، وما الناقصة، كقوله تعالى: (لنعلم أَىُ الحِزبَينِ أحصى لِمَا لبَثُوا أَمَدًا (12)) (1) ، وقوله تعالى: (ولقد علموا لَمَنِ أشْتراهُ مَا لَه في الآخرة مِن خَلاقٍ) (2) . وتارةَ تُلغَى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد منطلق ظننتُ"، والإلغاءُ هاهنا أحسن، وقولك "زيدٌ ظننتُ منطلق".
وكان الفرق بين باب "ظننتُ" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننتُ، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر.
وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما إما مرفوعان، كما إذا تجرَّدا عن العوامل اللفظية؛ وإمّا منصوبان، وهو باب ظننتُ، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛
__________
(1) سورة الكهف: 12.
(2) سورة البقرة: 102.(1/39)
أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو فضلة.
وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركاتٌ لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا كانت في الآخر لم.... (1) عامل للإعراب، كقولك: خَرْج وخُرْج، وكَرْه وكُرْه، والغَسْل والغُسْل ونحو ذلك، فالخَرْج والكَرْه والغَسْل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضرَبه ضَرْبًا، وأكله أَكْلاً ونحو ذلك، وأما الخُرْج والكُرْه فهو نفس الشيء المكروه والمخروج، والعَين أقوى من الفعل، والغُسْل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال الإنسان لنفسه أكمل من غَسْلِه لغيره، تقول في هذا: غُسْل الجمعة وغُسْل الجنابة، لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غَسْل الميت وغَسْل الثوب، لأن المصدر غَسْل الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعًا وقياسًا، وما نُقِل غير ذلك فإما خطأ وإما شاذ.
فتبيَّن أن "القَيُّوم" أبلغُ من "القيَّام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يُفيد إقامتَه لغيره وقيامَه عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوامَ قيامه وكمالَ قيامِه، لما فيه من المبالغة لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ابن أبي حاتم (2) : حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال له.
__________
(1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.
(2) "تفسيره" (2/487) .(1/40)
وقد ظنّ طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادَهم بذلك أن لا تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورَدَّ عليهم عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، وبيَّنوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الإسناد وحدَه مما لا يعتمِد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفَه (1) ، ثمَّ ذكروا عدمَ دلالتِه على ما طلَبَه. ولكن قد رُوِيَ هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائمٌ باقٍ لا يَنْقُص عن كمالِه فضلاً عن أن يَفْنَى أو يَعْدَم، كقوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46)) (2) . وفيه قراءتان (3) : أكثر القراء يقرءون "لِتزوْلَ"، فيدلُّ على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وقرأ بعضُهم "لَتزوْلُ" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرُهم تزول، هذا تقدير البصريين. َ والكوفيُّونَ يقدرون: ما كان مكرهم ألاَّ تزول. وكلا القراءتين لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع (4) .
وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: (إِنَّ الله يُمْسِك
__________
(1) انظر "الإتقان" للسيوطي (4/239) ، و"تدريب الراوي" (1/181) .
(2) سورة إبراهيم: 44-46.
(3) انظر: "زاد المسير" (4/374) والقرطبي (9/381) .
(4) انظر: "مجموع الفتاوى": (17/381-382) .(1/41)
اَلسَّموات والأرض أن تزولا ولئِن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (1) ومنه قول لبيد (2) :
ألاَ كلُّ شيء مَا خَلا الله باطلُ
وقد قال له عثمان (3) بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد:
"صدقتَ". ثم قال:
وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالةَ زَائلُ
فقالَ له: "كَذبتَ، إن نعيم الجنة لا يزول" (4) .
وليس المراد بقوله (ما لكم من زوال (44)) وبقبم له تعالى (لِتَزُولَ مِنهُ الِجْبَالُ (46) و (يمسِك اَلسَّمَواتِ والأرضَ أَن تَزُولا) هو الحركة، فإنهم كانوا يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" يُستعمل لازمًا ويُستعمل ناقصةً من أخواتِ "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول زوالاً، كما في قوله تعالى (أَن تَزُولا) و (مَالَكم مِّن زَوَال (44)) و (وإن كاَن مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنْهُ اَلجِبَالُ (46)) . ومنه: زالت الشمسُ تزولُ زوالاً. وليس المراد بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركةً في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب.
ولا يقال إنها زالت إلاّ إذا انحطَّت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على رءوس الناس كان غايةُ ارتفاعها، وهو قَبْلَ الزوال، ثُمَّ إذا
__________
(1) سورة فاطر: 41.
(2) ديوانه: 256.
(3) في الأصل "لعثمان"، وهو خطأ، فقد كان المنشد لبيدًا، وعلَّق عليه عثمان.
(4) الخبر في "سيرة" ابن إسحاق (ص158-159) ، و"سيرة" ابن هشام (1/370) و"البداية والنهاية" (4/227-228) .(1/42)
انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قِيل: زالتْ، ويقال لها قبل الزوال: قد قام قائمُ الظهِيرة، فيُعَبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يُلفَظ في الانحطاط بلفظ الزوال، كما يُعبَّر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوتِ الشمسُ، وعند الزوال بالميل فيقالُ مالت الشمسُ؛ فكأن لفظ الزوال يَدُكُ على النقص بعد الكمال، والانخفاض بعد الارتفاع.
والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوامَ ماهم فيه من الملك والمال، وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُبقَتْ ناقتُه العَضْباءُ وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسَبقها، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ حقًا على الله أن لا يُرفعَ شيءٌ من الدنيا إلاّ وَضَعَه" (1) . فكلَّما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، وذلك من زوالِه.
والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يُسمَّى باطلاً، فالموتُ حق والحياة باطلٌ، فإن الباطل ضدُّ الحق، والحقُّ يقال على الموجود، فيكون الباطلُ هو المعدوم. ويقال أيضًا على ما ينفع ويُنفَى نفعُه، فيكون الباطلُ اسمًا لما لا ينفع، أو لما لا يدومُ نفعُه.
ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ باطلٌ منه إلاّ رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحقّ". رواه أبو داود وغيره (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (2872) عن أنس.
(2) أخرجه أحمد (4/144،148) والدارمي (2410) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من طريق عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر. أما أبو داود (2513) فأخرجه من طريق خالد بن زيد الجهني عن عقبة بلفظ مختلف.(1/43)
ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن هذا الرجل لا يُحِبُّ الباطل" (1) ، وهو مالا يَنفعُ النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكلُّ مالا ينفع في الآخرة فهو باطل، وإن كان لذةً حاضرةً، فإنها تزول وتُعَدُّ بلا نفعٍ يَبقى، فهي باطل بهذا الاعتبار.
وقال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو وأن ما يدعون مِن دُونِهِ هُوَ الباطِلُ) (2) ، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة (3) في الحياة الدنيا، فيومَ القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا. ومن هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد:
ألا كلّ شيء ماخلا الله باطل (4)
قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) (5) ، وقال تعالى: (مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)) إلى قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الأخرةِ) (6) . والثابت ضدّ الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع مشروع في كلِّ ما قد يَضُرّ في
__________
(1) أخرجه أحمد (3/435) والبخاري في "الأدب المفرد" (342) عن الأسود بن سريع.
(2) سورة لقمان: 30.
(3) في الأصل: "كان مودة"!.
(4) أخرجه البخاري (6489) ومسلم (2256) عن أبي هريرة.
(5) سورة الفرقان: 23.
(6) سورة إبراهيم: 24-27.(1/44)
الآخرة. فالورع عن المحرمات واجبٌ، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرَّم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام، كما في الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحتْ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب".
فقد بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من ترك الشبهات التي لا يعلم كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقعَ في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه.
وبيَّن أنّ حِمَى الله تعالى محارمُه التي حرَّمها، وفي هذا ما دلَّ على أن الشبهات لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحَلال منها من الحرام. ومن تبين له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع فيها من لم يتبين له أحلالٌ هي أم حرام. وفيه ما دلَّ على أن شريعتَه في ترك الشبهات يتضمن سدَّ الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك، إلاّ إذا كان مصلحة فِعلُه راجح.
مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحدٍ
__________
(1) البخاري (52) ومسلم (1599) .(1/45)
منهما، فهذا يُرَغَّبُ في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا تركَ ذلك تضمن تَرْكَ واجب محقق أو فِعْلَ محرَّم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبًا في ترك الشبهة، بل يكون مأمورًا بفعلها، لأنه إذا فعلَها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك تَرْكَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ كان إثمًا.
والورع المشروع هو ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحسن رضي الله عنه: "دع ما يَريبك إلى مالا يريبك" (1) ، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه، بل إلى ماهو يريبه قطعًا، وذلك يظن أنه قد يريبه.
ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي (2) وغيره، أنه سُئِل عمَّن مات أبوه وعليه دَين، وله مالٌ فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيَدَع ذمةَ أبيه مرتهنةً فبيَّن ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاءَ دَيْنِ الميت من المال الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يُمكِّن الغرماء من قبضه، وإن لم يمكن قضاؤه إلاّ بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجبٌ على الكفاية، وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرمًا، بل ورعٌ مستحب، فكيف يفعل مستحبًّا بترك واجب؟.
وهكذا مَن عليه دُيُون وله مالٌ يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس تركُ الشبهة واجبًا. ولو قُدِّر أن في ملك الشبهة ظلم قليل، فهو أخفُ من
__________
(1) أخرجه أحمد (1/200) والدارمي (2535) والترمذي (2518) والنسائي (8/327) من طريق أبي الحوراء السعدي عن الحسن.
(2) ص83.(1/46)
ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئةٌ لغيره مثلاً، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوفِ الغرماءَ حقوقَهم ظَلَمَهم بألف درهم، وذاك أعظم إثمًا من ظلم مئة، هذا إذا قُدَّر أنه لا يعرف قدر ما في مالِه من الظلم، وإلاّ فإذا عرف قَدْرَ ذلك فإنه يُخرِج مقدارَ الحرام، فيعطيه لمستحقّه إن عرفه، وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسَلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نُقِل عن السلف من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفَه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مالِ الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وليس هذا كاللُّقَطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرَّفها حولاً وأخذها بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه من المباحات بفعله ما دام صاحبها مجهولاً، وله أن يتصدَّق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء ردَّ ذلك وطلبَ بدلَ مالِه، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال، وفي امرأة المفقود أيضًا، قالوا: يُخيَّر الزوجُ القادمُ بين المرأة وبين مهرها، وهو مبني على هذا، فإنه لمّا انقطع خبرُه جاز التصرفُ في بُضْعِ امرأته، كما جاز التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيرِه، ثم ظهر خبرُه، صارَ حينئذٍ مخيَّرًا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزًا باطنًا وظاهرًا، كمالِ اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقَط باطنًا وظاهرًا، وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عادَ إليه ملكًا جديدًا.(1/47)
وأمّا الشبهة إذا اجتنبها أوقعتْه فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعًا، فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شكَّ من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينًا لتُباحَ لغيره بلا شك، مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بكِ فقد أوقعتُه بكِ. ومنهم من يَستحبُّ له إمساكَها، ويرى ذلك خيرًا (1) من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم يأثم، فإن الأصلَ عدمُ الطلاق، وإمساكُها جائزٌ لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو مكروه أو محرَّم، فمن قَطَع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشدّ أم كراهة إمساكها مع الشك. وأما من تردَّد هل الطلاق محرَّم أو مكروه فإمساكها أولى عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعُه عنده أولى من إمساكِها مع الشك. وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل محظور، وإنما أُبيح للحاجة.
والمقصود هنا أن مالا يُستعانُ به على النفع الدائم فهو نفع يتعقبه، ومنه يُسمَّى العبث واللعب باطلاً، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعتُه زائلة، لما فيه من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يُستعَن به على الحق الذي يَدُوم نفعُه. ولهذا قال تعالى: (وَمَا خلقنا اَلسمَاء واَلأَرضَ وَمَا بَينهمَا باطِلاً ذلِكَ ظَن الَذِينَ كَفَروا) (2) ، وقال تعالى: (وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالأَرضَ وَمَا بينَهُمَا لاعبين (38)) (3) ، وقال تعالى: أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خلقنَاكمْ
__________
(1) في الأصل: "خير".
(2) سورة ص: 27.
(3) سورة الدخان: 38.(1/48)
عَبَثاً وَأنَكم إلينا لا ترجعون) (1) . فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث واللعب، والله تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فَسَد وهلكَ. ولهذا قيل في قوله تعالى (كل شيءٍ هالك إلا وجهه) (2) : كلُّ عملٍ باطل إلاّ ما أريد به وجهُه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطلٌ إلاّ وجهك الكريم". وقد قال تعالى: (كل مَن عليها فَان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)) (3) . فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسدٌ هالكٌ، لا يبقى ولا يدوم.
قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانًا عَملَ موطَّأ مثلَ موطَّأِك، فقال: وطَّأوا ووطَّأنا، وما كان لله عزَّ وجلَّ فهوَ يبقى (4) .
ولما استقر في الفطر أن كل عمل لا يبقى نفعُه فهو عبث ولعبٌ وباطلٌ، صار كلٌّ من اَلناس يُسمِّي مالا يبقى نفعُه بالنسبة إلى ما يبقى عبثًا وباطِلاً ولعبًا وباطلاً، فالصبيان إذا لعبوا سمَّى الرجالُ العقلاءُ فعلَهم لعبًا وباطلاً وعبثًا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا فَرَغوا من اللعب احتاجوا إلى أمورٍ لا
__________
(1) سورة المؤمنين: 115.
(2) سورة القصص: 88.
(3) سورة الرحمن: 26-27.
(4) انظر "ترتيب المدارك" (1/95) ط. بيروت، و"تزيين الممالك" (ص44) .(1/49)
تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصِّل له قوتًا وكسبًا ونحو ذلك من المقاصد عندهم صاحب جدَّ وحَقَّ، ليس بصاحب لعب وباطلٍ، فإن هذا يبقى ويدومُ وينفع أعَظم من ذاك؛ ومن كان عَنده أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرضَ عن ذلك صاحبُ لعب وباطلٍ بالنسبة إلى مطلوبه ومقصودِه، فإن المال لا ينتفع به صاحبُه إلاّ إذا أخرجَه وأنفَقَه، فمنفعتُه في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلَّما قوي وحَصَل كان الانتفاع به أكثر، وصَاحبُه يُمكِنه أن يُحصل به من المال مالا يُمكِنُ صاحبَ المال أن يُحصِّل به من الجاه، فلهذا كان هذا أعقلَ وأكيسَ وأبعدَ عن اللعبِ والباطلِ من ذاك.
ثم إن صاحب الحق الذي قد عَلِمَ أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاهٌ ولا مالٌ، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: (مَا أَغْنى عَنّىِ مَالِيه (28) هلك عنىِ سلطانيه (29)) (1) . وقد روى الترمذي وغيرُه (2) عن كعب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفْسَدَ لها من حِرْصِ المرءِ على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حِرصَ المرءِ على المالِ والشرفِ والرئاسة يُفسِد الدينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعُه بعد الموتِ، فلو قُدِّر أن الإنسان طلبَ من
__________
(1) سورة الحاقة: 28-29.
(2) أخرجه الترمذي (2376) وأحمد (3/456،460) والدارمي (2733) . وللحافظ ابن رجب شرح عليه مطبوع. وانظر كلام المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى" (11/107-108،20/142-144،28/391-392) .(1/50)
المالِ والشرف مالا ينفعه بعد الموت، لكان صاحبَ باطلِ ولعب وعبث، فكيف إذا طلب ماهو صار له بعد الموت يُفسِد ما ينفعُه، كإفسادِ الذئبينِ الجائعين لزريبة الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يُوجِب الشُحَّ، فإن الشُحَّ أصله شدةُ الحرص.
وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إياكم الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أهلكَ من قبلكم، أمرَهم بالبخل فبَخِلُوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا".
ورئيَ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يَطوف وهو يقول: "رَب قِنِيْ شُحَّ نفسي، رب قِنِي شُحَّ نفسي"، فقيل له: ما أكثرَ ما تدعو بذلك! فقال: إذا وُقِيتُ الشحَّ وُقِيتُ البخلَ والظلمَ والقطيعةَ (2) .
وذكر رجلٌ لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراجَ المال، أفشحيحٌ هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشُّحَّ أن تُحِبَّ أخذَ مالِ أخيك (3) .
ولهذا الشحُّ كان أعظمَ من البخل، فإن البخيل يَبخَلُ بما عنده، والشُّحُّ هو شدَّة الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يُعطِيَ الله تعالى غيرَه من فضلِه، وعمل على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مالَ غيرِه بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حاجة
__________
(1) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (2/159، 191، 193، 195) والدارمي (2519) وأبو داود (1698) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه الطبري (28/29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/108) .
(3) أخرجه الطبري (28/29) وغيره، انظر "الدر المنثور" (8/107) .(1/51)
مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)) (1) . فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبًا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنَى غِنَى النفس" (2) . والحاسد والحريصُ أنفُسُهم فقيرة محتاجة لا غِنًى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يُحسِنُ. ولهذا جاء في الحديث (3) : "الصدقة تُطفِىءُ الخطيئةَ كما يُطفِىءُ الماءُ النارَ، والحسدُ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النارُ الحطبَ".
والحسدُ يكون على المال والجاهِ جميعًا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال الله تعالى: "أَم يحسدون الناس على ما أتاهم الله مِن فَضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكاً عظيماً (54)) (4) ، وقال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كُفارًا حَسَدًا من عِندِ أَنفُسِهِم من بعَدِ مَا تبين لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأتىِ الله بأمره) (5) . وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حَبَاه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويُسمَّى حسدًا لكنه حسن. كما في الصحيحين (6) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
__________
(1) سورة الحشر: 9.
(2) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه ابن ماجه (4210) عن أنى. وفي الباب عن معاذ بن جبل وجابر وغيرهما.
(4) سورة النساء: 54.
(5) سورة البقرة: 109.
(6) البخاري (7141) ومسلم (816) عن ابن مسعود.(1/52)
قال: "لا حَسَدَ إلاً في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا أحب الرجل أن يكون له مثلُ ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رُغِّبَ فيها بقوله تعالى وتبارك: (وفىِ ذلك فليتنافس المتنافسون (26)) (1) . وأما إذا تمنى زوالَ النعمة عنه فهذا مذموم مَعِيْبٌ، وإن أحب أن يكون له مثلُها من المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حبّ المال والرئاسة ابتداءّ، فهو باطلٌ وعبثٌ ولعبٌ، إلاّ ما يُنتفع به في الآخرة، والحرصُ عليه يُفسِد الدينَ كما تقدم. وقال شداد بن أوس رضي الله عنه (2) : يا بقايا العرب! إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حبُّ الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نُوزعَ أحدُهم الرئاسةَ نَاطَحَ نِطاحَ الكِباش.
فطُلاَّب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبَّه الله ورسولُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى بالذمّ والنقص والعيب، من طلّاب المال عند طُلاَّب الرئاسة، حيث أرادوا مالا يدوم نفسُه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطلَ الذي يفنى، وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، فكيف والدنيا خَزَفٌ يَفنى، والآخرة ذهبٌ يَبقَى!
ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبيَّن لهم الحق، وقال لهم فرعون
__________
(1) سورة المطففين: 26.
(2) أخرجه أحمد (4/123،125) عن شداد بن أوس مرفوعًا بنحوه.(1/53)
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قَاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خيرٌ وأبقى (73)) (1) .
والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازمًا تامًا، ويُستعمل ناقصًا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) (2) ، وقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118) إلا من رحم) (3) ، وقوله تعالى: (وَلَا تزَال تطلع عَلى خائنة منهم إلا قلَيلًا منْهُم) (4) . ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وكَاَنَ اَللهُ عَزيزًا حكِيماً (158)) ، (سميعا بَصِيرًا (58)) فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (وَكاَنَ اللهُ غَفُورًا رحِيمًا (96)) تَسمَّى بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه (5) عنه. وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالمًا متكلمًا غفورًا.
وقال رضي الله عنه أيضًا: لم يزل متكلمًا إذا شاءَ. ذكره في رواية عبد الله فيما كتبه في "الردّ على الجهمية والزنادقة فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأؤَّلَتْه على غير تأويله" (6) .
__________
(1) سورة طه: 71-73.
(2) سورة التوبة: 110.
(3) سورة هود: 118.
(4) سورة المائدة: 13.
(5) 8/556 (مع الفتح) .
(6) انظر ص48.(1/54)
وهذا يقال فيه: ما زَال، ولم يَزَل؛ والأوَّلُ يقال فيه: زال يَزُول، ذاك بالواو، وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يُراد به لم يَزُلِ المذكور، وهنا يُراد به: لم يَزَلْ أو لا يَزَال على هذه الصفة وهذه الحالِ. فالمراد هناك دوامُ نفسِه وبقاؤها، والمراد هنا دوامُ صفتِه المذكورة وبقاؤها. ودوامُ نفسِه وبقاؤها من غير زوالٍ ونقصٍ يَستلزِمُ دوامَ صفاتِ الكمال وبقاءَها. وأما إذا قيل: لم يَزَلْ كذلك، فقد يكون المذكور صفةَ نقصٍ، كقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين (118)) (1) ، وقد يكون صفةَ كمالٍ، وإذا كان صفةَ كمالٍ فهو داخلٌ في الأول.
فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديًا موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غيرِ حدوثِ نقصٍ أو تغيرٍ بفسادٍ واستحالةٍ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت" (2) .
__________
(1) سورة هود: 118.
(2) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/366) وأبو نعيم في "الحلية" (7/90) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (10/415) من حديث جابر، وله طرق مختلفة تكلم عليها الألباني في "الصحيحة" (1087) .(1/55)
والنوم جُعِلَ للناس في الدنيا سُباتًا، كما قال تعالى (1) . جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنُه من الحركات التي لو دامت عليه لأهلكته (2) ، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من نومه كأنه خُلِقَ جديدًا. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استيقظ من نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانَا بعدما أماتنا وإليه النشور" (3) .
والرب تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ، قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (4) ، وقال تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255)) (5) قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه.
وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا أحب الأفلين (76)) (6) ، فإنه من المعلوم أن أفولَ الشمس والقمر والكواكب أبلغُ في النقص من زواله إذا كان الآفل غابَ واحتجبَ، ولم يبقَ له في عابدِه فِعلٌ ولا نفعٌ، ولا يمكن عابدَه أن يُوجهَ وجهَه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقصٌ لها وانخفاض وانحطاط عن حالِ كمالِ ارتفاعِها. والزوالُ بدءُ حصولِ الأفْياءِ المُزِيلة لشعاعها، فإن الظل يكون ممدودًا قبل طلوعها، كما
__________
(1) في سورة النبأ: 9 (وجعلنا نومكم سباتاً (9)) .
(2) في الهامش: "لأفسدته".
(3) أخرجه البخاري (7395،6325) عن أبي ذر، ومسلم (2711) عن البراء بن عازب.
(4) سورة ق: 38.
(5) سورة البقرة: 255.
(6) سورة الأنعام: 76.(1/56)
قال تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً (45) ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً (46)) (1) . فإذا طلعتْ انبسطَ شعاعُها على وجهِ الأرض، ونسخ الظلّ الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية كلها، ولا يزال ينسخ الغربيَّةَ شيئًا بعد شيء حتى تستويَ الشمسُ، فيكون قد نسخ الظلال الشرقية والغربية جميعًا، وهذا غايةُ نسخِ الشمسِ الظلالَ. فإذا زالت انحطت وانخفضت، ففَاءتِ الأفْيَاءُ. والفيءُ اسمٌ للظلّ الذي بعد الزوال، والظل يعمُّ ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيءُ ويعود، فيعودُ الفيء إلى ناحية المشرق، بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يَمتدُّ ويَطُولُ كلما انخفضت الشمس إلى أن تغرب، فيعود الظل ممدودًا بأفولها، كما يكون ممدودًا قبل طلوعها، فكان أفولُها غايةَ بطلانِ أثرِها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي ابتدأ من الزوال، وكأنه كمالُ زوالِها. ولهذا فُسر دلوكُها بهذا وبهذا في قوله عز وجل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) (2) ، فطائفة من السلف قالوا: دلوكها غروبُها، والتحقيق أن الزوال أول دُلوكها، والغروب كمالُ دُلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سُميت "بَرَاح"، ويقال: دلكتْ بَرَاحِ. ولهذا قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) ، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء، وصلاة العشي (3) فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن ذلك كلُّه دلوك، وهذا كله
__________
(1) سورة الفرقان: 45-46.
(2) سورة الإسراء: 78. وانظر: "زاد المسير" (5/72) والقرطبي (10/303) .
(3) في الهامش: "صلاة الظهر والعصر".(1/57)
غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق
الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل (1) . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترَ أهله وماله" (2) .
وقال أيضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عملُه" (3) . وهي
الصلاة الوسطى، كما دلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة (4) ، وهي
بين صلاتَيْ ليلٍ وصلاتَيْ نهارٍ.
فالحيّ القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل
قد زال قطعًا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقصُ شيءٌ
من صفاتِ كمالِه، ولا يفنَى ولا يُعدَم، بل هو الدائم الباقي الذي لم
يزل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الكمال. وهذا يتضمن كونه قديمًا،
فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامُها الذي
لا يدلُّ عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضًا كونَه موجودًا بنفسه، وهو
معنى كونه واجبَ الوجود، فإن الموجودَ بغيره كان معدومًا ثم وُجِدَ،
وكل مفعولٍ فهو مُحدَثٌ، وتقديرُ قديمٍ أزلي مفعولٍ كما يقوله بعض
المتفلسفة باطلٌ في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء
المتقدمين والمتأخرين.
فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلاّ موجودًا بنفسه،
__________
(1) في الأصل: "صلاة غسق الليل إلى الفجر"، وهو تكرار لما سبق.
(2) أخرجه البخاري (525) ومسلم (626) عن ابن عمر، بلفظ "الذي تفوته ... ".
(3) أخرجه البخاري (594) من حديث بريدة، بلفظ "من ترك صلاة ... ".
(4) منها حديث علي عند البخاري (2931) ومسلم (627) ؛ وحديث ابن مسعود عند مسلم (628) ؛ وحديث عائشة عند مسلم (629) ؛ وحديث البراء بن عازب عند مسلم (630) .(1/58)
والموجود بنفسه لا يكون إلاَّ قديمًا واجبَ الوجود، فإن وجودَه [لو] .
لم يكن واجبًا لكان ممكنًا، يمكن وجودُه ويُمكِن عدمُه، وما أمكنَ وجودُه وعدمُه لم يكن إلاّ مُحدَثًا كائنًا بعدَ أن لم يكن. فليس هو القيوم الذي لا يزول، بل لم يزل ولا يزال.
ومن الناس من يُطلِق هنا أنه لم يزل ولا يزال ولا يكون بغيره (1) ، وهذا إن كان لغةً فكونه موجودًا بنفسه من معاني كونه قيومًا، أو، إذا ما وُجد بغيره ليس هو قيومًا، لحاجته إلى من يُوجده ويُقِيْمه، بل ليس له من الَقيومية بنفسه، إذ هو دائمًا محتاجٌ فقيرٌ إلى القيوم، وما كان موجودًا بنفسه يمتنع أن يكون معدومًا تارةً وموجودًا أخرى، [وما] كان ممكنًا مُحدَثًا لم يكن وجودُه بنفسه، فإن ما وجودُه بنفسه وجودُه ملازم له لا يكون معدومًا قط، بل من تُصُورَتْ نفسُه تُصُورَ أنه موجودٌ، والمعدومُ يتصَورُ نفسُه معدومةً وموجودةً أخرى، فليس الوجودُ ملازمًا لها.
فقد تبينَ أن الوجود الواجب القديم وما يستلزم ذلك من صفاتِ الكمال ودَوامِ ذلك وبقائِه، كل ذلك يدخل في اسمه "القيوم"، واقترانه بالحيّ يستلزم سائر صفات الكمال، فجميع صفات الكمال يَدلُّ عليها اسم "الحيّ القيوم"، ويَدُلُّ أيضًا على بقائها ودوامِها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً. ولهذا كان قوله سبحانه وتعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أعظمَ آيةٍ في كتاب الله عز وجل، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.
__________
(1) في الأصل: "لا يك خبره"، وهو تحريف.
(2) مسلم (810) عن أبي بن كعب.(1/59)
قاعدة جليلة
في إثبات علوّ الله تعالى على جميع خلقه(1/61)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه:
قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علوّ الله تعالى الواجب له على جميع خلقه فوقَ عرشِه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها.
وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثمّ خلق العالم، فلا يخلو: إما أن يكون خَلَقَه في نفسه واتصل به، وهذا محالٌ، لتعالي الله عز وجل عن مماسّةِ الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها.
وإمّا أن يكون خَلَقَه خارجًا عنه ثم دخل فيه، وهذا محالٌ أيضًا، لتعالي الله عز وجل عن الحلول في المخلوقات. وهاتان الصورتان مما لا نزاعَ فيها بين المسلمين.
وإما أن يكون خَلَقَه خارجًا عن نفسِه ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا يقبل الله منا ما يخالفه، بل حرَّم علينا ما يناقضه.
وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، التي احتجَّ بها على الجهمية في زمن المحنة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صحَّ عنه أنه قيل له: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال:(1/63)
بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه (1) .
وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، وما خالفهم في ذلك من يُحتجّ بقوله.
ومن ادَّعى أن العقلَ يعارضُ السمعَ ويخالفه فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح. وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع، والمدّعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شُبَه المعقولات لا حقائقها، ومن أراد تجربة ذلك وتحقيقه فعليه بالبراهين القاهرة والدلائل القاطعة التي هي مقررة مسطورة في غير هذا الموضع (2) . والله أعلم.
***
__________
(1) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص50) و"الرد على بشر المريسي" (ص24،103) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (ص7،25، 35،72) من طرقٍ عنه.
(2) انظر المجلد الخامس من "مجموع الفتاوى" الذي يحتوي على رسائل ومسائل للمؤلف في هذا الموضوع.(1/64)
فتوى فيمن يدعي أن ثَمَّ غوثًا وأقطاباً وأبدالاً(1/65)
سُئِل شيخ الإسلام مفتي الأنام حَبْر الأمَّة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بِن عبد السلام ابن تيميَّةَ رضي الله عنه وأرضاه، فيمن يَدَّعيْ أنَّ ثمَّ غوْثًا وأقطابًا وأبدالاً وأولياءَ، وأنَّ بهم يُستَسقَى الغيثُ وتَنزِل الرحمةُ ويُكشَف العذاب، وإذا غَضِبَ الله على أحدٍ من أهل الأرضِ وأراد أن يُنزِلَ غَضَبَه، نَظَرَ إلى قلوبِ هؤلاءِ، فإن وجدَهم راضينَ بذلك أَنزلَ عذابَه، وإلاّ رَفَعَه، وكذلك الرحمةُ والنصْر والرزق، وأنّ الغوث بمكَّةَ مُقيم. ومن يَدَّعي أن هؤلاء المولَّهِيْنَ والبهاليل الذين لا يُصَلُّون، ولا يَتَوَقَّوْنَ نجاسةً ولا غيرَها.
فأجابَ رضي الله عنه قائلاً:
الحمد لله رب العالمين. الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، وعليه سلفُ الأمَّة وخَلَفُها الصالحونَ المتبعون للسَّلَف -: أنّ لله تعالى أولياءَ، كما لَهُ أعداء، وأولياء الله هم المنعوتون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفىِ الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) .
وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: مَن عَادَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحَبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه
__________
(1) سورة يونس: 62-64.
(2) برقم (6502) .(1/67)
الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يَمشي بها، فبِي يَسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. لَئِن سألني لأعطِيَّنه، ولئن استعاذ بي لأعِيذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبض عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه".
فبيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكَر أولياءَ الله أنه ما يَقرُب العبادُ إليه بمثلِ أداء الفرائض، ثمّ ذكر أنه لا يزال العبدُ يتقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبّه، فيصير العبد يَسمع بالله، ويبصر بالله، ويبطش بالله، ويمشي بالله، فيصير سمعُه وبصره ومشيُه وبطشُه بيده لرضا الله ومحبته، فإنّه لِمَا في قلبه من محبة الله وموالاتِه وعبادته وطاعتِه، يصير قلبُه منيبًا إلى الله، ويصيرُ ممن هداه الله واجتباه، فيَجْتبِي قلبَه إليه، ويَقذِفُ من نورِه في قلبِه، كما قال تعالى: (أَوَمَن كاَنَ مَيتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشى به في الناس) (1) ، وقال تعالى: (يآ أيُّهَا اَلَّذِينَ آمنوا اَتَّقُوْا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُوِلهِ يؤتِكم كِفلَين مِن رَّحمَتِهِ ويجعل لكم نُورا تَمشُونَ بِهِ) (2) ، وقال تعالى: (* الله نُورُ اَلسَّمَاواتِ وَالأرض مَثَلُ نُورِه) (3) قال محمد بن كعب: مثل نُوْرِه في قلب المؤمن.
وقال تعالى: (مَا كنتَ تَدرِى مَا الكتاب وَلَا الإيمَانُ وَلَكن جَعَلناه نورًا نَّهدِى بِهِ مَن نشاءُ مِنَ عِبَادِنَا) (4) . فإذا جعل الله في قلبِه من نورِه صار بذلك النور يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
وأولياء الله نوعان: مقرَّبون سابقون، ومقتصدون أبرار أصحاب
__________
(1) سورة الأنعام: 122.
(2) سورة الحديد: 28.
(3) سورة النور: 35.
(4) سورة الشورى: 52.(1/68)
يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها، فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقتَ القيامة الكبرى ووقتَ الموت، فقال تعالى: (وكنُتُم أَزوَاجًا ثَلاثَةً (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10)) (1) .
وكذلك قال في آخر السورة: (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94)) (2) .
وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيمَ أمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثلاثة أصناف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَاِلٌم لنفسِهِ وَمنهُم مقتَصِد وَمِنهُم سَابق بِاَلخَيراتِ) (3) ، فالظالم لنفسه: هو المفرِّط بترك المأمور أو فعلِ المحظور، والمقتصد (4) : المؤدِّي للفرائض، المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدِّي للواجب والمستحبّ، والتارك للمحرَّم والمكروه.
وأولياءُ الله المتقون لهم كراماتٌ يُكرِمُهم الله بها، فخواصُّ أولياء الله المتبعون لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون كراماتُهم إمّا لحجةٍ في الدين، أو لحاجةٍ للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك، فهم يتقرَّبون إلى الله بما يُكرِمُهم به من الخوارق، ويعبدون الله بها، ويزدادون بها قربًا إلى الله، لا يطلبون بها عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا.
__________
(1) سورة الواقعة: 7-10.
(2) الآيات 88-94.
(3) سورة فاطر: 32.
(4) في الأصل: "المقتصدون".(1/69)
وقد كان كثير من السلفِ يُسمِّي من يُسمِّي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى الأبدال (1) : إنهم الذين بَدَّلوا السيّئاتِ بالحسنات، كما قال تعالى: (إلَّا مَن تَابَ وَءَامَن وَعَمِلَ عمَلاً صاَلِحًا فَأُوْلَئك يبُدِّل الله سَيئاتِهِم حَسَنَات) (2) . ولا ريبَ أنّ الصالحين من عباد الله لهم سببٌ في الرزق والنَّصر، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقَّاص: "يا سعدُ، وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . فهذا ونحوه حق جاء به الكتابُ والسنّة، ولا وُصولَ للخلقِ إلى رضوان الله وكرامته إلاّ بالإيمان برسُلِه وطاعتهم، فهم الوسائط والسُّفَراء بين الله وبين خلقِه، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلاَمُه أفضلُ الخلق، فمن ظَنَّ أنه يصل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بدون اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو لأحدٍ من الخلق طريقٌ إلى رضوان الله وكرامته غير اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو كافر مُلحِد. ومن ادَّعَى أنّ أحدًا من أولياء الله الذَين بلغتْهم رسالةُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِل إلى رضوانِ الله وكرامتِه بغير كتاب الله وسنَّةِ رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو ملحدٌ ضالٌّ مُفتر، يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتِل كافرًا. بل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولُ الله إلى جميع الخلق الثّقلينِ إنسِهم وجِنِّهم، وهو رسولُ الله إلى جميع الإنس: أسودِهم وأحمرِهم، وعَرَبِهم وعجمِهم.
فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعثَ الله به محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكون لله وليٌّ إلاَّ من يَتّبع محمدًا، ومن لم يَتَّبع محمدًا فهو
__________
(1) انظر لمعنى الأبدال: "فتوى في الغوث" للمؤلف.
(2) سورة الفرقان: 70.
(3) أخرجه البخاري (2896) والنسائي (6/45) عن مصعب بن سعد، ورواه أحمد (1/173) من طريق مكحول عن سعد نحوه.(1/70)
عدوُّ الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يَحصُل له بها مكاشفة وتصرُّف يُعِين بذلك أعداء محمد ويَخْفِرُهم، فهم من أعداء الله الملاعين، لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السَّحَرةِ والكُهَّان الذين كانت الشياطين تُخْبرهم ببعض المغيبات، وتُساعِدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعَداء الله المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كُفار يجبُ قتلُهم، بل يُقتَلون بلا استتابةٍ عند كثير من علماء المسلمين.
وأما أن يكون في العالم أحدٌ من البشر لا يُنزِلُ الله رزقًا أو نصرًا أو هُدًى إلاّ بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى، إمّا في المسيح، وإمّا في الباب. بل الناسُ يَدعُون الله، فيُجيبُ دعاءهم، ويسمع كلامهم. والمشركون كانوا يَدعُون الله إذا اضَطُرُّوا، فيُجيب دعاءهم، فكيف بالمؤمنين!
وليس أحدٌ من الخلق يكون هو الذي يَرفع دعاءَ العبادِ كُلِّهم إلى الله سبحانَه وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد مُعين، لا أربعة ولا سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تَارةً ويَقِلُّون أخرى. وقد كان حين بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان.
وقد أغرق الله أهلَ الأرض في زمن نوحٍ عليه السلام إلاّ من آمن معه، وما آمن معه إلاّ قليل.
وفي الحديث الصحيح (1) أن الخليل عليه السلام قال لسارةَ لما طَلَبَها الكافر، وكان يأخذ امرأةَ الرجل إذا أعجبتْه، فقال الخليل لها: إذا سألكَ
__________
(1) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.(1/71)
فقولي إنّكِ أُختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرُكِ.
وقول القائل: إن الله إذا غضِبَ على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل به العذابَ، نظرَ إلى قلوب هؤلاءِ المذكورين، فإن وجدَهم راضين بإنزالِ العذاب على الذي قد استحقّهُ أَنزَلَه، وإن لم يجدهم راضين بذلك رَفَعَه- كذِبٌ مفترى، بل قد أنزلَ الله العذابَ على قوم لوط مع مجادلةِ إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى: (فَلَمَا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76)) (1) .
وقال تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا استغفر للمنافقين: (سَوَآء عَلَيهِم أَسْتَغفَرتَ لَهُم أَمْ لَم تستَغفِر لَهُم لَن يَغفِرَ الله لَهُم) (2) .
ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله.
والخليل إبراهيم استغفرَ لأبيه. ثمَّ لما مات أبو طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأستغفرنَّ لك مالم أُنْهَ عنك" (3) ، فانزل الله تعالى: (مَا كاَن لِلنَّبىِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولىِ قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (4) . فقال بعض المسلمين: إنَّ إبراهيم قد استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى: (وَمَا كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (5) .
__________
(1) سورة هود: 74-75.
(2) سورة المنافقين: 6.
(3) أخرجه البخاري (4675 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب عن أبيه.
(4) سورة التوبة: 113.
(5) سورة التوبة: 114.(1/72)
وقد ثبت (1) أنه يوم القيامة يُراجِعُ الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع لهم، فيَرُدُّهم إلى نوح، ويَرُدُّهم نوح إلى إبراهيم، ويردُّهم إبراهيم إلى موسى، ويردُّهم موسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى سائرِ النبيين واَلِ كل وسائرِ الصالحين، فإذا أتوا محمدًا أفضلَ الشفعاءِ وأعظمَ الخلقِ جاهًا عند الله قال: "فآتِي ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ له ساجدًا، وأَحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقال: أيْ محمد، ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". فلا يَشفع حتى يأذَن الله له في الشفاعة، كما قال تعالى: (مَن ذَا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ، وقال تعالى: (وَلَا تنَفعُ اَلشَفاعَةُ عنده إلا لمن أذن له) (3) .
فإذا كان أفضلُ الخلق لا يَشفع في أحدٍ إلاّ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ، فكيف يُقال: إنّ الله لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ إذا رضي هؤلاءِ أن يُعذِّبَهم؟
ومعلوم أنّ العبدَ عليه أن يتبعَ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فيفعلَ ما أَمَر، ويَرضى بما قَدَّر. وأمّا الربّ عزّ وجلّ إذا أرادَ أن يُهلِك أعداءَه هَل يُشاوِرُ أحدًا، أو يتوقفُ فِعلُه على رِضا أحدٍ من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضينَ بما أمرهم أن يَرضَوْا به، وإلاّ وَجَبتِ التوبةُ عليهم. إلاّ ترى أن الله تعالى لمَّا أَغْرق أهلَ الأرضِ، وأغرقَ فيهم ابنَ نوح الذي قال له نوح: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من
__________
(1) في حديث الشفاعة الطويل، الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.
(2) سورة البقرة: 255.
(3) سورة سبأ: 23.(1/73)
رَّحم) (1) . وبعد هذا دعا نوح ربَّه فقال: (رب إن ابنى من أهلى
وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)) (2) ، قال الله: (يَا نُوحُ إنه ليس مِن
أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) . فإذا كان الله لمَّا
استحقَّ ابنُ نوح الهلاكَ أهلكَه، وسألَ نوحٌ فيه فعاتبَ الله نوحًا على
سُؤالِه، وهو أولُ رسولٍ بعثَه الله إلى أهلِ الأرض، فكيف يقال: إنه
لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برِضا طائفةٍ من عبادِه؟ فهل يكون أحدٌ أفضلَ من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟
وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رَبِّ لَو شِئتَ أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هى إلا فتنتك) أي محنتك واختبارك (تُضِلُّ بِهَا مَن تشًاَءُ وَتَهْدِى مَن تشاء أَنتَ ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً ... ) (4) الآية.
وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قُل فَمَن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً) (5) .
فهذا حالُ الرسل مع الله يَرُدّ على من يَغْلُو فيهم، فكيف يُقال: إنّ له عبادًا لا يُعذِّبُ أحدًا إلاّ برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العبادُ لو أرادَ أن يُهلِكَهم فمن يَملِك دَفْعَ بأسِ الله عنهم؟ وهؤلاء العبادُ عليهم
__________
(1) سورة هود: 42-43.
(2) الآية: 45.
(3) الآية: 46.
(4) سورة الأعراف: 155-156.
(5) سورة المائدة: 17.(1/74)
أن يتوبوا إلى الله ويَستغفروه، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "واللهِ إني لأستغفر الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثر من سبعين مرةً".
وفي صحيح مسلم (2) عن الأغرّ المزني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) : "إنّه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة".
وثبت عنه في الصحيحين (4) أنه كان يقول: "اللهم اغْفِرْ لي هَزْلي وجدِّي، وخَطَئي وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ ومَا أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلاّ أنتَ".
وهذا وأمثاله في دعاءِ الأنبياء وتضرُّعِهم واستغفارِهم وتوبتهم كثير في الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمتَه لهم ولغيرِهم، ويستعيذون بالله من عذابه أن يَنزِلَ بهم أو بمن يطلبون دفعَه عنهم، فكيفَ يكون تعذيبُ ربّ العالمين لمن شاء تعذيبَه لا يكون إلاّ برِضا بعضِ الناس؟.
لكن قد ثبتَ في الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال: "وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ، فأثنوا عليها
__________
(1) برقم (6307) .
(2) برقم (2702/42) .
(3) في الحديث السابق عند مسلم (2702/41) عن الأعز المزني.
(4) البخاري (6399) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري.
(5) البخاري (2642) ومسلم (949) عن أنس بن مالك.(1/75)
شرًّا، فقال: "وَجَبَتْ"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت:
وجبتْ لها الجنّةُ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلتُ: وجبتْ لها
النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض".
وفي المسند (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يُوشِكُ أن تَعلَموا أهلَ
الجنَّةِ من أهلِ النار"، قيل: بِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "بالثناءِ الحسنِ
والثناءِ السيىء".
فأولياء الله المتقون هم شُهداءُ اللهِ في الأرض، بما جعله الله من
النور في قلوبهم، فمن أَثنوا عليه خيرًا كان من أهلِ الخير، ومَن أثنَوا
عليه شرًّا كان من أهلِ الشرِّ. وأيضًا فقد يَدْعُون الله لمن يُحِبّونه، فينفعُه الله بدعائهم، ويَدعُون على غيره، فيتضرَّرُ بدعائهم.
والملائكةُ يُؤيِّد الله بهم عبادَه المؤمنين، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) (2) ، وقال: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) (3) . وقال: (فأرسَلنَا عَلَيهِم رِيحًا وَجُنُودًا لَم تروها) (4) . وقال.... (5) .
وأما حزبُ الشيطان فيُعاوِنُهم الشياطينُ شياطينُ الإنس والجنّ، كما قال تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم
__________
(1) 3/416 و6/466 عن أبي زهير الثقفي. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4221) .
(2) سورة التوبة: 26.
(3) سورة الأنفال: 12.
(4) سورة الأحزاب: 9.
(5) بياض في الأصل. ولعل المؤلف يشير إلى قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا) [التوبة: 40] .(1/76)
مِن الناس وإنىِ جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنىِ بَرِئ منكم) (1) . .... (2) .
فصل
ولفظ الغوث والقطب في حقّ البشر لم يَنْطِق به كتابٌ ولا سنة، ولا تكلَّم به أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذاْ المعنى، بل غِياثُ المستغيثين على الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (3) .
ولم يجعل الله أحدًا من الخلق غوثًا يُغِيث الخلقَ في كُلِّ ما يستغيثونه فيه، لا مَلَك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين (4) أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يأتي يومَ القيامةِ على رَقَبتِه بعيرٌ له رُغَاءٌ، فيقول: يا رسولَ الله أَغِثْني أَغِثْني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا. يا عباس عمِّ قد أَبلغتك".
وهذا كقوله (5) : "يا فاطمةُ بنت محمد، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا؛ يا عبّاسُ عمَّ رسول الله، لا أُغنِي عنكَ من الله شيئًا؛ يا صفيّهُ عمّةَ رسولِ الله، لا أُغنِي عنكِ من الله شيئًا، سلوني ما شِئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين (214)) (6) .
__________
(1) سورة الأنفال: 48.
(2) بياض في الأصل.
(3) سورة الأنفال: 9.
(4) البخاري (3073) ومسلم (1831) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه مسلم (205) وأحمد (6/187) والترمذي (3184) والنسائي (6/250) عن عائشة.
(6) سورة الشعراء: 214.(1/77)
وقد يكون بعض الناس سببَا لشَر يَندفع في بعض الأمور، فيقال: فلانٌ يَستغيثُ بفلانِ، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (1) . هذا كلفظ النصر والرزق والهُدى، فاللهُ هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا النعتُ على الإطلاق لأحدِ إلاّ لله وحدَه، لا لملَكٍ مقرَّب ولا نبي مُرسَل. لكن من الخلق من يكون سببًا في رزقِ أو هُدَى أو نَصْرِ يَحصُل لغيرِه، وهو في ذلك سبب، لا يَستقِل بالحكم، بل لابُدَّ معَه من أسباب أُخَر، ولابُدَّ من مَوَانِعَ يَدفعُها اللهُ، وإلاّ لم يَحصُل المطلوب. وأما أَن يكون بشرٌ أو مَلَكٌ يُغِيث الخلقَ في كلِّ ما يستغيثونَ فيه بالله، فمن ادَّعَى هذا فهو أكفرُ من النصارى من بعض الوجوه، فإنّ أولئك قالوا: إنّ الله هو الذي يُغِيث، لكن زَعَموا أنِّه اتَّحدَ أو حَلَّ في المسيح، وهذا جَعلَ بعضَ المخلوقاتِ يَفعل ما يَفعله الخالق. ومن زعم أنَّ ثَمَّ غَوثًا يكون على يديه ما يُنزِله الله من هُدَى ونَصْرِ ورزقِ، فقد افْتَرى على الله، ليس ما ينزله الله في ذلك على عبادِه لشخص واحد.
ومن ضلال بعضِ هؤلاء أنهم يجعلون الغوثَ مقيمًا بمكةَ دائمًا.
فيقال لهم: مَن هذا الغوثُ الذي كانَ غِياثَ الخلقِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخُلَفائِه الراشدين، ولم يكن أحدٌ منهم مقيمًا بمكّةَ؟ ومن كان بمكَّةَ مَن هو أفضلُ من الرسولِ وخلفائِه؟ وهؤلاء من جنس قولِ الإفرنج في "الباب"، فإنهم يَدَّعون فيه نحوًا من ذلك.
وأما لفظ "القطب"، فما دارَ عليه أمرٌ من الأمور قيل: إنه قُطْبُه، كقطب الرَّحَا وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارةٍ أو علمٍ أو
__________
(1) سورة القصص: 15.(1/78)
دينٍ فهو قُطبُ تلك الأمور التي دارت عليه، فالمَلِك قطبُ المُلْك، والوالي قُطب الوِلاية، ونحو ذلك. وقطبُ الدين الذي يُؤخذ عنه ولا يزاحِمه أحدٌ هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن الصالحين مَن يُجرِي الله على يَدَيهِ من الخير ما يكون قطبَ أمته.
وأما أن يكون للوجودِ قطبٌ يدورُ عليه أمرُه، به يَنزِلُ المطَرُ مطلقًا، وبه يَحصُل الهُدى مطلقًا، وبه يَحصُل النّصرُ مطلقًا، فهذا لا يكون لمخلوقٍ البتةَ، ولكن قد يكون من المخلوقين من يَحصُل به ما يَحصُل من نَصْر ورزقٍ وهُدًى، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائِكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم؟ " (1) .
ومن كان تاركًا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنّه يُستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل، وليس في هؤلاء من هو وليٌّ لله، بل فيهم من معه شياطين تُوحِي إليه بأشياء، وتُعاوِنه بأشياء، فيُخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكُهَّان تُخبِر، ويتصرّفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرُّف السَّحَرة، فتارةً يقتلون الرجل، وتارةً يُمرِضونَه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظنّ من لا يَعرِف حقيقةَ أمرِهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو كافر بالله. ومن هؤلاء من يُصلّي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقًا، وله شياطينُ تُعِينه. وطائفة ثالثة خيرٌ من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلّةُ معرفةٍ بأمر الله ونهيه، يَقترِن بهم جنٌّ من جنسهم، فتارةً يطيرون بهم في الهواء، فيذهبون بهم إلى مكةَ، ويَقِفون بعرفات من غير أن يَحجُّوا الحج الذي أمر الله به ورسولُه، فلا يُحرِمون، ولا
__________
(1) سبق ذكر الحديث قريبًا.(1/79)
يُلَبُّون، ولا يجتنبون محظوراتِ الإحرام، ولا يُقيمون بمزدلفةَ، ولا يطوفون بالبيت، بل يُحمَلون في الهواء فيقفون بعرفات، ثمَّ يُحمَلون فيُصبِحون في بلدهم. وهذا من تلاعُبِ الشياطين بهم.
ومن ظنّ هذا من كراماتِ أولياء الله فهو جاهل، فإنّ هذا عملٌ محرَّم، ليس مما أمر الله به ورسولُه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يذهبَ إلى عرفات، فيَقِف مع الناس بثيابِه، من غيرِ أن يَحُجَّ الحج الذي أمرَ الله به ورسولُه. بل قد رُوي أن عمر بن الخطاب رأى بعرفات ناسًا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبةً بليغةً.
والقلم لم يُرفَعْ إلاّ عن المجنون، وليس كلُّ مَن رُفِعَ عنه القلم يكونُ وليًّا لله، بل من المجانين من يكون يهوديًا ونصرانيا ومشركًا، فلا يكون وليًّا لله وإن رُفِع عنه القلم، بخلافِ من كان مؤمنًا بالله وبرسوله وله صلاحٌ ودينٌ، فأصابَه خَلْطٌ أفسدَ مزاجَه، فهذا إذا غابَ عقلُه رُفِع عنه القلم، وإذا صَحَا (1) تكلَّم بكلامِ أهلِ الإيمان، و [له] قلب يحبّ الله ورسوله ويحبّ ما أحبَّه الله ورسوله.
وأما من اقترنتْ به الشياطينُ، وغيَّبتْ عقلَه في بعضِ الأحوال، فهذا قد يتكلم الشياطينُ على لسانِه بالإثم والعُدوان، ويُبَغِّض إليه ما يحبُّه الله من الطهارة والصلاة والقرآن، ويُحبِّبُ إليه ما يُبغِضُه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن علاماتِ هؤلاء أنه لا يَحصُلُ لهم الخوارقُ عند أفعالِ الخير التي يحبُّها الله ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيامِ الليل، بل إنما يَحصُل إذا أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوانَ والمُرْدَانَ معاشرةً قبيحةً، أو
__________
(1) في الأصل: "صفا" تحريف.(1/80)
حَضَروا سماعَ المُكَاءِ والتصدية، وإذا اجتمعت المحرَّماتُ كانت أحوالُهم أقوى. فهذا مما يُبيّن أنهم من حزبِ الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه، قال تعالى: (وَمَن يَعشُ عَن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) (1) .
وأما الذين يسمونهم (2) الناس رجالَ الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي ينفرد بها بعضُ الناس عن الجمعة والجماعة، إمّا جبلٌ من الجبال، كجبل لبنان وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإمّا مَغَارةٌ من المغارات، كمغارة الدم، وإمّا غيرها، وإمّا غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله ورسولُه بقصدِها للعبادة، وإنما يَقصِدها الجهّال. فهؤلاء هم من الجنّ والشياطين، وقد سمّاهم الله رجالاً، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً (6)) (3) . والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه من هذه الأمور يَطولُ (4) ، وهذا مقدار ما وَسِعتْه هذه الورقة.
تمت هذه الورقات [من] الجواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الزخرف: 36-39.
(2) كذا في الأصل.
(3) سورة الجن: 6.
(4) انظر "فتوى في الغوث" للمؤلف، ففيها تفصيل ما أجمله هنا.(1/81)
فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان(1/83)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة
الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم (128)) (1) .
وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (2) .
وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (3) .
وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) (4) .
فمن كان مؤمنًا تقيا كان لله وليًّا، من أيّ صنفٍ كان.
وفي الصحيحين (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ أوليائي المتقون
__________
(1) سورة التوبة: 128.
(2) سورة آل عمران: 164.
(3) سورة الأعراف: 158.
(4) سورة يونس: 62-63.
(5) لم أجده في الصحيحين، وقد أخرجه أحمد (5/235) عن معاذ بن جبل.(1/85)
حيثُ كانوا ومن كانوا".
وفي صحيح البخاري (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، فبِيْ يسمع، وبي يُبصِر، وبي يَبطِش، وبي يمشي. ولئن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكرهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَه، ولابُدَّ له منه".
فقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أولياء الله نوعان: المقرَّبون السابقون، والأبرار أصحاب اليمين، هم الذين تقرَّبوا إليه بالنوافل بعد الفرائض.
والآخرون هم المؤدون للفرائض المجتنبون للمحارم، كما قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (2) . فالظالم لنفسه: هو صاحبُ الذنوب والخطايا؛ والمقتصد: هو الذي يفعل ما فرضه الله عليه ويترك ما حرَّمه الله عليه؛ والسابق بالخيرات: هو الذي لا يزال يتقرَّبُ إلى الله بما يَقدِرُ عليه من النوافل بعدَ الفرائض. وهؤلاء هم المتبعون لخاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل خلق الله أجمعين محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا، الذي بعثَه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فهَدى به من الضلالة، وأرشدَ به من الغواية، وفتح به
__________
(1) برقم (6502) عن أبي هريرة.
(2) سورة فاطر: 32.(1/86)
أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، حينَ فرَّق الله به [بين] الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشرّ، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أولياء الله وأعداءِ الله.
فالحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدينُ ما شرعه، والطريق إلى الله هو طاعةُ أمرِه، فلا طريقَ إلى الله إلاّ متابعة رسول الله.
قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (1) .
وقال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (2) .
وقد بعثَ الله محمدًا بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت" (3) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه والبعثِ بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيرِه وشره". وقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) .
فقد بين شرائعَ الإسلام وحقائقَ الإيمان، فكل من دعا إلى شريعة أو حقيقةٍ تخالف ما بعثَه الله به فهو ضالٌّ من إخوان الشياطين، خارجٌ
__________
(1) سورة آل عمران: 31.
(2) سورة الشورى: 52-53.
(3) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر.
(4) أخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب. ورواه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة.(1/87)
عن طريقِ اللهِ ودينِ المرسلين، ليس من أولياء الله المتقين ولا حزب الله المفلحين ولا عبادِه الصالحين.
وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في خطبته: "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بليغةً ذَرَفَتْ منها الأعين، ووجلتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله!
كأنَّ هذه موعظة مودعِّ، فماذا تَعْهَد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يَعش منكم بعدي فسَيَرى اختلافًا كبيرًا، فعليكم بسنتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كل بدعة ضلالة" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح.
فمن سلك مسلكَ المبتدعين الضالّين لم يكن من أولياء الله المتقين وحزبِه المفلحين وعبادِه الصالحين، مثل الذين يُظهِرون الإشارات الشيطانية، كإشارة الدم والسكر والنيل واللادن وماء الورد والزعفران، وملابسة النيران، فحين يلبسهم الشيطان قد يزيد أحدهم، ويتكلم الشيطان على لسانه كما يتكلم الجنُّ على لسان المصروع، وإذا أفاق من سُكْرِه لم يعرف ما تكلَّم به الشيطان على لسانه، كما لا يَعرِف المصروع إذا أفاق ما تكلم به الشيطان على لسانه، ومثل أكل الحيّات والعقارب والزنابير، وأكل آذان الكلاب والحمير، وغير ذلك
__________
(1) مسلم (867) عن جابر.
(2) أخرجه أحمد (4/126) والدارمي (96) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (44،43) عن العرباض بن سارية.(1/88)
من الخبائث التي يأكلونها، والمنكرات التي يفعلونها، مثل الرقص على الغناء والمزامير، ورفع الأصوات بالخُوار كما يخور الثور، وقد قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)) (1) . وهؤلاء الضُّلاَّل الغُواة حزبُ الشيطان لا يقصدون في مشيهم، ولا يغضّون من أصواتهم، بل يرفعون الأصوات المنكرات، ويرقصون كرقص الدِّباب ونحوها من الحيوانات، ويُعرِضون عن كتاب الله وسنة رسوله، فلا يرغبون في سماع كلامِ الله وكلامِ رسوله وكلامِ الصحابة كما يرغبون في سماع مزامير الشيطان، بل سماع مزامير الشيطان أحبُّ إليهم من سماع كلام الملك الرحمن.
وقد كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقي (2) يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى! ذَكِّرْنا ربَّنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون.
ومرَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فقال: "مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: يا رسول الله!
لو علمتُ أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا (3) .
وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعالمين والعارفين، كما بين الله ذلك في كتابه، قال تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا
__________
(1) سورة لقمان: 19.
(2) كذا في الأصل.
(3) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) ، وليس عندهما زيادة قول أبي موسى في آخر الحديث. وقد رواه أبو يعلى بهذه الزيادة كما في "مجمع الزوائد" (7/171) ، قال الهيثمي: فيه خالد بن نافع الأشعري، وهو ضعيف.(1/89)
إذَا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا (58)) (1) .
وقال تعالى: (* وَإذَا سَمِعُوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (2) .
وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سُجَّدًا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (109)) (3) .
وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) .
وقال: (إنَّمَا المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (5) .
وأما اتخاذ التصفيق والغناء والمزامير قربةً وطاعةً وطريقًا إلى الله، فهذا من جنس دين المشركين الذين قال الله فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (6) . والمكاء: هو التصويتُ بالفم، كالصفير والغناء، والتصدية: التصفيق باليد. فذمَّ الله هؤلاء المشركين الذين يجعلون هذا قائمًا مقامَ الصلاة.
وأهل البدع والضلالة أتباعُ الشيطان يُحِبُّون السماع بالدّف والكفّ أكثرَ مما يحبون سماعَ القرآن، ويرون ذلك طريقًا لهم يقدّمونه على
__________
(1) سورة مريم: 58.
(2) سورة المائدة: 83.
(3) سورة الإسراء: 107-109.
(4) سورة الزمر: 23.
(5) سورة الأنفال: 2.
(6) سورة الأنفال: 35.(1/90)
استماع القرآن، [و] يختارون سماعَ أبيات الشيطان على سماع آيات الرحمن. وقد قال عبد الله بن مسعود (1) : الغناء يُنبت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ، والذكرُ ينبِتُ الإيمان في القلبَ كما ينبِت الماءُ البقلَ.
ولهذا كان هؤلاء المبتدعون الضالُّون أتباعُ الشيطان لا تأتيهم الإشارات الشيطانية إلاّ عند الباع التي لم يشرعْها الله ولم يأذنْ بها، مثل اجتماعهم على سماع أبيات الشيطان ومزاميره، لاسيما إذا كان هناك جيران من الصبيان وأخواتهم من النسوان، فهنالك يكونُ أظهرَ لحالِ الشيطان.
سَمِعوا القُرانَ فاطرقوا لا خِيفةً لكنه إطراقُ سَاهٍ لاهِ
أما الغناءُ فكالحمير تناهقوا واللهِ مارَقَصُوا من أجلِ اللهِ
دف ومزمارٌ ونغمةُ شاهدٍ فمتَى رأيتَ عبادةً بملاهِي
يا أمةً ما ضَرَّ دينَ محمدٍ وجَنَى عليه ومن له إلاّ هِيْ
وأيضًا فهم يشركون بالرحمن، فيستغيثون بالمخلوق الميت والغائب، يرجونَه ويخافونَه ويدعونه، وهو لا يَسمع كلامهم ولا يرى مكانهم، ولكن الشياطين قد تخاطبهم وقد تتمثل في صورته، فيظنونه أنَ ذلك هو المسيح المستغاث به، وإنما هو شيطان تمثل لهؤلاء المشركين، كما تتمثل الشياطين للنصارى في صورة من يستغيثون به مثل جرجس وغيره، مثل ما تَدخل الشياطينُ في الأصنام، وتكلِّم عابديها أحيانًا، مثل ما كان يجري للمشركين من العرب، ومثل ما يجري للمشركين من الترك والهند وغيرهم. فإذا حضر أولياء الله المتقون وحزبُه
__________
(1) أخرجه البيهقي (10/223) موقوفًا. ثم أخرجه هو وأبو داود (4927) عنه مرفوعًا، وفي إسناده شيخ لم يسم. وانظر "تلخيص الحبير" (4/199) .(1/91)
المفلحون وجندُه الغالبون، فذكروا الرحمن وقرأوا آية الكرسي ونحوها من آيات القرآن نزلت الملائكةُ، فطَردتِ الشياطين، وبطلت أحوالهم. كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلتْ عليهم السكينةُ، وحَفتْهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) . و"من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه لم يزل عليه من اللهِ حافظ، لا يقربه شيطان حتى يُصبِح" (2) . كما صدَّقَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أخبرَ بذلك.
وهؤلاء المبتدعون الضالّون يجب على كل قادرٍ أن ينهاهم عن هذه البدع المُضِلَّة، ويَذُمَّ من يفعلها، فإن لم ينتهِ وإلاّ عاقبَه بما يستحقه شرعًا، وأقل ذلك أن يهجرهم، فلا يقربهم ولا يعاشرهم حتى يتوبوا، ويتبعوا الكتاب والسنة والطريق التي بعثَ الله بها رسوله، ولا يُعطَون من الزكاة حتى يتوبوا، فإن الزكاة جعلها الله رزقًا لمن يعبده ويُطيعه ويُطيع رسولَه من عبادِه المؤمنين، فلا يُعَانُ بها أهلُ البدع الضالين الذين يُضِلُّون الناسَ عن سبيل الله، ويدعونهم إلى خلاف كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيد المرسلين محمدٍ وآلِه وصحبه أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون وغَفَلَ عن ذكرك الغافلون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. والله الموفق للصواب.
(تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُنقَلَبه ومثواه) .
__________
(1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(2) رواه البخار (5010،3275،2311) تعليقًا بصيغة الجزم عن أبي هريرة.(1/92)
مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال(1/93)
مسألة
عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياءُ لله تعالى أحوالهم ربانية؛ وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعةً من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كراماتِ الأولياء، وآخرين اعتقدوا كلَّ خارقٍ دليل (1) على الولاية الرحمانية.
أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - أيده الله ووفَّقه لما يرتضيه بمنه وكرمِه -:
الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها جميع الناس، فإنه من لم يُفرِّق بين الخوارق التي تكون آياتٍ وبراهينَ ومعجزاتٍ للأنبياء، وتكون مما يُكرِم الله به الأولياءَ؛ وبين الخوارق التي تكون للسحَرة والكُهَّانِ وغيرِهم من حزب الشيطان، وإلاّ (2) اشتبه عليه الأنبياء وأتباعُهم أولياءُ الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين.
ولهذا اضطربَ في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ذلك على عموم الناس ومن شَدَا طرفًا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم من أن يوصف.
__________
(1) كذا بالرفع في النسختين.
(2) هنا سقط كبير في نسخة جامعة برنستون.(1/95)
والله سبحانه بعث رسولَه وأنزل كتابَه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة بأفضل شريعةٍ، فرَّق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، وأولياءِ الرحمن وأولياءِ الشيطان، وجُندِ الله المفلحين وحزب إبليس اللعين. وقد بُسِط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك والعلم والدين.
فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر ذلك من المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم أبو الحسين البصري مقرًّا بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات -كأبي إسحاق الإسفرايني- وافقَ المعتزلةَ على إنكار الكرامات. فإنكارُ كرامات أولياء الله المتقين قولٌ مبتدَعٌ في الإسلام، مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين وأئمة الدين، بل من أنكر خوارقَ أهلِ السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفةَ والأطباء وجودَ الجنّ، وأنكر كثير من المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان إنكار الجن كفر ظاهر (1) ، فكثيرٌ ما في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلافِ دخولهم في الإنسان فإنه أخفَى، ولهذا كان إنكار الثاني بدعة وإنكارُ الأول إلحادًا ظاهرًا.
__________
(1) كذا في الأصل بالرفع.(1/96)
والمقصود [أن] من أنكر خوارق العادات مطلقًا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعلَ ذلك من قُوى النفس، كما يقوله ابن سينا وأمثالُه من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بُسِط الكلام على هؤلاء في مجلد كبير يُسمَّى "الصفدية" وغيرها.
ومن قال إن العادات لا تخرق إلاّ للأنبياء، وأنكر الكرامات والسحر الخارق للعادة، فهو من أهل البدع الخارجين عن الجماعة كأكثر المعتزلة. وكذلك من قال: إنها لا تخرق إلاّ للأنبياء والأولياء، وجعل يستدلُّ بمجردِ خرقِ العادةِ على أن من خُرِقَتْ له العادةُ كان وليا لله، وإن كان مخالفًا للكتاب والسنة. فهؤلاء ضالون، وهم شرٌّ من المعتزلة، وهم من جنس أتباع الدجَّال وأتباعِ مُسَيلمة الكذاب والأسود العَنْسي وغيرِهم من الكذابين.
ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجلَ لو طارَ في الهواءِ أو مَشَى على الماء لم يُعتَبر حتَّى يُنظَر متابعتُه لأمرِ الله ونهيِه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن يجعلوا كثيرًا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودَها كان كمن أنكر خوارقَ الأولياء وأنكر السحرَ والكهانةَ، ومن أقرَّ بوجودِها وجعلَها دليلاً على أنّ صاحبَها وليّ لله فهو جَعَلَ خوارقَ السحرةِ والكهّانِ دليلاً على أنهم أنبياء وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروجَ عن دينِ الإسلام، والخروجَ من النور إلى الظلام. بل يجب أن يُفرَّقَ بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من الآيات والبراهين، وبما بُعِثَ به سيّدُ المرسلين، فيُعلَم أن أولياءَ الله هم المذكورون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم(1/97)
يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) .
فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهم نوعان: الأبرار وأصحاب اليمين؛ والسابقون المقربون. فالأولون هم المقرَّبُون إلى الله بفعل ما فرضه وتَرْكِ ما حذَّره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات، كما روى البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يقول الله تعالى: من عَادَى لي وليًّا فقد بارزَني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبد بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشيْ عليها، فبِيْ يَسمعُ، وبي يُبْصِر، وبي يَبْطِش، وبي يَمشِي. ولئن سألني لأعْطِيَنَّه، ولئن استعاذَ بي لأعِيْذَنِّه. وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِيْ عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يَكره الموتَ وأَكرهُ مَسَاءتَه، ولابُدَّ له منه".
فقد بيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث نوعَ أولياء الله المتقربين بالفرائض،
ونوعَ أهل النوافل بالمحبة. ومالم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم يأمر اللهُ به ورسولُه لا أمرَ إيجاب ولا استحباب، ولا فَضَّلَه اللهُ ورسولُه بالترغيبِ فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقَرَّبُ بها إلى الله، وإن كان كثير من عُبادِ المشركين وأهلِ الكتاب والمبتدعين يتقربون بما يظنونه عباداتٍ،
__________
(1) سورة يونس: 62-64.
(2) برقم (6502) .(1/98)
وليس مما أوجب الله ورسولُه ولا أحبه الله ورسولُه، فهؤلاء ضالُون مُخطِئونَ طريقَ الله.
وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسقٌ، ومنهم مُذنِب، ومنهم مؤمن مخطىء أخطأ في اجتهادِه. والخوارق التي تَحصُل بمثل هذه الأعمال التي ليست واجبةً ولا مستحبةً، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يُكرِم الله به أولياءَه. كالخوارقِ التي تَحصُل بالشركِ والكواكب وعباداتِها، وعبادةِ المسيح والعُزَير وغيرِهما من الأنبياء، وعبادةِ الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادةِ الأصنام، فإن هؤلاء قد تُجعَل لهم أرواح تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن لابدَّ أن يكذبوا مِع ذلك، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (1) . وقد تَقتُل بعضَ الأشخاص أو تُمرِضُه، وقد تأتيه بما تسترِقُه من الناس، إمّا دراهمَ وإما طعامٍ وإما شرابٍ أو لباسٍ أو غير ذلك. وهذا كثير جدّا.
فمن كذَّبَ بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظَنَّ أنَ هذه كرامات أولياء الله المتقين فهو كافر بدينِ رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صيادٍ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان قد ظنَّه بعضُ الصحابة الدجالَ، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تبين له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له حال شيطاني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد خَبأتُ لك خبيئةً" (2) ، فقال: الدُّخْ الدُّخْ، وكان قد خَبَأَ له سورةَ الدخان،
__________
(1) سورة الشعراء: 221-222.
(2) أخرجه مسلم (2924) وأحمد (1/457،380) عن ابن مسعود.(1/99)
فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخْسَأْ، فلن تَعْدُوَ قَدْرَك، فإنما أنتَ من إخوان الكُهَّان". وقال له (1) : "ما تَرى؟ " قال: أرى عرشًا على الماء، وقال: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ. وذلك العرشُ هو عرشُ إبليس. وقد ثبتَ في صحيح مسلمٍ (2) عن جابرٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يَنصِبُ عرشَه على البحر، ويَبعَثُ سراياه".
وأما كراماتُ أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببُها ما أمر الله به من الأعمال الواجبات والمستحبات، وأكابرُ أولياءِ الله يقتدون بنبيّهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يستعملون الخوارق إلاّ لحاجةِ المسلمين، أو لحجَّةٍ في الدين، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما تَجرِي الخوارقُ على يديه لحجَّةِ للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة.
والأحوال التي تحصُلُ عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية، ولهذا تَبطُل أحوالُهم إذا قُرِئتْ عليهم آية الكرسي، فإنها تَطرُد الشيطانَ، وإذا أرادوا (3) دعوا شيوخهم وتوجَّهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم على ألسنتهم حالَ الوجدِ الشيطاني بكلامٍ لا يَفهمُه صاحبُه إذا أفاق، كما يتكلم الجنّي على لسانِ المصروع، وقد يطير أحدُهم في الهواءِ. فهذا ونحوه من الأحوال الشيطانية.
وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين، فمشى هو والعسكرُ الذي معه بخيولهم على البحر، فما
__________
(1) أخرجه مسلم (2925) والترمذي (2247) عن أبي سعيد الخدري.
(2) برقم (2813) .
(3) في نسخة برنستون: "ردوا"، وفي هامشها: "صوابه: استعانوا". والمثبت من نسخة الظاهرية.(1/100)
ابتلّت لبود سروجهم. وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم ركعتين لمّا ألقاه الأسود العَنْسي في النار، فصارت عليه بَرْدًا وسلامًا.
وقد بسطنا هذا في "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1) ، وهذا قدر ما احتملتْه الورقةُ. والله أعلم.
***
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/276-282) ، ففيه ذكر كثير من كرامات الصحابة والتابعين.(1/101)
مسألة في رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه(1/103)
مسألة
سئل الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه، في رؤيةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه عز وجلَّ، هل كانت بعينِ رأسِه أم بقلبِه؟
الجواب
الحمد لله. أما رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّه بعينِ رأسِه في الدنيا فهذا لم يثبتْ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لا أحمد بن حنبل ولا غيره. ولكن الذي ثبتَ عن الصحابة - كأبي ذرّ وابن عباس وغيرهما - والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره أنه يقال: رآه بفؤادِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم (1) عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربَّه بفؤادِه مرَّتين.
وقد ثبتَ عن عائشةَ أنها قالت: من زعمَ أنَّ محمدًا رأى ربَّه فقد أعظمَ على الله الفِريَةَ (2) .
ولم تروِ عائشةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا، ولا روى أبو بكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئًا. وأما الحديث الذي يذكره بعضُ الجهّال أنه قال لعائشةَ: "لم أرَهُ"، وقال لأبي بكر: "بل رأيتُه"، وأنه أجاب كل واحدٍ على قدرِ عقلِه - فهذا كذبٌ، ولم يَروِ هذا الحديثَ أحدٌ من علماء المسلمين، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعروفة.
__________
(1) برقم (176) .
(2) أخرجه البخاري (3234 ومواضع أخرى) ومسلم (177) .(1/105)
ثمَّ من العلماء مَن جَمعَ بين قولِ عائشةَ وقولِ ابن عباس، وقال: إنّ عائشة أنكرتْ رؤيةَ العين، وابن عباس ذكر رؤيةَ الفؤاد، ولا منافاةَ بينهما. ومنهم من جعلهما قولين مختلفين. وأكثر أهل السنة يُرَجِّحون قولَ ابن عباس، لما فيه من الإثبات، ولِمَا رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "رأيتُ ربّي" (1) . وليس في شيء من الحديث الثابت أنه قال: رأيتُ ربّي بعيني، بل قد روى بعضهم هذه الأحاديث التي فيها رؤية العين، كأبي بكر الخلاّل، ونَصَرَ هذا القولَ طائفةٌ، منم القاضي أبو يعلى.
وذكر عن أحمد في الرؤية ثلاث روايات (2) : رواية أنه رآه بعين رأسِه، ورواية بعين قلبه، ورواية أنه يقول: رآه، ولا يقول: بعين رأسه، ولا بعين قلبه. ونصَرَ هذا طائفةٌ من أهل الكلام من أتباع ابن كُلاَّب، لكن رؤية العين عند هؤلاء إنما هي زوالُ مانع في العَين، [و] ليست الرؤية المعروفة عند سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، وهؤلاءِ إنما وافقوا ابنَ كُلاَّب في مسألة الكلام فقط، وأما مسألة الرؤية المناسبة فخالفوه فيها، وخالفوه أيضًا فيما يُثبتُه من الصفاتِ الخبرية: الرؤية والعلوّ وغيرهما، وإن كانوا ينتسبون إَلى مذهبه لموافقتِهم له في أكثر أقوالِه، وأكثرُ هؤلاء يجعلون تكليمَ الله لموسَى إفهامَه الكلامَ القائمَ بالذات، ويجعلونَ رؤيتَه إنما هي خلق الإرادة في العين فقط. فسلكَ طريقَ هؤلاء الجهمية الاتحادية وغيرهم، وصار منهم من يَزعُم أنّ الله يكلِّمه كما كلَّم موسى بنَ عمران، ومن يزعم أنه يَرى الله في الدنيا بعينه من الحلولية والاتحادية، حتى يقولون: إنهم يَرون الله في كل
__________
(1) أخرجه أحمد (1/290،285) من حديث ابن عباس، والدارمي (2155) من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (6/509) .(1/106)
صورة في الدنيا والآخرة.
واتفق هؤلاء غُلاةُ المعطِّلةِ وغُلاةُ المجسِّمة على أنه يُرى في الدنيا بالعينين، وحتى يزعموا (1) أنهم يُؤَاكِلونه ويُشارِبونَه ويجالسونه في الدنيا، وأمثال هذه التُّرَّهات.
وقد اتفق سلف الأمَّةِ وأئمتُها وجميعُ علماءِ المسلمين على أن غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَرَى الله في الدنيا (2) ، وثبتَ في الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "واعلموا أنّ أحدًا منكم لن يَرَى ربَّه حتَّى يموتَ".
ولذلك اتفقَ الصحابةُ وسلفُ الأُمَّةِ وأئمتُها على أنّ الله يُرَى في الآخرة بالأبصار عِيَانًا كما يُرَى الشمسُ والقمرُ، كما تواترتْ بذلك الأحاديثُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فمن قال: إنه لا يُرَى في الآخرة فهو جهميٌّ ضال، ومن قال: إنّ غيرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاه في الدنيا بالفؤادِ فهو أيضًا مبتدع ضالّ كاذب، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي
والإثبات. ومن قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه بعينه في الدنيا فهو أيضا غالطٌ، قائلٌ قولاً لم يَقُلْه أحد من الصحابة ولا الأئمة.
والمنقولُ في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّه كَذِبٌ موضوع باتفاقِ أهل العلم. وكذلك عن أحمد، فإنّه لم يَقُلْ قَطُّ: إنه رآه بعينه، وإنما قال مرّةً: رآه، ومرّةً قال: بفؤاده، وأنكر على من أنكر مطلقَ الرؤية، وذكرَ أنه يتبع ما نُقِل في ذلك من الآثار، وروى بإسنادِه عن أبي ذرّ أنه رآه بفؤادِه.
__________
(1) كذا في الأصل بحذف النون.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (5/490) .
(3) مسلم (بعد رقم 2931) عن عمر بن ثابت عن بعض الصحابة.(1/107)
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) أن أبا ذر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: "نورٌ، أَنى أراه! ". وفي لفظٍ: "رأيتُ نورًا". فأبو ذرّ هو السائل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أجابه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الجواب. وقد روى بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واتبع أحمد ذلك.
وقد رُوِي أحاديث فيها ذكر الرؤية، وأنه رآه في صورة كذا، وأنه وضع يده بين كَتِفَيْه حتى وجدَ بَرْدَ أناملِه، وقال له: فِيْمَ يَختصمُ الملأ الأعلى؟ قال: في الكفارات والدرجات، وقال في آخره: "اللهمَّ إنّي أسألك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تَغفِرَ لي وتَرحَمَني، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضْني إليكَ غيرَ مَفْتُون". رواه الترمذي وغيره (2) ، وذكر تصحيحه.
وهذا الحديث ونحوُه كلُّها رؤيا مَنامٍ، وكانت بالمدينة بعد المعراج، وأما أحاديثُ المعراج المعروفة فليس في شيء منها ذِكرُ رؤيتِه البتَّةَ أصلاً.
فالواجب اتباعُ الآثار الثابتة في ذلك وما كان عليه السلفُ والأئمّةُ، وهو إثباتُ مطلقِ الرؤية، أو رؤية مقيَّدة بالفؤاد. أما رؤيتُه بالعين ليلةَ المعراج أو غيرها، فقد تدبَّرنا عامَّةَ ما صنَّفَهُ المسلمون في هذه المسألة وما نقلوا فيها قريبًا من مئةِ مُصنَّفٍ، فلم نجد أحدًا روى بإسنادٍ ثابت - لا عن صاحبٍ ولا إمامٍ - أنّه رآه بعينِ رأسِه. والله أعلم.
***
__________
(1) برقم (178) .
(2) أخرجه الترمذي (3235) وأحمد (5/243) عن معاذ بن جبل.(1/108)
قاعدة شريفة في تفسير قوله
(أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم)
(كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره)(1/109)
بسم الله الرحمن الرحيم
(من كلام شيخنا الجديد الذيَ كتبه بقلعة دمشق في آخر عمره)
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل
في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قُل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) (1) .
القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديمًا وحديثًا - وهي قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يُطعِم ولا يُطعَم". ورُوِي عن طائفة أنهم قرأوا: "وهو يُطعِم ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال أبو الفرج (2) : وقرأ عكرمة والأعمش: "ولا يَطْعَم" بفتح الياء. قال الزجاج (3) : وهذا الاختيار عند البُصَراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطعِم ولا يأكل.
__________
(1) سورة الأنعام: 14.
(2) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/11) . وانظر تفسير القرطبي (6/397) وابن كثير (2/130) .
(3) في "معاني القرآن" (2/233) .(1/111)
قلتُ: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجحُ من هذه، فإنّ تلك القراءة لو كانت أرجحَ من هذه لكانت الأمة قد نَقَلتْ بالتواتر القراءةَ المرجوحةَ. والقراءة التي هي أحبُّ القراءتين إلى الله ليست معلومةً للأمة، ولا مشهودًا بها على الله، ولا منقولةً نقلاً متواترًا، فتكون الأمة قد حفظت المرجوح، ولم تحفظ الأحبَّ إلى الله الأفضلَ عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص فيها.
ثمّ هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (1) ، فإنه على قولِ هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظًا يُعلَم به أنه منزَّل، كما يعلم الذكر المفضول عندهم.
وأيضًا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان (2) : منهم من يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يُقطَع بأنه قرآن فإنه يُقطَع بأنه ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآنٌ منقولاً بالظنّ وأخبارِ الآحاد، فإنّا إن جوّزنا ذلك جاز أن يكون ثَمَّ قرآن كثير غيرُ هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما تُحِيلُه العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز اتفاقُهم على نقل كذبٍ، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدقٍ.
فعلى قولِ هؤلاء يُقطَع بأن هذه وأمثالَها كذب فيَمتنعُ أن يكون أفضل من القرآن الصدق.
__________
(1) سورة الحجر: 9.
(2) انظر في حكم القراءات الشاذة: "التمهيد" لابن عبد البر (8/293) ، و"فتاوى ابن الصلاح" (1/231-233) ، و"المرشد الوجيز" ص183 وما بعدها، و"منجد المقرئين" ص82 وما بعدها، و"مجموع الفتاوى" (13/389 وما بعدها) .(1/112)
والقول الثاني: قول من يُجَوِّز أن تكون هذه قرانًا وإن لم يُنقَل بالتواتر. وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يُقرَأُ بها في السبعة والعشرة، لا يُشتَرط فيها التواتر. وقد يقولون: إنّ التواتر منتفٍ فيها أو ممتنع فيها. ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغُ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله: (وما الله بغافل عما تعملون (85)) (1) ويعملون (2) ، وقوله: (إلا أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُوَد الله) (3) إلاّ أن يُخافَا أن لا يقيما حدود الله (4) ، فهذه يُكتفَى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترًا، كما يُكتفَى بمثل ذلك في إثبات الأحكام والحلال والحرام، وهو أهمُّ من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بغافلٍ عما يعمل المخاطَبون بالقرآن، ولا عمّا يعمل غيرهم، وكلا المعنيين حقّ قد دلَّ عليه القرآن في مواضع، فلا يضرّ أن لا يتواتر دلالةُ هذا اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يُعلَم إلاّ بالخبر الذي ليس بمتواتر.
والعادة والشرع أوجب أن يُنقَل القرآن نقلاً متواترًا، كما نُقِلتْ جُمَلُ الشريعة نقلاً متواترًا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة
__________
(1) سورة البقرة: 85.
(2) هي قراءة نافع وابن كثير ويعقوب وخلف.
(3) سورة البقرة: 229.
(4) هي قراءة أبي جعفر وحمزة ويعقوب.(1/113)
الحضر أربعٌ إلاّ المغرب والفجر، وأنه يُخافَت في صلاة النهار ويُجهَر في صلاة الليل، ويُجهَر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان حضرًا وسفرًا، والمغرب ثلاث حضرًا وسفرًا، ونحو ذلك.
ثمّ كثير من الأحكام التي يعملها الخاصَّة دون العامة، تُعلَم بالأخبار التي يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القرّاء قد تكون من هذا الباب.
وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بتلك القراءة أكثر، ويُعلِّمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقُلْها ولم تَعْرِفها، فنقلُ جمهور الأمة لها خلفًا عن سلف تُوجب أنها كانت أكثر وأشهر من قراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادةً قاطعةً أنه قرأ بهذه، وأنّ تلك إمّا أنه لم يَقرأ بها أو قرأ بها قليلاً، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع عادةً وشرعًا أن تكون قراءتُه بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلبُ عليه، ونقل عنه ما كان قليلاً منه.
فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه.
فصل
وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى (وَمَا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو القوة المتين (58)) (1) . فقوله: (وما أريد أن يطعمون (57))
__________
(1) سورة الذاريات: 56-58.(1/114)
نفيٌ لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفيٌ لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وَهُوَ يُطعِمُ وَلَا يُطعَمُ) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني لا أطعَم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزَّهٌ عن الأكل والشرب، بل الملائكة لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس ربّ الملائكة والروح؟
وهذا المعنى قد دلّ عليه في مواضع:
منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بيّن هذا في تفسير هذه السورة (1) .
ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)) (2) . وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)) (3) .
__________
(1) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/223-225) .
(2) سورة المائدة: 75.
(3) الآيات 72-75.(1/115)
فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه الله، أو إنّ الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبيَّن غايته وغاية أمّه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه) ، وهو ردّ على اليهود والنصارى.
ثم قال: (كانا يأكلان الطعام) ، وهو يقتضي أن أكل الطعام منافٍ للإلهية، فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهًا. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر دليلاً على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعُلِم أن أكل الطعام يستلزم نفي الإلهية.
وقد ذكروا في ذلك وجهين (1) ، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرًا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلهًا. وهذا هو الذي ذكره أكثر المفسرين.
وقال طائفة منهم ابن قتيبة (2) : إنّه نبَّه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (اَنظُر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما يكون من الكناية.
وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم الطعامَ يستلزم الحدثَ، وخروجُ الحدث من أبين الأشياء دلالةً على انتفائه إلهية من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طردُه ولا يجب عكسُه، فلا يلزم أن يكون كل من
__________
(1) انظر تفسير ابن عطية (5/162) و"زاد المسير" (2/404) والقرطبي (6/250) .
(2) في "تفسير غريب القرآن" ص145. وردّ عليه ابن عطية فقال: هذا قول بشيع، ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي.(1/116)
يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلهًا. كما أنه [لو] استدلّ على انتفاء الإلهية بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلاً صحيحًا، ولم يلزم أن يكون كل من يتكلم ويسمع ويبصر إلهًا، بل انتفاءُ صفاتِ الكمالِ يناقض الإلهية، وإن كان ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودًا قائمًا بنفسه حيا عليمًا قديرًا، فانتفاءُ هذه الأمور يَستلزِم انتفاء الإلهية، ولا يستلزم أن يكون كل موجودٍ حيّ عليم قديرٍ إلهًا.
وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طردُ الدليل، فيحتاجون أن يُفسِّروا الحدثَ بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (1) ، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العَرَق الذي يخرج من المَشَام. وهو أيضًا ينافي الصمدية، فإنّ الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم البارىء، فيكون لزوم الحدث للأكل دالاًّ على نفي إلهيته منْ هذه الجهة أيضًا. والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بُسِطَ في تفسير السورة (2) .
الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تُسَقْ لبيان تنزُّهه عن الأكل، فإن
__________
(1) منها ما أخرجه مسلم (2835) عن جابر مرفوعًا: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون". قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جُشَاءٌ ورَشح كرَشحِ المسك". وانظر أحاديث أخرى في هذا الباب في "حادي الأرواح" ص128.
(2) ضمن "مجموع الفتاوى" (17/223-225، 238-239) .(1/117)
ذلك مبيَّنٌ فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقًا لا إلهًا ونحو ذلك. وإنما سِيْقَتْ لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يُطعِمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصفُ دالٌّ على هذا المقصود. كما إذا قيل: يُعلِّمهم ولا يُعلِّمونه، ويُعطِيهم ولا يُعطُونه. وهو من معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغنٍ عن كل ما سواه، ثمَّ كونُه في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيهٌ من جهة أخرى، فإن نفسَ كونه يُطعِم ولا يُطعَم وصفٌ اختصَّ به. فالحيوانُ إنسُهم وجنُّهم وبهائمهُم يأكلون، فإذا قُدِّر أنهم أَطعَموا فهم يُطعَمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا يُطعِمون الخلقَ، فليس من يُطعِم ولا يُطعَم إلاّ الله. وإذا قدر قادرٌ يُطعِمُ غيرَه ويُحسِنُ إليه ويَرزقه، وأولئك لا يُطعِمونه ولا يرزقونه ولا يُحسِنون إليه، كان هو المُنعِم عليهم، واستحقَّ أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس هو محتاجًا إليهم، ولا هم يُحسِنون إليه.
فتبيَّن أن هذا الوصفَ وصفُ مدع يختصُّ به، ويُبيِّن ربوبيته وافتقارَ الخلق إليه وإحسانَه إليهم، وإذا قيل: وهو يُطعِم ولا يُطعَم، كان دلالتُه على هذا المعنى بطريقِ اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنعَ أن يُطعِمه أحد.
الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يُطعِمُ غيرَه ولا يُطعِمُه يُوجب المدحَ، فهذه صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب، فهذا إنما يكون مدحًا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما من لا يطعم ولا(1/118)
يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحًا بذلك، فلو قدر مريض موسر يُطعِم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، والناس إذا لم يُطعِموه لكونه لا يَطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحًا بأنهم لا يُطعِمونه، بخلاف ما إذا لم يَطعم لغناه، فإنه يُمدَح بأنه يُطعِم ولا يَطعَم، وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابدّ أن يَطعَم، وأما ما لا يَطعَم بمالٍ لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تُطعِم ولا تَطعَم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجةٌ منها إلى ما يقيها ويغذيها.
ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم) ، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي العام، وصفه بأنه يُطعِم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل: يخلق ويرزق ويُعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي (1) : "يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلاّ من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكم، يا عبادي! كلكم جائع إلاّ من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلاّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم". وقال: (وَمَا بِكُم من نِعمَةٍ فَمِنَ اَلله) (2) ، وقال: (هَل مِن خالِقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (3) ، وقال الخليل: (الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80)) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (490) ومسلم (2577) من حديث أبي ذر.
(2) سورة النحل: 53.
(3) سورة فاطر: 3.
(4) سورة الشعراء: 78-80.(1/119)
وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام (1) : "الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غُفِر له. وفي الحديث الآخر (2) : "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل خبر آوانا" (3) . وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4)) (4) .
وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائمًا أمرٌ باهرٌ علمًا وذوقًا ووجدًا، فكونه "يُطعِم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يُطعَم" نفي عام، فإن الفعل نكرةٌ في سياق النفي، فلا يطعمه أحدٌ بوجهٍ من الوجوه، فلا يكون أحدٌ محسنًا إليه، ولا مكافئًا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري (5) عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا رُفِعَتْ مائدتُه: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفِيّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مستغنًى عنه ربَّنا".
وأما إذا قيل: يُطعِم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه
__________
(1) أخرجه أحمد (3/439) والدارمي (2693) وأبو داود (4023) والترمذي (3458) وابن ماجه (3285) من حديث معاذ بن أنس. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1989) .
(2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (301) وابن السنّي (485) والحاكم في المستدرك (1/546) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده زهير بن محمد، وهو ضعيف. وقد سقط ذكره في مطبوعة كتاب النسائي.
(3) في مصادر التخريج: "وكل بلاء حسن أبلانا".
(4) سورة قريش: 3-4.
(5) برقم (5458) . وانظر شرحه في "فتح الباري" (9/580-581) .(1/120)
يُحسِن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدًا من الخلق لا يُحسِن إليه، فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبينُ من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدلُّ على المدح مطلقًا مع قطع النظر عن كونه هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قُدِّر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجًا إليهم، ولا كانوا هم الذين يُطعِمونه، كما قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليبجون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) .
وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يُحسِنُ إلى غيره ويُطعِمه، وهو لا يَحتاج إليه في أمرٍ لا إطعامٍ ولا غيرِه، كان محسنًا إليه إحسانًا محضًا، وإن كان محتاجًا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يَحتاج إلى أحدٍ بوجهٍ من الوجوه؟ ثم إنه من كمالِ إحسانه إلى عبادِه بين أنّ من لم يُطعِم أولياءَه ولم يعدهم، فهو كمن لم يُطعِمه ولم يَعُده، كما في الحديث الصحيح (2) : "يقول الله تعالى: عبدي! مرضتُ فلم تَعُدني، فيقول: ربِّ! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مَرِضَ، فلو عُدتَه لوجدتَني عنده. عَبْدي! جُعْتُ فلم تُطعِمني، فيقول: رب! كيف أُطْعِمك وأنتَ رب العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلانًا جاعَ، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي". فقال: "لوجدتَ ذلك عندي"، ولم يقل: "لوجدتني قد أكلتُه". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل: "لوجدتَني إياه".
__________
(1) سورة الذاريات: 56-57.
(2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (517) ومسلم (2569) من حديث أبي هريرة.(1/121)
الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوتٌ للقلوب، فإنه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متصف بجميع صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو يُطعِم ولا يُطْعَم" تناولَ القسمين، وإذا قيل: "لا يَطْعَم" لم يكن المراد إلا الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته.
وحينئذٍ فيكون قوله "وهو يُطْعِم" لا يتناول إلاّ مأكولَ الجسد ومشروبَه، ومعلومٌ أنّ ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي لا تتناول إلاّ أحدَهما.
بيان ذلك ما في الصحاح (1) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنك تُواصِل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أَبِيتُ - ورُوي: أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (2) أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم لوجهين.
أحدهما: أنه لو كان يُطعِمه ويَسقِيه من فمِه لم يكن مُواصِلاً، فإن المواصل هو من لا يأكل ولا يشرب، ولو قُدِّرَ أنه أُتِيَ بطعامٍ من الجنة فأكلَه، لكان آكلاً لا مُواصِلًا.
__________
(1) البخاري (1964) ومسلم (1105) من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن عمر وأنس وغيرهما، انظر باب الوصال من كتاب الصوم عند البخاري، وباب النهي عن الوصال من كتاب الصيام عند مسلم.
(2) انظر "فتح الباري" (4/208،207) ، ففيه الاحتجاج لكل قول ومناقشته.(1/122)
الثاني: أنه رُوِي "إني أَظَلُّ عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في النهار حرامٌ مُفطِرٌ ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمَّى ما يرزقه ويُقِيت قلبَه ويُغذيه إطعامًا وإسقاءً.
وقد وَصفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) عن العباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا". فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه.
وفي الصحيحين (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم من لذة أكل البدن وشربه.
__________
(1) برقم (34) . ورواه أيضًا أحمد (1/207) والترمذي (2758) .
(2) البخاري (21،16 ومواضع أخرى) ومسلم (43) من حديث أنس.(1/123)
والرب تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه.
والتعبيرِ بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة. وقال آخر:
لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ
وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بالعطش والجوع، وتُوصفَ بالريّ والشّبَع. وفي الصحيحين (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتى إني لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ"، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب.
وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها
__________
(1) البخاري (82 ومواضع أخرى) ومسلم (2391) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) البخاري (79) ومسلم (2282) .(1/124)
طائفة إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهَدى والعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به". فقد بيَّن أن مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلم من غيرِه شيئًا.
وفي مناجاة داود: إني ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه.
وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد (1) لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل:
شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ
ويقال: فلان ريّان من العلم، ويقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل (2) : "من أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرت
__________
(1) انظر: "حلية الأولياء" (10/40) .
(2) أخرجه هنّاد في "الزهد" (678) والمروزي في "زيادات الزهد" ص359 وابن =(1/125)
ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه (1) : "كونوا ينابيع العلم مصابيحَ الحكمة أحلاسَ البيوت سُرُجَ الليل جُددَ القلوب أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السماء وتخفون على أهل الأرض".
وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال: (أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا) (2) . وبيَّن أنه يحتمل السيل زبدًا رابيًا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)) (3) . فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك
__________
= أبي شيبة في "المصنّف" (13/231) وأبو نعيم في "الحلية" (5/189) عن مكحول مرسلاً. وأخرجه أبو نعيم بسند آخر عن مكحول عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا، ولا يصح. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة" (38) .
(1) أخرجه الدارمي (262) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/507) . وإسناده ضعيف. وروي نحوه عن علي بن أبي طالب، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/77) .
(2) سورة الرعد: 17.
(3) من الآية المذكورة.(1/126)
رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به" (1) . فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله (2) - قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده".
وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين.
والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.
__________
(1) سبق هذا الحديث قريبًا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/235) والمروزي في "زوائد الزهد" ص407 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/661) عن الحسن مرسلاً.
ورواه مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن من قوله، كما أخرجه الدارمي. ورواه يحيى بن يمان عن هشام عن الحسن عن جابر مرفوعًا به، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/346) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/73) ، ويحيى بن يمان ضعيف. انظر تعليق الألباني على "المشكاة" (270) .(1/127)
وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبُه معناه فأثر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (1) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.
وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" (3) وغير ذلك (4) .
والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود (5) : إنكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".
__________
(1) أخرجه الخطيب في "اقتضاء العلم العمل" (56) .
(2) البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.
(3) ضمن "مجموع الفتاوى" (7/187 وما بعدها) .
(4) انظر "مجموع الفتاوى" (9/307-319، 14/119-122) .
(5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (789) وعبد الرزاق في "المصنف" (3787) والطبراني في "الكبير" (9496،8567) من طرق عن ابن مسعود موقوفًا.(1/128)
وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري (1) لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا أوانُ يُرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟ ".
وقد قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)) (2) .
وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يَفْقَهُونَ (7)) (3) .
وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يَفقَهُونَ بِهَا) الآية (4) .
وفي الحديث (5) : "خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ
__________
(1) أخرجه أحمد (4/160، 218، 219) وابن ماجه (4048) وأبو خيثمة في "العلم" (52) . وهو حديث صحيح. وأخرجه أحمد (6/26) والبخاري في "خلق أفعال العباد" ص42 من حديث عوف بن مالك. وأخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) من حديث أبي الدرداء. وفي حديثهما ذكر زياد بن لبيد وسؤاله.
(2) سورة النساء: 78.
(3) سورة المنافقين: 7.
(4) سورة الأعراف: 179.
(5) أخرجه الترمذي (2684) من حديث أبي هريرة. وقال: هذا حديث غريب.
وصححه الألباني في "الصحيحة" (278) بمجموع طرقه.(1/129)
ولا فقهٌ في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق.
وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) (1) مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء.
وفي الصحيحين (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، وأتباعه له.
وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها". فهذا قارىء القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالمًا بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتباع الحق، قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ
__________
(1) سورة هود: 91.
(2) أخرجه البخاري (3493، 3496، 3588) ومسلم (2638) من حديث أبي هريرة.
(3) البخاري (5020 ومواضع أخرى) ومسلم (797) .(1/130)
الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)) (1) . فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إياه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إياه، ولمّا لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق.
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أن مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإن التصوِر التام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتصوّر التام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تامًّا.
قال بعض السلف (2) : من عرف الله أحبَّه. ولهذا قال السلف:
كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (3) . وقيل للشعبي: أيها العالم!
فقال: إنما العالم من يخشى الله (4) . وهذا مبسوط في مواضع.
__________
(1) سورة الأنفال: 22-23.
(2) روي عن عتبة الغلام (كما في "الحلية" (6/236 و10/81) ، وعن الحسن البصري (كما في "الزهد" لأحمد ص279) ، وعن بديل (في "الزهد" لابن المبارك ص209 و"الحلية" 3/108) .
(3) أخرجه أحمد في "الزهد" ص158 وابن المبارك في "الزهد" ص 15 عن ابن مسعود.
وأخرجه الدارمي (389) وأبو نعيم في الحلية (2/95) عن مسروق.
(4) انظر: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1/538) .(1/131)
ولهذا قال تعالى: (هُدًى للمتقينَ (2)) (1) ، وقال: (ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا) (2) ، وقال: (سَيَذكرُ مَن يخشَى (10)) (3) ، إلى أمثال ذلك.
ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبًا للسعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشقاء، ففي الصحيحين (4) أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم له.
وفي الصحيحين (5) أنه قال: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، فمن لم يفقّهه في الدين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السعادة إلاّ من فقّهه في الدين. والدين يتناول كلَّ ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين (6) لمّا جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كلَّه دينًا.
والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) (7) ، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه
__________
(1) سورة البقرة: 2.
(2) سورة يس: 70.
(3) سورة الأعلى: 10.
(4) سبق الحديث وتخريجه قريبًا.
(5) البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.
(6) البخاري (4777،50) ومسلم (9) عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب.
(7) سورة البقرة: 93.(1/132)
القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى.
قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله) (1) . ووَصْفُ الشعراءِ وغيرهم أن القلوب تشربُ المحبة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا.
وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا من دون الله أوثانا يحبونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإن البدن كما يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرها وكرهتْ ما ينفعها.
وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيِبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة الطيبة، وهذا يتغذى بهذه
__________
(1) سورة البقرة: 165.(1/133)
الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) (1) ، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (2) .
فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار (3) ، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ، أو في جهلٍ مركب يحسبون أنهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى: (الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) (4) . ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية (5) . ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا) الآية (6) . فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات
__________
(1) سورة المؤمنون: 51.
(2) سورة البقرة: 172.
(3) إشارة إلى الآيات 24-26 من سورة إبراهيم.
(4) سورة النور: 35.
(5) الآية 36 من السورة.
(6) الآية 39 منها.(1/134)
الفاسدة. ثم قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) (1) . وهذا مثل الجهل البسيط.
وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحبّ ونحو ذلك، وكثيرًا ما يمثلون ذلك بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدَّنّ والكأس ونحو ذلك، ومواضعها كالحان أو دَير الرهبان. والخمر توجب الغيّ، ولمّا عُرِض على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل له: "أصبتَ الفطرةَ، لو أخذتَ الخمر لغَوَتْ أمتك" (2) .
وكلما كان القوم أعظم عنتًا وضلالاً مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن شربها وإن كان قبيحًا فهو في الحاناتِ مواضعِ الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السُّكْر من شراب المحبة، كالسُّكْر الذي يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم (3) :
شَرِبنا على ذِكرِ الحبيبِ مُدَامةً سَكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلَقَ الكَرْمُ
وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن.
والتشبيهُ بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن
__________
(1) الآية 40 منها.
(2) أخرجه البخاري (3394،3437،4709،5576،5603) ومسلم (168) من حديث أبي هريرة.
(3) هو ابن الفارض، انظر ديوانه (ص140) .(1/135)
ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)) (1) . وذلك من وجهين: أحدهما: أن شرب الخمر محرَّم، فحبُّ الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحبّ لا يكون كشرب الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب المشركين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحبّ الله.
الثاني: أن شرب الخمر يُوجب السُّكر وزوال العقل، فهو والسكر بالحب واتباع الأهواء حالُ الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)) (2) . وقد قيل (3) : سُكرانِ سُكْرُ هوى وسكرُ مُدامة ومتى إفاقةُ مَن به سُكرَانِ ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل الناس عقلاً، وإنما يُوجب متابعة الرسول، كما قال: (قلْ إِن كُنتُم تُحِبونَ الله فَاَتَّبِعُوني يُحبِبكمُ الله) (4) . فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله. واتباعُ الرسول فِعلُ ما أمر به وتركُ ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل قَط، لا باطنًا ولا ظاهرًا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغيّر العقل سواء كان معه سكر كالخمر، أو لم يكن كالبَنْج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حبّ الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن الصحابة
__________
(1) سورة المائدة: 91.
(2) سورة الحجر: 72.
(3) البيت بلا نسبة في "تاج العروس" (سكر) .
(4) سورة آل عمران: 31.(1/136)
أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من يُغشَى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي..... (1) ، وهو ما يحضّ على فعل الواجب وترك المحرّم، وأما الزيادة التي أوجب لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
ومن ظنَّ أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحدٍ ونحوهما، وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط غلطًا عظيمًا، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقُتِلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إمّا تعدّيًا للحدّ، وإمّا تفريطًا في الحقّ، فماتوا بهذا السبب موتًا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف قلوبهم عما ورد عليها.
والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه، ولا ليُشْقِيهم به، بل ليهديهم وليَشْفِيَهم ويُنَوِّرهم، فهؤلاء ضلُّوا الطريق، ولهذا أنكرَ حالَهم من أدركهم من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو مبسوط في موضع آخر.
إذ المقصود هنا أنّ الرب تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ، فهو
__________
(1) كلمة غير مقروءة.(1/137)
بنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلا بما شاء) (1) ، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه.
وأيضًا فمن جعل غيرَه عالمًا قادرًا كان أولى أن يكون عالمًا قادرًا، قال تعالى: (قُلْ مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فَقُل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) إلى قوله: (قُل هَل مِن شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى فما لَكم كيَف تَحكمون (35)) (2) . فقوله: (أَفَمَن يَهْدِىَ إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتبع أَمن لا يَهِدِّى إلاّ أَن يُهدَى) فيه قراءتان مشهورتان (3) : الإدغام "يهدِّي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، وأدغمت في الدال بعد أن قُلِبتْ دالاً، وأُلقِيتْ حركتها على الهاء. فأكثر القراء يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف "يَهْدِي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي يهتدي، وحكوا "هَدَى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازمًا ومتعديًا. وهذا أصح، والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع أم من لا يهتدي
__________
(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة يونس: 31-35.
(3) انظر: "زاد المسير" (4/30) . وفي تفسير القرطبي (8/341-342) ست قراءات.(1/138)
بنفسه إلاّ أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا يهتدي إلاّ أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبعُ إلاّ الله وحده، الذي يهدي إلى الحق.
فكل هُدًى في العالَم وعلمٍ فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديًا له ومعلمًا.
وقوله: (أَمن لا يَهدِىَ إلاّ أن يُهدَى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقًا، وأنه لا يهتدي بحالٍ إلاّ أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات.
وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبودٍ فهو متبوع، يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدًا له.
ولهذا يُجْزَون يومَ القيامة بنظير أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل، كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي منادٍ ليتبعْ كلُّ قومٍ ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمر القمرَ"، وذكر إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربّهم، وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى لهم، ويخرُّون له سُجَّدًا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (1) . وفي مسلم [من] حديث جابر (2) ،
__________
(1) البخاري (7437، 7439 ومواضع أخرى) ومسلم (182،183) .
(2) موقوفًا برقم (191) . وأخرجه أحمد (3/345، 383) من حديث جابر مرفوعًا.(1/139)
وهو أيضًا معروف من حديث أبي موسى (1) ، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها.
آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده.
***
__________
(1) أخرجه أحمد (4/407،408) وعبد بن حميد وغيرهما. انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/291-292) .
(2) روي عنه موقوفًا ومرفوعًا. وقد تكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (6/401-406) وقال: "إسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب". يقصد رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا.(1/140)
فصل في سورة حم السجدة [فصلت](1/141)
فصل
سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورُسُلِه واليوم الآخر، بذلك فُتِحتْ وبذلك خُتِمتْ. كما أنّ سورة الشورى أيضًا بدأتْ بالوحي، وختمتْ بالوحي المتضمن للقرآن والإيمان.
قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قُرْءَانًا عَرَبيًّا لقوم يَعْلَمُونَ (3)) (1) في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) (2) يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، كما في قوله: (فأعلم أنه لا إله إلا الله وَاَسْتَغفر لِذَنبِك) (3) ، وكما قال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (4) .
وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي هي الإخلاص، كما فسَّر أبو بكر الصديق قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (5) قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينًا ولا شمالاً. فإن المستقيم ضدّ الزائغ، فالمستقيم إليه ضدّ الزائغ عنه، والزائغُ عنه المشرك به. وعدمُ إيتاء الزكاةِ - وهو ما تزكو به
__________
(1) سورة فصلت: 1-3.
(2) الآية: 6.
(3) سورة محمد: 19.
(4) سورة هود: 3.
(5) سورة فصلت: 30.(1/143)
النفوسُ من الذنوب فتصير زكيَّةً - ضِدُّ الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو النفوس. ففي ذلك جمعٌ بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح وإسلام الوجه لله مع الإحسان.
وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصدقةُ تُطفِىء الخطيئةَ كما يُطفِىء الماءُ النارَ" (1) . ولهذا قال سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2) ، وقال في التوبة: (إنَ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3) ، وفي الصدقة: (خُذ مِن أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بِهَا) (4) .
ثمَّ ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقصّ الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكرِ ما يكون في القيامة، فقال: (فَإِنْ أَعرَضوْا فَقُل أَنذَرتُكمُ صاعِقَة) إلى قوله: (وَيومَ يُحشَرُ) (6) ، فيشبه والله أعلم أي "وأنذرتكم يومَ يُحشَر"، وقد يقال: "واذكرْ يوم يحشر"، إلى قوله: (إِنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7) ، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، كما ذكر سوء مُنقلَبِ أولئك في الدنيا والآخرة.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وابن ماجه (3973) من حديث معاذ بن جبل. وهو حديث صحيح.
(2) سورة التوبة: 104.
(3) سورة البقرة: 222.
(4) سورة التوبة: 103.
(5) سورة فصلت: 13.
(6) الآية: 19.
(7) الآية: 30.(1/144)
ثمَّ ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمًا. ثم قرَّر البعث بالدليل.
ثمَّ عاد إلى مخاطبةِ الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: (إِنَّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا) (1) إلى قوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41)) (2) إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أَضَل مِمَّن هُوَ في شِقَاق بَعِيد (52)) (3) ، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن.
ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (4) ، فالضمير في قوله (أنه الحق) هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم بِه) ، وذلك هو القرآن، أي حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه.
ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) (5) أي أولم يكفِ بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً (166)) (6) . وشهادة الله تعالى
__________
(1) الآية: 40.
(2) الآية: 41.
(3) الآية: 52.
(4) الآية: 53.
(5) الآية السابقة.
(6) سورة النساء: 166.(1/145)
يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سورٍ منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لمّا سمعوا منه (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2)) (1) ، وكما قال فيه عاقلُهم وفيلسوفُهم ورئيسُهم الوليد بن مغيرة (2) ، وغير ذلك.
فالكفاية هنا تُشبِه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (3) . فنزولُ الكتاب يتلَى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما أخبر فيه، وبأن الرسول رسولُه، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد (53)) . فهذا ونحوه طرق يُعلَم بها شهادةُ الله.
وثَمَّ طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: (قُل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم وَمَن عِندَه عِلْمُ اَلكِتَبِ) (4) ، وقال:
__________
(1) سورة فصلت: 1-2. وخبر عتبة رواه ابن إسحاق باسناد منقطع، انظر "سيرة ابن هشام" (1/293،294) . وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14/295-297) وأبو نعيم في "الدلائل" (1/234) والبيهقي في "الدلائل" (2/202-203) موصولاً من حديث جابر. وهو حديث حسن.
(2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/506-507) والبيهقي في "الدلائل" (2/198-199) من حديث ابن عباس. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال البيهقي بعد إيراده من عدة طرق: "كلّ ذلك يؤكد بعضه بعضًا".
(3) سورة العنكبوت: 50-51.
(4) سورة الرعد: 43.(1/146)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ) (1) ، وقال: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (2) ، وقال: (أَم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) .
فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله شهيدًا، فنفسُ إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كافٍ، وهو الطريق السمعية. وقد قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (4) . فهذه الطريق البصرية التي قد تُسمَّى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلُهم على مثل ما دلَّ عليه القرآن، فيروا حالَ المؤمنين بمحمدٍ وحالَ الكافرين به كما أُخْبِروا به عن المتقدمين، ويروا أيضًا حالَهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضًا الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب.
فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله بما أتى به، وسيُريهم آياتٍ يعاينونها تُبيِّن أنه منزل من عند الله. والثاني: الكلام فيما أخبر به القرآن أيضًا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، واللهُ شهيد بالأمرين، وقد أرى آياتِه على الأمرين.
__________
(1) سورة الأحقاف: 10.
(2) سورة الشعراء: 197.
(3) سورة البقرة: 140.
(4) سورة فصلت: 53.(1/147)
مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ:
"أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ "(1/149)
مسألة في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ " (1) ، وفي قوله: وما حق العبادِ على الله"، فهل حَقُّهم واجبٌ عليه كما حقُّه واجبٌ عليهم على ظاهرِ اللفظ أم مجازٌ؟.
أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابنُ تيمية أيَّده الله:
الحمد لله ربّ العالمين. هذه المسألة ونحوُها للناس فيها ثلاثة أقوال، طَرَفانِ ووَسَط (2) :
طائفة تقول: إنّ الله يجب عليه أشياء، ويَحْرُمُ عليه أشياء، بالقياس على المخلوقين، وإنّ العباد بقياسِ عقولهم يُوجِبون عليه ويُحرِّمون عليه، كما يَجبُ على العبادِ ويَحْرُمُ عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يَفعَلَ في حقِّ كلِّ عبدٍ ما هو الأصلح له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يَقدِر على أن يفعلَ غيرَ ما فَعَلَ، وإن العبادَ يَقدِرون على مالا يَقدِرُ عليه اللهُ، وإنَّه لا يَقدِرُ أن يَهدِيَ ضالاًّ ولا يُضِلّ مُهتديًا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرِهم.
والقول الثاني: قول من يقول: إنّ الله سبحانَه وتعالَى لا يُوجبُ هو على نفسِه شيئًا، ولا يُحَرِّمُ على نفسِه شيئًا، ولا يُنَزَّه عن فعلٍ من الأفعال، ويجوز أن يقع منه كل ما هو مقدور، فلا يَقدِرُ أن يَظْلِمَ أحدًا، بل الظلمُ ممتنع لذاته، وإنّه ليس في أسمائه الحسنى وصفاتِه
__________
(1) أخرجه البخاري (7373 ومواضع أخرى) ومسلم (30) .
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (18/147 وما بعدها) .(1/151)
العُلاَ ما يَدُلُّ على تنزُّهِه عن أفعالٍ مذمومة، ولا عن اتخاذِه ولدًا، ولا عن أمرِه بأن يُشْرَكَ به. وخالفوا قولَه: (قَالُوا أتَّخَذَ الله وَلَدًا سبحانه) (1) ، وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا يُنَزَّهُ قَطُّ عن فعل من الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإنْ كان أمرًا بالشركِ والكذِب والظلم، وإن كان نهيًا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ماَ يفعلُه وما لا يفعلُه إلاّ بما جَرتْ به العادةُ، مع أنّ العاداتِ يمكنُ خَرْقُها، أو أخبار الأنبياء، مع أنّ خبرهم عند طائفةٍ منهم لا يُفيد اليقينَ، وخبرهم بالوعدِ والوعيد عند أكثرهم لا يُعلَمُ منه شيء. ويقولون: إنه يَخلُق ما يَخلُق لا لسببٍ ولا لحكمةٍ. وهذا قول الجهمية الجبرية ومَن اتبعهم من المتأخرين.
والطائفتان تقولانِ: إن القادرَ يُرجح أحدَ المتماثلَينِ لا لمرجِّحٍ، لكن هؤلاء يجعلون فعلَه كلَّه كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من القولين طوائفُ من أعيانِ الناس، وإن كان القولانِ ضعيفينِ (2) .
والقول الثالث ما دلَّ عليه الكتابُ والسنَّة، وكان عليه سلفُ الأمّة وأئمَّتُها، كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانَه عليم حكيم رحيم، وإنّه كتبَ على نفسِه الرحمةَ كما أخبرَ في كتابه (3) ، وحَرَّم على نفسه الظلم، كما ثبتَ في الحديث الصحيح الإلهي عن أبي ذرّ الغِفَاري (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يُخبِر به عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: "يا عبادي، إني
__________
(1) سورة يونس: 68.
(2) في الأصل: "ضعيفان".
(3) سورة الأنعام: 12.
(4) أخرجه مسلم (2577) .(1/152)
حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا". وإنّه أوجبَ على نفسه نَصْرَ المؤمنين، كما قال تعالى: (وكان حقًا علينا نَصرُ اَلْمُؤمِنينَ (47)) (1) . فليس للمخلوق بنفسه على اللهِ حقٌّ، ولا يُقاسُ الخالقُ بالمخلوق فيما يفعلُه، كما لا يقاسُ بالمخلوقِ في صفاتِه وذاتِه، بل ليس كمثلِه شيء، لا في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه، ولكن هو كتبَ على نفسِه الرحمةَ، [وحرَّم على نفسه] الظلمَ كما تقدَّم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبرَ بما أخبَر به من ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين، وأنه صادقٌ لا يُخلِفُ الميعاد، فاتفقوا على ثبوتِ الخبر، وإنما النزاعُ في كتابتِه على نفسِه وتحريمِه على نفسه، لكن النصوصَ دَلَّتْ على ذلك.
وكذلك حَلفُه "لَيفعلَنَّ" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تَبِعَكَ منهم أجمعين (85)) (2) ، وقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من اَلجِنَّةِ والناس أجمعين (13)) (3) . ومثلُ هذا القسم ليسَ خبرًا محضًا، بل فيه معنى الإرادة والعهد، كما في الوعد.
ومن قال بالقولِ الثاني يتأوَّلُ كتابتَه على نفسِه الرحمةَ وتحريمَه على نفسِه الظلمَ، بأن المرادَ إخبارُه بوقوع ذلك وعَدَمِ وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما يَمتنع أن يكون مقدوَرًا، وما يمتنع أنَ يكون مقدورًا لا يَحْرُم، وقد علمَ الناسُ أنه لا يكون، فلا فائدةَ بالإخبارِ أنه لا يكون.
__________
(1) سورة الروم: 47.
(2) سورة ص: 85.
(3) سورة السجدة: 13.(1/153)
وأيضَا فإنه ذكر ذلك مقدّمةً لنهيِه عبادَه عن الظلمِ بقوله: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالموا".
فلو أرادَ به مالا يكون مقدورًا كان المناسبُ لهذا أن يحرم على عبادِه مالا يقدرون عليه.
وهذا يناسبُ قولَ من قال: الاستطاعةُ لا تكون إلاّ مع الفعل، فيكون قد حرَّمَ عليهم ما يفعلونه من ظلمِ بعضهم بعضًا، ولا حَرَّم عليهم الشركَ الذي هو ظلمٌ عظيم، ولا حرَّمَ عليهم ظلمَ أنفسِهم.
وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرَّمَه على نفسِه مالا يكونُ مقدورًا، وبالظلم الذي حَرَّمَه على عبادِه ما يَقدِرون عليه، لم يكن ذكر هذا مناسبًا لذكرِ هذا، وهو قد قال: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يُقْدَر عليه، لقيل: لا معنى لتحريمه هذا على نفسِه.
والمناسب إذا لم يُحرِّم إلاّ ما يكون مقدورًا لهم، وإلاّ فالمعنى على قولِ هؤلاء: حرَّمتُ على نفسيْ إذْ أَجعلُ الشيءَ موجودًا معدومًا، وأَجعلُ الجسمَ متحركًا ساكنًا، وأجعلُ المحدَثَ قديمًا والقديمَ مُحدَثًا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست شيئًا باتفاق العقلاء، ولا يَتصوَّرُ العقلُ وجودَها في الخارج، وحَرَّم عليهم ما يَقدِرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليُقِيمَ الحجةَ على خلقِه بقوله: يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسِي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرَّمًا عليكم، لأنه سبحانَه على كلِّ شيء قدير، ورب كلِّ شيء وخالقُه، ولا يتصرَّفُ إلاّ في مُلكِه، لا في ذلك غيرُه، وليس فوقَه آمر يأمره، فإذا كان مع كمالِ قدرته وعِزَّتِه ووحدانيّتِه قد حرَّمَ الظلمَ على نفسِه، فكيف بالمخلوقِ الذي فوقَه آمر يأمرُه، ومُجَاز يُجازيه، وقد يَتعدّى(1/154)
فيتصرفُ فيما لا يملكه.
وأما كونُه يقول: حرَّمتُ على نفسي ماليسَ مقدورًا لي، كالجمع بين الضدَّين ونحو هذا، ولا يَقدِرُ أحدٌ على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، لا مُعقَّب لحكمِه، ولا رادَّ لأمرِه - فهذا مما يُعلَم يقينًا أن الرسولَ لم يَقصِدْ هذا، بل تحريم ماهو مقدور، كما قصدَ تحريمَ الظلم الذي يقدرون عليه.
وهو سبحانَه لا يَظلِمُ مثقالَ ذَرةٍ، (ولا يظلم ربك أحداً (49)) (1) ، ويقول لعبده إذا حاسَبَه يوم القيامة: لا ظلمَ عليك، فلا يَنْقُصُ أحدًا من حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه سيئاتِ غيرِه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)) (2) . قال غير واحدٍ من السلف: الظلم أن يَحمِل عليه سيئاتِ غيرِه، والهَضْمُ أن يَهْضِمَ من حسناتِه (3) . فهذا مما حرَّمَه على نفسِه وهو قادرٌ عليه، لكنه منزهٌ قُدُّوسٌ سَلامٌ، لا يجوز أن يَظلِمَ أحدًا، ولا يجوز أن يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، بل هو حكيم عليمٌ رحيمٌ، لا يَفعلُ إلاّ بموجب رحمتِه وحكمتِه وعدلِه. وهو سبحانَه خالقُ كلَّ شيء وربُّه ومليكُه، ما شاءَ كانَ، ومالم يَشَأ لم يكن.
فكل واحد من قولِ القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطلٌ، والصواب فيما جاء به الكتابُ والسنة، وما كان عليه سلفُ الأمة وأئمتها.
__________
(1) سورة الكهف: 49.
(2) سورة طه: 112.
(3) انظر: "زاد المسير" (5/324) والقرطبي (11/249) .(1/155)
وهذه المسألة فرعٌ على هذا الأصل، والكلامُ على هذا مبسوط في مواضعَ غيرِ هذا، وهذا مقدارُ ما احتملتْهُ الورقةُ من الجواب.
فعلى هذا فقوله: "أتَدريْ ما حقُ اللهِ على عبادِه؟ " قال: اللهُ ورسوله أعلم. قال: "حقُّه عليهم أن يَعبُدوه، لا يُشرِكوا به شيئًا"، هو حق استحقهُ بنفسِه على عبادِه. وقوله: "أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك؟ أَنْ لا يُعذبَهم"، هو حق أَحَقه على نفسِه لعبادِه، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المُؤمنِينَ) (1) ، فهو أَحَقه بنفسِه على نفسِه، لا لأنَ العبادَ بأنفسِهم يستحقون عليه شيئًا، ولا يُقاس على خَلقِه فيما يستحقُّه المخلوقُ على المخلوق، فإنه خلقَ عبادَه، ولم يكونوا قبلَ وجودِهم شيئًا، بل عدمًا محضًا لا يستحقون شيئًا، ثمَّ لما خلقَهم فكل ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون مُوجَبًا على الربِّ عزَ وجل محرمًا عليه، وهذا هذا. والله أعلم.
(هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى) .
***
__________
(1) سورة الروم: 47.(1/156)
فصل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
سيد الاستغفار أن يقول العبد
"اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت ... "(1/157)
فصل
في قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنتَ" (1) .
قد اشتمل هذا الحديثُ من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد الاستغفار، فإنه صدَّرَه باعترافِ العبدِ بربوبية الله، ثم ثنَّاها بتوحيد الإلهية بقوله: "لا إله إلا أنت". ثمَّ ذكر اعترافَه بأن الله هو الذي خلقَه وأوجدَه ولم يكن شيئًا، فهو حقيقٌ بان يتولَّى تمامَ الإحسان إليه بمغفرةِ ذنوبه، كما ابتدأ الإحسانَ إليه بخلقه.
ثمَّ قال: "وأنا عبدك"، اعترفَ له بالعبودية، فإنّ الله تعالى خلقَ ابنَ آدم لنفسه ولعبادتِه، كما جاء في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابنَ آدم! خلَقت لنفسي، وخلقتُ كل شيء لأجلِك، فبحقي عليك لا تشتغلْ بما خَلقتُه لك عما خلقتك له".
وفي أثرٍ آخر: "ابنَ آدمَ! خلقتك لعبادتي فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ لك برزقِك فلا تَتْعَبْ. ابنَ آدم! اطلُبني تجدْني، فإن وَجدتَني وَجدتَ كل شيء، وإن فُتكَّ فَاتَكَ كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء".
فالعبد إذا خَرَج عما خلقه الله له من طاعتِه ومعرفتِه ومحبتِه والإنابةِ إليه والتوكُلِ عليه، فقد أبقَ من سيِّدِه، فإذا تاب إليه ورَجَع إليه فقد راجعَ ما يُحِبه الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخبِر عن الله (2) : "للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه مِن واجد راحلته
__________
(1) أخرجه البخاري (6306) عن شداد بن أوس.
(2) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود.(1/159)
عليها طعامُه وشرابُه بعد يأسِه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانَه هو الذي وفَّقه لها، وهو الذي ردَّها إليه". وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، وحقيقٌ بمن هذا شانُه أن لا يكون شي لا أحبَّ إلى العبدِ منه.
ثمَّ قال: "وأنا على عهدِك ووَعْدِك ما استطعتُ"، فالله سبحانه وتعالى عَهِد إلى عبادِه عهدًا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبَهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقِه بوعدِه. أني أنا مقيم على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك.
وهذا المعنى قد ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كقوله: "من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" (1) . والفعل إيمانًا هو العهد الذي عَهِدَه إلى عبادِه، والاحتساب هو رجاؤه ثوابَ الله له على ذلك، وهذا لا يَليقُ إلاّ مع التصديق بوعده. وقوله "إيمانًا واحتسابًا" منصوبٌ على المفعول له، إنما يَحمِلُه على ذلك إيمانُه بأن الله شرعَ ذلك وأوجبَه ورَضِيَه وأمر به، واحتسابُه ثوابَه عند الله، أي يفعله خالصًا يرجو ثوابَه.
وقوله: "ما استطعتُ" أي إنما أقومُ بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثباتِ قوة العبد واستطاعتِه، وأنه غيرُ مجبورٍ على ذلك، بل له استطاعةٌ هي مناطُ الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبِّرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرةَ له ولا استطاعة، ولا فعلَ له البتَّهّ، وإنما يعاقبه الله على فعلِه هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.
__________
(1) أخرجه البخاري (38 ومواضع أخرى) ومسلم (760) عن أبي هريرة.(1/160)
ثمَّ قال: "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت"، فاستعاذتُه بالله الالتجاءُ إليه والتحصُّن به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يَتحصَّن الهاربُ من العدوّ بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعلِ العبدِ وكسْبه، وأنّ الشرَّ مضافٌ إلى فعلِه هو، لا إلى ربِّه، فقال: "أعوذ بكَ من شرِّ ما صنعت". فالشرُّ إنما هو من العبد، وأما الربُّ فله الأسماء الحسنى، وكلُّ أوصافِه صفاتُ كمال، وكلُّ أفعالِه حكمة ومصلحة. ويؤيّد هذا قولُه عليه السلام: "والشرُّ ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم (1) في دعاء الاستفتاح.
ثمَّ قال: "أبوء بنعمتك عليَّ" أي أعترفُ بأمر كذا، أي أُقِرُّ به، أي فأنا معترفٌ لك بإنعامك عليَّ، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسانُ ومني الإساءةُ. فأنا أحمدك على نعمك، وأنتَ أهلٌ لأن تُحمَد، وأستغفرك لذنوبي.
ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسُه كلُّها نفسَيْن: نفسًا يَحمد فيه ربَّه، ونفسًا يستغفره من ذَنْبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشابّ الذي كان يجلس في المسجدَ وحدَه ولا يجلس إليه، فمرّ به يومًا فقال: ما بالك لا تجالسنا؟ فقال: إني أُصبِح بين نعمةٍ من الله تستوجب عليَّ حمدًا؛ وبين ذنب مني يستوجب استغفارًا، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستِكً. فقال: أنتَ أفقهُ عندي من الحسن.
ومتى شَهِدَ العبدُ هذين الأمرين استقامتْ له العبودية، وتَرقَّى في درجاتِ المعرفةِ والإيمان، وتصاغرتْ إليه نفسُه، وتواضَعَ لربِّه. وهذا
__________
(1) برقم (771) .(1/161)
هو كمالُ العبودية، وبه يَبرأُ من العُجْب والكِبْر وزينةِ العمل. والله الموفق الهادي، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، ورضي الله عن أصحاب رسولِ الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(من كتابة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إسحاق التميمي الداري نسبًا الحنفي مذهبًا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين آمين آمين) .
***(1/162)
قاعدة في الصبر(1/163)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخُ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه.
فصل
جعل اللهُ سبحانَه وتعالى عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمةٍ من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عَن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال (1) : "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلاّ كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له".
فهذا الحديث يَعمُ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها وشكرَ لمحبوبها، بل هذا داخلٌ في مسمى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر.
كقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)) (2) . وإذا اعتبر العبدُ الدينَ كلَّه رآه يَرجِعُ بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك
__________
(1) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب.
(2) سورة إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33.(1/165)
لأن الصبر ثلاثة أقسام (1) :
صبر على الطاعة حتى يفعلَها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلاّ بعد صبرٍ ومصابرةٍ، ومجاهدةٍ لعدوّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات وفِعلُه للمستحبات.
النوع الثاني: صبرٌ عن المنهي حتى لا يفعلَه، فإنّ النفسَ ودواعيها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَزِّئُه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون تركُه لها. قال بعض السلف (2) : أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلاّ صدِّيق.
النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان:
نوع لا اختيارَ للخلقِ [فيه] ، كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يسهل الصبر فيها، لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفكرةِ في فوائدِها، وما في حَشوِها من النِّعَم والألطاف، انتقلَ من الصبر عليها إلى الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقه نعمةً، فلا يزالُ هِجيْرَا قلبه ولسانِه فيها: "رب أَعِني على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك" (3) . وَهذا يقوى ويضعف بحسب قوةِ محبة العبد لله وضعفِها، بل هذا يجد أحدنا في الشاهد،
__________
(1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (15/574-577، 14/304-356) .
(2) هو سهل التستري، كما روى عنه أبو نعيم في "الحلية" (10/211) .
(3) من الأدعية المأثورة، أخرجه أحمد (5/244،247) وأبو داود (1522) والنسائي (3/53) عن معاذ بن جبل.(1/166)
كما قال بعض الشعراء (1) يخاطب محبوبًا له نالَه ببعض ما يكره:
لئِنْ سَاءَني أن نِلتَني بمَسَاءةٍ لقد سَرَّني أنّي خَطَرتُ ببالِكا
النوع الرابع (2) : ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا، لأنّ النفس تستشعِرُ المُؤذيَ لها، وهي تكره الغلبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدّيقون.
وكان نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أُوذِي يقول: "يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر" (3) . وأَخبَر عن نبي من الأنبياء أنه ضربَه قومُه، فجعلَ يقول: "اللهم اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون" (4) . وقد رُوي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جرى له مِثلُ هذا مع قومه، فجعل يقول مِثلَ ذلك (5) .
فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهذا النوع من الصبر عاقبتُه النصرُ والهُدى والسُّرور والأمنُ، والقوة في ذاتِ الله، وزيادة محبةِ الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم.
__________
(1) هو ابن الدمينة، والبيت من قصيدة مشهورة له بعضها في حماسة أبي تمام (2/62-63) ، وتمامها في ديوانه (ص13-18) ، وهناك التخريج. وقد وجدت القصيدة في 21 بيتًا في "الفصوص" لصاعد (1/67-70) . وفي جميع المصادر قافيتها كاف مكسورة.
(2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون "الثاني" من نَوعَي المصائب.
(3) أخرجه البخاري (3150،3405 ومواضع أخرى) ومسلم (1062) عن ابن مسعود.
(4) أخرجه البخاري (3477،6929) ومسلم (1792) عن ابن مسعود.
(5) أخرجه الطبراني عن سهل بن سعد، كما في "مجمع الزوائد" (6/117) . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.(1/167)
ولهذا قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (1) . فالصبر واليقين يُنال [بهما] الإمامة في الدين (2) ، فإذا انضاف إلى هذا الصَّبرِ قوةُ اليقين والإيمان تَرَقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) (3) . ولهذا قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (4) .
ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ:
أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.
الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) (5) . فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه [بسببها] ، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم. وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا
__________
(1) سورة السجدة: 24.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (10/39) .
(3) سورة الحديد: 21، الجمعة: 4.
(4) سورة فصلت: 34.
(5) سورة الشورى: 30.(1/168)
آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه (1) . ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة.
الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) (2) . ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: "إلاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله" (3) ، فلا يَقُمْ (4) إلاّ من عفا وأصلح. وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ علمِه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى:
__________
(1) انظر شرح هذه الكلمة عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (8/161-180) .
(2) سورة الشورى: 40.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس وأنس. انظر "الدر المنثور" (7/359) .
(4) كذا في الأصل مجزومًا، والأولى أن يكون مرفوعًا.(1/169)
والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)) (1) ، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا (2) يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا" (3) . فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا.
السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له. فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ.
السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.
__________
(1) سورة آل عمران: 134، المائدة: 13.
(2) كذا في الأصل.
(3) أخرجه مسلم (2588) عن أبي هريرة.(1/170)
الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسِه، وانتصارَه لها، فإن رسول الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها.
التاسع: إن أُوذِيَ على ما فعلَه لله، أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه، وجبَ عليه الصبرُ، ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله. ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه، ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ (1) فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجر.
وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بُدِّل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.
__________
(1) في الأصل: "حض" تحريف.(1/171)
العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات مالا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)) (1) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) (2) .
الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان، فلا يبدّل من إيمانه جَزاءً في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه، وصانَه من النقص، والله يدفع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر: أن يشهد أنّ صبرَه حكمٌ منه على نفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورةً معَه مغلوبةً، لم تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ من ربِّه. فلو لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه، فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ، وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدوَّ عنه.
الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه ولابُدَّ، فاللهُ وكيلُ من صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومن انتصَر لنفسِه وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها. فأينَ مَن ناصرُه اللهُ خيرُ الناصرين إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟
الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ بعد إيذائِه (3) له
__________
(1) سورة الأنفال: 46.
(2) سورة آل عمران: 146.
(3) في الأصل: "أذائه".(1/172)
مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له. وهذا معنى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (1) .
الخامس عشر: ربّما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، كما هو المشاهَد. فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ الضررين بدَفْعِ أدناهما. وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ من شرٍّ عَجَزَ صاحبُه عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ عليه.
السادس عشر: أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لابُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ.
السابع عشر: أنّ هذه المَظْلَمةَ التي ظُلِمَها هي سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه.
الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه من أكبر الجُنْدِ له على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذُل عدوِّه وخوفِه وخَشيتِه منه ومن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو، فإذا انتقمَ زالَ ذلك كلُّه. ولهذا تَجِدُ كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيرَه أو
__________
(1) سورة فصلت: 34-35.(1/173)
آذاه يُحِبُّ أن يَستوفيَ منه، فإذا قابله استراحَ وألقَى عنه ثِقلاً كان يجده.
التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو.
العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً، فتُوَلِّدُ له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا تزال حسناتُه في مزيد، فإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنة، كما أنّ من عقاب السيئةِ السيئة بعدها. وربَّما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم وانتصرَ زال ذلك.
والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله (1) .
***
__________
(1) هنا انتهى الأصل.(1/174)
فتوى في العشق (*)
__________
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
- قال ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة 131 تعليقا على هذه الفتيا وردا على من أحل النظر المحرم: " وأما من حاكمتمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فنحن راضون بحكمه فأين أباح لكم النظر المحرم وعشق المردان والنساء الأجانب وهل هذه إلا كذب ظاهر عليه وهذه تصانيفه وفتاواه كلها ناطقة بخلاف ما حكيتموه عنه وأما الفتيا التي حكيتموها فكذب عليه لا تناسب كلامه بوجه ولولا الإطالة لذكرناها جميعها حتى يعلم الواقف عليها أنها لا تصدر عمن دونه فضلا عنه وقلت لمن أوقفني عليها هذه كذب عليه لا يشبه كلامه وكان بعض الأمراء قد أوقفني عليها قديما وهي بخط رجل متهم بالكذب وقال لي ما كنت أظن الشيخ برقة هذه الحاشية، ثم تأملتها فإذا هي كذب عليه ولولا الإطالة لذكرنا من فتاويه ما يبين أن هذه كذب "
- وقد ذكر المحقق الشيخ (علي العمران) رأيه في هذه المسألة فقال (في مشاركة له بملتقى أهل الحديث) :
أقدم الجواب عن سؤال تكرر كثيرا في هذا المنتدى وفي غيره من المنتديات ألا وهو ما يتعلق بـ ((رسالة العشق)) المطبوعة في (جامع المسائل: 1/177-186) ، ومدى صحة نسبتها لشيخ الإسلام ابن تيمية، فأقول:
* مهما كان الباحث واسع الإطلاع قوي المعرفة بما يكتب - كالشيخ محمد عزير شمس - فإنه قد يفوته كثير مما يدركه غيره، وهذا من طبيعة البشر، فكان ماذا لو فاته الاطلاع على كلام ابن القيم في نفي هذه الرسالة وأنها مكذوبة على الشيخ؟!
* وعذره في إثبات هذه الرسالة أمور:
1- كثرة كتب ابن تيمية ورسائله وفتاويه، فعدم ذكرها ضمن كتبه ومؤلفاته، ليس دليلا على نفيها.
2- أن ابن القيم قد نقل بعض التقسيمات الموجودة فيها في كتابه ((الجواب الكافي)) كما أشار إليه عزير شمس في الهوامش.
3- أن النسخة الخطية قد نسبت هذه الفتوى لابن تيمية.
4- أن الرأى الذي استغربه الكثيرون وهو: جواز تقبيل من خاف على نفسه الهلاك، ليس رأيا خارجا عن الإجماع، بل قد اختاره بعض العلماء ومنهم أبو محمد بن حزم - كما ذكر ابن القيم-.
أقول فهذه الأمور مجتمعة - إذا تجردت عن قرينة نفي ابن القيم للرسالة وتكذيبه لها الذي لم يطلع عليه عزير شمس - تسوغ هذه النسبة، وإن لم نجزم بها جزما لايقبل الشك.
* هذا العذر - في تقديري على الأقل - مسوغ لهذه النسبة، فكيف لو اجتمع إليه دليل خامس، وهو: أن الأمير علاء الدين مغلطاي وهو من تلاميذ ابن تيمية وأنصاره - قد أثبت هذه الرسالة للشيخ ونقل منها في كتابه ((الواضح المبين فيمن مات من المحبين)) .
* بعد هذا كله فالرسالة - عندي - لا تثبت لشيخ الإسلام ابن تيمية، فليس فيها نفَسه ولا أسلوبه المعهود في الكتابة، وما ذكره ابن القيم من أدلة في نفيها كاف. وقد ذكر في "روضة المحبين" (ص/131) أن أحد الأمراء - ويعني به مغلطاي - قد أوقفه على هذه الفتوى، ثم نقدها.
* واستدراكا لهذا الأمر؛ فإنه سينبه في آخر (المجموعة الخامسة) - إن شاء الله- على ما استجد من معلومات وفوائد وتصحيحات فيما يتعلق بهذه السلسة (1-8) تحت عنوان: ((استدراكات)) وسيكون التنبيه على هذه الرسالة منها0 هذا أولا 0
وثانيا: أنه في الطبعة الجديدة لـ (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) - وهي قريبة إن شاء الله تعالى - ستحذف هذه الرسالة منها.
هذه خلاصة رأيي في هذه المسألة، والحمد لله حق حمده.(1/175)
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال رُفِع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وصورته:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشقٍ في صورة، وتلك الصورة مُصِرَّة على هجره منذ زمانٍ طويل لا يزيده إلاّ بُعدًا، ولا يزداد لها إلاّ حُبًّا، وعشقُه لهذه الصورة من غير فسقٍ ولا خنا، وليس هو ممن يُدنِّس عشقَه بِزِنا، وقد أَفْضَى الحالُ إلى هلاكِه لا مَحَالةَ إن بَقِيَ مع محبوبه على هذه الحالة. فهل يَحِل لمن هذه حالُه أن يهجر؟ وهل يَجبُ وصالُه على المحبوب المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره منَ المحبّ؟ وماذا يجب من تفاصيلِ أمرِهما وما لكل واحدٍ منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرعَ والعقل؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله.
الجواب
الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر يتعلق بالمعشوق، ولكل واحدٍ منهما تفاصيل تُذكَر عند ذكره. ولابُدَّ من تقديم مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي:
لاشكَّ أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلاَّ [على] وجوب تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسدِ وتقليلها، فكلَّما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمرٍ ما يُوجِبُ له مصلحةً من وجهٍ ومفسدةً من(1/177)
وجهٍ وجبَ عليه عند ذلك الترجيحُ، فيأخذ لنفسه بالأسَدِّ والأكمل والأرشد والأصلح.
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة شرعية دينية، لما يُؤدِّي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري. كما سُئِل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوبٌ غَفلَتْ عن ذكر الحق، فشُغِلَتْ بذكر الخلق. فهذا مما يدل على بُعْدِ عُشّاق الصور عن الربّ العظيم باشتغالهم بالخسيس الذميم.
لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفةٌ من الحكماء أن فيه فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أنّ صاحبه كُلَّما قَرُبَ منه بَعُدَ عن الله عزَّ وجل. إن فيه فوائد (1) ، من جملتها رقّة الطبع وإزالةُ خبثه وترويح النفس وخفّتها ورياضةُ الجسد، كما رُوِيَ عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل له: إنّ ابنَك عَشِقَ فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيَّره إلى طبع الآدمي.
وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام.
وقال بعضهم: العشق لا يَصْلُح إلاّ لِذي مُروءةٍ ظاهرة، أو لِذي لسانٍ فاضلٍ وإحسانٍ كاملٍ، أو لذي أدبٍ بارع وحسبٍ خاشع (2) ، ويَقْبُح لسواهم.
وقال بعضهم: العشقُ يُشَجِّع جَنَانَ الجبان، ويُصَفِّي ذِهْنَ الغبي، ويُسَخِّي كفَّ البخيل، ويُخْضِعُ عِزَّةَ الملوك، ويُسَكِّنُ نَوافِرَ الأخلاق.
__________
(1) ذكر ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص194-195) ما هنا من الأقوال.
(2) في "الجواب الكافي": "ناصع".(1/178)
وهو أَنِيْسُ المُؤنس وجليس المجالس (1) ، وملك قاهر وسلطان.
وقال بعض العرب (2) :
إذا أنتَ لم تَعْشَقْ ولم تَدْرِ ما الهوَى ... فأنتَ وعَيْرٌ في الفَلاَةِ سَواءُ
وحُكِيَ أنَّ جالينوسَ قال: من لم تبتهج نفسُه للصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج.
وقال بعض الحكماء: العشقُ يُرَوِّض النفسَ ويُهذب الأخلاقَ، وإظهارُه طَبَعي، وإضمارُه تكليفي، حاجبُه الصبرُ وخادمُه الجوارحُ.
فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية، وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من تهذيب النفس ورياضتها، ولو تَعلَّقَ هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألْهَاهُم ذلك عن محبة الأشخاص الفانية، وحَصَلَ لهم مقصودُهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب الأخلاق المذكورة، وصار كلُّ موجودٍ يُحدِثُ لهم الفِكرُ فيه وجدًا لِمُوْجدِه، وكلُّ مخلوقٍ يَتبيَّنُ لهم منه محبةٌ لخالقِه، فتخاطبهم الموجودات وَالمخلوقات بألسنةِ الأحوال، وتُوضح لهم أنه لا يَستحقُ المحبةَ على الكمال غيرُ ذِي الإكرام والجلال.
هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها. أما ما يتعلق بالعاشق فقد ذكرنا أنه لابدّ من تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسد وتقليلها، فمن دَخَلَ على أمرٍ ما فواجبٌ عليه أن ينظر في ذلك الأمر، فإن كانت مصلحتُه راجحة على مفسدتِه أَخَذَ بالأرجحِ.
__________
(1) في الأصل: "المجرس". وفي الجواب الكافي: "أنيس من لا أنيس له، وجليس من لا جليس له"، وهو أوضح.
(2) البيت في "روضة المحبين" (ص176) و"تزيين الأسواق" (1/43) .(1/179)
وقد دَلَّ الدليلُ كما ذكرنا على أنه ليس في العشق الصوري مصلحة دينية كما ذكرنا، وإنما فيه مصلحة رياضية نفسية، والمصالح الدينية مقدمة، مع ما يقرن بذلك مع أدائه إلى فساد الذهن وتشويش الحواس، وهو ملحق بشرب الخمر المحرم، وليس لصاحبه عذر يعتذر به ولا حجة يُقِيمها.
مثال ذلك أن من شرب الخمر فسَكِرَ، فحَصَلَ منه جناية في حق أحدٍ أو عَرْبَدَة على غيرِه، فأَتْلَفَ شيئًا، أخِذَ به، لأن الذي أزالَ عقلَه سبب محرم أدخلَه على نفسِه راضيًا غيرَ مُكرَهٍ، مع علمه قبل أن يشربه أنه يؤدي به الحال إلى هذا، فإذا اعتذر وقال: لم أَعِ ما قلتُ، ولا كان عقلٌ أميزُ به، قلنا له: أنتَ فرَّطتَ حين شربتَ.
ولهذا جَنَحَ بعضُ العلماء إلى مؤاخذة السكرانِ بما يصدرُ منه من طلاقٍ وعتاقٍ وجنايةٍ، بخلافِ من يَزول عقله بخلطٍ سوداوي أو روحاني، فإن ذلك ليس هو من فعلِه، ولا تسبب فيه برضاه، كما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال (1) : "رُفِع القلمُ عن ثلاث"، فذكر المجنون حتى يُفيقَ.
فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يُحْكِمَ على نفسِه عشقَ الصور، ليؤدي به الحال إلى الهلاك، فمن فعلَ ذلك فهو المفرط بنفسه والمقرر لها، فإذا هلكتْ فهو الذي أهلكها، وإذا قُتِلَتْ فهو الذي قتلَها، فإنه لولا تكرارُ نظرِه إلى وجه معشوقِه لم يَثبُتْ محبتُه في قلبه، حتى أدَّاه إلى ما أدَّاه.
__________
(1) أخرجه أحمد (6/100،101،144) والدارمي (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وفي الباب عن علي.(1/180)
وذلك لأن أول مرتبة المحبة (1) تُسمَّى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر والسماع، ثم تَقْوَى هذه المرتبة بطولِ الفكرة في محاسنِ المحبوب وصفاتِه الجميلة، فتصير مودَّةً، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثمَّ تتأكَّد المودَّةُ فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خُلَّة، وهذا أصحُّ الأقوال. والخلّة بين الآدميين هي تمكُّنُ محبةِ أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط بينهما السرائر، ثمَّ تقوى الخُلَّة فتصير هَوى، والهوى أن المحبَّ لا يُخالِطه في محبوبه تَغيُّرٌ، ولا يُداخِلُه تَلوُّنٌ. ثمَّ يزيد الهوى فيصير عِشْقًا.
والعشق الإفراط في المحبة حتى لا يخلو العاشقُ من تخيُّلِ المعشوق وفكرِه وذكرِه، ولا يَغيبُ عن خاطرِه وذهنِه، فعند ذلك يَشغلُ النفسَ عن استخدام القوة الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشقُ صار تتيُّمًا، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار وَلَهًا، والوَلَهُ هو الخروج عن الحدود والضوابط حتى تختلَّ أفعالُه وتتغيَّرَ صفاتُه، ويصيرَ مُوَسْوسًا لا يَدري ما يقول ولا أين يذهب، فحينئذٍ يَعْجز الأطباءُ عن مداواتِه، وتَقْصُرُ آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحدود والضوابط.
قال بعضهم (2) :
الحبُّ أول ما يكون لَجَاجةٌ يأتي به ويسوقُه الأقدارُ
__________
(1) انظر مراتب الحب في "روضة المحبين" (ص 16 فما بعدها) و"الجواب الكافي" (ص 162 فما بعدها) .
(2) البيتان في "اعتلال القلوب" (2/375) و"مصارع العشاق" (1/53) و"ذم الهوى" (ص334) و"روضة المحبين" (ص183) و"الجواب الكافي" (ص191) .(1/181)
حتى إذا خاضَ الفتَى لُجَجَ الهوى جاءتْ أمور لا تُطَاقُ كبارُ
فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصلَ إلى الحد الذي يُؤذيه، لم يُصِبْه أذًى، فهو الجاني على نفسِه، وأشبه به قول القائل: "يَدَاكَ أُوكِتَا وفُوكَ نَفَخَ" (1) . فتصور بهذا أنه مُخطىء بما صدرَ منه أو لا، وإن كان ينبغي أن يحتاطَ لنفسه ولا يُورّطَها فيما فيه هلاكُها.
فعلى هذا فالعاشقُ له ثلاث مقامات (2) : مبتدأ، ومتوسط، ونهاية.
أما مبتدؤُه ففي أول الأمر واجب عليه كتمانُ ذلك وعدمُ إفشائِه للمخلوقين، تقليلاً للوشاة عليه، وإمالةً لقلب محبوبه إليه، مُراعيًا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة، وإلاّ التحقَ بالشيطان الرجيم وحزبِه، فازداد به الأمرُ إلى المقام الأوسط، فيغلبُ عليه الحال، فلا بأسَ بإعلام محبوبه بمحبته إياه، فيَخِفُّ بإعلامِه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويَحْذَر من إطْلاعِ الناس على ذلك، فهو يكون سببَ هلاكِه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدودِ والضوابط المذكورة، فقد التحقَ مَن هذا حالُه بالمجانين والمولهين.
على أن من رَخَّص في العشق من العقلاء، لما ذكرنا من ترويضِه للنفس وتهذيبه للأخلاق، فجعلَه مشروطًا بالعفَّة المذكورة، كما قال قائلُهم: "عِفُوا تَشْرُفوا، وَاعْفُوا تَطْرفوا". وقال الأحنف بن قيس (3) :
__________
(1) انظر شرح هذا المثل في "جمهرة الأمثال" (2/430) و"فصل المقال" (ص 458) و"مجمع الأمثال" (2/414) و"المستقصى" (2/410) .
(2) ذكرها ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص191-193) .
(3) الصواب أنهما للعباس بن الأحنف، كما في "الأغاني" (8/359) و"التذكرة الحمدونية" (6/229) . وهما بلا نسبة في "روضة المحبين" (ص344) .(1/182)
أتأْذَنُونَ لِصَب في زيارتكم فعندكم شَهَواتُ السمعِ والبَصَرِ
لا يُضْمِرُ الشوقَ إن طالَ الجلوسُ به عَفُّ الضميرِ ولكن فاسقُ النَّظَرِ
وقيل لبعض العشاق: ما كنتَ تَصنَعُ لو ظَفِرْتَ بمن تَهوَى؟ قال:
كنت أَمْنَعُ طَرْفي من وجهِه، وأُرَوِّحُ قلبي بذكرِه وحديثِه، أستُر منه مالا يحب كَشْفُه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما يَنقُض عهده. وأنشد (1) :
أخلو به فأعفّ عنه كأنني خوفَ الديانة لستُ من عُشَّاقِه
كالماءِ في يدِ صائم يَلْتَذُّه ظَمَأ فيَصْبِر عن لذيذِ مَذاقِه
وانقسموا قسمين:
قسمٌ قَنِعُوا بالنظرة البعيدة ولو في مدّة مديدة، كما قال شاعرهم:
ليسَ في العاشقينَ أقنَعُ مني أنا أَرضَى بنظرة من بعيدِ
وقال الآخر:
لو مَرَّ في خاطري تَقبيلُ وَجْنَتِه لَسَيلَتْ فِكَرِي عن عارضَيْه دمَا
وقال آخر:
وأَحفظُه عن نَاظِرَيَّ ومُقْلَتِي مخافةَ أن العينَ تَجْرَحُ خَدَّهُ
واستمرُّوا على هذه الحالة، فمنهم من يموتُ وهو كذلك، لا يَظهر سِرُّه لأحدٍ، حتى محبوبُه لا يَدري به. رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَن عَشِق فعَفَّ فكَتَمه فماتَ منه فهو شهيد" (2) . وهذا مقام
__________
(1) البيتان في "الجواب الكافي" (ص195) .
(2) أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (1/349) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/156،262،6/50-51،11/297،13/184) وابن الجوزي في "ذم =(1/183)
عظيم يرفع، إن تركَه وحَسَمَ مادتَه [فهو] أفضلُ وأقرب إلى الحق كما ذكرنا.
والقسم الثاني أباحوا لمن وصلَ إلى حدٍّ يخافُ على نفسِه منه- القُبلةَ في الحين قد غلبَه نفسه وقَهرَه قوته. قالوا: لأن في تركها ما يُؤدِّي إلى هلاكِ النفس، والقُبلةُ صغيرة، وهلاك النفسِ كبيرة، وإذا وقعَ الإنسان في مرضينِ خَطِرَيْنِ دَاوَى أخطرَهما، ولا خَطَرَ أعظمُ من قتلِ النفس، حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعتَه على ذلك إذا علم أن تركَه ذلك يُؤدّي إلى هلاكِه، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (1) ، قالوا: إن سبب نزولها أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ من امرأة أجنبية كلَّ شيء إلاّ النكاح، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلَّيتَ معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك. فنزلتْ هذه الآية (2) .
وبقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا
__________
= الهوي" (ص327) و"العلل المتناهية" (2/285) من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف سويد بن سعيد وأبي يحيى القتات. واتفق الأئمة المتقدمون على تضعيف هذا الحديث، وحكم عليه ابن القيم والألباني بأنه موضوع. انظر الكلام عليه في "الضعيفة" (459) و"الجواب الكافي" (ص230- 231) و"زاد المعاد" (4/252-256) و"المنار المنيف" (ص140) و" روضة المحبين" (ص 180) .
(1) سورة هود: 114.
(2) أخرجه البخاري (6823) ومسلم (2764) بنحوه عن أنس، وليس فيه ذكر نزول الآية. وهو في حديث آخر بسياق مختلف عند البخاري (526،4687) ومسلم (2763) عن ابن مسعود.(1/184)
هُمْ يَغْفِرُونَ (37)) (1) . إلاّ أنهم كما قال بعض السلف: ما رأيتُ شيئًا أشبهَ باللَّمَم من قول أبي هريرة: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله كتب على ابن آدمَ حظَّه من اَلزنا أدركَ ذلك لا مَحَالةَ، فالعين تَزني وزناها النَظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرِّجل تزني وزناها الخُطا، واليدُ تزني وزناها البطش، والقلب يَهْوَى ويتمنى، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه" (2) .
وهذه النصوص واردة في حق النساء، وهذا السؤال عن الرجال، لأن أولئك القوم في الزمن الأول لم يكن للغلمان عندهم قدرٌ يهوون من أجله، أما الآن فقد زادوا على الحدّ، وازدادوا على أولئك في الحد، وهم الفتنة موجودة، وقد نهى الله عز وجل عن إرسال النظر، فقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (3) حَسْمًا لهذه المادة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: "النظرة الأولى لك، والثانية عليك" (4) . حتى قيل: "رُبَّ حربٍ حميتْ من لفظه، وربَّ عِشقٍ غرس من لحظِه".
وقد نقل الشيخ محيي الدين النووي (5) تحريمَ النظر إلى الأمرد الحسن بشهوة وبغير شهوة، وأفتى به وصحَّحه - رحمه الله - ذهابًا إلى سَدِّ هذه الثغرًة وحَسْمِ مادة هذه البلية العظيمة.
فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يُدَنِّس عشقَه بزنًا، ولا
__________
(1) سورة الشورى: 37.
(2) أخرجه البخاري (6612) ومسلم (2657) . والمراد ببعض السلف ابن عباس.
(3) سورة النور: 30.
(4) أخرجه أحمد (5/351،353) وأبو داود (2149) والترمذي (2777) عن بريدة بن الحصيب.
(5) في "فتاواه" (ص202) .(1/185)
يَصحبُه بخنًا، فيُنظَر في حالِه، إن كان من الطبقة الأولى فقد ذكر شروطهم فيما يتعلق بالكتمان حتى عن المحبوب، وإن كان كافيًا لهم ان صدقت دعواهم. وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأسَ بشكواه إلى محبوبِه كي يَرِق عليه ويَرحمَه. وإن غَلَبَه الحالُ فالتحقَ بالثالثة أُبيحَ له ما ذكرنا، بشرطِ أن لا يكون أنموذجًا لفعل القبيح المحرم، فيلتحق بالكبائر، فيستحق القتلَ عند ذلك، ويزول عنه العذر، ويَحِقّ عليه كلمة العذاب، (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (1) .
وأما ما يتعلق بالمعشوق فيجبُ عليه إدامةُ حمدِ الله وشكرِه على ما أعطاه من الجمال والحسن، ويَحرِص أن لا يجتمع مع حُسنِه قبيحُ الفعال، ولا يُدنِّس جمالَه بخسيس الخصال. فإن ظهرَ له من محبّةِ هذا صِدقُ دعواه، وفهم سلوك طريق المحبة من نجواه، فعامَلَه المعاملةَ الجميلة، وأباحَ له النظرَ والمحادثةَ المذكورة، والقُبلةَ في الأحيانِ بالشروطِ المتقدمة، مع أنَ هذا يكون تفضُّلاَ منه فلا يجب عليه، فإن خَسَّتْ نفسُ العاشقِ وجَنَحَتْ إلى الفِسقِ الصُّراحِ هَجَرَه، وما عليه في ذلك من جُناح، وإن قَتَلَه بعشقِه فليقتُلْه، فهذا بعضُ حقِّه. والله أعلم بالصواب، وعنده علم الكَتاب. آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
__________
(1) سورة الزمر: 71.(1/186)
مسألة في الفُتُوَّة وآدابها وشرائطها(1/187)
مسألة
في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟ وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سمّيتْ فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟.
الجواب
الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (13)) (1) ، وقال تعالى: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)) (2) ، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (3) ، (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ) (4) .
ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ: طريقتنا تَتَفَتَّى وليس تَتَعَرَّى. وكما قال آخر منهم: التصوف خُلُقٌ، مَن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.
__________
(1) سورة الكهف: 13.
(2) سورة الأنبياء: 60.
(3) سورة الكهف: 60.
(4) سورة يوسف: 62.(1/189)
وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) (1) . ولهذا يقولون: إن هذه الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثًا صححه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل ما أكثر ما يُدخِلُ الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما يُدْخل الناسَ النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج (2) .
فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (3) . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يُسمَّ، فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت (4) في القرآن وما علق بها من مدح وذمّ، ووعدٍ ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق والفجور والإساءة والكذب والظلمِ والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يُحمَد عليه في القرآن حُمِد، ومن فعَل ما يُذَمُّ عليه في القرآن ذُمَّ، ومن فعل ما يُحمَد وما يُذَمُّ استحقَّ الحمد والذمّ جميعَا، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)) (5) .
__________
(1) سورة النازعات: 40-41
(2) أخرجه أحمد (2/291،392،442) والبخاري في "الأدب المفرد" (289، 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة.
(3) سورة النحل: 128.
(4) كذا في الأصل بتأنيث اسم الموصول والفعل.
(5) سورة فصلت: 46.(1/190)
وأما سقي الماء والملح وإلْباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصلَ لها، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما.
ولا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (1) ، وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (2) ، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)) (3) .
وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر". وقال (5) : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُذُ بَعْضُه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال (6) : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه من الخير ما يُحِبّه لنفسه".
__________
(1) سورة الحجرات: 10.
(2) سورة المائدة: 55-56.
(3) سورة التوبة: 71.
(4) البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.
(5) أخرجه البخاري (1437) ومسلم. (2585) عن أبي موسى الأشعري.
(6) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس.(1/191)
وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسَمَّوا بما سمّاهم الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة.
ولم يكن من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم [مَن] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابًا عليه. ومن نقلَ عن أمير المؤمنين علي أو غيره شيئًا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله.
وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب (1) ونحو ذلك، فلا يشك مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك وأسبابه وما يقصد به ذلك.
وكثير مما تسميه الناس فتوةً في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلةً لصيد المُردان وإفسادِهم، فلو كان الفعل الذي يفعلونه مباحًا وكان المقصود به ذلك لكان محرَّمًا باتفاق المسلمين، فإنّ في الصحيحين (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عبادَه، إذا كان مقصود المهاجر [بها] التزوّج بامرأةٍ أو طلب دنيا لم يكن له إلاّ ذلك، ولم يكن له في الآخرة من خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم،
__________
(1) في الأصل: "اللـ".
(2) البخاري (1) ومسلم (1907) .(1/192)
حتى يُجَرِّئُوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعِشرة في طاعة الشيطان، من جنـ[ـس] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر.
والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان.
والله أعلم.
***(1/193)
مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة(1/195)
مسألة
فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة، كدق المنبر بالسيف في أول درجه وثانيه وثالثه، وقول المؤذنين عند ذلك: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وعلى أبي بكر وعمر ضجيعَيْه، وفي الثانية: وعلى عثمان وعلي صِهْرَيْه؛ وفي الثالثة: وعلى آل محمد وعلى الحمزة والعباس عَمَّيْه. فإذا رَقِيَ أعلى المنبر أقبلَ على الناس وسلَّم عليهم ورفعَ يدَه، فإذا شرعَ في الخطبة وأتى إلى ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفعَ المؤذنون أصواتهم بالصلاة عليه، فإذا فرغ الخطيب قام بعضُ المؤذنين ومجَّد الخطيبَ وأثنى عليه.
الجواب
البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة متعددة، قد ذكروا منها نحو عشرين بدعة (1) ، منها ما ذكر من الدق بالسيف، ورفع المؤذن صوتَه بالدعاء للخطيب، أو بالصلاة والترضي.
وأما تسليم الإمام عليهم إذا استقبلَهم بعد الاستدبار، فهو مستحب عند الشافعي وأحمد وغيرهما (2) ، وقد جاء ذلك مأثورًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) ،
__________
(1) ذكر الشيخ الألباني بدعا أخرى أوصلها إلى 75 بدعة، أكثرها متعلق بالخطبة والخطيب. انظر "الأجوبة النافعة" (ص64-75) .
(2) انظر: "معرفة السنن والآثار" (2/489) و"روضة الطالبين" (1/536) و"المقنع في شرح مختصر الخرقي" لابن البنا (1/439) و"المستوعب" للسامري (2/28) .
(3) وهو ضعيف، أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/121) وابن عدي في "الكامل" (5/253) عن ابن عمر.(1/197)
ولكن يسلِّم السلام الشرعي.
واتفق الأئمة على أن المشروع لمن سمعَ الخطيبَ أن يُنصِت ولا يَجهرَ بشيء، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قلتَ لصاحبك - والإمام يخطب يوم الجمعة-: أَنصِتْ، فقد لغوتَ" (1) . فإذا كان الأمر بالإنصات لاغيًا فكيف غيره؟ وسواء في ذلك المؤذن وغيره، لا يجهر أحدهم عند تكلُّم الخطيب بشيء، لا بصلاةٍ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا غير ذلك. لكن هل يسكتُ عند ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يصلّي عليه سِرًّا في نفسِه؟ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فأما رفع الصوت بذلك أو غيرِه فمنهيٌّ عنه باتفاق العلماءِ، وجمهورُهم على أنّ ذلك محرَّم، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قولَيْه وأحمد في أشهر الروايتين عنه.
وقد تبين أن هذه الأفعال مذمومةٌ إلاّ سلام الخطيب على المأمومين.
والله أعلم. الحمد لله، وصلَّى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
***
__________
(1) أخرجه البخاري (934) ومسلم (851) عن أبي هريرة.(1/198)
قاعدة في أفعال الحج(1/199)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله:
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
فصل
في أعمال الحج والعمرة، وما يُشرَع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخلَ معهم في بعض ذلك ولا يلتزمَ شرائطَه، وكذلك الصلاة فنقول: أعمال الحج ثلاثة أقسام، منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يُشرَع منفردًا عن الحج والعمرة.
فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابدّ فيه من طوافٍ بالبيت، وكذلك العمرة. والطوافُ عبادة مستقلة، فيطوف بالبيتِ المُحِلُّ الذي ليس في حج ولا عمرة، ولا يُشتَرطُ له إحرامٌ. وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من حين بَنَى إبراهيمُ البيتَ. قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1) . فهذه
__________
(1) سورة الحج: 26.(1/201)
العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يَختصُّ شيء من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)) (1) .
وأما الطواف بالصفا والمروة فيختصُّ بالحج والعمرة، لا يُشرَعُ منفردًا، بل ولا يُشرَع إلاّ بعدَ الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طافَ بالبيت وبين الصفا والمروة" (2) . قال تعالى: (*إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (3) ، لم يُشرَع ذلك مطلقًا كما شُرِع الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبتَ في الصحيح (4) : أن ناسًا كانوا يظنونَ أن الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنُّوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلامُ سألوا عن ذلك، فأنزلَ اللهُ هذه الآية، يُبيِّنُ أن الصفا والمروة من شعائرِه، وقد شَرَعَ لعبادِه الطوافَ بهما، فلا جُناحَ في ذلك على من حجَّ أو اعتمر، وأزالَ بذلك ما كان قد حَصَلَ من الشك والظن. وهذا كما يسألُ الرجلُ عن عبادةٍ مأمورٍ بها، فيظنُّ أنها منهيّ عنها، فيقالُ له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعًا مستحبا.
ولم يكن حين نزولِ هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بيَّن أن
__________
(1) سورة الحج: 29.
(2) انظر مثلًا عند البخاري (1545) عن ابن عباس، و (1708) عن ابن عمر، و (1762) عن عائشة.
(3) سورة البقرة: 158.
(4) البخاري (1643) ومسلم (1277) عن عائشة.(1/202)
ذلك مشروع بقوله: إنهما (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ، وبقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)) (1) . فهذا وهذا يبيّن أن ذلك عمل صالح، وأن قوله "فلا جناح" لنفي الشبهة التي وقعت لهم في ذلك، وأنَ قوله "لا جناح عليه" أي لا جناح في التقرب بالطوافِ واتخاذِه عبادةً، فإنّ أحدًا لا يطوف بهما إلاّ على وجه التعبُّد، ليس ذلك كالسفر الذي يُفعَل على وجهِ العبادة وغيرِ وجهِ العبادة. فلما قال تعالى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وهو لا يفعل إلاّ عبادةً، كان المعنى: لا جُناحَ [على] من عبد الله بهما، فيدلُّ ذلك على أنّ الطواف بهما عبادةٌ لله.
وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن تنازعوا: هل ذلك ركن؟
كما يقوله مالك والشافعي، أو واجبٌ يَجْبُره دم؟ أم لا شيءَ في تركهما؟ كما يقوله طائفة من السلف، وهي ثلاث روايات عن أحمد (2) . وأقوى الأقوال أنه واجب يَجبُره دمٌ.
وهذا كما يقول: تُقامُ الجمعة في القرى، وبدون إذن الإمام، وإن كان ذلك واجبًا، لما في ذلك من الشبهةِ. وكما يجوز الجمع بين الصلاتين بعرفةَ ومزدلفةَ، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يجوز إشعارُ الهَدْي، وإن كان ذلك هو السنة. وكما يقول: يجوز قضاء الفوائتِ في أوقات النهي، وإن كان ذلك واجبًا، لأنَّ قضاءَها على الفور. وكما يجوز قَصْرُ الصلاةِ في السفر وإن كان آمنًا، وهذا هو السنة، بل هو واجب في أحدِ قولَي العلماء. ونظائر ذلك كثيرة.
والمقصود هنا أن الطواف بالصفا والمروة مما لا يكون إلاّ في
__________
(1) سورة البقرة: 158.
(2) انظر "المغني" (5/238-239) .(1/203)
حج أو عمرةٍ بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يُفْعَل مُفردًا كالطواف، ولا يختصُّ بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه الحج والعمرة.
وأما القسم الثالث وهو ما يختصّ [به] الحج، كالوقوف بعرفةَ وتوابعه مزدلفةَ ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختصّ به الحج فإنه يختصُّ بمكانٍ وزمانٍ. فالوقوف لا يكون إلاّ يومَ عرفةَ وليلةَ النحر، وهو مختص بعرفات، لا يُسافَر إلى غيرِها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقاتٍ مخصوصة.
بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) ، وقال: (*يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (2) .
ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من طَلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ ولم يَقِفْ بعرفةَ، أنه فاتَه الحج، لأنَّ له وقتًا محدودًا، وإذا فاته الحج سقطتْ توابعُه - كالوقوف ورمي الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قولُ الأئمة الأربعة وغيرهم، لكنه هل ينقلب إحرامُه عمرةً؟ لكونها لا وقتَ لها، أو يتحلَّلُ بطوافِ الحج وسعيِه؟ فيه قولانِ مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (3) .
__________
(1) سورة البقرة: 197.
(2) سورة البقرة: 189.
(3) انظر: "المغني" (5/425-427) .(1/204)
وفيها قولٌ شاذ أنه يتمُّ أعمالَ الحج من الوقوف بمزدلفةَ ورمي الجمار، يُروَى عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد.
والصواب ما عليه الجمهور، كما نُقِلَ عن الصحابة، ولأن اللهَ إنما أمر بهذه الأعمال من وقفَ بعرفةَ، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (1) الآية. وإذا كان إنما أمر بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يُفِض من عرفات، فلا يؤمَر بذلك. وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعًا للطواف بالبيت، فلا يُفعَلُ إلاّ بعدَه، فمن لم يَطُفْ بالبيت لم يَطُفْ بالصفا والمروة.
وأعظم أعمال الحج الوقوفُ والطواف، وهما ركنانِ في الحج باتفاقِ العلماء، وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة.
فصل
فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة واتفاقِ العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (2) ، وقال: وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجدٍ قرنًا، وأهل اليمن يلملم، وقال: "هنّ لهنّ ولكل آتِ آتى عليهن من غيرِهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دُونَ ذلك
__________
(1) سورة البقرة: 198-200.
(2) البخاري (1526) ومسلم (1181) .(1/205)
فمن أهلِه، حتى أهل مكة يُهِلُّون منها".
وإذا اجتاز بالمواقيت لا يُرِيد الحرمَ، فليس عليه الإحرامُ بالاتفاق.
وإن اجتاز بها يُريد مكةَ لتجارة أو زيارة أو غيرِ ذلك مما لا يتكرر، فإنه ينبغي له أن يَدخُل محرمًا بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء، والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك مستحب.
ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمُه القضاءُ؟
فأوجبَه أبو حنيفة، ولم يُوجِبْه الباقون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ممن يريد الحج والعمرة" (1) لا يُنافِي هذا القولَ، فإن هؤلاء يُوجبون عليه أن يُرِيد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (2) لا يريده، مثل المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة.
ولو كان منزلُه بالمواقيت أو دونَها لم يُوجبْ أبو حنيفة عليه الإحرام، وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - علىَ قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأوَّلَ عن مالك.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وخلفاؤه لم يَدخُلْ أحدٌ منهم مكَّةَ إلاّ محرمًا، إلاّ عامَ الفتح، فانه دَخَلَ وعلى رأسِه المِغْفَر (3) ، ولم يكن محرمًا، لأن الله أَحَلَّ له القتالَ فيها يومَئذٍ، وقال: "إنها لم تَحِلَّ لأحدِ قبلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ" (4) . وقال: "فإن
__________
(1) في حديث ابن عباس السابق.
(2) في الأصل: "عما".
(3) أخرجه البخاري (1846) ومسلم (1357) عن أنس.
(4) أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) عن أبي هريرة.(1/206)
أحدٌ تَرخَّصَ بقتالِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقولوا: إنما أحلَّها اللهُ لرسوله، ولم يُحِلها لك، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتِها أمسِ" (1) .
فصل
وأما من عَمِلَ أعمالَ الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع، وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرامٍ، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن أراد الصلاةَ، عليه أن يُصلَّيها على الوجه المشروع، فيصلّيها بطهارة وقصدٍ إلى القبلة، وإن كانت الصلاةُ تطوعًا غيرَ فرضٍ، لكن ليس له أن يُصلَيَ إلاّ على الوجه المشروع.
كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعًا، فليس له أن يحجّ ويعتمر إلاّ على الوجه المشروع. فلو قال: أنا أدخلُ بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخلُ بلا إحرامٍ، وأَقِفُ بعرفةَ ومزدلفةَ وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاقِ العلماء.
ولو قال: أنا أريد الوقوفَ فقط، فأذهبُ في شأني غيرَ محرمٍ إلى عرفة، فأقِفُ مع الناس وأرجعُ، فهذا أولَى بالمنع، لأن ذاك تركَ الإحرامَ وحدَه، وهذا تركَ الإحرامَ وتوابعَ الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعَه الله بعمل قبلَه - وهو الإحرام -، وعملٍ بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري (1832) ومسلم (1354) عن أبي شريح العدوي.(1/207)
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إلى قوله (*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)) (1) .
فأمر سبحانَه الناسَ إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة". وقال في مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحَسَّر". وقال: "منى كلها مَنْحر، وفجاجُ مكة كلها منحر" (2) . وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهنّ أيام التشريق، وفيها يُرمَى الجمارُ الثلاث، ويُذكرَ اللهُ عند رمي الجمار بدعاءٍ بينَ كلّ جَمرتَيْن. ومزدلفةُ المبيتُ بها والوقوفُ بها ورَمْيُ الجمار بمنًى واجب عند العلماء قاطبة، ومنهم من جعلَ الوقوفَ بمزدلفةَ ركنًا.
فهذا الذي وقفَ بعرفةَ إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى الله ورسولَه، وتَركَ ما أوجبَه الله. وإن فَعَلَ ذلك بغير إحرام، وقال: كنتُ حاجًّا، فهو أيضًا عاصٍ لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي بالعبادة بلا قَصْدِ التعبد، فإنّ هذا استهزاءٌ بآيات الله. وهو بمنزلة من يقومُ ويَركعُ ويقرأ ويسجد، ويقول: لستُ مُصلِّيًا، فلا أحتاجُ إلى وضوء.
__________
(1) سورة البقرة: 198-203.
(2) هذه الألفاظ من حديث جابر الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في مواضع من كتاب الحج مطولاً ومختصرًا. فيطلب من هناك.(1/208)
وليس لأحدٍ أن يَشهدَ مجامعَ الناس في صلاتهم وحجهم إلاّ إذا شاركهم في ذلك. وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صلاةَ العصر بمسجد الخيف، فرأى رجلينِ لم يُصَلِّيا، فقال عليَّ بهما، فأُتِيَ بهما تُرعَدُ فَرائِصُهما، فقال: "مالكما لم تُصَلِّيا؟ ألستما مسلمينِ؟ "، فقالا: يا رسولَ الله! صلينا في رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالِكما ثمَّ أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا معهم، فإنهما لكما نافلة" (1) . وكذلك قال عن الأمراء الذين يُؤخرون الصلاةَ عن وقتها، قال: "صَلُوا الصلاةَ لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (2) . وفي رواية: "ولا يَقُلْ أحدُكم قد صَلَّيتُ" (3) .
وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفةَ، لا يَقِفُ هناك مع الحجاج إلاّ حاجٌّ مُحرِم. وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفةَ قومًا عليهم العمائمُ، فأرادَ عقوبتهم.
والله سبحانَه يُبَاهِي الملائكةَ بأهلِ عرفَةَ، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني شُعْثًا غُبْرًا (4) . وهذا شعارُ الإحرام، فمن لم يُحرِم لم يأتِ رَبه لاَ أشعثَ ولا أغبرَ. فمن ذهبَ إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما يَحصُل لطائفةٍ من الناس ممن
__________
(1) أخرجه أحمد (4/160،161) والدارمي (1374) وأبو داود (575،576، 614) والترمذي (219) والنسائي (2/112) عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه.
(2) أخرجه مسلم (648) [244] عن أبي ذر.
(3) هي عند البخاري في "الأدب المفرد" (954) ومسلم (648) [242] .
(4) أخرجه أحمد (2/224) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه أيضًا (2/305) عن أبي هريرة. وهو حديث صحيح.(1/209)
يَحمِلُه الجن والشياطين، يَحمِلُونهم إلى عرفات ثمّ يَرُدُّونهم، فهؤلاء ضالُّون مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفاتِ بغيرِ إحرامٍ وفي غيرِ حجّ، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك.
والوقوفُ بعرفاتٍ لا يكون قط مشروعًا إلاّ في الحج باتفاق المسلمين، في وقتٍ معين على وجهٍ معين، فمن قال: أَقِفُ ولستُ بحاجّ فقد خرجَ عن شريعة المسلمين، بل إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبًّا فإنَّه يُستتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. وإن قال: ليس بدينٍ لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلتَ على وجهِ التديُّن والتعبد به، وهذا لا يجوز. وإن كنتَ فعلتَه على سبيل التنزه والتفرُّج فهذا شَرٌّ وشَرٌّ.
والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (1) ، فمن دخلَ فيهما لم يكن له الخروج، فالواقفُ بعرفةَ عليه إتمامُ الحج وإن كان متطوعًا، وليس له أن يَقِفَ ويَنصرِفَ باتفاق المسلمين.
فهذا الذي حَملتْه الجن إلى عرفةَ ثم منها إلى بلده، قد تركَ ما أمر الله به قبلَ الوقوف وبعدَ الوقوف وحالَ الوقوف، حيث وقَفَ بثيابه من غير إحرام. ولو قُدِّرَ أنه وَقَفَ بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى كان قد تركَ ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك في ثيابه بغير عُذْرٍ. وهذا لا يجوز بالنص والإجماع.
ولهذا يُذكَر عن بعض المحمولين إلى عرفةَ من بلدٍ بعيدٍ - إمّا الإسكندرية أو غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكةً تَنزِلُ تكتُبُ
__________
(1) سورة البقرة: 196.(1/210)
الحجاجَ، فقال: ألاَ تكتبوني؟ فقالوا: لستَ منهم، الحجّاجُ هؤلاءِ الذين جاءوا رُكبانًا ومُشاةً، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له.
وأيضًا فالله تعالى إنما دعا الناسَ إلى بيته على لسانِ الخليل، قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) (1) . فجَعلَ الآتينَ إلى بيته نوعينِ: رجالاً ورُكبانًا، وليس فيهم طائر ولا محمول في الهواء، فدلَّ على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوةَ ربّهم، ولهذا لا يُلَبون.
ومنهم من يَحمِله الشيطانُ، ويَمنعُه أن يَرى شيئًا، فلا يُحِسُّ بنفسِه إلاّ بعرفةَ أو بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ من الثقاتِ عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجتُ مرةً، فرأيتُ بالكسوةِ - أو قال بغيرها - رجالاً ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهبُ معنا؟ فقلتُ لهم: لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يُسقِط الفرضَ عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا كما أمر الله ورسولُه، فيحصُل لكم في طاعةِ اللهِ من التَعَب وغيرِه ما يَأجُرُكم الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدةَ فيه. فقالوا: نحن نَقْبَل منك ونَحجُّ معك على السنة. فلما حَجوا قالوا: جزاكَ الله خيرًا، فإنّا في هذه الحجة ذُقْنا طعمَ العبادةِ لله وحَلاوةَ الحج.
ومن هؤلاء المحمولين الذي تَحمِلُهم الجن إلى مكة من يُذهَبُ به قبلَ الحج، فيُحرِم من الميقاتِ، ويحجُّ حجَّ المسلمين. ولكن هذا محروم، فوَّتَ نفسَه فَضْلَ السَّيْرِ إلى المواقيت راكبًا أو ماشيًا، فلم
__________
(1) سورة الحج: 27.(1/211)
يكن له أجر الحجَّاج. ومن هذا الباب ما يُحكَى عن بعض المشايخ - معروفٍ أو غيرِه - أنه سارَ في الهواءِ إلى مكة، فطافَ بالبيتِ، ثمَّ ذهبَ ليشرَبَ من زمزم، فوقَعَ فَشُجَّ. فإنّ هذا وإن كان أهونَ من الذي حُمِلَ يومَ عرفةَ إلى عرفةَ، كما حُمِلَ جماعة كثيرة من أعصارٍ وأمصارٍ متفرقةٍ. وأقدمُ من حُكِيَ هذا عنه حبيب العجمي. فأما الصحابة فكانوا أجلَّ قَدْرًا من أن يَطمَعَ الشيطانُ في أن يُضِلَّهم ويَصْرِفَهم عن سنة الرسولِ وشريعتِه، كما صَرَفَ من كانَ قليلَ العلمِ والمعرفةِ بالسنة والشريعة من العُبّاد والزهّاد وغيرِهم.
والذين يُحْمَلون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يَعرِف أن ذلك من الجنّ، ومنهم من يَعرِف ذلك، ويَظُنّ هؤلاء وهؤلاء أنّ ذلك كرامة من كرامات الأولياء، وأنّ هذا العمل مما يُحِبُّه الله ويَرضاه ويثيبُ صاحبَه عليه. ولو علموا أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنّه من إضلالِ الشياطين لهم، لم يفعلوه لما عندهم من الدين والخير وحسنِ القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ يُغفَر له خَطَؤُه، ويثَاب على حسن قَصْدِه وما عمله من عمل مأمورٍ به، والله أعلم. لكن مثل هذا هو مما يُعذَر فاعلُه عليه، ليس هو مما يُستَنكَر عليه، بخلاف ما فعلَه من لم يَعرِف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القُربات. ولو عَلِمَ أنّ مثل هذا الحمل إلى الأمكنة البعيدة يَحصُل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين أعظمُ مما يَحْصُل للمؤمنين، لَعَلِمَ أنه من عمل الشيطان، لا مما أمرَ به الرحمن.
وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارةٍ لم يجز، فكيف للطواف بلا إحرام. ومن لم يُوجِبْه فإنه(1/212)
يَستحِبُّه، فهذا فوَّتَ نفسَه هذه الفضيلة. وذهابُه محمولاً مع الجنّ أو غيرهم في الهواء ليطوفَ ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبًا ولا مستحبًّا، ولو كان ذلك مشروعًا لكان الأنبياء أقدرَ على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء يَحجُّون، وهذا لم يُعرَف عن أحدٍ من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملاً صالحًا لكان هؤلاء أحق به من غيرِهم.
ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليُرِيَه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)) (1) . فالمقصود كان أن يُرِيَه الله من آياتِه، كما أراه ليلةَ المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2) . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (3) .
وفي الصحيح (4) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عَينٍ أُريَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ أُسرِيَ به. ولهذا كان قوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) دليلاً في المعراج الذي كان بعد المَسْرَى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجردَ رؤية الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبَرُّ والفاجر، ولكن هو سبحانَه أخبر بذلك ليكون هذا آيةً للرسول، فإنهم قد رأوا
__________
(1) سورة الإسراء: 1.
(2) سورة النجم: 12-18.
(3) سورة الإسراء: 60.
(4) البخاري (3888،4716،6613) .(1/213)
المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووَصَفَه لهم - كما جاء في الحديث الصحيح (1) - كان ذلك حجةً له على أنه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلاف ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداءً، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن هناك ما رأوه حتى يَصِفَه لهم.
وهو سبحانَه قد أخبر بعُروجِه إلى السماء في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) (2) .
وهو سبحانَه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤيةَ جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)) (3) ، فهذا جبريل، ثم قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)) (4) .
وهؤلاء الذين يُحمَلُون إلى مكة في الهواء: منهم من مُثل له فرسٌ أو بعيرٌ، يركبُه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئًا، ومنهم من يَعرِف أنه محمولٌ. وقد حدثني منهم مَن حُمِل، وحدَّثني جماعاتٌ عن جماعاتٍ منهم وعمَّن كان قبلَنا. وأحوالُهم مع الشياطين بحسبِ بُعدِهم عن معرفةِ ما جاء به الرسولُ والعملِ به، فإنّ هذا هو
__________
(1) أخرجه البخاري (3886،4710) ومسلم (170) عن جابر.
(2) سورة النجم: 13-18.
(3) سورة التكوير: 19-21.
(4) الآيات 22-29.(1/214)
دين الله، وأهلُه هم عباد الله الذين لا سلطانَ للشيطان عليهم، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65)) (1) .
ولما قال الشيطان: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)) (2) قال الله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، ثم قال: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (3) .
وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)) (4) ، ولم يستثن منهم أحدًا. وقال في الآية الأخرى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) (5) .
وعباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين، وعبادتُه إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" - ورُوِي: فقد آذنتُه بالحرب - "وما تقربَ إلي عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويَدَه التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لاعطِينه،
__________
(1) سورة الإسراء: 65.
(2) سورة الحجر: 39-40.
(3) سورة الحجر: 41-42.
(4) سورة الإسراء: 65.
(5) سورة النحل: 98-100.
(6) برقم (6502) .(1/215)
ولئن استعاذ بي لأعِيذنَّه. وما تَردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مَساءتَه، ولا بدّ له منه". وهذا مبسوط في مواضع (1) .
والمقصود هنا أنه كلَّما كان الإنسان أقربَ إلى الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسولَه كان أقربَ إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكلَّما كان أبعدَ عن ذلك كان أقربَ إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يُظهِرون الإسلام. ومنهم من يُحمَل من بعض بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يَعرِفُ صاحبُه السحرَ، لكن يكون مشركًا أو منافقا يَتعبُّد تعبد المشركين والمنافقين.
والذين يُحْمَلون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا يصلي في الطريقِ ولا في بلدِه، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يَصِل في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يَصِل في يوم أو يومين أو أكثر من ذلك.
وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رُفْقَة سماهم، وأنهم لم يدخلوا المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلَّوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يُسمي غيرَ الخضر من الأنبياء والصالحين، ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يُكاشِفُه ببعض الأشياء، وقد
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/61-64، 75-77، 159-162، 186- 190، 194-218، 221-223؛ 17/133-134، 390-394) .(1/216)
يُحضِر له طعامًا أو شرابًا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض الأماكن، وكثير منه يكون مسروقًا قد سرقَه وأخذَه الشيطانُ من مالِ مَن خانَ شريكَه، أو من مالِ مَن لم يذكر اسمَ الله عليه.
وهؤلاء من جنس الكُهَّان، قد يُوحُون إلى أوليائهم من الإنس بعضَ ما يكاشفون به، ولابُدَّ أن يكذبوا في بعض ما يُخبِرون به، لكن ما كان مستورًا عنهم قد ذكَرَ صاحبُه عليه اسمَ الله لا يَرَونَه ولا يُخبِرون به. وهذا من الفروق بين إخبار هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، فإن المسيح يُخبر بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجنّ، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله تعالى. فالآكِل متى ذكرَ اسمِ الله لم يَشْرَكْه الشيطانُ في طعامِه، وإن سمَّى الله عند دخولِ المنزل لم يشركْه في دخولِ البيت، وإن لم يُسمِّ الله لا في هذا ولا هذا أدركَ المبيت والطعام، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في الحديث المعروف (1) .
والمسيح يُخبر بذلك، وأيضًا فخبر المسيح صِدق كلُّه، ليس في شيء منه كذب، وهؤلاء الذين يُخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابدَّ أن يكذبوا. قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)) (2) . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في مواضع.
والمقصود أن مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا بالإجماع، لا واجبًا ولا مستحبًّا، بل هو منهي عنه لا
__________
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1096) ومسلم (2018) عن جابر.
(2) سورة الشعراء: 221-223.(1/217)
يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج المسلمون، فيُحرِم إذا حَاذَى الميقاتَ، وإذا أفاضَ من عرفات فعلَ عند المشعر الحرام ومِنًى ما أمرَ الله به ورسولُه، وطافَ بالبيت العتيق. لا يُشرَع الوقوفُ إلاّ على هذا الوجه. ومَن حُمِل إلى عرفات ولم يَقِف الوقوفَ المشروعَ، فهو كمن حُمِلَ يومَ الجمعة إلى المسجد وهو جُنُبٌ أو بلا وضوءٍ، فسمعَ الخطبةَ ولم يُصَلِّ مع المسلمين، أو صلَّى بلا وضوءٍ أو إلى غيرِ القبلة.
والعبدُ والصبي لا يَلزَمُهما الحج، وإذا حجَّا صحَّ حجهما ولم يَسقُطْ عنهما فرضُ الإسلام، بل إذا بلغَ هذا وعتقَ هذا فعليه الحجُّ إن استطاعه.
ولو أراد العبدُ والصبي أن يَقِفَ بلا إحرامٍ وحجّ مُنِعَ من ذلك.
وليس لأحدٍ أن يَقِفَ بعرفة إلاّ مكشوفَ الرأس مُحرِمًا، إلاّ من كان معذورًا. ولو أرادَ الماشي إلى عرفة والراكبُ أن يَقِفَ مع الناس بلا حجّ ولا إحرامٍ مُنِعَ من ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمولُ في الهواء أن يشهدَ عند المسلمين، فيكون بين صفوفهم ولا يُصلّي صلاتهم، فهذا يُعاقَب على ذلك.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمرَ الحُيضَ والعواتقَ وذواتِ الخدور، وقالْ: "أما الحيض فيعتزلن المصلَّى ويَشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين" (1) ، فالحيَّض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرَهُنَّ أن لا يختلطن بالمصلِّيات، ولا يكُنَّ بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلَّى، ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. فكيف من لا عذرَ له إذا أراد أن يختلط بالمصلين في
__________
(1) أخرجه البخاري (324 ومواضع أخرى) ومسلم (890) عن أم عطية.(1/218)
صفوفهم ولا يُصلَّي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء منِ الإنس، فقد رئيَ بعضُ هؤلاءِ في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه الرائي وأحسنَ في إنكارِه، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلّي على الأرض أو راكبًا لعذرٍ. فهذا هو الذي يكون عبادةً لله واتباعا لما أنزلَه ولرُسُلِه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ" (1) .
وحَمْلُ هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعُّبِ الشياطين بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بُسط في مواضع. وقد قال العفريتُ لسليمان لما قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)) (2) . فهذا يبين أن العفاريت يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرًا من الله لسليمان، كما سخر له الريح غدوُّها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغوَّاص، وآخرين مقرنين في الأصفاد.
والشياطين أضلَّت كثيرًا من بني آدم، فذكروا لكثيرٍ من الإنس أن سليمان كان سَحَرَ الجن بأسماء وكلماتٍ يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل: إنهم دفنوها، حتى ظهرتْ تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا، فصار أهلُ الضلالِ فريقَين:
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1718) عن عائشة. وهو عند البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه ... ".
(2) سورة النمل: 38-39.(1/219)
فريقًا قَدَحُوا في سليمانَ وبَيَّنوا أنه ساحر، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب، وفريقًا قالوا: إنه نبي، وإنّ هذه الأسماء والكلمات علَّمه الله إياها، فعملوا بها فكفروا. فنَزَّه الله سليمانَ عن قول الطائفتين، وبيَّن كُفْرَ مَن اتبعَ الشياطين، وذَمَّ أهلَ الكتاب الذين نبذوا كتابَ الله وراءَ ظهورِهم، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)) (1) . وبَسْطُ هذا له مواضع أُخَر، والله سبحانَه أعلم.
***
__________
(1) سورة البقرة: 101-103.(1/220)
فتوى في البيع بفائدةٍ إلى أجل(1/221)
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجلٍ احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجلٍ فطلبَ منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئةِ درهم بمئة وخمسين إلى أجلٍ؟ أو يشتري له قماشًا من غيره، ثمّ يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهمًا بمئةٍ إلى أجلٍ معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها إلى أجل؟.
فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطِّه نقلتُ:
الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبًا بذهب إلى أجلٍ، أو فضةً بفضةٍ إلى أجلٍ، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (1) .
__________
(1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. انظر صحيح البخاري (1) ومسلم (1907) .(1/223)
فمتى كان المقصود ما حرَّمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكلّ طريق محرَّمٌ، وإنما يُباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله منَّ اَلبيع المقصود والتجارة المقصودة، فإن الله أحلّ البيع وحرَّم الربا، وقال: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (1) . فالتاجر الذي يشتري السلعة ليبيعَها، ويربحَ فيها إمّا بنقلها من موضع إلى موضع، أو حَبْسِها من وقتٍ إلى وقت، فهذا يقصد السّلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعَها بأقلّ من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصْدُه السلعةَ لينتفع بها، إما بأكلٍ أو شرب أو لُبْسٍ أو ركوبٍ، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله بالأموال.
فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصودُه أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصودُه مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك كانَ مُرْبِيًا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقلّ مما باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين! إني بعتُ من زيد بن أرقم غلامًا إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثمّ ابتعتُه منه بستّ مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أَخبِري زيدًا أنه قد أبطلَ جهادَه مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ أن يتوب (2) .
وسئل ابن عباس عمّن باع حريرةً ثم ابتاعها بأقلّ، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.
__________
(1) سورة النساء: 29.
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/330،331) .(1/224)
وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ممّا حرَّم الله ورسوله.
وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقدٍ ثمّ بعتَ بنقدٍ فلا بأس به، وإذا استقمتَ بنقدٍ ثمّ بعتَ بنسيئةٍ فتلك دراهم بدراهم.
و"استقمت" بلغة أهل مكة بمعنى قوّمت.
وفي السنن (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السّلعة ثم يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعةٍ، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقلّ، مثل أن يتفقا على أن يبيعه إلى أجلٍ بمئةٍ، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربّها بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلاّ بالأوكس، وهو الثمانون.
وكذلك لو كان ربُّ السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشترِ فرسي أو ثوري بثمانين حالةً ثم بعنيه بمئةٍ مؤجلة، فليس له إلاّ الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات.
وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعةً من غيره بثمنٍ حالٍ، ثم يبيعه إياها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا.
__________
(1) أبو داود (3461) عن أبي هريرة.(1/225)
وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتّجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان مضطرًا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شرابٍ عنده أو لباسٍ، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن المسترسل ربًا.
وإذا تفرق المتبايعان عن تراضِ لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئًا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع عنه شيئًا منه إذا كان غنيًا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط عنه حقّه. ولا يحلّ له أن يمكّن غلامَه أن يطلب منه شيئًا من الثمن، فإذا أعطاه البائع بطيب نفسه كان صدقةً عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل أَوساخ الناس من غير حاجةٍ فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل.
وأما إذا باعها إلى أجلٍ معلومٍ لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز؛ فإن باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن باعها مرابحةً كان الربح ما يتفقان عليه ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرًّا، وإن كان مضطرًّا ربح عليه ما يربحه على غير المضطرّ. والله أعلم.
آخرها، لله الحمد والمنّة، وصلواته على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
(علَّقها أحمد بن المحبّ من خطّ المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب سنة 747) .(1/226)
مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح، والفرق بين الجائحة في الثمر والزرع وغير ذلك
أجاب عنها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه(1/227)
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل أبو عبد الله سؤالاً صورته:
ما تقول السادة العلماء - رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضًا ليزرعها، أو يضمن بستانًا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يُحَطُّ عن المستأجر أو الضامن من الأجرة شيءٌ أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونًا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر ظِئرًا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرضَ الجرادُ أو الفار أو النار، فتَلِفَ الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في الأرض؟ بينوا لنا ذلك.
وفي الرجل يضمن بستانًا بألفٍ مثلاً، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت عدة أحجارٍ، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره.
أفتونا وابسطوا القول مثابين، رضي الله عنكم.
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله رب العالمين. نعم يُحطّ عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة، وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد(1/229)
ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضًا فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها.
وهذه المسألة لها صورتان (1) :
أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من الزرع، فهذا لا أعلم نزاعًا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟
أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد:
إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحطّ عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ.
والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء، ونص في صورة الهدم على الانفساخ.
فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدّر أن المنفعة تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن الانتفاع بها في غير ذلك
__________
(1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة في "مجموع الفتاوى" (30/266 وما بعدها) .(1/230)
مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه.
والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرًا، فيموت في أثناء المدة؛ أو يستأجر جمالاً أو حميرًا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان المستأجر قد تسلَّم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلُّم، لأن ذلك تلف بعد القبض، فأشبهَ ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري، فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول: إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بُدُوّ صلاحه إذا تلف بعد قبض المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد في أقوى الروايات.
ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه.
ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه (1) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو بعتَ من أخيك تمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأخذ مالَ أخيك بغير حق؟ ".
__________
(1) برقم (1554) .(1/231)
وفي رواية لمسلم (1) : أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح.
فإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثمرة التالفة من ضمان البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئًا من الثمن، وبين أنه أكل مالاً بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عينٌ موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعدُ ولا يمكن المستأجر من استيفاء شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر، والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى.
وأيضًا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلومٌ أنه لم يتمكن من استيفائها، وطرد ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع، فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف.
فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضًا حكميا، فقبض العين بدليل جواز التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة.
قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد
__________
(1) برقم (1554/17) .(1/232)
فيها أربع روايات (1) :
إحداها: لا يجوز بحالٍ، بناءً على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان، والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم.
والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلاّ إذا جدّد فيها عمارة، فإن فعل تصدَّق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة.
والثالثة: لا يجوز إلاّ بإذن المؤجر.
والرابعة: يجوز مطلقًا، كقول الشافعي وكثير من العلماء.
وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها، وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يُوجِب أن يتلف من ضمان المشتري والمستأجر.
والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سَقْي الثمرة إلى كمال صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على البائع تمام التوفية عُلِم أنه لم يوجد كمال القبض.
وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام التسليم المستحق بالعقد. فعُلِم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء.
__________
(1) انظر: "المغني" (8/56) .(1/233)
وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان بتمكنه، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئًا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد.
وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خُلِّي بينه وبينها كان متمكنًا من قبضها والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب.
ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنصّ، وأما جواز التصرف فيها ففيه نزاع، وحينئذِ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت بالنصّ لا يجوز دفعه بغير نصِّ يعارضه، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ أنه قال: "من ابتاع طعامًا فلا يَبعْه حتى يستوفيه" (1) . وثبت عنه أنه قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرةً، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (2) . فيجب العمل بالحديثين، فإن كان القبض
__________
(1) أخرجه البخاري (2126،2133،2136) ومسلم (1526) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (2132،2135) ومسلم (1525) من حديث ابن عباس نحوه.
(2) سبق تخريجه قريبًا.(1/234)
المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجودٌ هنا، والسنة دلت على أن ضمان المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونًا عليه من بعض الوجوه مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيعَ ما يكون مضمونًا على البائع من بعض الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانًا، وتمكن المشتري من قبضه ولم يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه.
وكذلك إذا اشترى صُبْرةَ طعام جزافًا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح (2) عن ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتاعون جزَافًا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم". وفي لفظ (3) : "كنا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبلَ أن نبيعَه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، فالموجب
__________
(1) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب البيوع: باب 57، ووصله الدارقطني في "سننه" (3/54) . وانظر "فتح الباري" (4/352) . ولم يروه مسلم.
(2) البخاري (2137) .
(3) لمسلم (1527) .(1/235)
للضمان تمكُّن المشتري من القبض المقصود بالعقد، سواءً قبض أو لم يقبض، فإذا لم يكمل الصلاح لم يتمكن من القبض المقصود بالعقد.
وكذلك إذا تلفت العين المؤجرة، وإذا اشترى عبدًا وقدر على أخذِه، فقد تمكن من القبض المقصود بالعقد، وأما بيعه فيعتمد القبض الممكن، فإذا قبض الشجرة والعين المؤجرة فقد قبضها القبض الممكن، وإذا لم ينقل الصبرة لم يقبضها القبض الممكن. وهذا لأن ما أمكن فيه كمال القبض كالصبرة يمكن أن يوقف البيع على كمال القبض فيها، ومالم يمكن فيه ذلك كالثمر والمنفعة، فإنه قد جاز بيعها قبل وجودها للحاجة، فكذلك يجوز بيعها بعد القبض الممكن فيها للحاجة أيضًا، لأن الشارع يعتبر الشروط بحسب الإمكان. إلاّ ترى أنه فهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، إذ لا حاجة إلى بيعها في هذه الحال، وهو بيع غرر قد يُفضي إلى أكل المال بالباطل، وأما بعد بدو الصلاح فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال، إذ تأخير البيع إلى كمال الصلاح متعذر، فإنه حينئذٍ قد تتلف وتفسد هي أو بعضها قبل أن تشترى. وما فيه من الخطر جبره الشارع بوضع الجائحة.
وليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع، بل هذا قول طائفة من الفقهاء، وخالفهم آخرون، فهو مورد نزاع لم يدل عليه نصٌّ ولا قياس صحيح، بل الشارع منع من البيع حيث يكون فيه مفسدة ولا حاجة إليه، وأباحه حيث يحتاج إليه، وأزال ما فيه من المفسدة بما شرعه من الضمان.
والطعام المنقول يمكن تأخير بيعه إلى حين نقلِه، بخلاف الثمر على الشجر والمنفعة في الإجارة، كما أن الثمرة يمكن تأخير بيعها إلى بدو صلاحها، بخلاف تأخيره بعد بدو الصلاح. ولهذا كان الصحيح(1/236)
جواز بيع المقاثي، وأنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمر البستان بيع ذلك النوع، بل بيع ذلك الجنس، بل بيع جميع الأجناس التي في البستان، إذا كان بيع بعض الأجناس دون بعض من البستان الواحد فيه ضرر، كما في تأخير بيع الثمر بعد بدو الصلاح. والبيع الذي يحتاج الناس إليه لم تحرمه الشارع، بل أوجب فيه وضع الجوائح، وإنما نهى عما لا يحتاج إليه.
فصل
ولو اكترى أرضًا للزرع فزرعَها، ثمَّ أصابَها غَرَق أو آفة من غير الشرب، فلم تُنبت، فالمنقول عن أحمد أنه يلزمه الكرى، بخلاف ما لو غرقت في وقت زرعها، فلم يمكنه الزراعة، فإنه لا يلزمه الأجرة، لتعذر التسليم، وهكذا نُقِل عن مالك.
وقد فرَّق الأصحاب بين هذه الصورة وبين صورة انقطاع الماء بأنه هناك تعطلت المنفعة المستحقه بالعقد، وهنا تلف مال المستأجر، فأشبهَ مالو تلف ماله في الدار المؤجرة، فإن المؤجر لا يضمن ما تلف للمستأجر في العين المؤجرة، كما لو سرق ماله الذي على الدابة المكتراة.
ولم أقف بعدُ على لفظِ أحمد في هذه المسألة، وقياسُ نصوصِه وأصوله بل وأصول غيره: أنه إذا أصابتِ العينَ آفة عَطَّلَتْ منفعَتَها انفسختِ الإجارة فيما بقي، كما إذا تعطلت بالانهدام وانقطاع الماء والموت، فإنه إذا أصابَ الأرضَ غرق تعذر معه نباتُ الأرض فقد تعطَّلَ نفعُها، وكذلك لو أصابها حريق أو ركبها جراد يمتنع معه نباتُ الزرع فقد تعطَل نفعُها، كما تعطّل بغير ذلك، ولكن لا يضمن المؤجر(1/237)
الزرع التالف، ولا توضع الجائحة عن المستأجر فيما تَلِفَ من زرعه، كما توضع عن المشتري، لأن المؤجر لم يبعه الزرعَ، وإنما باعه منفعتَه.
ونظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر، فإن المؤجر وإن لم يضمن متاعه فإنه لا أجرة له من حين تعطلت المنفعة، وكذلك لو تلفت الحمولة وما عليها بأمر سماوي، فإنه لا يضمن المؤجر ما عليها، ولكن تبطل الإجارة من حينئذٍ، فكذلك الأرض إذا أصابتها آفة سماوية أفسدتِ الزرعَ وعطلتِ المنفعة لم يكن على المؤجر ضمان الزرع، ولم تبطل الإجارة إذا تعطلت المنفعة، والمنفعة المقصودة ليست مجرد وضع البذر فيها، بل المقصود أن ينبت الزرع فيها ويكمل نباته إلى حين الحصاد، وإذا نبت وغرقت الأرض فهو كما إذا نبت وانقطع الماء، وهو في انقطاع الماء لا يضمن زرع المستأجر، كذلك في الغرق. وهذا بخلاف ما إذا باعه ثمرة على البائع سقيها، فإنه هنا إذا تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع، بل وكذلك إذا تلفت بغير العطش، لأن البائع باعه ثمرةً، فتلفُ الثمرة كتلف المنفعة. وأما تلف الزرع الثابت للمستأجر فهو كتلف متاع المستأجر الذي في الدار، فأين هذا من هذا؟
فمن قال: إن المؤجر لا يضمن الزرع فقد أصاب، ومن قال: إنه لا يجب على المستأجر أجرة المنفعة المتعطلة فقد أخطأ.
ونظير هذا ضامن البستان إن كان اشترى ثمرةً، فإذا تلفت بالعطش فهي في ضمانه في مذهب الشافعي، كما هو في مذهب مالك وأحمد، وإن تلفت بآفة سماوية فهي مسألة وضع الجوائح. وأما إذا كان الضامن مستأجرًا ضمنها على أنه يخدمها ويسقيها، فهذا مستأجر متى تلفت(1/238)
الثمرة بالعطش أو غيره فهو كتلف الزرع لا يضمنه المؤجر، لكن إن تعطلت المنفعة سقط من الأجرة بقدر ما تعطل منها. وذلك أن الثمرة قد تكون تساوي جملة، والزرع حصل بعمل المستأجر، وقد يساوي ذلك أكثر من الأجرة، فلا يجب على المؤجر إلاّ ضمان الأجرة فقط، فإذا تعطلت المنفعة بآفة سماوية سقطت الأجرة، وما تلف مع ذلك للمستأجر من ثمرٍ وزرع فهو من ضمانه، لا من ضمان المؤجر.
هذا هو الواجب في هذا ونظائره، ومن تدبَّره وتدبَّر نظائره وأصولَ الشرع عَلِمَ أن هذا مما لا يُنازع فيه من فهمه، وإنما وقعت الشبهة حيث قد يظن الظان، أنه توضع الجوائح في الإجارة، كما توضع في البيع، بمعنى أن المؤجر يضمن ما تلف من زرع المستأجر، كما يضمن ما تلف من الثمرة المبيعة، وهذا خطأ. نعم لو باعه زرعًا، فتلف بآفةٍ سماوية، فإنه توضع الجائحة فيه في أحد الوجهين في مذهب أحمد ومالك، كما يوضع في الثمرة، وفي الآخر لا يوضع، قالوا: لأن الزرع إنما يباع بعد كمال صلاحه، فلا يحتاج إلى وضع الجائحة فيه.
فصل.
وأما إذا نقصت المنفعة، مثل نقص الماء المعتاد عن السماء وعن الأرض، بحيث ينتفع به نصف المنفعة المستحقة أو أقل أو أكثر، فكلام أحمد وأصوله تقتضي أنه يحطّ عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فإنه قال: يُحطُّ عنه من الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. ولو تغيبت المنفعة أو كانت معيبة، فقياس مذهبه أن للمستأجر المطالبةَ بالأرش مع الإمساك، كما يقول ذلك في البيع وأولى، لاسيما وعنه في ممسك المصراة هل له المطالبة بالأرش(1/239)
روايتان. ومن أصحابه من قال: ليس له الإمساك إلاّ بكل الأجرة، وضعف هذا على أصل أحمد ظاهر بين. وإنما الكلام إذا قلنا: إنه ليس للبائع إلاّ المطالبة بالأرش مع إمكان الرد.
فنظير هذه المسألة في الإجارة أن تَظهر العينُ المؤجرةُ مَعِيبةً في استيفاء شيء من المنفعة، فهذه الصورة كالبيع، وأما إذا كان قد ازدرع الأرض، ثم عابت في أثناء المدة، ونَقَصتْ منفعتُها، فهنا لا عليه ردّ جميع المنفعة، بل غايته الفسخ في المستقبل. وإذا فسخ في المستقبل كان له إبقاء زرعه بأجرة المثل، ومعلوم أن إبقاءه بقسطه من الأجرة أولى. كما نقول: إذا تعطلت المنفعة في أثناء المدة أنه ينفسخ الإجارة فيما بقي من المدة، ويجب للماضي قسطه من الأجرة. هذا مذهب مالك وأحمد والشافعي، وجعل بعض أصحابه له قولاً بالانفساخ في الجميع، ووجوب أجرة المثل للماضي، كالهلاك الطارئ في بعض المبيع، ومعلوم أْن المستأجر إذا كان له زرع في الأرض لم يمكنه إذا فسخ ردّ المنفعة، بل له إبقاؤه بأجرة المثل، فإبقاؤه بقسطه من المسمى مع أنه يحطّ عنه قسط ما نقص من المنفعة أولى. فعيب المنفعة في الإجارة إن كانت قبل تسلُّم شيء من المنفعة فهذا كالبيع، وإن كانت بعد استيفاء شيء من المنفعة فلها صورتان:
إحداهما: أن يتعذر ردُّ العين المؤجرة لما له فيها من الزرع ونحو ذلك.
والثانية: أنه يمكن ردّ العين، كالدار المعيبة والطاحون والحانوت.
فهنا يتوجه قول من يقول: ليس له إلاّ الفسخ، أو الإمساك بالأجرة كلها، إذا قلنا بمثل ذلك في البيع. ويتوجه أن يقال: بل هنا يُحَط عنه من الأجرة، وإن قلنا: ليس له في البيع أن يمسك بالأرش مع(1/240)
إمكان الردّ، لأنه قد استوفى بعض المنفعة، وتلف بعضها، فهو كما لو اشترى أعيانا، فتلف بعضها قبل التمكن من القبض، فإنّه يُحط عنه من الثمن بقدر قسط التالف قبل التمكن من القبض، كما لو تلف بعض الثمرة في الجوائح، وكان أكثر من الثلث، فإنه يحطّ عنه من الثمن بقدر التالف بلا نزاع عند من يقول بوضع الجوائح، فتَلَفُ بعض المنفعة كتَلَفِ بعض الثمرة، ومعلومٌ أن انقطاعَ بعضِ الماء أو تعطُّلَ بعضِ الأرض ذَهابُ بعض المنفعةِ.
(آخر ما كتب فيها، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
علَّقها لنفسه أحوج الخلق إلى رحمة الله محمد بن أبي شامة الحنبلي، عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين) .
***(1/241)
فصل في الطلاقِ، وتقسيمِه إلى سنّي وبدعيّ، وبيانِ أن الطلاقَ البدعيَّ لا يقع
من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه(1/243)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ونقلتُه من خطّه.
فصل
الطلاق منقسم إلى طلاقِ سنَّة مأذونٍ فيه، وطلاقِ بدعةٍ منهي عنه بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناسُ في الطلاقِ المحرَّم المنهيِّ عنه هل يَقعُ أم لا.
واتفقوا على أنَّ الطلاقَ السنّي المباح أن يُطلِّقَ واحدةً في طُهر لم يُصِبْها فيه، وكذلك إذا طلَّقها حاملاً قد تبيَّنَ حملُها، فهذا وهذا جائز بالنصّ والإجماع، ولكن هل يُسمَّى طلاقُ الحاملِ طلاقَ سنةٍ، أو لا يُسمَّى سنّةً إلاّ طلاقُ من تحِيضُ؟ فيه قولانِ، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي لم تَحِضْ والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت.
وأما العدد ففيه نزاعٌ مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يَحِل له أن يُطلِّقَ إلاّ طلقةً واحدة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر مذهب أحمد الذي رجع إليه - وهو اختيار أكثر أصحابه - بعدَ أن كان يُجوِّزُ الثلاثَ، كما هو قول الشافعي، وهو اختيار الخِرَقي، وقد بُسِطَ الكلامُ على هذه المسائل في مواضع (1) .
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/8 وما بعدها،33/72 وما بعدها،33/81 وما بعدها) .(1/245)
والذي تَبينَ دلالةُ الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أنَّ الطلاق المحرَّم لا يَلْزَم كما لا يَلْزَم سائِرُ العقود التي تَنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحقِّ الله، كالنكاحِ في العدّة وبيع الخمر ونحوِها من المحرَّمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيعِ المَعِيْب المدلس، وبيع المصرَّاةِ، وتلقي الجلَب والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا أيضًا العقدَ غير لازم، لكن المظلوم يُخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوفٌ على رِضاه، وقد أعطى النهيَ حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يَحصُلُ بتمكينه من الفسخ، وإذا عَلِم أنه مظلومٌ ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقدِ مع علمِه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع.
وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس مَن جعلَ النهي الذي لحقِّ آدمي يَقتضي فسادَ العقدِ أيضًا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المَعِيْب المدلس، فلما أُورِدَ عليه المصرَّاة سكتَ ولم يُجبْ.
ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا مُوجبَه من فسادِ لزوم العقد، فإن العقد لا يقع لازمًا كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملاً بالنصوص كلِّها وبالإجماع، مع طَرْدِ القاعدة.
وأما من زَعَم أن النهي هنا يقتضي بُطلانَ العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالفٌ للنصّ والأجماع، وهو قولُ من لم يَعرِفْ مقصودَ النهي، وهو إزالةُ الفساد بحسب الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إنّ النهي لا يقتضي الفساد أصلاً (1) ، ويَحتجُّ بصُوَرٍ متنازعٍ فيها، كطلاق
__________
(1) انظر لمعرفة مذاهب العلماء في هذا الباب: "تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" للعلائي ص299 وما بعدها.(1/246)
الحائض، والصلاة في الدار المغصوبة، إذْ ليس معهم صورةٌ منهيٌّ عنها مع أنها صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماعٍ، بل كل ما يُذْكَرُ في ذلك فهو من صُوَر النزاع، ولا نصَّ في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفًا عن أحدٍ من السلف والأئمة، كما لم يُعرَف ذلك عن أحدٍ من السلف والأئمة، وإنما قاله طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن تَبعَهم، وقال هؤلاء: إن فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وإنما يتَلَقَّى من خطاب الإخبار بقوله: إنّ هذا صحيح أو فاسد، أو جَعْلِه الشيءَ شرطًا ومانعًا وركنًا، فيفسد العبادة أو العقد، لفواتِ شرطِه أو رُكنِه أو لوجودِ مانعِه.
وهذا كلامُ قومٍ ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما يتكلمون في مقدّراتٍ مفروضةٍ في الأذهان، لا وجودَ لها في الأعيان، فإن هذا الذي زعموا أنه هو الذي يُستدلُّ به على صحةِ العقود والعباداتِ وفسادِها، لا يُوجَد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصحّ أو لا تصحّ، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبَّروا عن ذلك بعباراتهم، ثمَّ قد يكون ما عبَّروا به عن كلام الشارع حقًّا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع.
وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أهل الاجتهاد فإنهم يحتجون به على فساد العبادات والعقود بالنهي عنها، كما يُفسِدون نكاح الأمهات والأخوات وغيرهما من المحرمات.
ولهذا لما أفتى ابن مسعود رجلاً في تزوج بنت امرأته التي لم يدخل بها، واعتقد أنها كالربيبة، ثمَّ قَدِمَ المدينةَ، فسأل عمر وغيره من(1/247)
الصحابة، فقالوا له: الشرط في الربائب دون الأمهات. فرجعَ ابن مسعود، فأمرَ الذي كان أفتاه أن يفارقَ امرأتَه، لما علم أن هذا مما تناولته آية التحريم، وهو قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) (1) ، علم أن هذا العقد فاسد.
وكذلك سائر الصحابة والعلماء متفقون على الاستدلال على فساد هذه العقود بالنهي، وهذا في العبادات أظهر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنّ الذين قالوا: إنّ الطلاق المحرَّم يقعُ، قد احتجّ بعضهم بقوله تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2) . قالوا: والمراد لا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد، فدلّ ذلك على أنه طلّقها بعد أن أصابها، وإلاّ فلو طلَّقها في طهرٍ لم يصبها فيه لم يكن حاملاً، ولو طلّقها وقد استبان حملُها لم يمكنها كتمانُ الحمل.
وهذه الحجة مما يعتمد عليها من يراها حجة قوية، وسنبيّن إن شاء الله أن هذه الآيةَ حجةٌ عليهم لا لهم، وممن ذكر ذلك أبو علي الجبَّائي في تفسيره، فقال بعد أن نَصرَ أنّ الأقراءَ هي الحيض: وقد دلَّت هذه الآية على أن الطلاق قد يَلزَم لغير السنة، وذلك أنّ المطلِّق للسنة هو من طلَّق امرأته وهي طاهر من غير جماع، أو طلَّقها بعد أن تبيَّن الحملُ بها، والمطلقة إذا كانت طاهرًا من غير جماع لا يجوز أن
__________
(1) سورة النساء: 23.
(2) سورة البقرة: 228.(1/248)
يظهر بها الحبل، فيحرم كتمانُه، والتي قد ظهر بها الحبل لا يجوز أن تكتمه وتبينه من نفسها بعد الطلاق، وإن يكتم ذلك زوجها الذي طلقها علمنا أن هذه المطلقة الكاتمة لحبلها كانت طلقت بعدما جُومعت في الطهر من غير أن يتبين بها حَبَلٌ. وإذا كانت كذلك لم تكن في وقت سنة، وقد لزمها الطلاق مع ذلك بنصّ القرآن.
قال: وهذا يدلُّ على بطلانِ مذهب الرافضة في قولهم: إنّ الطلاق لا يلزم إلاّ للسنة.
فإن قيل: قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) قد يكون هو الحيض.
قيل: إن الحيض لا يكون حيضًا وهو في الرحم، ولا يكون حيضًا حتى يخرج عن الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهنّ الله أن لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عنى بذلك إلاّ الحبل.
قلت: فقد فسَّر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة الحيض، لأنه إنما يكون حيضًا إذا كان ظاهرًا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه حجة ضعيفة، والسلف قد أطلقَ بعضُهم القولَ بأنه الولد، وأطلق بعضهم القولَ بأنه الحيض، وبعضُهم ذكر النوعين جميعًا (1) ، وهو الصواب، فإن لفظَ الآية يَعمُّ هذا وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مرادُه التمثيلَ لا الحصرَ، فإن مثل هذا كثير فاشٍ في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من ذِكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصَها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجمَ بعض الألفاظ وعينَ مسماها، فإذا قال له
__________
(1) انظر: "زاد المسير" (1/261) والقرطبي (3/218) .(1/249)
الأعجمي: ما الخبزُ؟ أخذَ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطِه موضع آخر (1) .
وأما الاحتجاج بقوله: (فِي أَرْحَامِهِنَّ) فيقال: هو سبحانه قال:
(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) ، فالظرف متعلق بقوله (خَلَقَ) ، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانُه، وكتمانُه إخفاؤه عن غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا ولدتْه، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تُخبر بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقًا، لم يخص النهي بوقت وجودِه في الرحم، لاسيّما وهو إذا فسَّره بالولد، فولدتْه وكتمتْه، لم يقل إنها ولدت، لئلا يظن أنّ عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرمًا، وكانت منهيةً عن ذلك. ولو قيل: الرجلُ يكتُم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان كإمساكِه، وإن خلَع ثيابه حيثُ لا يُرى، وإن أخرج ما في المنديل حيثُ لا يُرى، فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في الآية ليس معلَّقا بالكتمان، والمنهيُّ عنه الكتمان مطلقًا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (2) ، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) (3) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
__________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/333 وما بعدها) .
(2) سورة البقرة: 283.
(3) سورة البقرة: 140.(1/250)
فِي الْكِتَابِ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سُئِل عن علمٍ يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2) .
فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبُها، ولم يُظهرها حيث ينتفع بأدائها، كان كاتمًا لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأةُ على كتمان الحيض أقدرُ منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملاً انتفخَ بَطْنُها، وعَرفَ حملَها كثير من الناس، ثمَّ إذا ولدتْه فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن دمَها قد يَسِيْل ويَخْرجُ ولا يَعلم بذلك أحد، فتكون دلالةُ الآية على النهي عن كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر.
فصل
وأما كون الآية حجةً على نقيضِ ما ذكروه فهو قولُ من قال: إن الطلاق إنما هو الطلاق الشرعي الذي أذن الله فيه وملكه للإنسان، وأما مالم يأذن فيه فإنه لم يملكه للإنسان، كما لم يملكه الطلاقَ بعد انقضاء العدة، ولا طلاقَ غيرِ المدخولِ بها إذا أبانَها بواحدةٍ، ثمّ أراد أن يطلّقها تَمام الثلاث، وكذلك البائن بالخلع عند أكثر السلف والخلف لم يُمَلّكْه طلاقَها، ولم يُملكه طلاقَ الأجنبية. وإذا كان الإنسان ليس له طلاق إلاّ فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، كما جاء في الحديث (3) ،
__________
(1) سورة البقرة: 159.
(2) أخرجه أبو داود (3658) والترمذي (2649) وابن ماجه (261) وأحمد (2/263) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة. وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. وللحديث طرق أخرى وشواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.
(3) أخرجه أحمد (2/185،189،190،207،215) وأبو داود (2190،2191، 2192، 3273) والترمذي (1181) والنسائي (7/288) وابن ماجه (2047، 2111) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن.(1/251)
فطلاقه لواحدةٍ من هؤلاء طلاق باطل، إذ كان الله لم يملكه إياه.
وكذلك طلاق الحائض والموطوءة التي تبيَّن حملُها لم يملكه الله طلاقَها، فإنه لم يأذن في ذلك ولم يُبحْه، بل نهى عنه، وما نهى عنه العبد من نكاح وطلاق وعتق وبيع فَإنه لم يملكه ذلك، فتصرفه فيه تصرُّف في غير ملكٍ، ولو سمّي ملكًا فهو محجور عليه فيه منهي عنه، وتصرُّفُ المحجورِ عليه فيما حُجِر عليه فيه لا يجوز، فتصرُّفُ من حَجرَ الله ورسولُه عليه أولى أن لا يصحَّ، لاسيما وهو سفيه حيث خالف أمرَ الله ورسوله، وفعلَ ما نهى عنه، وهم يسلمون أن الوكيل في الطلاق لا يملك إلاّ ما أذن له فيه، ولو طلق غير ذلك لم يقع، بل هو محجور عليه فيه، فما لم يأذن الله فيه وحجر على صاحبه فيه أولى أن لا يقع. والله تعالى قد نهاه عن الطلاق إلاّ في العدَّة، كما نهاه عن النكاح في العدة، ولو تزوج في العدة لم يصح بالاتفاق، فكذلك إذا طلق لغير العدة، فإن الذي حرَّم هذا حرَّم هذا، والحكم إنما استفيد من تحريمه، ليس في كلامه يصح أو لا يصح، أو يُشترط أو لا يشترط، بل الدلالة في كلامه على هذا من جنس الدلالة في كلامه على هذا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا بيان دلالة الآية على نقيض ما استدلوا عليه، فنقول: قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1) إنما يتناول من كانت عدتها الأقراء، لا يتناول الحامل، فان الحامل لا تتربص ثلاثة قروء، بل عدتها كما قال تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2) .
وإذا كانت المرأة حاملاً لم تتربص ثلاثة قروء، ولكن ربما ظنت أن
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة الطلاق: 4.(1/252)
عدتها القروء، ثم يتبين أنها حامل، كما أنه ربما ظنت أن أجلها وضع الحمل، ثئمَ يتبين أنها حامل. وحينئذٍ فالنساء ثلاثة أقسام.
أما المطلقة طلاقَ السنة التي طُلِّقتْ في طهر لم يُصِبها فيه فالظاهر من هذه أنها ليست حاملاً، والتي استبان حملها ظاهرُ أمرِها أنها حامل، والتي وطئها ولم يعلم أحَملتْ أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتُها القروء أو وضع الحمل. والأولى طلاقُها جائز بالاتفاق، والثانية أيضًا طلاقُها جائز بالاتفاق، وهذه الثالثة لا يجوز طلاقُها، لأنه يحتمل أن تكون عدتُها القروء، ويحتمل أن تكون عدّتُها الحمل.
والله إنما أباحَ الطلاقَ للعدَّة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلَّقة وقد استبانَ حملُها. وإذا كان كذلك فالآيةُ تضمنتْ أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر لا يكون إلاّ لمن طُلِّقتْ بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملُها فلا تُؤمَرُ بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقُها جائزًا لم تُؤمر بذلك، بل يقال لها: انظري، فإن كنتِ حاملاً فعدَّتكِ الحملُ، وإن كنتِ حائلاً فعدَّتُكِ القروء. فلما كان الله تعالى أمرَ المطلَّقاتِ بتربُّص ثلاثة قروء، وأمرُه لم يتناولْ هذه المشكوك فيها، لم تدخلْ في الآية. فتبين بذلك بطلانُ قولهم إنّ الآية تناولَتْها.
ثمَّ نقول: إذا كان في هذه الآية أمرُ كل مطلَّقةٍ بعد الدخول بتربُّصِ ثلاثةِ قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلُها وضع الحمل، وهذه لا تُؤمر عَقِبَ الطلاقِ لا بهذا ولا بهذا، عُلِمَ أنها ليست مطلقة، فدلَّ على أنه لا طلاقَ لها.
ومما يُوضِّح هذا أن الآية أمرت المطلقاتِ بتربصِ ثلاثة قروء،(1/253)
وذلك من حين الطلاقِ، فهي من حين الطلاق تتربَّصُ، وهذه لو كانت مطلَّقةً لم تُؤمر بتربُّص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعُلِمَ أنها ليست مطلقة.
ومما يُوضِّح ذلك أن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) إمّا أن يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثمَّ استُثْنِيَتْ ذاتُ الحمل، كما قال ذلك طائفة؛ وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذاتِ الحمل لم تتناولْ لغيرهن، فإنّ القرآن قد بَيَّن أن غير المدخولِ بها لا عِدَّةَ عليها بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (1) . ولهذا قال من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم.
وقد يقال: الآية لم تَشمل غيرَ المدخولِ بها، فإنه قد قال في سياقها: () وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2) ، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة. وقال أيضًا: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (3) ، وهذا مختص بالمدخول بها، فغير المدخول بها يَرجِعُ إليه نصفُ مَهرِها الذي أعطاها، بقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) (4) . ولأن قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (5) يتناول الحيضَ والولدَ. ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد.
__________
(1) سورة الأحزاب: 49.
(2) سورة البقرة: 228.
(3) سورة البقرة: 229.
(4) سورة البقرة: 237.
(5) سورة البقرة: 228.(1/254)
فإن قيل: قد يكون الضميرُ في آخرِها أخصَّ منه في أوَّلها، كما قالوا: إن قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) يَعُمُّ البائناتِ والرجعياتِ، وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) يختصُّ بالرجعيات. وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة (1) .
قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقاتِ فيهن بانتْ بعد الدخول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، ثمَّ رجعَ أحمد عن هذا، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيًا. وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرَّم، وقد بينه بعد هذا بقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2) ، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي.
وهذه الآية وأمثالُها مما يُستدلُّ به على أنّ الطلاق بعد الدخول لا يكون إلاّ رجعيًا، ولهذا يذكر اللهُ فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما يَدُلُّ على أنّ الخلع ليس بطلاقٍ (3) ، لأنه لا رجعةَ فيه، فإن الله سماه افتداءً، ولهذا كان لا رجعةَ فيه عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس وغيرهما - أنها تُستبرأ منه بحيضةٍ، فلا تتربصُ ثلاثةَ قروء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخًا لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية،
__________
(1) انظر "الإحكام" للآمدي (2/336) وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/153) و"تيسير التحرير" (1/320) و"شرح الكوكب المنير" (3/390-391) .
(2) سورة البقرة: 229.
(3) انظر "مجموع الفتاوى" (32/289-313،321-344،33/9-10) .(1/255)
وهي ثلاثة: تربصُ ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعةَ، وأنه مرَّتانِ، ثلاثتُها منفيةٌ في الخلع، لأنه افتداءٌ افتدتْ به المرأةُ نفسَها من زوجها كما يَفتدِي الأسيرُ، فقد اشترتْ ذلك وعاوضتْ عليه. وقد يُشبه بالإقالةِ أيضَا، ولهذا قال من قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة.
وإذا قيل: هو فسخٌ، فهل يصحُّ مع الأجنبي؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد.
أحدهما: لا يَصحُّ، فإنه حينئذٍ يكون كالإقالة، والإقالةُ لا تكون مع الأجنبي. وهذا قول أبي المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد.
والثاني: يَصحُّ مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه كافتداء الأسير، ويجوز بَذْلُ الأجنبيِّ العوضَ في افتداء الأسير. وبسطُ هذا له موضع آخر (1) .
والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرَا تامَّا تبينَ له اشتمالُه على بيان الأحكام، وأنَّ فيه من العلم مالا يُدرِكه أكثرُ الناس، وأنِّه يُبيّن المشكلاتِ ويَفصِل النزاع بكمالِ دلالتِه وبيانِه إذا أُعطِيَ حقَّه، ولم تُحرَّفْ كَلِمُهُ عن مواضعه.
فقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصٌّ في أنَّ المرادَ ذاتُ الأقراء. وقد تنازعَ الناسُ هل يعمُّ لفظُها لذواتِ الحمل والمتوفى عنها، ثمَّ قد خُصَّ منها ذلك؟ أو لا يَعُمُّ لفظُها لهؤلاءِ؟
__________
(1) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/91-92،307) .(1/256)
على قولين (1) . والأول قاله بعضُ أهلِ التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، وكما رُوِي عن الضحاك أيضًا، وهو شيخُ مقاتل. قالوا: إنّ اللهَ استثنى من هذه الآية من لم يُدخَلْ بها، واستثنى منها ذواتِ الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة.
فأما استثناءُ من لم يُدخل [بها] (2) فقد قاله غيرُ هؤلاء، ورواه أبو داود في سننه (3) عن ابن عباس، وتقدم القول فيه.
وأما استثناءُ هؤلاءِ وإخراجُهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم تشمل هؤلاء:
أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هي الحيض التي يكون فيها طُهر، فلابدّ أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويَمتنع أن يقال لمن لا قروءَ لها: تتربَّصُ ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك.
ولم يقل أحدٌ: إنه استُثنِيَ منها المتوفى عنها، فإنّ لفظ المطلقات لا يتناول من ماتَ عنها زوجُها.
وأما أولاتُ الأحمال فنقول: لو شَمِلَها اللفظُ لكانت تحتاج أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء بعدَ وضع الحمل وانقضاءِ النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا تَرَى دمًا، وقد تراهُ نادرًا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيضٌ نزاع أنه لا تَقضي به العدة، ثمّ إنها ترى النفاس، ثمَّ تتربص ثلاثة قروء، فتبقى في العدة أكثر من
__________
(1) انظر: "زاد المسير" (1/262) والقرطبي (3/112) .
(2) زيادة على الأصل.
(3) برقم (2282) .(1/257)
سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها على ذلك، لأنه قال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، والتربص الانتظار، فجعل مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (1) . والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لمّا قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) كان أمرًا لهن بالتربص من حين طلَّقهن، وإذا وجب عليها من حينِ الطلاق تربصُ ثلاثةِ قروء حينئذ امتنعَ أن يكون بين الطلاق وهذه القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي القروء، فستعقب الطلاقَ لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) عددٌ، فعُلِم أنها لا تتربص زيادة على ذلك.
فهذا وغيرُه مما يُبيّن أنَّ لفظ الآية لم يَشمَل إلاّ المطلقة التي لها قروء عقبَ الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى عنها، وإذا كان كذلك تبيَّن أنها أيضًا لم يتناول من لا تدري أتَعْتَدُّ بالقروء أو بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورةً من حين الطلاق أن تتربَّصَ ثلاثةَ قروء، والآية قد دلَّت على أن المطلقاتِ المذكورات في الآية مأمورات أن تتربَّصَ كل واحدةٍ منهن ثلاثةَ قروءٍ عقبَ الطلاق، فلم تدخل في الآية الحاملُ، ولا من لا يُعرَف هل هي حاملٌ أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملَها الآية على تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملاً أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، فلما لم تَشْمَلها الآية عُلِمَ أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هُنَّ المطلقات المذكورات في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
__________
(1) سورة البقرة: 226.(1/258)
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) ، والطلاق للعدة لا تَدخُلُ فيه هذه، فإنها ليست مطلقة للعدة، فعُلِمَ أنها لا تكون مطلقة.
وأما الجواب عمّا احتجوا به فيقال: الآية سواءً شَمِلَت الولدَ والحيضَ، أو قُدِّرَ أنها مختصّة بالولد، فلا يمتنع أن يطلّق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارةً تكرهُ الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارةً تكتمه لتطول العدةُ فتأخذُ النفقة، وقد تكتُمه لتَنفِيَه عن أبيه، وذلك أنه إذا طلَّقها وقد رأت الطهر، فقد تكون مع ذلك حاملاً، فإن الحاملَ قد ترى الدمَ باتفاق الناس، وهل يكون حيضًا؟ على قولين، والطُهرُ دليل ظاهرٌ على براءةِ الرحم وليس قاطعًا، فقد تكون حاملاً لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلِّقها يَظُنها حائلاً، وتكون حاملاً تكتُم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتُخبِر أنها حاضت وطهرت، ليطلَّقها، رغبةً منها في الطلاق وكراهة التزوج.
وقوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (2) يقتضي تحريمَه في هذه الحال أيضًا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبلَ الطلاقِ أولَى أن يحرم عليها الكتمانُ، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يَعرِف هل هي طاهر فيُباحُ له الطلاق، أم لا؟ وهل هي حاملٌ لئلا يُطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحملَ وزعمت أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه قصدتْ أن تُوقِعَه في طلاقٍ محرم، وأن تُخرِجَ نفسَها من ملكِه بالحيلة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن المنتزعات والمختلعات هنّ المنافقات" (3) ، وقال: "أيما امرأةٍ سألتْ
__________
(1) سورة الطلاق:1.
(2) سورة البقرة: 228.
(3) أخرجه أحمد (2/414) والنسائي (6/168) والبيهقي (7/316) من حديث =(1/259)
زوجَها الطلاقَ في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة" (1) . فإذا كان هذا بسؤالها واختيارِه فكيفَ باحتيالها ومَكْرِها. وهذا مما يَدُلُّ على بطلان الطلاق، فإنّ الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيضِ قصدِها، فلا يَحصُل لها ما طلبته من المكر والخداع المحرَّم. فإذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهر، حتى طلَّقها، ولم تكن طاهرًا بل كانت موطوءةً، ولم يتبين حملُها فهذه لا يقع بها الطلاق، على هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثلُ هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبيَّن أنَّ هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دُون ذاك.
وقد ذكر بعض أهل التفسير (2) أنهن في الجاهلية كنّ يفعلن ذلك، فقال ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبةً في زوجها قالت: أنا حُبلَى، وليست حبلى، لكي يُراجعَها.
وإن كانت حُبلَى وهي كارهة قالت: لستُ بحبلى، لكي لا يَقدِرَ على مراجعتها، أو لكيلا يُراجعَها. فلمّا جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قولُه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (3) .
ثم نزلت: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (4) .
قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يُطلِّقون الموطوءة قبلَ نزول آية
__________
= أبي هريرة. وله شواهد، راجع "السلسلة الصحيحة" (632) .
(1) أخرجه أحمد (5/277،283) وأبو داود (2226) والترمذي (1187) وابن ماجه (2055) من حديث ثوبان.
(2) انظر تفسير القرطبي (3/118) و"الدر المنثور" (1/275-276) .
(3) سورة الطلاق:1.
(4) سورة البقرة: 228.(1/260)
الطلاق، وحينئذٍ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لستُ حبلى، فلا يُراجعُها. فلمَّا أنزل الله آيةَ الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرًا أو حاملاً قد تبين حملُها، وأنزلَ آية البقرة، فصارَ الطلاقُ وهي طاهر، والغالب أنها لا تكون حُبلَى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية.
وقد ذكر بعضُ أهلِ التفسير أنهم كانوا يُراجعون الحاملَ بعد الطلاقِ الثلاث، وأنّ الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) يعني من الولد، (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني أزواجهن أحقُّ بردّهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ثم نزلت: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في الحبل بعدما طلَّقها ثلاثًا معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسَّر الآياتِ إلى قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يعني ما بُيِّن من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)) . فمن طلق امرأته ثلاثًا وهي حُبلَى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه.
وفي تفسير عاصم بن سليمان الكُوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا طلق امرأتَه ثلاثًا وهي حاملٌ أو غيرُ حاملٍ، فهو أحقُّ برجعتها ما دامت حاملاً. ثمَّ نزلت في امرأةِ رجلٍ لم يعلم بحملها، فطلَّقها زوجُها، ولم تُخبِره المرأة بحملها. فذلك قوله: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) إذا تراجعا ما بينهما، ثمَّ نسخَتْ هذه الآية التي بعدها، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) يقول: بحسن(1/261)
الصحبة، إلى أن قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) التطليقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حاملاً كانت أو غيرَ حاملٍ.
قلتُ: أما كونُ الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عددٍ، يُطلِّق الرجلُ المرأةَ ما شاءَ ثمَّ يراجعُها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء، ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها.
ولم يكن في الجاهلية عِدَّة ولا عدد للطلاق، وأنزلَ الله العدَّةَ أولاً، فكان الرجل المضارّ يُطلِّقها، حتى إذا لم يَبقَ من العدّة إلاّ قليلٌ راجعَها، ثمَّ يُطلِّقها، فتَستأنِفُ العدة، فيُمهِلها، حتى إذا بقي منها قليلٌ طلَّقها، ثمَّ كذلك يفعل، حتى يبقَى دائمًا يُطلّقها ثمَّ يراجعها، فأنزل الله الثلاثَ. وكان له أن يرتجعَها بعد الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواءً كانت العدة حملاً أو قروءًا، كما ذكر هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أُمِرُوا بالطلاقِ للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من ثلاث أمكنَه تطويلُ العدَّةِ وإضرارُها وإنْ طلَّقها للعدَّة، ولكن لمّا قُصِروا على الثلاث أُمِروا أن لا يطلقوا إلاّ للعدة، لتكون العدة عَقِبَ الطلاق، فلا يقع ضررٌ أصلاً.
وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبُغضِها للرجل، وتارة لئلاّ يُراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارةً لحبّها له، ليمسكها، وأنّ رجلاً طلق امرأته ولم تُعلِمْه أنها حاملٌ، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم الحمل حين الطلاق.
وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة تتمكَّنُ من كتمان الحمل تارةً وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارةً، لهواها في الحالين. فلمّا صار الطلاق(1/262)
ثلاثًا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأُمِرَ أن لا يُطلِّقها حتى يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملاً كانت عدتها الحمل، وأَقْدَمَ على علمٍ فلا يندمُ، ولا تَغُرُّه وتكتُمه وتكذِبُ عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملاً، لكونها في طهرٍ لم يصبها فيه، كان كذلك، وما بقي الكذب الذي يضرُّه يمكنها إلاّ في صُوَرٍ نادرةٍ، إذا طَهُرت ثمَّ تبيَّن أنها حامل، أو فيما إذا كتمتِ الحمل أولاً وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يُمكنُها الخِداعُ على قول من يُوقع الطلاق. ومَن لا يُوقع إلاّ طلاقَ السنة يقول: إذا تبيَّن أنها كانت حاملاً ولم يعلم، لم يَقع الطلاقُ، فإنها لم تكن طاهرًا، ولا كان ذلك دَمَ حيضٍ.
وأيضًا فقد يكون مرادُهم أنّ هذه الآية - آية القروء - نزلت قبلَ الأمر بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضًا وموطوءةً، وحينئذٍ فقد تكون حاملاً وتكتم الزوجَ ذلك، أو حائلاً وتكتم ذلك، فكان النهي عن الكتمان في تلك الحال عامًّا. ثمّ إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونُهِيَ الرجلُ أن يُطلّق امرأة بمرة إلاّ إذا تبين حملُها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) (1) ، لما كان الطلاق بلا عددٍ فأمر بالعدة أولاً، ثم قُصروا على الثلاث ثانيًا، ثمَّ أُمِروا بطلاق السنة ثالثًا.
وهذا يُبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. ولهذا قال في سورة الطلاق (2) : (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، فدلَّ على
__________
(1) سورة البقرة: 231.
(2) الآية 1.(1/263)
أنَّ العدَّةَ كانت مشروعةً قبلَ ذلك، وأنّ آية العدَّة نزلتْ قبلَ الأمر بطلاقِ السنة، وهذا يحقِّق ما ذُكِر، والحمد لله رب العالمين.
وكذلك إذا كتمتِ الحملَ وقالت: إني طاهرٌ، فإنّه لا يقع الطلاق.
فهذا كلُّه ما يُبيِّن أن القول بأنَّ طلاقَ البدعةِ لا يَقَع هو أرجحُ القولين، وعليه يَدُلُّ الكتاب والسنة، وهو الموافقُ لمقاصدِ الشرع، وهو الذي يَسُدُّ بابَ الضِّرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمْرِه بطلاق السنة، وبقَصرِه الطلاقَ على ثلاثٍ، وإلاّ فإذا قيل بوقوع طلاقِ البدعة كان الضرر الذي كان في الجاهلية من هذا الوجه باقيًا. فإذا قيل: إنّ الطلاقَ بعد الطهر لازمٌ أمكنَها حينئذٍ أن تكتمَ الحملَ إذا كانت زاهدةً في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتمَ الحيضَ وتَدَّعي الحملَ إذا كانت راغبةً في الرجل ليرتجعها.
وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيَها عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان في أوَّلِ الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أنّ النهي كان في أول الإسلام قبلَ قَصْرِهم على الثلاث وأَمْرِهم بطلاق السنة، لأنَّ الحاملَ حينئذٍ كانَتْ تُطلَّق من غير أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بيَّن الله أنها لا تُطلق حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجةَ إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تُبيِّن أنهنَّ نُهِيْنَ عن الكتمان في الحال التي أُمِرَت بها المطلقة أن تتربَّص ثلاثة قروء، وقيل فيها: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (1) ، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نُهِيْنَ عن
__________
(1) سورة البقرة: 229.(1/264)
الكتمان لم يدلّ ذلك على أنّ كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلِّق يَظُنُّها طاهرًا، ويستمرّ الأمر إلى أن تَضَعَ الحملَ، فربَّما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما رُوي أن امرأة لعمر فعلتْ ذلك، وأنّ عمر عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولدُ أو قتلته، وربّما كَرِهَ الزوجُ مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يَظنُّون أنّ طلاقَها يَقَعُ، فيكون كتمانُها مَضَرَّةً في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن طلاقَها يَقَعُ كما يَعتقده غالبُ الناس، فيتضرَّرُ حينئذٍ بمكرِها وكيدِها، فنَهْيُ اللهِ لها عن الكتمانِ فيه كمالُ المصالحِ للعالِم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع. ثمَّ من كان أَبْصَرَ وأخبرَ بحكمة الربِّ ورحمتِه ومحاسنِ الإسلام تبيَّنَ له أنّ الربَّ لم يجعل لها طريفا إلى أن تُضارّ الرجل، حتى تُوقِعَه في طلاقٍ أو تمنعَه من رجعةٍ، إلاّ إذا كان حكم الله ورسوله خَفِيًّا عليه، فيُؤتَى من عدمِ علمِه، لا مِن نقصٍ في حكمِ الله ورسوله.
والله أعلم وأحكم، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله.
آخره، والحمد لله رب العالمين.
(بلغَ مقابلةً بالأصلِ خطِّ المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين) .
***(1/265)
فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة(1/267)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
سُئِل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، ومن خطِّهِ نقلتُ:
ما تقول السَّادة الفقهاء أئمةُ الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في طلاقِ السنة وطلاقِ البدعة ما هو؟ وهل طلاقُ البدعةِ حلالٌ أو حرام؟
وهل طلاقُ الثلاث بكلمة واحدةٍ من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلالٌ أو حرامٌ؟ بيِّنُوا لنا هذه المسألةَ، رحمكم الله وهداكم.
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله. طلاقُ السنة الذي أباحه الله ورسولُه أن يُطلق الرجلُ امرأتَه طَلْقةً واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ثُمَّ يَدَعَها حتى تَقضِيَ العدةَ، فإن كان له فيها غَرَضٌ راجعَها في العدة، أو يراجعُها بعَقْدٍ جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له فيها غرضٌ تركَها. فإذا فعل ذلك فقد طلَّق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما إذا طلَّقها في الحيض فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا باتفاق الأئمة، وكذلك إذا طلقها بعد أن وَطِئَها قبلَ أن يستبينَ حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك إذا طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ أو بكلماتٍ في طُهرٍ واحدٍ فإنه يكون عاصيًا لله مبتدعًا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه، بل لو(1/269)
طلَّقها واحدةً ثمَّ أَتْبَعَها بطَلْقتينِ قبلَ أن تنقضيَ العدةُ فانه يكون أيضًا مبتدعًا في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقةً واحدةً، فإذا راجعها ثمَّ أرادَ أن يُطلق الثانيةَ فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلَّقها ثلاثًا كذلك لم يكن مبتدعًا. وإذا وَقَعَ به الطلاق الثلاث حَرُمَتْ عليه حتى تنكحَ زوجًا غيرَه. فإذا طلَّقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إلى قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1) .
فهذا إنما يكون لمن طلَّق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي مثل هذا يقال: "لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا"، وهو أن يبدو له فيراجعها. فأما إذا وقع الثلاث فأيُّ أمرٍ يَحدُث بعدَ الثلاثِ؟ وأيُّ رجاءٍ يكون بعدها؟ فلهذا قال جمهور السلف والخلف: إن جمعَ الثلاثِ بدعةٌ منهيٌّ عنها، والمطلِّق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ مبتدعٌ عاصٍ.
ولم يثبت أن أحدًا أوقعَ الطلاقَ الثلاث على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمة واحدةٍ، بل زوجُ فاطمةَ ابنةِ قيسٍ طلَّقها زوجُها آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ. والمُلاعِن كان باللعانِ قد ثبت حكمُ الفرقة بينه وبين
__________
(1) سورة الطلاق: 1-3.(1/270)
امرأتِه، فطلَّقَ ثلاثًا، ولو لم يُطلِّقها لكانتْ محرَّمةَ عليه. فالطلاقُ لم يُفِدْ شيئًا.
فأما أن يكون المسلمون يُطلِّقون ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - كما يفعل الناسُ في زمانِنا - فهذا لم يَثبُت فيه حديثٌ صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمُون من يُطلِّق ثلاثًا بكلمة واحدةِ، ويقولون: إنه عاصِ لله، والطلاقُ إذا وقعَ لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله
أعلم.
(صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية.
(بلغ مقابلةً بأصلِه، ومنه نُقِل) .
***(1/271)
فصل في جمع الطلاق الثلاث(1/273)
بسم الله الرحمن الرحيم
(قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني - رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطّه نقلتُ:) .
فصل
جمع الطلاق الثلاث محرَّمٌ عند جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يُفرَّق بين المدخول بها وغيرِ المدخولِ بها، فيه نزاع (1) . والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع واحدة أو ثلثٌ. وأما القول بأنه لا يقع شيءٌ فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع من أهل الكلام والرافضة.
وقالت طائفة: بل هو مباح.
والكلام في مقامين:
أحدهما: أنه محرَّم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوهٍ:
أحدها: أنه سبحانه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/71-73،76-98،32/311-312) .(1/275)
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (1) .
ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه:
أحدها: أنه قال (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إلى قوله (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) . ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يُحدِث الله للزوج رجعةً بدون رضاها. ولهذا قال غير واحدٍ من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية.
__________
(1) سورة الطلاق: 1-6.(1/276)
الثاني: أن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنًا في كل طلاق. ومن ظنَّ أن هذا عام فقد غَلِطَ ولم يُفرِّق بين العامّ والمطلق، فإن قول القائل "كُلْ" و"بعْ" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لاْ يتعرض للعموم لا بنفي ولا إثباتٍ. ولهذا لم يكن تقييدُ هذا المطلق رفعًا لمدلول اللفظِ ولا نسخًا له، وإذا لم يكن فيه عمومٌ فهو لم يأذن إلاّ في الطلاق الذي وصفَه، وهو أن يطلّق للعدة وأن يُحصيَ العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسكَ بمعروف أو فارقَ بمعروفٍ. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دونَ الثلاث، كما أنها إنما هي في الطلاق لاستقبال العدّة، فمن طلَّقها حائضا فلم يُطلِّق كما أمره الله تعالى. كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعلَّ الله يُحدِث بعده أمرًا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلَها فإمًّا أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، فلم يطلِّق الطلاقَ الذي أمر الله به.
الثالث: أنه أمر بإحصاء العدَّة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن يُمسِك بمعروف أو يُسرِّح بمعروف، وهذا لا يُحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتَحِلَّ لغيره، لا لأجل إمساكِه وتسريحه.
الرابع: أنه قال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة، فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يُخرجَها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه السكنى ولا النفقَة، إلاّ أن يختار هو أن يُحصِنَها، فله إلزامُها بالسكنى لحقه في(1/277)
العدة. وقد دلَّ على ذلك سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة في فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لكِ سكنى ولا نفقة" (1) . ولم يعارِضْ ذلك أحدٌ بمعارضةِ صحيحة، فإنّ القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإنّ الله قال: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (2) ، والضمير عائد على ما تقدم، وهي الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبيّن فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل، لا لأجل النكاح، ولهذا قال: (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، فهذا ذكره لغاية نفقة الحمل، وإلاّ فقد بين عدة الحامل بقوله (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (3) ، وقوله بعد ذلك: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (4) . وقد ثبت بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على أن نفقة الحامل لذلك.
ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل (5) ، وحكمُها حكمُ نفقة الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والشافعي في أحد قولَيْه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه متناقض لا يُعقَل.
الخامس: أنه قال (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)) ، وهو كما قال غيرُ واحدِ من الصحابة، فأيّ أمرِ يحدث بعد الثلاث، فإن
__________
(1) أخرجه مسلم (1480) من طرقٍ عن فاطمة.
(2) سورة الطلاق: 6.
(3) سورة الطلاق: 4.
(4) الآية 6.
(5) انظر "مجموع الفتاوى" (34/72-75، 105-106) .(1/278)
الله ذكر هذا ليبين أنه قد يَحدثُ بعدُ رغبةٌ في الزوجة ونَدَمٌ على الطلاق، فيكون له سبيل إلى رجعتها.
السادس: أنه قال في سياق الآية: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)) ، وقد قال الصحابة لمن طلق ثلاثًا (1) : لو اتقيتَ اللهَ لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، فعُلِمَ أن جامعَ الثلاثِ لم يتقِ الله.
السابع: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، والإشهاد إنما يؤمَر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو واجب على الرجعة في أحد القولين، ويُستحبّ في الآخر.
الثامن: أنه قال (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) ، وقال: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، فجعل الأجل وضع الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يُعدُّ، وهي المدة التي تُعَدُّ. وأما الأجل فهو آخر المدة.
ولهذا دلَّت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلاّ وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أو مدخولاً بها، ولهذا قال ابن مسعود (2) : أشهد أن سورة النساء القُصْرَى نزلتْ بعد الطولَى، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقال سبحانه: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ، لأنه إنما يُخير بين الإمساك والتسريح عند آخر المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا
__________
(1) هذا مروي عن ابن عباس، أخرجه أبو داود (2197) .
(2) كما في "صحيح البخاري" (4910) . قال الحافظ في "الفتح" (8/655،656) : مراد ابن مسعود إن كان هناك نسخ فالمتأخر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق.(1/279)
يسرحها حينئذٍ، وهذا إنما يكون في الرجعية.
التاسع: أنه خيَّره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقًا بائنًا باتفاقِ المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغِ الأجل، بل المراد به تخلية سبيلها، كما قال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)) (1) ، فأمر بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني، وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإنّ له يدًا على الرجعية، فإذا بانت لم يكن له عليها بُدٌّ.
الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
__________
(1) سورة الأحزاب: 49.(1/280)
أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)) (1) .
وهذه الآيات تدلُّ على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه:
الأول: أنه قال (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) ، وهذا يدل على أن كلَّ مطلَّقة فإنها تتربَّص ثلاثة قروء، وأن بعلَها أحق بردّها في ذلك، فلو كان المطلِّق مخيَّرًا بين إيقاع واحدة وثلاثٍ لم تكن كل مطلَّقةٍ كذلك، بل كان هذا وصفَ بعضِ المطلقات.
فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة.
قيل: قد بيّن ذلك بقوله فيما بعدُ (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، تبين أن هذا الطلاق هو مرتان فقط، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) . وقبلَه قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، فكان تمام الكلام يُبيّن المرادَ، ولم يكُ في ذلك خروج عن مدلولِ القرآن ومفهومه وظاهرِه، بخلاف ما إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث.
وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصّها في تمام الكلام بقوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فيبقى ما سواها على ظاهر القرآن وعمومِه.
__________
(1) سورة البقرة: 227-232.(1/281)
الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذنَ فيه وشرعَه، فإنه لما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) ، وقال: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، وقال: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) ونحو ذلك، دَلَّ على أنه أَذِنَ في الطلاق وأباحَه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحَه، بل الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بيَّن حكم الطلاق الذي أباحَه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومِه؛ وإذا قيل: هو من المباح، والقرآن يعمُ الطلاقَ المأذونَ فيه والمحظورَ، كان ذلك مخالفًا لظاهر القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) ، وهذا صفة الطلاق الرجعي، فدَلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) ، فالمطلّق ثلاثًا ابتداءً لا رجعةَ له، ومن لم يُوقع إلاّ طلاقًا لا رجعةَ فيه فقد خالفَ كتابَ الله.
الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، ثم قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام أحمد وغيره (1) أنه قيل: يا رسولَ الله! فأين الطلقةُ الثالثة؟ قال: في قوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) . وهذا معناه أنه جوّزَ إمساكها بعد الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا
__________
(1) أخرجه الطبري (2/278) وابن أبي حاتم (9/412) والبيهقي (7/340) ، وانظر تفسير ابن كثير (1/279-280) و"الدر المنثور" (1/664) .(1/282)
تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) . وقد فسَّر بعضهم (1) معناه بانَّ قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوهٍ كما قد ذُكِر في موضع آخر. ومعلومٌ أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاثِ إمساكٌ بمعروف.
الوجه الخامس: أن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، وهو الطلاق الرجعي، فدلَّ ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو الطلاق الرجعي الذي يقع مرةً بعد مرةٍ، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والثالثة قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا) .
الوجه السادس: أن قوله (مَرَّتَانِ) إمّا أن يُريد به مرةً بعد مرة، كما في قوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (2) ، وكما في قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (3) الآية. ومعلومٌ أن الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمةٍ واحدةٍ، فلو قال: "سلامٌ عليكم، أأدخل ثلاثًا" لم يكن قد استأذنَ ثلاثًا. وكما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال في يومٍ مئة مرة سبحانَ الله وبحمده حُطَّت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر" (4) ؛ وفي مثل قوله: "سبّح ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر ثلاثًا وثلاثين" (5) ؛ وقوله: "كان إذا سلَّم
__________
(1) انظر "زاد المسير" (1/263) والقرطبى (3/127-128) .
(2) سورة الملك: 4.
(3) سورة النور: 58.
(4) أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه مسلم (597) عن أبي هريرة.(1/283)
سلَّم ثلاثًا" (1) ، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظُ العددِ فيه تكريرَ القول.
لاسيَّما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) .
وإذا قال: "هي طالق ثلاثًا" قد يقال: إنه طلَّقها ثلاثًا، لكن لا يقال: طلَّقها ثلاث مرات، بل إنما طلَّقها مرةً واحدةً. وكذلك لو قال: "هي طالقٌ طلقتَينِ" إنما يقال: طلَّقها مرةً واحدةً، لا يقال: طلَّقها مرتين.
وإمَّا (2) أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرةً بعد مرة؛ والثالثةُ الطلاقُ بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) (3) هو على مقتضاه، أي مرةً ومرةً، وليس المرادُ إيتاءً واحدًا، بل إيتاء مرتين.
الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلَّقَ تطليقًا، ومعلومٌ أن التطليق فعلٌ يفعله المطلِّق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يُعقل أن يكون مرتين، إلاّ إذا قيل مرَّةً بعد مرّةٍ، فأما إذا طلَّقها بكلمة واحدةٍ فهذا لم يصدر منه الطلاقُ إلاّ مرةً واحدةً لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلَّقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: إنه طلَّقها مرتين، ولا يُفهَم لفظ "طلَّقها مرتين" بدون تكرير التطليق.
يدلُّ على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدلُّ على ما يدلُّ عليه
__________
(1) أخرجه البخاري (94،95،6244) عن أنس.
(2) عطف على قوله "إما أن يريد به مرة ... " في أول الوجه السادس.
(3) سورة الأحزاب: 31.(1/284)
قول القائل "طلَّقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلاّ أنه طلَّقها مرةً بعد مرةٍ، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبّح مرتين أو ثلاثًا" و"هلّل مرتين أو ثلاثًا" ونحو ذلك، فُهِمَ منه أنه قال ذلك مرةً بعد مرةٍ، وكذلك إذا قيل "كَلّمهُ مرتين أو ثلاث مرات".
ومنه قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1) ، وقوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إلى قوله (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) (2) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح (3) : "من قال في يومٍ مئةَ مرة سبحان الله وبحمده، حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في يومٍ مئةَ مرةٍ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له مئةَ حسنة، وحطَّ عنه مئةَ سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ به إلاّ رجلٌ قال مثلَما قال أو زاد عليه".
وقوله في الحديث الصحيح (4) : "إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرةٍ"، وقوله في الحديث الصحيح (5) : "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف
__________
(1) سورة التوبة: 80.
(2) سورة النور: 58.
(3) سبق ذكر الحديث وتخريجه قريبًا.
(4) مسلم (2702) عن الأعز المزني.
(5) ضمن الحديث السابق.(1/285)
أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا أخر الطلقةَ الثالثةَ عن الطلقتين، لا إذا جمعَ الجميعَ.
الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) ، ومعنى ذلك باتفاق المسلمين: فإن طلَّقها الذي طلَّقها مرتين فلا تحل له من بعدِ هذا الطلاق الثالث حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلَّقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحًا ثانيًا إن ظنَّا أن يقيما حدود الله، وحينئذٍ فالله تعالى إنما حرَّمها في القرآن بطلقة وقعتْ بعد الطلاقِ مرتين.
الوجه العاشر: أنه قال (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعُلِم أن جمعَ الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكونْ داخلا في مسمَّى التطليق، فلا يكون مشروعا، فإنه لو دخل في مسمَّاه لزِمَ مخالفةُ ظاهرِ القرآن وتخصيصُ عمومِه.
فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين.
قيل: قد بين ذلك بقوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) إلى قوله (فَإِنْ طَلَّقَهَا) ، فقد بين أن الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط.
الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، ولم يقل "ثلاثًا"، مع العلم بأنه يملك أن يُطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعُلِم أنه أراد أن يُبين أن الطلاق الذي هو أحقُ برجعتها فيه مرتان، ولو(1/286)
قيل: أراد: الطلاقُ الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعَها، فإن الرجعي حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلاّ مرة بعد مرة.
فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان عُلِمَ أن لنا طلاقًا رجعيًّا وطلاقًا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرّم، وهو الثلاث.
قيل: لفظ الطلاق إمّا أن يَعُمَّ كل طلاقٍ أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرةِ، ولا يكون إلاّ رجعيا، فمن أثبت طلاقًا بكلمة توجب البينونةَ فقد خالفَ دلالةَ القرآن، فضلاً عن طلاقٍ واحدٍ يوجب التحريمَ.
الوجه الثاني عشر: أنه قال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) ، وهذا لا يتأتى في جمع الثلاث.
الوجه الثالث عشر: أنه قال (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً) ، وقد رُوِي أن جمع الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي (1) من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه سمعتُ محمود بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلِ طلق امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: أَيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا أقتله؟
الوجه الرابع عشر: أنه قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ، وهذه النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن
__________
(1) 6/142.(1/287)
يطلقها مرةً بعد مرةٍ، وأن يراجعها بعدَ التطليق، فأما إذا حرَّمَها عليه في أول تطليق يُطلِّقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب النعم، بل قد جعله عذابًا بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2) .
الوجه الخامس عشر: قوله (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ، والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ) (3) أي يؤمرون به، وقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) (4) أي ينهاكم الله. فدلَّ عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد أباح لهم الثلاث جميعًا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلُها إذا كان لم يُذنِب فلا يُوعَظُ قبل التطليق ولا بعده، والقرآن يدلُّ على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق.
الوجه السادس عشر: قوله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، فإن هذا عامٌّ في الطلاق الذي ذكره الله في كتابه، وجَعله مرتين، فلو كان قد أذِنَ في جمع الثلاث لم تكن الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلافُ ظاهرِ القرآن وعمومِه.
الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداءً، ثم للأمة بعد الصحابة، ومعلومٌ أن الخطابَ بالطلاق الذي ذكر الله أحكامَه،
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة الأنعام: 146.
(3) سورة النساء: 66.
(4) سورة النور: 17.(1/288)
كقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) ، وقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) ، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لا يتناول جمعَ الثلاث، وإنما يتناول من طلَّق مرةً بعد مرة، فدلَّ ذلك على أن هذا هو الطلاق المعروف عند المخاطَبين بالقرآن ابتداءً.
ودلَّ ذلك على أن جمعَ الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان كذلك لكان يستثنيه ويُبيِّنه، وإلاّ كان القرآن قد أريد به خلافُ ظاهرِه وعمومِه بلا بيانٍ من الله ورسوله.
الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلومٌ أن ظاهر القرآن وعمومَه يَدُلُّ على أن الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلافُ ظاهرِه فلابُدَّ من بيانٍ من الله أو رسولهِ لذلك. ومعلومٌ أنه ليس في القرآن آية تَدُلُّ على إباحة جمع الثلاث، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلُّ على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت قيس إنما فيه أن زوجها طلَّقها آخر ثلاثِ تطليقاتٍ، وحديث الملاعنة لما طلَّقها ثلاثًا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلَّق من حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثًا، وطلاق هذه زيادة توكيدٍ في مفارقتها، بل هو لغوٌ لم يُوجبِ الفرقةَ التي يُوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتفٍ في حقّ هذه. ولو قُدِّر أنه فعلَ منكرًا، فالمنكر إذا بين الله ورسولُه أنه منكر لم يَجِبْ بيانُ ذلك في كل مجلس. وهذا جوابٌ ثانٍ عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلاّ مجرد سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو إذا بيَّن تحريم الشيء لم يكن سكوتُه عن إنكارِه كلَّ وقتٍ دليلاً على الجواز.
الوجه التاسع عشر: أن الله حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى(1/289)
تنكح زوجًا غيره، ولم يُبِح له أن يُطلَّقها رابعةً، وهذا عقوبة له، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (2) . فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره لم يكن قادرًا على تزوُّجِها ولو رضيتْ به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج بمن لا يُطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوجَ امرأتُه بغيره. ولهذا حُرِّم على غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح أزواجه من بعده، إكرامًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فدلَّ على أن تحريمَها حتى تنكح زوجًا غيرَه إهانة له، فإنه إذا كان منعُ غيرِه من التزوُّج بامرأته إكرامٌ، فاشتراطُ تزويج غيره في الحلّ وجَعْلُ ذلك واجبًا في عودِها إليه إهانةٌ له، والإهانةُ لا تكون إلاّ لمذنب.
فإن قيل: فالله أباحَ الطلاقَ.
قيل: لم يُبحْه مطلقًا، لكن أباحه بعددٍ محصورٍ، وأن تحرم عليه امرأته بعد الثالثَة، والأمرُ الذي لم يُبَحْ فيه إلاّ مقدارٌ معين وحرمت عليه بعد ذلك المقدار - لا يكون مباحًا مطلقًا، بل هو بمنزلة ما أُبِيح من الحرير، فإنه أُبِيحَ للنساء، وأُبيح منه عَرْضُ كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر بمكة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يَحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ فيصدّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام" (3) . وقال: "لا يحل لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوقَ ثلاثٍ" (4) . وأذن للمهاجر أن
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة الأنعام: 146.
(3) أخرجه البخاري (6077،6237) ومسلم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري.
(4) أخرجه البخاري (5334،5335) ومسلم (1486،1487) عن زينب بنت أبي سلمة.(1/290)
يقيم بمكة بعد قضاء نُسُكهِ ثلاثًا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على غير الزوج ومُقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخّص في الثلاث منه للحاجة إلى ذلك.
كذلك الطلاق، لما لم يُبح منه إلاّ الثلاث دلَّ على أن الأصل فيه الحظر، والمعنى أن الرجل خُير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم أنه إذا أُبِيْحَ مجموعُ التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاقُ وحدَه مباحًا، فمن ظنَّ أن الطلاق مباح مطلقًاْ كما يُباحُ الأكل والشربُ فقد غَلِطَ، بل إذا اقتصر على ثلاث تطليقاتٍ وحرمتْ بعد الثالثة دلَّ على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن جمعَ الثلاث لا حاجةَ إليه، فلا يُباح (1) .
***
__________
(1) انتهى الكلام هنا في الأصل، ولعل المؤلف لم يكمله.(1/291)
فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث(1/293)
والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيها حديث ثابت يدلُّ على وقوع الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ، بل فيها في الصحيح والسنن ما يدلُّ على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون لازمة لكل من أوقعها.
مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما (1) عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنّا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم.
وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكورٌ في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان يفتي بموجبه كما قد ذُكِر في غير هذا الموضع (2) .
والمقصود هنا حديثُ ركانة (3) ، فإنه قد احتج به غيرُ واحدٍ من أهل العلم على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ قال: ما أردتُ إلاّ واحدةً. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة (4) .
وحديث ركانة هذا قد ضعَّفه طائفة (5) كأحمد وأبي عبيد وابن حزم،
__________
(1) أخرجه مسلم (1472) وأحمد (1/314) وأبو داود (2200) والنسائي (6/145) .
(2) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/8) . وقد أخرجه عن طاوس: عبد الرزاق في "مصنفه" (6/302) وابن أبي شيبة في "مصنّفه" (5/26) .
(3) أخرجه الدارمي (2277) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وابن ماجه (2051) من طريق علي بن يزيد بن ركانة عن جده. وأخرجه أبو داود (2206، 2207) أيضًا من طريق نافع بن عجير عن ركانة.
(4) انظر: "الأم" (5/277) .
(5) قال الترمذي عقب روايته: "هذا حديث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، وسألتُ =(1/295)
مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه (1) . وقال الشافعي (2) : عمّي ثقة، وعبد الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عُجَير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر (3) الذي رواه أيضًا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يُوجب حُسْنَ الحديث، فإنهما إسنادانِ ليس فيهما مُتَّهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يُعرَفُ لقاء بعضهم بعضًا، كما سيأتي بيانه.
وفي الجملة لو لم يُعارِضْه غيرُه لأمكنِ أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يُقدَّم الراجح. وقد يُقال: إنه لم يُعارِضْه غيرُه. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد رُوِي فيه أنه طلَّقها ثلاثا. فأما إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافًا، بل في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ذلك.
قال أبو داود في السنن (4) : باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
__________
= محمدًا (يعني البخاري) عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب". وانظر بيان ضعفه واضطرابه في "إرواء الغليل" (7/140-143) .
(1) كما في "موارد الضمآن" (1321) .
(2) كما في "تهذيب التهذيب" (9/353) .
(3) أشرت إليه عند تخريج الحديث.
(4) 2/259 رقم (2195) ، ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/339) .(1/296)
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأتَه فهو أحق برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (2) الآية.
قلتُ: هذا مروي عن عائشة وغيرِ واحدٍ من السلف (3) . ثم ذكر أبو داود (4) حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتَعلَمُ إنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهدِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وثلاثِ من إمارةِ عمر؟ قال ابن عباس: نعم.
وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقولِ من قال: إن هذا الحديث منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لمَّا كان الطلاق بغير طلاق.
وهذا من جملة ما حُمِل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورًا بثلاثٍ، بل كان إذا طلقها أكثر من ثلاث راجعَها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثًا مفترقاتٍ، كلّ واحدةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ جديدٍ، له أن يُراجعَها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون الثلاث تُجعَل واحدةً فهذا حكمٌ غيرُ الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تُجعَل الثلاث فيه واحدةً، ولا كان الطلاقُ مقصورًا على ثلاثٍ، بل الثلاث والخمس والعشر والواحدة كانت فيه سواءً.
ثم إن ذلك المنسوخ لم يُعمَل به لعدَ نسخِه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة البقرة: 229.
(3) انظر: تفسير الطبري (2/273،276) وابن كثير (1/279) .
(4) رقم (2200) . وسبق تخريجه في أول الرسالة.(1/297)
ولا أبي بكر ولا خلافةِ عمر، بل قد نزلَ القرآنُ بأنها بعدَ الثالثة تَحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل نَسْخُه صريحًا في القرآن، ولا ظَهَرَ أمرُه كظهورِ الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجلِ المرأةَ الطلقةَ الثالثة بعد ثنتين ممّا تكرر وقوعه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخليفتَيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهبَ مع علي إلى اليمن (1) ، وكان هذا في آخرِ الأمر قريبًا من حجة الوداع. وكذلك امرأة رفاعة القُرظي تميمة بنت وهب، لما طلَّقها رفاعة، فأبتّ طلاقَها بالثلاث، ونكحتْ بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وجاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسألُه العودَ إلى رفاعةَ، فقال: "لا، حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك" (2) .
وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غيرِ وجه، وهذا بخلاف سِرّ المتعة. فلو كان أحدٌ يُمسِك امرأتَه بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما يَظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حُرِّمت تركَها مَن علم التحريمَ، ومن لم يَعلَمْه فعلَها قليل منهم وهي تُفْعَل سِرًّا. ولم يَنْقُل أحدٌ أن أحدًا بعد النسخ أمسكَ امرأتَه بعد ثلاثِ تطليقاتٍ، كل طلقةٍ بعد رجعةٍ أو عقدٍ، ولا أنه طلَّق بغيرِ عددٍ، مع
__________
(1) أخرجه مسلم (1480/41) وأحمد (6/414) وأبو داود (2290) والنسائي (6/62،210) من طرقٍ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة به، وللحديث طرق أخرى في الصحيح والمسند والسنن.
(2) أخرجه البخاري (2639 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) وغير هما. وللحديث طرق كثيرة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.(1/298)
أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغيرِ عددٍ آثارٌ قليلةٌ خفيةٌ لا يَعلمها جمهورُ الناس، ولم يَروِ أهلُ الصحيح منها شيئًا، وإنما رواها طائفةٌ من أهل السنن والتفسير والفقه.
وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفةٌ عند المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاءَ حِلِّ المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهبَ إلى ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذْ كان ابن عباس أفتى بها. وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى رَوى له علي بن أبي طالب نَهْيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، كما أخرج ذلك أهلُ الصحيح وغيره (1) .
وأما جواز التطليق بغير عددٍ فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يُعلَم فسادُه بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يُقال: إنّ هذا كان بعد النسخ موجودًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر؟.
وأيضًا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أَناة، فلو أنَّا أنفذناه عليهم، فأنفذَه عليهم. فدلَّ ذلك على أنه أنفذَ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرَّم لم تكن لهم أناة في شيء قد ظهرَ تحريمُه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم يكن إنفاذُه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة.
ثمَّ ذكر أبو داود في سننه حديثًا ثابتًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن جَمْعَ الثلاث بكلمة يكون واحدةً، كما في حديث أبي الصَّهباء.
__________
(1) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407) .(1/299)
وذكر ما يُعارِضُه، فقال (1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلَّقَ عبدُ يزيدَ - أبو رُكانةَ وإخوتِه - أمَّ رُكانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، فجاءت النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما يُغْنِي عَنّيْ إلاّ كما تُغني عني هذه الشعرةُ - لشَعرةٍ أخذتْها من رأسِها -، ففَرِّقْ بيني وبينه، فأخَذتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حميَّةٌ، فدعا بركانةَ وإخوتِه، ثم قال لجلسائه: "أتَرون فلانًا يُشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قَال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد يزيدَ: "طَلِّقْها"، ففَعلَ. [ثم] قال: "راجعْ امرأتَك أمَّ ركانَةَ وإخوتِه"، فقال: إني طلَّقتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، قال: "قد علمتُ، راجعْها". وتَلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) .
قال أبو داود: وحديثُ نافع بن عُجَير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن أبيه عن جدّه: أن ركانةَ طلَّق امرأتَه، فردَّها إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - أصحُّ، لأنهم ولدُ الرجلِ، وأهلُه أعلمُ به (3) ، إنّ رُكانةَ إنما طلَّق امرأتَه البتَّةَ، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً.
ثم روى هذا الحديثَ أبو داودَ (4) من طريقِ الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله (5) بن علي بن السائب،
__________
(1) برقم (2196) . وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6/390-391) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/339) .
(2) سورة الطلاق:1.
(3) كذا في الأصل و"الإصابة" (2/432) ؛ وفي السنن: "لأن ولد الرجل وأهله أعلم به".
(4) برقم (2206) .
(5) في مطبوعة السنن: "عبيد الله"، وهو تصحيف، انظر "التقريب" (3509) .(1/300)
عن نافع بن عُجَير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلَّق امرأتَه. وفي لفظِ: عن ركانة بن عبد يزيد أنه طلَّق امرأتَه سُهَيْمةَ البتَّهَ، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقال: واللهِ ما أردتُ إلاّ واحدةً، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله ما أردتَ إلاّ واحدةً؟ " فقال ركانةُ: والله ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فطلَّقها الثانيةَ في زمان عمر، والثالثةَ في زمان عثمان.
ورواه أبو داود (1) أيضَا وابن ماجه (2) وأبو حاتم بن حِبّان في صحيحه (3) من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنه طلَّق امرأتَه البتَّهَ، فأتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما أردتَ"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"؟ قال: آلله!
قال: "هو على ما أردتَ".
ورواه الترمذي (4) : فقلت: يا رسولَ الله! إني طلَّقتُ امرأتي البتَّهَ، فقال: ما أردتَ بها؟ قلتُ: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله!
قال: فهو ما أردتَ. وقال: لا نَعرِفُه إلاّ من هذا الوجه.
وقال ابن ماجه (5) : سمعتُ أبا الحسن الطَّنافسي يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ! قال ابن ماجه: أبو عبيد تركَه ناحيةً، وأحمد جَبُنَ عنه.
__________
(1) برقم (2208) .
(2) برقم (2051) .
(3) كما في "موارد الظمآن" (1321) . وأخرجه أيضا الدارمي (2277) والترمذي (1177) والدارقطني (4/33) والحاكم (2/199-200) والبيهقي (7/339) .
(4) برقم (1177) .
(5) برقم (2051) .(1/301)
قال أبو داود (1) : وهذا أصحُّ من حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، لأنهم أهلُ بيته، وهم أعلمُ به. وحديثُ ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس.
قلتُ: فجعلَ أبو داود - رضي الله عنه - القصتينِ واحدةً، وهو كما قال: ويَرِدُ عليه أنه في حديث ابن جريج أنَّ ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، وليس هذا في حديث ابن جريج الذي رواهُ هو، وإنما فيه أن عبدَ يزيدَ - أبَا ركانةَ وإخوتِه - طَلَّقَ أمَّ ركانةَ، ونكحَ امرأةً من مُزَينةَ، وأنها اشتكت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرتْ أنه عنّين، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّن كَذِبَها بأن أولادَها يُشبِهونَه، فدَلَّ على أنهم منه، وأنه ليس بعنّين. ثمَّ إنه أمر عبدَ يزيدَ أبا رُكانةَ أن يُطلِّق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمرَه أن يُراجعَ أمَّ رُكانةَ التي طلَّقها ثلاثًا.
هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا. لكن قد يُقالُ: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غَلِطَ في بعض ألفاظ القصة في المطلِّق والمطلَّقة، كما يقول من يقول: إنه غَلِط في عدد الطلاق. وقد يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانةَ طلَّق ثلاثًا، بل هذا يُبيِّن أن قائلَ ذلك لم يتأمَّل الحديثَ حقَّ التأمل، فإذا تأمَّلَهما عَلِأن المنقولَ في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلقُ المطلِّقَ، ولا المطلَّقةُ المطلَّقة، فإن المطلقةَ في هذا سُهَيْمةُ امرأةُ رُكانةَ، وهناك أمُّه؛ ولا لفظُ التطليق لفظَ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأةٍ مُزَنيةٍ، ودعواها عنَّتَه، وتكذيب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشَبَهِ أولادِه له، مالا
__________
(1) 2/263.(1/302)
يمكن أن يكونَ في حديثِ رُكانةَ، فإن ركانةَ لم يكن له أولاد أدركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَدُّون من الصحابة، وإنما المعدودُ من الصحابة هو وإخوتُه وأبوه، كما في حديث ابن جريج.
لكن يُجَابُ عن هذا بأن عبدَ يزيد أبا ركانةَ لم يذكره في الصحابة الزُبيرُ بن بكّار ولا ابنُ عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا (1) ، بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها" (2) : وولد هاشم بن المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمُّه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد يزيد بن هاشم: رُكانة وعُجَير وعُبَيد وعُمَير بني عبد يزيد، وأمُّهم العَجِلَة بنت العجلان ونسبها إلى كنانة.
قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارِعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الإسلام، وكان أشدَّ الناس، فقال: يا محمد! إن صرَعْتَني آمنتُ بك، فصرَعه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أشهد أنك ساحر. ثمَّ أسلمَ بعدُ، وأَطْعَمَه رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسين وَسَقًا بخيبر. ونَزلَ ركانة المدينةَ، وماتَ بها في أول خلافة معاوية (3) .
قال: وعُجَير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثين وسقًا (4) .
__________
(1) ذكره الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" (1/360) ، وعلَّم له علامة أبي داود، وقال: أبو ركانة طلق امرأته، وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة.
(2) لا يوجد في المطبوع منه، ونقله الحافظ في "الإصابة" (2/432) . وانظر "نسب قريش" للمصعب ص 95-96.
(3) انظر "نسب قريش" للمصعب (ص96) و"الإصابة" (1/521) .
(4) انظر "نسب قريش" (ص96) و"الإصابة" (2/466) .(1/303)
قال: وولد عُبيد بن عبد يزيد: السائب، أُسِرَ يَومَ بدرٍ، وكان يُشبِه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) .
فقد بيَّن أنَّ ركانة وابنَه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد.
وأيضًا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يُسمَّى بهذا الاسم، فتبيَّنَ أن المطلِّقَ ركانةُ لا أبوهُ.
وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصَّة عبد يزيد أبي ركانة لا يعارضه حديثُ ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفعُ أحدهما بالآخر، بل يبقى النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلاّ بعض بني أبي رافع، فإنه يُحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولدِه لصلبه، إذْ ولدُه لصُلبِه عبد الله وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا يَروي عنهما ابن جريج.
قيل: هذا الحديث قد رُوِي بإسنادٍ آخر معروفِ الرجال، وهو يُبيِّن أن القصة واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما (2) من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، فجَعَل المطلِّق رُكانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن (3) ، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) انظر "نسب قريش" (ص96) والإصابة (2/11) .
(2) أخرجه أحمد (1/265) والبيهقي (7/339) . وانظر "الفتح" (9/362) .
(3) بياض في الأصل، ولم أتمكن من تحديده، فالمصدر الذي نقل عنه مفقود.(1/304)
فقال: يا رسولَ الله! طلقتُ امرأتي ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وإني قد وَجَدتُ عليها وَجْدًا شديدًا، فقال: "أتُريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسولَ الله، قال: "فإنما هي واحدة".
وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير" (1) : وقد رَوى محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزن عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيفَ طلَّقها، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، فقال: في مجلسٍ واحد؟ قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شِئتَ، فراجعَها. وكان ابن عباس يَرى أنما الطلاق عند كل طُهْرٍ، فتلك السنّة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) .
قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم (3) بن عصام، ثنا عبيد الله (4) بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، فذكره.
قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس فُتْياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولادِ ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدةً.
قلتُ: أما المعارضة بفُتيا ابن عباس ففيها كلامٌ مذكور في موضع آخر (5) . وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله،
__________
(1) 7/339.
(2) سورة الطلاق:1.
(3) في البيهقي: "مسلم" وهو تصحيف، انظر: "ذكر أخبار أصبهان" (1/337) .
(4) في البيهقي: "عبد الله" وهو تصحيف. انظر: "التقريب" (4323) .
(5) وسيأتي الكلام عليها.(1/305)
لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في المسند (1) من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحدٍ، فحزِن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف طلَّقتَها؟ قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعْها إن شئتَ، قال: فرَجَعَها. فكان ابن عباس يرى أنّما الطلاق عند كل طُهر.
وهذا الحديث خرَّجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه (2) الذي هو خير من صحيح الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلِّق ثلاثًا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج، وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاةَ بينه وبين حديث ركانة في البتةِ، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين تُعارِض مَن روى أنه قال: لم أطلِّق إلاّ واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من روايةِ أهل بيتِه.
ويَعضُد روايةَ من روى أن الطلاق كان ثلاثًا حديثُ ابن عباس الذي في صحيح مسلم (3) أن الثلاث كانت تجعل واحدةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر. فهذا يوافقُ رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن
__________
(1) 1/265.
(2) يقصد به "الأحاديث المختارة"، طبعت منه بعض الأجزاء.
(3) برقم (1472) .(1/306)
ابن عباس أثبتُ من عبد الله بن علي بن [يزيد بن] (1) ركانة عن أبيه عن جدّه. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء (2) . وابن إسحاق يُدخِله أبو حاتم وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح.
والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه، ولا ريبَ أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم.
وهذا الحديث عَمِلَ به رُواتُه، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث بكلمة واحدةٍ واحدةٌ (3) . وكذلك عكرمة راويهِ عن ابن عباس. ورُوِي ذلك عن ابن عباس أيضًا، كما قال أبو داود في سننه (4) : وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثًا بفمٍ واحدٍ فهي واحدة. قال: وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعلَه قولَ عكرمة.
وذكر أبو داود (5) عن ابن عباس من ستة أوجهٍ أنه أوقع الثلاث بمن أوقعَها بكلمة واحدةٍ، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير.
__________
(1) زيادة على الأصل لتصحيح الاسم.
(2) ذكر الخطابي في "معالم السنن" (3/122) وعنه المنذري في "مختصر السنن" (3/122،134) أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها.
(3) حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم كما في "إغاثة اللهفان" (1/324) ؛ والجصاص في "أحكام القرآن" (1/388) . وانظر "مجموع الفتاوى" (33/8) .
(4) 2/260.
(5) في الموضع المذكور قبل قول عكرمة.(1/307)
وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصَّته. فلهذا حَمَل من حَمَل قول ابن عباس على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعًا لازمًا، وهو عقوبة لمن لم يتقِ الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يُفتيه: لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فرجًا ومخرجًا (1) .
وأبو داود (2) روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثيرَ السؤال لابن عباس قال: أما علمتَ أن الرجلَ كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً، على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان الرجل إذا طفَق امرأته ثلاثًا قبلَ أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسولِ الله وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناسَ قد تتايَعُوا فيها قال: أُجِيزُهن عليهم.
ثم روى (3) من حديث ابن عُليَّة عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهدٍ قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)) (4) ، وإنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتُك، وإن الله قال:
__________
(1) أخرجه أبو داود (2197) .
(2) برقم (2199) .
(3) برقم (2197) ، وهي قبل رواية حماد بن زيد لا بعدها.
(4) سورة الطلاق: 2.(1/308)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) (1) في قُبُل عدتهن.
قلت: لا يُقال مثل هذا الكلام إلاّ لمن علم أن جمعَ الثلاث محرَّمٌ، ثمَّ فَعَلَه عامدًا لفعل المحرَّم، فإنّ هذا لم يتق اللهَ بل تعدَّى حدودَه. أمَّا من لم يعلم أن ذلك محرم، ولا قامتْ [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو عَلِم أنه محرَّم لم يفعله، فن هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتقِ الله فلا أجد لك مخرجًا، ولا يقالُ له: عصيتَ ربك.
ففي فُتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاعُ الثلاث بمثلِ هذا لمَّا تتايَعَ الناسُ فيما نُهُوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن رُوِي أنه وافقه، كعثمان (2) وعلي (3) وابن مسعود (4) وزيد بن ثابت (5) وابن عباس (6) وابن عمر (7) وأبي هريرة (8) وعبد الله بن عَمْرو (9) وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على
__________
(1) سورة الطلاق:1.
(2) كما في "مصنف" عبد الرزاق (6/394) و"المحلى" (10/172) .
(3) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/394) وابن أبي شيبة (5/22) والبيهقي في "الكبرى" (7/334-335) وابن حزم في "المحلى" (10/172) .
(4) أخرجه عنه عبد الرزاق (6/394-395) وابن أبي شيبة (5/22-23) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/58-59) والبيهقي (7/335) وابن حزم (10/172) .
(5) لم أجد ذلك مرويًا عنه في المصادر التي رجعت إليها.
(6) أخرجه عنه مالك في "الموطأ" (2/570) وعبد الرزاق (6/396-397) وابن أبي شيبة (5/25) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/57-58) والدارقطني (4/58-61) والبيهقي (7/335) وابن حزم (10/172) .
(7) رواه عنه عبد الرزاق (6/395) والدارقطني (4/45) والبيهقي (7/336) .
(8) أخرجه عنه أبو داود (2198) والطحاوي (3/57،58) والبيهقي (7/335) .
(9) أخرج ذلك عنه مالك في "الموطأ" (2/570) وأبو داود (2198) والطحاوي (3/58) والبيهقي (7/335) .(1/309)
الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حَدَّ في الخمر بثمانين لما كثر شُربُ الناس لها واستقلُّوا العقوبةَ بأربعين (1) .
وكان عمر رضي الله عنه أحيانًا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيُغلظ عقوبتها بحسب الحاجة، إذْ لم يكن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها حدّ مقدَّرٌ موقَّتُ القدر والصفة لا يُزاد عليه ولا يُنقَص منه، كما في حدِّ القذف، بل كان قدرُ العقوبة فيها وصفتها موكولةً إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها أربعون بالجريد والنّعالِ وأطرافِ الثياب، وهذا من أخفّ العقوباتِ قَدْرًا وصفةً، ثمَّ أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا أعلى منهما. وهل يُعاقَب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا إلاّ بذلك؟ فيه أحاديث ونزاعٌ ليس هذا موضعه (2) .
فحديث عبد يزيد أو ركانة مَرويٌّ من هذين الوجهين، وأقلُّ أحوالِه حينئذٍ أن يكون حسنًا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما رُوِي من وجهين ولم يُعلَم في رُواتِه متَّهم بالكذب، ولم يُعارِضْه ما يَدُلُّ على غلطه، وهو من أحسنِ ما يحتج به الفقهاء. وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحَّح حديث البتةِ فإنه يصحّح حديث ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حَزم وغيرهما،
__________
(1) انظر "المغني" (12/498-499) .
(2) أخرجه أحمد (4/95،96،100) وأبو داود (4482) والترمذي (1444) وابن ماجه (2573) والحاكم (4/372) عن معاوية. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عمرو وجرير بن عبد الله والشريد وشرحبيل وأبي سعيد الخدري، كما في المصادر السابقة. وقد قيل: إنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك، بل هو محكم غير منسوخ كما حقق ذلك الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (9/49-92) .(1/310)
وابنُ حزم وغيرُه يُضعِّفون حديث البتّة كما ضعَّفه أحمد رحمه الله.
وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يُخاف أن يُدَلِّس ويخلط الأحاديث بعضَها ببعض، فإذا قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذُكِر أن داود بن الحصين حدَّثه وعمل بما حدثه به.
ولا يَسْترِيبُ أهلُ العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجحُ من إسناد البتة، هذا لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك ممّا يُؤكِّد الاحتجاج بذلك الحديث، ويردُّ على من عَلَّلَه بما لا يَقدح في صحته، كقولِ من قال: إن ابن عباس رُوِي عنه بخلافِه، فصارَ حديثُ عكرمة يُروَى عن ابن عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا يُعرَفون بعلمٍ ولا حفظٍ. والإسناد الآخر رجالُه من مشاهير أهل العلم والفقه والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث بأن الثلاث كانت واحدةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، ولم يَروِ أحدٌ من أهلِ العلم حديثًا ثابتًا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزَمَ بثلاثٍ مُفَرَّقة.
وقد جاءَ حديث ثالثٌ في. الثلاث مجتمعةً، رواه النسائي (1) فقال: أخبرنا سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعتُ محمودَ بن لبيد قال: أُخبِر رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثَ تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم"؟! حتى قام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله!
أفلا أقَتلُه؟.
__________
(1) 6/142.(1/311)
ففي هذا الحديث أنه غَضِبَ على من طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، وجَعَل هذا لعبًا بكتاب الله، وأنكر أن يُفعَل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجلٌ في قتله، ومع هذا فلم يُذكَر أنه فَرَّقَ بينَه وبينَ امرأتِه، وتأخيرُ البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز، ولا يقال: كان هذا معلومًا بينهم. فإن هذا يشتبه، وقد ثبت أنهم كانوا يجعلون الثلاث واحدةً، ونفسُ التحريم يشتبه على العلماء فضلاً عن العامَّة، حتى أن كثيرًا منهم يقولون: ليس هو بحرام.
فإن قيل: المطلِّق كان يعتقد وقوعَ الطلاقِ بالثلاث.
قيل: كما كان يعتقد إباحتَه. ولم يَنقُل أحدٌ بإسنادٍ ثابت أن أحدًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، وهي ممن يُباحُ له إمساكها، فأوقعَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى طائفة من المصنفين في الحديث والفقه والخلاف أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم بالحديث، فلا حاجةَ إلى ذكرِها، ولكن الذي يُظَنُّ أن فيه حجةً ثلاثةُ أحاديث:
حديث فاطمة بنت قيس، ففي رواية غير واحدٍ أنها قالت: طلَّقني ثلاثًا (1) ، وفي لفظ بعضهم: طلَّقني البتةَ (2) . ولكنَّ هذا مجمل فسَّرَه ما ثبت في الصحيح (3) من رواية الزهري عن أبي سلمة وعبيد الله عنها أن زوجها أبا حفص بن المغيرة خَرج مع عليّ إلى اليمن، وأرسل إليها بتطليقةٍ كانت بقيتْ من طلاقِها.
__________
(1) رواه عنها: عبد الرحمن بن عاصم (كما عند أحمد 6/414 والنسائي 6/207) ؛ وعروة (كما عند مسلم برقم 1482 والنسائي 6/208) ؛ والبهي (كما عند مسلم برقم 1480/51 وأحمد 6/412) وغيرهم.
(2) رواه عنها: أبو سلمة بن عبد الرحمن (كما عند مالك في "الموطأ"، وأحمد 6/412 و413 و414 و415 و416، ومسلم برقم 1480/36 وغيرهم) .
(3) مسلم برقم (1480/40،41) .(1/312)
والثاني: حديث العجلاني (1) ، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاقِ العجلاني: قال مالك بن أنس في حديثه: فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقَها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقَها، وقال الأوزاعي: ففارقَها، وقال عقيل: ثمَّ فارقَها. ولم يُنقَل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبتُ عليها إن أمسكتُها، ولكن الراوي عبَّر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تَدُلُّ على أنه فارقَها فراقًا باتًّا قبلَ أن يُؤمَر بذلك، فإن كان الراويَ عبَّر عن مفارقتِه بقوله "طلَّقها ثلاثًا" - لأن مقصوده أنَّه حرَّمَها عليه - فليس فيه حجَّة؛ وإن كان هو تكلَّم بلفظ الطلاق بقوله "طلَّقها ثلاثًا" قد يُراد به مفرَّقَة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق، كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجَها طلَّقها ثلاثًا، وكان المراد ثلاثًا مفرقات، فلا حجَّة فيه أيضًا؛ وإن قال: "هي طالق ثلاثًا" فلا حجة فيه أيضًا، كما سنذكره.
والثالث: حديث امرأة رفاعة (2) ، وهو أيضًا لفظٌ مُجْمَلٌ، فقد يكون الطلاق الثلاث وقَع مفرَّقًا، كما وقَع في حديث فاطمة بنت قيس.
بل (3) وأما حديث البتة (4) إن صحَّ ففيه أنه أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه البخاري (5308 ومواضع أخرى) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي في قصة عويمر العجلاني.
(2) أخرجه البخاري (2639،5260 ومواضع أخرى) ومسلم (1433) من حديث عائشة. وفي بعض طرقه أنه طلقها ثلاثًا، وفي بعضها أنه بت طلاقها، وفي بعضها أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنها وقعت مفرقة.
(3) كذا في الأصل.
(4) يقصد حديث ركانة الذي سبق ذكرها.(1/313)
وقال: ما أردتُ إلاّ واحدة، وأنه استحلفَه ما أردت إلاّ واحدةً.
ومنطوقُ هذا لا حجةَ فيه، لأنه إذا لم يُرِدْ إلاّ واحدةً لم يَقَعْ به إلاّ واحدة. وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجملٌ، لو قال: أردتُ ثلاثًا حتى كان يغضب عليه ويُؤدّبه لفعلِه المحرَّم الذي نهى عنه، كما غضب على غيرِه، ويؤخر إذنَه له في الرجعة تأديبًا له، أو كان يُوقِعها به. وليس في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقعَ ثلاثًا، ولا يجوز أن يثبت تحريمٌ عامٌّ يَلزَمُ الأمَّةَ بمسكوتٍ مجملٍ أو بحديثٍ مضعَّفٍ، قد عارضَه ما هو أصحُّ منه لا بيانَ فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يُرِيدَ الواحدةَ أو أكثر، والفرقُ ثابتٌ بدون إيقاع الثلاث.
وقد روى مسلم في صحيحه (1) عن عائشة قالت: طلَّق رجلٌ امرأتَه ثلاثًا قبلَ أن يدخلَ بها، فأراد زوجُها الأول أن يتزوَّجها، فسُئِل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: "لا، حتَّى يذوق الآخر من عُسَيْلتها ما ذاق الأول". وهذه هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدَّعي أنه وطئها.
وتطليقُها ثلاثًا قد يكون مفرقةً، وقد يكون طلَّقها ثلاثًا بكلمة واحدةٍ، ولكن بانت بواحدةٍ إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ذلك ثلاثا.
***
__________
(1) برقم (1433/115) .(1/314)
فصل في الطلاق الثلاث(1/315)
أمكنني (1) ، وبقيتُ على ذلك مدةً ... فلم أجد دليلاً شرعيا يُوجِب إيقاعَ الثلاث بكلمةٍ واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس.
أما القرآن ... إلاّ على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول ... الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرتُ القرآن فلم أجد فيه إلاّ طلاقًا رجعيا، ولا يدل قط إلاّ على طلقةِ واحدة.....
وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدلُّ على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر بالطلقة الواحدة، كما في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (2) . قالوا: فأمره الله بالطلاق..... وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1)) ، فلو كان لا يقع بالثلاث إلاّ واحدة أو..... بحالٍ لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلَّق واحدةً أو ثلاثًا، فإن له أن يراجعهما.
وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه فقط، فعلى قولهم يكون تعليلاً
__________
(1) هذه الرسالة سقطت منها بعض الأوراق من بدايتها، وفي أثنائها طمس في مواضع أشرتُ إليها بوضع النقط. ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص.
(2) سورة الطلاق:1.(1/317)
للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصحّ أن لو كانت الثلاث تقع بكلمة واحدةٍ، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صحَّ أنَّه تعليل للمأمور به، لكن لا يثبت أنه تعليل للمأمورِ به حتى يثبت أنه تَقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور به، وهذا دَورٌ يَمنَعُ صحةَ الدلالة.
وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلاً لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله شرع لكم أن تُوقِعوا واحدةً وأمركم بذلك، ولم يشرعْ لكم أن توقعوا الثلاث مجموعةً، فإنه لو شَرع لكم ذلك أفضى (1) إلى الندم.
ومعلوم أنه إذا لم يشرع إيقاع الثلاث بكلمة واحدةٍ، بل نهى عن ذلك، ولم يجعل الثلاث..... في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يَبلغُه، فيقع في الندم، فإذا لم يجعله مشروعًا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة.
وأيضًا فإن القرآن إنما يُعلِّل شرعَ الله الذي شرعَه لعباده، والشرع المذكور إذا كان تحريمًا للزيادة وإبطالاً لها كان ذلك أبلغَ في تحصيل مقصودِ الشارع في الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلاً لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو نهى أن تُنكَح المرأةُ على عمتها وعلى خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (2) ، كان هذا
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) أخرجه أحمد (1/372) وأبو داود (2067) والترمذي (1125) عن ابن عباس.(1/318)
تعليلاً للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحلُّ له الجمع، ولو جمعَ لكان العقد فاسدًا، لأنه لو وقع المنهيُّ عنه لَزِم الفسادُ، بل الفسادُ يَنْشَأُ من صحةِ المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصحَّ العقدُ كان الفسادُ أقلَّ منه إذا انعقد المنهي عنه وصحَّحه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صحَّ المنهيُّ عنه أكثر منه إذا فعله ولم يصح.
وهذا يُقرِّر أن النهي يُوجبُ فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء لرجحان المفسدَة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحًا بحيثُ يترتب عليه حكمه ويحصُل به مقصودُه لَزِمَ وقوعُ المفسدة، فأما إذا أبطلَه فلم يترتَّب عليه مقصود المنهي الذي ارتكبه انتفتِ المفسدةُ بالكلية.
ولهذا إنما يُحكَم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يَحصُل به مقصوده، فأما الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة والطواف عريانًا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا تبرأ ذِمتُه ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم مقصودُه حصولُ الملك وحِل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصودُه من الملك وحلّ الانتفاع، فيكون البيع باطلاً، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك.
وأما الظهار فنُهِي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونهِ مُزِيلاً للملك أو مُوقِعًا للتحريم الذي تُزِيلُه الكفارة، فإن الزوج له أن(1/319)
يُزِيل الملك بالطلاق، والتحريمُ الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن المرأة قد تحرم على زوجها إلى غايةٍ، كتحريم المُحرِمة والصائمة والمعتكفة، وتحريمُ الحلال يُوجب كفارةً على ظاهر القرآن، وهو أحد قولَي العلماء. وإنما نُهِي عَن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا يمكن إبطالُه بعد وقوعه، كما أن من نُهِيَ عن الكذب وشهادةِ الزور فكذَب وشَهِد بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذَبَ ولا شهد بالزور، وكذلك من نُهِيَ عن الكفر والقذفِ فكَفَر وقذفَ لا يمكن أن يقال: إنه ما وَقَع منه كفر ولا سب، فكذلك الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقًا مُزِيلاً للملك، فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلاً للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ويطأها إذا كفر.
ثمَّ قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير.
وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بلْ موجبُه الامتناع من الوطء أو التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبُها إمّا الامتناع من فعل المحلوف عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العَود، لأن الظهار محرَّم، لاشتماله على منكرٍ من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتَحِلَّة التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا عليه في أول الأمر دليلاً على أنه ليس كل لفظٍ قُصِدَ به الطلاق يَقعُ به الطلاقُ، فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يُوقع الله به الطلاقَ، بل نَسخَ ما كانوا عليه. ولابدَّ لهذا من سبب يُوجبُ الفرق بينَه وبين لفظ الطلاق. فلما كان مَن أوقعَ الطلاقَ بلفظه يَقعُ ومن أوقعَ بلفظ الظهار لا يقعُ-: لم يكن بدٌّ من الفرق بينهما في نفس الأمر.(1/320)
ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريحٌ في حكمه، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايَةً في غيره.
فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لِمَ جعلَ هذا القول صريحًا في غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقعَ؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، فلابدّ لأحد القولين من أن يختصّ بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه الكفارة. وهذا أمرٌ ثابت في نفس الأمر لابدَّ منه.
فلقائلٍ أن يقول: العلَّة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزُور، فلا يقع الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهيَّ عنه لا يقع، لأنه أيضًا محرَّم كما أن هذا محرَّم؛ فإن كون الكلام منكرًا من القول وزورًا يُوجب النهيَ عنه وتحريمَه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرَّم، فإنَّ جميعها أقوال محرَّمة ينهى الله عنها ورسولُه. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا نوى به الطلاق وَقَع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟.
وقد شدَّ بعض متأخري الفقهاء فزعَم أن الظهار ليسَ بمحرَّم.
لكن هذا خلاف النصّ والإجماع القديم، فإنه قد حَكَى الإجماعَ على تحريم ذلك غيرُ واحدٍ من العلماء، ولم يُعلَم نزاعٌ قديم يقدم في ذلك كما عُلِمَ في غيرِه. والذي نقطع به أنّا لا نعلم فيه خلافا قديمًا.
وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب(1/321)
في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمّه. والأقوال التي بها يقع الطلاق لابدّ أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريمَ صريحًا في الظهار، لأنه أيضًا بمنزلته في كونه منكرًا وزورًا. لكن يَرِدُ على هذا أنه إذا قصدَ التشبيهَ ونَوى أنكِ إذا وقعَ بكِ الطلاقُ صرتِ مثلَ أُمِّي، فإن هذا الوصف لازم لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كلّ وجه، فقوله "أنتِ مثلُ أمّي" أي طلقتكِ فصرتِ مثلَ أمّي، كقوله "أنتِ خلية وبريَّه وبائن"، فإن المعنى: طلَّقتك فصِرتِ كذلك. وقوله "أنتِ طالق" معناه طلقتكِ فصرتِ طالقًا، فإذا قال "مثل أمّي" أي جعلتك مثلَ أمّي في كونكِ لا تبقي (1) زوجةً.
وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلاّ فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثلَ أمّه محرَّمةً على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يُقصَد بهذا اللفظ وأمثالِه ولم يعتبره الشارع عُلِمَ أنه أبطلَ ذلك لكون القول في نفسه منكرًا وزُورًا، فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" منكر من القول، لأن الله حرَّمَه، وكل واحدٍ من كون القول منكرًا يوجب إبطاله. وقوله تعالى (وَزُوراً (4)) ، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون هذا وجه كونه منكرًا.
وإن قيل: هو جزء علة.
قيل: كل ما كان منكرًا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورًا أو لم يكن.
وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذٍ فالقول المحرم لا يكون
__________
(1) كذا في الأصل بحذف النون.(1/322)
سببًا لنقلِ الملك، فلا يزول ملكه ويُبَاحُ لغيره بقول محرَّم. فهذا قد يحتجُّ به من يقول: إن الطلاق المحرَّم لا يصح، كما أن النكاح المحرَّم لا يصح، وهذا موجبُ الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاقُ في الأصل مكروه بل محرَّم يُبغِضه الله، وإنما أباح منه قدرَ الحاجة، فيكون ما أبيح من قدر الحاجة إنما أُبيح لمن تكلم به بكلامٍ مباح، وأوقعه على الوجه المأذون فيه، أَمّا من تكلَّم به بكلام محرَّم وفعلَه على الوجه الذي نُهِيَ عنه، فالشارع لم يُبِح له ذلك الطلاقَ، فيكون باقيًا على الحظر، فلا يكون من الطلاق المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح.
يوضّح ذلك أن ما كان محظورًا وأُبيح للحاجة كان رخصةً، والرُّخَصُ لا تُستباحُ على الوجه المحرم، فيكون من طلَّق طلاقا لم يُؤذن له به - كمن طلَّق بلفظ الظهار - فلا يقع الطلاق بذلك.
يُوضِّح ذلك أن إيقاع الطلاق ممّن أوقعه على الوجه المحرَّم إما أن يكون عقوبة له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعلَ المحرَّم لا يناسب النعمة بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع الطلاق به، فلمّا لم يعاقبه الشارع بذلك عُلِمَ أن الشارع لم يجعل نفس وقوع الطلاق عقوبةً للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفّارات، لأن الكفّارات من جنس العبادات، والله يحب أن يُعبَد، فإذا فعلوها فعلوا ما يُحبه الله ورسوله، كما إذا أقاموا الحدود لله، التي جُعِلتْ عقوباتٍ، فإن الله أمر بها وجعلها واجبةً، وما تقرَّبَ العبادُ إلى الله بأفضلَ من أداءِ ما افترضَ عليهم.
فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يُجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا يحب وقوعَ الطلاق ولا يأمر به ولا يَرضاه لغير حاجة،(1/323)
فكيف يَشرَع وقوعَه ويجعله عقوبة؟!
يُوضِّح ذلك أنه تعالى يُبغِض وقوعَ الطلاق، فكيف يشرع العقوبةَ بوجود ما يبغضه؟ وهو إنما يشرعُ العقوبةَ لئلاّ يُوجَد ما يُبغِضه، فيمتنع أن يَحكُم بوجود ما يُبغِضُه لئلَّا يُوجَد ما يُبغِضه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين، لاسيّما إذا كان الذي عاقب به هو نفس ما يُبغِضه.
فهو مثل أن يُقال: اسقوه الخمرَ لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع.
فإن قيل: فقد حرَّمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبةً له.
قيل: هناك لما استوفوا الطلاقَ الذي أباحَه لهم للحاجة حرَّمها عليهم بعد الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم بوقوع طلاقٍ قطّ. والعقوبة بالتحريم إلى غايةٍ مما جاءت به الشريعة، كما حرَّم الله على المظاهر المرأةَ حتى يكفّر، والعقوبة بالتحريم المؤبَّد كان من شرع من قبلَنا، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (1) ، وكما قال: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)) (2) . فإن قيل: فهلاَّ منعَ وقوعَ الطلاق الثلاث إذا كان يُبغِضه؟ وقال: لا يقع الطلاق الثلاث وإن فرَّقَها.
قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرجٌ عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تُبغِضه. ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة الأنعام: 146.(1/324)
يقيما حدودَ الله، فلم يُبح الله الخلعَ إلاّ عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن لما أبيح الطلاقُ للحاجة لم يُبَح منه إلاّ الثلاثُ، فإنها قدر الحاجة، وحرَّمها عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعًا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصةً مع قيام السبب الحاظِر. كما أنه لم يُرخَّص في اقتناء الكلاب إلاّ للحاجة.
فإن قيل: فهلاّ أبيح له بعد الثالثة أن يتزوَّجها بعقدٍ جديد قبل أن تنكح زوجًا غيرَه؟.
قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن هذا وحده زاجرًا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك من الرحمة والعدل والحكمة، وإلاّ فلماذا جُعِلَتْ هذه الكلمةُ يقع بها الطلاق وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد الثالثة؟ ولماذا جُعِل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة.
والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملةً. وأما السنة فليس فيها أيضًا شيء من ذلك، بل لا يُعرَف أن أحدًا أوقعَ الثلاثَ جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنها وقعتْ به. وما رُوِيَ في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كَذِب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نُقِل نقيضُ ذلك.
وحديث فاطمة بنت قيس لمَّا طلَّقها زوجُها ثلاثًا إنما كانت الثالثة(1/325)
آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مُفسَّرًا في الصحيح (1) . وحديث المتلاعنين طلَّقها ثلاثًا بعد اللعان، واللعانُ حرَّمَها عليه أشدَّ من تحريم الطلاق، فكان وجودُ الطلاق كعدمِه.
وإذا قيل: فلماذا لم يَنْهَه عن التكلُّم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقًا في هذه الحال؟
قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيدُ ولا يقع بها طلاقٌ، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا محلٌّ يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلَّق أختَه التي تزوَّجها، فإذا تزوَّج من تحرمُ عليه على التأبيد وطلَّقها كان هذا توكيدًا للتحريم، فكذلك طلاق الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنِّه بيَّن أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع قصد ذلك أيضًا. بخلاف من قَصدَ الشارعُ أن لا يحرِّمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن إيقاع الثلاث جملةً بها، ولهذا غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة.
وأما حديث رُكانة بن عبد يزيد (2) فقد رُوِي أنه طلَّقها ثلاثًا فردَّها عليه بعد الثلاث، ورُوِي أنه طلَّقها البتة وأنه حَلَّفَه ما أراد إلاّ واحدة، فقال: ما أردتُ إلاّ واحدةً، فردَّها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيرُه هذه وهذه، ورجَّحوا الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من العلماء ضَعَّفوا حديثَ ركانة، وذلك أنَّ رواتَه قومٌ لم يُعرَفوا بحملِ العلم، ولا يُعرَف من عَدْلِهم
__________
(1) سبق ذكر هذا الحديث وحديث المتلاعنين فيما مضى، وتكلم عليهما المؤلف.
(2) سبق ذكره وكلام المؤلف عليه فيما مضى، فلا نعيد التعليق عليه.(1/326)
وضبطهم ما يوجب أن تثبتَ بمثل نقلهم سنة للمسلمين تُوجبُ حكمًا عامًّا للأمة.
وأيضًا فالرواية الثانية لا تدلُّ بمنطوقها، بل غاية ما تدلُّ بمفهومها، وهو لو قال "أردت ثلاثًا" كان يحتمل أن يؤدِّبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرَّمًا، ويحتمل أنه كان يُوقِعها به، فاستفهامُه له يدلُّ على اختلاف الحكم بين إرادة الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه.
وفي سنن النسائي (1) أن رجلاً طلَّق امرأتَه ثلاثًا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغَضبَ عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال الرجل: أفأقتلُه يا نبيَّ الله؟
فهذا فيه غضبُه عليه حتى استأذنه بعضُ المسلمين في قتلِه، وليس فيه أنه أوقع به الثلاث، فدلَّ ذلك على أن هذا كان منكرًا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاعله مستحق للذمّ والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدلُّ على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته على أنها لا تقع أقوى.
ثمَّ قد ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره عن ابن عباسٍ أن الثلاث كانت واحدةً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، ثم قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم [فيه] أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم، فأَمْضاه عليهم.
__________
(1) 6/142. وفيه: "أيُلعَب ... ".
(2) برقم (1472) ، وقد سبق كلام المؤلف عليه فيما مضى.(1/327)
وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فُتْيا ابن عباس في ذلك، فنُقِل عنه إيقاعُ الثلاث بكلمة واحدة، ورُوِيَ عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك أبو داود في سننه وغيرُه (1) .
والمقصود هنا أنه ليس في السنة قَط أن أحدًا طلَّق ثلاثًا جملةً على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأوقعها به، وهذا لا ريبَ فيه.
وأما الإجماع فلا إجماعَ في المسألة (2) ، بل قد نقل عن أكابر الصحابة - مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، وهو قول غير واحدٍ من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدُّنا أبو البركات يفتي بذلك أحيانًا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام والفقه، وهو أحد قولَي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة.
وأما القياس فلا قياسَ في وقوعِه، بل القياس أنه لا يقع، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فسادَ المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصدُه وقوعُه، ففسادُه يُوجب أن لا يحصل مقصوده. كما أن المكرِه الظالم لما كان قصدُه وقوَعَ الطلاق بالمكرَه لم يقع الطلاق من المكْرَه.
__________
(1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.
(2) علق عليه أحد القراء: "هذا كلام ساقط، بل الإجماع منعقد على وقوع الثلاث، وأنه جائز، انتهى". قلت: كأن المعلق لم يقرأ ما نقله المؤلف عن أكابر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فأين الإجماع الذي ادَّعاه المعلق؟ وانظر "مجموع الفتاوى" (33/82-84) . وقد سبق ذكر بعض الآثار الواردة فيه فيما مضى.(1/328)
فإن قيل: المنهي عنه إذا كان سببًا للإباحة فينبغي أن لا يُباح له، لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة، وأما إذا كان سببًا لإيجاب أو تحريم فإنه يصحّ، كالنذر والظهار، فإنه نُهِي عن النذر وانعقد، ونُهِيَ عن الظهار وانعقد.
قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبيّنّا أنه نفسه قولٌ منكر وزُورٌ، وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يَحتجُّ به من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يُوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره.
وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذرَ ماليس بقربة لم يلزمْه، بل يُجزِئه كفارة يمين. وأما إذا نذرَ القُرَب فالقُرَب يحبُّها الله ورسوله، وإنما نُهِي عن النذر لاعتقاد أنه يَقضِي حاجتَه، لا لكون المنذور مكروها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه يُستَخرج به من البخيل" (1) ، والاستخراج من البخيل مما يُحِبّه الله ورسوله، فلم يَحصُل بانعقاد النذر إلاّ ما يُحِبُّه الله ورسولُه، لكن يُخَافُ عليه أن لا يُوفِيَ. كما أن المُحرِمَ قبل الميقات يُخَاف عليه أن يرتكب المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يُخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان مُفضِيًا إلى الطاعة لم يَبطُل خوفًا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (6608،6692،6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.
(2) سورة البقرة: 196.(1/329)
والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبًا، لكونه التزم مالم يَفِ به، وهو مذموم على الكذب، كما قال تعالى: (*وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)) (1) . وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما الأفعال كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرمًا فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم له، بل وجودُه كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل، وجودُه كعدمه.
والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر بقلبه أو قاله بلسانه غيرَ مُكرَهٍ استهزاءً بآيات اللهِ لم يمكن إن يقال: وجود ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب.
والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبُه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة إلاّ بأن يقال: الصيغة ليست التزامًا وعهدًا، وهذا ممتنع، إلاّ ترى أنه لما التزم فعلَ المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين
__________
(1) سورة التوبة: 75-77.(1/330)
عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره.
وأيضًا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صَدٌّ عن الترغيب في الطاعات، والشارع يُرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: فيه كفارة يمين مطلقًا ففيه صَدٌّ عن الطاعات التي هي أحبُّ إلى الله من الكفارة، وهذا بخلاف المحرّمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها.
ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارةً يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يُبغِضه الله من غير مصلحةٍ في ذلك، لا للزوج ولا للمرأة ولا لأحدٍ من المسلمين، ولا فيه ما يُحِبّه الله ورسولُه، فكيف يشرع الله وقوعَ فسادٍ راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقًا إلى رفع ذلك الشر والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة.
وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك.
قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحًا أبطلَ الشارعُ تلك العقود، ولم يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحةَ منهيَّا عنها، وباعَ بيوعًا منهيَّا عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرَّم عقد من العقود المنهي عنها.
فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزمَ الناسَ بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعُلِمَ أنه اطّلعَ على دليل شرعي يُوجِب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن(1/331)
عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو (1) ، فهؤلاء أفتوا فيمن أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنَّه إجماعا، وصار نقيضُ ذلك يُحكَى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لمّا ذُكِر هذا القولُ عن الرافضة لأحمدَ قال: قولُ سوء، أو نحو ذلك.
قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقبَ الناسَ بإيقاعِها جملة لما أكثروا من فِعْلِ ما نُهُوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أنّا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.
والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأيَ عمر في ذلك، وألفاظهم تَدُلُّ على أنهم فعلوا ذلك عقوبةً لمن فَعَلَ ما نُهِيَ عنه، كقول ابن مسعود لما سُئِل عمن طلَّق ثلاثًا: أيها الناس! مَن أتى الأمرَ على وجهِه فقد بُيِّن له، وإلاّ فوالله ما لنا طاقة بكل ما تُحدِثون. وفي لفظٍ: من أتى بدعةً ألزمناه بدعتَه. فعُلِم أن هذا كان عنده ممّا نُهُوا عنه، فألزمَهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلَّق ثلاثًا: إنك لو اتقيتَ الله لجعلَ لك فَرَجًا ومخرجًا، ولكنّك لم تتق اللهَ فلم يجعل لك فرجًا ومخرجًا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلتَ ذلك فقد عصيتَ الله وبانت منك امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يَذُمُّون فاعلَ ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. وهذا يقتضي أن فاعلَ ذلك كان مذمومًا عندهم مع إيقاع الثلاث به.
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات
__________
(1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.(1/332)
وفي المنع من بعض المباحات، لما يَرونَه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيرِه في حدّ الشارب حتى حَدُّوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويَحلِق رأسَه. وكما كان عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناسُ في غير أشهر الحج، فمنَعَهم من المباح لمَّا رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حَضِّ الناس على الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرًا أو لئلاّ يفعلوا شرًّا. فلمّا كثر منهم إيقاعُ الثلاثِ جملةً، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلاّ بإلزامهم بها ومنعِه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملةً ومُفرَّقًا، لئلاّ يفعلوا الشرَّ الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا الخيرَ - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرَّم على الناكح في العدَّة أن يتزوج المنكوحة أبدًا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في العدّة. وكما منع شاربَ الخمر أن يقيم ببلدِه، ليمنعه بذلك من شُربِ الخمر.
وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى المخنَّثَ والزاني، ومَنَعَ الحميريَّ من السَّلَب الذي أمر خالدًا أن يُعطِيَه إياه، فحرَّمَه عليه بعد أن أوجبَه له، ليزجر بذلك عن التعدّي على ولاة الأمور لما اعتدى عوف بن مالك على خالدٍ (1) . وكذلك ما رُوِي من منع الغالّ سهمَه. وأيضًا فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خُلِّفوا أمرَ أزواجَهم بهجرهم، ومنعهنَّ أن يمكِّنوهم من مضاجعتهم (2) ، مع أن هذا حلالٌ للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوبَ الله عليهم أو يحكمَ الله بحكمٍ
__________
(1) أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك.
(2) كذا في الأصل، والأولى أن يكون: "ومنعهن أن يمكنهم من مضاجعتهنَ".(1/333)
آخر. والمظاهر تحرمُ عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرًا لمن استحقَّ التعزير بالهجرة. وعاقبَ المتلاعنينِ بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقبَ بتحريمٍ أخفَّ من موجب الطلاق وبتحريمٍ أبلغَ من موجب الطلاق، وجعلَ الثاني شرعا مطلقًا، وجعلَ الأوَّلَ تعزيزًا يسوغ أن يفعله الأئمةُ بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونُصحِه للأمة - رأى أن يُعاقِبَ المستكثرين مما نَهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات المشروعة. وقد كان أحيانًا يَهُمُّ بنهيهم عن أشياءَ وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين له الصواب في ذلك، كما همَّ أن يمنعهم من الزيادةِ في قدرِ الصَّداق على ما فعلَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأزواجِه وبناتِه، ويجعل فِعلَه شرعًا لازمًا لهم لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوزَ فِعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجَعْلِ الزيادة في بيت المال، حتّى تبيَّنَ له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يُمنَعون منه ولا يُعاقَبون عليه.
وإلاّ فهل يَظنُّ من يؤمن بالله واليوم الآخر ويَعرِف حالَ السابقين الأولين أن عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يَعمِد إلى نَسْخِ شرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن المسلمين يُقِرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا نسخ لشرعِه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقُه عليها جماعتهُم، وتارة يوافقه عليها بعضُهم وينكرها بعضُهم إنكارَ مجتهدٍ على مجتهدٍ، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج (1) ، مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يُحرِّمها، وأنه كان له فيها اجتهادٌ متنوع.
__________
(1) أخرجه البخاري (1571) ومسلم (1226) عن عمران بن حصين.(1/334)
وإذا كان هذا مخرجَ ما فعلَه عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمَهم به فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة.
وأمّا من لم يعلم أن ذلك محرَّم أو اعتقدَ أنه مباح وفَعَلَه، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب، ولا يمكن إلزامُه به على وجه العقوبة، إلاّ أن يكون الشارع ألزمَه بالثلاث. وظهر مقصودُ عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمَه، والشارع نهاهم عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا يقصدون ما نُهوا عنه، وقد يعتقد عامتُهم وقوعَ الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك بإلزامِهم ما قصدوه وما اعتقدوه.
فإن قيل: فقد تقدم أن الشارعَ لم يُعاقِب بوقوع الطلاق.
قلنا: نعم، ليس في الكتاب والسنة عقوبةٌ بوقوع الطلاق، ولكن جَعْل هذا عقوبةً هو مما يقوله كثير من السلف والخَلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: إنما يُوقَع الطلاقُ بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله عنه.
وأيضًا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعًا لهم من إيقاعِه، فرأى أن ما يَنتفِي من وقوع الطلاقِ البغيض إلى الله أكثرُ مما يقعُ منه، فدَفَعَ أعظم الفسادَين بالتزامِ أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرَّمة ولا يرونها إلاّ واحدةً، وكانوا يَقصِدون الثلاث أولاً بالقول المحرّم مع علمهم أنه لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلُّمهم بالثلاث وقصدُهم إيقاعَها، وذلك بغيض إلى الله، ووقوعُه أيضًا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضَينِ وقوعًا بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يُلزمهم بالثلاثِ الثلاثَ امتنعوا عن التكلم بالثلاث،(1/335)
فكان في ذلك دَفعُ أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولمّا رأى أنهم لا ينتهون إلاّ بذلك فَعَلَ ذلك.
وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلاّ رجمتُهما، فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يُفضِي إلى التحليل الذي حرَّمه الله ورسولُه وإلى كثرته العظيمة لم يَنْهَ عنه، لعلمِه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلاّ واحدة خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا بالثلاث فلا يقع بهم إلاّ واحدة. فمتى دارَ الأمر بين أن تقع الثلاثُ ويحلل، وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نوَّر الله قلبَه بالإيمان، فإن التحليل فيه شرٌّ كبيرٌ ليس في عدمِ إيقاع الثلاث جملةً منها شيء.
وكان نكاح التحليل قليلاً جدًّا في زمن الصحابة، ولهذا سُئِلوا عنه في وقائعَ مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلاّ رجمتُهما. وقد لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّلَ والمحلَّلَ له (1) .
ولم يكن على عهده من يُظاهِرُ بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنًا ومن يقصده، فلعنَه كما لعنَ آكلَ الربا ومُوكِله وشاهدَيْه وكاتبَه، لتنزجر النفوسُ بذلك عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتمَّ عقوبة الله للمطلّق الذي طلَّق الثالثةَ بعد طلقتين، فلا يَقصِد أحدٌ إعادةَ امرأتِه إليه، فينزجر بذلك عن إيقاع الثلاث مفرقة.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/448،462) والدارمي (2263) والترمذي (1120) والنسائي (6/149) عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد (2/323) عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه (1934) عن ابن عباس، وفي الباب عن آخرين، وهو حديث صحيح. انظر "إرواء الغليل" (1897) .(1/336)
والثاني: لأن التحليل من جنس السفاحِ لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ولهذا كان الزوجُ مُشبهًا فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارتَه لا مصاحبتَه.
فلما كان مفسدةُ وقوع الثلاث قليلةً لقلَّةِ التحليل، وكان الناس قد أكثروا مما نُهُوا عنه منَ إيقاع الثلاثِ جملةً، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرَّم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبةً لهم، فرأى عمر وغيرُه أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ما كان على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وأول خلافته، فإنها كانت قليلةً في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها قليلاً حاجة إلى عقوبة. ولا ريبَ أنه إذا كثر المحظور احتاجَ الناسُ فيه إلى زجرٍ أكثر مما إذا كان قليلاً.
ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرةَ شُرْب الناسِ الخمرَ واستخفافَهم بالعقوبة التي هي أربعون جَلَدوا ثمانين، وَكان عمر مع ذلك يَنفِي ويَحلِق الرأسَ، لأن عقوبة الشارب لم يُقدِّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها قدرًا مؤبدًا كما قدَّر في القذف، لا عددًا ولا صفةً، بل أقل ما ضرَب أربعين، وكان يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة (1) ، فكان صفةُ عقوبتِه وقدرُها مُفوَّضًا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ فيها حدًّا حرَّمَ ما زاد عليه لامتنعَ عليهم أن يُبدِّلوا شريعتَه، فإنهم لا يتفقون على ضلالةٍ.
وإذا كان هذا فعلَه عمر على وجه العقوبةِ والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلَّم بذلك،
__________
(1) سبق ذكر هذا الحديث وتخريجه.(1/337)
سواءً كان عالمًا بالتحريم أو جاهلاً، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة لكل من تكلم بها دليل شرعيٌّ أصلاً. وإذا كان كثير من الفقهاء يُوقِعون الطلاقَ بالسكران، ويقولون: نُوقِعه عقوبة ونَجعلُ ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يُوجب انتهاء الناس عن الشُكر، فكيف لا يكون ما فعلَه عمر رضي الله عنه من العقوبة مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلةِ الشرعية ومقصودِ المعاقب من هذا.
ولو قُدِّر أن بعضَ الصحابة رأى وقوع الثلاث جملةً بكل من تكلَّم بها، ورأى هذا شرعًا عامًّا لازمًا، فقد نازعَه في ذلك غيرُه، مع أن هذا بعيد، فإن الذين رُوِيَ عنهم إيقاعُ الثلاث جملةً رُوِيَ عنهم نَفْيُ ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس (1) ، فَحَمْلُ كلامِهم على اختلاف حالين أولى من حَمْلِ كلامِهم على التناقض، واعتقادهم فساد أحد القولين (2) . وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرَّم لازمَ الوقوع، فيلزم أن المطلقة في الحيض أيضًا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين (3) أنه لمَّا طلَّق امرأته في الحيض غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "مُرْه فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم
__________
(1) انظر تفسير القرطبي (3/132) و"مجموع الفتاوى" (33/83) و"إغاثة اللهفان" (1/329-330) ، حكى ذلك عنهم ابن وضاح.
(2) بعده سبعة أسطر في الأصل وكتب في الهامش: "مكرر يأتي في موضعه".
(3) البخاري (5252،5332 ومواضع أخرى) ومسلم (1471) .(1/338)
تطهر، ثم إن شاء بعدُ أمسكها، وإن شاء طلَّقَها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وقد رُوِي عن ابن عمر (1) أنه قيل له: أتعتدُّ بها؟ قال: أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثًا عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتك.
قيل: أولاً حديث ابن عمر قد رُوِي فيه أنه حَسَبَها من الثلاث، ورُوِيَ أنه لم يَحْسُبْها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعْها" مثل قوله "رُدَّها" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ تُستَعمل في العقدَ المبتدأ، وتُستَعمل في إمساك المطلقة، وتُستَعمل في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) (2) ، فهذا عقد جديد. وقال تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (3) ، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي.
وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز، بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدَّتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم بالثلاث، وإن لم يكن عَلِمَ بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم، فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين:
إحداهما: أنه أمر بمراجعةٍ هي مراجعةُ من وقع بها الطلاق.
والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضةً على ذنبٍ، بل
__________
(1) كما في بعض الروايات للحديث السابق.
(2) سورة البقرة: 230.
(3) سورة البقرة: 228.(1/339)
هي شرع لازم لكل من طلَّق في الحيض.
وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل.
ثم قد يُستَدلّ على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدَّة عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلَّله آخرون من أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بُدَّ لهذا الحكم من علَّةٍ، وقد بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفًا مناسبًا إلاّ هذا أو هذا، والسَّبْرُ مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلَّة.
وإذا كانت العلَّة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يُؤمر به لإزالة تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة.
والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد (1) . ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تُشْرَع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشدُّ في الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثمّ يُطلّقها في الطهر الأول، فيحتاج إلى استئناف العدَّة عليها، فيزداد الطول والضررُ. وهذا أشهر القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا يطلّقها إلاّ في الطهر الثاني فإنه لا يُوجِب وطئها في الطهر
__________
(1) بعده في الأصل بياض بقدر ثلاث كلمات، ومكتوب عليه: "كذا".(1/340)
الأول، فإذا أمسكها ولم يطأها وطلَّقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضًا عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادةَ شر. وإن بَنَتْ على العدَّة فلا فائدة في الرجعة.
وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدَّة عليها فيردها، لأنها امرأته، ولا يطلّقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعدُ من وطئها، فالنفور بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب ذلك تَفْتُر رغبتُه عن الطلاق.
والشارع نهى الرجالَ أن يطلقوا إلاّ لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة. فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نُهُوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير العدة فقد حصلَ الشرُّ الذي كرهَه الله ورسولُه، وحَصَلَ طولُ العدَّة لا مَحالةَ، لأن هذا الطلاق إذا وقعَ أوجبَ عدةً، فتكون طويلةً، ومراجعتُها بعد ذلك - إذا قيل: إن الطلاق قد وقعَ - لا تَرفعُ هذه العدة الطويلة، ولا تُزيل هذا الضرر، بل إما أن تَزيده ضررًا وطولاً آخر، كما هو قول الجمهور الذين يُوجبونَ على المرتجعة إذا طلقت قبل الدخول عدةً أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما أن تبقى العدةُ طويلةً مُضِرَّةً كما كانت، كما هو قولٌ للشافعي ورواية عن أحمد.
فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تُمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تُمكنه من وطئها في ذلك الطهر.
قبل: هذا الذي لا يزول الضررُ إلاّ به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به، وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور(1/341)
به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلَّقها واحدةً، فيطلقها ثنتين. وهذا أيضًا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقَها واحدةً، ثم يدعَها حتى تنقضيَ عدتُها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانيةً بعد أولى.
فإن قيل: لكن طلّقها الثانية بعد أن راجعَها، وهذا سنة بالاتفاق.
قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن طلَّقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضُه طلاقَها، وقد طلَّقَ واحدةً، فيؤمر بما يلزم أن يُوقع ثانيةً.
وأيضًا فإن تطويل العدة وضررها يزولُ بذلك.
وأيضًا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررًا على الزوجين من تطويل العدة عليها، ولو خُيرت المرأةُ بين هذا وهذا لاختارت طولَ العدَّة على أن تُحسَب من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشدُّ ضررًا.
وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليلَ الطلاق، فإنه منع منه زمنَ الزهدِ فيها، وأذِنَ فيه زمنَ الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا المقصود لا يحصل إذا أُمِرَ المواقع له بالرجعة، وقيل له: طَلقْ بعد ذلك، لأنه حينئذٍ لا يكون في الرجعة إلاّ تكثير الطلاق، لأنّ الأول لا يرتفع، والثاني قد يحصل، بل هو(1/342)
الأظهر ممن غرضه الطلاق، فيكون ما أُمِر به لا يَرفَعُ المفسدةَ بل يَزِيدها، بخلاف ما إذا لم يقع، فإن المفسدةَ تُعْدَمُ حينئذٍ.
فصل
أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلاّ للحاجة، والحاجة تندفع بثلاثٍ متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقدٍ، فما زاد على هذا فلا حاجةَ إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهارٍ لم تكن به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه لا حاجة به إلى الثلاث.
فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثًا لئلَّا تجب لها نفقة، ولا يجب أيضًا سُكنى عند فقهاء الحديث.
قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتَّها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته. وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حقٌّ لها، فليس له أن يُسقِطه إلاّ برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن يُنفِق عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاطُ ذلك. ونفقة العدَّة أمر هيِّن، ليس له لأجلها أن يُوقع نفسَه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعُلِمَ أن تسويغ تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع بالإبطال والإهدار.
وأيضًا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعًا لما(1/343)
حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه.
وأيضًا فإن هذا الكلام يقتضي جوازَ إيقاع الثلاث جملةً، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريبَ في وقوعه.
وإذا عُرِف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمَّى الشرعي لا يترتَّبُ عليه مفسدة راجحة، بخلاف غيرِه من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة الراجحة ما أوجبَ أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من الطلاق، فلما فعلوا ما نُهُوا عنه أوجبَ ذلك لهم ضررًا في دينهم أو دنياهم، فإنهم إن لم يخالفوا أمرًا آخر حصل لهم ضرَرٌ في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب البيت وتشتيت الشَّمْل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا فيما نُهُوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضررٌ في دينهم مع الضرر في الدنيا أيضًا، بالعار بدخولهم فيما نُهُوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر والشر لا محالةَ، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حَصَلَ هذا الضررُ، فإن الضرر لم ينشا من إيقاع لا وقوعَ معه، وإنما نشأ من إيقاع معهُ وقوع. فإذا قيل: إنه يقع، فالضرر حاصل لم يَزُل، والفساد واقعٌ لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع الفسادَ ويُصلحُ العباد، بل كان أن لا يُنْهَوا عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرمًا زاد الضرر بالإثم، فيبقون آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهيَّ عنه من باب العقود، والكلام(1/344)
الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفعُ موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع تارةً ولا يقعُ أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعِه.
والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قولٌ حُمِلَ عليه بغير حق فلم يلزمه حكمُه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسدٍ، وليس نفوذُه أمرًا محسوسًا لا مردَّ له، فإذا كان محمولاً عليه بالباطل كان مردودًا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرَّر ذلك.
وأما من قال: إن طلاق المكره يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق والخلع، فإنه كالفعل يَنْفُذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرَّمُه يقع فاسدًا.
فإن قيل: لو أوقعه سُنيا لغير حاجة؟.
قيل: فإن الإنسان أخبرُ بمصلحة نفسِه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم يمكن أن نقول: ذلك محرَّمٌ عليه.
فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجةٍ محرمٌ أو مكروه وإن كان سُنيا.
قيل: هذا كلامٌ مجمل، ولابدّ من تفصيله. قيل: هذا السؤال يَرِدُ على الجمهور الذين قالوا بان الثلاث يحرمُ جمعُها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجةٍ محرَّمٌ، والحاجة لا تدعو إلاّ إلى واحدةٍ. ثم لمّا أُورِدَ عليهم هذا السؤال قالوا: العاقل لا يتكلف النكاح والتزام(1/345)
المهر وحقوق النكاح ثم يُقدِم على الفراق إلاّ لحاجتِه إليه، إمّا لعدم إرادتِه للمرأة وعدم محبتِه لها؛ أو لعدم حصولِ مقصوده بنكاحهِ بها: لكونها ممتنعةً منه، أو لكونها تكلِّفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضِه لها: إما بُغضًا لصورتها أو لخُلُقها أو لدينها أو لِظلمِها له؛ أو لغير ذلك. فأما مع كونه مريدًا لها إرادةً راجحةً على كراهتها فلا يَقصِد إيقاعَ الطلاق أصلاً.
ولهذا لم يقع الطلاقُ إلاّ ممن له قصدٌ صحيح يَقصِد به مصلحتَه، فلم يقع بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لمّا تغيَّر عقلُه الذي يُوجب أن لا يُميّز بين قصد ما ينفعه وما يَضُرُّه لم يقع به الطلاقُ باتفاق المَسلمين. وكذلك لا يقع بالنائم والمُبَرسَم ولا بمن زالَ عقلُه بغير فعل محرّم منه كالمغمى عليه، بالاتفاق.
ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع (1) أنه لا يقع به أيضًا، كما هو قول أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلافُ ذلك صريحًا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، فلم يقع إلاّ ممن له قصد صحيح يَجلِبُ به المنفعةَ ويَدفَعُ به المضرَّةَ، وحينئذٍ فإقدامُه عليه دليلُ الحاجةِ.
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (33/102-109، 38-43،14/115-118) .(1/346)
وأما الهازِلُ فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، كما يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئًا، لأنه اتخذ آيات الله هزوًا، لئلّا يستهزئ أحدٌ بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوًا يمنع أن يستهزئ أحدٌ بآيات الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر ضررًا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكرَه وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبَه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق.
وعلى هذا فإذا قالوا: الطلاق لغير حاجةٍ محرَّم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاقُ" (1) ، أي أبغض ما أُبيحَ للحاجة وهو محرَّم بَغِيض إلى الله بدونها: الطلاقُ، كما تقول: أبيحت المحرَّمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرَّمًا بدونها، ليس المراد به أن الشيء في حالٍ واحدةٍ يكون حلالا حرامًا، كذلك الشيء في حالٍ واحدةٍ لا يكون بغيضًا إلى الله مأذونًا فيه من جهته، فإن هذا تناقض.
فصل
ومما يُبين هذا أن الله إذا كان يُحب شيئًا فإنه يأمر به أمرَ إيجاب
__________
(1) أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر مرفوعًا. وهو ضعيف موصولاً، والمشهور فيه أنه عن محارب مرسلاً. انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (2040) .(1/347)
أو استحباب، أمرًا يُيَسر أسبابَه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلاّ به فهو مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهيَ تحريمٍ أو نهيَ تنزيهٍ، والنكاح في الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحوالِه الإباحة، لا ينهى عنه إلاّ لمعارضٍ راجح: كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجبُ منه، كما إذا تعارض الحج المتعيِّنُ والنكاحُ فإنه يُقدّم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلاّ لحاجةٍ كما قد عُرِف، فالذي يُناسِب ذلك تيسيرُ حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1) ، فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس يعكسون الأمر، فتجدهم يشدّدون النكاح ويُصعِّبون صحتَه، فلا يوقعون ما يحبه الله إلاّ بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراطِ بعضهم لفظَينِ معينَينِ، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة عدلاً؛ واشتراط بعضهم حضورَ شاهدينِ عدلين مبرزينِ؛ واشتراط بعضهم في صحتِه الكفاءةَ في النسب والدين واليسار والصناعة والحرّية؛ واشتراط بعضهم أن يكون القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول والنصوص تدلُّ على بطلان اشتراطها.
ثمَّ إن طائفةً من الناس يشدِّدون في انعقاده، ويُعيدون اللفظ على العاميّ مرتين أو ثلاثًا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورًا من جنس الوسواس الذي يزيدونه في نيات العبادات. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سِراعًا إلى وقوعِه، فيُوقِعونَه على المكرَه والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره والجاهل وغير هؤلاء.
__________
(1) سورة المائدة: 2.(1/348)
هذا مع أن الشارع يُضَيق إيقاعَه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهرٍ أصابها فيه، وعن إيقاع الثلاث جملةً، بل أمر أن لا يطلق إلاّ واحدةً في طهرٍ لم يُصِبْها فيه، ولا يُردِفَها بطلاقٍ حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من الشارع تضييق لوقوعه.
والنكاح يُشرَع وقتَ حيضِ المرأة ونفاسِها وصومِها واعتكافِها وصومِ الرجلِ واعتكافِه، وإن كان الوطء متعذرًا، ويُشرَع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منعُ وقوع ما يُبغِضه الله إلاّ حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسيرُ وقوع ما يحبه الله إلاّ إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعِه راجحةً فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يُوقع إلاّ ما تكون مصلحته محضة أو راجحةً، وما كان مفسدتُه محضةً أو راجحةً فإنه يَرفعُه ولا يُوقِعه.
والله أعلم.
(نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله.
قُوبل بالأصل بعد نقله منه) .
***(1/349)
فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة(1/351)
سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني - قدَّس الله روحَه ونوَّر ضريحَه - عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟.
فأجاب:
أما جمع الطلقات الثلاث فمحرَّم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار أكثر أصحابه، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - يعني طلاقَ المدخولِ بها - غير قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (1) .
وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرِّق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلّقها في كل طهرٍ طلقةً؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة.
والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي أبي يعلى وأصحابه.
والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرَّم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخِرقي.
واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها أبو حفص بن المغيرة
__________
(1) سورة البقرة: 230.(1/353)
ثلاثًا، وبأن امرأةَ رفاعة طلَّقها زوجُها ثلاثًا، وبان الملاعن طلق امرأته ثلاثًا ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك (1) .
وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاثِ تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا. وقول الصحابي "طلَّقَ ثلاثًا" يتناول ما إذا طلَّقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سنّي واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في معنى الطلاق ثلاثًا. وأما جمعُ الثلاث بكلمةٍ فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حملُ اللفظِ المطلقِ على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثًا مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قولٌ بلا دليل، بل بخلاف الدليل.
وأما الملاعن فإن طلاقه وَقَع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدًا لموجب اللعان. والنزاعُ إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فرَّق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها فدلَّ على بقاء النكاح.
واستدلَّ الأكثرون بأنّ القرآن يدلُّ على أن الله لم يُبِح إلاّ الطلاق الرجعي وإلاّ الطلاق للعدَّة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (2) ،
__________
(1) سبق ذكر هذه الأحاديث وكلام المؤلف عليها بتفصيل.
(2) سورة الطلاق: 1-2.(1/354)
وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) يدل على أنه لا يجوز إردافُ الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة، أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاس وابن حزم قد بيّنا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة.
ولأنه قال: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، فخيَّره بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) (1) ، فهذا يقتضي أن هذا حال كلّ مطلقة، فلم يشرع إلاّ هذا الطلاق. ثم قال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبّح مرتين أو ثلاث مرات، لم يجز أن يقول: "سبحان الله مرتين"، بل لابدّ أن ينطق بالتسبيح مرةً بعد مرة، وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلاّ إذا طلق مرةً بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة ثلاثًا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلَّق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلَّق ثلاثَ تطليقاتٍ أو طلقتين، لكن يقال: طلَّق مرةً واحدة.
وقال بعد ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (2) ، فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلاّ بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة البقرة: 230.(1/355)
قال الله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) (1) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كلَّ طلاق. فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع.
ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قَدْرُ الحاجة، كما ثبت في الصحيح (2) عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن إبليس ينصب عرشَه على البحر، ويَبعثُ سراياه، فأقربهم إليه منزلةَ أعظمهم فتنةَ، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلتُ به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زِلْتُ به حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، فيُدنِيه منه ويلتزمه ويقول: أنت أنت!! ".
وقال الله تعالى في ذم السحرة: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (3) .
وفي السنن (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات".
وفي السنن (5) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها الطلاقَ من غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة".
وفي السنن (6) أيضًا: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".
__________
(1) سورة البقرة: 232.
(2) مسلم (2813) .
(3) سورة البقرة: 102.
(4) النسائي (6/168) وغيره، كما سبق تخريجه فيما مضى.
(5) أبو داود (2226) وغيره، كما سبق.
(6) أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) عن ابن عمر. وسبق الكلام عليه.(1/356)
ولهذا لم تُبَح إلاّ ثلاثُ مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. وإذا كان إنما أبيح للحاجة فالحاجةُ تندفع بواحدةٍ، فما زادَ باقٍ على الحظر.
والناسُ في الطلاق المحرم هل يقع أم لا؟ على قولين، وأقوالُ الصحابة رضي الله عنهم في جمع الطلقات الثلاث كثير مشهور، رُوِي الوقوع فيها عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن الحصين وغيرهم؛ وروي عدمُ الوقوع فيها عن أبي بكر وعن عمر سنتين من خلافته وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس و. عن الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف (1) .
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتاب "الوثائق" له (2) : فطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ، فإن فعل لزمه الطلاق.
ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس.
وقال: وذلك لأن قوله "ثلاث" لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله "ثلاث" إذا كان مخبرًا عما مضى، فيقول: طلَّقتُ ثلاث مرات، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجلٍ يقول: قرأتُ سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصحّ، ولو قرأها مرةً واحدة فقال: قرأتُها ثلاث مرات كان كاذبًا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يُردد الحلفَ كانت ثلاثة أيمانٍ، وأما لو حلفَ بالله فقال:
__________
(1) سبق تخريج هذه الآثار فيما مضى.
(2) طبع بعنوان "المقنع في علم الشروط"، والنص فيه (ص80-81) .(1/357)
أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلفُه إلاّ يمينًا واحدة. والطلاق مثله.
قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كلَّه عن ابن وضّاح. يعني الإمام محمد بن وضّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم.
قال: وبه قال شيوخُ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدًى (1) ، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصرِه، وابن بقيّ بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة.
قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانًا الشيخُ أبو البركات ابنُ تيميةَ. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" وأبو داود وغيرهما (2) عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد أستعجلوا في أمرٍ كانت فيه أناة، فلو أمضيْناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم.
والذين رَدُّوا هذا الحديث تأولوه بتأويلاتٍ ضعيفة، وكل حديث
__________
(1) كذا في الأصل، وفي المقنع: "شيخ وقتنا هذا".
(2) سبق تخريجه فيما مضى.(1/358)
فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزمَ الثلاثَ بمن أوقعَها جملةً - مثل حديثا روي عن علي، وآخر عن عبادة، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك - فكلّها أحاديث ضعيفة باتفاقِ أهل العلم بالحديث، بل موضوعة.
وأقوى ما ردُّوه به أنهم قالوا: ثبت من غير وجه عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم الثلاث (1) .
وجواب المستدلين أن ابن عباس رُوِي عنه من طريق عكرمة أيضًا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وموقوفًا على ابن عباس، ولم يثبت خلافُ ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمرفوع أن رُكانةَ طلق امرأتَه ثلاثا (2) ، فردَّها عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين عن عكرمة، وهو أثبتُ من رواية عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة ونافع بن عجير أنه طلَّقها البتة، وأنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلفه ما أردتَ إلاّ واحدةً. فإنّ هؤلاء مجاهيل الصفات، لا تُعرَف أحوالُهم ليوافقَها، وقد ضعَّف أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو عبيد وابن حزم وغيرُهم حديثهم.
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حديث ركانة في البتةِ ليس بشيء.
وقال أيضًا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلَّقَ امرأتَه البتةَ، لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنّ ركانة طلق امرأته ثلاثًا.
__________
(1) سبق ذكره.
(2) سبق الكلام على حديث ركانة عند المؤلف.(1/359)
فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتّة بهذا الحديث الذي فيه أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال: أهل المدينة يسمّون من طلَّق ثلاثًا البتة، وهذا يدلّ على ثبوت الحديث عنده. وكذلك ثبتَه غيره من الحفاظ.
وقد روى أبو داود هذا الحديث في سننه عن ابن عباس من وجهٍ آخر، كلاهما موافق لحديث طاووس عنه. وأحمد كان يعارض حديث طاووس بحديث فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلَّقها ثلاثًا ونحوه. وكان أحمد يروي (1) جمعَ الثلاثِ جائزًا، ثم رجعَ عن ذلك، وقال: تدبرتُ القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو رجعي. واستقرَّ مذهبُه على ذلك، وعليه جمهورُ أصحابه. وتبين أن حديث فاطمة إنما كانت ثلاثًا متفرقاتٍ لا مجموعةً. فإذا كان قد ثبت حديثان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ من جمع ثلاثًا لم يلزمْه إلا واحدة، وليس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلاّ واحدة، وعدولُه عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولى، لما تعارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، وكان ذلك يدلّ على النسخ، ثمّ إنه رجع عن المعارضة، وتبيَّن له فسادُ هذا المعارض وأنَّ جمعَ الثلاث لا يجوز، فوجبَ على أصلِه العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، ولكن علل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذه علة في إحدى الروايتين عنه.
وأما ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه فذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لاسيما وقد بيَّن ابنُ عباسٍ عذرَ عمر بن الخطاب في
__________
(1) في الهامش: "لعله يرى".(1/360)
الإلزام، وهو عذرُ ابن عباسٍ أيضًا، وهو أن الناس لمّا تتايعوا فيما حرَّم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلافِ ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مُكثِرين من فعلِ المحرَّم.
وهذا كما أنهم أكثروا شربَ الخمر واستخفُّوا بحدّها كان عمر يَضرِب الشاربَ ثمانين ويَنفِي فيها ويَحلِق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكما قاتل عليٌّ رضي الله عنه بعض أهل القبلة، ولم يكن ذلك على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يُعاقَبون به، إمّا مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرَّقَ بين الثلاثة الذين تخلَّفوا وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلِّق ثلاثًا حرمت عليه امرأتُه حتى تنكح زوجًا غيرَه، عقوبةً له ليمتنع عن الطلاق.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين - حرَّموا المنكوحة في العدَّة على الناكح أبدًا، لأنه استعجلَ ما أحلَّه الله، فعُوقِب بنقيض قصدِه. والحَكَمانِ لهما عند أكثرِ السلف أن يُفرِّقا بين الزوجين بلا عوضٍ إذا رأيا الزوج متعديًا، لما في ذلك من منعِه من الظلم، ورفع الضرر عن الزوجة، وعلى ذلك دلَّ الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
والمقصود هنا التنبيهُ على مآخذِ الناس، فالذين لا يرون الطلاقَ المحرَّمَ لازمًا يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرَّم والنكاح المحرَّم والكتابة المحرَّمة. ولهذا أبطلوا نكاحَ الشغار ونكاحَ المحلّل، وأبطلَ مالك وأحمد البيعَ عندَ النداءِ يومَ الجمعة. ولكنّ(1/361)
الذين خالفوا قياسَ أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغَهم من الآثار، فلما ثبتَ عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يُلزِمون بذلك إلاّ وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزومَ هذا إجماعٌ، لكونهم لم يعلموا فيه خلافًا، لاسيما وصار القول بذلك معروفًا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.
قال المستدلُّون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القولُ لم يُعرَف عن أحدٍ من السلف، بل قد تقدم الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن دفعُه.
وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعًا لازمًا للأمة حجةٌ يجبُ اتباعُها، لا من كتابٍ ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتجَّ بعضُهم بالكتاب، وبعضُهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر. لكن المنازع تبيَّنَ له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبيَّن أنه لا إجماعَ في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدلُّ على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته شرعًا لازمًا، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقةِ الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزامِ ذلك إذا كَثُر ولم تَنتهِ الناسُ عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدمَ عليه، وأما من لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبتُه.
وعامةُ الآثار المنقولة عن الصحابة تدلُّ على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بإيقاعِها جملةً، فأما من كان متقيًا لله فإن الله يقول:(1/362)
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (1) ، فمن لم يعلم التحريمَ حتى أوقعها، ثمَّ لما علم التحريمَ تابَ والتزمَ أن لا يعود إلى المحرَّم، فهذا لا يستحق أن يُعاقَب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتابِ والسنة والإجماع والقياس - ما يوجب لزومَ الثلاث له، ونكاحُه ثابت بيقين، وامرأتُه محرَّمة على الغير بيقينٍ. وفي إلزامه بالثلاث إباحتُها للغير مع علمه، وذريعة إلى نكاحِ التحليل الذي ذمَّه الله ورسولُه.
ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه، ولم يُنقَل قَطُّ أنّ امرأةً بعد الطلقة الثالثة أعيدت إلى زوجها بنكاحِ تحليلٍ على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد خلفائه، بل لعنَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّل والمحلَّل له، ولعنَ آكلَ الربا ومُوكِلَه وكاتبَه وشاهدَه (2) . ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي، لأنّ التحليل الذي كان يُفعَل كان مكتومًا، يَقصِده المحلِّل ويتواطأ عليه هو والمطلِّقُ والمرأةُ ووليُّها، لا يُعلَم قَصدُهم، ولو عُلِمَ لم يَرْضَ أن يُزوِّجَه، فإنه من أعظم المستقبحات والمستنكرات عند الناس.
فلما لم يكن على عهدِ عمرَ تحليلٌ، ورأى أنّ في إنفاذِ الثلاث زجرًا لهم عن المحرَّم، فَعَلَ ذلك باجتهادِه رضي الله عنه. أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذُ الثلاث يُفضِي إلى وقوعِ التحليل المحرَّم بالنصّ والإجماع - إجماع الصحابة - والاعتبار، وغيرِ ذلك من المفاسد، لم يَجُزْ أن تزالَ مفَسدة بمفاسدَ أغلظَ منها، بل جَعْلُ الثلاثِ واحدةً في مثل هذه الحال - كما كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - أولى.
__________
(1) سورة الطلاق: 2-3.
(2) سبق تخريج هذا الحديث.(1/363)
ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يُفتُون بلزوم الثلاث في حالٍ دونَ حالٍ، كما نُقِل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعلُه بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارةً لازمًا، وتارةً غيرَ لازم.
وبالجملة فما شرَعَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا لازمًا دائمًا لا يمكن تغييره، فإنّه لا نسخَ بعد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يجوز أن يُظَنَّ بأحدٍ من علماء المسلمين أنه يَقصِد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين.
وإنما يَظُنُّ مثلَ ذلك في الصحابةِ أهلُ الجهلِ والضلالةِ من الرافضة والخوارج، الذين يُكفِّرون بعضَ الخلفاء أو يُفسِّقونه. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا فعلَ ذلك لم يُقِرَّه المسلمون على ذلك، فإنّ هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمعَ على مثلِ ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له أجران، ويُخطىء فيكون له أجرٌ واحد.
وما شرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعًا معلَّقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجودِ السبب، كإعطاء المؤلفةِ قلوبُهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة.
وبعض الناس ظنَّ أنّ هذا نُسِخَ (1) ، لما روي عن عمر أنه ذكر أنّ الله أعزّ الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلَّفةِ قلوبُهم، فترك ذلك لعدمِ الحاجة إليه، لا لنسخِه. كما لو فُرِض أنه عُدِم في بعض الأوقات ابنُ السبيلِ أو الغارمُ.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (2/379) .(1/364)
ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان ابنُه عبد الله وغيرُه يقولون: لم يُحرِّمها، وإنما قَصَد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دُوَيرةِ أهلِه في غيرِ أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرةِ المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.
ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إنّ هذا يحرم ولا يجوز، وإنّ ما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه من الفسخ [كان] خاصًّا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يَحُجَّ أحدٌ إلاّ متمتعًا مبتدئًا أو فاسخًا، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه في حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيرِه من فقهاء الحديث.
وعمر لمّا نهى عن المتعة خالفَه غيرُه من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعةِ النساء، فإن عليًّا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباسٍ إبَاحةَ متعةِ النساء، فقال له: إنك امرؤٌ تائهٌ، إنّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرَّم المتعة وحرَّم لحوم الحمر الأهلية عامَ خيبر. فأنكر عليٌّ على ابن عباس إباحةَ لحوم الحمر وإباحةَ متعةِ النساء.
فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان(1/365)
أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إمّا أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصًا بالصحابة، وهو باطلٌ، فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاصَ الصحابة بذلك. وبهذا أيضًا تَبطُل دعوى من ظنَّ أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإنْ قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهادٌ منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج، لظنّه أن ذلك كان خاصًّا. وهذا قولٌ مرجوحٌ، قد أنكره غيرُ واحدٍ من الصحابة، والحجة الثابتة مع من أنكره.
وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعلَ قول عمر فيه شرعًا لازمًا، قيل له: فهذا اجتهاد قد نازعه فيه غيرُه من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجبَ ردُّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تُفعَل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر (1) .
ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين:
من جهة أن العقوبة بذلك هل تُشرَع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يَرى غيرُه العقوبةَ به، كتحريقِ علي - رضي الله عنه - الزنادقةَ، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك.
ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقّها، فمن كان من المتقين استحقَّ أن يجعل الله له فَرَجًا ومخرجًا، ولم يستحق العقوبة.
ومن لم يعلم أن جمعَ الثلاث محرَّم، ولما علم أنّ ذلك محرم تاب
__________
(1) هكذا العبارة في الأصل، ولعلّ هنا سقطًا.(1/366)
من ذلك، والتزم أن لا يُطلِّق إلاّ طلاقًا سنيا، فنه من المتقين في باب الطلاق. فمثلُ هذا لا يتوجهُ إلزامُه بالثلاث مجموعةً، بل يلزم بواحدةٍ منها.
وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطتُ الكلامَ عليها في مواضعَ في نحو مجلدين وأكثر (1) ، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا لطيفًا.
وعلى هذا الراجحُ لهذا الموقع أن يلتزمَ طلقةً واحدةً، ويُراجع امرأتَه.
والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة 1187.
بلغ مقابلةً وتصحيحًا) .
***
__________
(1) لم يصل إلينا أكثر ما كتبه المؤلف في هذه المسألة.(1/367)
فصل في الإيلاء
من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه
كتبه أخيرًا بقلعةِ دمشق(1/369)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
فصل
في طلاق الإيلاء
قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) (1) . والذي عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما أن يفئ وإما أن يطلق، وإن طلَّق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقعَ به طَلْقَة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بُين في غير هذا الموضع (2) . لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يَقَع إلاّ بائنًا لئلّا يملك الرجعة، وقيل: يقع رجعيًّا، وله الرجعة، ثم تُضرَبُ له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن يطلق عنه إذا امتنع ثلاثًا.
وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دلَّ عليه القرآن، وهو أنه إذا طَلَّق أو طَلَّق عنه الإمامُ لم يقع إلاّ طلقة رجعية، لأن الله
__________
(1) سورة البقرة: 226-227.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (20/381) ، و"المغني" (11/47) .(1/371)
ذكر قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) عقبَ قوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، فيجب أن تكون هذه المطلقة داخلةً في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1) . ولهذا يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر، وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحقّ الزوج في الرجعة، وإذا كانت هذه المطلقة داخلة في قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ) وجبَ أن يكون بعلُها أحق بردِّها في العدة كما بينه القرآن.
لكن يقال: إنّ الله خيَّره بين شيئين: بين أن يَفيءَ أو يُطلِّق، وهو تخيير بين إمساك بمعروف أو تسريح بحسان، فإذا طَلّق ثمَّ أراد الرجعةَ فقد قدم على الطلاق، فيكون قَدْ فاءَ بعد الطلاق، وحينئذٍ فعليه أن يطأها عقبَ هذه الرجعة إذا طلبت ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلاّ بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يَفيء فيمسكها بمعروف، وبين أن يُسرِّحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير معروفٍ لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحًا بقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) (2) . وإذا لم يكن مقصودُه حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدًا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله لما خيَّره بين أن يَفيء وبين أن يطلق، فإن طلَّق واستمر على ذلك فقد اختار الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار إمساكها، لم يرد استمرارَ الطلاق، وحينئذٍ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم
__________
(1) سورة البقرة: 228.
(2) سورة البقرة: 228.(1/372)
يرتجعها ولا يطأها أربعةً لكان قد جعل له تربّص سنةٍ، وذلك خلاف القرآن، وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم.
فصل
وهو سبحانه قال: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1) . والإيلاء هو اليمين، وهو القَسَم، وهو الحَلْف، يقال آلَى وائْتَلَى، كقوله (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) (2) ، ويقال: تألَّى يتألَّى. وهو سبحانه عَدَّاه بحرف "من" فقال: (مِنْ نِسَائِهِمْ) ، وكذلك الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلَى من نِسائِه شهرًا" (3) ، وهذا استعمال الناس كافّةً يقولونَ "آلَى من نسائه".
فحكى ابن الأنباري (4) عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على، والتقدير: يَحلِفون على وطء نسائهم، فحذف الوطءَ وأقام النساءَ مقامَه، وقيل: تقديره يولون أي يعتزلون من نسائهم.
وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضُها مقامَ بعضٍ عند البصريين، لأنه لو صرَّح فقال: يحلفون على وطءِ نسائهم، لم يدلَّ على أنه حلفَ لا يطأ، بل هذا يُفهَم منه أنه حلفَ على الفعل، والحذفُ إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه كان غيرَ جائز.
وأيضًا فإنه يقال: اعتزل امرأتَه، لا يقال: اعتزلَ منها. لكن قوله (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) كقوله (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) (5) و (وَالَّذِينَ
__________
(1) سورة البقرة: 226.
(2) سورة النور: 22.
(3) أخرجه الترمذي (1201) وابن ماجه (2072) من طريق مسروق عن عائشة. وقد روى من طرق أخرى عنها.
(4) نقله ابن الجوزي في (زاد المسير) (1/257) .
(5) سورة المجادلة: 2.(1/373)
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) (1) ، وكلاهما مُضَمَّن معنى الامتناع، فإن المُولي يمتنع باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده الامتناع والبعد والنفور منها والهربُ منها والتخلُّص منها والفرار منها، فمِنْ هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك.
وإذا قلت: سرتُ من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا قلت: غَضبتُ من هذا، أو خِفتُ من هذا، أو حَذِرْتُ من هذا، أو فَزِعتُ من هذا ونحو ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمُوْلي والمُظَاهِر هو تاركٌ للمرأة، والمُوْلي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون مظلومة لكونه يُبغِضُها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حالٍ هو ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين، وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا يَعدُّون هذا وهذا في الجاهلية طلاقًا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا كفارة ظهار، فمتى حرَّمها فلا تحرم إلاّ بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين تركَ وَطْأهَا، فالزوجة لا تكون ممنوعًا من وطئها، فإذا زال لازمُ النكاح زال.
والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتَي التحريم والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا، وهو مما يُبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع (2) ، ويُبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف بالنذر من باب الأيمان لا
__________
(1) سورة المجادلة: 3.
(2) انظر "مجموع الفتاوى" (33/57 وما بعدها) .(1/374)
من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطَرْدُه الحلف بالعتاق والظهار والحرام.
وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال عليها فقال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (1) . وأما البقرة فنزلت قبل المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عُرضةً لأيمانهم (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (2) ، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعًا من فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهيَ عن الحلف على ذلك حين لم تُشرَع الكفارة، فلما شُرِعتِ الكفارةُ صار النهيُ عن جَعْلِ هذه اليمين مانعةً من فعل ما يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعةً، وإما أنه إذا حَلَفَ لا يَجعلُ الحلفَ بها مانعًا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين.
ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج (3) : وفي معنى الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبرّو ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة والسدّي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين.
والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرُّوهم وتُصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.
__________
(1) سورة التحريم: 2.
(2) سورة البقرة: 224.
(3) أي ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/254) .(1/375)
والثالث: لا تكثِروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فإنّ كثرة الحلف ضربٌ من الجرأة عليه. هذا قولُ ابن زيد.
قلت: الحلفَ بالله كاذبًا لا يجوز مطلقًا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرَّم، والآية تضمنت نهيًا يوجب التحريم، والحلفُ بالله تعظيمٌ له. وقد حلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراتٍ متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، قال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) (1) ، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (2) ، وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) (3) .
وما يُروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلامٌ لا إسنادَ له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نُقِل عن نبي قبله بإسنادٍ يُعرَف. وطائفةٌ من النسّاك يستحبون أن لا يحلف أحدٌ قَط، وينهون عن ذلك، ولكن ليس هذا شرعَ الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقًا حتى عن الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (4) . فما كان واجبًا أو مستحبًّا فقوله خيرٌ من السكوت عنه، والسكوتُ عن الواجب
__________
(1) سورة يونس: 53.
(2) سورة سبأ: 3.
(3) سورة التغابن: 7.
(4) أخرجه البخاري (6018،6136،6138،6475) ومسلم (47) من حديث أبي هريرة.(1/376)
محرَّم. وما لم يكن خيرًا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد بُسِط هذا في مواضع (1) .
وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون" (2) . وهذا مبسوط في موضعه.
وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل الحلف بالله مانعًا من فعلِ ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح الله أن يجعل الحلف به مانعًا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبّه ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلفُ به على تركِ ذلك يمين ليست بواجبة ولا مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ماليس بطاعةٍ لله مانعًا من طاعة الله. والله تعالى لما أنزل الكفارة جعلَ الكفارة تحلَّةَ اليمين، كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من حلف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (3) .
وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيًّا عن الحلف، ثم إذا حلف كان عاصيًا قد ورَّطَ نفسَه بين ذَنْبَين، والحنث منهيٌّ عنه، وجَعْلُ اليمين مانعةً من الخيرِ منهيٌّ عنه. ثم إن الله تعالى شرعَ الكفارة، فصار الحالفُ قادرًا على التكفير.
وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (25/292-294،7/49،22/315) .
(2) أخرجه أبو داود (3248) والنسائي (7/5) من حديث أبي هريرة، وهو صحيح.
(3) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة.(1/377)
بالله على ترك طاعته، يُناسِب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير من المفسرين أن معناها إذا حَلَفْتَ فلا تجعلْ حلفك بالله مانعًا من فعل الطاعة، وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من المفسرين - واللفظ للبغوي (1) -: معنى الآية لا تجعلوا الحلفَ بالله سببًا مانعًا لكم من البر والتقوى، يُدعَى أحدُكم إلى صلة رحم أو برً فيقول حلفتُ بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ. وذكر الحديث الذي في الصحيح (2) عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حَلَفَ بيمينٍ فرأى خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير".
وروى ابن أبي حاتم وغيرُه (3) ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنعِ الخيرَ.
قال ابن أبي حاتم (4) : ورُوي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسُّدّي نحو ذلك. وقال (5) : حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن عطاء قال:
__________
(1) "معالم التنزيل" (1/200) . وانظر: القرطبي (3/97،98) وابن كثير (1/273) .
(2) مسلم (1650) .
(3) تفسير ابن أبي حاتم (2/407) والطبري (4/422 تحقيق شاكر) و"السنن الكبرى" للبيهقي (1/33) .
(4) "تفسيره" (2/407) .
(5) المصدر نفسه (2/406) .(1/378)
جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرتُ إن كلمتُ فلانًا فكل مملوك لي عَتيق لوجه الله، وكل مالٍ لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعلْ مملوكيك عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترًا للبيت، فإن الله يقول: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: فكفرْ عن يمينك.
ورَوى (1) عن السُّدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يَبرَّ ذا رَحِمِه، فيقول: قد حلفتُ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذِي رَحِمه، وليبرَّه ولا يُبالِ بيمينه.
وعن عبد الكريم الجزري (2) قال في قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) قال: التقوى يحلف ويقول: قد حلفتُ أن لا أعتق ولا أصدق.
وعن سعيد بن جبير (3) في قول الله (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) قال: كان الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيُغضِبه أحدُهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير من وفاء اليمين في المعصية.
قال ابن أبي حاتم (4) : ورُوي عن السُّدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل الكفارات.
وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء (5) : والمعنى ولا
__________
(1) المصدر نفسه (2/407) .
(2) المصدر نفسه (2/407) .
(3) المصدر نفسه (2/407) .
(4) المصدر نفسه (2/408) .
(5) "معاني القرآن" (1/144) .(1/379)
تجعلوا الله معترضًا لأيمانكم. وقال أبو عبيد (1) : نصبًا لأيمانكم. وقال طائفة- واللفظ للبغوي (2) -: العرضة أصلُها المدُّ (3) والقوة، ومنه قيل للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببًا، إلى آخر كلامه المتقدم.
قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضًا لأيمانكم تقصدون الحلف به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) من تمام ما نُهوا عنه، أي لا تجعلوا الله محلوفًا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم حقه والحلف به مانعًا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير البصريين.
وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا (4) ، أي السبب الداعي لكم إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعلَ ما يحبه جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعةً لكم من فعل ما كرهتموه من الخير، فهذا لا يجوز.
وعلى ما قال السُّدِّي المعنى: لا تجعلوا الله معترضًا بينكم وبين
__________
(1) كذا في الأصل و"زاد المسير" (1/253) الذي نقل عنه المؤلف. ولعل الصواب أبو عبيدة، وهذا قوله في "مجاز القرآن" (1/73) .
(2) "معالم التنزيل" (1/200) .
(3) كذا في الأصل، وعند البغوي: "الشدة".
(4) انظر: تفسير القرطبي (3/98) .(1/380)
ما أمر به. لكن لفظ الآية (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) ، ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع، لأن المعترض بين الشيئين مانع بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعًا لكم من البر والتقوى، ويكون (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) منصوبًا (1) بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال: (عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) ، فدلَّ على أنه معروض لليمين، وهو فُعْلَة بمعنى المفعول، لا بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع.
(آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغَ مقابلةً بالأصلِ خط المؤلف، ومنه نُقِل. والحمد لله رب العالمين) .
***
__________
(1) في الأصل: "منصوب".(1/381)
فصل في الظهار
من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام، تقي الدين، أوحد العلماء العاملين أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه
مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير(1/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّرْ وأعِنْ
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
فصل في الظِّهار
قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)) (1) .
وقد عُرِفَ أنها نزلتْ في خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها أوس بن الصامت (2) ، وكان الظهار والإيلاء طلاقًا عندهم، فلما أتتِ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجادلتْه واشتكت إلى الله أنزلَ هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه
__________
(1) سورة المجادلة: 1-4.
(2) أخرجه أحمد (6/410) وأبو داود (2214،2215) عن خولة بنت ثعلبة.(1/385)
وقع بكِ الطلاقُ، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ.
أنها تحرم عليه أبدًا، لأنه شبَّهها بأمّه يَقصِدُ تحريمها، فمقصوده تحريمها، والتحريم لا يكون إلاّ بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقًا.
والإيلاء هو حلف على أنه لا يَطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدًا، فتقع به الطلاق.
فالظهار أوجب تحريمَ وطئها، والإيلاء أوجبَ تحريم وطئها، وكلاهما ينافي موجبَ النكاح، فإن النكاح لا يكون إلاّ مع حلّ الوطء.
فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقًا، حتى أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة الكبرى، والمُوْلي خَيَّره بين أن يَفِيء وبين أن يُطلّق، فإنه إذا فاءَ ورجعَ كان له مخرج بالكفارة، كما قال: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1) ، وقال: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (2) .
قال سبحانه: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) (3) ، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (4) .
وهم كانوا يعرفون أنهم ما هنّ أمهاتهم، لكن شبهوهنّ بهنّ، فأقاموا الزوجة مقام الأمّ، وجعلوها مثل الأمّ، فبيَّن الله تعالى بطلانَ هذا التشبيه، وأنّ الأمّ هي التي ولدتْك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أمًّا أو مثل الأمّ.
__________
(1) سورة البقرة: 226.
(2) سورة التحريم: 1.
(3) سورة المجادلة: 2.
(4) سورة الأحزاب: 4.(1/386)
ثم قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (1) . فالمنكر ضدّ المعروف، والزور الكذب، والكذب يكون في الأخبار، والمنكر هو المكروه المذموم المعيب، وذلك يكون في الأفعال والإنشاءات، كالأمر والنهي وصيغ العقود، كقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمّي، تضمنت إنشاءًا وإخبارًا، فكانت منكرًا من القول باعتبار ما فيها من الإنشاء، وكانت زورًا باعتبار ما فيها من الإخبار، فإن كونه يجعل زوجته الحلال التي ما ولدتْه مثل أمّه الحرام التي ولدتْه أمر منكرٌ مكروهٌ بَغيض، تنفر عنه القلوب لما فيه من القبح، وهو زور أيضًا لما فيه من الكذب. فدلَّ القرآن على أن المنكر من القول والزور لا يقع به طلاقٌ، وإن قَصَدَ به الإنسان الطلاق، كما كانوا يقصدون الطلاق بهذا القول. ودلَّ القرآن على أنه ليس كل لفظ يَقصِد به الإنسانُ الطلاقَ يقع به الطلاق، بل لابُدَّ أن يكون ذلك القول ليس منكرًا من القول ولا زورا.
فكان في هذا دلالة على مذهب الجمهور من السلف والخلف أن صيغة الحرام لا يقع بها طلاق إذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، فإنّ هذا هو مثل قوله: أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، لكنه هنا صَرَّح بالحكم الذي هو مقصود التشبيه، وهو منكر من القول، حيث جعل الحلال حرامًا، وهو زورٌ أيضا، فإن الحلال لا يكون حرامًا. وقول من قال: إنه طلاق هو شبيه بقولهم في الجاهلية: إنّ الظهار طلاق.
بل دَلَّ هذا على أن الحرام لا يكون طلاقًا ولو قُصِدَ به الطلاق، كما أنّ الظهار لا يكون طلاقًا وإن قُصِدَ به الطلاق. وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره.
__________
(1) سورة المجادلة: 2.(1/387)
وللناس هنا ثلاثة أقوال (1) :
فذهب بعض المالكية إلى أن الظهار إذا قصد به الطلاق كان طلاقًا كالحرام، وهذا قياس قولهم، لكنه هو قولهم في الجاهلية، وهذا رجوع إلى قول أهل الجاهلية.
وذهب طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه إذا قصد بالحرام الطلاق كان طلاقًا، خلاف الظهار. وهؤلاء أرادوا أن يجمعوا بين نصّ الظهار وبين ما اعتقدوه قياسًا في الكنايات، وأنه أيّ لفظٍ قصد به الطلاق وقع، فتناقضوا؛ فإن لفظ الظهار إذا قصد به الطلاق لم يقع، ولا فرقَ بينه وبين لفظ الحرام.
فإن قالوا: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم، ووجد نفاذًا فيه، لم يجز جَعْلُه كنايةً في غيره.
قيل لهم: فهذا يدلُّ على أنه ليس كلُّ ما احتمله اللفظ كان كنايةً فيه، بل لابدّ أن يكون صريحًا في حكمٍ آخر، وحينئذٍ فلِمَ قلتم: إن الحرام ليس بصريح في الظهار كلفظ الظهار؟ وما الفرق بينه وبين لفظ الظهار؟.
وأما أحمد فإن نصوصه المتواترة عنه أنه يجعله صريحًا في الظهار،
لا يقع به الطلاق ولو نواه به.
وأيضًا فإمًا أن يُجعل الظهار كنايةً في الطلاق، وإمّا أن لا يجعل، فمن جعله كنايةً فيه فقد أتى بقولِ أهل الجاهلية الذي أبطله القرآن،
__________
(1) انظر "المغني" (10/397،11/61) ، و"مجموع الفتاوى" (32/295،309؛ 33/74،160) .(1/388)
ومن لم يجعله كنايةَ فإمّا أن يقيس عليه ما كان في معناه فلا يقع به طلاق، وإمّا أن لا يقيس، فإن لم يَقِسْ فإنه يقول: اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره، وجعلوا هذا هو عمدتهم في الفرق بين الطلاق بالظهار والطلاق بغيره، فيقولون: الظهار صريح في حكم، وقد وجد نفاذًا فيه، فلا يكون كنايةً في الطلاق، بخلاف غيرِه من الألفاظ، مثل لفظ الحرام والخلية والبرية، فإن تلك ليست صريحة في حكم، فلهذا كانت كنايةً في الطلاق.
فيقال: هذا الفرق باطل من وجوهٍ:
أحدها: أن قول القائل "اللفظ إذا كان صريحًا في حكم ووجد نفاذًا لم يكن كنايةً في غيره" دعوى مجردَّة لم يُقِم عليها دليلاً، ولم يثبِتْها بنص ولا إجماع ولا قياسٍ صحيح.
الوجه الثاني: أن يقال: هذه الدعوى باطلة، فإن اللفظ الصريح في حكمِ ليس من شرطه أن لا يكون مستعملاً في غيره، لا مطلقًا ولا مقيدًا، بل ولا يجب أن يكون نصًّا فيه، بل إذا كان ظاهرًا فيه بحيث يكون هو المفهوم عند الإطلاق فهو صريح فيه، وإن كان محتملاً لغيره، وإن كان قد يراد به غيره مع التقييد والقرينة، وحينئذٍ فإذا كان صريحًا في حكمٍ فمعناه أن المفهوم منه عند الإطلاق هو المعنى المقتضي لذلك الحكم. كلفظ التطليق، هو عند الإطلاق يُفهَم منه إيقاع الطلاق، وإن قيل: إنه صريح في المعنى الموجب للحكم فهو صريح في الإيقاع المقتضي للوقوع، وكذلك إن قيل: هو صريح فيهما. وإذا كان هذا معنى الصريح أمكن أن يكون مستعملاً في معنى آخر يريده به المتكلم مع القرينة، وحينئذٍ فلا يكون صريحًا في معنًى مانعًا عن استعماله في معنى آخر، كسائر الألفاظ التي هي ظاهرة في(1/389)
معنًى وتُستعمل في غيره مع القرينة.
الوجه الثالث أن يقال: عامة الألفاظ الصريحة في معنًى وحكم تكون كنايةً في غيره مع وجود النفاذ، كلفظ التطليق، فإنه صريح في الإيقاع إيقاع الطلاق، ثم إذا قال: أنتِ طالقٌ من وثاقٍ، أو من زوجٍ كان قبلي، أو من نكاح قبل هذا، ووصله بهذا لم يقع بها طلاق، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا، ولو قصد ذلك بقلبه فقال: أنتِ طالق، ومرادُه من وثاق، أو من الجبل الذي كنت مقيدةً به، أو من زوج قبلي، أو منّي قبل هذا النكاح، فإنه لا يقع به الطلاق في الباطن، بل يدين فيما بينه وبين الله. وهل يُقبَل في الحكم؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، فاللفظ صريح، ووجد نفاذًا، ومع هذا كان كنايةً في الطلاق من الوثاق.
وفي حديث فيروز الديلمي (1) لما خيَّره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين زوجتيه، وكان قد جمع بين الأختين، قال: فعمدتُ إلى إحداهما، فطلقتُها.
أراد بتطليقها إرسالها وتسريحها، وإلاّ فإحداهما قد حَرُمتْ عليه، لا تحتاج إلى طلاق. وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد وغيرهما فسخٌ لا طلاق، وقد سماها طلاقًا.
وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق تالق، كان خلعًا موجبًا للبينونة، لأنه قيَّده بالعوض، فتكون فرقةً بائنةً، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي العلماء، كما قد بُسط في موضعه.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/232) وأبو داود (2243) والترمذي (1129،1130) وابن ماجه (1951) من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه. وانظر الكلام عليه عند المؤلف في "مجموع الفتاوى" (32/317-319) .(1/390)
وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل له: ما حالُ مملوكك هذا؟ وكيف دينُه وخُلقُه؟
فقال: هو حُرٌّ. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يُرِد إعتاقَه، فلا يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذًا.
وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحت أو زوجتك فلانةً، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقدٍ ماضٍ. وكذلك سائر صيغ العقود، إذا نوى ذلك كان محتملاً، وإن كانت القرينة تدلُّ على ذلك قُبِل منه.
وأيضًا فلو قيل: زوجْتك بهذه، فهو محتمل قَرَنْتك بها، كما في قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً) (1) . وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زَوَّجْ هذه بهذا وهذه بهذا، أي اقرِنْها به.
وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى مكَنتك من سَبْيها وأخذها، كما قال الشاعر:
ومن أيّمٍ قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال (2)
وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفتُ هذا، أي وقفتُه في السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وَطِئت، فقد يراد: لا وَطِئتُك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن مُوليًا في الباطن، وفي قبوله في الحكم نزاع.
__________
(1) سورة الشورى: 50.
(2) كذا في الأصل، والشطر الثاني ناقص. ولم أجد البيت في المصادر.(1/391)
فعامة الألفاظ الصريحة تكون كنايةً في معنًى آخر، مع كون المحل قابلاً لمعنى الصريح. فعُلِم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرّق بها، وليس هو فرقًا صحيحًا.
الوجه الرابع: أنه لو سُلِّم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحًا في الطلاق أو كنايةً فيه، والأرجح أنه كان صريحًا فيه، فإنه إذا كان ظاهرًا أوقعوا به الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإنّ مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة لا تكون كذلك، وسواء كان صريحًا أو كناية فالشارع أبطلَ إيقاعَ الطلاق به. وإن قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلابّد من فرقٍ بينه وبين غيره لأجلِه فرق الشارع بينهما، وإلاّ فلِمَ أَبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره من الألفاظ المحتملة؟ ولِمَ جَعل له حكمًا آخر غيرَ وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن كان مختصًّا بهذا اللفظ، وإلاّ قِيْسَ به ما كان في معناه، ومعلومٌ أن قوله "أنتِ عليَّ حرام" في معنى "أنتِ عليَّ كظهر أمّي"، فيجب أن يقاس به.
فإن قال هؤلاء: نحن نقيسُ به لفظ التحريم، لأنه في معناه.
قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرًا من القول وزورًا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقولٍ منكر ولا بقولٍ زور، وإن كان صاحبه قصد الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم. والمطلّق في الحيض مطلِّقٌ بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلِّق ثلاثًا بكلمة أو كلماتٍ بدون رجعةٍ أو عقدٍ قد أتَى بمنكرٍ من القول، فيجب أن لا يقع به، وكلاهما أتى بزورٍ، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك(1/392)
ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يُملِّكْه الله إلاّ الطلاق المباح، وأما الحرام فلم يُملّكه إياه.
وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) (1) ، كما قال في الآية الأخرى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (2) . والمتظاهر ما قال: إنّ زوجته أمُّه، لكنه شبَّهها بها، وهو لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم".
فيقال: المتظاهر مقصودُه تحريم الوطء، وقوله "أنتِ عليَّ كظهر أمّي" معناه: وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء أمه، وذلك يقتضي أن تكون حرامًا، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمّه إلاّ إذا كانت من جنس أمّه، وإلاّ فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أمُّ الأب والأمِّ من جنس الأمّ في التحريم والمحرَّمِيَّة، فبيَّن الله تعالى أن هذَا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس آخر، فقال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) ، وقال (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) ، كما قال (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) (3) . وهم لم يكونوا يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله حالَه.
__________
(1) سورة المجادلة: 2.
(2) سورة الأحزاب: 4.
(3) سورة الأحزاب: 4.(1/393)
والمعقول من الكتاب والسنة أنه إذا كان إنما لم يقع به الطلاق لأنه منكر من القول وزور، فكل قولٍ هو منكر أو زور لا يقع به طلاقٌ، والطلاق المحرم منكرٌ من القول، لأنه محرَّم، وكل محرَّم منكر، وكونُه منكرًا يوجب أن لا يترتب أثره عليه.
وقد يقال: هو زور، لكونه اعتقد أنه يملك إيقاعَه، وهو كاذب في هذا الاعتقاد، فإنّ الله لم يُملّك أحدًا ما هو محرَّم، فكل قولٍ أو فعلٍ محرم فإن الله نهى عنه، ولم يأذن فيه، ولم يجعل العبد مالكًا له.
والظهار لما كان محرمًا لم يملك أحد أن يظاهر، ولم يُبحْه، وإذا ظاهر لم يترتب على الظهار موجبه، وهو التحريم الموجب لزوال الملك ووقوع الطلاق، كما كانوا عليه في الجاهلية، بل جعل عليه كفارةً إذا اختار بقاءَ امرأتِه ووطئها، لكونه حرَّمها، وهو قد فرضَ التَّحِلَّةَ، وإن اختار أن يفارقها ويطلّقها فقد أنشأ طلاقًا شرعيًّا مباحًا، وذلك له، ولا كفارة عليه، بل عليه أن يستغفر الله من الظهار، فإنه ذنب.
والكفارة لا تجب بكل ذنب، كما لو حرَّم الحلال بيمين أو غير يمين فإنه منهيٌّ عن ذلك بقوله: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) (1) ، وقوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (2) ، ومع هذا فلا كفارة عليه إلا إذا عاد فاستحل ما حرَّمه، دون ما إذا اجتنبه، وذلك أنه إذا اجتنبه وطلَّق المرأة، ففي هذا من الحرج والضرر عليه ما يشبه جزاء ذلك الذنب، فلابدّ من التكفير أو اجتناب ما حرَّمه، وهو في المرأة بطلاقها،
__________
(1) سورة المائدة: 87.
(2) سورة التحريم: 1.(1/394)
وكانوا قبل أن يشرع الله الكفارة يتعين اجتناب ما حرَّموه، لا يباح بكفارة.
وهذا الذي ذكرناه من أن الكفارة لا تجب إلاّ إذا عاد، هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف (1) ، وحُكِيَ عن طائفة أن الكفارة تجب بمجرد الظهار، حكي ذلك عن مجاهد والثوري. قال الحاكي عنهما: والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار.
وهذا القول في تفسير العَوْد هو معروف عن ابن قتيبة، فإنه لما أنكر على من قال: إنه لا يقع بلفظ واحد، قال (2) : وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلافَ حكمه عندهم في الجاهلية، وأنزل قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) يريد في الجاهلية (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) في الإسلام، أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام. وهذا كما قد قيل في قوله في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) أي في الجاهلية، (وَمَنْ عَادَ) أي في الإسلام (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (3) .
قلت: وهذا قول ضعيف، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، فلابدّ من عَوْدٍ بعد الظهار، والعود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية هو نفس الظهار.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (28/6-8) وابن عطية (15/438-440) ، و"زاد المسير" (8/183-185) ، والقرطبي (17/280-281) ، وابن كثير (4/344) .
(2) "تفسير غريب القرآن" ص456-457.
(3) سورة المائدة: 95.(1/395)
وأيضا فأوَّل ظهار كان في الإسلام أنزلَ الله فيه هذه الآية، ولم يكونوا بعدُ قد نُهُوا عن الظهار حتى يقال: إنه كان عائدًا إلى ما نُهُوا عنه.
وأيضا فليس من شرط ثبوت الظهار أن يكون قد تظاهر من امرأته في الجاهلية، ولو كان ما ذكروه صحيحًا لم يثبت إلاّ فيمن تظاهر منها في الجاهلية، ثم عاد إلى ذلك في الإسلام. وهذا معلوم البطلان باتفاق المسلمين.
وأيضًا فأوس بن الصامت لم يكن قد تظاهر من امرأته قبل ذلك، ولو كان قد تظاهر منها لكان ذلك طلاقًا عندهم.
وأيضا فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألْه هل تظاهرتَ منها قبلَ هذا.
وأيضا هو لم يقل: "والذين تظاهروا منكم" بصيغة الماضي، بل قال: "يظاهرون"، وهذا يتناول الحالف بالاتفاق.
وقريب من هذا القول قول الشافعي: إنه إذا أمسكها عقبَ الظهار زمانًا يتَّسِع للطلاق ولم يطلّقها فيه لزمتْه الكفارة. والعَود عنده هو مجرد إمساكها هذا الزمنَ اليسيرَ بلا طلاق، فن طلَّقها عقبَ الظهار، أو مات أحدهما عقبَ الظهار، فلا كفارة.
وهذا القول لم يُنقَل عن أحدٍ من السلف، وهو ضعيف أيضًا، فإنه قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، و"ثم" توجب الترتيب، وتقتضي المهلة، فلابدّ أن يَحصلَ بعد الظهار عَوْدٌ مرتب عليه في زمانٍ متمهّلٍ فيه، ولو كان العود لا يكون إلاّ عقبَ الظهار لقال: "فيعودون إلى ما قالوا".
وأيضًا فإن العود يقتضي إنشاءَ فعلٍ أو كلامٍ، ومجرّدُ الإمساك(1/396)
تركٌ محضٌ، واستصحابٌ لحالٍ، وهذا لا يُسَمَّى عودًا.
وأيضًا فإن الطلاق عقبَ الظهار قد يكون محرمًا، لكونه ليس زمنَ طُهْرٍ لم يجامعْها فيه، بل قد تكون المرأة حائضًا، أو موطوءةً في الطهر، فلا يحل له طلاقها، ولا له غرضٌ في إمساكها، بل هو يختار طلاقها، لكن الشرع أمره أن يؤخر الطلاق إلى طهرٍ لم يجامعها فيه، فكيف يكون هذا مختارًا لها عائدًا إلى ما قال؟ مع كمال بغضه وكراهته لها.
وأيضًا فن طلَّقها طلاقًا رجعيًّا فهي زوجه، ترثه ويرثها، وذلك لا ينافي بقاء النكاح، وإن طلَّقها غيرَ رجعي فذلك منهي عنه، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة.
وأيضًا فقد يَقِفُ مترددًا هل يمسكها أو يفارقها؟ فكيف يجعل عائدًا بمجرد ترك الطلاق؟.
وصاحب هذا القول إنما قاله لما رأى قول من قال هو الوطء أو العزم عليه، فيه إشكالٌ، ورأى أن الظهار اقتضى خروجها من ملكه، فإن طلَّقها فقد أنفذ موجبه، وإن لم يطلقها فقد ناقض موجب الظهار، فقد عاد إلى ما قال.
وليس كذلك، فقد يكون في زمن التردد والتطويل يعود أو يطلق، وإنما يكون عائدًا إذا أتى بخصيصة النكاح، وهي الوطء.
والذي عليه عامة السلف والفقهاء أنّ العود هو الوطء أو العزم عليه، وجمهور السلف قالوا: هو الوطء، كذلك قال طاوس والحسن والزهري وقتادة، وهو قول أحمد وغيره. وقالت طائفة: هو العزم على الوطء، كما يحكى عن أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد.(1/397)
وسبب النزاع في ذلك أنّ عليه إخراج الكفارة قبل الوطء بنصّ القرآن، قال تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) .
وأما قول من قال: هو تكرير لفظ الظهار، فهو من أضعف الأقوال أيضًا، فإنّ ذلك مخالفٌ لأصول الشرع، إذ كان القول المحرم تحرم منه المرة الواحدة والمرتان والثلاث، وكلَّما كرَّره كان أعظمَ إثمًا. والأحكام المعلقة به إنما هي معلَّقة بجنسه، كالقذف واليمين الغموس وشهادة الزور، وتحريم الحلال بغير الظهار، إما بصيغة قسم وإما بغير ذلك، وكذلك الكفر والردة، وأمثال ذلك الحكم المعلق بهذه معلّق بجنسها، وإذا غلظ القول وكرَّره تغلَّظ الإثم وتكرر. لكن ليس فيها ما يقال: إنه لا يلزمه بالمرة الواحدة حكم، لكن إن كرَّره لزمه الحكم، وإنما يقال هذا فيمن لزمه الحكم أولاً، أو تاب ورجعِ، ثم عاد إلى ما نهي عنه، فهذا قد يختلف حكمه، فكذلك ما فعله أولاً قبل العلم بالتحريم، أو فعلَه ناسيًا أو مخطئًا، فعفي عنه. فهذا قد يقال فيه: إنه إذا عاد لزمه الحكم، لكون العود ليس من جنس الأول، بل الثاني فعله عالمًا عامدًا.
وهذا كما قد اختلف العلماء فيمن تاب من الردّة ثمّ عاد، وهو الذي تكررتْ رِدّتُه، فهذا فيه نزاع (1) ، كما قيل في الصيد: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) (2) ، فهذا عودٌ بعد العفو، قيل (3) : إنه عُفِي عما كان في الجاهلية وقبل التحريم، ومن عاد بعد النهي فينتقم الله منه. وقيل: عفا الله عن أوّلِ مرة بالجزاء، ومن عاد ثانيًا لم يحكم
__________
(1) انظر "المغني" (12/269 وما بعدها) .
(2) سورة المائدة: 95.
(3) انظر: "زاد المسير" (2/426-427) ، والقرطبي (6/317) ، وابن كثير (2/104) .(1/398)
عليه وقيل له: ينتقم الله منك.
وهذا قول ضعيف، والجمهور على أنه يحكم عليه ثانيًا وثالثًا، ومن قال: لا يحكم عليه ثانيًا، قال: لأنه قد تاب من الأول، وعفي عنه بالجزاء. ولم يقل أحد: إن أول مرّةٍ لا حكمَ فيه، كما قيل مثل ذلك في الظهار.
وأما إذا تكلم المرتد بالكفر مرة أو مرتين أو ثلاثًا، فإنه يوجب تغليظ الردّة، وهو كالكافر الأصلي، إذا تكلّم بالكفر مرةً بعد مرة لا يقال: إن الأول لا حكم له، وإنما الحكم إذا كرره.
وكذلك القاذف إذا قذف مرةً بعد مرة، فالقذف الأول موجبٌ للحدّ، ولكن قد يتنازعون في الثاني هل يدخل في الأول؟ وباب التداخل إذا كان الجميع حقًّا لله، وهي من جنس واحدٍ دخلَ بعضها في بعض، كما لو زنى ثم زنى، أو سرق ثم سرق، ولم يُعاقَب على الأول، فإنه إنما يُقام عليه حدٌّ واحد، لأن الحدّ مشروع في جنس هذا الفعل، فقليله وكثيره في الحد سواءٌ جعل الشارع القطع حدًّا لمن سرق النصابَ أو أضعافَ النصاب. وكذلك حدّ الزنا لمن أولجَ مرةً أو مرَّاتٍ.
وأما الشرب فقد قيل: إنه من هذا الباب، وليس كذلك؛ فإن حدّه غير مقدّر، بل من شرب كثيرًا ومرَّاتٍ فإنه يُزاد في عقوبته بحسب الاجتهاد. وهذا بناء على أن الأربعين الزائدة على الأربعين يفعلها الإمام تعزيرًا بحسب الاجتهاد، كما يقوله الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1) .
__________
(1) انظر "المغني" (12/499) .(1/399)
فهذه أصول الشرع كلُّها تُبيّن أن الجنس المحرم لا يسقط حكم المرة، ويغير الحكم في المرتين، فمدَّعي مثل ذلك في الظهار ادَّعى على الشارع ما هو مخالف لأصوله وقواعدِه ومقاصده المعروفة.
وهؤلاء إنما أتوا من لفظ (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ، ظنّوا أن المراد بذلك أن يُكرِّر قوله الأول، وهذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يقال لمن كرَّر قوله: إنه عاد إلى قوله، إلاّ إذا اختصّ الثاني بمعنًى يقتضي أنه لا يعود، مثل أن يُستتاب من قولٍ ثم يعود إليه، فيقال: عاد إلى قوله؛ لأن التوبة تقتضي رجوعه عنه، فإذا نقضها فقد عاد إلى الذنب. وكذلك إذا نُهِي عن فعلٍ أو قولٍ ثم فعلَه وقاله. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) ، وقال تعالى في حق بني إسرائيل: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (2) أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وإن عدتم إلى التوبة عدنا إلى الرحمة. فأما من كرّر القول أو الفعل، مثل من يسبّح في الصلاة ثلاثًا أو أكثر من ذلك، أو يستغفر مرات، فإنه لا يقال في المرة الثانية والثالثة: إنه عاد.
فهؤلاء غَلِطُوا في فهم القرآن واللغة التي بها نزل القرآن، ولهذا قال الزجاج (3) : هذا قول من لا يدري اللغة. ومثل هذا يقع كثيرًا ممن يدَّعي التمسُّكَ بظاهر القرآن والحديث، وقد غَلِطَ في ذلك، ليس ما ادعاه هو الظاهر الذي دلَّ عليه اللفظ.
ولفظ الإعادة والعود حيث استُعمِل لابدّ أن يكون بينه وبين الابتداء
__________
(1) سورة المجادلة: 8.
(2) سورة الإسراء: 8.
(3) "معاني القرآن وإعرابه" (5/135) .(1/400)
نوعُ فرقٍ، حتى يتميز المُعَادُ من المبتدأ، فأما إذا كان هو إيَّاه من كل وجهٍ فهذا لا يقال فيه: إنه أعادَهُ، ولا عاد إليه.
وقد يقال لمن فعلَ فعلاً وقَطَعه لتعَب أو شغلٍ ونحو ذلك: عُدْ إلى ما كنتَ، وعُدْ إلى حالك، لأن الأول حصل عقبَه فتور تميَّز به عن الثاني، فلو وصل الثاني بالأول لم يُقَل: إنه عاد. فإذا قال: أنتِ على كظهر أمّي، أنتِ على كظهرِ أمّي، أو قال: والله لا أطأكِ، والله لا أطأكِ، لم يُقَلْ: إن قول الثاني عود إلى الأول، بل هو تكريرٌ محضٌ.
وأيضًا فالذي قالوه لو كان صحيحًا محتملاً إنما يجب الجزم به إذا كانت ما مصدرية، أي ثم يعودون إلى قولهم، وليس في الآية ما يُوجب ذلك، بل يجوز أن تكون ما موصولة، أي إلى الذي قالوه.
وهذا أَظهر، فإن كونها موصولة أكثر في الكلام، ولفظ العود يُستعمل في مثلِ هذا، كقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) .
وهذا منشأ غلط طائفةٍ من الناس في الآية، فإنهم ظنّوا أن ما مصدرية، وأن المعنى: ثم يعودون لقولهم، ولم يفهموا معنى كونها موصولة.
ثم هؤلاء الذين ظَنُّوا أنها مصدرية قالوا أقوالاً كلُّها باطلة، فقال داود ومن وافقه (2) : إن العود تكرير القول. وهذا القول لا يُعرَف عن أحدٍ قبلهم، وقيل: إنه مروي عن بكير بن الأشج.
وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قولٌ فاسدٌ أيضًا.
__________
(1) سورة المجادلة: 8.
(2) انظر "المحلى" (10/52) .(1/401)
وقال أبو علي الفارسي قولاً ثالثًا، قال: ليس الأمر كما ادّعاه من قال بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سُمِّيَتِ الآخرة معادًا، ولم يكن فيها أحدٌ ثم عاد إليها.
وقال الهذلي (1) :
وعَادَ الفَتَى كالطفلِ ليس بقائلٍ سوى الحق شيئًا واستراحَ العواذِلُ
وهذا أيضًا ضعيف من وجوه:
أحدها: أن لفظ العود لابُدَّ أن يتضمن رجوعًا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد الفتى كالطفل"، وقوله:
.... فعادَا بعدُ أبوالاَ (2)
وفي الحديث (3) : "تعاد روحها" هو رجوع عن حالٍ كانوا عليها إلى حال أخرى. فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه.
وأيضًا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردًا، فماذا قيل: عاد إلى كذا، ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4) ، وقال أصحاب الكهف: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
__________
(1) أبو خراش الهذلي كما في "شرح أشعار الهذليين" (3/1223) . وروايته؟ "كالكهل" و"سوى العدل".
(2) تمام البيت:
تلك المكارمُ لا قَعبانِ من لبن شِيبا بماء فعادَا بعدُ أبوالاَ
وهو لأبي الصلت بن ربيعة الثقفي من قصيدة له، ويروى أيضا للنابغة الجعدي.
انظر "سمط اللآلي" (1/281) و"طبقات فحول الشعراء" (1/58،260-262) .
(3) أخرجه أحمد (4/287، 288) وأبو داود (4753) عن البراء بن عازب ضمن حديث طويل.
(4) سورة المجادلة: 8.(1/402)
يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)) (1) . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العائد في هبته كالعائد في قَيئه" (2) . فهذا ونحوه إنما يُعرَف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولاً. والمعاد سُمي معادًا لأن الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (3) ، وقال:
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (4) ، وقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)) (5) .
وأيضًا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويُردون إليه، كما قد بُسِط هذا في غير هذا الموضع.
وأيضًا فهَبْ أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلابد من تفسير قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) . وأبو علي لم يذكر معنى الكلام.
وقد قيل فيها قولٌ رابعٌ وخامس على أصلِ من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج (6) : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
فجعلَ اللامَ لامَ كَيْ، لم يَجعَلْها مُعديةً ليعودون.
وأضعف منه قول من يقول (7) : هو محمولٌ على التقديم والتأخير، والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي يعودون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا.
__________
(1) سورة الكهف: 20.
(2) أخرجه البخاري (6975 ومواضع أخرى) ومسلم (1622) من حديث ابن عباس.
(3) سورة الروم: 27.
(4) سورة الأنبياء: 104.
(5) سورة الأعراف: 29.
(6) "معاني القرآن" (5/135) .
(7) هذا منقول عن الأخفش كما في تفسير القرطبي (17/282) ، ولم أجده في "معاني القرآن" له.(1/403)
وهذا فاسدٌ من وجوه:
أحدها: أنه لم يقل "فَلِمَا قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لِمَا قالوا"، بل قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) . ولا يجوز أن يقال: "لِمَا قالوا فتحريرُ رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (1) ، ومثله قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (2) ، وقوله: (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) (3) . ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاعٌ، والقرآن قد جاء بالفاء في قوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (4) . فقوله (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (5) بمنزلة قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لِمَا عادَ فعليه تحرير رقبة".
وأيضًا فتحرير الرقبة لم يَجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعَود شرطٌ، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غَلَطٌ.
وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا،
__________
(1) سورة البقرة: 274.
(2) سورة المائدة: 38.
(3) سورة النساء: 16.
(4) سورة الجمعة: 8.
(5) سورة المجادلة: 3.(1/404)
فاسدٌ أيضًا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل ما قالوا.
وأيضًا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا للقول، بل القوع مانعٌ من العود، فكيف يُجعَل علةَ له وداعيا إليه.
وهذه كلها أقوال من لم يَفهم الآيةَ ولا حُكْمَ الشرع، بل ظَنُّوا أن "ما" مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة.
وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره المهدوي وغيره.
والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في نظائرِها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1) ، وقال تعالى: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)) (2) .
وقد أطلق العود في قوله (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (3) ، وفي قوله: (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) (4) ، وفي قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (5) .
والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) (6) ، فإنهم بيتوا غير الذي
__________
(1) سورة المجادلة: 8.
(2) سورة الأنعام: 28.
(3) سورة الأنفال: 38.
(4) سورة الأنفال: 19.
(5) سورة الإسراء: 8.
(6) سورة النساء: 81.(1/405)
أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظًا غير اللفظ الذي لفظتْ به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقًا لما قاله.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)) (1) . فقوله "مالا تفعلون" هو مفعول القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامَهم على أن قالوا مقولا هو موعود مُخْبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر عنه إن كان القول خبرًا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما قال، وإذا قال لأفعلنَّ، ولم يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلفَ أن لا يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية.
فصل
ومعنى قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) (2) أي إلى الذي امتنعوا عنه بقولهم، فإن القول إذا كان خبرا فالمقول هو المخبر عنه، وإن كان أمرًا فالمقول هو المأمور به، وإن كان نهيا فالمقول هو المنهي عنه.
__________
(1) سورة الصف: 2-3.
(2) سورة المجادلة: 2.(1/406)
والظهار في معنى المنهي، فن مقصود المظاهر أن يحرم عليه امرأتَه، وينهى نفسه عن اتخاذها زوجةً، فلا يطأها، فمقولُه هو ما نهى عنه نفسَه من اتخاذها زوجةً والاستمتاع بها، فإذا عاد إلى ذلك فقد عاد إلى ما نهى عنه نفسَه، وهو مقولُه، وهذا العود يتضمن رجوعه وندمه، ولفظ العود يدل على ذلك، ولهذا فسَّر ابن عباسٍ العودَ بالندم، فقال: يندمون، يرجعون إلى الألفة (1) . قال الفراء (2) : يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي بعض ما قال، يعني رجع عما قال. ولهذا قال الشافعي: إذا أمسكها لحظةً فقد عاد.
لكن يقال: مجرد الكف لا يكون عودًا، فإنه قد يكون اعتقد أن الظهار حرَّمها عليه ووقع به الطلاق، فلا يحتاج إلى طلاق ثانٍ، وقد تكون نيته أن يطلقها فيما بعدُ، أو يطلقها إذا جاء وقتُ الطلاق المشروع، وقد يكون مترددًا هل يطلقها أو يمسكها، فمجرد مرور لحظةٍ لا يوجب أن يقال: إنه عاد.
وإذا عزمَ على الوطء فليس له أن يطأ حتى يُكفِّر بنص القرآن واتفاق الناس، لكن لو رجع عن هذا العزم، وبدا له أن يطلقها، أو مات أحدهما قبل الوطء، فقد قيل: إنه تستقر عليه الكفارة، لأنه عاد، والصحيح الذي عليه جمهور السلف أن الكفارة لا تستقر إلاّ بالوطء، فأما مجرد العزم فلا يوجب شيئًا، فإن في الصحيحين (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به". وهذا عازم على العود، ولم يَعُدْ بعدُ، وإنما
__________
(1) انظر أقوال العلماء في تفسير الطبري (28/7) وابن كثير (4/344) .
(2) "معاني القرآن" (3/139) .
(3) البخاري (5269،6664) ومسلم (127) من حديث أبي هريرة.(1/407)
يكون عائدًا إذا وطئها. فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ) كقوله (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) (1) ، وقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (2) .
ومعلومٌ أن المراد إذا عزمتَ.
فصل
وقال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (3) ، ولم يقل: "من قبل أن يتماسا" كما ذكر في الإعتاق والصيام، فلهذا تنازع العلماء هل يجب الإطعام قبل التماسّ كما يجب الإعتاق والصيام، أم يجوز تأخيره؟ على قولين مشهورين (4) ، هما روايتان عن أحمد، والقول بوجوب تقديمه قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين، والآخر يُحكى عن مالك.
ومن قال ذلك قال: إن الله أطلق الإطعام، ولم يقيِّده كما قيَّد الصيام، وهما حكمان مختلفان، فيُحمل المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، بخلاف العتق، فإنه حكم واحد.
وفي العتق أيضًا قولان (5) هما روايتان عن أحمد، فالشافعي يشترط الإيمان في رقبة الظهار، وكذلك مالك، وأبو حنيفة لا يشترطه، فصار من الناس من يحمل المطلق على المقيد في الموضعين، ومنهم من يحمله في العتق فقط، لأن الحكم واحد، ومنهم من يحمله في تقديم الكفارة فقط، لأن السبب واحد.
__________
(1) سورة النحل: 98.
(2) سورة الطلاق: 1.
(3) سورة المجادلة: 4.
(4) انظر: "المغني" (11/98) .
(5) انظر المصدر السابق (11/81-82) .(1/408)
والمقصود هنا هو التقديم في الكفارات الثلاث، وهو سبحانه لم يقل في الثلاث: "من قبل أن يتماسا"، لأن فيما تقدم بيان له، كما أنه لم يقل في الصيام: "ذلكم توعظون به"، لأن فيما تقدم بيان له، ولكن ذكر التماس في الصيام، ولم يكتف بذكره في العتق، لأن في الصيام يصوم شهرين متتابعين قبل التماس، فيتأخرّ التماسّ هذه المدة الطويلة، فلو لم يذكره لظنّ الظانّ أنه في العتق وجب التقديم لأن الزمان يسير، يمكنه أن يعتق ثم يطأ تلك الليلة، وأما الصيام فيتأخر الوطء شهرين متتابعين، وفي هذا مشقة عظيمة، فلا يفهم هذا من مجرد تقييده في العتق، فلهذا أعيد ذلك في الصيام. وأما الإطعام فمعلوم أنه دون الإعتاق ودون الصيام، وقد جعل بدلاً عنه، فإذا كانت الكفارة المتقدمة الفاضلة يجب عليه أن يقدّمها على الوطء، والمرأة محرَّمة قبل التكفير، فلأَن تكون الكفارة المؤخرة المفضولة كذلك بطريق الأولى؛ فإن الظهار أوجب تحريمها إلى التكفير بالكفارة المقدمة، فكيف يبيحها قبل التكفير إذا كفّر بالكفارة المفضولة المؤخرة؟.
هذا مما يُعلَم من تنبيه الخطاب وفحواه أن الشارع لا يشرع مثله، فكان إعادة ذكره مما لا يليق ببلاغة القرآن وفصاحته وحسن بيانه، بل نفسُ تحريمها قبل صيامِ الشهرين - وهو الأصل المبْدَل منه - يوجب تحريمها قبل البدل، وهو الإطعام، بطريق الأولى.
وتقديم الإطعام على التماس أسهل من تقديم الصيام.
وهو في الإعتاق قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (1) ، ولم يقل مثل ذلك في الصيام والإطعام، وقد عُلِمَ أنهما كذلك،
__________
(1) سورة المجادلة: 3.(1/409)
وأنهم يوعظون بالصيام والإطعام، كما يوعظون بالإعتاق. والوعظ أمر ونهيٌ بترغيب وترهيب، فهم يوعظون بالتحريم قبل التكفير، أي يُنهَون به ويُزجَرون به عن الظهار، فإن الظهار محرَّم بالنص والإجماع، فإذا علم المتظاهر أن المرأة تحرم عليه إلى أن يكفر، كان ذلك مما يَعِظُه، فينهاه ويزجُره أن يتظاهر منها.
وأيضًا فإنه قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) (1) ، والحدود هي الفاصلة بين الحلال والحرام، والحدُّ إمّا آخر الحلال وإما أول الحرام، فلهذا قيل في الأول: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (2) ، وقيل في الثاني: (فَلا تَقْرَبُوهَا) (3) . وقد قال بعد ذلك: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، فعلم أن هنا محرم له حد، وقوله "وتلك" إشارة إلى ما تقدم كله، فلو كانت لا تحرم إلاّ إذا كانت الكفارة طعامًا لم يكن هنا حد، بل كانت حلالاً كما كانت، فلم يكن هناك حد يُنهَى عن تعدِّيه أو قربانه.
وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) إن كان تقديره: "من قبل أن يتماسا" فقد اتفقت الكفارات، وثبت أنها محرمة قبل التكفير بالأنواع الثلاثة، وإن لم يكن هذا تقديرَه، بل قوله "فإطعام ستين مسكينًا" إيجابٌ للإطعام، لم يُعلَم متى يجب الكفارة بالإطعام، فإنه لم يقل: "فإطعام ستين مسكينًا بعد التماس".
فإن قيل: يجب إذا وطئها.
قيل: ليس في الآية ما يدل على ذلك، ليس فيها ما يدل على أن
__________
(1) الآية 4.
(2) سورة البقرة: 229.
(3) سورة البقرة: 187.(1/410)
الإطعام يجب بعد الوطء لا قبله، بل اللفظ إن كان مطلقًا كما زعموه فلا دلالة له، لا على هذا ولا على هذا. وهذا غلطٌ يُنزَّه القرآن عنه وأيضًا فقوله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) اقتضى إيجاب الإطعام، وليس في الآية ما يقتضي تأخير الوجوب إلى بعد التماسّ، فيبقى الإيجاب يتناول الحالين، ما قبل التماسّ وما بعده، فهو واجب قبل التماس، فإن لم يفرق الواجب حتّى تماسا فعليه إخراجه بعدَ ذلك.
وأيضًا فقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) مع قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) دل على أن العود له مبدأٌ وله منتهىً كسائر الأفعال، فمبدؤه إذا عزم عليه، ومنتهاه إذا وطىء. وقوله "ثم يعودون" لم يرد به توقيف الكفارة على تمام العود، فإنه لو أراد ذلك لم تجب الكفارة إلاّ بعد تمام العود، وهو خلاف قوله "من قبل أن يتماسا". بل أراد به أنه يجب إخراجها بعد الشروع في العود بالعزم عليه، قبل إتمامه بالوطء. وإذا كان هذا هو مقتضى قوله "ثم يعودون" مع قوله "من قبل أن يتماسّا"، فهو إنما أوجب التكفير بالإطعام بعد هذا العود، فعُلِم أنه واجب إذا شرع في العود، وإن لم يحصل تمام العود، وإلاّ لزم اختلاف معنى العود في الآية.
وأيضًا فالكفارات هي من جنس العبادات، وفيها معنى العقوبات، كما أن الحدود هي عقوبات، وهي أيضًا عبادات، ولهذا قال: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أي تزجرون به، وتُنهَون به، وتعاقبون به، وقد جعل من تمام العقوبة أن تحرم عليه إلى أن يكفّر، فذا قيل: إنها لا تحرم على المكفّر بالإطعام زالت العقوبة الواجبة بالتحريم، لاسيما والتكفير.. (1) .
__________
(1) انتهى ما وُجِد من كلامه في الأصل، وما بعده غير متصل بما قبله.(1/411)
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه مجموعة ثانية من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية تحتوي على ثلاثةٍ من أهم آثاره، وهي:
1- فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد.
2- قاعدة في الاستحسان.
3- قاعدة في شمول النصوص للأحكام.
وقد وصلت إلينا الرسالتان الأولى والثانية بخط الشيخ، أما الثالثة فتوجد منها عدة نسخ كاملة وناقصة، وسيأتي وصفها جميعًا في مواضعها من مقدمات هذه الرسائل.
ونظرًا إلى أهمية الموضوعات التي تناولتها هذه الرسائل عُنِيتُ بها عنايةً خاصّةً، فقمتُ بضبطها ومقابلتها على الأصول عدّة مرات، والتعليق عليها بما يفيد في التوثيق والتخريج، والربط بين كلام المؤلف هنا وبين ما هو مبثوث في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه، والتنبيه على بعض الأخطاء والتحريفات التي وقعت في نسخِ الرسالة الثالثة والتي شوّهت معالمها، والإشارة إلى ما في أصلي المؤلف للرسالتين من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب،
ومحاولة توجيهها.(2/5)
وقد قدَّمتُ لكل رسالة بمقدمة مستقلة، قصت فيها بتوثيق نسبتها إلى المؤلف، ووصف النسخ الخطية، ودراسة الموضوعات التي تناولتها، وبيان منهج المؤلف فيها. وتوسعت في الحديث عن بعض القضايا وبيان موقف شيخ الإسلام منها، والردّ على بعض الشبه التي أثيرت قديمًا وحديثاً.
وقد طبعت "قاعدة في الاستحسان" من قبل بصورة مفردة، ثم رأيتُ أن تُنشر ضمن هذه المجموعة. وأرجو أنني قد وُفِّقت في تقديم هذه الرسائل التي تضيف الجديد المفيد إلى عالم المطبوعات، والطريف المثير إلى عالم الفكر. وأدعو الله أن يجعلها نافعة للعلماء والطلاب وعامة الناس، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد عزير شمس(2/6)
فتوى
في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد(2/7)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا أثر من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية بخطه، ينشر لأول مرة بعد سبعة قرون من كتابته، يتناول فكرة القطب والأبدال والأوتاد، التي شاعت لدى الصوفية وعامة الناس منذ القرن الرابع تحت تأثير بعض الثقافات الوافدة إلى المجتمع الإسلامي، واستنادًا إلى بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى جاء كبير الصوفية وفيلسوفهم في عصره ابن عربي المتوفى سنة 638، فوضع نظامًا للأولياء ورجال الغيب، وجعلهم في مراتب ودرجات، وحدَّد لكل مرتبةٍ عددًا معينًا منهم، وخصَّهم ببعض العلوم والصفات والوظائف. وتبعه من جاء بعده من الصوفية، بل زادوا عليه أشياء من خيالاتهم وأوهامهم، فتحدثوا عن مملكة وهمية يجتمع فيها رجال الغيب ويصدرون قراراتهم، ويقررون كل ما يجري في العالم!!
لقد كان لهذه الفكرة آثار سيئة في المجتمع الإسلامي، حيث تعلق كثير من الناس بالغوث والقطب والأبدال والأوتاد، وظنّوا أن الشدّة إذا نزلت بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة، وادعى(2/9)
بعضهم أن مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان يكون من جهته، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويَصرِفهما عمن يشاء، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة التي تجعل للقطب والغوث نوعًا من الألوهية والربوبية، وهي من أعظم الكذب والمحال والشرك والضلال والإلحاد.
ومن الغريب أن كثيرًا من العلماء المتأخرين تأثروا بمقولات الصوفية في هذا الباب، ووافقوهم في الغالب، ونقلوا هذه الخرافات إلى مؤلفاتهم في التفسير والحديث والعقيدة والسيرة والأخلاق والفتاوى والأدب واللغة والتاريخ والتراجم بدون النكير عليها، بل ألّف بعضهم رسائل مستقلة لتأييدها.
ونظراً لخطورة هذه الفكرة وما في شيوعها وانتشارها من ضرر على العامة والخاصة في عقيدتهم، قام بعض العلماء لمناقشتها والردّ عليها، وبيان ما فيها من مخالفة للعقل والشرع، ونقد الأحاديث التي يحتج بها الصوفية. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية أقواهم كلامًا في الباب، وأوسعهم ردًّا على هذه الفكرة، وقد كتب كتاباتٍ عديدة في هذا الموضوع يأتي بيانها (ص 39- 49) ، أطولُها هذه الفتوى التي أنشرها اليوم.
وأقدم لهذه الفتوى ببعض الفصول التي تعتبر شرحًا لهذه الفكرة عند الصوفية، وبيانًا لمصدرها، وأثرها في المجتمع الإسلامي، ودرجة الأحاديث التي يستندون إليها، واستعراضًا لمن نقد هذه الفكرة، وإبرازاً لموقف شيخ الإسلام منها في ضوء كتاباته،(2/10)
وتحليلاً لمحتويات هذه الفتوى، ووصفًا لنسختها الخطية. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
• فكرة القطب والأبدال عند الصوفية
لم تكن فكرة القطب والأبدال (كما ذكرها الصوفية) موجودة في القرون الثلاثة الأولى، فلا أساس لها في الكتاب والسنة، ولم يذكرها السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعتقدوها كما تعتقد الصوفية. وبعد استعراض مجموعة من المصادر توصلتُ إلى أن أقدم مَن يُنقل عنه عدد الأولياء ورجال الغيب وذكر مساكنهم هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني (ت 322) أحد مشايخ الصوفية، فقد قال -كما نُقِل عنه-: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعُمدُ أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العُمدُ، ثمّ أجيبوا، وإلاّ ابتهل الغوث، فَلاَ يُتِمُّ مسألته حتى تُجاب دعوته" (1) .
__________
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/75- 76) بإسناده إليه. وفيه علي بن عبد الله بن جهضم، متهم بالكذب، كما في (الميزان) (3/143) و (اللسان) (4/238) . ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/300) من طريق الخطيب، وكذا نقلت عنه المصادر المتأخرة، مثل "المقاصد الحسنة" ص 10 و"الخبر الدال" (2/255) وغيرهما.(2/11)
أما أبو طالب المكي (ت 386) فيعبّر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدلٌ من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده، والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" (1) .
نلاحظ هنا أن أبا طالب ذكر "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"، و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم "أبدالاً"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء".
ويأتي الهجويرى (ت465) بعدهما، فيقول: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله، فثلاث مائة يُدْعَون الأخيار، وأربعون آخرون يُسَمَّون الأبدال، وسبعة آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعًا يعرفون أحدهم الآخر، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" (2) .
وذكر ابن عربي أن المجمع عليه من أهل الطريق أنهم على
__________
(1) "قوت القلوب" (2/78) .
(2) "كشف المحجوب " (الترجمة العربية) ص 447، 448.(2/12)
ستّ طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء (1) .
وجعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات (2) . وأوصلهم داود القيصري (3) وحسن العِدْوى الحمزاوي (4) إلى عشر. وهكذا نجد أن الصوفية في مختلف العصور زادوا ونقصوا في هذه الألقاب والمراتب، وأسهم كلّ واحد منهم في وضع هذا النظام وإقامة أسسه بما لديه من تصورات وخيالات، وبينهم خلاف كبير في تعداد الملقبين بلقب معين.
• معاني هذه الألقاب
نأتي الآن إلى معاني هذه الألقاب ووظائف أصحابها وصفاتهم عند الصوفية، وأول من تحدث عنها بتفصيل هو ابن عربي، وتبعه من جاء بعده من المؤلفين في التصوف والمصطلحات الصوفية، وقد جمع عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت والجواهر" (2/79- 83) أقوال ابن عربي من "الفتوحات المكية"، وأقوال غيره من مصادر مختلفة في هذا الموضوع. وسنعرِض هنا باختصار بعض ما قالوه بالاعتماد على المصادر القديمة المعتمدة لديهم.
(1) أما القطب فهو -عند الصوفية- عبارة عن الواحد الذي هو
__________
(1) "الفتوحات المكية" (2/40) . وفي موضع آخر منه (3/244) جعلهم ثماني طبقات، بزيادة "الرجبيين" و"الأفراد".
(2) "روضة التعريف بالحب الشريف" (ص 432) . وكذا جعلهم عمر الفوتي سبعاً في "الرماح" (1/21) مع اختلاف في الأسماء.
(3) "شرح مقدمة التائية الكبرى" (ق 104 ب) .
(4) "النفحات الشاذلية" (2/99) . وانظر "جامع الأصول في الأولياء" ص 4.(2/13)
موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " (1) باعتبار التجاء الملهوف إليه. أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته (2) .
واسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء (3) . ولم يخل زمان من الأقطاب، وقد عدَّ ابن عربي خمسة وعشرين قطباً من عهد آدم عليه السلام إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسمَّاهم (4) .
والقطب عند الصوفية نوعان، أحدهما: هو المتمكن في
__________
(1) "الفتوحات المكية" (3/244) . وانظر "اصطلاحات الصوفية" لعبد الرزاق القاشاني ص 141 (ط. كلكتا 1854 م) .
(2) "التعريفات" للشريف الجرجاني ص 185- 186 (ط. فلوجل) . وانظر "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي ص 273، و"كشاف اصطلاحات الفنون " للتهانوي ص 1091، 1167. وفيه نصوص من مصادر فارسية
أيضًا.
(3) "اليواقيت والجواهر" (2/79) .
(4) "الفتوحات المكية" (2/362) .(2/14)
القطبية الصغرى أو الحسية، والآخر: هو المتمكن في القطبية الكبرى أو المعنوية، وهو المعبر عنه بباطن نبوة محمد أو الحقيقة المحمدية (1) .
يقول ابن عربي: القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة هو روح محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . وهذه القطبية الثانية هي التي عرَّفها الجرجاني فقال: "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن خاتم النبوة" (3) .
ولمزيد من الشرح ننقل هنا كلام التيجاني حيث قال: "أعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الربّ إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثمّ قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شىء كائناً ما كان من الحق إلاّ بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلّها، ثمّ قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملةً وتفصيلا، فترى الكون كلّه أشباحاً لا حركة لها، ْ وإنما هو الروح القائم فيها جملةً
__________
(1) "كشف الوجوه الغر" (2/103) .
(2) "الفتوحات المكية" (2/363) .
(3) "التعريفات" ص 186.(2/15)
وتفصيلا" (1) .
كل من يقرأ هذه التصريحات يقتنع بأن الصوفية يخرجون بالقطب عن نطاق البشرية، ويحلقون به في عالم الربوبية، وقد ذكروا له خمس عشرة علامة (2) ، منها أنه يُكشَف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علماً بصفات الله تعالى، وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميّاً (3) ، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة المسلمين في كل عصر (4) ، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب (5) ، ويُبصِر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين (6) ، ولا يطيق رؤيته إلاّ الخواص (7) . واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت (8) ، وذكروا أنه يستقر بمكة، وقال آخرون: إنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض (9) . ومن وظائفه: التصرف في الكون
__________
(1) "جواهر المعاني (لعلي حرازم برادة (2/89- 90) .
(2) "اليواقيت والجواهر" (2/78) .
(3) "جواهر المعاني" (2/85) .
(4) المصدر نفسه (2/266) ، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/139) .
(5) "جواهر المعاني" (2/106، 107) .
(6) "الإبريز" (ص 349) .
(7) "الطبقات الكبرى" (2/94) .
(8) "روح المعاني" (19/22، 20) .
(9) "نشر المحاسن الغالية" (أو "كفاية المعتقد") لليافعي ص 394، و"الفتاوى=(2/16)
والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية (1) ، ووقاية المريدين من السؤال والحساب في الآخرة (2) ، ولا يجري في عالم المخلوقات شىء إلاّ بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب (3) .
نكتفي بهذا القدر في بيان القطب وصفاته ووظائفه عند الصوفية، وننتقل إلى المراتب والألقاب الأخرى.
(2) الإمامان: هما اللذان أحدهما عن يمين القطب، ونظره في عالم الملكوت، وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء؛ والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلف القطب إذا مات (4) .
(3) الأوتاد: هم أربعة في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون، منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم: شرق وغرب
__________
=الحديثية" للهيتمي ص 322، و"الطبقات الكبرى" للشعراني (2/139) وغيرها. وراجع "منازل القطب" لابن عربي، ص 4.
(1) "الفتوحات المكية" (3/257) و"جواهر المعانى" (2/88) .
(2) "الإبريز" (ص 338) .
(3) "جواهر المعاني" (2/89) .
(4) "الفتوحات المكية" (3/244) و"التعريفات " ص 36، و"التوقيف على مهمات التعاريف " ص 60 وغيرها.(2/17)
وشمال وجنوب، مع كل واحدٍ منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم روحانية إلهية وروحانية إلِّية، يحوون على علومٍ جمة كثيرة. ومنهم من هو على قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب محمد (1) .
(4) الأبدال أو البُدَلاء: هم سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكلِّ بدلٍ إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض (2) .
وجعل بعض الصوفية السبعة الأبدال خارجين عن الأوتاد، ومنهم من قال: إن الأوتاد الأربعة من الأبدال، وقالوا: سُمُّوا أبدالاً لكونهم إذا مات واحدٌ منهم كان الآخر بدله، وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أعطُوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علمٍ منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون فيَّ مَكانهم الأول شبحاً آخر شبيهاً بشبحهم الأصلي بدلاً منه، بحيث إن كلّ من رآه لا يشك أنه هو (3) .
(5) النجباء: هم أربعون، مشغولون بحمل أثقال الخلق (وهي من حيث الجملة كل حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله) ، وذلك لاختصاصهم بوفور الشفقة والرحمة الفطرية، فلا يتصرفون إلاّ في
__________
(1) "الفتوحات المكية" (2/400، 401) ، و"التعريفات" ص41، و"التوقيف" ص 66؛ و"كشاف اصطلاحات الفنون" ص 1453، 1454.
(2) "الفتوحات المكية" (2/376) و"حلية الأبدال" ص 11.
(3) انظر المصدر السابق (2/400) ، و"التعريفات" ص 44، و"التوقيف" ص 36؛ "مشتهى الخارف الجاني" ص 510، وغيرها.(2/18)
حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب (1) . وذكر بعضهم أنهم ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية، ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير الكواكب كشفاً واطلاعاً، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن (2) .
(6) النقباء: هم ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية، وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية (3) .
عرضنا فيما سبق- باختصار- بعض ما عثرنا عليه من النصوص التي تبين تعداد رجال الغيب ومراتبهم وألقابهم وصفاتهم ووظائفهم.
وكل من يطلع عليها يستغرب وجودها في المصادر، ولكن هذا هو الأمر الواقع عند الصوفية، وهذه معتقداتهم التي أعلنوا عنها في
__________
(1) انظر: "الفتوحات المكية" (3/244) ، و"التعريفات" ص 259، و"اصطلاحات الشيخ محي الدين ابن عربي" ص 286.
(2) "التوقيف " ص 322.
(3) "التعريفات" ص 266، "اصطلاحات الصوفية" للقاشاني ص 96، "التوقيف" ص 329.(2/19)
مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغيب.
• أحاديث الأبدال
احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الأبدال، ويلاحظ أنه لم يَرِد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب الستة إلاّ في حديث واحد عند أبي داود (4286) ، وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة (1) .
أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف" (11/249- 250) ، وأحمد في "المسند" (1/112، 5/322) ، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" (بأرقام 8، 57- 59) ، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول " (ص 69- 71) ، والطبراني في "المعجم الكبير" و"الأوسط" (كما في "مجمع الزوائد" 10/63) ، وابن عدي في "الكامل" (في مواضع متفرقة) ، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/8- 9) و"أخبار أصبهان" (1/ 180) ، وأبو محمد الخلاّل في "كرامات الأولياء"، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/439) ، والديلمي في "الفردوس" (1/154) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق " (1/289-304، 334- 341) وغيرهم.
__________
(1) استقصى طرق هذا الحديث وبيان ما فيها من الاضطراب وأن أكثرها منقطعة- أخونا الفاضل الدكتور عبد العليم البستوي في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" ص 324- 335. وانظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (1965) .(2/20)
وقد أفردها السخاوى وبيَّن عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على الأبدال" (1) ، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال" (2) ، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل. وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم أبدالاً ونقباء ونجباء وأوتاداً وأقطاباً، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدَّعى، فلم يصحّ من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية.
وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل: "اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 330-332) و"التعقبات على الموضوعات" (ص 471) و"الدر المنثور" (1/765- 767) و"الجامع الصغير" (3/167- 170 بشرح المناوي) ، وادعى صحتها وتواترها. وقلَّده في إيرادها وتصحيحها من جاء بعده من المؤلفين (3) ، والواقع أنه لا يبقى منها
__________
(1) كما ذكر ذلك في "المقاصد الحسنة" ص10. ولا أعرف وجود هذا الجزء في المكتبات.
(2) ضمن "الحاوي للفتاوي" (2/241- 255) .
(3) مثل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، وابن عراق في=(2/21)
شىء يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض، ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعَّفها القاضي أبو بكر ابن العربي في "سراج المريدين" (1) ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع وذكرها في "الموضوعات" (3/150- 152) ، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53) : "لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (2) أن هذه الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.
__________
="تنزيه الشريعة المرفوعة" (2/356- 307) ، وابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص 323- 324) ، وعلي المتقي البرهانفوري في "كنز العمال" (14/53- 55) و"منتخب كنز العمال" (5/331- 334 بهامش "مسند أحمد") ، والفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص 193- 194) ، والقاري في "المعدن العدنىِ في فضل أويس القرني" (ص 65- 74) ، والمناوي في "فيض القدير" (3/167- 170) ، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/396- 400) ، والعجلوني في "كشف الخفاء" (1/24- 26) ، ومرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (8/385- 387) ، وابن عابدين في "إجابة الغوث" (2/269- 272 من "مجموعة رسائله" والألوسي في "روح المعاني" (11/178) ومحمد صبغة الله المدراسي في "ذيل القول المسدد" ص 108- 112 وغيرهم. وانظر "روض الرياحين" لليافعي ص 10.
(1) كما ذكر ذلك صنع الله الحلبي في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 65.
(2) سيأتي ذكرها فيما بعد.(2/22)
وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 136) : "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلةٌ على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإنّ فيهم البدلاء، كلَّما مات رجلٌ منهم أبدلَ الله مكانَه رجلاً آخر". ذكره أحمد، ولا يصحُّ أيضًا، فإنّه منقطع".
وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص 408- 410) الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال" (3/105) حديث أنس منها، وقال: "هذا باطل".
وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره" (1/669- 670) و"تاريخه" (9/213، 214) و"جامع المسانيد والسنن" (19/240- 241، 7/134- 137) ، وقال في الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت: "فيه نكارة شديدة جدًّا".
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 8) : "حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال (ص9) : "بعضها أشد في الضعف من بعض".
وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف " (ص 58- 59) قال: "في صحتها عند أئمة الحديث مقال".
وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام التي أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي على "الفوائد المجموعة"(2/23)
للشوكاني (ص 245- 249) ، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (بأرقام 935- 936، 1474- 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50- 56 نقد لحديث ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا.
وأودّ أن أقف هنا مع كلامٍ للمناوي في "فيض القدير" (3/ 170) يشتمل على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورَمْيه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يُقوّها بكثرة الطرق وتعدّد المخرجين. قال المناوي: "زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف إلاّ في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود".
لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرَّف فيه، ونصُّه كما في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/48) (1) : "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوِي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً".
__________
(1) وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/433، 434) بتحريف يسير. وقد نقله الألوسي في "روح المعاني" (6/95) على الصواب.(2/24)
فانظر كيف حرَّف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلاً من "هذه الأسماء" التي تُشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"، ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه. والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يَرِد شىء منها في حديث موضوع أو ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره.
واستدراكه فيما بعد بقوله "إلاّ لفظ الأبدال، فقد رُوي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 112) ، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/289) : "هذا منقطع بين شريح [بن عبيد] وعلي، فإنه لم يلقَه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند" (2/171) : "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عُبَيد الحمصي لم يدرك عليّاً، بل لم يدرك إلاّ بعض متأخري الوفاة من الصحابة".
أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/62) : "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"- فقد وهم فيه اغتراراً بما(2/25)
ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق عليّاً، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام.
وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يُشِر إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (5/322) وقال عقب روايته: "هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى.
بهذا التفصيل يظهر لنا جليّاً مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ "بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ "الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلاّ في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور والمجازفة يدلّ على عدم فهمه للمقصود، فلم ينفِ الشيخ ورود لفظ "الأبدال" بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يُكذِّب من ادعى ذلك، وكلُّ ما ورد في هذا الباب لا يُبطل ما قاله.
أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفُها جميعها، لكن لا يُنكِر تقويَ الحديثِ الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية أو معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن الحديث الضعيف إذا(2/26)
جاء من طرقٍ متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفًا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرُهم يرفع الثقةَ بحديثهم، ويؤيد ضعفَ روايتهم (1) . وعلى هذا فمن قوَّى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون ونحوهم يكون على الجادة أم من يُنكِر تقويتها؟
• مصدر هذه الفكرة
رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجالَ الغيب في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن) (2) لكل إلهام شبيهٌ بالعقل "النُّوسْ" في الأفلاطونية الحديثة، ويُشبه عقيدة الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق (3) .
__________
(1) انظر "الباعث الحثيث" لأحمد محمد شاكر (1/135) .
(2) كما عند القاشاني في "اصطلاحات الصوفية" ص 141
(3) انظر"دائرة المعارف الإسلامية"- بالإنجليزية- الطبعة الجديدة، مقال "القطب"
(5/544) ؛ و"ابن الفارض والحبّ الإلهي" لمحمد مصطفى حلمي ص 277(2/27)
وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن "الإمام" بوصفه تجليًا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية، والتقاء أحدهما بالآخر (1) . كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية (2) . وقد صرّح بعض علماء الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحدٍ (3) . وأكد المستشرق هنري كوربان في عددٍ من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل (4) .
ويرى أحمد أمين (5) أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالاً وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمَّته "قطبًا"، وكوَّنت مملكة من الأرواح على نمط مملكة
__________
(1) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" لكامل مصطفى الشيبي ص 463؛ وهنري كوربان في كتابه عن الإسلام الإيراني (1/92) .
(2) انظر: "الصلة بين التصوف والتشيع" ص 457 وما بعدها؛ وي. ماركوي في مجلة "أرابيكا" المجلد 15 (1968) ص 27؛ وص التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهى ظهير ص 235؛ و"الإسماعيلية: تاريخ وعقائد" له ص 594- 612.
(3) انظر"الفلسفة الشيعية" للآملي ص 223؛ و"الإسلام الشيعي" لمحمد حسين طباطبائي (الترجمة الإنجليزية) ص 114.
(4) انظر: "الإسلام الإيراني" (1/186، 229، 3/279) .
(5) في "ضحى الإسلام" (3/245) .(2/28)
الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع.
وقد سبق هؤلاء الباحثين بعضُ العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن شاء الله. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرَّر في كتابه " نص النصوص" (1) جميع ما عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يكون إلاّ لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلاّ على باطن ختم النبوة".
بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدَثين والعلماء القدامى نصل إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ْ ثم تسربت إليهم وتحكّمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم. وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني"
__________
(1) ق 91- 96 (نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران) ، وعنه في ملحق كتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، ص 503- 506.(2/29)
الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي وغير المرئي (1) . ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلّمة إلى يومنا هذا (2) .
• أثرها في المجتمع الإسلامي
لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد) ، وسبعة آخرون كل واحدٍ منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال) ، وفوقهم جميعًا وليٌّ واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث) ، وهو الذي يدبر شأن الملك، ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدَّة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة.
__________
(1) انظر (الإبريز من كلام عبد العزيز) للسجلماسي (1/2 وما بعدها) .
(2) انظر: "السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني" لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز ص 74؛ و"فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الإخوان" للحنصلي ص 176؛ و"فيض الوهاب" لعبد ربه بن سليمان القليوبي (5/57 وما بعدها) ؛ ومحمد زكي إبراهيم في مجلة "المسلم" المجلد 15: 7 (يونيو 1965) ص 15، والمجلد 20/11 (أغسطس 1970) ص 11.(2/30)
هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة على عقيدة التوحيد، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخْلوق، وجعلها مشاعًا بين الخالق والمخلوق على حدّ سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضلّ.
وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية، ولُقِّنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث" للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلاّ في الله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرًا منهم نقلوا مقالات الصوفية في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق، والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذَكَرنا جميع النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على(2/31)
الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر.
لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة الأبدال، فلا نجد لها ذكرًا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره (1) عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أن المدفوعَ بهم الفسادُ هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها.
وجاء بعده السيوطي، فسَرَد هذه الروايات في تفسيره (2) دون نقد وتمحيص، ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة (3) .
ولم يكن قد اشتهر عند شرّاح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر الكلام على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وُجد عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شيٌ من ذلك-؛ بل كانوا يقتَصرون على رواية الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (3/259) .
(2) "الدر المنثور" (1/765- 767)
(3) انظر مثلاً "روح المعاني" للآلوسي (6/94- 95، 11/178، 22/19-20) .(2/32)
وتمحيصها، وادعوا صحَّتها وتواترها، وتلقَّوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال: المناوي (1) وملاّ علي القاري (2) ، اللذين قرَّرا ما قاله الصوفية، ونقلا عنهم نصوصًا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق.
أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب بشيخ الإسلام لدى الشافعية) ، لما سُئِل عن شخصٍ ادعى أن القطب ليس له وجود في زمن من الأزمنة، ولا ثَمَّ شيءٌ في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلَّما مات قطبٌ أقام الله مقامه آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة الأقطاب، معترف بأن منّة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول إليها لا يفوته الإيمان بها (3) .
هذا نصّ كلامه الذي يُقرِّر فيه وجودَ القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يُقدَّر له الوصول إليه!!
وذكر ابن حجر الهيتمي (4) أنه كان في مجلس الشيخ محمد
__________
(1) "فيض القدير" (3/167- 170) .
(2) "مرقاة المفاتيح" (5/181- 183) .
(3) "العناية والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام" ص 381.
(4) "الفتاوى الحديثية" ص 325.(2/33)
الجويني يوماً، فانجرَّ الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له الهيتمي: "معاذ الله! بل هذا صدقٌ وحق لا مريةَ فيه، لأنّ أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب، وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"، فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدَّق به وأقرَّ بثبوته!! هذا نموذجٌ مما كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يَسَعُ المنكرَ إنكارُ ذلك، ويضطرّ إلى الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا فلا نستغرب أن يُدخِلَ بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية، كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، والحلبي في "السيرة الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (5/396- 401) وغيرهم.
بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدّر كم تكدَّرت ينابيع الثقافة الإسلامية بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.(2/34)
• الذين نقدوا هذه الفكرة
نظرًا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع، انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل من ردّ عليها وبيَّن ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألَّفه في التصوف (1) . ومنهم من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا.
وسُئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "على كل قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟ وأن القطب على قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وأن في الأرض سبعة أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل
__________
(1) أعارني أخي البحاثة المحقق محمد السليماني نسخة مصورة من هذا الكتاب، وبحثتُ فيها عن كلامه في هذا الموضوع، فلم أجده في مظانه. وقد أشار بعض المؤلفين إلى كلامه في الكتاب المذكور، انظر: "سيف الله على من كذب على أولياء الله" لصنع الله الحلبي ص 64- 65؛ و"تيسير العزيز
الحميد" ص 235؛ و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (2/68) .(2/35)
عوضه رجلاً، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟
فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضًا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة، وهم العلماء (1) .
وللعزّ بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال لهم تصرف، بيَّن فيها بطلان قول الناس فيهم، وردَّ على من يقول بوجودهم، وأقام النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض" (2) . وقد وصلت إلينا نسختان من هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/9683 مجاميع] في ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات (3) .
__________
(1) "فتاوى ابن الصلاح " ص 53. ونقل بعضها ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 77 (وتحرف فيه "الأوتاد" إلى "الأدباء"!) .
(3) ذكرها حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/883) ؛ ومرتضى الزبيدي في "تاج العروس" مادة بدل (7/223) ؛ وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين" (1/580) .
(3) كما في فهرس المعهد المذكور (1/140) . وقد ذكر هاتين النسختين إياد خالد الطباع في مقدمة تحقيقه لكتاب "شجرة المعارف والأحوال" للعز بن=(2/36)
جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع، وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبيَّن ما ورد منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفصَّل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرِض آراءَه في هذا الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله.
وممن تأثر بشيخِ الإسلام تلميذُه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) . واختصر مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه (2) فتوى لشيخ الإسلام، وظنَّ أن السيوطي لم يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لردّ ما احتجَّ به مما لا يمكن ردُّه. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على مناقشته، فأحبَّ السكوت عنه. وقد صَرَّح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير" (3) أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارةً إلى بطلان قول ابن تيمية.
وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (4) نهجَ شيخ الإسلام في
__________
= عبد السلام، ص 25.
(1) "المنار المنيف" ص 136.
(2) "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400- 406.
(3) "فيض القدير" (3/170) .
(4) في "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص 64-65.(2/37)
الرد على من يدعي أن للأولياء تصرُّفًا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة، وأن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال: "هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة".
ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية.
أما ابن خلدون (1) فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية والشيعة، فيقول: "كان سلفُهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يُعرَف لأولهم، فأشرِبَ كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القولُ بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثمّ يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف منها، فقال: "جلّ جناب الحق أن يكون شِرعةً لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحدٌ بعد
__________
(1) "مقدمة ابن خلدون" ص 473، وانظر "شفاء السائل لتهذيب المسائل" له.(2/38)
الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء".
هذه آراء بعض العلماء القدامى ونُتَف من انتقاداتهم، تؤكّد أن هذه النظرية أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم عبر القرون.
• موقف شيخ الإسلام منها
لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحدٌ مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردًّا على بعض الأسئلة التي وُجِّهت إليه، أو تناولها عرضًا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلاً واستيعابًا هذه الفتوى التي بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشَر بعد (1) ، وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة (2) ، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور (3) ، وتكلم عليها عرضًا في بعض
__________
(1) ثم نشرتُها ضمن المجموعة الأولى من "جامع المسائل" التي تحتوي على خمس وعشرين رسالة وفتوى ومسألة للشيخ لم تُنشَر حتى الآن.
(2) نُشرت أولاً في "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/46- 51) ، وعنها في "مجموع الفتاوى" (11/433- 444) .
(3) نشرت مرارّا أولاها في المطبع الخليلي بآره (الهند) ؛ ثم في "مجموعة=(2/39)
مؤلفاته (1) وفتاواه (2) . وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات الأخرى التي سبق ذكرها.
ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم "النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم "الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي يذكرها المنجّمون، وواحدًا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله.
ويزعمون أنه على قدم كل نبيّ من الأنبياء وليَّان: وليّ ظاهر ووليٌّ
__________
= الرسائل" (القاهرة 1323) ص 103- 122؛ ثم في "مجموع الفتاوى" (27/ 96-105) ، ولها طبعات أخرى غيرها. ونقلها- باختصار- مرعي بن يوسف الكرمي في "شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور" ص 400- 406.
انظر: "منهاج السنة النبوية" (1/91- 96) ؛ و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ضمناً "مجموع الفتاوى" (11/167- 168) ؛ و"درء تعارض العقل والنقل" (5/315) .
انظر: "مجموع الفتاوى" (27/57- 58) = "مختصر الفتاوى المصرية" ص 599؛ و"مجموع الفتاوى" (11/294 و 364) .(2/40)
باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يُستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب، وإذا غضب الله على أحدٍ من أهل الأرض وأراد أن يُنزِل غضبَه نظر إلى قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلاّ رفعَه. ويدَّعون أن مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضًا بواسطته، وهو يُعطي الملك والولاية لمن يشاء، ويَصرِف عمن يشاء.
ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى بعضهم أنه ينزل كلَّ عام على الكعبة ورقةٌ مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام وخضرِه، وان لكل زمانٍ خضرًا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص معين، ونحو هذه الدعاوي التي يَعلمُ كل عاقلٍ بطلانَها وضلالَ معتقدها.
وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد رُوِي في "الأبدال" حديثٌ عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه.(2/41)
وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع، وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.
أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحدٍ من السلف، ولم يُعرف عن أحد منهم أنه قال: فلانٌ غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثًا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلاّ الله سبحانه وتعالى.
ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) . وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار اثني عشر نقيبًا على عدد نقباء موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعرِّفون العُرَفاء وينقّبون النُّقباء، ليُعرِّفوهم بأخبار الناس وينقّبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام السلف.
أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فرُوِي عن الشافعي في بعضهم: كنّا نعدّه من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحدٍ بانه من الأبدال. وكان المقصود(2/42)
منه أنهم أبدالٌ عن الأنبياء وخلفاءُ لهم وورثتُهم، يخلفونهم في سننهم، ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديثٍ وصف الذين يحبّون السنّة ويعلّمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارثٌ لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءَهم للخلق، وما يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قامَ مقامَهم في بعض ذلك كان بَدلاً منهم في ذلك البعض.
ومن زعم من الصوفية أنَّ البدل إذا غابَ عن مكانه أبدل بصورة على مثالِه، ولذا سُمُّوا أبدالاً، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى.
أما اسم "القُطْب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُر على أحدٍ مثلُه.
وقد يكون في عصرٍ رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد(2/43)
يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير ويندفع من الشرّ ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (1) . وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) ، وقال: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25)) . فهذا ونحوه مما يوافق أصول الدين.
وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو الذي يُشبه غُلوَّ النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرِ فإنه يُنزِله عليه، ثمّ منه يَفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا خطر ببالهم إلاّ معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يُعرَف أنهم تكلموا بهذا الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يُعبَّر ول عن أحوال أولياء الله المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نُقِل عنهم التكلم بذلك في مواضع.
أما "الأوتاد" فقد ورد على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المُثبِت لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمَن ثبَّت الله به
__________
(1) أخرجه البخاري (2896) والنسائي 6/45 وغيرهما.(2/44)
الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.
أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء من الآثار التي رويت في ذلك.
بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يُجدِيهم شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.
وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)) وقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) .
والثاني: أن الله يجلب للناس المنافعَ ويدفع عنهم المضارّ بدعاء عبادِه المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وهل تُنصَرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم".
إذا عرفنا هذين الأصلين تبيَّن لنا أنه ليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ مُعيَّن من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى(2/45)
ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفرٌ قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقلّ من أربعين، ثم أقلّ من سبعين، ثم أقلّ من ثلاث مائة، فأين كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل كانوا في الكفّار؟
ثم هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدّعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟
ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يُحصَى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة آلاف، فكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأً.
ونسألهم مَن كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أيّ زمانٍ كانوا؟ ومَن أوَّلُ هؤلاء؟ وبأيّ آية وبأيّ حديث مشهورٍ وبأيّ إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبتَ وجودُ هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلاّ من هذه الأدلة الثلاثة ومن البرهان العقلي، (قُل هَاتُوا بُرهانكم إن كنتم صادقين (111)) ، فإن لم يأتوا به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم.
وقولهم "إنّ النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق"(2/46)
ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعًا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحدٌ من أولياء الله، ولمّا صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة، ولما فتحت الأمصار كان في كل مصرِ من خيار المسلمين مَن لا يُحصيه إلاّ الله.
وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟
ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه الصوفية غلط.
وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بَصَرَه حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدَّعَى ليس بأعظم من الرسل، وهم قد يُمنَعون ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرُهم لا يرفع بصرَه حتى تُدفَع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه(2/47)
إلاّ الله، واتصل بعضها مدةً، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمَن هذا الأدنى الذي يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يُحوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟
ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبيّ وليَّان: ولىٌّ ظاهر ووليٌّ باطن"، فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحدَه، والنبي يجيء معه رجلٌ، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصرٍ اثنانِ على قدمِه من أمة غيرِه؟
وأيضًا فقول القائل إن الوليّ على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإنه بعد مبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقبل الله من أحدٍ إلاّ شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يُقَصُّوا على نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبيٍّ لا يعرفه ولا يعرف قدمَه؟
وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقًا لكان معروفًا عند أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم عُلِم بطلانه.
ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه(2/48)
يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبيَّن أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في الشرك والضلال والكفر والفساد من أن نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الردّ عليها، وذكر نصوصًا من الكتاب والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلاّ في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصّل الكلام فيها حول هذا الموضوع.
هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل والنقل، وهَدَم أساس نظريتهم، وأبطل كلَّ شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي تُنشَر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها.
• وصف النسخة الخطية
توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109] (الورقة 235- 257) باستثناء الورقة 256 أ- ب،(2/49)
فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302- 1308) . ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة.
تبتدىء هذه النسخة بنصّ السؤال الذي قُدِّم إلى شيخ الإسلام، وبَعدَه بَدَأ الشيخ كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة (255 أ) ، حيث قال في آخرها: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في الأخير: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية".
وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحدُ المفهرسين "فتوى الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم: "نقله محمد بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نُسِختْ منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713- 789) ، ترجم له الحافظ في "الدرر الكامنة" (3/465) ، وقال: "تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرّس، وكان كثير المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق".
وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719- 749) ، ترجمته في(2/50)
"الدرر الكامنة" (1/179) ، وهو أيضًا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وخطّ هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حدّ كبير، وأكثر منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرَّقتْ هذه النسخ وغرَّبتْ، وتفرقتْ في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهمّ ما وصلَ إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد الأصول التي بخطه. وإذا عثرتَ على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفتْ إلى نسخ أخرى متأخرة، ولا تتعبْ في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلاّ زيادة التصحيف والتحريف والسقط، كما هو مجرَّب لديّ بعد فحص مثل هذه النسخ.
ونظرًا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثتُ عنها في فهارس المكتبات، فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفتُ على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته، واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون.
وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان" (ص 14، 42) ، وكلّ ما ذكرتُه هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها.
وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصوَّرات الفلمية والمكبرة عن الأصل، حتى تمكنتُ من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في مصوَّرتي،(2/51)
وأخصّ بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرًا، جزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله، ووفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
محمد عزير شمس(2/52)
نماذج من الأصل(2/53)
نصّ الفتوى(2/55)
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقول السادةُ العلماءُ أئمةُ الهدى ومصابيحُ الدُّجَى فيمن يَزعمُ أنه على قَدمِ كُل نبي من الأنبياء وليَّانِ: وليٌّ ظاهرٌ وولىٌّ باطن، وهما أقطابُ الغوثِ (1) الذي ينتهي إليه حوائجُ الخلقِ، وأنّ له أربعةَ أوتاد وسبعةَ نُجَبَاءَ واثنا عشرَ (2) نقيبًا وأربعين بَدَلاً، وأنّ كلَّما ماتَ من الاثنا عشر واحدا (3) أُخِذَ من الأربعين، ومن السبعة أُخِذَ من الاثنا عشر (4) ، وكل ينزل من أكثر العدد إلى أقلِّ العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأنّ الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، والنّقباء بالعراق، وأنّ الشدّةَ إذا نزلتْ بأهل الأرض رِفعَها الأدنَى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرجَ تلك النازلة. ويَدَّعون أنَّ لكل قطب علم (5) لا يعرفه الآخر، ويسمُّون أنواعًا من العلوم الظاهرة والباطنة.
__________
(1) كذا في الأصل، والأولى "قطبا الغوث".
(2) كذا في الأصل، والصواب "اثني عشر".
(3) كذا في الأصل، والصواب: "من الاثني عشر واحدٌ".
(4) كذا في الأصل بالألف.
(5) كذا في الأصل بالرفع، وحقه النصب.(2/57)
والمسئول معرفةُ الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسمَّاةُ لها دليلٌ من كتاب أو سنةٍ؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة تَرجعُ إلى تَمثُّلها في الأكوانِ أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبَي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاّ تَسُبُّوا أهلَ الشام، فإنَّ فيهم الأبدالَ"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان صحيحًا ما حكمه؟
أفتونا مُثَابِين مأجورين إن شاء الله تعالى.(2/58)
الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصلَ لها من كتاب ولا سنَّةٍ، ولا قولِ أحدٍ من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين لهم في الأمة لسانُ صِدقٍ، وإنما يُذكَر بعضُ هذا الكلام عن بعض الشيوخِ المتأخرين، مع أنه لا أصلَ له، وزَادَ في ذلك مَن بعدهم ونقصوا، وغَيروا في الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياءَ نعلم مخالفتَها لدين المسلمين، بل ولعقلِ عقلاءِ العالمين. وقد يَروون في ذلك أحاديثَ موضوعة، مثل روايتهم أنه كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمُه هلال، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنه من السبعة" (1) .
وقد روى هذا الحديثَ بعضُ المصنِّفين في الرقائق، كما روى غيرَه من الموضوعات، وأما الشهادة لمعيَّن بالجنَّةِ فهذا صحيح، فقد شهدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة لغير واحدٍ من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/24) من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليدخلن من هذا الباب رجلٌ ينظر الله إليه"، قال: فدخل هلال ... ، إلى آخر الحديث، وسنده ضعيف ومقطع.
وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (الأصل الخامس والعشرين بعد المائة) من طريق يحيى بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال: "يدخل من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنة ... " الحديث مطولاً. وانظر "الإصابة" (3/608) .(2/59)
وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المُتأخرين يجعلون الأقطابَ سبعةً على عددِ الأقاليم، ويجعلونَ الأوتادَ أربعةً كالأوتادِ التي يذكرها المنجّمون، ويجعلون الغوثَ واحدًا مقيمًا بمكةَ، ويجعلون مددَ أهلِ الأرضِ منه، ويقولون: إنه منه يَفِيضُ على أهلِ الأرضِ ما يَنزِلُ عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابُدَّ لكل زمانٍ من ذلك، كما يَقول الرافضة: إنه لابُدَّ لكل زمان من إمام معصوم، وكما يقولُ النصارى: إنه لابُدَّ من الباب الذي به يُحفَظ أهلُ الأرض (1) .
فقيل لبعضِ هؤلاء: فإذا كان لابُدَّ كذلك فمَنِ الغَوثُ الذي كان بمكةَ بعد الهجرةِ على عهد رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه الراشدين، الذي كان هو المُمِدّ لرسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكرٍ وعمرَ وهو أفضلُ منهم؟ فبُهِتَ مدَّعِيْ ذلك.
وقد يقولون مع ذلك بأنّ لكلّ زمانٍ خَضِرًا، ويجعلونَ الخَضِرَ مرتبةً محفوظةً لا شخصا معيَّنا، ويَدَّعونَ أنه يَنزِلُ كلَّ عامٍ على البيت ورقة مكتوبٌ فيها اسمُ غوثِ ذلك العام وخضرِه. ونحو هذه الدعاوي التي يَعلَمُ كلُّ عاقلٍ بطلانَها، وضَلالَ معتقدِها، وكَذِبَ المُخبِرِ بها عمدًا أو خطأ.
ومن هؤلاء من يُعيِّن لكل قريةٍ من القرى واحدًا من هذا العدد
__________
(1) ذكر المؤلف نحوه في "مجموع الفتاوى" (11/364، 439، 442؛ 27/ 96) و"منهاج السنة" (1/91-92)(2/60)
أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظمًا ونثرًا بكلامٍ يُناقِضُ العقلَ ويخالف دينَ الإسلام.
وحقيقةُ الأمر في ذلك أنَّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون (1) ، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) (2)
/وفي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداء ما افترضتُ عليه، ولا يَزالُ عبدي يَتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَع به، وبَصرَه الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها. فبيْ يَسْمَع، وبِي يُبْصِر، وبي يَبْطِشُ، وبي يمشي، (وإن سألني لأعطِينَّه، ولئن استعاذني لأعِيْذَنَّه) (4) ، وما تردَّدتُ عن شىء أنا فاعلُه تردُّدي عن قَبْضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يَكرهُ الموتَ وأَكْرهُ مَسَاءتَه، ولابدَّ له منه".
وأيضًا فإنّ الله بعباداتِ عبادِه المؤمنين ودُعائِهم يَجلِبُ للناسِ
__________
(1) بيّن المؤلف ذلك في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وغيره من مؤلفاته ورسائله.
(2) سورة يونس: 62- 64.
(3) برقم (6502) .
(4) ما بين القوسين مستدرك في الهامش، ولم يظهر منه إلاّ قليل.(2/61)
المنافعَ ويَدْفَعُ عنهم المضارَّ، كما في السنن (1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وهل تنصَرون وتُرْزقون إلاّ بضُعفائِكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". وانتفاعُ الخَلْقِ بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحيّ والميّتِ بدعاء المؤمنين واستغفارِهم، ونزولِ الغيثِ بدعاءِ المؤمنين واستغفارِهم، والنَّصْر على الأعداءِ بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون.
فهذانِ الأصلانِ هما أصلانِ ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء الله عددٌ محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكانٌ معيّنٌ من الأمكنة، بل هم يزدادون ويَنقُصون بحسبِ زيادةِ أهلِ الإيمان والتقوى ونقصانهم. فَبَعَثَ الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح (2) : "إن الله نَظَرَ إلى أهلِ 236 ب الأرض فمَقَتَهم، عَرَبَهم وعَجَمَهم،/ إلاّ بقايا من أهل الكتاب".
وقد ثبتَ في الصحيح (3) أن إبراهيم الخليل قال لسارةَ: "إنه ليس على وجهِ الأرض مؤمنٌ غيري وغيرُك". وقد أخبر الله عن نوحٍ
__________
(1) أخرج البخاري (2896) عن مصعب بن سعد قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تنصرون وتُرْزقون إلاّ بضعفائكم". ورواه النسائي (6/45) عن مصعب عن أبيه سعد نحوه، وفيه: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". وأخرجه أحمد في "مسنده" (1/173) من طريق مكحول عن سعد نحوه.
(2) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي.
(3) البخاري (2217، 3358) عن أبي هريرة.(2/62)
أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40)) (1) ، وأنَّ الله أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من كان معه في السفينةِ.
وقد كانت الشام قبلَ أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيلَ يَغلِبُ على أهلِها الكفرُ، فأورثها الله لبني إسرائيلَ، فصارَ فيها من الأنبياء والصالحين ما لم يكن فيها نَظِيرُه قبلَ ذلكَ.
ولمَّا بعث اللهُ محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمن به طائفة قليلة، فكان أولَ من آمن به أبو بكرٍ وعليٌّ وزيدٌ وخديجةُ، وآمنَ على يَدَيْ أبي بكرٍ عثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعد وعبد الرحمن، ثمَّ تَزايدَ أهلُ الإيمانِ حتًى بلغوا أربعين، فلم يكنْ بمكةَ قبلَ ذلك أربعونَ مؤمنًا، بل ولا عَشَرة مؤمنونَ، بل ولا أربعةٌ. ثم إنّ الإيمانَ زادَ، وهاجرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، وكَثُر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايَعهُ تحتَ الشجرة أكثرُ من ألفٍ وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة، قال الله فيهم: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (2) .
وفي الصحيح (3) أنه قال لخالد بن الوليد لمَّا (4) سَابَّ
__________
(1) سورة هود: 40.
(2) سورة الحديد: 10.
(3) البخاري (3673) ومسلم (2541) .
(4) "لما" مشطوب عليها في الأصل سهوًا.(2/63)
عبد الرحمن بن عوفٍ: "يا خالدُ، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقَ أحدُكُم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُذَ أحدِهم ولا نَصِيْفَه ". وخالدٌ هو ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية (1) ، فجعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء التابعينَ من الصحابةِ بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة.
وانتشرَ الإسلامُ بعد هذا في أرضِ اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب (2) ، حتى بقي في العصر الواحدِ من هذه البلادِ من أولياء الله أُلوفٌ مؤلَّفةٌ. فمن قَصَرَهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلاً، كما أنَ من بلغ بهم في أولِ الإسلام هذا العددَ كان جاهلاً.
وأما الأسماء المذكورة فتسميةُ "الغوثِ" لا أصل لها في كلامِ أحدٍ من السلف بالمعنى الذي يَدعِيْه هؤلاء (3) ، ولا يُعرَفُ عن أحدٍ من السلف أنه قال: فلانٌ هو غوثُ هذه الأمة، أو إنّ للأمة غوثًا بمكة أو يجيء مكة.
وأما لفظ "النُّقَباء" فإنما ذُكِر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله في قوله: (* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا
__________
(1) انظر "أسد الغابة" (2/109) و"الإصابة" (1/413) . وقد اختلف في تاريخ إسلامه على أقوال، ولا يصخُ له مشهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل فتح مكة. (2) كذا بدون الألف واللام.
(3) انظر كلام المؤلف على "الغوث" في "مجموع الفتاوى" (27/96؛ 11/ 437)(2/64)
مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (1) . وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ للأنصار اثني عشرَ نقيبًا على عددِ نُقَباءِ مُوسى (2) . وكذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه عامَ حُنَين لما أطلقَ لهوازنَ السبيَ فقال: "لِيَرْفَعْ لنا عُرَفَاؤكم مَنْ طَيَّبَ ممن لم يُطَيِّب" (3) . وكان العسكرُ اثني عشرَ ألفًا.
وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يُعَرِّفُون العُرَفاءَ ويُنَقِّبُون الئقَباءَ، ليُعزَفُوهم بأخبار الناس، ويُنَقبُوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب والسنة وكلام السلف.
وأما من جَعَلَ لأولياء اللهِ نُقَباء َهم، اثنا عشرَ، أو جَعَلَ الخَضِرَ نقيبَ الأولياء، فهذا باطل، فإنَ أولياء الله لا يَعْرِفُ أعيانَهم على التفصيلِ أحدٌ من البشر، لا نبيّ ولا غيرُ نبيّ. وقد كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمدينته مؤمنون (4) ومنافقون، وقد قال الله له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (5) .
وإذا لم يَقعِ التمييزُ بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيرُه
__________
(1) سورة المائدة: 12.
(2) أخرجه أحمد في "المسند" (3/460) من حديث كعب بن مالك. وذكر ابن هشام في "السيرة" (1/443، 444) أسماءهم، فراجعه.
(3) أخرجه البخاري (2308، 2540، 2608، 3132، 4319، 7177) من حديث عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.
(4) تكررت "مو" في الأصل.
(5) سورة التوبة: 101.(2/65)
أولى، ومن لم يعَرِفْ أعيانَ المنافِقين جَوَّزَ على مَن ظاهرُه الإسلام أن يكون مؤمنًا، وإذا لم يُعْلَم فُجورُه جاز أن يكون تقيًّا، وكلُّ مؤمنٍ تقيٍّ وليٌّ لله.
وقالوا لعمر بن الخطاب: من يُعطَى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا يعرفهم أميرُ المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرِفهم فإن الله يعرفُهم، وقد قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) .
وقد ثبت في الصحيح (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعرِف أمته يومَ القيامةِ بسِيماهُم، فإنّهم يكونون غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوَضوءِ.
وأيضًا فأولياء الله إذا كان لهم نُقَباءُ كان النُقَباءُ أخبرَ بهم ممن يَرفعونَ أخبارَهم إليه، ومعلومٌ أن الذين يَرفَعونَ أخبارَهم إليه سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ، هو أعلى مرتبةً من النُّقَباء، فيكون المفضولُ أعلمَ بأولياءِ اللهِ من الفاضل، وهذا ممتنعٌ. بخلاف النُّقَباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم يرفعون أخبارَهم الظاهرة التي يَشهَدُ بها الشُّهودُ ويَحكُم بها الحُكَّام، وإن كان قد يكون في ذلك ما يُستدَلُّ به على الإيمان والتقوى، لكنّ الدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمِ الدليلِ المعيَّنِ عدمُ المدلول عليه، فلا يُشْهَد على شخصٍ معين أنه ليس من أولياء الله إلاّ بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا
__________
(1) سورة المدثر: 31.
(2) البخاري (136) ومسلم (246) من حديث أبي هريرة.(2/66)
يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عَالمًا بمن هو وليّ ممن ليس بولي.
وأما لفظ "الأبدال" (1) فقد جاء ذِكرُه في كلامِ كثير من السلف: فلانٌ كان يُعَدُّ من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم.
فأما لفظ "الأبدال " فقد فُسِّر بثلاثِ معاني:
قيل: سُمُّوا أبدالاً لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح.
فإن الأنبياء،/لهم خُلَفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاءَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد كان له في حياتِه ولغيرِه من الأنبياء خلفاءُ في أمرٍ دونَ أمرٍ، فإنه كان إذا خرجَ في غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ استخلفَ على المدينة بعضَ أصحابه، كما كان يَستخلف ابنَ أمّ مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في] غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلاّ معذور، غير الثلاثة الذين خُلِّفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسولَ الله، أتَدَعُنِي مع النساءِ والصبيان؟ فقال: "أما تَرضَى أن تكونَ منّي بمنزلة هارون من موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)) (4) .
__________
(1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/441) .
(2) انظر عن هذا اللفظ: "مجموع الفتاوى" (11/440) .
(3) أخرجه مسلم (2404) وأحمد في "المسند" (1/185) والترمذي (2999، 3724) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(4) سورة الأعراف: 142.(2/67)
فاستخلف موسى هارون مدةَ ذهابِه للميقات إلى أن عاد.
وكذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته وُلاةٌ على الأمْصَار كعتَاب بن أَسِيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسُعَاةٌ على الصدقات ونُواب في التعليم، كمعاذٍ وأبي موسى، وكلٌّ من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دونَ بعضٍ.
وجاء في حديثٍ وصفُ الذين يُحيون السنَّةَ ويُعلِّمونها الناسَ بأنهم خلفاءُ النبي (1) ، وللأنبياء أيضًا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثةُ الأنبياء" (2) . والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعضَ ما بُعِثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامَهم في بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان بدلاً منهمِ في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبيّنا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبيّنا" (3) .
ومعلوم أن من جملةِ أحوالِ الأنبياءِ دعاءَهم للخلق، وما يحصل
__________
(1) أخرجه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص5) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان " (1/81) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 31) من حديث علي. وهو حديث موضوع، انظر الكلام عليه في الضعيفة (854) .
(2) أخرجه أحمد (5/196) وأبو داود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء، وهو حديث حسن.
(3) أخرجه البخاري (1010، 3710) من حديث أنس بن مالك.(2/68)
بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامَهم في بعض ذلك كان بَدَلاً منهم في ذلك البعض.
وقيل: سُمُّوا أبدالاً لأنه كلَّما مات رجل أبدلَ الله مكانه رجلاً.
وهذا لا يَصحُّ، ولا مدحَ فيه/فإنّ كون الشخص إذا ماتَ قامَ مقامَه غيرُه قد يكون مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعلَ بعضَ بني آدمَ خُلفاءَ بعض مع اختلاف أعمالِهم. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) (1) ، وقال: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)) (2) . فقد جعل أمة محمد خلائفَ عمن أهلك من القرون المكذبين الظالمين.
وقد قال نوح له (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)) (3) ، فهذا الولد الفاجر الكَفارُ بَدَلٌ عن أبيه. فليس في إبدالِ شخصٍ مكان شخص مدح إلاّ أن يكون الأولُ ممدوحًا، فإن لم يُعتَبر في معنى البدل أن يكون بدلاً عن نبيٍّ أو مَن يقوم مقامَ نبيٍّ لم يكن في كونه بدلاً عمَّن كان قبلَه صِفةُ مدح.
وأيضًا فلو كان كلُّ من ماتَ قامَ مقامَه غيرُه لَلَزِمَ أن يقومَ مقامَ
__________
(1) سورة الأنعام: 165.
(2) سورة يونس: 13- 14.
(3) سورة نوح: 27.(2/69)
أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أمثالُهم، ولم يكن كذلك. وهؤلاء أفضلُ خلفاءِ الرُّسُل وأبدالهم ووُرَّاثهم.
وأيضًا فمن يكون بدلاً عن الأنبياء كثيرون إذا كَثُرَ الإيمان والتقوى، قليلون إذا قَل ذلك، ومعلومٌ أنَّ المؤمنين المتقين ليسوا إذا مات منهم واحدٌ قامَ مقامَه غيرُه.
وقد قيل في معنى الأبدال: إنهم بَدَّلُوا سيئاتِهم حسناتٍ. وهذا معنى التائبين، فكل مؤمنٍ تابَ من سيئاتِه له هذا المعنى.
وزعمَ بعضُهم أنَ البدلَ إذا غابَ عن مكانه أُبدِلَ بصورةٍ على مثالِه. وهذا باطل، ولم يكن السلف يَعْنُون بالبدل هذا المعنى، ولا يجعلون ذلك لازمًا لمن يسمونه بهذا الاسم.
وأما اسم "القُطْب" (1) فالقطب مأخوذ من قطب الرَّحَى، وهو ما يدور عليه الرحَى، وكذلك قطب الفلك وغيرُ ذلك من الأجسامِ الدائرة. فالشخص الذي يدور عليه أمر من الأمورِ هو قطبُ ذلك الأمرِ، وأفضلُ الخلقِ هم الرُّسُلُ، وعليهم تدور رسالةُ الله إلى خلقه، وتبليغُهم أمرَه ونهيَه ووعدَه ووعيدَه،/وكلُّ من دارَ عليه أمرٌ من الأمورِ فهو قُطبُه، فإمامُ الصلاةِ قُطبُ الإمامة، ومؤذِّنُ المسجد قُطبُ الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأميرُ الحرب قطبُ هذه الإمارة، وأئمة الهُدَى -كالشيوخِ الذين يُقتدَى بهم في دينِ الله- هم أقطابُ ما دارَ عليهم من ذلك. ومَن يُنْصَر المسلمون ويُرْزَقون
__________
(1) انظر كلام المؤلف على هذا اللفظ في "مجموع الفتاوى" (11/440) .(2/70)
بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطابُ ما دارَ عليهم.
وفي الصحيحين (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأةُ راعية على مالِ زوجًها، وهي مسئولة عن رعيتها، والمملوكُ راع على مالِ سيِّدِه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيَّته".
وكان الخلفاء الراشدين (2) أقطاب الأمة، دارَ عليهم من مصالحِ الأمة في دينها ودنياها ما لم يَدُرْ على أحدٍ مثلُه، ثمَّ بعدَهم تفرَّقَ الأمرُ، فصارَ الملوكُ والأمراءُ يقومون ببعض الأمر، وأهلُ العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء من أولي الأمر، وهؤلاء من أولى [الأمر] (3) . وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (4) يتناولُ الطائفتَيْنِ العلماءَ والأمراءَ إذا أَمروا بطاعة الله، فمن أمرَ بمعصية الله فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ، وقد جاء في الأثر: "صِنْفانِ إذا صَلحوا صَلحَ الناسُ: العلماءُ
__________
(1) البخاري (893، 2409، 2554، 2558، 2751، 5188. 5200، 7138) ومسلم (1829) من حديث ابن عمر.
(2) كذا في الأصل بالياء والنون، ويصح إذا جعلنا "الخلفاء الراشدين" خبرًا مقدمًا لكان، و"أقطاب" اسمٍا مؤخرًا مرفوعًا.
(3) لا يوجد في الأصل، وهو واضح من السياق.
(4) سورة النساء: 59.(2/71)
والأمراء" (1) .
وقد يكون في الزمان رجلٌ هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة وأربعة، ولكن ليس في الوجود/رجلٌ هو أفضل أهل الأرضِ، وفيه ما يَقتضي أنه بوجودِه يَحصُلُ للناسِ الرزقُ، ويَنتَصِرونَ على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم مُعرِضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضلَ أهل الأرضِ، وقد مَكثَ في قومِه ألفَ سنةٍ إلاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)) (2) . لمَّ إنَّ اللهَ أغرقَ أهلَ الأرضِ إلاّ من آمن به. وكذلك غيرُه من الرسل، كهُوْدٍ وصالح وشعيب ولوط وغيرهم.
نعم قد يَحصُل بدعائه وعبادته من الخير ويَندفِعُ من الشرِّ ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . وقد قال تعالى لنبيه: (وَمَا كانَ الله ليعَذِبَهُم
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (4/96) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/184) من طريق محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعاً. وهو حديث موضوع، آفته محمد بن زياد، وهو وضاع كذاب.
(2) سورة نوح: 5- 7.
(3) جزء من حديث سبق تخريجه.(2/72)
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)) (2) . يقول: لولا أن تَطَأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلَّطكم على أهل مكة، ولو تميَّز المؤمنون من الكُفار لعذبنا الكفار عذابًا أليما. فهذا ونحوه مما يُوافِق دينَ المسلمين.
/وأما ما يدعيه قومٌ في القطب والمرتبة التي يُسَمونها "القطبيّة" و"القُطبانية" فمن الغلوّ الذي يُشبِه غُلُوَّ النصارى والرافضة، كقولِ أحدهم: القطب الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مددَ أهلِ الأرض يكون من جهته، وأن الله إذا أنزلَ إلى أهل الأرض خيرًا من هُدىً ورزقٍ ونصرٍ فإنه يُنزِله عليه، ثم منه يَفِيْض إلى سائر الخلق.
وقد يدَّعي أحدهم أنه منه مددُ ملائكةِ السماواتِ وطيرِ الهواء وحِيْتَانِ الماء، وأنه يُعطِي الملكَ وولايةَ اللهِ لمن يشاء ويَصرِف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه المقالات التي تَجعلُ للقُطب نوعًا من الإلهية والربوبية التي لم تَحصُلْ للأنبياء.
وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى
__________
(1) سورة الأنفال: 33.
(2) سورة الفتح: 25.(2/73)
من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما تقدم.
فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه بالإفك والشرك الذي ذمَّ الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرًا ما يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (1) ، وقول الخليل: (أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (86) (2) ، وفي له تعالى:) (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)) (3) .
/وما يُنزل الله على قلوب عبادِه من الهُدَى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم إياه من الرزق، ومَعلوم أن ما يُنزِلُه من المطر ويُنبتُه من النبات لم ينزله قبل ذلك على شخصٍ من البشر، وكذلك ماَ يُغذِّيْ به عبادَه من الطعام والشراب والهواء لم يَتَغذَّ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... (4) من الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه
__________
(1) سورة الحج: 30- 31.
(2) سورة الصافات: 86.
(3) سورة القصص: 74- 75.
(4) هنا كلمة لم أستطع قراءتها.(2/74)
يدعوهم ويُبيِّن لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد، بل ذلك لا يَقدِرُ عليه إلاّ الله، قال تعالى: (إِنَكَ لَا تَهدِى من أَحببت) (1) ، وقال تعالى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37)) (2) أي من يضله الله لا يهدَى، كما قال: (مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتَدِ وَمن يُضلِل فَلَن تجدَ لَه وَلِيَّا مرشِدًا (17)) (3) ، وقال: (*لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) (4) . ولهذا أمر الله عبادَه أن يقولوا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)) (5) ، وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يَقدِرُ عليها إلاّ الله.
وفي الصحيح (6) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيب والشهادةِ، أنتَ تَحكمُ بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذْنِك، إنَّك تَهدِي من تَشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ".
وقد ثبت في الصحيحين (7) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ به من الهُدَى والعلم كمثلِ غَيْثٍ أصابَ أرضًا، فكانت
__________
(1) سورة القصص: 56.
(2) سورة النحل: 37.
(3) سورة الكهف: 17.
(4) سورة البقرة: 272.
(5) سورة الفاتحة: 6.
(6) مسلم (770) من حديث عائشة.
(7) البخاري (79) ومسلم (2282) من حديث أبي موسى الأشعري.(2/75)
منها طائفة قَبلتِ الماءَ، فأَنْبتتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكثيرَ، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء فسَقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قِيْعَانٌ/ لا تُمسِك ماءً، ولا تُنبتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونَفَعَه ما بَعثنَي اللهُ به مَن الهدى والعلم، ومَثلُ مَنْ لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرسِلْتُ به".
فقد بَيَّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ مثل ما أرسلَه اللهُ به كالماءِ، والماءُ مختلف باختلاف المحلّ الذي يَصِلُ إليه، فهكذا ما بعثَ الله به رسولَه يَختلِفُ أثرُه باختلاف القلوب التي يَصِلُ إليها، فكما أنَّ الزرعَ يَحصُلُ من الماء ومن التُّربةِ الطيبة، فهكذا الهدى، يَحْصُلُ من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك.
فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلِّمه ويَحرِص على هُداه، لا يَقدِر على جعل الضال مهتديًا، فكيف يُجعَل شخص دون الرُّسُل بكثير يَهدي الخَلْقَ كلهم، لا سمعوا كلامَه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلاّ من جنس قول الرافضة في المنتظَر الذي لم يَسمَعْ له أحدٌ بحِسٍّ ولا بخَبَرٍ، ولا وَقَعَ له على عَيْنٍ ولا أثرٍ.
وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسانِ من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقومُ بغيرِه (1) إذا علَّمه وخاطبه، مع بقاء الهدى والعلم في قلب الأوّل. ولهذا يُشَبَّه
__________
(1) تكررت كلمة "بغيره" في الأصل.(2/76)
العلمُ بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من المصباح يُحدِثُ الله له نارًا في ذُبَالةِ مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يُعطي الله رجلاً من العلم والهدى نظيرَ ما أعطى غيرَه بدون تعليم الأول وخطابه.
فهذا الغوث القطب/ إذا لم يُعلِّمِ الناس ويُخاطِبْهم كان ما جعله الله في قلوب الناس من الهدى والعلم نظير ما في قَلبه إذا قدر من0.. (1) ، ولكن لم يكن سببًا في ذلك، فضلاً عن أن يَكون من قلبه فاضَ إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يَرَهُ الناس ولا عَرَفوا ما قال ولَا فعل، فإن الإنسان قد يَرى كيان الرجل وآثاره، أو يرى وجهه وعمله، فيَحصُل له بذلك من الهدى والعلم ما يَسَّرَه الله له، أمّا بدون سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه منه هُدىً؟ فضلاً عن أن يكون منه يَحصُل هُدى جميع الخلق.
فليتدبّر اللبيبُ هذا يتبينْ له أنّ ما وصفوا به قطبَهم وغَوثَهم أمرٌ لا يَقدِرُ عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلِّمو الكتاتيب ومُقَرِئو القرآن ومعلّموهم آدابَ الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا حقيقةَ له في الأعيان، كما قدَّر الرافضةُ وعَبَدةُ الصلبان. وإذا كان هذا في الهدى الذي يَحصل
__________
(1) هنا كلمة غير واضحة في الأصل.(2/77)
بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل، أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يَحصُلَ بالدعاء المستجاب للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يَحصُل بدون ذلك، كما ذكرناه أولاً في قوله: "وهل تنصرون وتُرْزَقون إلاّ بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم".
وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام الوجود لا يختص/ بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عامًّا للخلق. أما وهذا أمر لم يَحصُلْ للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونَهم؟
ولا ريبَ أنَ هؤلاء الضالّين الغُلاة من الذين جعلوا بين اللهِ وبينَ خلقِه وسَائطَ جعلوهم له أندادًا وشُرَكاءَ وشفعاءَ، كما فَعَلتْه النصارى بالمسيح وأمِّه والأحبارِ والرهبان. قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1) . ولهذا أمر نبيَّه أن يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) (2) .
ودين الله الذي بعث به رُسُلَه وأنزلَ به كُتبه أثبت وساطة الرسل
__________
(1) سورة التوبة: 31.
(2) سورة آل عمران: 64.(2/78)
بين الله وبين خلقِه، فيُبَلغونهم أمرَه ونهيَه وخبرَه ووعدَه ووعيدَه، ويقطعون وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يُعبَد إلاّ اللهُ، ولا يتوكَّلُ إلاّ عليه، ولا يُدعَى إلاّ هو، فإنه لا ربَّ غيرُه، ولا خالقَ غيرُه، ولا إلهَ سواه. وكل ما خلقَه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يَشْرَكه ويُعِينُه، وله مانع يَحجُبه ويُعوقُه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غيرُ الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جُعِل سببًا كإحراق النار فلابد له من مُعين، وهو قبولُ المحلّ، وقد يَحصُل مانع كما حصل في نار إبراهيم،/وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على قبولهم.
وقد يكون القلبُ مائلاً للهدى، لكن يَحصُلُ له مانع يُعَارِضُه، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون (112)) (1) . وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (99)) (2) .
وقال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)) . وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْر
__________
(1) سورة الأنعام: 112.
(2) سورة آل عمران: 99.
(3) سورة الزخرف: 37.(2/79)
بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (1) . ونظائر هذا كثير.
فمن عَدَل عن سبيل المرسلين، فلم يتُابِعْهم ويُطِعْ أمرَهم ونهيَهم قَطَعَ ما بينَه وبينَ الله، فصارَ مشركًا بالله يدعو غيرَ الله، إمّا الملائكة وإمّا الكواكب وإمّا الجنّ، وإمّا البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صُوَرَ هؤلاء وتماثيلهم، وإمّا ما يظنُّه موجودًا من هؤلاء. ويتخيلُ في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا حقيقةَ له، ويثبت الوسائطَ في خلق الله وربوبيته، ويَجعلُ له شُرَكاءَ وشُفَعاءَ بغير إذنه، وهو سبحانه كما قال: (ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2) ،/وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (3) .
والناس في الشفاعة على طرفين ووسط (4) :
فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شُفَعَاءَ لهم بدون إذنِه، وهذه الشفاعة التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ
__________
(1) سورة الفرقان: 27- 29.
(2) سورة البقرة: 255.
(3) سورة سبا: 22- 23.
(4) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (1/148- 151، 116- 120، 313-314) .(2/80)
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (44) (1) . وقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)) (2) .
وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)) (3) . وقال تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (4) . وقال تعالى: (قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (5) . وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) (6) .
/وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل الكبائر من أمته، فنَفَوا الشفاعةَ بإذنِ الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضُلاَّل، وإن كان ضلالُ الأولين أعظم، إذ ذلك الضلالُ شِرك بالله، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى العمل والعبادة، يثبتُ نوعًا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، فصاَروا أسوأَ حالاً من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم
__________
(1) سورة الزمر: 43- 44.
(2) سورة الأنعام: 94.
(3) سورة يونس: 18.
(4) سورة السجدة: 4.
(5) سورة البقرة: 254.
(6) سورة البقرة: 48.(2/81)
يثبِتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوُهم من القدرية، فتكون بذلك خيرًا منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويُعرِضون عن الأمر والنهي، ويجعلونه الحقيقةَ التي تَدفَع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، فيصيرون بذلك مُضاهِين للمشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء) (1) .
ومعلوم أن هؤلاء المشركين شرٌّ ممن جَحَد القدرَ من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيَّيْنِ ناظرينَ إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون الشفاعةَ التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمَعتزلة من هذا الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين الاحتجاج بالقدر.
وهذا حال المشركين الذين ذمَّهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارةً يعبدون غيرَ الله، وتارةً يزعمون عبادةً لم يشرعها، ويُحرّمون ما أحلّه، وتارةً يحتجون بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة للمعتبرين، فإنه سبحانه قرَّر في سورة الأنعام توحيدَه وعبادتَه وحدَه لا شريكَ له، وأنه هو الذي يُدعَى عند الشدائد، وهو الذي يَكشف الضرّ ويُنزِل الرحمة، كقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) (2) . وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ
__________
(1) سورة الأنعام: 148.
(2) سورة الأنعام: 40- 41.(2/82)
(وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)) (1) . وقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)) (2) .
وهذه الآية عامَّةٌ في كل من أرادَ الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي يتناول من صلّى صلاةَ الفجر وصلاةَ الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة (3) .
/وِكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (4) . فإن سورة الكهف مكية أيضًا باتفاق العلماء، والصُّفَّةُ إنما كانت بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلبَ
__________
(1) سورة الأنعام: 46.
(2) سورة الأنعام: 51- 52.
(3) أخرج أحمد في "مسنده" (1/420) عن ابن مسعود قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمّار، فقالوا: يا محمد! أرضيتَ بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن ... ، وقد ذكر ابن كثير (3/260) أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. وراجع تفسير الطبري (11/376) بتحقيق الشيخ محمود شاكر.
(4) سورة الكهف: 28.(2/83)
قومٌ من رؤساءِ المشركين من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يَطْرُد المؤمنين الضعفاءَ والفقراءَ عنه، فأنزل الله هذه الآية (1) ، يأمره فيها بأن لا يَطْرُدَ أحدَا لأجل ضعفِه أو فقرِه إذا كان مؤمنًا يُرِيد وجهَ الله، فإنّ الناسَ إنما يُقَرَبُهم إلى الله الإيمانُ والتقوى، لا عِبْرةَ بالغنى ولا بالفَقر.
وقد ذكرَ سبحانَه ما يُناسِبُ هذه الآيات في سورةِ الأنعام إلى قوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)) (2) .
ثمَّ إنه سبحانَه قرَّر في السورة بعد التوحيدِ الرسالةَ والكتابَ المنزل، وذَكَرَ ما ذَكَره من رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، وذَكَرَ المعادَ والثوابَ والعقابَ، ثمَّ إنه خَتَمَ السورةَ بذمِّ حالِ المشركين وما حرَّموه وما شَرَعُوه من الدين الذي لم يأذن به الله، فقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (3) إلى قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
__________
(1) أخرجه مسلم (2413) من حديث سعد بن أبي وقاص. والاَية مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة.
(2) سورة الأنعام: 63- 64.
(3) هذا جزء من الآية 21 من سورة الشورى، ولعل المؤلف يَقصد هنا الآية 138 من سورة الأنعام: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)) . فإن الآية التي ذكرها فيما بعد من سورة الأنعام، وهذه السورة هي التي يدور الكلام عليها هنا.(2/84)
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون (148)) (1) .
فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين
وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) . قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمرِ الله ونهيه وخَبَره الذي بعثَ به رُسُلَه، فإن هذا تكذيبٌ منهم للشرع محتجينَ عليه بَالقدر.
ثم قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)) ، فبيَّن أن الاحتجاجَ بالقدر ليس بدليل على صحة قول المحتج، فإنَ القدرَ مُتناولٌ لكل كائن، فالمحتجُ به لا علْمَ عَنده، إن يَظن إلاّ ظنا، وهو في ذلك من الخَارصين الحازِرين الَكاذبين (2) .
وفي صحيح مسلم (3) عن عياض بن حمار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به عن الله أنه قال: "خَلقْتُ عباديَ حُنفاءَ، فاجْتَالتْهم الشياطينُ، وحَرمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنَ رَبي قال لي: قُمْ في قُرَيش فأنَذرهم، فقلتُ: أيْ رَب إذَا يَثْلغُوا رأسي حتى يَجعلوه خُبْزَةً. فقالَ: إني
__________
(1) سورة الأنعام: 148- 149.
(2) بعده في الأصل: "وقال في سورة" ولعل المؤلف كان يريد أن يكتب هنا آية، فعدل عنها، وذكر الحديث الآتي.
(3) برقم (2865) . وأخرجه أيضًا أحمد 4/162، 266 وابن ماجه (4179) .(2/85)
مُبْتَلِيكَ ومُبْتَلٍ بك، ومُنزِلٌ عليك كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرأُه نائمًا ويَقظانَ. فابْعَثْ جُندًا أَبعَثْ مثلَهم، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك، وقَاتِلْ بمن أطاعَك من عَصَاك".
وهذا الأصل مُبيَنٌ في الكتاب والسنة، فمن شَرَعَ دِينًا لم يَأذنْ به الله، أو احتج بالقدر، وجَعَلَ الحقيقة الكونية معارضةً للأمر والنهي الشرعيين فقد ضَاهَى/ هؤلاء المشركين.
ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة (1) درجات: إحداها: أهل الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحبّ لله، والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمِه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل طريق أولياء الله المتقين وحِزْبه المصلحين وعباده الصالحين.
والثانية: من خاضَ في حقائق الدين بمجرد ذَوقه ووَجْدِه ورَأْيِه، سواءً وافَقَت الكتابَ والسنةَ أو خالفتْ. فهذا (2) يصيبون تارةً ويُخطِئون تارةً، ويكونون من أهل السنة تارةً ومن أهل البدعة أخرى.
الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يُميِّزْ بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يُحِبه
__________
(1) كذا في الأصل "ثلاثة" بإثبات الهاء.
(2) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "فهؤلاء" ليناسب الآتي.(2/86)
ويرضاه وبين سائرِ ما قدَّره وقضاه. فهؤلاء أهلُ ضلالٍ وتعطيلٍ، قد حقَّقُوا التوحيد الذي أقرَّ به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدةِ الوجود والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهلِ الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلاّ الله، كما قد بَسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع (1) .
والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمتُ أنَ السلف تكلموا بهذا الاسم في الرجال. (2) ، ولا جعلوا اسم القطب مما يُعَثر به عن أحوالِ أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نُقِلَ عنهم التكلُّم بذلك في مواضع.
وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتدُ: المُثبتُ لغيره، كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبتَ اللهُ به الإيمَانَ والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثَبَتَ بدعائِه وعبادتِه نصرُهم ورزقُهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.
وأما قول القائل: "إن على قَدَم كل نبي من الأنبياء وليَّان (3) : ولي ظاهر وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإنّ الأنبياء مائة ألفٍ
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى".
(2) هنا كلمة مطموسة في الأصل، ولعلها "الصالحين" وما في معناها.
(3) كذا في الأصل بالرفع.(2/87)
وأربعة وعشرون ألفَ نبي (1) ، وأصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين صحبوه أفضلُ الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلاّ بضعة عشر ألفًا.
ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت أمتُه في سنين كثيرة لا تَبلُغ هذا العدد عُلِم قطعًا بطلانُ ذلك.
وأيضًا فقد صحَّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى الأنبياء، النبي يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان (2) .
فإذا كان النبي قد لا يَتَبعُه أحدٌ، أو لا يتبعه إلاّ رجلٌ واحد، فكيف يجب أن يكون له في كَل عصرٍ اثنان على قَدَمِه من أمةِ غيره؟
__________
(1) كما في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر. قال الهيثمي في "موارد الظمآن" (94) : فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذاب.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/166- 168) والطبراني قسماً منه في "المعجم الكبير" (1651) من طريق إبراهيم بن هشام به. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/167) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/9) من طريق آخر عن أبي ذر، وفيه يحيى بن سعيد السعيدي، قال العقيلي: لا يتابَع على حديثه، وقال ابن عدي: يعرف بهذا الحديث، وهو منكر من هذا الطريق.
وأخرج بعضه أحمد في "مسنده" (5/265) من حديث أبي أمامة، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/159) : مداره على علي بن زيد، وهو ضعيف.
(2) أخرجه البخاري (5705، 5752، 6541) ومسلم (220) من حديث ابن عباس.(2/88)
وأيضًا فقوله: "وفيٌ باطن ووليٌّ ظاهر" إن أُرِيدَ به وليٌ يعرفه الناس ويظهر لهم ولايتُه، ووليٌ لا يَظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولايةُ مائة ألف ولا عشرة ألف (1) ، ولا يُشهَد بالولاية إلاّ لمن ثبتَ أنه ولي، إما بنصّ أو بما يقوم مقامَه. وإن كان لا يُشْهَد بنَفْيِها، لكن نحن نعلم قطعًا أنه لا يظهر ولاية هذا العدد للناس.
وإن أريد بظهوره وجودُه بين الناس وعلمُهم به، فعامَّة الأولياء ظاهرون بهذا الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يَرَهُ الناس، وإذا قُدر أن فيهم من يَختفِي عن الناس كثيرًا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض الأوقات، ولو أنه ظهرَ/لأبويه ومَن ربَّاه إذا كان صغيرًا. ثم هؤلاء في غاية القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها نادرًا أو معدومًا، فإن سكنى البوادي والجبال والغِيْران واعتزال المسلمين من جُمَعِهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبُه إذا عُذِر عاجزًا منقوصًا.
وأيضا فقول القائل "إنّ الوليّ على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباعَ شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلاّ شريعته، ولو كان موسى حيًّا ثم اتبعه متبعٌ وترك شريعةَ محمد كان ضالاً (2) ، فلم يبق إلاّ موافقته في بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه
__________
(1) كذا في الأصل "ألف" بدل "آلاف".
(2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (3/338، 387) =(2/89)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبَّه عمرَ بنوح وموسى (1) ، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاقُ الأنبياء متفاوتةً هذا التفاوت، وهذا غير معلوم.
وأيضا فإنّ غالب الأنبياء لم يُقَصُّوْا على نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تعرفهم أمتُه، فكيف يكون من أمته مَن هو على قدمِ نبي لا يَعرِفه ولا يعرف قدمَه؟
وأيضًا فهذا كلامٌ لا دليلَ عليه، ولم يَقُلْه من له قولٌ في الأمة، ولو كان مثلُ هذا حقًّا لكان معروفا عند أهل [العلم] (2) والإيمان.
فإن مثل هذا لو كان حفًا مما لا يخفى على أهل العلم والإيمان من هذه الأمة، فإذا لم يكن له أصلٌ عندهم عُلِمَ بطلانُه.
__________
= والدارمي (441) عن جابر مرفوعًا: (والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حثا أدرك نبوتي لاتبعني". وأخرج أحمد (3/470، 4/265) نحوه عن عبد الله بن ثابت.
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1/383) والحاكم في المستدرك (3/21) من حديث عبد الله بن مسعود. وراجع كتب التفسير في تفسير سورة الأنفال: الآيتين 67- 68.
(2) زيادة يقتضيها السياق، وانظر السطر الذي يليه لتعرف أن الزيادة من أسلوب المؤلف.(2/90)
فصل
وأما قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق"، فحوائجُ الحلق لا تنتهي إلاّ إلى الله، كما قال سبحانه: (وَمَا بِكُم فِن نِعمَهِ فَمِنَ اَللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكمُ اَلضُّرُ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)) (1) ، وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (2) ، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) (3) . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والمسيح والعُزَير، فأنزل الله هذه الآية (4) .
وقال تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (102) (5) . وأفضل الخلق: الرسل، والله سبحانه
__________
(1) سورة النحل: 53.
(2) سورة فاطر: 2.
(3) سورة الإسراء: 56- 57.
(4) أخرجه الطبري (15/104) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/2335) عن ابن عباس.
(5) سورة الكهف: 102.(2/91)
بعثَهم مبشرين ومنذرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (1) ، وجعلهم سُفَراء بينه وبين خلقِه في تبليغ أمره ونهيِه، ووَعْدِه ووعيدِه، وسائرِ كلامِه سبحانه وتعالى.
ولم يَضْمَن الرسلُ للخلق لا رزقًا ولا نصرًا ولا هُدىً، بل قال أولُهم نوحٌ: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك) (2) ، وأَمَر خاتَمَهم وأفضلَهم- صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلَّم تسليمًا -أن يقول ذلك، فقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء) (3) ، وقال له: (إِنَّكَ لَا تهدِى مَن أَحببتَ) (4) ، وقال له: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) (5) ، وقال له: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (6) ، وقال: (إنما أنت منذرٌ) (7) ، (لست عليهم بمصيطرٍ) (8) .
__________
(1) سورة النساء: 165.
(2) هذه الآية في سورة الأنعام: 50، وليس في سياق قصة نوح. والاَية التي أرادها المؤلف في سورة هود: 31 على لسان نوح: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ، فاشتبهت على المؤلف، وجل من لا يسهو.
(3) سورة الأعراف: 188.
(4) سورة القصص: 56.
(5) سورة آل عمران: 128.
(6) سورة الرعد: 40.
(7) سورة الرعد: 7.
(8) سورة الغاشية: 22.(2/92)
/فقول القائل: "إن حوائج الخلق تنتهي إليه"، إن أراد به ما يحتاج إليه الخلق من الرزق والهدى والرزق (1) يُحدِثُه الله بواسطته، فقد جعل بين الله [و] (2) بين خلقه ربًّا متوسطًا، كما يزعمه المتفلسفة في العقل الفعال، وهو كفر صريح بإجماع أهل الملل.
ثم إنه من أظهر الكذب، فإن أفضل الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده أولو العزم كإبراهيم وموسى وعيسى، ونحن نعلم قطعًا أن عامة ما كان الله يُحدِثُه في زمانهم لم يكونوا متسببين فيه، ولا كانوا يعلمون به، وقد قال الخضر لموسى لمّا نَقَر العصْفورُ في البحر: "ما نَقَصَ علمي وعلمك من علم الله إلاّ كما نَقَصَ هذا العصفور من هذا البحر" (3) فإذا كان هذا في العلم الذي لا تأثير معه، فكيف بالتأثير في الملك.
ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفّار الذين بأرض الهند والأجنَّة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجلٍ من البشر، فقد قال نظيرَ ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح (4) .
__________
(1) كذا وردت "كلمة" الرزق مرة ثانية في الأصل.
(2) زيادة لا توجد في الأصل.
(3) أخرجه البخاري (122، 3401. 4725، 4727) ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب.
(4) بعده في الأصل: "ثم إن"، ثم بياض في باقي الصفحة بقدر ستة أسطر، وكأن المؤلف أراد أن يكتب شيئًا، ثم عدل عنه.(2/93)
/وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شئ دَعَا اللهَ فيُعطِيه بدعائه، كان هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد عُلِم أن الله يُجِيب دعوةَ المضطر إذا دعاه وإن كان كافرًا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيُجيب دعاءَهم، فالمسلمون الذين هم عبادُه أولى. وقد يَدعو اللهَ بدعاَءٍ لم يعلم به أحد من البشر.
فإن قيل: ذلك الغوثُ يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهرَ في الكفر والفساد، فسَيِّدُ ولدِ آدم يُظهِرُه على شئ ويُجيب عليه أشياءَ. وقد قال له: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1) .
وقال: (قُل َلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (2) . وقد رُمِيَتْ أم المؤمنين بالإفك وأُخفِيَ عنه أمرُها مدَّةً، لِما كان في ذلك له من المحنة، تعظيمًا لأجرِه ورفعًا لدرجته.
وكذلك لما جاء قوم زكَوْا بني أبَيْرق الذين كانوا قد سرقوا طعامَ جارهم ودِرْعَه، ظَن صدْقَ المزكِّين ودفع عن المتَهمِين، حتى أنزل الله تَعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (3) الآيات.
__________
(1) سورة التوبة: 101.
(2) سورة الأنعام: 50.
(3) سورة النساء: 105. وسبب نزولها الذي أشار إليه المؤلف، أخرجه الترمذي (3036) والحاكم في "المستدرك" (4/385- 388) من حديث قتادة بن النعمان. وانظر تفسير الطبري (5/165 وما بعدها) وتفسير ابن أبي حاتم=(2/94)
وفي الصحيح (1) عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ: "فأحسبه صادقًا. فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار".
ولما رآهم يُلقحون النخل [قال] : "ما أظنُّه يُغني شيئًا"، فتركوه، فصار شِيْصًا، فقال: "إنما أخبرتكم عن ظنّي، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلق أكذب على الله" (2) . وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإليَّ " (3) . ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟
/ثم قد عُلِم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق مازالوا يحتاجون إلى الله، ويضطرُّون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات؛ وإما في دفع ما يكرهون، مثل دفع الأعداء وتفريج
__________
= (4/1059-1060) و"الدر المنثور" (2/670) .
(1) أخرجه البخاري (2458، 2680، 6967، 7169، 7181، 7185) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة.
(2) أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله، ورواه أيضًا أحمد (1/ 162، 163) وابن ماجه (2470) . والشيص: هو البُسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفا.
(3) أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة.(2/95)
الكربات، وهو يجيب دعاءَهم ويُعطيهم سُؤْلَهم تحقيقًا لقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) (1) من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله.
وأيضًا فمازال الناسِ يُجْدِبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوثُ لا ينفع ولا يَدفع، فيا ليتَ شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟ فالله مجيبُ المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي لم تُقضَ بعدُ لأحدٍ فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو سبحانَه يَرزُق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يومَ احد، (لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) (2) .
فإن كان هذا الغوثُ ساعيًا في ذلك كان عاصيًا لله ورسوله، محاربًا لله ورسوله، فإن من حارب الله ورسولَه وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع (3) /وأعظم الكفر بالله
__________
(1) سورة البقرة: 186
(2) سورة آل عمران: 140- 141.
(3) ذكر المؤلف في "مجموع الفتاوى" (11/47- 49) هذه الرواية، وبين كذبها=(2/96)
ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد الحقيقة الكونية، مُعرِضًا عمّا يحبُّه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبَعثَ به رسلَه وأنزلَ به كُتبَه. ومن طَرَدَ هذا القولَ كان أكفرَ من اليهود والنصارى، فإنّ أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضٍ، وصاحبُ هذا المشهد لا يؤمن بشيء من الكتاب، وغايتُه في شهودِه تحقيقُ توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من الكفار، فإنّ أولئك كانوا يُقِرُّون بأن الله رب كل شيء وخالقُه، كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَاواَتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَ اَللهُ) (1) . فمن جَعَل غايةَ تحقيقِه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا الإشراك.
والله سبحانَه بَعث الرسلَ بتوحيد الإلهية، وهو أن لا يعبد إلاّ الله، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يتوكل إلاّ عليه، ويخلص له الدين، ويطيع رسلَه ويتبعهم، ويحبّ ما أحبّ ويُبغِض ما أبغض، ويوالي من والَى ويعادي مَن عادى، ويأمر بما أمر وينهى عما نهى، حتى يكون الدين كله له، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (2) ، وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً
__________
= وبطلانها، وحكم على من يقول بها أنه ضال غاو، بل كافر يجب أن يستتاب
من ذلك، فإن تاب وإلاّ قُتِل.
(1) سورة لقمان: 25، وسورة الزمر: 38.
(2) سورة الأنبياء: 25.(2/97)
يُعْبَدُونَ (45)) (1) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) (2) ،/وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون) (3) .
فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، فكيف بغيرهم؟ وقد قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (4) . ومعلوم أن النصارى لم تجعل الأحبار والرهبان شركاءَ لله في خلق السماوات والأرض، ولا جعلتِ النبيين كذلك، بل جَعَلَتْهم وسائطَ بينهم وبين الله في الإعطاء والمنع والضر والنفع، وأعطوهم من الدعاء والطاعة ما لا يستحقه إلاّ الله، وظنوا أنهم يشفعون لهم عند الله كما يشفع المخلوقُ عند ملوك الدنيا، يشفع عنده من يَعِزّ عليه ومن يحتاج إليه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعالِه ولا أحكامِه، ولا شيء من دونه سبحانه وتعالى، فهو الذي يأذن للشفيع فيشفع، وهو الذي يقبل شفاعته، فالأمر منه وإليه، لا
__________
(1) سورة الزخرف: 45.
(2) سورة النحل: 36.
(3) سورة آل عمران: 79- 80.
(4) سورة التوبة: 31.(2/98)
خالق غيره ولا ربَّ سواه، فلا يُرجَى غيرُه، والشفاعة من جملة الأسباب التي قدَّرها وقضاها، يفعل بها كما يفعل بسائرِ ما يُقدِّرهُ من الأسباب.
وأما لفظ "النجباء" فهذا لا يُعرَف في كلام أحد من السلف من أقسام عباد الله الصالحين وأولياء الله المتقين، وإنما تكلم به بعض الشيوخ المتأخرين.(2/99)
/فصل
وأما قول القائل: "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام على الإطلاق باطلٌ قطعًا، فإن هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، ولما صارت دارَ إسلام صار فيها من أولياء الله المتقين بحسب ما في أَهلِها من الإيمان والتقوى، ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال. ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلاّ بالشام فقد أخطأ، فإن خيارَ هذه الأمةِ من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة النبوية، ولما فُتِحت الأمصار كان في كل مصرٍ من خِيار المسلمين من لا يُحصِيه إلاّ الله.
وقد جاء في فضائل الشام وأهلِه أحاديث معروفة (1) لم يَجىءْ مثلُها في العراق وغيره من الأمصار، مثل قوله في الحدَيث الصحيح: "إن ملائكة (2) الرحمن باسطة أجنحتها على الشام" (3) .
__________
(1) انظر "فضائل الشام ودمشق" للربعي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (الجزء الأول) و"فضائل الشام" لابن رجب وغيرها. وراجع "مجموع الفتاوى" (27/505- 511) .
(2) في الأصل "أجنحة"، وهو سبق قلم، والتصويب من مصادر التخريج الآتية.
(3) أخرجه أحمد (5/184) والترمذي (3954) والحاكم في "المستدرك" (2/ 229) من حديث زيد بن ثابت. قال الترمذي: حسن، وصححه الحاكم والمنذري في "الترغيب والترهيب" (4/63) والألباني في تخريج أحاديث=(2/100)
وقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" (1) . وفي القرآن أربع آيات تدل على حصولِ البركة في الشام (2) . ومثل قوله لعبد الله بن حوالةَ لما قال: "إنكم ستُجَندونَ أجنادًا مُجندةً جندًا بالشام وجندًا باليمن وجندًا بالعراق"، فقال عبد الله بن حوالة: يا رسول الله! اخترْ ليْ، فقال: "عليك بالشام، فإنها خِيرَة الله من أرضه، يَجتبي إليها خِيرَتَه من عبادِه، فمن أبي فليَلْحَقْ بيمنِه، وليسق من غدُرِه، فإن الله قد تكفلَ لي بالشام وأهلِه". رواه أبو داود وغيره (3) .
وفي "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه قال:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة" (4) . قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام./وهذا الذي قاله
ـــــــــــــــ
= فضائل الشام" (ص 11) .
(1) أخرجه البخاري (1037، 7094) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/90، 118) والترمذي (3953) .
(2) هي خمس آيات في سورة الأعراف: 137؛ وسورة الإسراء: 1؛ وسورة الأنبياء: 71، 81؛ وسورة سبأ: 18. وانظر "مجموع الفتاوى" (27/506) .
(3) أخرجه أبو داود (2483) وأحمد (4/110) من طريق أبي قتيلة عن ابن حوالة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/33) والحاكم في "المستدرك" (4/510) من طريق مكحول عن ابن حوالة بنحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وللحديث طرق أخرى في "تاريخ دمشق" (1/56- 81) . وذكرها الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق" (ص 12-13) وتكلم عليها.
(4) أخرجه مسلم (1925) وأبو يعلى في "مسنده" (783) وأبو نعيم في "الحلية" (3/95- 96) من حديث سعد بن أبي وقاص.(2/101)
أحمد هو معروف عند السلف، كانوا يسمون أهل الشام وما يغرب عنها أهل الغرب (1) ، ويسمون أهل نجد والعراق وما يشرق عن ذلك أهل الشرق. فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، وما يشرق عنها فهو شرق.
وقد جاء في بعض الآثار أنَّ أكثر الأبدال بالشام (2) .
فأما الحديث المأثور "لا تسبُّوا أهل الشام فإن فيهم الأبدالَ، أربعين رجلاً، كلّما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلا"، فهذا يُروى عن علي بن أبي طالب بإسنادٍ منقطع، وهو في "المسند" (3) وغيره، وهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، وهو لم يسمعه منهم، وإنما بلغه عن علي بلاغًا، فلم يضبط له لفظه.
وإذا كان الأبدالُ الأربعون أفضلَ الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، فإن الأمة في زمن علي كانوا ثلاثة أصناف:
صنفٌ قاتلوا معه، كعمار وسهل بن حُنَيف وأمثالهم، فهؤلاء مع
__________
(1) انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى" (7/446، 27/41، 507, 28/ 552,531) .
(2) أخرج الربعي في "فضائل الشام ودمشق" (ص 44) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/286) من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "ستكون دمشق في آخر الزمان أكثر المدن أهلاَ، وهي تكون لأهلها معقلاً، وأكثر أبدالاً.... ". قال الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام" (ص 40) : حديث منكر، تفرد بروايته محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الغساني.
(3) 1/112.(2/102)
علي بن أبي طالب لم يكن بالشام مثلُهم، بل علي ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه من الشاميين، كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "تمرق مارقة على حينِ فرقةٍ من المسلمين يَقتلهم أولى الطائفتين بالحق"، وفي لفظ: "أدناهما إلى الحق".
فهذا حديث صحيح صريح بأن عليًّا وطائفته أولى بالحق من الطائفة الأخرى معاوية وطائفته.
/والصنف الثاني من المؤمنين من لم يقاتل، لا مع علي ولا معاوية، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مَسْلَمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأمثالهم، فهؤلاء أيضًا أفضل من أهل الشام، وقد كان في لفيف أهل الشام من هو أفضل من كثير من أهل العراق والحجاز.
أما من لم يشهد القتال مع معاوية فإن في الشاميين من لم يقاتل معه كأبي أمامة الباهلي وغيره. وأما من كان في عسكره فقد كان في عسكره أيضًا قوم صالحون لهم اجتهاد وحسن مقصد، وبكل حال فلا يَعتقد مسلم أن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وسهل بن حنيف ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين الذين يشهدُ الكتاب والسنة بفضلهم على من بعدهم، كان
__________
(1) أخرجه مسلم (1065) فقط. ورواه أيضًا أحمد (3/25، 32، 45، 48، 64، 79، 97) وأبو داود (4667) .(2/103)
الأبدال الأربعون الذين هم أفضل الأمة خارجين عنهم في حياتهم.
فهذا الأصل المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع لا يعارضه خبر واحد رواه الثقات، بل يُنسبون في ذلك إلى الغلط، فكيف بحديث منقطع فيه من الريبة ما لا يخفَى.
/ومما يبين ذلك أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون من الأبدال من ليس بالشام، كما في حكاية أن مالك ابن دينار ومحمد بن واسع وغيرهما من الأبدال (1) ، وفي حديث مَعْدان الذي سأل الثوري عن قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ) (2) فقال: بعلمِه (3) ، قالوا: وكان معدان من الأبدال. ومثل هذا كثير في كلامهم.
وأما لفظ "النقباء" و"النجباء" في أولياء الله، فقد تقدم أنه ليس لذلك أصل في كلام السلف.
__________
(1) رواها أبو نعيم في "الحلية لما (3/114) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/301) .
(2) سورة المجادلة: 7.
(3) أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (ص 72) والآجري في "الشريعة" (ص 289) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/401) ، وأورده ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 127) والذهبي في "العلو" (كما في "مختصره" ص 139) . وكلهم ذكروا قول الثوري في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (سورة الحديد:4) .(2/104)
فصل
وأما قول القائل: "إن الشدَّةَ إذا نَزلتْ بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يَرفعُ بصرَه حتى تنفرج تلك النازلةُ"، فهذا من أعظم البهتان من وجوه:
أحدها: أن هذا الغوثَ المدَّعَى ليس بأعظم من الرُسلِ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادةُ الخلائق، يُجيبُ الله من دعائهم ما لا يجيب من دعاء غيرهم، وهم الذين تُطَلَبُ منهم الشفاعةُ يومَ القيامة، حتى يُنتَهى إلى خاتم الرُسُل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهبُ إلى ربي، فإذا رأيتُه خَرَرْتُ ساجدَا، فأحمدُ ربي بمحامدَ يَفتحُها عليَّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أَيْ محمد, ارفَعْ رأسَك، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ". قال: "فأرفع رأسي فأقول أمتي أمتي، فيَحُذُ لي حَدًّا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله (1) . وأحاديث الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها.
فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يَبْتَدِىءُ
__________
(1) أخرجه البخاري (4476، 6565، 7410، 7440) ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك.(2/105)
بالشفاعة بل بالسجود والثناء،/حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع.
أما في الدنيا ففي الصحيح (1) عنه قال: "سألت ربّي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعَني واحدةً، سألتُه أن لا يُسلِّط على أمتي عدوًّا من غيرهم فيَجْتَاحهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِك بسَنَةٍ عامّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسَهم بينهم، فمنعنيها".
وفي الصحيح (2) أنه قال لِعَمِّه: لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3) . وقد صلى على عبد الله بن أُبَى ودعا له (4) ، حتى أنزل الله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5) . وقال له: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (6) .
__________
(1) مسلم (2890) من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه أيضًا أحمد (1/175 ,181) . (2) أخرجه البخاري (1360، 3884، 4675، 4772) ومسلم (24) من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه.
(3) سورة التوبة: 113.
(4) أخرجه البخاري (1269، 4670، 4672، 5796) ومسلم (2400، 2774) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (1366، 4371) من حديث عمر بن الخطاب.
(5) سورة التوبة: 84.
(6) سورة المنافقين: 6.(2/106)
وثانيه في الفضيلة الخليلُ، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أنه خير البرية، وهو أفضل الرسل بعد محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ، وقد استغفر لأبيه بقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (2) ، ومع هذا فآزرُ في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له (3) .
وأيضًا فقد قال تعالى: (ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود (76)) (4) .
وأيضًا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ يدعو في مقاماتٍ معروفةٍ، ففي يوم بدرٍ كان يناشد ربَّه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة (5) ؛ وفي الاستسقاء اجتهد في الدعاء (6) ، تارةً في المسجد وتارةً في
ــــــــــــ
(1) مسلم (2369) عن أنس. وأخرجه أيضًا أحمد (3/178، 184) وأبو داود (4782) وا لتر مذي (3352) .
(2) سورة إبراهيم: 41
(3) في سورة التوبة: 114 (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم (114))
(4) سورة هود: 74- 76.
(5) أخرجه البخاري (2915، 3953، 4875، 4877) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (1763) عن عمر بن الخطاب.
(6) وردت أحاديث عديدة في الاستسقاء، منها حديث عبد الله بن زيد الذي أخرجه البخاري (1023- 1025) ومسلم (894) ، وفيه ذكر الدعاء قبل الصلاة. وحديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (933، 1013، 1019، 1021) ومسلم (897) ، وفيه ذكر الدعاء في خطبة الجمعة.(2/107)
الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزلْ إلاّ بعد اجتهادهم/في الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بَصَرَه حتى تُدْفَع النوازلُ؟
ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلاّ الله، واتصل بعضُها مدَّةً، فأين كان هذا الغوث؟ وحدَّثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصَّار- وكان من الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أُخِذَتْ فيه بغداد، كُشِفَ له عن ذلك والسيفُ يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب، أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأيضًا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه لشخصٍ معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، الفهم إلاّ ما يقوله بعض الناس لبعضٍ كما جرت به العادة، فمَنِ الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى الأعلى؟
وأيضًا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم يدعونه إذا مسَّهم الضرُّ مخلصين له الدين, فيُجيبهم، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)) (1) . وقال تعانى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ
__________
(1) سورة الإسراء: 67.(2/108)
مَا كَانُوا يَعْمَلُون (12)) (1) . وقال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) (2) . ونظائره في القرآن كثيرة.
وقد قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) (3) ، فهو سبحانه قريب مجيب.
وفي الصحيحين (4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: "إنكم لا تَدْعُون أصمَ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنقِ راحلته".
وقد قال الخليل: (إِنَّ ربّىِ لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)) (5) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه سميعَ الدعاء، مجيبًا لدعوة عِباده، قريبًا منهم، يُجيبُ الكفّار إذا دَعَوهُ مضطرين، فكيف يُحْوِجُ عبادَه المؤمنين إلى وسَائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟
وهو سبحانه يُكلِّم عبادَه يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب
__________
(1) سورة يونس: 12.
(2) سورة العنكبوت: 65- 66.
(3) سورة البقرة: 186.
(4) البخاري (2992، 4202، 6384، 6409, 6610, 7386) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري.
(5) سورة إبراهيم: 39.(2/109)
ولا ترجمان، كما في الصحيح (1) عن عديّ بن حاتم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما منكم من أحدِ إلاّ سيكلّمه ربُّه ليس بينه وبينه حاجبٌ ولا ترجمان، فينظُرُ أَيْمَنَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أشأمَ منه فلا يَرَى إلاّ شيئًا قدَّمَه، ويَنظُر أمامَه فتَستقبلُه النار، فمن استطاعَ منكم أن يتقي النارَ ولو بشِقِّ تمرة فليفعل، َ فإن لم يستطع فبكلمةٍ طيّبة".
والمصلِّي يقول في الصلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2) . وفي الصحيح (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن المصلّي يناجي ربه"، وقال (4) : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قِبَلَ وجهِه، فلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وجهِه". فإذا كان العبد يناجي ربَّه ويخاطبه، والله يَسمعُ كلامَه ويجيب دعاءَه، فأين حاجتُه إلى الوسائط التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ /التي يعلم كل عاقلٍ من أهل الإيمان أنها من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بُسِطَتْ في غير هذا الموضع.
والكتاب والسنة مملوءٌ (5) بما يُناقِضُ دعوى هؤلاء المفترين.
__________
(1) البخاري (6539، 7512) ومسلم (1016) .
(2) سورة الفاتحة: 5.
(3) البخاري (405، 413، 417، 531، 1214) ومسلم (551) من حديث أنس بن مالك.
(4) أخرجه البخاري (406، 753، 6111) ومسلم (547) عن ابن عمر.
(5) كذا في الأصل بالإفراد، كأن الكتاب مع السنة شيء واحد.(2/110)
وهذا كلُّه- الذي عليه هُمْ- شعبةٌ قوية من شعب دين النصارى، الذين (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون (31) (1) .
وقد أمرنا الله أن نقول في صلوِاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين (7)) (2) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون" (3) . فاليهود شبَّهوا الخالق بخلْقِه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللُّغوب. والنصارى شبَّهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهيّة التي لا يستحقها إلاّ الله، حتى أشركوا بالله ما لم يُنزِّل به سلطانًا. ولهذا قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (17)) (4) .
وقال تعالى: (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
__________
(1) سورة التوبة: 31.
(2) سورة الفاتحة: 6- 7.
(3) أخرجه أحمد (4/378) والترمذي (2953، 2954) من حديث عدي بن حاتم، ضمن حديث طويل. قال ابن كثير في "تفسيره" (1/142) : وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
(4) سورة المائدة: 17.(2/111)
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (75)) (1) .
/وفي الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". وقد حَسَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موادَّ الشركِ قولاً وعملاً، حتى قال: "لا يَقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثمَِّ شاء محمد" (3) . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضَبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" (4) . وقال: "لَعَنَ الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يُحذر ما فعلوا (5) .
وقال قبلَ أن يموتَ بخمس: "إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون
__________
(1) سورة المائدة: 75.
(2) البخاري (3445) مختصرًا و (6830) مطولاً من حديث ابن عباس عن عمر ابن الخطاب.
(3) أخرجه أحمد (5/72، 398) والدارمي (2702) وابن ماجه (2118) من حديث طفيل بن سخبرة، وأخرجه أحمد (5/384، 394، 398) وأبو داود (4980) من طريق عبد الله بن يسار عن حذيفة بن اليمان. وأخرجه أحمد (5/393) وابن ماجه (2118) من طريق ربعي بن حراش عن حذيفة به نحوه.
(4) أخرجه أحمد (2/246) والحميدي (1525) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 283، 7/317) بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.(2/112)
القبور مساجد، إلاّ فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) . ونَهى عن الصلاة عند طلوعِ الشمس وعند غروبها (2) .
والله سبحانَه لم يأمر مخلوقًا أن يسأل مخلوقًا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال أحدًا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (3) . وقال لابن عباس: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله" (4) .
وفي الصحيح (5) عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يَسْترقون ولا يَكْتَوون ولا يَتطَيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رُقْيَةً وإن كانت الرقيةُ دعاء. فهذا وصفُ خواصِّ عبادِ الله. وهذا باب واسعٌ، قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (6) .
__________
(1) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي.
(2) أخرجه البخاري (586، 1197، 1864، 1992، 1995) ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري.
(3) سورة الشرح: 7- 8.
(4) أخرجه أحمد (1/293، 307) والترمذي (2516) من طريق حنش الصنعاني عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة.
(5) البخاري (5705، 5752، 6472، 6541) ومسلم (225) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (218) عن عمران بن حصين.
(6) كتب بعده في الأصل: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية"، ثم شطب عليه، وواصل الكتابة فيما بعد.(2/113)
/وغاية ما يُرَاد بالمشايخ الصالحين ما يُراد من الأنبياء والمرسلين، والمراد منهم تبليغ رِسالاتِ الله وهدايةُ عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا هو المقصود الأعظم. ولهم أيضًا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جَعَلَ اللهُ لكل شيء قدرًا.
ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نِعَم الله عليه، وأسعدُ الناس بذلك أعظمُ إخلاصًا لله وتوكُلاً عليه، كما في الصحيح (1) أَنَّ أبا هريرة قال: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أَسْعَدُ بشفاعتِكَ؟ قال: "لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ قبلَكَ، أسعدُ الناسِ بشفاعتي مَن قال لا إله إلاّ الله يَبتغي بها وجهَ الله".
فالعبدُ مأمورٌ أن لا يتوكَّلَ إلاّ على الله، ولا يَرغب إلاّ إليه، ولا يخاف إلاّ إياه، ولا يعمل إلاّ له. والله يُيَسِّر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب، فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كافٍ عبدَه، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (2) أي حسبُك وحسبُ مَن اتبعك من المؤمنين الله، فهو وحدَه كافٍ عبادَه لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
__________
(1) البخاري (99، 6570) .
(2) سورة الأنفال: 46.(2/114)
الذُّلِّ) (1) . فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لِذُلِّه، فإنه إن لم يكن له مَن يُعِينه وينصره/عَجَزَ وذَلَّ، وقَهَرَهُ عَدُوُّه. والله تعالى لا يُوالِي عبادَه من الذُّلّ، بل برحمتِه وفضلِه وجُودِه وإحسانِه، وهو الغني عن كلِّ ما سِواهُ، وكل ما سواه فقير إليه، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) (2) . قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3) .
وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)) (4) . وقال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) (5) .
وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية
__________
(1) سورة الإسراء: 111.
(2) سورة الرحمن: 29.
(3) سورة سبأ: 22- 23.
(4) سورة الأنبياء: 26- 28.
(5) سورة مريم: 93- 95.(2/115)
قاعدة في الاستحسان(2/117)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرَّر القول فيه وأجاد، وبيّن وجه الخلاف بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها استحسان على خلاف القياس، بطريقةِ لم يُسبَق إليها.
وقد كنتُ عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأمَّلْتُ فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسوّدته، بدلالة الشطب على كثير من الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريباً. وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلّبها على وجوهها، حتى أصل إلى وجه الصواب فيها.
أخذ مني النسخ والقراءة وقتاً طويلاً، لأني قمتُ بنسخها في فترات مختلفة، كنت أنسخ جزءاً منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرتُ على بعض النصوصِ المقتبسة من هذا الكتاب(2/119)
عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت إلى كتاب "العدّة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصاً عديدة، وقرأت مبحث الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية، وأخيراً فتّشتُ عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدتُ ما يُشبهها أحياناً بالنصّ والعبارة في مواضع عديدة، وقد ساعدني هذا كثيراً في فكّ الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة.
واستقام ليَ النصُ تقريباً بعدَما كلَّفَني عَرَقَ القِرْبَة، وأحببتُ نشْرَه كما هو بدون تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نُشِرتْ رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثمّ عَدَلتُ عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها.
وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح الغريب والحُوشِيّ منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191) : "ولا يكتب إلاّ الفوائد المهمّة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوّده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ولا يُكثِر الحواشي كثرةً تُظلِم الكتابَ أو تُضِيع مواضعَها على طالبها".(2/120)
فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعتُ نُصْبَ عيني أموراً: منها توثيق ما نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها.
وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتُها مدخلاً إلى قراءة النصّ ودراسته، ليكون القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه.
• عنوان الكتاب
لم يَرِدْ ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد كتب أحد المفهرسين أو القرّاء في أعلى الصفحة الأولى منها: "في الاستحسان والقياس" استنباطاً ممّا كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان القياس وموضع الاستحسان هل يقـ وتخصيص العلة ... ". ولكنه لم يلاحظ أن المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خطّ، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلاّ في موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلاّ ما يتعلق بتخصيص العلة، ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة(2/121)
الخلاف فيه.
ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في ... " أو "قاعدة في ... "، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار عنواناً محدداً له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بُسِط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه (1) .
__________
(1) ترجمته في: ذيل مشتبه النسبة لابن رافع 27 وتبصير المنتبه لابن حجر 2/605، 606 وتاريخ ابن قاضي شهبة 2: 1/655، 656 والبداية والنهاية 14/229 وفيه "عبد الله بن رشيق"، وهو وهم أو خطأ مطبعي، وتبعه الزركلي في الأعلام 4/86، مع أن في الأعلام نفسه 1/144 صورة خط ابن رشيق هذا، وفيه اسمه الكامل كما ذكرت المصادر الأخرى، وكذا عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية 27 والذهبي في المشتبه 317.(2/122)
وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتابٌ واحد يذكره المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغترّ بها الباحثون فيعدّونها كتبا مستقلة. وجُل من صنع من المُحْدَثين فهرساً لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين المختلفة، فظنوها كتباً مختلفة.
والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدَّها تلاميذ الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعاً واستيعاباً ثلاث قوائم عملها ابنُ رُشَيِّق المذكور، وابن عبد الهادي (ت 744) ، والصفدي (ت764) .
أمّا ابن رُشَيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشِرت منسوبةً لابن القيم (ت751) (1) بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرتُ على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة إلاّ أن فيها زياداتٍ على المطبوعة، وتحتوي على نصوصٍ اقتبسها ابن عبد الهادي في العقود
__________
(1) بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/1953/371-395. ثم صدرت لها طبعات مستقلة.(2/123)
الدرّية (ص 27- 28) وصرَّح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي صنعها.
وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهمّ آخر، وهو أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم) تصرف في إثبات العناوين تصرفاً عجيباً، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط واحدٍ، وقدم وأخّر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما:
المخطوطة المطبوعة
سورة اقرأ باسم ربك 84- تفسير سورة اقرأ باسم ربك.
* فسَّرها وبيَّن أنها أول سورة أنزلت وبيَّن
أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد
لطيف.
قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد.
* فسَّرها في مجلد
* وتكلم في مجلد لطيف على كونها(2/124)
تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن
بعضه على بعض.
* وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم
فيها على المصنفات وعلى المفسرين،
وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد
عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو
مجلد كبير.
* وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى
* وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي
والزمخشري أيها أفضل؟
* وله قاعدة في فضائل القرآن. 90- قاعدة في فضائل
القرآن.
ولعلّ الشيخ جميل العظم أرَاد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي ألّفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفًا فمائة فأكثر"، ولو أنه حافظ على الأصل كما هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدقّ في وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه.(2/125)
هذا ما ٍيتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رُشَيق، والتي نُسبت إلى ابن القيم خٍطأ، فأوقعت جمهرةً من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة وأربعين عاماً.
أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26- 64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنَّفه منها بمصر، وما ألَّفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتّبه ترتيبا حسناً غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا الفهرس أم لا؟
ورتَّب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة الشيخ في "فوات الوفيات".
هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يُعدَل عنه إلى غيره مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلاّ إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف نفسه، فيرجَّح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم الذي يكون مطابقاً لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا.
لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ(2/126)
عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبيّنا سبب وقوعه في الخطأ. وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم يُشِر إلى هذا الكتاب، أو بعبارةٍ أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذّبة المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعلّه ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلاّ نصفُه تقريباً بصورته الأصلية.
أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي بالوفيات (7/27) وأعيان العصر (1/35 أ [عاطف أفندي 1809] ) وتبعه ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات (1/78) ، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في غاية الأماني في الردّ على النبهاني (1/384) ، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن المؤلفات في أصول الفقه.
ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتاباً بعنوان "قاعدة في الإحسان"، وربّما يكون "الإحسان" تصحيفاً عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48) "قاعدة في الإيمان المقرون بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلاّ أنني رجعت إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرّية، فوجدتُ جميعها تتفق على إثبات العنوان المذكور، فترددتُ في القول بوقوع التصحيف فيه.
ولم أجد الآن نسخاً خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر.
ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد الهادي) ، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين(2/127)
أيدينا، فلم أعدِلْ عنه إلى غيره. وأثبتُّه على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف خالية منه، لما ذكرتُ من أن هذا العنوان وُضِع من قبل أحد تلاميذ الشيخ وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء.
• توثيق نسبته إلى المؤلف
قرّرنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً بعنوان "قاعدة في الاستحسان"، إلاّ أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع إلى بعض المصادر يظهر لنا جليًّا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي أشار إليه المترجمون له.
أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسوّدة كتبها بخطه، كما هو واضح لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في غاية التعليق والإغلاق (1) ، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبتُ في هذا فلا يُدرَى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: رُدُّوا خطي وأَظْهِروه لِيُنْقَلَ، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب،
__________
(1) تتمة المختصر لابن الوردي 2/408.(2/128)
ولا يعرف اسمه" (1) .
والكتاب الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعلّه بقي عند بعض أصحابه، ولم تُنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم نجد له ذكراً في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط الفريد لا يُوجد في فهارسها ذكرُه، ولذا بقي مجهولاً لدى الباحثين إلى يومنا هذا.
ومما يدكُ على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى
كتاباته الأخرى في موضعين:
1- بعدما قرَّر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال: "وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنَّفٍ مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً" (ص 197- 198) . يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس، وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له (2) .
2- قال: "وقد بّينّا في غير هذا الموضع أنّ الأحكام كلّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلّها معلّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام " (ص 206-207) . يشير هنا إلى " قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرَّر أن النصوص وافية
__________
(1) العقود الدرية 65.
(2) انظر تعليقي على الموضع المذكور.(2/129)
بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات الشيخ في "العقود الدرية" (ص 45) .
وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في
كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا،
ورجّح ما رجَّحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالاً للشك في أن الكتاب
للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى
هذه المواضع. وهذه نماذج منها:
الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى
قياس المشركين 53 ,20/539 ,540و19/287
إذا صلى الإمام قاعداً كيف
يفعل المأمومون 54-55 ,23/249و405 ,406
الكلام على من يجعل إجارة
الظئر على خلاف القياس 61 ,20/531 ,532و30/197-200
الكلام على من يجعل الإجارة
والقراض على خلاف القياس 61, 20/514, 515
الكلام على خبر المصرّاة 67, 20/556-558
الكلام على من جعل حمل
العاقلة على خلاف القياس 67, 20/552-554
العلّة نوعان: تامّة ومقتضية(2/130)
أولاً 69-70, 20/167, 168و21/356, 357
هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73, 28/111 وما بعدها
تضعيف الغرم على مَن
دُرِىءَ عنه القطعُ 73, 28/113, 118-119, 333
نهي الإمام أحمد عن التأويل
والقياس 74, 7/392
معنى "المجمل" في كلام
الأئمة 74, 7/391
محلّ سجود السهو عند الإمام
أحمد 75-76, 23/17 وما بعدها
نفي كون علّة الربا هي الوزن 78, 29/471
القياس الصحيح والقياس
الفاسد 79, 19/285-288
هل يقاس على المعدول به
عن سَنن القياس؟ 82-83, 20/555, 556
القصر في السفر الطويل
والقصير 87, 24/34-35, 12-13, 15
منع قصر المكيين مخالف
للسنّة 87, 20/361-362, 24/10-11, 26/130(2/131)
مناقشة أدلة القائلين بالتيمم
لكل صلاة 94-96, 21/354-361, 435-438
معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أصليتَ
بأصحابك وأنت جنب؟ " 96-97, 21/404-405
المضارب إذا خالف: ماذا
يستحق؟ 97-99, 30/85-86, 91, 28/
84-85
تصرّف الفضولي 99, 20/577
القول بوقف المعقود 101, 20/579-580, 29/249
السنة في اللقطة 101, 20/577, 29/250
أثر عمر بن الخطاب في
المضارب واختلاف العلماء
في المسألة 102, 30/87, 323, 329
تصرّف الغاصب 102, 20/562-563
من غصب أرضا فزرعها فالزرع
لرب الأرض وعليه النفقة،
مناقشة من قال: إنه على
خلاف القياس 104-105, 29/124
شراء المصحف واستبداله 106, 31/212-213
بيع الأرض الخراجية، الرد
على من منع منه لأنها وقف 107-109, 29/206-209, 28/
588-589, 31/230-(2/132)
231، 17/488- 489
قبول شهادة أهل الذمة في
الوصية في السفر 109-110, 15/299
قبول شهادة النساء فيما لا يطلع
عليه الرجال 111, 15/299
من نذر ذبح نفسه أو ولده
ماذا عليه؟ 112-113, 35/343-345
وأخيراً فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/124- 126) من هذا الكتاب يعتبر دليلاً قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرّح بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا ... " و"قال شيخنا". وهي متطابقة تماماً مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166-183) وقد علَّق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميَّز تعليقاته بقوله "قلت". واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلاّ ما يدلّ على المقصود. ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا الأصل المنقول منه.
• تاريخ تأليفه
لا نستطيع أن نحدّد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألّف شيخ الإسلام هذا الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أيّ إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة التي بحث عنها هنا وفي رسائله(2/133)
وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخّر في ضوئها، لأنّ المؤلف كثيراً ما يكرّر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ بعضها فهذه لا تُرشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو بعدها.
ولكني أكاد أجزم بأنه ألَّفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712. والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس، وهي عبارة عن جواب سؤال سُئِل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولاً (1) حتى وجدت في إعلام الموقعين (1/383) أن ابن القيم هو الذي كان وجَّه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك بنفسه. ولشدّة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/384- 401 ثم 2/3-38) مع التعليق عليه في مواضع.
وتفيدنا بعض المصادر (2) أن ابن القيِّم لازم شيخه ستة عشر عاماً (أي 712- 728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس من مؤلفات هذه الفترة قطعاً، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده. وهذا يناسب ما ذكره بعضهم (3) من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى،
__________
(1) في مجموع الفتاوى 20/504 وغيره بصيغة "سُئِل شيخ الإسلام ... ".
(2) الدرر الكامنة 3/401.
(3) البداية والنهاية 14/67 والعقود الدرية 321.(2/134)
وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه.
• سبب تأليفه
أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلّة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا في بعض الأحكام التي ثبتت بالنصّ والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأنّ كثيرا من مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات.
وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين الفريقين حقيقي، وليس لفظيًّا كما ذكره عامّة الأصوليين.
ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه مخالفة القياس لدليل، ونصّوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبيّن وجه الحق والصواب في هذه القضية، وأن الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به الحنفية، وأن هناك خلافاً منهجيا كبيراً بين الفريقين في هذا الباب، وأن المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال.(2/135)
هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة، فنشط لها المؤلف، وألّف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع، وتناوله بطريقةٍ لم يُسْبَق إليها.
• منهج المؤلف فيه
للمؤلف منهج متميّز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلاّ ما يقولون به ملتزماً الأمانة العلمية في ذلك. ثم يُعلّق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين، ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرّر القول في المسألة تحريراً بالغاً، ويردّ على جميع الشُبَه والاعتراضات التي قد ينخدع بها العامة والخاصة، ويستطرد أحياناً إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية جليلة. كل ذلك بأسلوب سهلٍ ميسَّر يجري كالماء سلاسةً وعذوبة، يكاد يفهمه الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم، ولا كان ذلك مما يهتمّ به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني،(2/136)
كالمجاهد الذي يزخرف السّلاح وهو جبان" (1) .
فهو ينزّه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية، ويكتب بأسلوب سلس فصيح يُعبِّر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها، ولا يُبقِي أيّ غموض أو إبهام فيها.
هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزةً في هذا الكتاب أيضًا مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولاً عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب، ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبيّن وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرّر المسألة تحريراً بالغاً بأسلوبه الذي عرفناه، مستنداً في كل ذلك إلى الكتاب والسنّة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله.
• مصادره
إن أهمّ مصدرٍ رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدَّة" لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرَّح فيها باسم أبي يعلى أو لقّبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من أجمعها عند الحنابلة، وكلُّ من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث الاستحسان (ص 167، 175- 176) ، ومبحث تخصيص العلة (ص180- 182) ومبحث القياس على المخصوص من القياس (ص 198- 200،
ـــــــــــــــ
(1) منهاج السنة النبوية 4/158، 159 (ط. بولاق) .(2/137)
200- 201، 202-203، 204) . وهي عند أبي يعلى في العدّة (5/1605 و 1607-4/1386-1388, 1394, 1397- 1401, 1402, 1403, 1408) . وكذلك ما يتعلق باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمَزُوْذِيّ وبكر بن محمد (ص 172-174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/1604- 1605) أيضًا. وكذا ما ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسّان، وما ذكره عن ابن شاقلا في "شرح الخِرَقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل من الأصول" (ص181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدّة" (4/1386- 1387) .
وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم، وهم:
- أبو الخطّاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182) ، وآراؤه المشار إليها في كتابه "التمهيد" (4/92، 69) .
- ابن عَقيل) ص 174، 180، 184) ، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح " (1/144أ، 144ب، 145أ) .
- أبو الحسين البصري (ص 178) ، كلامه في كتابه "المعتمد" (2/839) .
- الجصّاص الرازيّ (ص 178) ، قوله في كتابه "الفصول في الأصول" (ق 297 أ- ب) .
- أبو حامد المروزيّ وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما(2/138)
من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو بواسطة مصدر آخر؟
أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالباً؟ لأنه كان حافظاً لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين فقط. وكذلك الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " (1) . وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد حديث: "رواه البخاري " (ص 225) .
وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان فيها (ص 165) ، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166) .
هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم يقتصر على النقل والاقتباس، بل علَّق على كلّ نصّ بما يُؤيِّده أو يُفنِّده مع ذكر الدليل على ذلك.
• تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان
خصّص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبيَّن معناه، وذكر اختلاف العلماء فيه، وفضَل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي يقال إنها استحسان
__________
(1) العقود الدرية 25.(2/139)
على خلاف القياس، وبيّن وجهَ ذم بعض الأئمة له تارةً والقول به أخرى، وجاء فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يُسبَق إليها.
وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام (1) ، بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفاً من كلامه من كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين (2) :
1- الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يَرُده، ويعتبر القول به شرعاً في الدين بما لم يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النصَّ بالرأي استحسانا باطلاً لا يجوز القول به ولا اعتباره.
2- الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول به ابن تيمية.
واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس لنمن خيراً من الذين طردو القياس وتركوا النص" (3) .
__________
(1) الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في رسالة الدكتوراه التي قُدِّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1396، وطبعت بعنوان "أصول الفقه وابن تيمية" (القاهرة 1400) .
(2) انظر: أصول مذهب الإمام أحمد 512- 513 (الرياض 1397) .
(3) مجموع الفتاوى 4/46.(2/140)
وأنه رُوي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات الاستحسان، وذكر أن مردّ القول به إلى ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني: "وهذا الكلام منه يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين، وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض" (1) .
أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أوّلاً إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة، وإنكار الشافعي له، وعقّب عليه بقوله: "ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره" (2) .
ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال: "كلام ابن تيمية هنا ينبّهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي تركناه فيها دليل قويٌ في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه. وهذا لا يقدح مطلقاً فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن، ولذلك وصف الدليل
__________
(1) المسودة 451- 454.
(2) الاستحسان بين المثبتين والنافين: 112 (رسالة ماجستير قدّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة) .(2/141)
المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن" (1) .
ثم تعرّض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسوَّدة نصًّا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف للقياس" على ما ثبت شرعاً على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل بمخالفتها للقياس بيَّن شيخ الإسلام موافقتَها له، ولكنّه بعد ذلك جعله من القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس، أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفاً آخر، وحاول التوفيق بين الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان انسجاماً لا يشوبه شبهة التعارض ... ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس" لما ثبت شرعاً، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار بثبات ذلك القياس بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر ... أما الاستحسان فإنه يُشعِر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه، فلا يستلزم أيًّا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم الاستحسان يُشعِر بالمدح والثناء"!! (2) .
__________
(1) المصدر السابق: 113.
(2) المعدول به عن القياس- حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه: 45 (المدينة المنورة 1408) .(2/142)
هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنّه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرَّره شيخ الإسلام هنا، وأن ما استنبِط من كلامه ليس رأيَه الصريح في هذه القضية، بل هو نقل عن الآخرين وتوجيهٌ لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه.
وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس.
بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه، ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبيَّن اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرّون به بهذا المعنى، ويجوّزون مخالفة القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم يذمّون الاستحسان تارة ويقولون به تارةً. وكان الشافعي من أعظم الأئمة إنكاراَ له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض(2/143)
المواضع. ونُقِل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه".
بيَّن المؤلف مراد أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النُّصوص كلَّها، ولا يقيس على أحد النصين قياساً يُعارضُ النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون على أحد النصين، ثمَّ يستثنون موضع الاستحسان إمّا لنصَّ أو غيره، فينقضون العلَّة التي يدّعون صحتها مع تساويها في محالّها. أمّا أحمد فيوجب طرد العلَّة الصحيحة، ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالِّها يُوجب فسادها، وبالتالي فساد القياس المبنيّ على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصَّل إلى أن منهجَ فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد وغيرهم العملُ بالنّصين الواردين في المسألة، وعدمُ قياسِ أحدهما على الآخر قياساً يناقض الآخر، أو جعلُ أحدهما منسوخاً بالثاني.
بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأنّ أبا يعلَى وأتباعَه كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القولَ بالاستحسان كقول الحنفية، وفسّروه(2/144)
كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك.
انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلَّة؟ فنقل أوّلاً اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلَّة ومنْعِه، ثمَ ذكر أن القاضي أبا يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلَّة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلَّة موافقةً للحنفية. ونقل نصوصاً من كتاب أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولاً ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص العلَّة المنصوصة دون المستنبطة.
وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص العلة ومنعه إنما هو في علةٍ قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يُعلم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يُبطِلُ تلك العلّة، وأنه لا عبرة بها عند أحد من العلماء.
رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم يعلّق عليها إلاّ في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا(2/145)
الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلّة التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضتْ بطلتْ. وقد يُراد بالعلّة ما كان مقتضيا للحكم، أي أن فيها معنًى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، وتُسمَى المؤثّرة أو المقتضية أوّلاً، فهذه إذا انتقضت لفرقٍ مؤثر يُفرق به بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تَفسُد. فمن قال: إنّ العلة لا يجوز تخصيصها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجود مانعٍ فهو مخطئٌ قطعاً، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون بتخصيص العلّة لمعنًى يُوجِب الفرق.
ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلّة بمجرّد دليلٍ لا يُبيِّن الفرقَ بين صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلَّة إمّا أن تكون مستنبطةً أو منصوصةً:
أ- فإن كانت مستنبطةً وخُصَّت بنصٍّ، ولم يبيّن الفرق المعنوي بين صورةِ التخصيص وغيرِها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان يُنكرِه كثيراً الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلَّة المذكورة لم تُعلَم صحّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها، والنصُّ إذا عارضَ العلَّة دلَّ على فسادِها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دلَّ على فساده.
ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صُور العلَّة، فهذا مما لا ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نصّ في صورة، ونصّ يخالفه في صورةٍ أخرى، لكن بينهما(2/146)
شَبَهٌ لم يقم دليلٌ على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يُقرّون النصوصَ، ولا يقيسون منصوصاً على منصوص يخالف حكمه. ولكن الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواءٌ لا فرقَ بينهما، فيكون أحد النصين ناسخاً للآخر. ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصاً على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصين منسوخاً لمخالفته قياسَ النص الآخر.
وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجملٍ أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره.
بقيت صورة، وهي أن يجيء نصّان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صُوَرٌ مسكوت عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النَّصين، فما سكتَ عنه نُلحِقه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيهْ الذي يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابدّ أن يُعلَم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصّين أولى من إلحاقه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصَّين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلحق بواحدٍ منهما إلاّ بدليل.
والتحقيق أنه إما أن يُعلَم استواء الصورتين في الصفات المؤثّرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقهما، وإمّا أن لا يُعلَم واحدٌ منهما.
ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض عُلِم(2/147)
أن العلَّة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرّق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإنْ علم أنّه فرَّق بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعرَف الفرق. وإن عُلِم أنه سوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما.
وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويُسَوّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك.
وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلّة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خُصَّت العلَّة من غير فارقٍ مؤثرٍ، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليل شرعي.
توضيح ذلك: أن القياس إذا لم ينصّ الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو مشابهة ظنَّها مناط الحكم، ثمَ خص من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً في عمله بالنصّ، لكن مجيء النصّ بخلاف تلك العلّة في بعض الصور دليل على أنها ليست علّةً تامةً قطعاً، فإنّ العلَّة التامة لا تقبل الانتقاض.
وإن كان مورد الاستحسان أيضًا معنى ظنه مناسباً أو مشابهاً، فانه يحتاج حينئذٍ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك القياس إلاّ لقياسٍ أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا يكون(2/148)
الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. هذا هو الصواب كما قرَّره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضًا.
وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضَل المؤلف الكلام حولها، وهي مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس تخصيص العلَّة والاستحسان، فمن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يقاس عليه، وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عُرِف المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها.
وما ذُكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابدّ أن يكون قياسه فاسداً، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسداً إذا لم يكن هناك فارقٌ مؤثر. هذا هو الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرقٍ مؤثر بينهما.
وحقيقة هذا كلّه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما،(2/149)
فهم تارةً ينكرون صحَّة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدّعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كلاهما ضعيف.
وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلاً لدراسة تلك المسائل التي يدّعون فيها أنها تَثبُت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلَّة الشرعية الصحيحة خُصَّتْ بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي.
فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يُناقض نفسه أيضًا فيخصّ ما يجعله علَّةً بلا فارق مؤثر، كما أنه يقيس بلا علّةٍ مؤثرة.
وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة يى فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلاّ تناقضا. وبعد دراسة كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفةً للقياس أصلاً، أو أن هناك فرقاً مؤثراً، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحاً بسبب عدم وجود فارق مؤثر.
هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقةٍ جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة الأصوليين إنّ الخلاف فيها لفظي، فقد حرّر(2/150)
وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبيّن سبب ذم بعض الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرَّر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال.
• قيمته العلمية
تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي تتعلق بموضوع معين، والتي تُرتّب تاريخيًّا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه وبين غيرها من حيث الجدّة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز، وأسلوب طريف مثير-: يُنسَب إليه فضلُ السبق، ويُعترَف لمؤلفه بالإمامة، ويكون موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف قيمتها على النقّاد، وزيفها وانتحالها- أحياناً- على المدقّقين الذين يقومون بالموازنة بينها وبين غيرها.
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في الموضوع لم يُسْبَق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاماً على خلاف القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى. وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألّفت في هذا الباب، لتميزه(2/151)
وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع.
• أثره
مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسوّدة التي وصلتنا. ولعلها لم تُبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين أيدينا. ولا نعرف مؤلفاً رجع إليه أو اقتبس منه إلاّ العلّامة ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" (4/124- 126) ، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلاّ تعريف الاستحسان وأنواعه عند القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في رواية أبي طالب: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يَدُلّ على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في المراد من هذا القول.
وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيداً للدخول في الغرض الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نُسِبَ إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟
ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة(2/152)
أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين" (1/383- 401، 2/3- 38) ، واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير في كتاباتهم حول هذا الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه شيئا.
أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف. ولعلّ نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل إن شاء الله.
• وصف النسخة الخطية
توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على أكثر من ثلاثين رسالة وكتاباً معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره، منها:
- أوّل كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21- 22)
- الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36- 44)
- الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203-210)(2/153)
- قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213- 220)
- ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293- 307)
- رسالة في الاستعاذة (نقلاَ من أوّل تفسير الرازي) (ق 309- 324) وماعداها من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دُون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي: (1- 8، 53- 78، 119- 137, 150، 157- 164. 165- 181، 182- 183، 184- 188، 189- 191، 263- 266، 325- 333) . أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة، وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب.
ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي لا تقدّر بثمن (ق 325- 333) . وهي مسوّدة المؤلف نفسه، ولعلّها لم تبيَّض فبقيت مسوّدة كما كتبتْ لأول مرة. وقد ذكر البرزالي (1) أن لشيخ الإسلام تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة
__________
(1) كما نقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية 373 وابن كثير في البداية والنهاية 14/137.(2/154)
في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال:
1- كَفَلَ منها جملة، وبُيضَتْ وكُتِبتْ عنه، وقُرِئتْ عليه أو بعضها.
2- وجملة كبيرة لم يُكَملْها.
3- وجملة كَملَها، ولم تُبيضْ إلى الآن.
وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث، فإنّنا لم نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمرّ في هوامش الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ) ، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوساً، للدلالة على أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطاً بالكلام الموجود بداخل الحوض في تلك الصفحة، ولعلّ هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب.
لا تُوجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب) ، ولا توجد لها خاتمة يُذكَر فيها عادة اسم الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف.(2/155)
هذه المسوّدة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالباً بدون نقطٍ وإعجام، ولايميّز الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى) . فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلاّ السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة تقريباً، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين" و"الدين" برسم واحدٍ تقريبا، ويُسقِط بعض الحروف من الكلمة، فمثلاً كلمة "القهقهة" كتبها مرتين "القهقه".
ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو غيرهما، مثل: صلح (صالح) ، السلم (السلام) ، يحتج (يحتاج) ، مسله (مسألة) ، ادعا (ادّعى) ، صلوته (صلاته) ، اسحق (إسحاق) ، وحا (وجَاءا) ، العا معنا (ألغَى معنًى) ، ثلثه (ثلاثة) ، ملك (مالك) ، فيعطا (فيُعطَى) ، واحراه (وإجراؤه) . ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تِلْوَ حرف الباء أو التاء أو الياء ونحوها، فيكتب "اتها" (= أتمَّها) ، "انا" (= إنّما) ، " ائه " (- أئمة) ، "الا" (= الماء) ، (الحظور" (= المحظور) ، الانع (= المانع) وغيرها.
هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرةً على نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده(2/156)
في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها.
ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف تُوفِّر على المحقّق الوقتَ والجهد في جمع النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نصٍّ سليم لها من أصعب الأمور، وقد بذلتُ كلّ ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحةً، ونَسْخِها ملتزماً الرسمَ الإملائي الحديث، ولم أزد إلاّ النقط والإعجام والفواصل والهمزات وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أنّ فيها خطأ إعرابيًّا أو صرفيًّا كما هي، وأشرتُ إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبِّهْ إليها، لأنها كثيرة في هذه المسوَّدة، ولا فائدة من ذكرها.
وفي الختام أرجو أنني قد وُفِّقتُ في قراءة هذه المسوَّدة قراءةً سليمة، وأدعو الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقرّاء والمثقفين عامة، إنه سميع مجيب.
محمد عزير شمس(2/157)
نماذج من الأصل(2/159)
نصّ الكتاب(2/161)
الحمد لله، نستعِينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فلا مُضِل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم تسليماً.
فصلٌ في الاستحسانِ وتخصيصِ العلَّة، وموضع الاستحسانِ هل يُقاسُ عليه أم لا، وما يرد من الأحكامِ الثابتةِ بالنصّ والإجماع ويُقالُ: إنها مخالِفةٌ للقياس. فإن هذه قواعدُ كَثرُ اضطرابُ الناسِ فيها، والحاجةُ ماسَّةٌ إلى تحقيقها في كثير من مسائلِ الشريعةِ أصولها وفروعِها.
أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفةُ القياسِ لدليلٍ (1) ، وقد يُرادُ به غيرُ ذلك (2) . والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على
__________
(1) وهو ما عبَّر عنه أبو الحسن الكرخي بقوله: "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه هو أقوى من الأول يقتضي العدول عن الأول ". (المعتمد لأبي الحسين البصري 2/840. ونحوه عن الكرخي في أصول السرخسي 2/200 والتبصرة للشيرازي 493 وشرح اللمع له 2/969 والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/321 والإحكام للآمدي 4/137 والبحر المحيط للزركشي 6/91) . وقال الجصاص: هو ترك القياس إلى ماهو أولى منه (الفصول في الأصول: ق 294 ب) . وقال أبو زيد الدبوسي: هو اسمٌ لضرب دليل يعارض القياس الجلي (تقويم الأدلة: ق 225 ب) . ويراجع: أصول البزدوي بشرحه كشف الأسرار 3/4 وأصول السرخسي 2/200.
(2) انظر تعريفات أخرى للاستحسان في المصادر السابقة وفي الحاوي=(2/163)
ثلاثة أقوال:
منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقاً، وهم نُفاةُ القياسِ، كداود وأصحابه (1) ، وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلَّة الشرع لا قياس ولا استحسان.
ومنهم من يُقِر به بهذا المعنى، ويُجوِّز مخالفةَ القياس للاستحسان، ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه (2) .
__________
= للماوردي 11/636 والتلخيص للجويني 3/310 والمستصفى 1/275 والمحصول 3/2/166؛ والعدة لأبي يعلى 5/1607 والتمهيد للكلوذاني 4/92 والواضح لابن عقيل 1/144ب وشرح مختصر الروضة 3/191؛ وإحكام الفصول للباجي 687 وشرح تنقيح الفصول للقرافي 451 والموافقات 4/116 والاعتصام 2/142 وغيرها.
(1) عقد ابن حزم بابا في إبطال الاستحسان في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 6/16- 21، واختصره في كتابه ملخص إبطال القياس والرأي 50- 51.
(2) إذا كان الاستحسان عند الأحناف هو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، أو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي (كما سبق) ، فمن الغريب حقًّا أن يذكروا مسائل فيها قياس واستحسان، أخذوا فيها بالقياس وتركوا الاستحسان. وهي إحدى عشرة مسألة نقلها أمير كاتب الإتقاني من كتاب الأجناس للناطفي، مخطوطة في مكتبة لاله لي برقم 690 (ق 260 ب- 261أ) . وبعدما ذكر السرخسي في أصوله 2/204- 206 ثلاثاً منها وحاول توجيهها قال: "وهذا النوع يعز وجوده في الكتب، لا يوجد إلاّ قليلا".(2/164)
ومنهم من ذمَ الاستحسان تارةً، وقال به تارةً، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذِكر لفظِ الاستحسان في مواضع (1) . والشافعيّ قال: من استحسن فقد
__________
(1) روى أصبغ عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان" (الإحكام لابن حزم 6/16 والموافقات 4/118 والاعتصام 2/138) . وواضح أنه لم يقصد به الاصطلاح، بل أراد- كما ذكر محمد بن خويز منداد-: القول بأقوى الدليلين، فالذي يذهب إليه هو الدليل، إن كان يسميه استحساناً. (إحكام الفصول 686) . وقد نقلت عن الإمام مالك مسائل معدودة قال فيها بالاستحسان ولم يُسبَق إليها، منها: الشفعة في الثمار (المدونة 14/134) ، والشفعة في الدار المشتركة التي أقيمت في الأرض المحبوسة (المدونة 14/109) ، والقصاص في الجرح العمد بالشاهد واليمين (المدونة 6/216، 217) ، وأن عقل الأنملة من الإبهام نصف عقل الإصبع (المدونة 16/116 والمنتقى 6/92) . ولعل الإمام كان يعني هذه المسائل الاستحسانية حين قال في رواية القعنبي: "ليتني جُلِدتُ بكل كلمة تكلمتُ بها في هذا الأمر بسوط ولم يكن فرطَ مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سُبقتُ إليها". (جامع بيان العلم وفضله 2/145) . ولا نجد للاستحسان آثراً بارزاً في أصول الفقه عند المالكية، فبعضهم نسبه للحنفية والحنابلة فقط، ثم نفاه وأبطله، واعتبر النزاع فيه لا طائل تحته، وبعضهم ربطه بالمصالح المرسلة. (انظر: إحكام الفصول 687- 689 وأحكام القرآن لابن العربي 2/746 ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/288 والموافقات 4/116- 118 والاعتصام 2/137- 150) .(2/165)
شَرَّعَ (1) ، وتكلَّم في إبطالِ الاستحسانِ، وبسطَ القولَ في ذلك (2) . وكان من أعظم الأئمة إنكاراً له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعةُ ثلاثين درهما" (3) . ولهذا حُكِيَ للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد.
وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب (4) أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا
__________
(1) كذا نُقل عنه في عامة كتب الأصول. وقد قال في الرسالة: "إنما الاستحسان تلذذ" (ص507) ، و"أنّ حراماَ على أحدٍ أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر" (ص 504) .
(2) في كتاب إبطال الاستحسان من الأم 7/267- 277 (ط. بولاق) وأحكام القرآن له 1/264.
(3) الأم 5/62، 7/235 وأحكام القرآن للشافعي 1/201. ومن المسائل التي قال فيها الشافعي بالاستحسان: ثبوت الشفعة إلى ثلاثة أيام (الأم 3/231 ومختصر المزني بهامشه 3/47) ، وترك شيء من الكتابة (الأم 7/362، 364 ومختصر المزني 5/275) ، وأن لا تُقطع يُمنى سارقٍ أخرج يدَه اليسرى فقُطعت (الأم 6/133، 139 ومختصر المزني 5/169) ، وانظر مسائل أخرى في: الحاوي للماوردي 16/166 والبحر المحيط للزركشي 6/95- 97 ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي 2/ق 374.
(4) هو أحمد بن حميد المشكاتي، صحب الإمام أحمد، وروى عنه
مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه. توفي سنة 244. (طبقات
الحنابلة 1/39) .(2/166)
ونَدَعُ القياسَ. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (1) .
قال القاضي أبو يعلى (2) : وظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسان، وأنه لا يُقاسُ المنصوصُ عليه على المنصوص عليه.
قلت: مراد أحمد أنّي أستعمل النصوصَ كفَها، ولا أقيس على أحد النصينِ قياسا يُعارِضُ النصَّ الآخر، كما يَفعلُ مَن ذكرَه، حيث يقيسون على أحد النصّينِ، ثم يستثنون موضعَ الاستحسان إما لنص أو غيرِه، والقياسُ عندهم يُوجبُ العلَّة الصحيحة، فيَنْقُضون العلَّةَ التي يدعون صحتها مع تساوِيْهاَ في مَحَالها./
وهذا من أحمدَ يُبين أنه يُوجِب طردَ العلَّةِ الصحيحة، وأنّ انتقاضَها مع تَساوِيْها في مَحالها يُوجب فسادَها. ولهذا قال: لا أقيسُ على أحدِ النصينِ قياساً يَنقضُه النص الآخر، فإنّ ذلك يدكُ على فساد القياس.
وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه
__________
(1) انظر: العدّة 5/1605 والتمهيد للكلوذاني 4/89 والمسودة 452.
(2) في العدة 5/1605. وعلق عليه أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد 4/89 بعدما نقل كلام شيخه أبي يعلى: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، ولهذا قال: يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. فلو كان الاستحسان عن دليلِ ذهبوا إليه لم يكره، لأنه حق أيضًا. وقال: أنا أذهب إلى كل حديث جاء، ولا أقيس، معناه: أني أترك القياس بالخبر.(2/167)
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أرادَ أحدُكم أن يُضَحيَ ودخلَ العَشْرُ فلا يَأْخُذْ مِنْ شَعرِه ولا مِن بَشرَتِه شيئاً" (1) ، مع حديث عائشة: كنتُ أَفْتِلُ قلائدَ هَدْي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يَبْعَثُ به وهو مُقيم، فلا يَحْرُمُ عليه شيء ممّاَ يَحْرُمُ على المُحْرِم (2) .
والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
منهم من يُسوي بين الهَدْيِ والأضْحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المُحْرِمُ هَدْيا لم يَحِل حتى يَنْحَر، كما يُروى عن ابن عباس (3) وغيره.
ومنهم من يُسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحّي لا يُمنَع عن شيء كما لا يُمْنَع المُهْدِيْ، فيقيسونَ على أحدَ النصينِ ما يعارضُ الآخر.
وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين، ولم يَقِيْسُوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لمّا أحلَّ البيعَ وحرمَ الربا (4) لم يَقِسِ المسلمون أحدَهما على
__________
(1) أخرجه مسلم (1977) وأبو داود (2791) والترمذي (1523) والنسائي 7/211، 212 وابن ماجه (3149) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ 1/340، 341 ومن طريقه البخاري (1700، 2317) ومسلم (1321) .
(3) الرواية عنه في المصادر السابقة في الحديث المذكور. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5/234.
(4) في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275] .(2/168)
الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لمّا أحل المُذَكَى وحَزَم الميتةَ (1) لم تقِيسُوا أحدَهما على الآخر، بل هذا قياسُ المشركين (2) .
وكذلك لما جاء (3) الكتابُ والسنةُ بالقُرْعَة (4) ، وجاءا بتحريم القمار (5) لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القُرعةَ، وحزَموا
__________
(1) في الآية الثالثة من سورة المائدة.
(2) ذكر المؤلف هذين المثالين في مجموع الفتاوى 20/539. 540 فقال: الشرع دائما يُبطل القياس الفاسد، كقياس ابليس، وقياس المشركين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والذين قاسوا الميت على المذكَى وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فجعلوا العلة في الأصل كونه قتلَ آدمي. ونحوه في مجموع الفتاوى 19/287.
(3) كتب المؤلف أولاَ: "جاءت السنة بالقرعة"، ثم شطب على "السنة بالقرعة" وكتب: (الكتاب والسنة بالقرعة) ، وبقيت "جاءت" بالتاء.
(4) قال تعالى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44] . ومن الأحاديث الواردة في القرعة: حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وفيه: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرعَ بين أزواجه، فائتُهن خرج سهمها خرج بها رسول الله سيَئ معه".
(5) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) . وانظر: أحكام القرآن للشافعي 2/157 والأم 7/336. ومن الأحاديث الواردة في تحريم القمار: حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (4860) ومسلم (1647) ، وفيه: "من قال لصاحبه تعالَ أقامِرْكَ فليتصدقْ ". قال الذهبي في كتاب الكبائر 167: "فإذا كان مجرد القول معصية موجبةً=(2/169)
المَيْسِرَ والاسْتِقْسَام بالأزْلاَم، بخلاف من جَعلَ القرعةَ من القِمارِ أو من الاستقسام بالأزلام، ولم يُعلّق بها حكماً. وأحمد أكثر الفقهاء عملاً بالقرعة (1) ، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار.
وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناسَ إذا صَلَّى الإمامُ قاعداً أن يُصَلُّوا قُعوداً أجمعينَ (2) . ثم لمَّا افتتحوا الصلاةَ قياماً أتَمَّها بهم قياما" (3) . عمل بالحديثين، ولم يَقِسْ على أحدهما قياساً يُناقِضُ الآخرَ ويجعلُه منسوخا" (4) ، كما فعل
__________
= للصدقة المكفّرة، فما ظنُّك بالفعل؟! وهو داخل في أكل المال بالباطل".
(1) منه قوله بالقرعة بين الزوجات عند السفر (المغني 7/40) ، وبين الزوجات في الطلاق المبهم (المغني 7/251) ، وبين الناس في قسمة السهام (المغني 9/123) ، وبين رجلين إذا ادَّعيا لقطة (المغني 5/646) ، وبين المعتَقين عن دبر (المغني 9/358) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ 1/135 ومن طريقه البخاري (689) ومسلم (411) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، وكلاهما متفق عليه.
(3) أخرجه البخاري (687) ومسلم (418) من حديث عائشة في قصة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه، وفيه: "فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس بصلاةِ أبي بكر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد".
(4) قال ابن قدامة في المغني 2/222: "أشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالساً، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس. ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ".(2/170)
طائفةٌ من الفقهاء، كالشافعي (1) والحميدي (2) وغيرهما (3) . واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لفَا صَلَّوا جلوساً أمروا مَن خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا صلاته في آخر عمره، مثل أُسَيْدِ بن الحُضير (4) ، وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قُتِلَ في قتالِ المرتدّين من حنيفة أتباعِ مُسيلمة الكذاب (5) ./
__________
(1) قال في الرسالة 254 بعدما ذكر الحديثين: "فلما كانت صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناسُ خلفه قياماً-: استدللنا على أن أمْرَه الناسَ بالجلوس في سقطتِه عن الفرس، قبلَ مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفَه قياما-: ناسخةً لأن يجلس الناسُ بجلوس الإمام ". وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي: 111- 114.
(2) نقل البخاري قول الحميدي عقب الحديث (689) من صحيحه.
(3) في الأصل: "وغيره ".
(4) قال الحافظ في الفتح 2/175: "قد أمَّ قاعداً جماعةٌ من الصحابة بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد". وانظر: مصنف عبد الرزاق 2/462 ومصنف ابن أبي شيبة 2/326، 327 والسنن الكبرى للبيهقي 3/78 وبعدها، والمغني 2/225. وقد قرر المؤلف في مجموع الفتاوى 23/249 و405، 406 ما قرره هنا.
(5) قلت: هذا غريب، فقد توفي أسيد بن الحضير في عهد عمر بن-(2/171)
وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضعَ، كقوله في رواية صالح (1) في المضارب: إذا خالفَ فاشترَى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحب المال، فالرِّبْحُ لصاحب المال، ولهذا أُجْرَةُ مثلِه، إلاّ أن يكون الربحُ يُحيطُ باجرةِ مثلِه فيَذْهَبَ. وكنتُ أذهبُ إلى أنَّ الربحَ لصاحب المال، ثم اسْتَحْسَنْتُ (2) .
__________
= الخطاب سنة 20 أو 21، ولم أجد من ذكر مشاركته في قتال المرتدين من بني حنيفة، فضلاً عن وفاته فيه. (انظر: طبقات ابن سعد 3/603 والاستيعاب 1/175 والإصابة 1/49 وسير أعلام النبلاء1/340 والمصادر المذكورة بهامشه) . ثم راجعت كتب التاريخ في قصة قتل مسيلمة الكذاب باليمامة والأحداث التي جرت بين حزبه وبين المسلمين سنة 11، فلم أجد فيها ذكراً لأسيد. (انظر: تاريخ الطبري 3/281- 301 والفتوح لابن أعثم 1/26- 40 [ط. بيروت] والمنتظم 4/79- 83 والبداية والنهاية 6/323- 327) . وسرد ابن الأثير في الكامل 2/248- 249 أسماء أكثر من أربعين شخصاً من المسلمين قُتِلوا باليمامة، ليس من بينهم أسيد.
(1) هو ابن الإمام أحمد، يكنى أبا الفضل. توفي سنة 266. (طبقات الحنابلة 1/173) .
(2) النص في مسائل الإمام أحمد رواية صالح 1/448 بغير هذا اللفظ، ففيه: "وسألته عن المضارب إذا خالف، قال: بمنزلة الوديعة، عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلاّ أن المضارب أعجبُ إليَ أن يُعطى بقدر ما عمل". وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 199: "سمعتُ أحمد سُئل عن المضارب إذا خالف، قال: يختلفون فيه". والنص- كما هنا- نقله المؤلف من العدّة 5/1604، ونقله ابن القيم في بدائع الفوائد 4/124 عن المؤلف، وهو كذلك في الواضح=(2/172)
وقال في رواية الميمونيّ (1) : أَسْتَحْسِنُ أن يَتَيَمَّم لكلِّ صلاةٍ، ولكنّ القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحدِثَ أو يَجِدَ الماءَ (2) .
وقال في رواية الْمَرُّوْذِيّ (3) : يجوزُ شِرَى (4) أرضِ السَّوَادِ (5) ،
__________
= لابن عقيل 1/144 أ، والمسودة 452. وذكر ابن قدامة في المغني 5/40 هذه المسألة وعلَلها بقوله: "لأنّ رب المال رضي بالبيع، فأخذ الربح، فاستحق العامل عوضاَ، كما لو عقده بإذنه، ولأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسقَم له المسمى، فكان له أجرة مثله كالمضاربة الفاسدة".
ويأتي الكلام على المسألة في ص 213.
(1) هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران، أبو الحسن الرقي، من جلّة أصحاب الإمام أحمد. كان الإمام يكرمه ويجلّه ويفعل معه مالا يفعل مع أحد غيره. توفي سنة 274. (طبقات الحنابلة 1/212) .
(2) انظر: العدّة 5/1604 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والمسوّدة 451 والمغني 1/263. وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 16: "قلت لأحمد: التيمم لكل صلاةٍ أم للحدث إلى الحدث؟ قال: لكل صلاةِ أعجب إليّ ". وسيأتي الكلام على المسألة في ص 208 وما بعدها.
(3) هو أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذيَ، من أصحاب الإمام أحمد. كان إماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. توفي سنة 275. (طبقات الحنابلة 1/56) .
(4) هو مقصور وممدود (شِراء) ، والقصر أشهر، وكان الكسائي يقول: مقصور لا غير، انظر مناظرته مع اليزيدي فيه أمام الرشيد في: المصباح المنير (شرى) . ووهم من ضبطه "شَرْي".
(5) هي أرض العراق التي افتتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، سميت بذلك لخضرة زروعها وأشجارها، والخضرة: السواد. (معجم=(2/173)
ولا يَجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تُشْتَرَى ممن لا يَملِكُ؟ فقال: القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحابَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخصُوا في شِرَى المصاحفِ وكَرِهُوا بَيْعَها، وهذا يُشبِهُ ذاك (1) .
وقال في رواية بكر بن محمد (2) فيمن غَصَبَ أرضاً وزرعها: الزَّرعُ لرب الأرضِ، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئاً يُوافِقُ القياسَ.
أَستَحْسِنُ أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه (3) .
وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألةَ على روايتين، ونصَرَ هو وأتباعُه كأبي الخطَاب (4) وابن عَقِيل وابن
__________
= البلدان 3/272) .
(1) انظر: العدة لأبي يعلى 4/1182، 1394، 1398، 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والواضح لابن عقيل 1/144 أوالمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/124. والآثار في كراهية بيع المصاحف أخرجها عبد الرزاق في المصنف 8/110- 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16 وابن أبي داود في المصاحف عن ابن عباس وابن عمر وبعض التابعين، ورخص بعضهم في بيعها. وسيأتي الكلام على المسألتين فيما بعد (ص 221) .
(2) أبو أحمد النسائي الأصل، البغدادي المنشأ. صحب الإمام أحمد وأخذ عنه، وروى مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه.
(طبقات الحنابلة 1/119) .
(3) انظر: العدة 5/1605 والتمهيد للكلوذاني 4/87 والمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/124. وراجع المغني 5/234- 236 حيث نقل الرواية وتكلم على المسألة. وسيأتي مزيد البحث عنها في ص 219.
(4) هو محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني صاحب كتاب "التمهيد في أصول-(2/174)
[الزاغوني] (1) القولَ بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو أولى القياسين (2) . قالوا- وهذا لفظ القاضي (3) -: والحجةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ فهي الكتابُ تارةً، والسُّنةُ أُخرى، والإجماعُ ثالثةً. والاستدلال بترجحِ (4) شَبَهِ بعضِ الأصولِ على بعضِ.
كما (5) قلنا بالاستحسان لأجْلِ الكتابِ في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السَّفَر إذا لم نَجدْ مسلما" (6) .
__________
= الفقه ". توفي سنة 510. (ذيل طبقات الحنابلة 1/116) .
(1) لم يكتب المؤلف بعد "ابن" من المقصود به، ولعله "ابن الزاغوني " فهو من أبرز العلماء اتباعًا لمنهج أبي يعلى في الأصول والكلام، وقد وصل إلينا كتابه "الإيضاح في أصول الدين". توفي سنة 527.
(ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/180) .
(2) العدّة 5/1610 والتمهيد 4/92 والواضح 1/144 أ- ب.
(3) العدّة 5/1607- 1609.
(4) كذا في الأصل وبدائع الفوائد، وفي العدة: "يرجح".
(5) كذا في الأصل، وفى العدّة: "فمما".
(6) لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة: من الآية106) ،. وانظر: المغني 9/183 وتفسير القرطبي 6/346، وسبب نزول الآية عند البخاري (2780) من حديث ابن عباس. وسيأتي الكلام على المسألة فيما بعد، ص 225.(2/175)
قال: ومما قلنا فيه بالاستحسانِ للسنّةِ فيمن غَصَبَ أرضاً وَزَرَعَها، فالزرعُ لِرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحب الأرضِ النفقةُ لصاحبِ الزَّرع، لحديثِ رافع بن خَدِيْج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من زَرعَ في أرضِ قومٍ فَالزرعُ لِرَب الأرضِ وله نفَقَتُه" (1) . وقد كان القياس أن يكون الزرع لزارعه (2) .
قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع جوازُ سَلَمِ الدراهم والدنانير في الموزونات، وكان القياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلاّ أنهم استحسنوا فيه للإجماع (3) .
قلت: ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأجرةَ مُرضِعِه على أبيه دونَ أمِّه بالنصّ (4) والإجماعِ. والقياسُ- عندَ مَن يَجْعلُ النفقةَ على كل
__________
(1) أخرجه أبو داود (3403) والترمذي (1366) وابن ماجه (2466) وأحمد 3/465، 1/144 والبيهقي في السنن الكبرى 6/136 من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وتكلّم عليه الألباني وصححه لشواهده في إرواء الغليل 5/351.
(2) قال ابن قدامة في المغني 5/236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرعَ لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد فقال: هذا شيء لا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر".
(3) انتهى كلام أبي يعلى في العدة. وانظر هذه المسألة في المغني 4/9- 10.
(4) قال تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) =(2/176)
وارثٍ بفرضٍ أو تعصيبٍ، أو على كل ذِيْ رَحِمٍ (1) مَحْرَم، أو على عَمودي النسبِ مطلقاً- أن يكون على الأبوين.
وكذلك يقولون: جواز إجارة الظئْر ثابت بالنص (2) والإجماع على خلاف القياس، بل وقد يقولون بجواز الإجارة، بل وجواز القرض والقراض وغير ذلك على خلاف القياس (3) للإجماع.
__________
= [الطلاق: 7] . وقال القرطبي في تفسيره 18/172: "هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ". وانظر: الأم 5/90 وأحكام القرآن للشافعي 1/264 وفتح الباري 9/500، 514.
(1) في الأصل: "ذي كل رحم".
(2) قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)) [الطلاق: من الآية6] . والظئر: المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها. وقد قال بعض الفقهاء: إن إجارة الظئر للرضاع على خلاف قياس الإجارة، فإن الإجارة عقد على منافع، وإجارة الظئر عقد على اللبن، واللبن من باب الأعيان لا من باب المنافع. وردّ عليهم المؤلف في مجموع الفتاوى 20/531، 532 و30/197- 200 وبين أنها ليست مخالفة للقياس. والمقصود بهم الحنفية كما في بدائع الصنائع 4/175 والبناية 7/949.
(3) أما الإجارة فقالوا: إنها بيع معدوم، لأن المنافع معدومة حين العقد، وبيع المعدوم لا يجوز. وأما القرض فقالوا: لأنه بيع ربويّ بجنسه من غير قبض. ورد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/514. 515 على هؤلاء، والمقصود بهم الحنفية، فهم الذين نقل عنهم ما ذكر. انظر: أصول السرخسي 2/203 وبدائع الصنائع 4/173، 7/396 والبناية 7/868.(2/177)
لكن إذا أَبْدَوْا معنى يَقتضي التخصيصَ مثلَ الحاجةِ، قيل: هذا يقول به جميعُ الأمّة، بل جميعُ علماء السنّة، مثل إباحة الميتة للمضطر للضرورة، وصلاة المريض قاعداً للحاجة، ونحو ذلك. وإنما يتنازعون إذا لم يظهر في إحدى الصورتين معنًى يُوجِبُ الفرقَ./
ولهذا فسَّر غيرُ واحدٍ الاستحسانَ بتخصيصِ العلَّة، كما ذكر ذلك أبو الحسين البصري (1) والرازي (2) وغيرهما، وكذلك هو، فإنَ غايةَ الاستحسانِ- الذي يقال فيه: إنه يخالف القياسَ حقيقةً- تخصيصُ العلَّةِ. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القولُ بتخصيصها (3) ، كالمشهور
__________
(1) قال في المعتمد 2/839: "الكلام في الاستحسان على ما فسره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه يقع في المعنى وفي العبارة. أما في المعنى فهو أن بعض الأمارات قد يكون أقوى من بعض، ويجوز العدول من أمارة إلى أخرى من غير أن تفسد الأخرى، وذلك راجع إلى تخصيص العلة".
(2) هو أبو بكر الجصاص الذي قال في الفصول في الأصول (ق 297/أ- ب) : "إن الاستحسان الذي هو تخصيص الحكم مع وجود العلة أنّا متى أوجبنا حكما لمعنى من المعاني قد قامت الدلالة على كونه عَلَما للحكم، وسميناه علة له، فإنّ إجراء ذلك الحكم على المعنى واجب حيث ما وُجِد، إلاّ موضع يقوم الدلالة فيه على أن الحكم غير مستعمل فيه، فرجع مع وجود العلة التي من أجلها وجب الحكم في غيره، فسموا ترك الحكم مع وجود العلة استحسانا".
(3) قال الجصّاص في الفصول في الأصول (ق 299 أ) : "تخصيص أحكام العلل الشرعية جائز عند أصحابنا وعند مالك بن أنس، وأباه بشر بن غياث والشافعي، والذي حكيناه من مذهب أصحابنا في ذلك أخذناه=(2/178)
عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة (1) ، كما في مذهب مالك (2) وأحمد (3) .
__________
= عمن شاهدناهم من الشيوخ الذين كانوا أئمة المذهب بمدينة السلام، يعزونه إليهم على الوجه الذي بينا، ويحكونه عن شيوخهم الذين شاهدوهم. ومسائل أصحابنا وما عرفناه من معانيهم فيها تُوجب ذلك.
وما أعلم أحداً من أصحابنا وشيوخنا أنكر أن يكون ذلك من مذهبهم إلاّ بعض من كان هاهنا بمدينة السلام في عصرنا من الشيوخ ".
وعقد السرخسي في أصوله 2/208- 215 فصلاً في بيان فساد القول بجوازه، وقال: "زعم بعض أصحابنا أن التخصيص في العلل الشرعية جائز، وأنه غير مخالف لطريق السلف، ولا لمذهب أهل السنة، وذلك خطأ عظيم من قائله، فإن مذهب من هو مرضي من سلفنا أنه لا يجوز التخصيص في العلل الشرعية، ومن جوز ذلك فهو مخالف لأهل السنة، مائل إلى أقاويل المعتزلة في أصولهم".
وهكذا نجد الخلاف بين الحنفية في هذه المسألة، ونقل هذا الاختلاف في كتب الأصول المتأخرة، انظر: كشف الأسرار للبزدوي 4/32 وشرح مسلم الثبوت 2/277.
(1) انظر تفصيل القول في ذلك في: المعتمد 2/822 والتلخيص 3/271، 272 والتبصرة 466 وشرح اللمع 2/882 والمستصفى 2/336 والإحكام للَامدي 3/315 والمحصول 2/2/323 وشرح جمع الجوامع 2/340.
(2) ذكر القرافي في شرح تنقيح الفصول 400 أن القول بالجواز هو المذهب المشهور. ولكن ابن القصار في المقدمة في الأصول 80 لم ينقل إلاّ عدم الجواز.
(3) انظر: العدّة 4/1386، 1387 والتمهيد 4/69، 70 والمسودة 412،=(2/179)
ومن الناس من حكى قول الأئمة الأربعة جواز تخصيص العلة. وقد ذكر أبو إسحاق بن شَاقْلاَ (1) عن أصحاب أحمد في تخصيص العلة وجهين. ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل يمنعون تخصيص العلة (2) مع قولهم بالاستحسان. وكذلك أصحاب مالك (3) .
وأما أبو الخطاب فيختار تخصيصَ العلَّة (4) موافقةً لأصحاب أبي حنيفة، فإن هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهؤلاء يُجوَزون تخصيصَها بمجردِ دليلٍ يدكُ على التخصيص، وإن لم يُبيق اختصاصُ صورةِ النقضِ فقدانَ شرطٍ أو وجودَ مانع. وهذا حقيقة ما ذكره القاضي وهؤلاء في الاستحسان، كما ذكره فيً الأمثلة.
وِلكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومَنْعِ تخصيصِ العلةِ فرقُوا بينهما فقالوا- واللفظ للقاضي (5) -: لا يجوز تخصيصُ
__________
= 413 وروضة الناظر 2/321. وتكلم المؤلف هنا في هذه المسألة، واستعرض آراء الحنابلة. وانظر: مجموع الفتاوى 20/167.
(1) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر، كان جليل القدر كثير الرواية حسن الكلام في الأصول والفروع، شيخ الحنابلة في وقته. توفي سنة 369. (طبقات الحنابلة 2/128) .
(2) قال في العدّة 4/1386: "لا يجوز تخصيص العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها". وانظر: الواضح 1/144 ب.
(3) في الأصل: "م" يرمز به إلى مالك.
(4) التمهيد 4/69.
(5) في العدة 4/1386- 1388.(2/180)
العلَّة الشرعية، وتخصيصُها نقضُها.
قال: وقد قال أحمد في رواية الحسين بن حسّان (1) : القياسُ أن يُقاسَ الشيءُ على الشيء إذا كان مثلَه في كل أحوالِه، فأما إذا أشْبَهَه في حالٍ وخالفَه في حالٍ فهذا خطأ (2) .
قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها.
قال: وقد ذكر أبو إسحاق- يعني ابنَ شَاقْلا- في "شرح الخِرَقي" فقال: أصحابنا على وجهين: منهم من يَرى تخصيصَ العلَّة، ومنهم من لا يَرى ذاك.
وقال: وقد ذكرها أبو الحسن الخَرَزِي (3) في "جزءٍ فيه مسائلُ من الأصول ": لا يجوز تخصيصُها.
__________
(1) كذا في الأصل ومخطوطة العدة، والصواب: أحمد بن الحسين بن حسان. صحب الإمام أحمد، وروى عنه أشياء، ولم يذكر تاريخ وفاته. ترجمته في طبقات الحنابلة 1/39.
(2) انظر هذه الرواية في العدّة 4/1326، 1354. 1386، 15/1436 والتمهيد 4/5. ونحوه قول الإمام في رواية الأثرم: "إنما يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبهته به فأشبهه في حال وخالفَه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأتَ". (العدة 5/1436) .
(3) كذا في تاريخ بغداد 1/4660، وفي طبقات الحنابلة 2/167 (الجزري) . وهو عبد العزيز بن أحمد البغدادي. كان له قدم في المناظرة ومعرفة الأصول والفروع. توفي سنة 391.(2/181)
قال: وقول أحمد "القياس كان يقتضي أن لا يجوز شِرَى أرض السواد، لأنه لا يجوز بيعُها" ليس بموجب لتخصيصِ العلّة، فإنها في حكم خاص (1) ، وما ذكر أحمد إنما هوَ اعتراض النصّ على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياسُ الأصولِ للخبر (2) .
ولذلك أجابَ من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان فقال (3) : فإن قيل: أليس قد قال أحمد في رواية المَروْذِيّ وقد قيل: كيف تُشْتَرَى ممّن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، وإنما هو استحسان. واحتج بقول الصحابة في المصاحف.
ثم قال في الجواب: قيل: تخصيصُ العلَّة ما يَمنع من جَرْيها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراضُ النصّ على قياس الأصولِ. ولأنهم قد يَعْدِلُون في الاستحسان عن قياس وعن غير قياس (4) ، فامتنع أن يكون معناه تخصيص (5) بدليل. وقد ناقضه أبو الخطاب (6) ./
وهذا الذي ذكره القاضي قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارضَ النصّ قياس الأصول، فقالوا: يُقدم النص. واختلفوا فيما إذا
__________
(1) في العدّة: "لأن تخصيص العلَّة ما مَنَع من جَرَيانها في حكم خاص".
(2) انتهى كلام أبي يعلى هنا.
(3) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/1394.
(4) "وعن غير قياس" لا توجد في العدّة.
(5) كذا بالرفع في الأصل ومخطوطة العدّة.
(6) انظر التمهيد 4/70 وبعدها.(2/182)
عارض خبر الواحد قياس الأصول، كخبرِ المُصَراةِ (1) ونحوه (2) . وأمّا الأوّل فمثل حَمْلِ العاقلةِ (3) ، فإنهم يقولون: هو خلاف قياس
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 2/683، 684 ومن طريقه البخاري (2150) ومسلم (1515) من حديث أبي هريرة، وفيه: "ولا تُصَروا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رَضِيَها أمسكَها، وإن سَخِطَها ردها وصاعاَ من تمر". والمصراة هي الناقة أو الشاة التي يترك صاحبها حلبها ليتجمع لبنها في ضرعها، ليوهم المشتري بكثرة لبنها. وقد أطال المؤلف في الرد على القائلين بأن خبر المصراة يخالف الأصول، انظر: مجموع الفتاوى 20/556- 558. ويقصد بهم الحنفية، انظر: أصول السرخسي 1/341 والمبسوط له 13/38 وكشف الأسرار للبخاري 2/380 ومرآة الأصول 2/18 والتحرير مع شرحه التيسير 3/52. وانظر: المسألة في المغني 4/135 وما بعدها.
(2) ذهب جمهور العلماء إلى تقديم خبر الواحد على القياس، وهو قول الشافعي وأحمد وأصحابهما، وقدم أكثر الحنفية القياس. أما المالكية فقال القرافي: حكى القاضي عياض في التنبيهات وابن رشد في المقدمات في مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد قولين. (شرح تنقيح الفصول 387) . وانظر أدلة الحنفية ومناقشتها في: الإحكام لابن حزم 1/104، 143 وبعدها، والمستصفى 1/171 وبعدها، والمعتمد 2/548 وبعدها، 653 وبعدها، والإحكام للآمدي 2/94، 112 وأصول السرخسي 1/340، 341، 368 وكشف الأسرار للبزودي 2/381 وبعدها، 390 وبعدها وشرح مسلم الثبوت 2/178 وبعدها.
(3) العاقلة: هي الجماعة التي تَعقِل عن القاتل أي تؤدّي عنه ما لزمه من=(2/183)
الأصول، وهو ثابت بالنصّ والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولاً ثالثاً في تخصيص العلة.
ويذكرون قولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص (1) المنصوصة دون المستنبطة (2) . وأكثر الناس في التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد (3) وأبي الطيب (4) والقاضي أبي يعلى وابن عَقِيْل
__________
= الدية، وهم عصبته أي قرابته الذكور البالغون من قبل الأب، الموسرون العقلاء. وأصل وجوب الدية على العاقلة حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6910) ومسلم (1681) ، وفيه: "اقتتلت امرأتانِ من هذيل، فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فَقَتَلتْها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى أن ديةَ جنينها غُرة: عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها". وقد رد المؤلف في مجموع الفتاوى 20/552- 554 على من يقول: إن حمل العاقلة على خلاف القياس. وقد قال به الحنفية، انظر: بدائع الصنائع 7/255. وراجع أيضًا: فتح الباري 12/346.
(1) في الأصل: "تخصيصها" ثم شطب عليها، والسياق يقتضي لفظ "تخصيص".
(2) انظر: التمهيد 4/70.
(3) هو أحمد بن بشر العامري، القاضي أبو حامد المروزي، أحد أئمة الشافعية، له كتب في الأصول والفروع. توفي سنة 362. (تهذيب الأسماء واللغات 2/211) .
(4) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر، أبو الطيب الطبري الشافعي، الإمام الجليل، الفقيه الأصولي القاضي. توفى سنة 450. (تهذيب الأسماء واللغات 2/247) .(2/184)
وغيرهم يقولون: إذا خُصَّت المنصوصةُ تَبينا أنها نقض العلة (1) ، وإلاّ فلا يجوز تخصيصُها بحال.
وهذا النزاع إنما هو في عل! قامَ على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرّد الطَرْدِ الذي يُعلَم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات، فهذه تَبْطُل بالتخصيصِ باتفاقهم. وأما الطَّرْدُ المَحْضُ الذي يُعلَم خلوُّه عن المعاني المعتبرة فذاك لا يُحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين. وإنما النزاعُ في الطَرْدِ الشَبَهِيَّ، كالمجوزات - الشبهية التي يحتجّ بها كثير من الطوائف الأربعة، لاسيما قدماء أصحاب الشافعيّ، فإنها كثيرة في حُجَجِهم أكثر من غيرهم./
والتحقيقُ في هذا الباب (2) أنّ العلَّة تُقَال على العلة التامة،
__________
(1) انظر: العدة 4/1393 والمصادر الأخرى التي سبق ذكرها في أول مبحث تخصيص العلة.
(2) هذا، التحقيق ذكره المؤلف في مجموع الفتاوى 20/167، 168 فقال: "أصل ذلك أن مسمى العلة قد يعنى به العلة الموجبة، وهي التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها. فهذه لا يتصور تخصيصها، ومتى انتقضت فسدتْ. ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة وشرط الحكم وعدم المانع، فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعنى بالعلة ما كان مقتضيا للحكم، يعني أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، فيمتنع تخلف الحكم عنه، فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع، فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها، وعلى هذا فينجبر النقص=(2/185)
وهي المستلزِمةُ لمعلولها، فهذه متى انتقضتْ بَطَلَتْ بالاتفاق. وتُقالُ على العلّة المقتضية أوّلاً، وتُسمَّى المؤثّرة ويُسمَّى السببُ دالاً ودليلَ العلَّة ونحو ذلك. فهذه إذا انتقضَتْ لفرقٍ مؤثرٍ يفرّق فيه بين صورةِ النَّقْضِ وغيرِها من الصُّوَرِ لم تَفْسُدْ. ثم إذا كانتْ صورةُ الفرعِ التي هي صورةُ النِّزاع في معنى صورةِ النَّقْضِ أُلحِقتْ بها، وإن كانتْ في معنى صورةِ الأصَلِ أُلحِقت بها.
فمن قال: إن العلَّة لا يجوزُ تخصيصُها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجودِ مانع فهذا مخطئ قطعاً، وقولُه مخالفٌ لإجماع السلفِ كلِّهم الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم، فإنهم كلّهم يقولون بتخصيص العلة لمعنًى يُوجبُ الفرقَ، وكلامُهم في ذلك أكثرُ من أن يُحْصَرَ. وهذا معنى قولَ من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة.
والقول بالاستحسان المخالفِ للقياسِ لا يمكنُ إلاّ مع القول
بتخصيصِ العلَّةِ. وما ذكروه من اعتراضِ النصِّ على قياسِ الأصولِ فهو أحد أنواع تخصيصِ العلَّةِ، وهذا تسليم منهم لكونِ العلَّة تَقْبَلُ التخصيصَ فيَ الجملة. وأما من جَوز تخصيصَ العلة بمجرّدِ دليل لا يُبيِّنُ الفرقَ بين صورةِ التخصيص وغيرِها فهذا مَوْرِدُ النزاعِ في
__________
= بالفرق. وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولاوجود مانع كان ذلك دليلاً على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما، والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها، فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة". ونحوه في مجموع الفتاوى 21/356- 357.(2/186)
الاستحسان المخالفِ للقياسِ وغيرِه.
ثمّ هذه العلَّة إن كانتْ مستنبَطةً وخُصتْ بنصٍّ، ولم يُبيَنِ الفرقُ المعنويُ بين صورةِ التخصيصِ وغيرِها فهذا أضعفُ ما يكونُ. وهذا هو الذي كان يُنكِرُه كثيراً الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما على من يفعلُه من أصحاب أبي حنيفةَ وغيرهم. وكلامُ أحمدَ فيما تقدَّمَ أرادَ به هذا، فإنَّ العلّةَ المبيّنةَ لم تُعْلَمْ صِحَّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها. والنصُّ إذا عارض العلَّة دلَّ علَى فسادِها، كما أنه إذا عارضَ الحكمَ الثابتَ بالقياس دلَّ على فسادِه بالإجماع.
وأما إذا كانت العلَّة منصوصةً، وقد جاء نص بتخصيصِ بعض صُوَرِ العلَّة، فهذا ممّا لا يُنكِرُه أحمد، بل ولا الشافعي وغيرُهما، كما إذا جاء نصّ في صورةٍ ونصٌّ يُخالِفُه في صورةٍ أخرى، لكنْ بينَهما شَبَه لم يَقُمْ دليل على أنه مَنَاطُ الحكم فهؤلاء يُقِرُّوْنَ النصوصَ، ولا يَقِيْسُوْنَ منصوصاً على منصوصٍ يُخالِفُ حكْمَه، بل هذا من جنس الذين قالوا: (إنَمَا اَلْبَيع مِثلُ الرِّبَا) (1) . وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء، ولا أَقِيسُ عليه "، أي لا أَقِيْسُ عليه صورةَ الحديث الآخر، فأجعلُ الأحاديثَ متناقضة، وأدفعَ بعضَها ببعضٍ، بل أستعملُها كلَّها./
والذين يدفعون بعضَ النصوصِ ببعضٍ يقولون: الصورتان سواء لا فرقَ بينهما، فيكون أحدُ النصَّينِ ناسخاً للآخر. ومثل هذا
__________
(1) سورة البقرة: 275.(2/187)
كثيراَ ما يتنازعُ فيه فقهاءُ الحديث ومن يُنازِعُهم ممّن يَقيسُ منصوصاَ على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصيْنِ منسوخاً لمخالفتِه قياسَ النّصَ الآخرِ في طَيِّ هذا القياسِ.
ويَبْقَى الأمرُ دائراَ هل دلَّ الشرعُ على التسويةِ بين الصورتينِ حتى يُجْعَلَ حُكْمُهما سَوَاءَ، ويُجعَلَ الحكمُ الواردُ في إحداهما منسوخا بالحكمٍ المضاد له الواردِ في الأخرى، كما يقوله من يجعل القرعةَ منسوخة بآية الميسر (1) ، وأَمْرَ المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبَّر كبّروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا صَلَّى جالساً صَلَّوا جلوساً أجمعين-: منسوخاً بدوام قيامهم في الصلاة التي صَلَّوا بعضَها خلفَ إمام قائمِ، وباقِيهَا خلفَ إمامِ قاعدِ. ويَجعلُ حديثَ الأضحيةِ والهَدْي أَحدَهما منسوخاً بالآخر (2) . ويجعلون قَطْعَ جاحدِ العاريةِ (3) منسوخَاً إذا سلَّموا أنه قطعها لذلك، منسوخاً" (4) بقوله: "ليس على
__________
(1) الجمهور على مشروعية القرعة في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وليس في القرعة إبطال شيء من الحق كما زعموا. انظر للكلام على القرعة والخلاف فيها: تفسير القرطبي 4/86، 87 وفتح الباري 5/293، 294 وطرح التثريب 8/48، 49.
(2) سبق الكلام على المسألتين.
(3) قال ابن القيم في إعلام الموقعين 2/62: "صح الحديث بان امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعت يدها،. ثم ذكر اختلاف الفقهاء في سبب القطع. والحديث أخرجه مسلم (1688) وأبو داود (4374) عن عائشة.
(4) كرّر "منسوخا" لبعد العهد به، وارتباطه بما بعده.(2/188)
المختلسِ ولا المنتهب ولا الخائن قَطْعٌ " (1) . ويجعلون العقوبةَ الماليةَ منسوخةً بالنهي عن إضاعةِ المال (2) ، ويَجعلون تضعيفَ الغُرْم على من دُرِىءَ عنه القطعُ منسوخاً بقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (3) .
ويجعل (4) تقضيةَ ما شرَطَه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينَه وبينَ المشركين في الهُدْنةِ (5) منسوخاً بقوله: "من اشترطَ شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" (6) .
__________
(1) أخرجه أحمد 3/380 وأبو داود (4391) والترمذي (1448) والنسائي 8/89 وابن ماجه (2591) والبيهقي في السنن الكبرى 8/279 من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) مما ورد في النهي عنها حديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه البخاري (2408) ومسلم (539) ، وفيه: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، إضاعة المال ". ورد المؤلف على من يقول إن العقوبة المالية منسوخة في: مجموع الفتاوى 28/111 وما بعدها.
(3) سورة الشورى:40. وانظر: مجموع الفتاوى 28/113، 118- 119، 333.
(4) لم يستقر المؤلف في هذه الفقرة على صيغة واحدة من "يجعل " و"يجعلون"، فافردها نظراً للفظة "مَنْ" الموصولة، وجمعها نظراً لمعناها. وكلاهما سائغ في العربية.
(5) يوجد ذكر هذه الشروط في عامة كتب السيرة، ورواها ابن إسحاق باسناد حسن (انظر: سيرة ابن هشام 3/440- 441 طبعة الأردن 1409) ، ومن طريقه أحمد في مسنده 4/325.
(6) أخرجه مالك في الموطأ 2/780، 781 والبخاري (2560، 2561، 2563، 2729) ومسلم (1504) من حديث عائشة، ولفظه: "ما بال=(2/189)
وكثير مما يَدعونه في الناسخ لا يعلمون أنه قيل بعد المنسوخ.
فهذا ونحوه من دفع النصوص البينةِ الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان يُنكِرُه أحمد وغيره.
وكان أحمد يقول: " أكثرُ ما يخطئ الناسُ من جهة التأويلِ والقياسِ" (1) . وقال: "ينبغيْ للمتكلِّم في الفقه أن يَجْتَنِبَ هذين الأصلينِ: المجملَ والقياسَ" (2) . ومرادُه أنه لا يُعارِضُ بهما ما ثَبتَ بنص خاص، ولا يَعْمَلُ بمجردِهما قبلَ النظَرِ في النصوص والأدلةِ الخاصةِ المقيّدةِ. والمطلق يدخل في كلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره في المجمل، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهَم معناه كما يَظنه بعضُ الناس (3) ، ولا مالا يَستقل بالدلالة، فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به بحالٍ.
__________
= رجالٍ يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ".
(1) انظر: مجموع الفتاوى 7/392 حيث نقل قول الإمام وبيَّن المراد منه.
(2) قاله الإمام في رواية الميموني، انظر: العدّة 4/1281 والتمهيد 3/368 وشرح الكوكب المنير 4/216. قال أبو يعلى: هذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز.
(3) قال المؤلف في كتاب الإيمان (ضمن مجموع الفتاوى 7/391) : "لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة- كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم- سواء، لا يريدون بالمجمل مالا يُفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل مالا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقا".(2/190)
وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثَمَ صُوَر مسكوت عنها فهلْ يُقَال: القياس هو مقتضى أحد النَصّينِ؟ فما سكتَ عنه نُلحِقُه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر.
فهذاْ هو الاستحسان الذي تنوزعَ فيه، فكثير من الفقهاء يقول به، كأصحاب أبي حنيفةَ وكثيرِ من أصحاب أحمدَ وغيرِهم. وهذا هو الذي ذكَره القاضي بقوله (1) : "اعتراضُ النصِّ على قياس الأصول ". وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة كما تقدم.
ومن لم يُجوِّز تخصيصَها إلاّ بفارقي بين صورة التخصيص وغيرِها يقول: لابُد أن يُعلَم الجامعُ أو الفارقُ، فليس إلحاقُ المسكوتِ بأحد النصيْنِ بأولى من إلحاقِه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصين ولم يُعلَم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلْحَقْ بواحدِ منهما إلاّ بدليل. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصينِ ووجودُه في المسكوت عنه، ولم يعلَم المعنى في الآخر فهذا أقوى من الذي قبله، فإنه هنا قد عُلِم مقتضى القياس الصحيح وشمولُه لصورةِ المَسْكُوت. وأما وجودُ الفارقِ فيه فمشكوك فيه.
وهذا نظيرُ أَخْذِ أحْمَدَ بالنصوص الواردة في سجود سهوِ (2) ،
__________
(1) العدّة 4/1394.
(2) وردت خمسة أحاديث هي العمدة في الباب، ثلاثة منها في السجود بعد السلام، أولها: حديث ذي اليدين الذي رواه أبو هريرة، وفيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ركعتين فسجد، أخرجه البخاري (1227، 1228) =(2/191)
فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ فيه نصٌّ ألحقَه بما قبل السلام، لأنه القياس عنده (1) ./
وتحقيق هذا الباب أنه إما أن يُعلَم استواءُ الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقُهما، وإما أن لا يُعلم واحدٌ منهما، ونعني بالعلم ما يُسميه الفقهاء علماً، وهو أن يقوم الدليلُ على التماثل والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحدٍ منهما.
__________
= ومسلم (573) . وثانيها: حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (574) وفيه أنه سلم من ثلاث فسجد. وثالثها: حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) وفيه أنه صلى خمساَّ فَسجد، وفي بعض رواياته أنه زاد أو نقص وأمر بالتحري.
أما الحديثان اللذان فيهما ذكر السجود قبل السلام، فأولهما: حديث عبد الله ابن بُحينة الذي أخرجه البخاري (1224) ومسلم (570) وفيه أنه قام من الركعتين ولم يجلس. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (571) وفيه: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى؟ ثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك، وليَبْنِ على ما استيقنَ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ". وجعل بعضهم هذه الأحاديث من باب الناسخ والمنسوخ، انظر: الاعتبار للحازمي 115- 118.
(1) في المغني 2/21: قال الإمام أحمد في رواية الأثرم: كل سهو جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد فيه بعد السلام [يُسْجَد فيه بعد السلام] ، وسائر السهو يُسجد فيه قبل السلام، هو أصح في المعنى، وذلك أنه من شأن الصلاة، فيقضيه قبل أن يسلم. وانظر: مجموع الفتاوى 17/23 وما بعدها.(2/192)
فالأوّل متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة، وهذا مثلُ دعوى من يدَعي أن الموجبَ للنفقةِ نفسر الإيلادِ، أو نفسُ الرحم المحرم، أو مطلق الإرثِ بفرضٍ أو تعصيب، ويَقول: إذا اجتمع الجدُّ والجدةُ كانت النفقةُ عليهما. فإنه لمّا ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمعَ الأبوانِ كانت النفقةُ على الأب (1) ، عُلِم أن العَصَبةَ في ذلك يُقدم على غيره، وإن كان وارثاً بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعُلِم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك) (2) هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجوداً، لأن عُمَرَ جَبَرَ بَني عمَ مَنْفُوسٍ على نفقته (3) .
وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقةِ الصغير على الوارثِ العاصب، وقال بها جمهور السلف (4) . وليس لمن خالفها حُجَّةٌ أصلاً. ولكن ادعَى (5) بعضهم أنها منسوخة، وقيل ذلك عن مالك (6) . وبعضهم
__________
(1) سبق الكلام عليه (ص 176) .
(2) سورة البقرة: 233.
(3) انظر: تفسير القرطبي 18/171.
(4) انظر: تفسير القرطبي 3/168، 169.
(5) في الأصل: "ادعها" (= ادعاها) .
(6) رواه ابن القاسم عنه. قال ابن العري في أحكام القرآن 1/205: "هذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين وتَحار فيه ألباب الشادين، والأمر فيه قريب، وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة". ونقله القرطبي 1/169.(2/193)
قال: عَلَيْه أن لا يُضَار" (1) ، فتركُها بدعوى نَسْني أو تأويلِ هو من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعه لغير معارض لها أصلاً مما يَحلَمُ بطلانَه كل من تَدَبَّر ذلك.
وإذا كانت الأمِ أقربَ الناسِ إليه لا نفقةَ عليها مع الأب، وهي تَحُوْزُ الثلثَ معه، فأَنْ لا يَجِبَ على الجدةِ مع الجدّ وهي تَحُوْزُ السدسَ أولى وأقوى.
والقائلون بذلك يقولون: القياس يَقتضي وجوبَ ثلثِها على الأم، لكن تُرِك ذلك للنص.
فيُقَال: أيُّ قياس معكم؟ إنما يكون قياساً لو كان معهم نصّ يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النصّ بهذا يُوجبُ إلحاقَ نظائرِه به، فيُقَاسُ كل عاصب معه فرضن أوجبه من وُرَّاثَ الفرض على الأب مع الأمّ.
وكذلك إسلامُ النَّقْدَينِ في الموزونات يَقدحُ في كونِ العلةِ الوزنَ، ولم يثبُتْ ذلك بَيِّن، بل بعلّة مُسْتَنبطة قد عارضَها ما هو
__________
(1) أي أن الإشارة في قوله تعالى (وَعَلَى الوَارِث مِثلُ ذَلِك) لا ترجع إلى جميع ما تقدم، وإنما ترجع إلى تحريم الإضرار. قال ابن العربي: "هذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، وهو يدّعي على اللغة العربية ما ليس منها". قلت: هذا كلام لا طائل تحته، فسياق الآية يأبي ذلك، وعطف "على الوارث" على "على المولود له ... " هو الوجه في العربية لا غير، ولذلك جعله المؤلف هنا من نوع تحريف الكلم ومن المعلوم بطلانه لكل من تدبر.(2/194)
أقوى منها (1) ، فإن لم يُبّين الفرقُ بين النقدينِ وغيرهما وإلاّ كان انتقاضُها مُبطِلاً لها.
فانتقاضُ العلّةِ يوجبُ بُطلانَها قطعاً إذا لم تَختصَّ صورةُ النقضِ بفرقٍ معنويّ قطعاً، فإن الشارعَ حكيم عادل لا يُفرّقُ بينَ المتماثلين، فلا تكون الصورتَان متماثِلتينِ، ثمَّ يُخالِفُ بين حُكْمَيْهما، بل اختلافُ الحكمينِ دليلٌ على اختلاف الصورتينِ في نفس الأمر. فإن عُلِم أنه فرَّقَ بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعلَم بمجيء الفرقِ. وإن عُلِمَ أنه سَوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما. وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يَجُز أن يُجمَع ويُسوَّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك (2) .
وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قِسْ للقَضَاءِ ما استقامَ
__________
(1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/471: الأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا.
والمنازع يقولْ جواز هذا استحسان. وهو نقيض للعلة. ويقولْ إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه. وتخصيص العلة الذي قد سمي استحساناً إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص بمعنًى يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع والأحاديث، وإلاّ كانت العلة فاسدة.
(2) انظر كلام المؤلف في معنى القياس الصحيح والقياس الفاسد مع ذكر الأمثلة لهما في: مجموع الفتاوى 19/285- 288.(2/195)
القياسُ، فإذا فَسَدَ فَاسْتَحْسِنْ" (1) . فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمرُ بحصولِ مفاسِدَ تَمنعُ القياس./
وأحمد قال بالاستحسان لأجْلِ الفارقِ بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيصِ العلَّةِ للفارقِ المُؤثر، وهذا حق. وأنكرَ الاستحسان إذا خُصتِ العلةُ من غيرِ فارقٍ مؤثّرٍ، ولذا قال: "يَدَعُون القياسَ الذي هو حن عندهم للاستحسان "، وهذا أيضًا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو مُنكَرٌ كما أنكروه. فإن هذا الاستحسان وما عُدِل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليلٍ شرعي، بل بالرأي الذي لا يَستنِدُ إلى بيان الله ورسوله وأمرِ الله ورسوله، فهو ليس له وضعُ الشرع أبداً، وقد قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (2) .
وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارعُ على علّتِه، ولا دل
__________
(1) قول إياس هذا في أخبار القضاة لوكيع 1/341 والعدّة لأبي يعلى 5/1606 والتمهيد للكلوذاني 4/91. ونقحه في هذه المصادر: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا". واياس يُضرب به المثل في الذكاء والفطنة، كان قاضيا على البصرة. توفى سنة 0122 انظر ترجمته في أنساب الأشراف للبلاذري 11/337- 351. وهو الذي عناه أبو تمام عندما قال:
إقدامُ عمرٍ وفي سماحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ اياسِ
(2) سورة الشورى: 21.(2/196)
لفظ الشرعِ على عمومِ المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبةٍ أو لمشابهةٍ ظنها مناطَ الحكم، ثمَّ خصَّ من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً فِي عمله بالنصّ. لكن مجيء النصِّ بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليستْ علّةً تامة قطعاً، فإنّ العلةَ التّامّةَ لا تَقبلُ الانتقاضَ. فإن لم يعلم أن مورد النص مختصّ بمعنًى يوجبُ الفرقَ لم يَطمئنَّ قلبُه إلى أنّ ذلك المعنى هو العلَّةُ، بل يجوز أن تكونَ العلةُ معنًى آخرَ، أو أن يكون ذلك المعنى بعضَ العلَّةِ، وحينئذٍ (1) فلا يفترقُ الحكم من جميعِ مواردِ ما ظنَّهُ علةً.
وإن كان مورد الاستحسان هو أيضًا معنًى ظنه مناسباً أو مشابهاً فإنّه يَحْتاجُ حينئذٍ إلى أن يثبت ذلك بالأدلَّةِ الدالةِ على تأثير ذلك الوصفِ، فلا يكون قد تركَ القياسَ إلاّ لقياسٍ أقوَى منه، لاختصاصِ صورة الاستحسان بما يوجب الفرقَ بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرجُ عن نصٍّ أو قياسٍ.
وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به فإنما هو عُدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرقَ. وحينئذٍ فلا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ.
وهذا هو الصواب، كما قد بسطناهُ في مصنَّفٍ مفردٍ، بمناسبة
__________
(1) تكررت هذه الكلمة في الأصل.(2/197)
أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً (1) . وعلى هذا فصُوَرُ الاستحسان المعدولِ بها عن سَنَنِ القياس يُقاسُ عليها عند أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا عُرِف المعنى الذي لأجله ثبتَ الحكم فيها.
وذكروا عن أصحاب أبي حنيفةَ أنه لا يُقاس عليها (2) ، وهو من جنس تخصيصِ العلَّة والاستحسان، فإنّ مَن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارقٍ معنوي قال: المعدولُ به عن سَنَنِ القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يُقاسُ عليه، لأنَّ من شرطِ القياس وجودَ العلَّةِ وتفرِيْقَها. ومن قاسَ قال: بل لا يكون إلاّ لفارقٍ،/فإذا عَرفناهُ قِسْنَا.
قال القاضي (3) وغيره: مسألة: المخصوصُ من جملة القياسِ
__________
(1) يشير المؤلف هنا إلى "رسالة في معنى القياس"، وقد نشرت في مجموعة الرسائل الكبرى بالقاهرة 1323، ثم في مجموعة بعنوان "القياس في الشرع الإسلامي" بالقاهرة 1346، ثم في "مجموع الفتاوى" (الرياض) 20/504- 584. وعنوانها كما في العقود الدرية (ص45، ط. القاهرة 1356) : "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس". وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 1/383- 401 ثم 2/3- 38 معظم هذه الرسالة مع التعليق عليها في مواضع، وأفاد بأنه هو الذي سال شيخ الإسلام في هذا الموضوع، فأجاب عليه بهذه الرسالة.
(2) انظر نحوه في مجموع الفتاوى 20/555، 556 حيث ذكر المذهبين، وبين وجهة نظر الجمهور.
(3) في العدّة 4/1397- 1401. وانظر: التمهيد 3/444- 449=(2/198)
يُقاسُ عليه ويُقاسُ على غيره، أمّا القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن منصور (1) : "إذا نَذَرَ أن يذبحَ نفسَه يَفْدِيْ نفسَه بذبحِ كَبْش"، فقَاسَ مَن نَذَر ذَبْحَ نفسِه على مَن نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِه، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبتَ بقولِ ابن عباس (2) .
وأما قياسُه على غيرِه فإن أحمدَ قال في رواية المزُوذي: يجوز شِرَى أرضِ السوادِ، ولا يجوز بيعُها، فقيل: كيفَ تُشتَرَى ممن لا يَمْلِكُ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابةَ رخصوا في شِرَى المصاحفِ دونَ بَيْعِها. وهذا يُشْبِه ذاك.
قال: فقد قاسَ مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال الشافعي.
وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يُقاسُ (3) على غيره ولا يُقاس [غيرُه] (4) عليه، إلاّ أن تكون عِلتُه منصوصة أو مُجْمَعاَ على جواز القياس عليه (5) .
__________
= والواضح 1/145 أ.
(1) هو إسحاق بن منصور الكَوْسَج.
(2) أخرج عبد الرزاق في المصنف 8/460 والبيهقي في السنن الكبرى 15/73 عن ابن عباس أنه أمر من نذر ذبح ولده بذبح كبشٍ. وانظر: المحلى 8/354 والمغني 8/709 وتفسير القرطبي 15/107، 111.
(3) أي المخصوص من جملة القياس، كما في العدّة.
(4) الزيادة من العدّة ليستقيم السياق.
(5) هذا رأي الكرخي منهم، وهناك آراء أخرى لهم مذكورة في كتب الأصول، انظر: أصول السرخسي 2/153 وكشف الأسرار 3/312=(2/199)
فالمنصوصُ كقوله: "إنها من الطوافِينَ عليكم والطوافاتِ " (1) . والمجمعُ عليه كالتحالف في الإجارة قياساً على التحالف في البيع، لاتفاقِ مَن أوجبَ التحالفَ في البيع أن حكمهما سواء (2) . والممنوع مثل قياس الجنازةِ على الصلاةِ في الإسقاطِ بالقهقهة (3) ، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل (4) ، والوضوء بنبيذِ التَمرِ لا يُقاسُ عليه غيرُه من الأنبذةِ، وجواز البناء على صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أَمْنَى بالاحتلام ونحوه (5) .
واحتجّ أصحاب الشافعي وأحمد بحُجَج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال (6) : وأيضاً فإنَّا إذا قِسْنَا على المخصوص، أو (7) قِسْنَا
__________
= وشرح مسلم الثبوت 2/251.
(1) أخرجه مالك في الموطأ 1/23، ومن طريقه: أحمد 5/303 وأبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي 1/55 وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (154) وابن حبان (121- موارد) والحاكم في المستدرك 1/159، 160.
(2) انظر: أصول الجصاص 122 والتمهيد 3/555.
(3) انظر: أصول السرخسي 2/153.
(4) انظر: فتح القدير لابن الهمام 1/335 وحاشية ابن عابدين 2/414.
(5) انظر: أصول الجصاص 120 وفتح القدير 1/377. وهذا كله كلام القاضي أبي يعلى في العدّة.
(6) العدة 4/1402.
(7) كذا في الأصل بزيادة "أو"، ولا توجد في العدة.(2/200)
المخصوصَ على غيرِه، وحملنا النبيذَ على غيرِه من المائعات، والقَهقهةَ على الكلام، فإن مخالفَنا يعترف بصحة القياس، وأنّه يجب حملُ النبيذِ على غيرِه من المائعاتِ والقهقهة على الكلام، ويدَعي أنه استَحسنَ تركَه لما هو أولى منه (1) .
قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين:
أحدهما: أنه يلزمُه أن يُبين الأولى، وإلاّ حكمُ القياسِ متوجهٌ عليه. وهذا كما لو قال: القرآنُ يدكُ على كذا، ولكن تركتُه للسنةِ، فتكون حُجةُ القرآنِ لازمةَ له ما لم يُبين السنةَ التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجردُ الدعوى.
والثاني: أنه يدَعي أنَ الاستحسانَ أقوى من القياسِ، فلهذا تركه. والقياسُ إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم. كما لو عارضَه نمنُ كتاب أو سنَّةِ أو إجماع. ولمّا حُكِم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون مَا عارضَه أقوى منه ومانعاً من استعماله (2) .
قلت: مضمونُ هذا إبطالُ أن يكون هذا مخصوصاً من جملة القياس، وقياسه على سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسانَ إذا خالفَ القياسَ لَزِمَ بُطلانُ الاستحسانِ إن كان القياس صحيحاً، أو بطلانُ القياس إن كان الاستحسان المعارِضُ
__________
(1) انظر: أصول الجصاص 120 وأصول السرخسي 2/153.
(2) هنا ينتهي كلام أبي يعلى.(2/201)
له صحيحاً. وهذا لا يتوجهُ فيمن يقول بالاستحسان، وجَعلَ معارضةَ الاستحسانِ للعفَةِ كمعارضتِه لحكمها، وهذا قولُ نُفاةِ الاستحسان مطلقاً.
والتحقيقُ في ذلك أنه إذا تعارضَ القياسُ والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرقٌ، وإلاّ لَزِمَ بطلانُ أحدِهما، وهو مسألةُ تخصيصِ العلَّة بعَشها. فإن لم يكن بين الصورة المخصوصة وغيرِها فرقٌ لَزِمَ التسوية، وحينئذ فإمَّا أن تكون العلَّةُ باطلةً، وإمّا أن يكون تخصيصُ تلك الصورةِ باطلاً.
وهذا هو الصواب في هذا كُفَه، وهو الذي يُنكرِه الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنَّهم لا يأتون بفرقٍ مؤثّرٍ بينهما، كما لم يأتوا بفَرْقٍ مؤثّرٍ بين نبيذِ التَّمر وغيرِه من المائعاتِ، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما يشترطون فيه الطهارة./
وذكروا أدلةً أخرى جيّدة، كقولهم- واللفظ للقاضي (1) -:
وأيضاً فإن ما وردَ به الأثَرُ قد صارَ أصلًا بنفسِه، فوجبَ القياسُ عليه كسائر الأصول (2) . وليس ردِّ هذا الأصلِ لمخالفةِ تلك الأصولِ له بأولَى من رَذَ تلك الأصول لمخالفةِ هذا الأصل، فوجبَ إعمالُ كلِّ
__________
(1) في العدة 4/1403.
(2) انظر إعلام الموقعين 2/311 حيث قرره ابن القيم ونقل فيه عن شيخ الإسلام. وحاول الحنفية الجواب عنه. انظر: أصول الجصاص 123.(2/202)
واحدٍ منهما في مقتضاه، وإجراؤُه على عمومِه. وأيضا فإنّ القياسَ يَجرِي مَجْرَى خبرِ الواحدِ، بدليلِ أن كلَّ واحدٍ منهما يثبُتُ بغالب الظن. ثمَ ثبتَ أنه يَصِحُّ أن يَرِدَ مخالفاً لقياسِ الأصولِ، كذلك اَلقياسُ مثلُه (1) .
قلتُ: ومن هذا الباب جمعُ النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاةَ بعرفةَ ومزدلفةَ (2) ، لو لم يَرِدْ به نصّ في أسفارٍ أُخَر. وأمّا قَصْرُه الصلاةَ بعرفَةَ بأهلِ مكَّةَ وغيرِهم فليسَ مخالفاً لعادتِه، فإنّه مازالَ يَقْصُر في السفَر، بل هو بيان استواء السَّفَر الطويل والقصير في ذلك (3) . فأمَّا منعُ قَصْرِ المكّيّين فهو مخالفٌ للسنة الثابتةِ بلا ريب (4) . وإنما خالفَ ذلك مَن
__________
(1) هنا انتهى كلام أبي يعلى.
(2) ورد ذكر الجمع بهما في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (1218) وغيره، وورد ذكر الجمع بعرفة في حديث ابن عمر عند البخاري (1662) ، والجمع بمزدلفة في حديث أبي أيوب الأنصاري عند البخاري (1674) ومسلم (1287) وحديث أسامة بن زيد عند البخاري (1672) ومسلم (1280) وحديث ابن عمر عند البخاري (1673) .
(3) هذا ما قرّره المؤلف في مواضع أخرى من كتبه وفتاواه (انظر: مجموع الفتاوى 24/34- 35، 12- 13، 15) ، وذكره العلماء من اختياراته. (العقود الدرية 212 وذيل طبقات الحنابلة 2/405) .
(4) قال المؤلف في منسكه (مجموع الفتاوى 26/130) : "ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا خلفاؤُه أحداً من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتمّوا صلاتكم فإنا قوم سفر. ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ". ونحوه في مجموع الفتاوى 24/10، 11 و20/361، 362.(2/203)
غَفَل عن هذه السنة. وأمّا قَصْر غير المكيين فلأنَ القصرَ ليسَ من خصائص الحج ولا متعلقاً به. وإنما هو متعلق بالسفَر طَرداً وعَكْساً.
وكلامهم في هذه المسألة تقتضيْ أن ما قيل فيه إنَه خالفَ القياسَ في صور الاستحسان فلا بد أن يكون قياسُه فاسداً، أو أن يكون تخصيصُه بالاستحسانِ فاسداً، إذا لم يكن هناك فَرْق مُؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب.
قالوا (1) : واحتجَّ المخالفُ بأن إثباتَ الشيء لا يَصحُّ مع وجودِ ما يُنافِيْه، فلما كان القياسُ مانعاً مما وردَ به الأثرُ لم يَجُزْ لنا استعمالُ القياسِ فيه، لأنه لو جازَ ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصولِ التي يُمنَع قياسُها منه. فكانَ يَخرجُ حينئذٍ من كوبه مخصوصاً من جملةِ القياسِ.
قالوا: والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنّا لا نُسلمُ أن هاهنا ما يُنافِيْه، لأنّ المنافاةَ تكون بدليلٍ خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل.
والثاني: أن المنافاةَ إنّما تَحصُلُ بقياسِه على غيرِه في إسقاطِ حكم النص، فأمّا قياسُ غيرِه عليه فلا يُنَافيْه، لأنه لا يُسْقِطُ حُكْمَ النصِّ عندهم، فيصح القياسُ عليه (2) .
__________
(1) الكلام لأبي يعلى في العدّة 4/1408.
(2) انتهى كلام أبي يعلى.(2/204)
قلتُ: هذا الثاني جواب عن قياسِ غيرِه عليه، والأولُ جواب عن قياسِه على غيرِه، ومُنِع لكونه مخصوصاً من جملة القياس.
والتحقيق أنه وإن كان مخصوصاً من جملةِ القياسِ فهو مخصوص من قياسٍ معينٍ، لا من كُل قياسٍ، وإنما يُخَص لمعنًى فيه يُوجبُ الفرقَ بينَه وبينَ غيرِه. فإذا قِيْسَ عليه غيرُه بذلك المعنى لم ينافِ ذلك كونَه مخصوصا من ذلك القياس الأول.
وحقيقة هذا كُفه أنَه قد يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارقٍ مؤثّر، وبمنع القياس على المخصوص، يثبِت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر.
وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأكثرون، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وهم تارةً يُنكرون صحةَ القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان (1) الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحةَ الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كِلاَ الحجتينِ (2) ضعيفة، وإنكار هذا كثير في كلام هؤلاء./
__________
(1) في الأصل: "الإحسان" وهو سبق قلم.
(2) كذا في الأصل "كلا" بالتذكير.(2/205)
فصل
وقد تدبَّرتُ عامَّةَ هذه المواضع التي يدَعي من يدَعي فيها من الناسِ أنّها تَثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أنّ العلّة الشرعية الصحيحة خُضَتْ بلا فرقٍ شرعي من فواتِ شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرقٍ شرعي، فوجدتُ الأمر بخلاف ذلك، كما قاله أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضًا، فيخصُّ ما يجعله علةً بلا فارقٍ مؤثّر، كما أنه قد يقيس بلا علّة مؤثّرة.
فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلّية المطّردة المنعكسة، وبيان أن الشريعةَ ليس فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافُه إلاّ تناقضاً، فإنّ القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلَين والفرق بين المختلفَين، والجمع بين الأشياء فيما جمع الله ورسولُه بينها فيه، والفرق بينهما فيما فرَّق الله ورسوله بينها فيه.
والقياس هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطاً للحكم، وذلك المعنى قد يكون لفظ شرعي عام (1) أيضًا، فيكون الحكم ثابتاً بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بيّنَّا
__________
(1) كذا في الأصل الكلمات الثلاث بالرفع.(2/206)
في غير هذا الموضع (1) أن الأحكام كلَّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظُه تناولتْ جميعَ الأحكام، والأحكام كلّها معلَّلةٌ بالمعاني المؤثرة، فمعانِيْه أيضًا متناولة لجميع الأحكام. لكن قد يفهمُ المعنى من لِم يَعرفِ اللفظَ العامّ، وقد يَعرِف اللفظ العائمَ ودلالتَه مَن لم يَفهم العلّةَ العامةَ. وكثيراً ما يَغلَطُ من يظنّه قال لفظاً ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، كما يَغْلَط من ينفي لفظاً قاله، وكما يَغْلَطُ من يظنّه اعتبر معنًى لم يعتبره، أو ألغَى معنًى وقد اعتبره، ونحو ذلك.
ولنأتينَ بما يذكر العلماء أنه استحسانٌ على خلاف القياس:
فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه قد ذكر عنه روايتين (2) كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدكُ عليه أكثر نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس
__________
(1) انظر "قاعدة في شمول النصوص للأحكام "، ومجموع الفتاوى 19/280 وما بعدها، فقد ذكر أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاَ آخر يوافق النص. ومن كان متبحّرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة.
(2) كذا في الأصل منصوباً.(2/207)
صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جُمِعَ بغير دليلٍ شرعي وفُرقَ بغير دليلٍ شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح.
أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يَجِدَ الماءَ أو يُحدِثَ" (1) فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم (2) ، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة.
وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظاً ومعنًى. فإن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيدُ الطيبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ " (3) ، وقوله: "جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجداً وطَهوراً" (4) ونحو ذلك، ألفاظ
__________
(1) انظر: ص 173. قال ابن قدامة في المغني 1/263: المذهب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ودخوله ... فلا يجوز أن يصلي به صلاتين في وقتين، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس والشعبي والنخعي وقتادة ... ثم نقل رواية الميموني. وعللها بقوله: لأنها طهارة تبيح الصلاة، فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء.
(2) انظر: كتاب الأصل لمحمد 1/121 ومختصر القدوري 5 والمحلى 2/128 وحلية العلماء1/205 وفتح القدير لابن الهمام 1/95.
(3) أخرجه أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي 1/171 وأحمد 5/146، 147، 155، 180 من حديث أبي ذر. وصححه الترمذي وابن حبان (126- موارد) والحاكم في المستدرك 1/176، 177.
(4) أخرجه البخاري (335، 438) ومسلم (521) عن جابر.(2/208)
دالة على أن التراب طَهور كالماء./والقراَنُ يدلُّ على أنّه طَهور بقوله لمّا ذكر التيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (1) . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاةٍ تمسكوا بآثار رُوِيتْ عن بعض الصحابة، هي ضعيفة (2) ، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يَرفعُ الحدثَ، وإنما هو مُبِيْحٌ، فيُبِيحُ بقَدْرِ الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قَدَرَ على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجددِ حَدَثٍ. واحتجوا بقوله لعمرو بن العاص: "أصليتَ بأصحابك وأنتَ جُنُبٌ؟ " (3) .
__________
(1) سورة المائدة.: 6.
(2) أخرجها الدارقطني 1/184. 185 عن عمرو بن العاص وعلي وابن عمر وابن عباس، وتكلم عليها العظيم آبادي في تعليقه. وأخرج بعضها عبد الرزاق 1/214- 216 وابن أبي شيبة 1/160 والبيهقي في السنن الكبرى 1/221.
(3) أخرجه أحمد 4/203، 204 وأبو داود (334) وابن حبان (202- موارد) والدارقطني 1/178 والحاكم في المستدرك 1/177 عن عمرو بن العاص. ولفظه عند أبي داود: قال: احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ " فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعتُ الله يقول: (وَلَا تقْتُلواْ أَنفُسَكُم إنً اَللهَ كاَنَ بِكُم رَحِيمَا (29)) . فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقل شيئاً. والحديث ذكره البخاري 1/454 تعليقاً، وقواه الحافظ في الفتح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/181.(2/209)
وجوابُ هذا (1) أن قولهم "لا يَرْفَعُ بل يُبيح " كلائم لا حقيقةَ له، ولو صحَّ لم يكن لهم فيه حجة، فإنّ الحدثَ ليسَ هو أمراً محسوساً كطهارة الجُنُب، بل هو أمر معنويٌّ يَمنعُ الصلاةَ، فمتى كانت الصلاةُ جائزةً، بل واجبةً معه امتنع أن يكون هنا مانعٌ من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعاً.
وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمُّم.
فالمانع (2) الذي لا يمنع ليس بمانع.
فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء.
قيل: هو حينئذ! يُوجِدُ المانعَ.
فإن قالوا كيف يعودُ المانعُ من غير تجدُّدِ حَدَثٍ؟
قيل: كما عاد الحاظِرُ من غير تجدُّد حَدَب، فالحاظِرُ للصلاة هو المانعُ، والمبيحُ لها هو الرافعُ لهذا المانع.
فإن قيل: أباحَها إلى حِيْنِ القدرةِ على استعمال الماء.
قيل: وأزالَ المانعَ إلى حينِ القدرة، فكما يقال: أباح إباحةً موقَّتةً، يقال: إنه رفعَ رَفْعاً موقَّتاً.
وإن قالوا: نحن لا نَقبلُ إلاّ ما يَرْفَع مطلقاً كالماء.
__________
(1) انظر مناقشة المؤلف لهذه الأدلة بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 21/354- 361، 435- 438.
(2) هذا جواب الشرط.(2/210)
قيل: ولا نَقبلُ إلاّ ما يُبيح مطلقاً كالماء. وأيضاً فالله ورسولُه قد سمَّاه (1) طَهوراً، وجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَهورَ المسلم ما لم يَجدِ الماءَ، وجعلَ تُربةَ الأرضِ طَهوراً. والطَّهُور ما يُتطهَّرُ به، وقد قاَل تعالى: (وَإِن كنُتُم جُنُبَا فَاَطًهَرُواْ" (2) . والتيمُّم قد يُطَهِّر، ومع الطهارة لا يبقَى حَدَثٌ، فإنّ الطهارةَ مناقضة للحدث، إذ غايتُه أن تكون نجاسةً معنويّةً، والطهارةُ تُناقِضُ النجاسةَ.
فإن (3) قيل: الصلاة بالتيمُّمِ رخصة كأكْلِ الميتةِ في المَخْمَصَةِ، والرخصةُ استباحةُ المحظور مع قيام الحاظر ومَنْعِ المانع، فلو بقي مانعاً لم تَجُزِ الصلاةُ. فَعُلِمَ زوالُ المانعِ.
ولا يجوز أن يقال هنا: إنه استباحَ الصلاةَ مع قيامِ الحاظِرِ لها، فإنَّ كونَ الحاظرِ حاظراً زائل من الميتةِ لمعارضٍ راجحٍ، وذلك أن المعنى المقتضِي للحَظْرِ القائم بالميتةِ موجود حالَ المخمصةِ، كما هو موجودٌ في حال القدرة، فإَنّ الميتةَ في نفسها لم تتغَيَّرْ، وإنما تغيَّرَ حال الإنسانِ، كان غنيًّا عنها، ثمَّ صار محتاجاً إليها (4) . فهذا
__________
(1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد، وكان المؤلف كتب أولاً "فالله قد سماه "، ثم أضاف "ورسوله"، ولم يغير الفعل.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) من هنا يبدأ الاستدراك الطويل في الهامش، ويستمر إلى هوامش الصفحة السابقة (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ) . وسنشير إلى الموضعين فيما بعد.
(4) ذهبت بعض الكلمات من ركن الورقة هنا، ولا يمكن استعادتها.(2/211)
يُمكن دعواه في الميتةِ، ولا يُمكن دعواه هنا، لأنه لا ٍتحصلُ له إلاّ الميتةُ، وقد تغيٍرَ حالُه إليها، وحاجتُه تدفع الفسادَ الحاصلَ بأكلها، ٍفكذلك التيمم.
قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صَادَ ميتةَ وأكلَ، والميتةُ لم تتغيرْ، لكن تَغيَّرَ حالُ الآكل، وهنا ليس إلاّ المُحدِث الذي كانتِ الصلاةُ محرَّمةً عليه، ثمَ صارت واجبةً عليه أو جائزةَ بالتيمم، فلو لم يَتغيَّرْ حالُه بالتيمم لما جازتْ صلاتُه، وليس هنا إلاّ الحدث في الشرعِ، فأُبيْحَتْ (1) له الصلاةُ في حالٍ، وحُرِّمَتْ عليه في حالي، مع تسميتِه في حالِ الإباحةِ مُتطهراً، وجَعْلِ التراب طَهوراً كما جُعِلَ الماءُ طهوراً.
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: "أصَلَّيْتَ بأصحابكَ وأنتَ جُنُبٌ؟ " استفهامٌ (2) ، فسَألَه: أكانَ ذلك أم لم يكن؟ وليسَ هو خبراً أنه صفَى وهو جنبٌ، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البَرْدِ تبيَّنَ أنه لم يكن جُنُباَ، فأقَره النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإلاّ فلو كانَ المرادُ الخبرَ وهو قد صَفَى مع الجنابة صلاةً جائزةً لم يسألْهُ. وإن كانت الجنابةُ مانعةً من الصلاة مطلقاً لم يَقْبَلْ عُذْرَه. وهو لم يَقُلْ: "أصَلَّيْتَ وأنتَ (3) جُنُبٌ بلا تيمُّمٍ " ليكون قد استفهمه عن حال التحريم، بل أطلق الصلاةَ مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارةً، ولا يجوز أخرى،
__________
(1) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 ب) .
(2) نحو هذا الكلام عند المؤلف في مجموع الفتاوى 21/404- 405.
(3) من هنا انتقل الكلام إلى هامش الصفحة السابقة (330 أ) .(2/212)
وكلام الرسول يقتضي منعَها مع الجنابة مطلقاً، وأن هذا استفهامُ إنكارٍ، وأنه لما بئنَ أنه تيممَ تَبينَ أنه لم يكن جُنُباً، فلا إنكارَ عليه بهذا أبداً، والله أعلم (1) .
فقد تبينَ هنا أن القياسَ هو الصحيح، دون الاستحسانِ الذي يُناقِضُه، وتخصيص العلَّة، وهو كونُ هذا بدلاً طَهوراً مُبيحاً يقوم مقامَ الماء عند تَعذُرِه في جميع أحكامِه، ثُمَ يُخَص بعضُ الأحكامِ من حكم البدليةِ والطهوريّهِ والإباحةِ، والبدلُ يقوم مقامَ المبدلِ في حكمه لا في صورته، والحكمُ جوازُ الصلاةِ به ما لم يجدِ الماء أو يُحدِثْ. فذلك القول مخالفٌ للقياس وتخصيصٌ للعلةِ بلا ريبٍ، والعفَة صحيحةٌ بلا ريبٍ.
ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيصٌ بدونِ فارقٍ مُؤَثرٍ أفاد شيئين: أحدهما: أنه إذا ثبت أنها علةٌ صحيحةٌ لم يَجُزْ تخصيصُها مثل هذا الموضع.
والثاني: أنه إذا ثبتَ تخصيصُها عُلِمَ بُطلانُها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع قياسٌ صحيح واستحسان صحيحٌ إلاّ مع الفارقِ المؤثر في الشرع.
وأما قوله في المضارب (2) : إذا خالف فاشترى غيرَ ما أمرَ به
__________
(1) هنا انتهى الكلام الطويل الذي كان في هوامش الصفحات. ثم رجع إلى صفحة (331أ) السطر 18.
(2) انظر: ص 172.(2/213)
صاحبُ المال، فالربحُ لصاحب المال، ولهذا أجرةُ مثلِه، إلاّ أن يكونَ الرِّبْحُ يُحيط بأجرةِ مثلِه فيذهب، قال: وكنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحب المالِ فاستحسنتُ. فهذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً، والقياسُ مُستنبط، والاستحسانُ مستنبط، وهو تخصيصٌ لعلَّةٍ مستنبطةٍ بفرقٍ مستنبطٍ. وأحمد لا يَرُد مثلَ هذا الاستحسانِ، لكن قد تكون العفَتانِ أو إحداهما فاسدةً، كما لا يَرُدُّ تخصيصَ العلَّةِ المنصوصةِ بفرقٍ منصوصٍ./
والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجُعْلٍ، بل هو شريكٌ في الربح، وعملُه له ولصاحبِ المالِ جميعاً، ولهذا كان للعلماءِ فيما يستحقه في المضاربة الفاسدةِ ونحوِ ذلك قولان: هل يستحقُّ قسطَ مثلِه في الربح، أو أجرة مقدَّرةً تكونُ أجرةَ مثلِه (1) ؟ والقول الأول هو الصوابُ قطعاً، وهذا قياسُ مذهب أحمد، فإنّ من أصله أنّ هذه المعاملاتِ مشاركة، لا مؤاجرة بأجرةٍ مَعلومةٍ، والقياس عنده صحتها.
وإنّما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويَقول: القياس يقتضي فسادَها، والمأجور فيها مأجورٌ للحاجة. وبكلِّ حالٍ
__________
(1) انظر: الأم 3/237 والمبسوط 22/40 والمغني 5/65 وحاشية ابن عابدين 4/486. وانظر آثار الصحابة والتابعين في: مصنف عبد الرزاق 8/253 والإشراف لابن المنذر 1/105 والسنن الكبرى للبيهقي 6/111. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 30/85- 86، 91 و 28/84- 85 بنحو هذا الكلام، وصحح ما صححه هنا.(2/214)
فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لربِّ المال، فليس هو بمنزلةِ الغاصب الذي جُعِل عملُه لصاحبِ المالِ كالمتبرِّع، فإنّ هذا إنما قبضَ المالَ ليعملَ فيه بالعِوَضِ، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كونِ المالِ بيده قبَضَه ليعمل فيه بالعوض، ولكن عَمِلَ غيرَ ما أُمِرَ به، فيكون ضامناً لتعدِّيْهِ، ولكن ليس إذا كان ضامناً يكون وجود عمله كعدمه، مع أنّه مأذونٌ له في التجارةِ به في الجملةِ، ليس هو كمن لم يؤذَن له في ذلك.
وهو أيضًا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمرِه كان فُضوليًّا (1) ، فيكون المعقود موقوفاً. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخِرَقِيُّ في مختصره: أنّ بيعَ الفضوليَ وشِرَاهُ ليس باطلاً بل موقوفاً (2) ، فإن باعَ أو اشترى
__________
(1) الفضولي: من يتصرّف في حق الغير بغير إذن شرعي أي بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة. وقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعي في القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، واْحمد في إحدى الروايتين عنه: إلى أن بيعه صحيح إلاّ أنه موقوف على إجازة المالك، وذهب الشافعي في القول الثاني من الجديد واْحمد في الرواية الأخرى عنه: إلى أن البيع باطل. انظر التفصيل: بدائع الصنائع 5/147 وفتح القدير لابن الهمام 5/309 وشرح الخرشي على مختصر خليل 5/18 وروضة الطالبين 3/353 والمجموع 9/259 والمغني 5/253، 254 والإنصاف للمردادي 4/283 وشرح منتهى الإرادات 2/143، 144 وكشاف القناع 3/157، 158 وتفسير القرطبي 7/156.
(2) كذا في الأصل بالنصب على تقدير "يكون".(2/215)
بعينِ المالِ فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمَّة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى له وإلاّ لَزِمَ المشتري (1) .
وأما القاضي وأتباعُه فاختاروا أن تصرفه مُردد (2) إلاّ إذا اشترى في الذمَّة. والذي ذكره الخِرَقي أصحُّ، لكنه قَرَنَ هذه المسألةَ في مواضعَ من مختصرِه بالعاملِ إذا خالفَ كان متصرِّفاً له بغيرِ إذْنِه، فإذا أجازَه وطلبَ نَصِيْبَه من الربْح صارَ مجيزاً له، وصارَ العاملُ مأذوناً له. والعامل إنما عَمِلَ لأجْلِ نَصِيبِه من الربح، فيستحقُّ نَصِيْبَه من الربح.
وقول أحمد: "كنتُ أذهبُ إلى أن الربحَ لصاحبِ المال، ثم استحسنتُ" رجوع منه إلى هذا، وجَعْلُه الربحَ في جميع الصُّوَرِ للمالك يَقتضي أنه يُصَحح تصرف الفضولي إذا أجيْزَ، وإلاّ كان البيعُ باطلاً.
وكذلك الشرَى بعين المال، كما يقوله الشافعيّ ومن نَصَر الرواية الأخرى"، ويكون عليه ضمان ما فوّته من مالِه فقط، ليس للمالك غيرُ هذا، ولا يكون للعامل أيضًا رِبْح، لأنّه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورةُ عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاحِ والطلاقِ وغيرِ ذلك تدلُّ على أنهم كانوا يقولون بوقف المعقود،
__________
(1) انظر كلام المؤلف بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 20/577.
(2) كذا في الأصل، وهو بمعنى "مردود"، فقد ورد الفعل "رَدّد" بمعنى "رَدَّ"(2/216)
لاسيما حيثُ تعذَّرَ استئذانُ المالك (1) .
ولهذا أحمد يقولُ بوقْفِها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعاً للصحابة في ذلك. وإنما ادَّعَى أنها خلافُ القياسِ من لم يَتَفطَنْ لما فيها من وقف المعقود، كما في اللُّقطةِ (2) . وتكلُّمُ السَّلفِ فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليلٌ على صحة التصُّرفِ عندهم إذا أجازه المالك.
وبهذا ظهر ما استحسنَه أحمد ورجعَ إليه أخيراً، لأنَه إذا صارَ بالإجازة كالمأذون له، وهو لم يعمل إلاّ بجُعْلٍ برضا المالك، فلا يجوز منعُه حَقَّه. وهذا بناء على أنَّه إذا تصرَّف ابتداءً فالرِّبْحُ كلُّه للمالك، وهو أحد الأقوالِ في المسألة، وقيل: يتصدَّقانِ به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول الشافعي. وقيل: هما شريكانِ فيه، وهو أصح الأقوالِ، وهو المأثور عن عمر (3) في
__________
(1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/579, 580: "القول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة" ثم ذكر بعضاً منها. وانظر 29/249 ففيه نحو من هذا الكلام.
(2) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 25/588: جاءت السنة في اللقطة أن الملتقط يأخذها بعد التعريف، ويتصرف فيها، ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف.
وانظر نحوه في 29/250.
(3) تكرر في بداية الصفحة القادمة "وهو المأثور عن عمر".(2/217)
المضاربة (1) ،/لأنَّ المالك لمَّا أَذِنَ فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون الربحُ للمالك كالمُبْضِع (2) ، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتَّجَر ليكون الربحَُ له أو بينهما، والمالكُ قد أجازَ بيعَه، ولم يُجزْه ليكون الربحُ كلُّه له، فيكون النماءُ حاصلاً بمالِ هذا وبيع هذا، وَالتصرُّفُ صحيحاً مأذوناً فيه، فيكون الربحُ بينهما. ومن قال: "يتصدَّقانِ به" جَعَلَه كغير المأذونِ فيه، فيكون خَبيثاً، وهو مُتَعَدٍّ، لأنّ الحقّ لهما لا يَعْدُوهما، فإذا أجاز التصرُّفَ جازَ.
وكذلك في جميع تصرُّف الغاصب، لاسِيَّما مَن لم يُعلَم أنَّه غاصبٌ، إذا تصرَّفَ في المغصوب بما أزال اسمَه، كطَحْنِ الحَبِّ ونَسْجِ الثوبِ ونحو ذلك، ففيه ثلاثةَ أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره:
قيل: كلُّ ذلك للمالكِ دون الغاصب، وعليه ضمانُ النقص، كقول الشافعي.
وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بَدَلُه، كقول أبي حنيفة.
وقيل: يُخير المالك بينهما، كقولِ مالك. وهذا أصحُّ (3) ، بناءً
__________
(1) انظر أثر عمر والأقوال المذكورة هنا في مجموع الفتاوى 30/87، 323، 329.
(2) كذا في الأصل. والمُبْضِع في اللغة: المُزَوِّج، من أبضَعَ المرأةَ أي زوَجَها. ولم يظهر لي وجه الشبه هنا.
(3) ذكر المؤلف هذه الأقوال وصحح ما صححه هنا في: مجموع الفتاوى 25/562- 563. وانظر لهذه المسألة: الأم 3/227 والمدونة 4/190 والمبسوط 11/100، 101.(2/218)
على وقفِ التصرُّفاتِ، فإن شاءَ المالك أجازَ تصرُّفَه، وطَالبَه بالنقصِ، كما في العاملِ المخالف، وإن شاءَ طالَبَه بالبَدَلِ لإفسادِه عليه، وبأخْذِه ذلك لأدائه عِوَضَه، فيُخَيَّر على المعاوضة لحقّ المالك.
وإذا رَضِيَ المالكُ به فهل يكون الغاصبُ شريكاً لما في عمله؟ فيه وجهان، والأظهر في الجميع أنَّ أثر عمله له، وكونه ظالماً يَظْهر في تَضمينه له، لا في أن يؤخذَ أثرُ عملِه، فيُعْطَى لغيره بلا عِوَضٍ، فإنَ هذا ظلمٌ له، والواجبُ إزالةُ الظلم بالعدل، لا بظلمٍ آخر، "وَجَزاؤاْ سَيّئَةٍ سَيئةٌ مثلُهَا" (1) لا زيادة عليها.
وأما قوله فيمن غَصَبَ أرضاً فزرعَها: "الزرعُ لرب الأرض، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" (2) ، فهذا قاله بالنصّ كما تقدم، لحديث رافع بن خَدِيْج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النصّ فاسداً إن لم يَدُلَّ نصّ على صحتِه، ويظهر الفارقُ المؤثِّر، وإلاَّ فالقياس إذا خالف النص كان فاسداً. أمّا فسادُ الحكمِ المخالفِ للنص فبالاتّفاق، وفسادُ العلَّة على قولِ الجمهور الذين لا يرون (3) تخصيصَ العلَّة إلاّ بفارقٍ مؤثِّر،
__________
(1) سورة الشورى: 40.
(2) انظر: ص 174. قال في المغني 5/236: "أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس، فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر، لأنه نماء عين ماله، وقد صرح به أحمد". ثم نقل هذه الرواية.
(3) المكتوب في السطر: "من لا يرى"، وكتب فوقه: "الجمهور الذين لا يرون".(2/219)
وهذا نصٌّ قد خالف القياس.
وقولهم: "القياس أن الزرعَ لزارعِه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياسُ (1) أنَّ الزَّرعَ إمّا أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرضِ، لأنَّ الزرعَ في الأرضِ كالحَمْلِ في البطنِ، وإلقاءُ البِذْرِ كإلقاءِ المنيِّ، ولو وَطِيءَ ذكرٌ أنثَى كان الحملُ لمالكِ الأنثى دون مالك الذكَرِ، وهذا اختيار ابنِ عقيل وغيرِه. لكن المنيَّ لا يقوم، بخلافِ الزَّرع، فلهذا جعل له نفقته، فإنّ الزرعَ عامّته في الأرضِ، في ترابها وَمائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامّته في الأمّ، وماء الأب قليل، كما أنّ الحَبَّ قليل./
وكذلك الشجرُ إذا لُقِّحَ أُنْثاه بذكرَ فإنَّ الثمرَ لصاحبِ الأنثى، لا لصاحب اللقاح، والحَبُّ كاللِّقاح.
وقول أحمد: "عليه نفقتُه" يَقتضِي مثلَ البذْر، ويَقتضِي أجرةَ عملِه وعمل فَدَّانِه (2) . فقوله: "ليس هذا شيئاً يوَافق القياسَ" كقوله في العامل المخالف: "ثمَّ استحسنتُ أن يُعْطِيَه الأجرةَ"، فكان قياسُه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له أجرة عمله وعمل فدّانِه، فهو
__________
(1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 29/124: "بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس، وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر، والشجر تبع للنوى. وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة". ثم ذكر نحو ما ذكر هنا.
(2) الفَدَّان هنا بمعنى المحراث.(2/220)
مخالف للقياس في هذه الحجة (1) ، لأنه إنما عَمِلَ ليأخذَ العوضَ، لم يعمل مجاناً كالعاملِ في المضاربة، ولأنّ البذرَ له، فليس غاصباً محضاً.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يُعطَى ما أنفقَ أو أجرةَ مثلِه؟ والنص ورد بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني. فقد يكون قولُه على خلاف القياس من هذا الوجه، وما وردَ به النصُّ قد يكون ما أنفق وأجرة مثله فيه سواء.
وأما شِرَى المصاحف والسواد (2) فإنما فرّق فيهما بين الشَرَى والبيع، لأن العلَّة موجودة في البيع دون الشِّرَى، فإن المشترِيَ راغبٌ في المصحف، معظمٌ له، باذلٌ فيه مالَه، والبائع معتاضٌ عنه بالمال، والشرعُ يُفرقُ بين هذا وهذاَ (3) ، كما فَرقَ في إعطاءِ المؤلفةِ
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "من هذه الجهة".
(2) انظر: ص 173- 174.
(3) عند الشافعية بيع المصحف وشراره مكروه، وقول آخر لهم وهو رواية عن أحمد: أنه يكره البيع بلا حاجة دون الشراء، قال ابن قدامة في المغني 4/263 بعدما ذكر الخلاف: "لنا قول الصحابة رضوان الله عليهم، ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فتجب صيانته عن البيع والابتذال. وأما الشراء فهو أسهل، لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه، فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها ممن لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك أرض السواد ونحوها". وانظر أيضًا: الإنصاف 4/279 والشرح الكبير بذيل المغني 4/12 وكشاف القناع 3/155.(2/221)
قلوبُهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداءِ الأسيرِ وغيرِ ذلك. ومعلومٌ أنه لو أعطاه المصحفَ والأرضَ الخراجيةَ بلا عِوَضٍ جازَ، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز تملكُه كالخمر وغيرِها، فإذا بَذَلَ له هذا فيه العوضَ لم تكن مضرتُه إلاّ على البائع.
فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب مُعلَّمٌ إلاّ بثمنٍ فينبغي أن يجوز بذلُه، وإن لم يَجُزْ أخذُه.
قيل: إن لم يكن بينهما فرق مُؤثِّرٌ في الشرع فهكذا (1) هو، وإن قيل هناك: يجبُ عليه إعطاءُ الكلب بلا عوضٍ , بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن الثابت عن الصحابةِ كراهةُ بيع المصحف، وابن عباسٍ كان يكرهُه (2) ، وكان أيضًا يُجوِّزُه ويقول: إنّما هو مصوّر, وله أجرة تصويره (3) . فدلَّ على أنَّها كراهة تنزيه. ورُوِيَ عن غيرِه: وَدِدْتُ أنّ الأيديَ تُقطَعُ في بيع المصاحف (4) ، وهذا تغليظُ تحريم. ولهذا اختلفتِ الروايةُ عن أحمد: هل هو نهيُ تنزيهٍ أو تحريمٍ.
وأما شِرَاه ومبادلتُه فهل هو مباحٌ أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباسٍ يجوز أن يبيعَه ويشتريَ بثمنِه مصحفاً آخر، وليس
__________
(1) في الأصل: "مهاكدى".
(2) أخرجه عبد الرزاق 8/112 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16.
(3) لم أجده في المصدرين السابقين.
(4) روي ذلك عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق 8/112، 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/16.(2/222)
في المبادلة والشِّرَى استبدال به عَرَضاً من الدنيا، فالأظهرُ جوازُ ذلك بلا كراهة (1) ، وأنَ البيعَ أيضًا لا يحرم، بل يُكْرَه تعظيماً لكتاب الله، إذْ ليس على التحريم دليل شرعي.
وكذلك الأرض الخراجية ليس في مَنْع بيعها دليل شرعيّ أصلاً (2) ، فإنّ الذين منعوها من الفقهاء قالوا: إنهَا وقفٌ، وبيعُ الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يَبطُلُ حق أهل الوقف ببيعهِ، وهو الذي لا يُورثُ ولا يُوهَبُ، والأرضُ الخراجيةُ تُورَثُ وتُوهَبُ، والوقف الذي لا يُباع لا يُورَث ولا يُوهَبُ، وذلك أن المشتري لها يقوم مقامَ البائع، لا يُبطِلُ حَق أهلِ الوقفِ./
__________
(1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى 31/212، 213: "أما إبداله فيجوز عنده في إحدى الروايتين عنه من غير كراهة، ولكن ظاهر مذهبه أنه إذا بيع واشتُرِيَ بثمنه فإن هذا من جنس الإبدال، إذ فيه مقصوده، فإن هذا فيه صرف نفعه إلى نظير المستحق إذا تعذر صرفه إلى عينه ".
(2) تكلم المؤلف في موضوع بيع الأرض الخراجية ورذَ على من منع منه لأنها وقف، وفصّل القول فيه بنحو ما هنا في: مجموع الفتاوى 29/206-209, 28/288, 589و31/230, 231و17/488, 489. وهو يقصد به أبا يعلى الذي نقل في الأحكام السلطانية 189- 190 منع بيعها عن أحمد على أنها وقف. أما التفريق بين بيعها وشرائها فقد قال ابن قدامة في المغني 1/720: "وإنما رخص في الشراء - والله أعلم- لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض، فيقوم فيها مقام من كانت في يده، والبيع اْخذ عوضٍ عما لا يملكه ولا يستحقه، فلا يجوز". وانظر: الأموال لأبي عبيد 110 وما بعدها، والخراج لأبي يوسف 28 وما بعدها.(2/223)
وأحمد في ظاهر مذهبه يُجوزُ بيعَ المكاتَب لهذا المعنى (1) ، لان ذلك لا يُبطِل حقَّه من الكتابة، بل يكونُ عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يُورَثُ بالاتفاق. ولكن لمّا انعقد فيه سببُ الحريةِ تخيلَ مَن مَنَعَ بيعَه أنه يُباعُ حر، كما تخيل أولئك أنه يباعُ وقف، وليس الأمرُ كما تخيلُوه، بل بيعُ الحز هو أن يُسْتَعْبَدَ فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيعُ الوقف هو أن يُجعلَ طَلْقا ويُصْرَفَ فعلُه إلى غيرِ مستحقَيْه.
والأرضُ الخراجيةُ فعلُها هو فعلُها لم يتغيرْ، وهو الخراجٍ المضروب عليها، سواءً كان ضريبةً كخراجِ عمر، أو صَارَ مقاسمة كما فعلَه متأخرو الخلفاء بأرضِ السوادِ وغيرِها، كما فعلَه المنصورُ. فعلى التقديرين حق المسلمين باقٍ، كما يَبْقَى مع الموتِ والهبةِ.
والصحابة الذين كرهوا شِرَاها إنما كرهوه لدخول المسلمِ في خراج أهل الذمةِ، أو إبطالِ حقّ المسلمين به، فإن المشتريَ إنْ أدّى الخراجَ - وهو جزيةِّ- فقد التزمَ الصغار، وإن لم يؤدِّه أبطلَ حق المسلمين، فلذا كرهَ ذلك عمر وغيرهُ من الصحابة، وهم نَهَوا عن الشرَى.
وأما البيعُ فإنما كان يبيعُها أهلُ الذمّةِ، لأنّ الأرضَ الخراجية
__________
(1) انظر: المغني 9/490. وانظر هذه المسألة في: مصنف عبد الرزاق 8/424 والأمّ 7/394 والمحلى 9/232 وتفسير القرطبي 12/250 والسنن الكبرى 10/336- 340 والإشراف لابن المنذر 1/339 ومختصر اختلاف العلماء للجصاص 4/428 وفتح الباري 5/194- 196.(2/224)
إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضًا لئلا يَشتغلَ المسلمون بالفلاحة والصغار عن الجهاد. فلمّا كثر المسلمون، وصارَ أكثرُهم غيرَ مجاهدين، وصار أداؤُهم الخراجَ أنفعَ لعمومِ المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يَصِرْ في ذلك من الصغار ما كان يكونُ في أول الإسلام إلاّ لمن يشتغل بعمارة الأرضِ عن الجهاد. وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِكَة فقال: "ما دَخَلَتْ هذه دارَ قويم إلاّ دَخلَها الذُّلُّ ". رواه البخاري (1) . مع أن الأنصار كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، وهذا لا يختصُّ بالخراجية.
وأما ما ذكره القاضي من قبولِ شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر (2) ، فلا ريبَ أن الفرقَ هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان
__________
(1) برقم (2321) من حديث أبي أمامة الباهلي. ولفظه: "لا يَدخلُ هذا بيتَ قومِ إلاّ أدخله الذل". والسكّة هي الحديدة التي تُحرَث بها الأرض.
(2) انظر ما مضى ص 175. والمسألة في المغني 9/182- 184 وفيه: "ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة، فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه". والآية في سورة المائدة: 106، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: فجل العلماء يتأولونها في أهل الذمة، ويرونها محكمة، وقال مالك وأهل الحجاز: هي منسوخة، وناسخها قوله تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] ، قالوا: ولا يكون أهل الشرك عدولاً=(2/225)
وتخصيص العلَّة التي ظهر فيها الفرقُ، والمنعُ من شهادتهم على المسلمين ثبتَ بالنصِّ، والإذنُ فيها هنا ثبتَ بالنصِّ أيضًا للحاجة. وهل يُعدَّى هذا إلى جميع مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان (1) ، بناءً على أنّ العلَّة معلومةٌ، وهي موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجهُ القولِ بالجواز.
وأمَّا وجهُ المنع فإمّا أن نقولَ: لم نَعلم العلةَ وإنّها مشتركة، أو علمنا اختصاصَها بهذه الصورة للضرورة العامَّة فيها. هذا إذا ثبتَ عمومُ المنع في غير هذه الصورة، إمّا لفظاً وإمّا معنًى. وألفاظ القرآن لا عمومَ فيها بالمنع، وكذلك السنّةُ ليس فيها لفظ عامّ بالمنع. لم يَبْقَ إلاّ القياس، وتلك المواضع أُمِرَ فيها بإشهاد المسلمين، ومعلومٌ أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا واجب في الوصية في السفر. وأمّا إذا تعذَّر إشهادُهما على الذَين في السفر أو على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب والسنّة منعٌ من إشهاد أهل الذمّة عند تعذُّرِ إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياسٌ يخالف هذه الآية، وقد عمل بها
__________
= أبداً ولا ممن تُرضَى شهادته. وقال الشافعي وأصحابه: الآية محكمة ولكنها في أهل الإسلام جميعا، ولاحظّ لأهل الذمة فيها. انظر تفصيل القول في ذلك في: الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد 155 وما بعدها، والأمّ 6/127، 128 وأحكام القرآن للشافعي 2/145، 146 والناسخ والمنسوخ للنحاس 133 وتفسير القرطبي 6/346 وفتح الباري 5/412. وانظر كلام المؤلف في مجموع الفتاوى 15/299.
(1) انظر: المغني 9/183، 184.(2/226)
الصحابةُ وجمهورُ التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافِها لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، وقد تأوّلوها ناجزين (1) من غير أصل يُسَلَّم، وقال بعضهم: هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوهِ كثيرة.
وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحالٍ " ليس معهم بذلك لا نصٌّ ولا قياسٌ، ولكنْ كثير من الناس يَغلَطُون لأنهم يجعلون الخاصَّ من الشارع عامًّا، والله أمرَ بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظَنَّ مَن ظَنَّ أن هذا يقتضي أنه لا يَشْهَدُ غيرُهم ولو لم يُوجَدْ مسلمٌ.
وبابُ الشهاداتِ مَبْنَاها على الفرق بين خالِ القدرة وحالِ العَجْزِ، ولهذا قُبلَتْ شهادةُ النساءِ فيما لا يَطلعُ عليه الرّجالُ. وقد نصنَ أحمدُ على شَهادتهنّ في الجراحِ وغيرِها إذا اجتمعنَ ولم يكن عندهنَّ رجالٌ، مثل اجتماعهنّ في الحمّامات والأعراسِ ونحوِ ذلك. وهذا هو الصواب (2) ، فإنّه لا نصّ ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادةَ النساءِ في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنّة ما يمنع شهادةَ النساء في العقوباتِ مطلقاً (3) .
__________
(1) قراءة ظنية، وفي الأصل رسمت الكلمة بلا نقاط.
(2) انظر نحو هذا الكلام في مجموع الفتاوى 15/299. وراجع المسألة في: المغني 9/155، 148 وتفسير القرطبي 3/391. 395 وروضة الطالبين 11/254 والمدونة 8/13 والمحلى 9/399.
(3) انظر الآثار الواردة في شهادة النساء في مصنف عبد الرزاق 8/329 وما بعدها.(2/227)
وأما إذا نَذَرَ ذَبْحَ ولدِه أو نفسِه فأحمد اتبعَ ما ثبتَ عن ابن عباس (1) ، وهو مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادراً كان عليه كَبْش، وإن سلف فيه بمالٍ فعليه كفارة يمين. وهذا أصحُ الروايات عن أحمد (2) ، وهو الذي يصرح به في مواضع. وقيل: عليه كفارةُ يمينٍ في الجميع. وقيل: كبْش في الجميع (3) . وقيل: لاشيء عليه (4) . وذلك لأنّ مَن نَذَر نَذْراً فعليه المنذورُ أو بَدَلُه في الشرع، وهنا لما تعذرَ المنذورُ انتقلَ إلى البَدَلِ الشرعي، وهو الكَبْش، كما في نظائرِه، فليس هنا ما يخالف القياس الصحيح (5) .
__________
(1) انظر فيما مضى ص 199، وهناك تخريج الأثر.
(2) انظر: المغني 8/709 وفيه: "هذا قياس المذهب، لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج، وكلاهما يوجب الكفارة، وهو قول ابن عباس ". وقد أخرج عبد الرزاق 8/459 والبيهقي في السنن الكبرى 10/72 أن امرأة سألته عن إنسان نذر أن ينحر ابنه عند الكعبة، فقال: لا ينحر ابنه وليكفر عن يمينه. وانظر المسألة في تفسير القرطبي 15/111، 112.
(3) هو قول أبي حنيفة، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضًا. (المغني 8/709) .
(4) هو قول الشافعي، قال: لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز، ولا تجب به الكفارة. (المغني 8/709) .
(5) تكلم المؤلف على هذه المسألة في مجموع الفتاوى 35/343- 345 وذكر اختلاف الفقهاء وحججهم، ورجح ما رجحه هنا أن عليه ذبحَ كبشِ، وقال: هذا هو الذي يناسب الشريعة، وجعل الافتداء بالكبش اتباعا لقصة إبراهيم، وهو الأنسب.(2/228)
وهذا الباب- بابُ تدبر العموم والخصوص من ألفاظِ الشرع ومعانيه التي هي عِلَلُ الأحكام- هو الأصل الذي تُعْرَف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله.(2/229)
قاعدة في شمول النصوص للأحكام(2/231)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تُحرَّر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم يُنصِفوا أهلَ الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدُّوهم مثل الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته والحاجة إليه، وسَدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحمَّلوهما فوق الحاجة، ووسَّعوهما أكثر مما يسعانِه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانِهم تناقضَ أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلاً وتفصيلا، وذِكْرِ أمثلةِ من تفريقهم بين المتماثلين وجمعِهم بين المختلفين- إلاّ أنهم أخطأوا من وجوه عديدة:
منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته(2/233)
التي يجري النصّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دلَّ عليه النصُّ ولم يفهموا دلالتَه عليه، وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين.
ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجَزْمُهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل. وليس عدم العلم علمًا بالعدم.
أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها وافيةً بالأحكام ولا شاملةً لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تَفي بعُشُر معشار أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع. فوسَّعوا طرق الرأي والقياس، وعلَّقوا الأحكام بأوصافٍ لا يُعلَم أن الشارع علَّقها بها، واستنبطوا عللاً لا يُعلَم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثمّ اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثمَّ اضطربوا فتارةً يقدمون القياس، وتارةً يقدمون النصّ، وتارةً يفرقون بين النصّ المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرِعت على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه:
أحدها: ظنُّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.(2/234)
الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس.
الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافا اعتبرها الشارع.
الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرًا- بين المتماثلين وجمعوا بين المختلفين.
والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يُصدِّق بعضها بعضا، ويشهد بعضُها لبعض.
والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا الله ورسوله على
الرأي، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافيةٌ بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالةُ النصّ أو لا تبلغُ العالمَ فيعدِل إلى القياس، ثمّ قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا.
هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث-(2/235)
وسَط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين مَن نَصَره عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمُّها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/350- 383) ، فنقل معظم مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه المعروف.
وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند الكلام على أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/383) .
وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم فصول الكتاب" (1/355) ، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكلّ من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد.
والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض، فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة المذكورة.
وقد أُفرِد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرُها فيما بعد، وذكره ابن رشيق (1) بعنوان "شمول النصوص في
__________
(1) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 247 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") .(2/236)
الفرائض". ونُشِر مختصر من هذا القسم بحذف كثيرٍ من كلام المؤلف (1) ، وتدلُّ بدايتُه على أنه تكملة لكلام سابق، فقد بدأ بقوله: "والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، ليُستَدَلَّ به على ما سواه ... ".
وقد ظهرتْ نسختان كاملتان للكتاب تحتويان على القسمين، فاعتمدنا عليهما في نشرتنا له كما كتبه المؤلف دون اختصار، عسى الله أن ينفع به القراء والباحثين.
• عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف
ذكر ابن رُشَيِّق (2) وابن عبد الهادي (3) والصفدي (4) وابن شاكر الكتبي (5) هذا الكتاب ضمن مؤلفات شيخ الإسلام بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، ووصفه بعضهم بأنه "مجلد
__________
(1) في "مجموع الفتاوى" (31/338-356) و"تفسير آيات أشكلت" (2/ 491-573) . والثاني أوفى، ومع ذلك فقد سقطت منه نصوص كثيرة في مواضع، كما يظهر ذلك بالمقارنة بينه وبين هذا الكتاب.
(2) "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية": 246 (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") . وقد سقط ذكره من طبعة صلاح الدين المنجد للكتاب الذي نشره منسوبًا إلى ابن القيم، مع أنه موجود في الأصل الذي اعتمد عليه.
(3) "العقود الدرية" ص 45. ونقل نصاًّ من هنا (ص 264) في "اختياراته" (نسخة الظاهرية) .
(4) "الوافي بالوفيات" (7/26) و"أعيان العصر" (1/35 أ) .
(5) "فوات الوفيات" (1/78) .(2/237)
لطيف". وقد تحرَّف هذا العنوان في بعض المصادر (1) إلى "شمول النفوس لأحكام الفقه المنصوص"! ولا يُستفاد منه معنى صحيح ولا سجعٌ مقبول، فلا يُلتَفت إليه. ويكون المعتمد ما ذكره تلاميذ شيخ الإسلام وأصحابه، لكونه موافقًا لبداية النسختين الكاملتين للكتاب.
وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب في "قاعدته في الاستحسان" (ص 206-207) فقال: "وقد بَينَّا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلُّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلُّها معلَّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام". والكتاب الذي بين أيدينا فصَّل فيه الكلام على الموضوع الذي أشار إليه، وقرَّر أنّ الله تعالى بيَّن جميعَ ما أمر به ونهى عنه، وجميع ما أحلَّه وحرَّمه، وبهذا أكمل الدين، ولكن قد يقصر كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، فيقولون: إنّ النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وبمقابل هؤلاء قوم من نفاة القياس نفوا القياس الجليّ الظاهر حتى فرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمة أصلاً، ونفوا تعليل خلقه وأمره، واقتصروا في معرفة الأحكام على مجرد الظواهر، فحيثما فهموا من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه وأثبتوا الأمر على موجب الاستصحاب. ثمَّ بيَّن خطأ الفريقين، وناقشهما مناقشة طويلة، وقرَّر أن السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وأن النصوص
__________
(1) "إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون" (2/58) .(2/238)
شاملة لجميع الأحكام، ولو أُعطِي حقُّها من المعرفة والفهم لدلَّت على جميع الأحكام. ويعتبر القياس دليلاً صحيحًا آخر يوافق دلالة الظاهر والتعليل الصحيح.
وقد تكلم شيخ الإسلام في هذا الموضوع في مواضع أخرى من كتاباته وفتاواه، فذكر في فتوى له (1) أن الناس تنازعوا في ذلك: فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه. وقوم يقدمون القياس تارةً، لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد، وقوم يعارضون بين النص والقياس، ويقدمون النص ويتناقضون. ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فان القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل.
وفي الكتاب الذي بين أيدينا قرر المؤلف أن قياس الجمع والفرق يكون بالأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسله كما أنزل الكتاب، وإذا ثبت أن الكتاب
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (22/331-332) . وذكر في "منهاج السنة" (6/411-412) مذاهب الناس في هذا الباب.(2/239)
والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح. وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدّق بعضه بعضًا (1) .
وقال في موضع آخر (2) : إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضًا، وإن دلّ القياس الصحيح على مثل ما دلّ عليه النص دلالة خفية. فإذا علمنا بأن الرسول لم يُحَرِّم الشيء ولم يُوجِبْه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد.
وذكر في فتوى أخرى (3) في هذا الموضوع أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لمِ يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد. ثم مثّل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنصّ العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلاً آخر
__________
(1) انظر ص 272.
(2) "مجموع الفتاوى" (25/236) .
(3) نشرت في "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/410-415) ، وعنها في "مجموع الفتاوى" (19/280- 289) .(2/240)
يوافق النصّ. ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدلّ على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة.
وردّ في موضع آخر (1) على من يقول إن "الحشيشة" لم يرد فيها آية ولا حديث، وقال: هذا من جهله، فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكلُّ ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلاّ فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص. ثمَّ ذكر أمثلة لهذه الألفاظ وشرح معانيها، منها: "الناس" و"الميسر" و"الأيمان" و"الماء" و"المشركين" و"الذين أوتوا الكتاب"، وقال: هذا وأمثاله نظير عموم القرآن لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص. ولو قُدّر بأن اللفظ لم يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة أُلحِقَ به بطريق الاعتبار والقياس. وقد بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، والكتاب: القرآن، والميزان: العدل، والقياس الصحيح هو من العدل، لأنه لا يفرق بين المتماثلين.
وقد أشار المؤلف إلى هذا المعنى في الكتاب الذي بين أيدينا فقال: "وإذا كان أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلم"، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (34/206-210) .(2/241)
عامة وقضية كلية تجمع أنواعًا وأشخاصًا". ثم مثل لها ببعض الأمثلة (1) .
هذه النصوص المتشابهة التي عرضناها تؤكّد أن الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد فصَّل هنا ما أجمله في مواضع أخرى، ورأيه فيه هو رأيه المعروف في سائر كتاباته، وكلامُه هنا في موضوعات عديدة يُشبه كلامَه في كتبه الأخرى، كما أشرت إلى ذلك في تعليقاتي على الكتاب، فلا حاجة إلى الإعادة. وأذكر على سبيل المثال كلامه في "الاستصحاب" هنا (ص 283-287، 290-295) ، فهو موافق لما ذكره في مواضع أخرى (2) ، كما يظهر ذلك بالمقارنة، وهو هنا أكثر تفصيلا وتوضيحًا.
• وصف النسخ الخطية
وصلت إلينا نسختان كاملتان من الكتاب، وثلاث نسخ ناقصة تحتوي على بيان شمول النصوص في الفرائض وهو القسم التطبيقي للنظرية التي شرحها المؤلف قبله.
أما النسختان الكاملتان فإحداهما في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا برقم [1336] (ق160 ب- 171 أ) ، ليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، وهي مكتوبة بخط مغربي متأخر، لعله من خطوط القرن
__________
(1) ص 275.
(2) "مجموع الفتاوى" (11/342، 13/121-122، 23/15-16، 39/ 166) .(2/242)
الحادي عشر. والنسخة بحجم كبير، وعدد الأسطر في كل صفحة 33 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 16 كلمة. ولعل هذه النسخة أصابها البلل، فانطمست بعض الكلمات في الركن الأعلى من كل ورقة. ويلاحظ في هذه النسخة أن الناسخ كثيرًا ما يكتب جزءًا من الكلمة في آخر السطر وتكملتها في السطر التالي.
انظر مثلا السطر الثاني في أول الكتاب، تجد أنه كتب "موا" في آخر السطر، و"فقة" في السطر التّالي، لتصبح "موافقة"!
والنسخة الثانية ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط برقم [ق 209] (ص 156-178) ، كتبت في رمضان سنة 1001، بخط مغربي أيضًا. وعدد الأسطر في كل صفحة منها 27 سطرًا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة. وهي مرقمة الصفحات.
وبعد دراسة النسختين والمقابلة بينهما ظهر لي أنهما من أصلٍ واحدٍ، فهما تتفقان كثيرًا في التصحيف والتحريف والسقط، وكلتاهما تبدأ بـ "الحمد لله وحده حقَّ حمده. وله رحمه الله تعالى فصل…". وتنتهي بـ "والله سبحانه أعلم". وفي النسختين اضطرابٌ في الترتيب وتداخلٌ في الكلام أدَّيا إلى اختلال المعنى، وسبب ذلك أن أصلهما كان مضطرب الأوراق، فنُسِخت عنه النسختان، وانتقل إليهما هذا الاضطراب الذي يبدأ في النسخة الأولى من السطر التاسع من الورقة (168 ب) بعد قوله "فلما بطل سقوطها وفرضها"، وينتهي بالسطر السابع عشر من الورقة (169 أ)(2/243)
بقوله: "رجل ذكر ... ". وكذا فيما يوافق هذا الموضع من النسخة الثانية. وهذا مما يؤكد أن أصلَ النسختين واحد.
وقد اهتديتُ إلى الترتيب الصحيح لكلام المؤلف بمراجعة النسخ الثلاث الناقصة التي كانت تحتوي على تلك النصوص بسياقها الطبيعي، وهي:
1- نسخة فيسبادن بألمانيا برقم [3968] (ق 141-155) .
2- نسخة دار الكتب المصرية برقم [695] (ق98-109) .
3- نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء برقم [572/86] (ق6-14) .
هذه النسخ الثلاث تتفاوت في الصِّحة، وبعضها أسوأ من بعض، فلا يمكن الاعتماد على واحدةٍ منها، لشيوع التصحيف والتحريف والسقط فيها جميعًا، كما يظهر ذلك بمقابلتها على النسختين المغربيتين. إلاّ أنها أفادت في معرفة الترتيب الصحيح لكلام المؤلف كما ذكرتُ، وترجيح بعض الكلمات الموجودة فيها إذا كان ما في النسختين لا وجهَ له أو مبنيًّا على التحريف الواضح.
وكان منهجي في إثبات النصّ أن أختار من النسختين الكاملتين ما هو أصحّ وأنسب في السياق وأقرب إلى أسلوب المؤلف، وأشير إلى ما يخالفه في التعليق، ولم أذكر جميع الفروق والتحريفات، فلا فائدةَ منها في فهم الكلام، ولا يجوز نسبتها إلى المؤلف، لأن النصّ لم يصل إلينا بخطه.(2/244)
وإذا اطمأننت إلى صحة النص في ضوء النسختين لم ألتفت إلى النسخ الثلاث الباقية، لكثرة التحريف الواقع فيها، ولكن إذا كان النص محرَّفًا وغيرَ مفهوم فيهما رجعتُ إلى بقية النسخ في القسم الذي تحتوي عليه، وأثبت ما هو الصواب أو الراجح في نظري، مع الإشارة إلى ما في النسختين، وقد جعلت نسخة الإسكوريال هي الأصل، ورمزت لها بـ "س"، ولنسخة الخزانة العامة بـ "ع". وأشرت إلى النسخ الثلاث الناقصة بقولي "سائر النسخ" أو "بقية النسخ"، ولم أعتمد على واحدةٍ منها بعينها.
وراجعت كذلك كتاب "إعلام الموقعين" لترجيح بعض الكلمات على غيرها، وقد ذكرت فيما مضى أنه يحتوي على أكثر مباحث الكتاب بالنصّ أو بالمعنى، مع زيادة التوضيح والتمثيل والتعليق. ولكني لم أثقل الهوامش بالنقل عنه، وعلى القراء والباحثين أن يراجعوه عند قراءة هذا الكتاب للمزيد من الشرح والتفصيل والبيان.
وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج هذا الأثر النفيس من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأدعوه أن يجعله نافعًا للعلماء والطلاب، إنه سميع مجيب.
محمد عزير شمس(2/245)
نماذج من النسخ الخطية(2/247)
النص المحقق(2/251)
بسم الله الرحمن الرحيم
(صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليما. الحمد لله وحدَه حقّ حمده.
وله رحمه الله تعالى:) (1)
فصل
في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (2) ، وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (3) . فأخبر أنه أَنزلِ مع رسوله الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسط. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ) دليل على أن الميزان مما جاءت به الرسل، كما ذكر أنه أنزل الكتاب والحكمة، وأنه أوحى القرآن والإيمانَ في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (4) .
__________
(1) كذا في بداية النسختين س، ع. ثم "فصل قال في شمول ... ".
(2) سورة الشورى: 17.
(3) سورة الحديد: 25.
(4) سورة الشورى: 52.(2/253)
وفي الصحيحين (1) عن حذيفة قال: حدَّثنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حديثين، قد رأيتُ أحدَهما، وأنا أنتظر الآخر، حدّثنا أن الأمانةَ تنزل في جذْرِ قلوب الرجال، ثم نزل القرآنُ، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدَّثنا عن رفع الأمانة، قال: "ينامُ الرجلُ النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ الوَكْتِ، ثم ينام النَّومةَ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظَلُّ أثرُها مثلَ المَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَه على رجلِك، فنَفِطَ، فتَراه مُنْتَبِرًا وليس فيه شيءٌ" ... الحديثَ (2) .
والجذر: الأصل، والأمانة: الإيمان. فأخبر أن الله سبحانه أنزل الإيمان في أصل قلوب الرجال، وقد قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الْأَمْثَالَ (17)) إلى قوله (الْأَمْثَالَ (17)) (3) .
وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "مَثَلُ ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل غَيثٍ أصابَ) أرضًا،
__________
(1) ع: "الصحيح". والحديث أخرجه البخاري (6497، 7086) ومسلم (143) . وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه.
(2) فسر البخاري غريبَ الحديث نقلاً عن أبي عبيد قال: قال الأصمعي وأبو عمرو وغيرهما: الجذر: الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء اليسير منه، والمجل: أثر العمل في الكفّ إذا غلظ. وانظر "فتح الباري" (11/
333، 334) .
(3) سورة الرعد: 17.
(4) البخاري (79) ومسلم (2282) .
(5) ع: "أصابت".(2/254)
فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماء فأنبتتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكثيرَ؛ وكانت منها طائفة أَمْسًكتِ الماءَ، فشَرِبتِ الناسُ وسَقَوْا وزَرَعُوا؛ وكانت منها طائفة إنّما هي قِيْعَان، لا تُمسِكُ ماءً (1) ، ولا تُنبِتُ كَلأً. فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في ديِن الله، ونفعَه ما بَعثَني اللهُ به من الهدى والعلم، ومَثَلُ مَن لم يَرْفع بذلك رأسًا، ولم يَقْبَل هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به ".
فضربَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث مثلَ ما جاءَ به بالماء الذي يَنزِلُ على الأرض، وشَبَّه القلوبَ بالأرض، والهدى والعلم الذي أنزله الله تعالى بالماء الذي نزل على الأرض، وجعلَ الناسَ ثلاثة أقسام: قسمًا سمعوا وفقهوا وعلموا، وقسمًا حفظوه وبَلَّغُوا غيرَهم فانتفعوا به، وقسمًا لا هذا ولا هذا.
هذا المثل يُطابق المثلَ الذي في القرآن (2) ، حيثُ شبَّه الله القلوبَ بالأودية التيَ منها كِبار تَسَعُ ماءً كثيرًا، وصغار لا تَسَعُ إلاّ ماءً قليلا، كما أن القلوبَ منها ما (3) تَسَعُ علمًا عظيمًا، ومنها ما لا تَسَعُ إلاّ دُونَ ذلك، وأن الماءَ بمخالطة الأرض يحتمل زبداً رابيًا لا
__________
(1) ع: "الماء".
(2) في الآية التي سبق ذكرها، وهي قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) [سورة الرعد:17] . (وانظر "مجموع الفتاوى" (10/ 766) .
(3) "ما، ساقطة من ع.(2/255)
ينفع، كذلك العلم الذي نزل على القلوب يحتمل من الشهوات والشبهات بسبب مخالطته الأنفس ما يكون كالزبد الذي لا ينفع. وبين أن الزَّبَد الذي يذهبُ جُفَاء فيخفى، وما ينفع الناسَ يمكث في الأرض، كذلك العلم في القلوب ما ينفع الناس.
وقال تعالى: (كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ اَلأَمثَالَ (17)) ، فأخبر أن هذا مثلٌ مضروب. وقال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا) (1) . وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2) .
فبين أنه يُلْهِم المؤمنين (3) الإيمان وما ينفعهم، وذلك إيحاء إليهم وإن لم يكونوا أنبياء.
. وفي الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر".
وفي المسند والترمذي (5) حديث النّواس بن سمعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ضَربَ الله مثلاَ صراطاً مستقيمَاً، وعلى جَنْبَتَي الصراط
__________
(1) سورة المائدة: 111.
(2) سورة القصص: 7.
(3) في النسختين: "أنهم يلهم كذا المؤمنين"، وهو خطأ.
(4) البخاري (3469، 3689) عن أبي هريرة، ومسلم (2398) عن عائشة.
(5) أخرجه أحمد في "المسند" (4/182، 183) والترمذي (2859) وقال: حديث غريب. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/73) وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (1/73) . وفي النسختين تحريف كثير في الحديث لم أشر إليه.(2/256)
سُوْرَان فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مُرْخَاة/ [161/أ] ، وعلى رأس الصراطِ داع يدعو، يقول: يَا أيها الناس! ادخلوا الصراطَ جميعًا ولا تخرجًوا، وداع يدعو من جَوْفِ الصّراطِ، فإذا أراد أحدٌ أن يَفتَح شيئًا من تلك الأبواب قال: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْه، [فإنك إن تفتحه] (1) تَلِجْه ". وفي رواية (2) : "فلا يقع أحدٌ في حدود الله حتى يكشف الستْرَ". قال: والصراط: الإسلام، والسوْرَانِ: حدود الله تعالى، والأبواب المفتَحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي في جوف الصراط: وَاعِظُ الله في قلبِ كلِّ مسلم".
فبيَّن أن في قلب كل مؤمنٍ واعظًا يَعِظُه، والوعظ هو الأمر والنهي، ترغيبٌ وترهيب (3) ، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ) [أي يؤمرون به] (4) (لكان خيراً لهم) (5) . وقال تعالى: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)) (6) أي ينهاهم، وذلك يُسمَّى إلهامًا ووحيًا.
وأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان، وقد قال كثير من السلف:
__________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة من "المسند".
(2) هي الرواية الثانية في "المسند" (4/183) .
(3) انظر نحو هذا الكلام في "مجموع الفتاوى" (20/45) .
(4) ما بين المعكوفتين ساقط من س.
(5) سورة النساء: 66.
(6) سورة النور: 17.(2/257)
الميزان: العدل (1) ، وقال بعضهم: الميزان اسم لما يُوزَن به، والمقصود به العدل، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (2) . فأخبر أن المقصود بإنزال ذلك أن يقوم الناس بالقسط. فدلّ ذلك على أنه أنزل في القلوب من الميزان ما يعلم [به] (3) القسط. ومن ذلك: الاعتبار، وهو اعتبار الشيء بنظيره، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع: هلاّ اعتبرتموها بدية الأسنان؟ (4) يعني إذا كانت ديتها واحدةً مع اختلافِ منافعها، فكذلك الأصابع ديتها واحدة مع اختلاف منافعها، كما أن النفوس مختلفة الفضائل مع (5) أن ديتَها واحدة، إذْ (6) كان جَعْل (7) الديات المقررة بالشرع مختلفةً باختلاف التلف أمرًا (8) لا يقدر البشر على معرفته وضبطه، وما عجزوا عن العلم به سقطَ عنهم الأمر به، كما يسقط فيما يعجزون عن العمل به.
__________
(1) انظر "تفسير القرطبي" (17/260) و"تفسير ابن كثير" (4/337) وغيرهما. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى" (12/249، 35/366) .
(2) سورة الحديد: 25.
(3) ساقطة من النسختين.
(4) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/862) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/90) . وانظر "فتح الباري" (12/226) .
(5) س: "من "تحريف.
(6) س: "إذا".
(7) س: "عقل".
(8) ع: "أمر".(2/258)
ولهذا قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (1) . فبيَّن أنه لا يكلف النفوس (2) إلاّ وسعها، لا يكلّفها من القسط الذي أُمِروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكنُ العبادَ معرفتُه، وإنما كلِّفوا من ذلك ما يُطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المُثْلَى، ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقربَ إلى العدل: الطريقة المُثْلَى، ويقولون: هذا أمثل، كما قاله فرعون: (ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)) (3) .
ولهذا كان ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ (4) على العدل، كما قال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (5) ، وقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (6) ، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم) (7) .
والتماثل المأمور به معتبرٌ (8) بحسب الإمكان، والاجتهادُ في
__________
(1) سورة الأنعام: 152.
(2) س: "أن النفوس".
(3) سورة طه: 63.
(4) "مبناه" ساقطة من ع.
(5) سورة الشورى: 40.
(6) سورة النحل: 126.
(7) سورة البقرة: 194.
(8) س: "معتبرا".(2/259)
معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مُثبِتو القياس ونُفَاتُه، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معيَّنه، ويُسمَّى تحقيق المناط. كَاختلافهم في المظلوم بالضرْب واللَّطْم ونحوِ ذلك (1) ، مما لا (2) يُمكِن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما أقربُ إلى العدل: أن يُقتَص منه، ويُعتَبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان (3) الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) ؛ أو أن يُعزَّر الظالم تعزيرًا يُرَدُّ إلى اجتهاد الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلاّ مع المماثلة.
ونَظَرُ (5) الأول أكمل (6) ، وهم أَتبعُ للكتاب والميزان للنصّ
__________
(1) انظر "إعلام الموقعين" (1/318 وما بعدها) ، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/65- 66) .
(2) "لا" ساقطة من س.
(3) س: "قال".
(4) أخرجه البخاري (6894 ومواضع أخرى) ومسلم (1675) عن أنس.
(5) س: "نظير" تحريف.
(6) انظر كلام المؤلف على هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (11/547- 548، 18/168- 169، 20/564- 565، 28/379- 380، 34/162- 163، 227، 232) .(2/260)
والقياس، لأن المماثلة [من كل] (1) وجهٍ متعذرة، فلو لم يبقَ إلاّ أحدُ أمرينِ: قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛ لأن التعزير لا يُعتَبر فيه جنس الجناية ولا قدرُها، بل قد يُعزره بالسَّوط أو العصا، وتكون إما لَطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعلَه،/ [161/ب] وتَحرِّيْ المماثلة (2) في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقربُ إلى العدل الذي أمر اللهُ به، وأنزل له الكتابَ والميزان.
وكذلك تنازعً العلماءُ في المُتْلَف من المال (3) ، إذا لم يُوجَد مثلُه من كل وجهٍ، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلاّ القيمة بنقد البلد، فيُعطَى المظلومُ الذي فُوتَ عليه حَفُه من الدراهم ما يُقاوَم به ذلك في الشُوق (4) . وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر.
ثمَ مِن هؤلاء مَن طَردَ قياسَه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام، إنما تجب قيمتُه كما لو كان مملوكًا، وقالوا: لا يجوز قَرضُ ذلك، لأن موجب القراض ردّ المثل، وهذا لا مثلَ
__________
(1) ساقطة من النسختين، والاستدراك من "إعلام الموقعين" (1/321) .
(2) "وتحري المماثلة" مطموسة في س. وفي ع: "تجري" تصحيف.
(3) انظر "مجموع الفتاوى" (30/332- 333، 18/169) ، و"إعلام الموقعين" (1/322) .
(4) ع: "ما يقاربه ذلك المسروق"!(2/261)
له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة.
ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النَّعَم (1) ، وهو مثل مُقَيَّد بحسب الإمكان، ليس مثلاً من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة، وفي الظبي (2) شاة.
وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوِّزُون (3) قرض الحيوان أيضًا (4) ، لأن السنة دلَّت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف بَكْرًا، وقضى جَملاً خِيَارًا رَبَاعِيًّا، وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء".
ثمّ (6) من هؤلاء من قال: إن [كان] (7) القرضُ حيوانًا رد قيمته، طردا للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في
__________
(1) قال تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: من الآية95] . وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الضبع بكبش. وانظر، مجموع الفتاوى" (20/352- 353) .
(2) س، ع: "الضبي" تحريف.
(3) س: "لا يجوز" خطأ.
(4) انظر "مجموع الفتاوى" (29/532) و"إعلام الموقعين" (1/322) .
(5) مسلم (1600) من حديث أبي رافع. ورواه أيضًا مالك في "الموطأ" (2/680) وأحمد (6/390) والدارمي (2568) وأبو داود (3346) والترمذي (1318) والنسائي (7/291) وابن ماجه (2285) .
(6) ع: "لكن".
(7) زيادة على النسختين ليستقيم السياق.(2/262)
الغصب والإتلاف بالقيمة، فكذلك (1) في القرض، إذ لا مِثْلَ له. وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلّت عليه السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة.
واختلفت (2) أقوالهم في الغَصْب والإتلاف، فتارةً يقولون:
يضمن بالقيمة، وتارةً يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارةً يقولون: بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. وقد اختلف في ذلك قول (3) مالك والشافعي أيضًا، فقال الشافعي في الجدار المهدوم ظلمًا: يُعادُ مثلُه، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة.
ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلافِ من النصوص إلاّ قولُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) : "من أعتقَ شِركا له في عبدٍ، وكان له من المال ما بلغَ ثمنَ العبد، فقُوِّمَ عليهِ قيمةَ عدلٍ، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وأُعْطِيَ شُركاؤُه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ".
قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجبَ في نصيب الشريك القيمةَ، ولم يُوجِبْ نصفَ عبدٍ، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجبَ نصف عبد.
__________
(1) س، ع: "وكذلك".
(2) س: "واختلف".
(3) س: "يقول".
(4) أخرجه البخاري (2521- 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.(2/263)
وهذا غلطٌ على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمانِ المتلف، بل هو من باب تملك ملك (1) الغير بالقيمة، فإنّ نصيبَ الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه (2) ، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف. والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء (3) دون الشريك. وتنازعوا هل يَسْرِيْ عَقِبَ الإعتاق، أو لا يُعْتَق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل (4) ، كما قد بُسِط في موضعه (5) .
وعلى هذا فإذا أدَّى هل يُعْتَق من حينِ الأداء، أو يتبيّن أنه عتق من حين الإعتاق؟ على قولين.
وعلى هذا يَنْبني لو أعتقَ الشريكُ نصيبَه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقُه، وعلى الآخر لا يجوز.
وعلى هذا يَنْبني إذا قال أحدُهما: إذا أعتقتَ نصيبَك (6) فنصيبي حر، فعلى القول الذي بينا رجحانَه يصحُّ هذا التعليقُ، ويُعْتَقُ
__________
(1) كذا في النسختين، وفي "الإعلام" (1/324) : "ممال".
(2) ع: "يملك".
(3) ع: "ما لو كان".
(4) ع: "في القولين".
(5) انظر "مجموع الفتاوى" (13/231- 232) .
(6) ع: "أعتق نصيبه".(2/264)
نصيبُ الشريكِ المعلقُ من مالِه، وعلى القول الآخر لا يصحُّ التعليقُ، ويُعْتَقُ كفُه من نصيب المعتق إن كان مُوسِرَا، وإن كان المعتق مُعسِرَا صحّ وعَتَقَ عليهما على القولين.
وأيضا فإنه يُفرَّق بين أن يكون المُتْلَفُ (1) عينَا كاملة أو بعضَ عينِ، فإذا كان/ [162أ] ، المتلف (2) بعضَ عينٍ فإنه إن وجب نُظِرَ ذلك الجزءُ، لكن بحسب القيمة إذا طلبها الشريكُ، فإن كان المشتركُ (3) مما ينقسم عنه، وإلّا بيْعَ إذا طلب أحدُهما ذلك، وقسمَ الثمنُ، فلو أتلفَ أحدُ الشريكينَ عينَا مشتركة تُمكِنُ قسمتُها، فالواجب جز مقسوم لا مُشاع إذا طلب أحدُهما ذلك، وإن تراضيا بالشركة وَجَبَ جزءٌ مشترك، وإن كان مما لا تُمكِن قسمتُه فإنما يَجِبُ نصفُ عينٍ إذا تراضيا بذلك، وإلّا وَجَبَ نصفُ القيمة لأجلِ وجوبِ القيمةِ.
والمقصود هنا أن الذين يُوجبون في ضمان المُتْلَفِ القيمةَ ليس معهم أصلٌ يُقِيمون (4) عليه قولًهم، لا كتاب ولا سنَّة، وإنما هو رأي محض، ظَنوا أن المثلَ إنما يكون في القيمة. ثمَ مَن طَردَ منهم قياسَه ظهر تناقضُه (5) للكتاب والسنة، ومن لم يَطْرده ظهر مناقضتُه
__________
(1) ع: "التلف"
(2) ع: "التلف".
(3) "فإن كان المشترك" مطموسة في س.
(4) ع: "يقيسون".
(5) س: "مع تناقضه".(2/265)
ومخالفته لبعض النصوص أيضًا.
وهذا الأصل هو الحكومةُ المذكورة في كتاب الله (1) ، التي حكَمَ فيها داودُ وسليمانُ إذ حَكَما في الحرث الذي نَفَشَتْ فيه غنَمُ القوم، والحرث هو البستان، وقد روي أنه كان بستانَ عنَبٍ الذي يُسمَّى الكَرْمَ، ونَفْشُ الغنمِ إنما يكون بالليل، فقضى سليمانُ بالضمان على أصحابِ الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يَعْمُروا البستانَ حتى يعودَ كما كان. وأما مُغَلُّه مِن حِيْنِ الإتلافِ إلى حينِ الكمالِ فأعْطَى أصحاب البستان ماشيةَ أولئك، ليأخذوا من نمائِها بقدر نماءِ البستانِ، وقد اعتبرَ النَّماءَيْنِ فوجدهما سواءً. كما أن داود لمّا حكمَ لأصحاب البستانِ بالغنم نفسِها قد اعتبر قيمتَها، فوجدَها بقدر ما أُتْلِف (2) من البسمتان، ولم يكن لهم مالٌ غيرُها، وقد رَضُوْا بأخذِها ما لم يُطالبوا بدراهم، أو تعذَّر بيعُها بدراهم.
وقد تنازع علماءُ المسلمين في مثلِ هذه القضية على أربعة
__________
(1) قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء: 78- 79] . وقد تكلم المؤلف على قصة داود وسليمان هذه في "مجموع الفتاوى" (20/ 305- 306، 563- 564، 30/333) .
(2) ع: "قيمة التلف".(2/266)
أقوال (1) :
فمنهم مَن حَكَم بمثلِ حُكم (2) سليمان عليه السلام في النَفْشِ وفي المثل، وهذا هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذُكِر (3) ذلك وجهًا في مذهب الشافعي ومالك.
والثاني: موافقتُه في النَّفْشِ دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد.
والثالث: بالعكس، وهو موافقتُه في المثل دونَ النَّفْشِ، وهو قولُ من قاله من أهل الظاهر كداود وغيره.
والرابع: أن النفْشَ لا يُوجِبُ الضمانَ، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة، وهو مذهب أبي حنيفة.
وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحةِ أصلِه، فإنهم متفقون على ما دلَّ عليه القرآن من أن جزاءَ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها، وأن المعاقبةَ تكون بالمثل، وأنّ من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى (4) . فما كانت المماثلةُ فيه ظاهرةً لم يتنازعوا فيه،
__________
(1) انظر "إعلام الموقعين" (1/326) .
(2) "حكم" ساقطة من س.
(3) ع: "ويذكر".
(4) قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40] , وقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل: 126] ، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] .(2/267)
كما لو أتْلَفَ مَكِيلاً أو موزونًا متماثلَ الأجزاءِ، كالدرهم والحِنْطة ونحو ذلك، فإن الواجبَ هنا المِثْلُ إذا أمكن. وكذلك يجبُ في القرضِ مِثْلُ ذلك.
وكذلك لم يتنازعوا فيما ظَهرتْ فيه المماثلةُ في القصاص، كما لو قَطَعَ عُنُقَه بالسيف، فاتفقوا على أنه يُقْطَعُ عنقُه بالسيف.
ولكن تنازعوا فيما إذا قتلَه بالجرحِ في غيرِ العنقِ، أو بغير القتلِ كالتحريق والتغريق (1) : هل يُفْعَل به كما فَعَل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في (2) إحدى الروايات-؛ أو لا قَوَدَ إلاّ بالحديد في العُنُق- كقول أبي حنيفة واْحمد في إحدى الروايات-؛ أو يُفرق بين الجرح المُزْهِق وغير المُزْهق- كالرواية الثالثة عن أحمد-؛ أو بين المُزْهق وما كان مُوجبًا للقَوَدِ بنفسِه كقطع اليد، وبين ما ليس من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟
فهذا من اجتهاد العلماء في (3) تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا على اعتبارِه، متى (4) تعذرتِ المماثلةُ المطلقةُ من كل وجه. والذي يدكُ عليه النصُّ والاعتبار الصحيحُ هو القول الأول، وهو أن يُفعَل به كما فَعَلَ، فإن ماتَ بذلك، وإلّا قُتِل، فإن النبي
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (18/168, 20/351-352, 28/314, 381) ، و"إعلام الموقعين" (1/327) .
(2) "في" ساقطة من س.
(3) "في" ساقطة من س.
(4) س: "حتى" تحريف.(2/268)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ برَضْخِ رأسِ اليهوديِّ الذي رَضَخَ رأس الجارية، لما اعترفَ بأنه قتلَها (1) ، وكان/ [162ب] هذا قَتْلاً بالقصاصِ لا بِنَقْضِ العَهْدِ، إذْ لو قَتَلَه بمجرد نقضِ العهد- كما يُقْتَل الحربيُّ الأسِيْرُ- لقَتَلَه في العنق. وأيضًا فالعدلُ في أن يُفْعَلَ به كما فَعَلَ أقربُ من أن تُضْرَبَ عنقُه بالسيف، مع كونه حَرَّقَ الأولَ، أو قَطَعَ أربعتَه، أو مَثلً به.
وقد أباحَ اللهُ أن نُمَثلِّ بمن مَثَلَ بنا، وإن كانت المُثْلَةُ بدون ذلك منهيًّا عنها بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (2) ، فدلَّ على أن التمثيلَ بجَدْعِ الأنفِ والأذنِ هو من العقوبة بالمثل.
وإذا قِل: هذا يُفضِي إلى أن يُؤخذ أكثر.
قيل: وما ذكرتم يُفضِي غالبًا إلى (3) أن يُؤخَذَ أنْقَص من الواجب. وهذا أقربُ إلى المماثلة، فإنه يكون تارةً أكثرَ، وتارةً يكون أنقصَ، ولكن هذا أقرب إلى العدل من الذي يكون دائمًا أنقص.
وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيُفضي إلى جرحه مرتين.
__________
(1) أخرجه البخاري (6876، 6884 ومواضع أخرى) ومسلم (1672) عن أنس بن مالك.
(2) سورة النحل: 126.
(3) "إلى" ساقطة من س.(2/269)
قيل: لو ضربه في العنق فلم يَمُتْ (1) ، كان له أن يضربه ثانيةً بالاتفاق، وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقربُ إلى العدل.
والمقصودُ بهذا أن ننبه على أن الناسَ يتنازعون في التماثل الواجب، حيث اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهادَ في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثلُ في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازعُ الناسِ في كثير من القياس لا يَمنعُ أن يكونَ أصل القياسِ- الذي يُقاس فيه الشيءُ بمثلِه وضدِّه- قياسًا صحيحًا، فاعتبارُه بمثله يُوجِب قياسَ الطَرْدِ الذي يُوجِب التسويةَ بينهما، واعتبارُه بضده يُوجب قياسَ العكس الذي يوجب تَضَاد حكمهما.
كما إذا اعتبرنا دم السمكِ الذي (2) تُباح ميتتُه بدمِ ما لا تُباح ميتتُه، فقلنا: يجب أن نفرَق بين الدمين، لأن ذلك لا يُبَاحُ إلاّ بسَفْحِ دَمِه، وهذا يُبَاحُ بدون سَفْحِ دَمِه، فدل على افتراقِ حكم الدميْنِ.
وكذلك الوتر لما ثبتَ بالسنة الصحيحة أنه يُصفَى على الراحلة (3) ، ثبتَ بذاك الفرقُ بينَه وبينَ الواجباتِ التي لا يجوز فعلُها على الراحلة، فعُلِم أنه مُفارِق لها لا مماثل لها.
والطَرْدُ هو قياسُ الجمع، والعكسُ هو الفَرْقُ، والجمع والفرقُ
__________
(1) س: "يرجه"، والمثبت من ع.
(2) س: "التي".
(3) أخرجه البخاري (999، 1000 ومواضع أخرى) ومسلم (700) عن ابن عمر.(2/270)
يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيُجْمَعُ بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمعُ والفرقُ بالأوصافِ المعتبرةِ في حكم الله ورسوله. فهذا كفُه من الميزان الذي أنزلَه (1) الله مع رسوله (2) ، كما أنزلَ اللهُ الكتابَ.
__________
(1) س: "أنزلها".
(2) ع: "رسله".(2/271)
فصل
وإذا تبيَّن أن الكتاب والميزان مُنْزَلاَن، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض الميزان (1) ، ولا يتناقض الكتابُ والميزانُ، فلا تَتناقَضُ دلالةُ النصوص الصحيحة لا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النص الصحيح والقياس الصحيح، وإنما يكون التناقضُ بين الحق الصحيح واالباطلِ الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح الذي كلُه حقّ فلا يتناقض، بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع (2) .
والمقصود هنا أن نقول: النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ، فقد بيَّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميعَ ما أمر الله به وجميعَ ما نهَى عنه، وجميعَ ما أحلَّه وجميعَ ما حرَّمَه، وبهذا أكملَ الدينَ، حيث قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3) . ولكن قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ، والناسُ
__________
(1) كذا في النسختين. وفي "إعلام الموقعين" (1/331) : "وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه". وهو أوضح في الدلالة على المقصود.
(2) أشرتُ إليها في المقدمة ص 239.
(3) سورة المائدة: 3.(2/272)
متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: (فَفَهَّمنَاها سليمان) (1) ، ولو كان الفهم متماثلاً لما خصَّ به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليك" (2) .
وفي الحديث الصحيح (3) عن علي رضي الله عنه: "إلاّ فهمًا يُؤتيْهِ اللهُ عبدًا في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (4) وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلَمَنا برسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي الصحيح (5)
__________
(1) سورة الأنبياء: 78.
(2) كذا في س، ع. وفي عامة المصادر: "فافهم إذا أدلي إليك". أخرجه وكيع في" أخبار القضاة" (1/70، 283) والدارقطني في "السنن" (4/207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/65، 10/115، 119، 135، 253) وابن حزم في "المحلى" (9/ 393) و"الإحكام في أصول الأحكام" (7/146) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/200) وابن عبد البر في "الاستذكار" (22/30) من طرق عن سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي قال: أخرج إلينا. سعيد بن أبي بردة كتابًا، فقال: "هذا كتاب عمر إلى أبي موسى. قال الألباني في "الإرواء" (8/241) : قوله "هذا كتاب عمر" وجادة، وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات، وهي حجة. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المحلّى" (1/60) ، وقواه شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (6/71) . وله طرق أخرى ذكرها الألباني وتكلم عليها. وشرحه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/86 إلى 2/165) .
(3) أخرجه البخاري (111، 6903، 6915 ومواضع أخرى) . ورواه أيضًا أحمد (1/79) والدارمي (2361) والنسائي (8/23) والترمذي (1412) وابن ماجه (2658) .
أخرجه البخاري (466، 3654، 3904) ومسلم (2382) .
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" (1/266، 314، 328، 335) عن=(2/273)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لابن عباسٍ رضي الله عنه فقال: "اللهم فَقَهْه في الدين وعَلمْه التأويلَ".
لكن الناس صاروا هنا ثلاثةَ أقسام (1) :
(1) قوم من مُثبِتَةِ القياس قالوا: إن النصوص لا تُحيط بأحكام الحوادث، وغَلاَ منهم من قال: ولا بعُشُرِ مِعْشارِ الحوادث (2) ، وقال بعضهم: إن النصوصَ متناهية، وحَوادث العبادِ غير متناهية، وإحاطة/ [163أ] المتناهي (3) بغير المتناهي ممتنع (4) .
وهذا خطأ (5) ، لأن ما يتناهَى لا يَمتنعُ أن يُجْعَلَ أنواعًا،
__________
= سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث بنحوه مختصرًا عند البخاري (143 ومواضع أخرى) ومسلم (2477) عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس.
(1) انظر "إعلام الموقعين" (1/333) .
(2) قال الجويني في "البرهان" (2/768) : "إن تسعة أعشار الفتاوى والأقضية صادرة عن الرأى المحض والاستنباط، ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر". وانظر ما قاله في (2/764، 1166) .
(3) س: "المتناهية".
(4) قال الشهرستاني في "الملل والنحل" (1/199) : "تعلم قطعاً ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد، ونعلم قطعَا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نصٌ، ولا يتصور ذلك أيضًا.
والنصوص إذا كانت متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون في كل حادثة اجتهاد".
(5) انظر "المسودة": 374، و"إعلام الموقعين" (1/333) ، و"مختصر" ابن اللحام: 151، و"شرح الكوكب المنير" (4/224) .(2/274)
فيُحْكَمَ (1) لكل نوع منه بحكيم، والأفرادُ التي لا تَتناهى تدخلُ تحت (2) تلك الأنواع. هذا إن قُذَر وجودُ ذلك، مع أن أنواعَ الأفعالِ بل والأعراض كلها متناهية، ولو قُذَر أنها لا تتناهى فأفعالُ العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية. وهذا كما يُجْعَلُ الأقاربُ نوعينِ: نوعَا مباحًا، وهن بناتُ العمَ والعمَّةِ وبنات الخالِ والخالة، وما سوى ذلك حرامٌ. وكذلك يُجعَل ما يَنقُض الوضوءَ محصورًا (3) ، وما سوى ذلك لا يَنقُض الوضوءَ. وكذلك ما يُفسِد الصومَ محصورًا (4) ، وما سوى ذلك لا يُفسِدُه، وأمثال ذلك.
وإذا كان (5) أهلُ المذاهب جعلوا لهم قواعدَ (6) يضبِطون بها ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ، فاللهُ ورسولُه أقدرُ على ذلك، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُعِثتُ بجوامع الكلمِ" (7) ، فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامةٌ وقضيةَ كلّيةٌ تَجمع أنواعَا وأشخاصَا (8) ، كقوله لما سُئِل عن أنواع الأشربة كالبِتع والمِزْرِ، وكان قد أُوتيَ جوامعَ
__________
(1) س: "أنواعه محيطة"، والتصويب من ع.
(2) س: "تحته"، وهو خطأ.
(3) في النسختين: "محظورا"، والتصويب من إعلام الموقعين.
(4) في النسختين: "محظورا" كالسابق.
(5) س: "ولذلك كانوا"، ع: "ولذلك كان". والتصويب من إعلام الموقعين.
(6) ع: "لأهل المذاهب جداول لهم وقواعد".
(7) أخرجه البخاري (2977، 7013، 7273) ومسلم (523) عن أبي هريرة.
(8) انظر "مجموع الفتاوى" (19/280 وما بعدها) .(2/275)
الكلم، فقال: "كل مُسكرِ حرام " (1) .
والكتاب والسنة مَلَانُ (2) من هذا (3) ، كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (4) ، وقوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (5) ، وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (6) ، إلى غير ذلك من النصوص.
(2) وقومٌ من نُفاةِ القياس نَفَوا القياسَ الجليَّ الظاهر، حتّى فَرَّقوا بين المتماثلين، وزعموا أنّ الشارعَ لم يَشرع شيئَا لحكمةِ أصلاَ، ونَفَوا تعليلَ خلقِه وأمرِه، فقالوا: إنه لا يَخلُق ولا يأمُر لحكمة ولا لنفعِ عبادِه.
وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفةٌ من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وخالفوا القدريةَ في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات القدر، وبَينُوا تناقضَ المعتزلة النفاةِ للقدر، فقد رَدُّوا أيضًا من الحق المعلوم بالشرع والعقل ما (7) صاروا به
__________
(1) أخرجه البخاري (4343، 4344 ومواضع أخرى) ومسلم (1733 وبعد رقم 2001) عن أبي موسى الأشعري.
(2) كذا في س، ع. ولعله "مليئان".
(3) انظر أمثلة من هذا في "مجموع الفتاوى" (19/281- 285، 34/207- 209) و"إعلام الموقعين" (1/333- 335) .
(4) سورة المائدة: 90.
(5) سورة التحريم: 2.
(6) سورة الشورى: 2.
(7) س: "مما".(2/276)
ممن رَدَّ بدعةً ببدعةٍ، وقابلوا الفاسدَ بالفاسدِ، فإنهم أنكروا حكمةَ الله تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمتَه في خلقه وأمره.
وأصلُ قَولهم هو قولُ جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع (1) ، فإنّ القدريةَ من المعتزلة ونحوهم والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضًا بيِّنًا، والسنّة وَسَط، ليست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
وهؤلاء صاروا في القياس نوعين:
قوم (2) اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن عِلَلَ الشرع إنما هي مجرد (3) أماراتٍ محضة وعلاماتٍ، كما قالوا ذلك في سائَر الأسباب، فقالوا: إنّ الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من (4) الخلق والأمر مقترنًا بعضُه ببعضٍ، قالوا: أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقترانِ والعادةِ الموجودةِ في خَلْقِه وأمرِه، لا (5) لأنّ أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجهٍ من الوجوه (6) .
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (8/466 وما بعدها، 16/130- 133) .
(2) س: "قوما".
(3) س: "مجردات".
(4) في النسختين: "في"، والتصويب من إعلام الموقعين (1/336) .
(5) "لا" ساقطة من س.
(6) انظر "مجموع الفتاوى" (8/485- 486) .(2/277)
وأما الفقهاء المعتبرون وسلفُ الأمة وأئمتُها وجمهورُها وجمهورُ متكلميها فعلى خلاف [هذا] (1) القولِ، وإثباتِ الحكمة والرحمة في خلقِه وأمرِه، وإثباتِ لامِ كَيْ في خلقِه وأمرِه، كما دَلَّ على ذلك الكتابُ والسنةُ مع المعقول الصريح، فاتفق على ذلك الكتابُ والميزانُ والسلفُ والفقهاءُ. وجمهورُ الأئمة وأكثرُ طوائفِ الكلام يُنكِرون (2) قولَ المعتزلة المكذبين بالقدر، وقولَ هؤلاء الجهمية المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية.
وعامةُ البدع الحادثة بالمعقول الفاسد (3) في أصول الدين هي من قول هاتين الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمتَه ورحمتَه، والقدرية أنكروا قدرتَه ومشيئتَه، فأولئك أثبتوا له نوعَا من الملك بلا حَمْدِ، وهؤلاء أثبتوا له [نوعًا] (4) من الحمد بلا ملك. والصوابُ ما عليه سلفُ الأمة وأئمتها وأهلُ السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163ب] له الملك وله الحمد، بل له كمالُ الملك وله كمالُ الحمد.
وكلتا (5) الطائفتين ناظرتِ الفلاسفةَ الدهريةَ في خَلْقِ الرب
__________
(1) زيادة على النسختين ليستقيم السياق.
(2) س، ع: "منكرون".
(3) ع: "بالعقول الفاسدة".
(4) الزيادة من "إعلام الموقعين" (1/336) .
(5) س: "كلا".(2/278)
وأفعالِه وأقوالِه وحدوثِ العالم مناظرةً فاسدةً، تنبني (1) على مقدِّماتٍ مخالفةٍ للشرع والعقل، وهم يَظُنون أنهم يوافقون الشرعَ والعقلَ، فلا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا (2) ، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببًا لضلال طوائفَ ممن وافقَهم وممّن خالفَهم، فإنّ المخالفَ لهم من الفلاسفةِ استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى المسلمين، وظَنَّ أنّ ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتبُ المصنفةُ في الكلام إنما يُذكرَ فيها قولُهم وقول الفلاسفة، ويُجعَل قولُهم هو قول المسلمين، لم يأتِ فيه كتاب ولا سنةٌ، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين.
ولهذا عَظُمَتِ الفتنةُ بالكتب (3) المصنَّفةِ في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمرُ بالأفاضلِ من أهلها (4) إلى الحيرة والشك (5) ، إذْ (6) كان فيها من الأمور الإلهية مما يخالف المعقول الصريحَ والمنقول الصحيحَ ما يُوجبُ الحيرةَ والشك لمن لم يَعرِف الهدى إلاّ منها، كما أصاب ذلكَ كثيرًا من رؤساءِ النظار في الكلام المحدَثِ
__________
(1) ع: "منهما" بدل "تنبني".
(2) س: "به كسروا". والمؤلف يستخدم هذا الأسلوب كثيرًا، انظر "مجموع الفتاوى" (5/33، 544، 13/157) .
(3) ع: "في الكتب".
(4) ع: "من الخلف".
(5) انظر "مجموع الفتاوى" (4/72- 73، 5/10- 11) و"درء تعارض العقل والنقل" (1/159- 160) .
(6) س: "إذا".(2/279)
والفلسفةِ، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهلِ أصول الفقه ما دخل، فتجدُ الواحدَ منهم إذا بحثَ في الفقه بحثَ فيه (1) بفطرتِه وإسلامه، مُعلِّلاً للأحكام بالعِلَلِ المناسبة، ذاكرًا أنّ اللهَ أَمَرَ بكذا لكذا، وخلقَ كذا لكذا، وفي موضع آخر يُنكِرُ هذا ويقول: لا يخلق ولا يأمر لِعِلةِ، واللام في ذلك لامُ العاقبة لا لامُ كَيْ.
فهذا قولُ من أثبت القياسَ من نُفاةِ الحكمةِ والتعليلِ في خَلْقِه وأمرِه.
وأما من نَفَى القياسَ فقولُه أشبهُ بهذا الأصلِ، فإنه إذا لم يأمر لحِكمةِ (2) فلا معنى لتعليلِ أمرِه ونهيِه، لكن مُثبتةَ القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمةَ اقترنتْ (3) بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق، فقالوا: كما جرتْ عادةُ الله تعالى في خلقِه، فَخَلَقَ الشِّبَع عَقِبَ الأكل، والرِّيَّ عَقِبَ الشُّرب، والاحتراقَ عقبَ الإحراقِ، ونحو ذلك، وإن لم يكن خَلَقَ هذا لهَذا ولا لهذا، ولا جعلَ سبحانَه أحدَ هذين علَّةً للآخر عندهم.
قالوا: فهكذا أمرُه، أمَرَ بقطِع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قُطِعَ السارقُ حُفِظتَ الأموالُ، فاقترن هذا بهذا عادةَ، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا. فالمصلحة عندهم توجد عند
__________
(1) س: "في".
(2) س:"بحكمة".
(3) س: "اقتربت".(2/280)
هذه الأسباب، لأنها والأفعال تَقتَرِنُ بها المصلحةُ عادةً، وإن لم تكن أسبابَا وعِلَلاَ لها عندهم.
. فهذا قولهم، وهو (1) موجود في أقوال كثيرٍ (2) من المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بن أنس والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مُبتَدعة مخالِفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماعِ السلف، والعقلِ الصريح، كما قد بُسِط (3) في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن نفاةَ القياسِ لمّا سدوا على أنفسهم بابَ التمثيل والتعليل -وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام إلى مجرد الظواهر، [و] (4) صاروا معتصمين (5) بالظاهر والاستصحاب، فحيثُ فهموا (6) من النصّ حكمًا أثبتوه، وحيثُ لم يفهموه نَفَوه، وأثبتوا الأمرَ على موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تَفِيْ بجميع الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكملَ الدين، وأغنى الناسَ عما سوى الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردِّهم ما
__________
(1) ع: "وهذا".
(2) س: "كثيرة".
(3) ع: "قد بيناه".
(4) زيادة على النسختين ليستقيم السياق.
(5) ع: "متصرفين".
(6) ع: "لم يثبتوه".(2/281)
رَدُّوْهُ (1) من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجُهٍ (2) :
أحدها: ردّ القياس الصحيح.
والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكمٍ دلَّ عليه النصُّ، فلم يفهموا دلالتَه عليه، فكانوا مقصِّرين في فهم الكتاب لما قصَّروا في معرفة الميزان.
والثالث: جَزْمُهمْ بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدمُ العلمِ ليس علمًا بالعَدَم.
وكذا تنازعَ الناسُ في استصحاب حال البراءة الأصلية (3) ، فقالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة: يَصلُح للدفع لا للإبقاء، أي يَصِحُّ أن يُدفَع به مَن/ [164 أ] ، ادّعَى تغييرَ الحال، لإبقاءِ الأمر على ما كان، فإذا لم نَجِدْ دليلاً ناقلاً أمسكنا، لا نُثبت الحكم ولا ننفيه، بل (4) ندفع من يثبِته (5) . فيكون حالَُ المتمسكِ بالاستصحاب حالَ المعترضِ مع المستدل
__________
(1) س: "ردوهم".
(2) انظر "إعلام الموقعين" (1/338 وما بعدها) ، وفيه زيادة وجه رابع.
(3) انظر "مجموع الفتاوى، (23/25) ، و"المسودة" ص 488، و"إعلام الموقعين" (1/339) ، و"المستصفى" (1/222) ، و"المحصول" (2: 3/ 225 وما بعدها) ، و"الإحكام" للآمدي (4/129) وغيرها من كتب الأصول.
(4) "ولا ننفيه بل" مطموسة في س.
(5) ع: "يدفعه".(2/282)
يمنعُه (1) الدلالةَ حتى يثبِتَها، لا [أنه] (2) يُقيم (3) دليلًا مناقضًا له.
وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه يَصْلُح لإبقاءِ الأمرِ على ما كان عليه، فإنه إذا غَلَبَ على الظن انتفاءُ الناقل غَلَبَ على الظنّ بقاءُ الأمرِ على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاثُ (4) مسالك:
أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو الأضحية أو غير ذلك: الأصلُ عدمُ الوجوب، والذمةُ كانتْ بريئةً من الإيجاب، وليس في الشرع ما يُزِيل ذلك، فالأصل بقاءُ الذمةِ بريئةَ من الوجوب.
وهذا مستقيم فيما لا يَجبُ ولا يَحْرُم إلاّ بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلاّ بالشرع، كالضب واليربوع وسِنَّورِ البر، ونحو ذلك مما اختُلِفَ في تحريمه، وكالعقودِ المتنازعَ في تحريمها، كالمساقاة والمزارعةِ وغيرِ ذلك.
المسلك الثاني: أن نُبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوبَ والحرمةَ فيما لم يُوجِبْه الشارعُ ولم يُحرً مْه، كقوله تعالى:
__________
(1) س: "لمنعه".
(2) زيادة على النسختين من إعلام الموقعين (1/339) .
(3) س، ع: "نقيم" تصحيف.
(4) كذا في النسختين بدون الهاء.(2/283)
(َقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (1) ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"ذرُوني ما تَركْتكم، فإنما هلكَ من كان قبلكم بكثرةِ سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا نَهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (2) . وقوله لما قال: "إن الله كتبَ عليكم الحج"، قالوا: أَفِي كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ" (3) .
والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلاّ بدليله، والدليلُ مُنتفٍ، فلا يثبت. وهذا يُسَمَى حَصْرَ المداركِ ونفيها، وهذا مضمونُه أنَ ثبوتَ الحكمِ في حَقَّنا بدون دليلٍ منتفٍ، والدليلُ منتفٍ، فيَنْتَفي الحكمُ، وإذا انتفى أحدُ النقيضين ثبتَ الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يَثبتُ الشيءُ بدون دليله، فهذا مما (4) ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا أن نَعرِفَها، فلا تَثبتُ بدون دليلها.
وأيضًا فإنّ قولَ اللهِ ورسوله هو المثبتُ لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجبُ انتفى مُوجَبُه، فانتفتْ لانتفاء (5) مُوْجبها، وهو دليلُه، فإن خَطابَ الشارعِ ليس دليلاً مختصًّا، بل هو الَدليل، وهو
__________
(1) سورة الأنعام: 119.
(2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337 وبعد رقم 2357) عن أبي هريرة.
(3) في الحديث السابق عند مسلم فقط.
(4) ع: "باب".
(5) ع: "بانتفاء".(2/284)
المُثْبِتُ لها في نفس الأمر، ولا واجبَ إلاّ ما أوجبَه الله تعالى ورسولُه، ولا حرامَ إلاّ ما حرَّمه الله ورسولُه.
هذا إذا (1) أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجبَ اللهُ ذلك فوجبَ، وحَرَّمَه فحَرُم، فهُنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالايجاب والتحريم يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء يثبتون هذين النوعين من الأحكام (2) ، وأما المعتزلةُ فلا تُثبِت إلاّ الثاني، والجهميةُ ومن وافقَهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلاّ الأولَ، إذ ليس عندهم للأحكام سببٌ (3) ولا حكمةٌ.
والمقصود أن كل واحدٍ من النوعين لا يثبُت إلاّ بالدليل الشرعي، فإذا انتفى الدليل الشرعي، لَزِمَ انتفاءُ هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزمًا للدليل الشرعي، وثبوت الملزوم بدون اللازم محالٌ، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليلَ. وهذا لأن الدليل لابُدَّ أن يستلزمَ مدلولَه، فيلزم من ثبوت الدليلِ ثبوتُ المدلولِ، ولولا ذلك لم يكن دليلاً عليه، إذ لو اقترنَ به المدلولُ تارةً، وتَخَلَّفَ (4) عنه أخرى (5) ، لم يكن- إذا تحقَّقَ الدليل- وجودُ المدلولِ معه بأولَى
__________
(1) ع: "هو الذي".
(2) ع: "الاجتهاد".
(3) ع: "الأحكام لعله".
(4) س: "تختلف" تصحيف.
(5) ع: "تارة أخرى".(2/285)
من عَدَمه، فلهذا كان الدليل مستلزمًا للمدلول، إمّا قطعًا (1) إن كان يقينيًّا (2) ، وإما ظنًّا (3) إن كان ظنيًّا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدمُ المدلولِ، كما لا يلزم من عدمِ الملزوم عدمُ اللازم، لأنّ الدليل هو الملزوم، إلاّ أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كلّ من الأمرين لازمَا للآخر ملزومًا له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت الحكم الشرعي] (4) ، وإذا ثبت الحكم/ [164ب] الشرعي فلابدَّ له من دليلٍ شرعي. فلما كان التلازم (5) من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل (6) منها على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوةِ لما تلازما جاز أن يُستَدَلَ بثبوتِ كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه.
وكذلك إرادةُ الرب ومرادُه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يكنْ، فإرادتُه تَستلزم (7) المرادَ وتدل عليه، فوقوعُ الكائناتِ تَستلزم إرادتَه وتدلُّ عليها، ولهذا كان الاستثناءُ في الأيمانِ مانعًا من الحِنْثِ، كما إذا قال: واللهِ لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن
__________
(1) ع: "يقينا".
(2) س: "يقينا" خطأ.
(3) س: "ظنيا".
(4) ما بين المعكوفتين ساقط من النسختين، والزيادة ليستقيم السياق.
(5) ع: "كانت الملازمة".
(6) ع: "بكل، بدل" بثبوت كل".
(7) كذا في النسختين بتأنيث الفعل.(2/286)
فَعَلَه (1) عُلِمَ وجودُ المشيْئة، وإن [لم] (2) يفعلْه عُلِمَ انتفاؤُها.
وكذلك كل حكمٍ له سببٌ واحدٌ، كالقتل العمد العدوان المحض (3) ، فإنه مستلزم لثبوت القَوَد، وثبوتُ القود مستلزمٌ له.
وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سببٌ إلاّ السفر، فحيث كان سفرٌ كان قصرٌ، وحيث كان قصر (4) كان سفرٌ، إما سفر مقدَّرٌ عند من يقول به، وإما مطلقُ السفر عند من لا يَخُص القصرَ بسفرٍ مقدر.
فنفْيُ الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليلٍ شرعي يدكُ على نفسه، وتارةً بانتفاء دليلِه وسببِه اللازمِ له، فإنه إذا انتفى اللازمُ انتفى ملزومُه.
والمقصود هنا أن نُفاةَ القياس لفا سَدُوا بابَ التعليل ونَفَوا (5) التمثيل، وقَصَروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خَطَئِهم في الأحكام ما شَنَّعَ به عليهم الناسُ، وإلاّ فلو أَعْطَوا النصوصَ حقَّها من المعرفة والفهم لدلتْ على جميع الأحكام، واستغنَوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضًا دليلاً صحيحًا يوافقُ دلالةَ الظاهر.
__________
(1) ع: "فعل ذلك".
(2) ساقطة من س، ولابد فيها. وفي ع: "عدل" مكان "لم يفعله"، وهما بمعنى واحد.
(3) "المحض" لا توجد في ع.
(4) "وحديث كان قصر" ساقطة من س.
(5) ساقطة من ع. وفي س: "قصروا" تحريف.(2/287)
والتعليلُ صحيحٌ (1) ، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل.
كما أن مُثبتةَ القياسِ لو لم يقيسوا إلاّ قياسًا صحيحًا لَمَا خالفوا نصًا قَط، لكنَ حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابدّ أن يكون القياسُ فاسدًا، ولكن قد يَخفَى فسادُه، كما قد تخفى صحتُه إذا دَق. فكما تَخْفَى دلالةُ النص تارةً وتظهر أخرى، وخفاءُ الدلالة وظهورُها أمرٌ نِسْبِى، فقد يَخْفى على هذا ما يَظْهر لهذا. وإلّا (2) فالذين خالفوا أحاديثَ القُرعَة (3) والقيافة (4) ، وحديثَ ذي اليدين (5) ، وحديثَ أكلِ الناسي في رمضان (6) ، وحديث الصَيد الذي يوجد ميتًا بعد المغيب ولا أثَرَ فيه إلاّ للسهْم (7) ، حديث إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد (8) ، وحديث الشاهد
__________
(1) ع: "الصحيح".
(2) "وإلا" ساقطة من ع.
(3) منها حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وحديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (1668) .
(4) منها ما أخرجه البخاري (6770، 6771 ومواضع أخرى) ومسلم (1459) عن عائشة.
(5) أخرجه البخاري (482، 714 ومواضع أخرى) ومسلم (573) عن أبي هريرة.
(6) أخرجه البخاري (1933، 6669) ومسلم (1155) عن أبي هريرة.
(7) أخرجه البخاري (5484) ومسلم (1929) عن عدي بن حاتم.
(8) قرن بينهما في الرواية السابقة، وقد أخرجها أيضًا أحمد (4/256، 258، 377) وأبو داود (2824) والنسائي (7/194، 225) وابن ماجه (3177) ، وفي الباب أحاديث أخرى.(2/288)
واليمين (1) ، وأحاديث الجمع بين الصلاتين (2) ، وحديث قَطْعِ الصلاة بالكلب الأسود والمرأة والحمار (3) ، وحديث جَعْلِ الطلاقِ الثلاثِ واحد (4) ، وحديث يُعذب الميّتُ ببكاء أهلِه عليه (5) ، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي ليس مع مخالفيها إلاّ ما يُظَنُّ أنه ظاهر، أو ظاهر نمن آخر، أو مُقتضَى قياس (6) ، متى تدبَّرتَ المعارضَ لذلك لم تَجدْه -ولله الحمد (7) - معارضًا صحيحًا، بل تجدُ (8) ما عارضَ بهَ الظاهرَ إما حديثٌ ضعيف، وإما
__________
(1) أخرجه مسلم (1712) عن ابن عباس.
(2) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، وأبواب أخرى من كتاب التقصير) و"صحيح مسلم" (باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، من كتاب صلاة المسافرين) . وأشهرها حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (543، 562، 1174) ومسلم (755) .
(3) أخرجه مسلم (510) عن أبي ذر، و (511) عن أبي هريرة. وروى البخاري (508، 514) ومسلم (512) استنكار عائشة له.
(4) أخرجه مسلم (1472) عن ابن عباس.
(5) وردت عدة أحاديث في هذا الباب، انظر "صحيح البخاري" (باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز) و"صحيح مسلم" (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، من كتاب الجنائز) . منها حديث عمر الذي أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924) .
(6) ع: "أنه جامع لظاهر نص آخر ويقتضي قيامه"، س: "يقتضي قياس". وكله تصحيف.
(7) ع: "في واقع الأمر".
(8) س: "يجد" تصحيف.(2/289)
حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإمّا قياسٌ فاسد، وإمّا دعوى إجماع قد عُلِمَ انتفاؤه ووجودُ النزاعِ في تلك المسألة.
وكذلك نُفاةُ القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضْطُرُّوا إلى مقالات في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإنّ المسائل التي تنازعَ فيها الصحابةُ- كالعُمَريتَيْنِ (1) والحِمَارِية التي تُسمَّى المشتركة (2) ، وأمثال ذلك- لمّا لم يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالةَ النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما يَظنونه استصحابًا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوجٌ وأمٌّ وابنان من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأمّ، وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يَقُمْ دليلٌ على توريثهم، فيَنْتَفِي توريثُهم لانتفاءِ دليلِه.
وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يَرِثون بعضَ
__________
(1) هما مسألتان: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان. تسميان العمريتين لأن عمر بن الخطاب قضى فيهما، فأعطى الزوج النصف، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. وأعطى الزوجة الربع، والأم ثلث ما بقي، والباقي للأب. انظر: "المغني" (9/23) .
(2) هي كل مسألة اجتمع فيها زوج، وأم أو جدَّة، واثنان فصاعدَا من ولد الأم، وعصبة من ولد الأبوين. سميت المشتركة أو المشركة لأن بعض أهل العلم شرًك فيها بين ولد الأبوين وولد الأم في فرض ولد الأم، فقَسَمه بينهم بالسوية. وتسمى الحمارية لأنه يُروى أن عمر رضي الله عنه أسقط ولد الأبوين، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، هَبْ أن أبانا كان حماراً أليست أمُّنا واحدةً؟ فشرَّك بينهم. انظر "المغني" (9/24) .(2/290)
الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو (1) هؤلاء، فإذا جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعًا عليه، فإن كان معنا دليلٌ غيرُ الإجماع، وإلاّ فهذا قولٌ بلا دليلٍ أصلاً.
وهذا بخلاف تنازُعِهم في ديّةِ الذمّي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأنّ الإجماعَ انعقدَ/ [165أ] على وجوب ذلك، والذمةُ بريئةٌ مما زاد عليه، ولا بيّنةَ إلاّ بدليل، فإن هذا نَفَى الزيادة (2) باستصحاب براءة الذمة. والتمسكُ بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أَضْعَفَ من غيرِه -لأنه قد وُجد جناية تُوجِبُ شَغْلَ الذمةِ قطعًا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعًا (3) ، وقد وجب لهذا على هذا حق، لكن لم يُعْلَم مقدارُه- فليس هذا كالميراثِ المتنازعَ فيه، لأنه لأحد المتنازعين قطعًا، ولم يُجمِعُوا على وجوبِه لأحدِهما، ولا يُورَثُ أحدُهما دون الآخر (4) الجميع.
وأما استصحابُ حال الإجماع بعد زوال المحلّ المجمع عليه، كقولهم في المصلي إذا رأى الماء: كانت صلاتُه صحيحةً بالإجماع قبل وجود الماء، والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان، ولم يَقُمْ دليلٌ على الفساد.
وكذلك قولهم: أمُ الولدِ كان بيعُها صحيحًا قبل الاستيلاد،
__________
(1) س: "و" خطأ.
(2) ع: "نفي للزيادة".
(3) في س بعدها: "ولم يجمعوا على وجوبه". ومكانها بعد سطرين كما تأتى.
(4) "دون الآخر" ساقطة من س.(2/291)
فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
فهذا فيه نزاع مشهور (1) ، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كابي حامد والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني وغيرهم.
والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع.
وهذا الذي قالوه نقيضُ الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا به لم يَدعُوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حالَ المجمع عليه.
قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوالِ دليله، ويبقى إثباتُ الحكمِ بعد ذلك إثباتا بغير دليل.
وأما المستدِلُون فيقولون: الحكم لمّا كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثبوتَه، فالإجماعُ ليس هو علةَ ثبوته ولا سببَ ثبوته في
__________
(1) انظر "العدّة" (1/73) ، و"التبصرة" ص 526، و"المستصفى" (1/223 وما بعدها (و) الإحكام للَامدي (4/127 وما بعدها) ، و"إعلام الموقعين" (1/341- 344) ، و"التمهيد" للكلوذاني (4/254 وما بعدها) .(2/292)
نفس الأمر، حتى يلزمَ من زوالِ العلَّة زوالُ المعلول، ومن زوالِ السبب زوالُ حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يَستند إلى نص أو معنى نص. فنحن نعلم أن الحكم المجمعَ عليه ثابتٌ في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يَلزمُ (1) من انتفاء الإجماع انتفاءُ الحكم، بل يجوز أن يكون نافيًا، ويجوز أن يكون منتفيًا (2) ، لكن الأصلَ بقاؤه، فإن البقاءَ لا يفتقر إلى حادث، ولكن يَفتقِرُ (3) إلى بقاءِ سببِ ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يُزِيْلُ الأولَ، وإلى ما يُحْدِثُ الثاني، وإلى ما يُبْقي (4) الثاني، فكان ما يَفتقِرُ إليه الحادثُ أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاءُ أولى من التغيير.
وهذا مثل استصحاب حال براءةِ الذمَّةِ، فإنها كانت بريئةً قبلَ وجودِ ما يُظَن أنه شاغل (5) ، ومع هذا فالأصل البراءة.
والتحقيقُ أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ بعدَ الاجتهادِ في معرفةِ المُزِيْلِ، ولا يجوز الاستدلالُ به لمن لا (6) يَعرِفُ الأدلة الناقلة، كما لا يجوز
__________
(1) س: "ينعكس".
(2) ع: "منفيا".
(3) س: "مفتقر".
(4) س: "يبقا"، ع: "ينفى".
(5) ع: "شاغلها".
(6) "لا" ساقطة من س.(2/293)
الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة.
وبالجملة الاستصحابُ لا يجوز الاستدلالُ به إلاّ إذا اعتقد انتفاء الناقلِ، فإن قَطَعَ المستدلُّ بانتفاء الناقل قَطَعَ ببقاء الحكم، كما يَقْطَعُ ببقاءِ شرع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه غير منسوخ، وإن ظنّ انتفاءَ الناقلِ ظنَّ بقاءَ الحكم، فإن كان الناقلُ دليلاً تَبَيَّنَ (1) له انتفاءُ دلالتِه ظنَّ انتفاءَ النقلِ (2) ، وإن كان معنى مؤثرًا وتبينَ له عدمُ اقتضائِه، تبيَّن له بقاءُ النقل، مثل رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن رؤيةَ الماء في الصلاة لا تُبطِل الطهارةَ، وإلّا فمعَ تجويزِه لكونِ هذا ناقضًا للوضوء لا يَطمئن ببقاء الوضوء.
وهكذا في كل من يَتَورع في انتقاضِ وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصلَ بقاءُ طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاساتِ من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمسّ النساء لشهوةٍ ولغير شهوةٍ غيرِ الجماع، ومسنَ الذكر، وأكلِ ما مسَّتْه النار، وغسل الميت، وغيرِ ذلك، لا يمكن اعتقادُ/ [165ب] استصحاب الحالِ حتى يَتبينَ له بطلانُ ما يُوجبُ الانتقالَ، وإلاّ بقي شاكًا، وإن لم يَتبينْ له صحةُ الناقل، كما لَو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبُّت، لم يُؤْثرْ (3) تصديقَه ولا تكذيبَه، فإن كلاهما ممكن
__________
(1) في النسختين: "يبين".
(2) ع: "بقاء النقل" وهو تحريف، انظر"إعلام الموقعين" (1/342) .
(3) أي لم يُرجح أحدهما على الآخر.(2/294)
منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره. ولهذا جُعِلَ ذلك لوثًا وشُبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شَهِدَ مجهولُ الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تَبيَّنَ عدلُه تَمَّ الدليلُ، وعند شهادة المجهولين تَضعُف البراءةُ أعظمَ مما تَضْعُفُ عند شهادةِ الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلاً، ولكن لم تُعْرَفْ دلالتُه، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجودُ المدلولِ في هذه الصورة، فإنَّ صدقَه ممكن.(2/295)
[فصل] (1)
والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل الأشياء ليُستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نُفاة القياس عَدَلوا في كثير منها عن دلالة النصّ إلى أن أثبتوا ما ظنوه مُجْمَعًا عليه، ونفوا ما ظنوه غيرَ مُجْمَعٍ عليه، وكلاهما غلط:
أما الأول: فقد بيناه.
وأما الثاني: فتقديرُه عدمِ الإجماعِ إذا انتفَى دليلٌ بمعيَّن (2) ، فلابدّ من نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في مسألة المشرّكة (3) ، فإنه لو قُدِّرَ ثبوتُ ميراثِ أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا يَنفِيْ ميراثَه، إذ لم تنتفي (4) سائرُ الأدلة.
__________
(1) زيادة من سائر النسخ.
(2) س: "إنما ينتفي دليل بمضمن"، والمثبت من ع.
(3) ع: "المشتركة"، وكلاهما صواب. وانظر هذه المسألة في: "الأم" (4/91- 92) و"المبسوط" (29/154) و"بداية المجتهد" (2/259) و"تفسير القرطبي" (5/79) و"المغني" (9/24- 26) و"تفسير ابن كثير" (1/ 471) .
(4) كذا في النسختين بإثبات الياء.(2/296)
فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دَلا على أن الثلثَ يختص به ولدُ الأم، كما هو قول علي (1) رضي الله عنه ومن وافقه (2) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حربٌ التشريكَ، وهو قول زيد (3) ومن وافقه (4) ، وقول مالك والشافعي.
واختُلِف في ذلك عن عمر وعثمان (5) وغيرهما [من الصحابة] (6) ، حتى قيل: إنه اختُلِفَ فيها عن جميع الصحابة إلاّ علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليًّا رضي الله عنه لم يُختَلفْ عنه أنه لم يُشرِّكْ، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] (7) أنه شرَّك (8) .
__________
(1) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/58) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/258) والدارمي في "سننه" (2886، 2887) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/257) .
(2) انظر: "المغني" (9/24) والمصادر السابقة.
(3) أخرجه عنه عبد الرزاق في "مصنفه" (10/251) وسعيد بن منصور في "سننه" (3: 1/59) وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/255) والدارمي في "سننه" (2885، 2888) والحاكم في "المستدرك! (4/337) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/256) .
(4) انظر المصادر السابقة و"المغني" (9/24) .
(5) انظر المصادر السابقة.
(6) زيادة من سائر النسخ.
(7) زيادة من سائر النسخ.
(8) بل رُوِي عن زيد أيضًا أنه لم يشرك، كما أخرجه عنه سعيد بن منصور (3: 1/58) والبيهقي (6/256) ؛ ورُوي عن علي أنه شرَّك، كما في "مستدرك"=(2/297)
قال العنبري (1) : القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال زيد. قال الخَبْري (2) : هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة (3) .
فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] (4) . أما النص فقول الله تعالى: (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) . (5) والمراد به: ولد الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولدَ الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم.
وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأمِ، فهذا غلط، لأن الله تعالى قال: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) الآية (6) .
__________
= الحاكم (4/337) .
(1) هو عبد الله بن سوّار العنبري قاضي البصرة، توفى سنة 228. ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (10/434- 435) .
(2) هو عبد الله بن إبراهيم الخَبْري الشافعي، انتهت إليه الإمامة في الفرائض. توفي سنة 476. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/558- 559) .
(3) نقل ابن قدامة في "المغني" (9/26) قول العنبري والخبري، وعقب عليه بقوله: وهو كما قال، إلاّ أن الاستحسان المجرد ليس بحجة في الشرع، فإنه وَضْعٌ للشرع بالرأي من غير دليل، ولا يجوز الحكم به لو انفرد عن المعارض، فكيف وهو في مسألتنا يخالف ظاهر القرآن والسنة والقياس!
(4) ما بين المعكوفتين ساقط من س.
(5) سورة النساء: 12.
(6) من الآية المذكورة.(2/298)
وفي قراءة ابن مسعود (1) وسعد (2) : "من أمّ". والمراد ولد الأم بالإجماع، ودل على ذلك قوله: () فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (3) ، وولدُ الأبوين لم يُفْرَضْ لواحدٍ منهما السدسُ. وأيضًا فإنه قد ذُكِرَ حكمُ ولدِ الأبوين والأب في آية الصيف (4) في قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا) (5) . فجعل لها النصف، وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: (وَإن كاَنوُا أخوَةً رجَالًا وَنسَاء فلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ اَلأُنثَيَين) (6) . وهذا حكم ولد الأبوين لا الأمَ، باتفاق المسلمين.
ودلّ ذكرُه تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على أن أحد الصنفين غيرُ الآخر. فلا يجوز أن يكون
__________
(1) ذكر ذلك الحافظ في "الفتح" (4/12) .
(2) ذكر ذلك الدارمي (2979) والطبري (8/62) والقرطبي (5/78) وابن كثير (1/471) وأبو حيان في "البحر المحيط " (3/190) وغيرهم.
(3) سورة النساء: 12.
(4) في النسختين: "النصف". والمثبت من إعلام الموقعين (1/355) ، وهو الصواب كما ورد في حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم (1617) ، وفيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "يا عمر! إلاّ تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ ". وسميت بآية الصيف لأنها نزلتَ في الصيف، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء التي في أول سورة النساء، فلذلك أحاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها. وانظر "شرح مسلم" للنووي (11/57) و"تفسير" ابن كثير (1/606) .
(5) سورة النساء: 176.
(6) من الآية المذكورة.(2/299)
ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع. فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسِّرةً لقراءتنا (1) ، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان (2) أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظَّ له في التعصيب بحالٍ (3) . بخلاف مَن ذُكِرَ في آية العمود (4) وفي آية الصَّيْف (ْ) ، فإن لجنسهم حطًا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: (6) (غَيْرَ مُضَارٍّ) ، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرًا ما يَقصِد ضَررَ الزوج وولدِ الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلافِ أولادِه وآبائِه، فإنه (7) لا يضارهم في العادة.
وإذا كان النص قد أعطى ولدَ الأم الثلثَ، فمن نَقَصَهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنسٌ آخر، هم عصبة،/ [166أ] ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فَلأَوْلَى
__________
(1) س: "لقراءتها".
(2) في النسختين: "الزوجات"، والتصويب من سائر النسخ.
(3) "بحال" ساقطة من ع.
(4) هي الآية 11 من سورة النساء، سميت بذلك لأن فيها ذكر والد الميت وولده، وهما عمودا النسب بالنسبة إليه.
(5) في النسختين: "النصف"، وقد سبق التعليق عليه.
(6) ع: "النساء"، وهو تصحيف، وآية الشتاء هي الآية 12 من سورة النساء، سُميت بذلك لأنها نزلت في الشتاء.
(7) س: "فإنهم".(2/300)
رجل (1) ذكر" (2) . وهذا يقتضي أنه إذا لم تُبقِ الفرائضُ لم يكن للعصبة شيء، وهنا لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا.
وأما قول القائل (3) : "هَبْ أن أباهم (4) كان حمارًا، فقد اشتركوا (5) في الأم "، فقول فاسد (6) حسًّا وشرعًا. أما الحسّ فلأن الأب لو كان حمارًا لكانت (7) الأم أتانًا، ولم يكونوا من بني آدم.
وإذا قيل: قُدَرَ وجودُه كعدمِه.
فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدومًا.
وأما الشرع فلأن الله حكمَ في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم.
وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم.
__________
(1) س: "عصبة". والمثبت من ع ومصادر التخريج.
(2) أخرجه البخاري (6732، 6735، 6737، 6746) ومسلم (1615) عن ابن عباس.
(3) هو زيد بن ثابت، كما أخرجه عنه الحاكم (4/337) والبيهقي (6/256) . ويُروى أنه قال ذلك بعض أولاد الأبوين لعمر بن الخطاب. انظر "المغني" (9/24، 25) و"تفسير ابن كثير" (1/471) .
(4) س: "أبانا".
(5) س، ع: "اشتركا"، والمثبت من سائر النسخ.
(6) س، ع: "فساد".
(7) س، ع: "لكان".(2/301)
قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدًا وولد الأبوين كثيرين (1) ، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي (2) يكون لهم كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يَحرِمَهم، فعُلِم أنه قد يضرهم.
وأيضًا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق أحكامها، فالأخ من الأبوين لا يكون كالأخ من أب، ولا (3) كالأخ من الأم، ولا يُعطَى بقرابة الأم وحدها، كما لا يُعطًى بقرابة الأب وحده؛ بل بالقرابة المشتركة من الأبوين. وإنما يُفْرَد بحكم إذا كان قرابةُ الأم منفردة، مثل ابنَيْ عمًّ أحدهما أخ لأم (4) ، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ من الأم السدسَ، ويشتركان في الباقي. وهو مأثور عن علي (5) رضي الله عنه. وروي عن شُرَيح (6) أنه جعل الجميعَ للأخ من الأم، كما لو كان ابن عمّ لأبوين.
__________
(1) س، ع: "كثيرون".
(2) س، ع: "والثاني"، تحريف.
(3) ع: "أو".
(4) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/30- 31) و"الفتح" (12/27- 28) .
(5) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/287) وسعيد بن منصور (3: 1/82، 83) وابن أبي شيبة (11/250- 251) والدارمي (2891، 2892) والدارقطني (4/87) والبيهقي (6/240) .
(6) أخرجه عنه عبد الرزاق (10/287) وسعيد بن منصور (3: 1/83) والبيهقي (6/239) .(2/302)
والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم (1) سواء، هما ابنا عم من أبوين أو من أب. والأخوةُ من الأم مستقلةٌ ليست مقترنةً بأبوةٍ حتى يُجعل كابن عم لأبوينِ.
ومما يُبيِّن الحكم في مسألة المشتركة: أنه لو كان فيها أخواتٌ لأب لفُرِضَ لهنَّ الثلثان، وعالت الفريضةُ، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى "الأخ المشؤم"، فلما كنّ يصرن (2) بوجوده عصبةً صار تارةً ينفعهن، وتارةً يَضُرُّهن، ولم يُجعَلْ وجودُه كعدمِه في حال الضرار.
كذلك قرابةُ الأب لما صارَ الإخوةُ بها عصبةً صار ينفعهم تارةً ويضرهم أخرى. وعَلى هذا مَجرَى العُصوبة، فإن العصبة تارةً تَحُوز المالَ، وتارةً أكثرَه، وتارةً تحوز أقلَّه، وتارةً لا يبقى لها (3) شيء، وهو إذا استغرقتِ الفرائضُ المالَ. فمن جعلَ العصبةَ تأخذ مع استغراق الفرائض المالَ فقد خرج عن الأصولِ المنصوصة في الفرائض.
وقول القائل "هذا استحسان" مخالفٌ للكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حفُهم، فيُعطاه غيرهم. وإذا كانوا يَعقِلون عن الميّت ويُنفِقون عليه، فعاقلةُ المرأة يعقلون عنها،
__________
(1) ع: "الأعم".
(2) س: "كان يصرن".
(3) س: "له".(2/303)
وميراثُها لزوجِها وولدِها، كما قضى بذلك (1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلاّ أنها (2) قول زيد، وقد رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بها، فعَمِلَ بذلك من عَمِلَ من أهل المدينة وغيرهم، كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة، وعملوا بقول زيد رضي الله عنه في غير ذلك من الفرائض، لاتصال العمل عندهم به تقليدًا له، وإن كان قد خالفَه من هو أفضل منه من الصحابة، وإن كان النص والقياس مع من خالفه.
وبعضهم يحتجُّ لذلك بما رُوِي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفرضُكم زيد" (3) . وهو حديث ضعيف (4) لا أصل له. ولم يكن
__________
(1) "بذلك" ساقطة من س.
(2) "أنها" ليست في ع.
(3) أخرجه أحمد (3/184، 281) والترمذي (3791) والنسائي في "السنن الكبرى" (5/67، 78) وابن ماجه (154) وابن حبان (2218، 2219- موارد) والحاكم في "المستدرك" (3/422) من طرقٍ عن خالد الحذاء عن أبي قلابة من أنس. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" (3/79) : "وقد أعِل بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح، إلاّ أنه قيل: لم يسمع منه هذا، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابة في العلل، ورجح هو وغيره كالبيهقي والخطيب في المدرج أن الموصول منه ذِكرُ أبي عبيدة، والباقي مرسل". وصححه الألباني في "الصحيحة" (1224) ، وذكر له شواهد، وتكلم عليها.
(4) س: "حديث حديث ".(2/304)
زيد رضي الله عنه على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معروفًا بالفرائض. والحديث الذي رُوِي فيه ذلك قد رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف، لم يصح فيه إلا قولُه: "لكل أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراِح" (1) . ورُوِي بإسناد أضعف من هذا، وفيه: "وأقضاكم علي، وحبْر (2) هذه الأمة ابن عباس" (3) من حديث كوثر بن حكيم، وكوثر هذا يأتي عن نافع بما يُعلَم أنه باطل، ولا يحتج به باتفاق أهل العلم (4) .
وكذلك اتباعُهم في "الجد" لقول زيد رضي الله عنه، مع أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم على خلافه (5) . فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب، يحجُب الإخوة (6) وهذا مروي عن بضعة عشر/ [166ب] من الصحابة رضي الله
__________
(1) أخرجه البخاري (4382، 7255) ومسلم (2419) عن أنس.
(2) في النسختين: "خير"، تصحيف.
(3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/56) من طريق عبد الأعلى السامي، وابن حزم في "المحلى" (9/296) من طريق كوثر كلاهما عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وانظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (3/225) .
(4) انظر "الميزان" (3/416) و"اللسان" (4/490) .
(5) انظر المسألة واختلاف العلماء فيها في: "الأم" (4/85-86) و"المحلى" (9/282-299) و"المبسوط" (29/180-183) و"بداية المجتهد" (2/ 259-260) و"المغني" (9/66-69) و"تفسير القرطبي" (5/68) و"الفتح" (12/19-23) .
(6) أخرجه عن أبي بكر: سعيد بن منصور (3: 1/63، 64) وابن أبي شيبة (11/288-290) والدارقطني (4/93) والبيهقي (6/246) .(2/305)
عنهم (1) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد، واختاره أبو حفص البرمكي من الصحابة، وحكاه بعضهم روايةً عن أحمد.
وأما المورثون الجدَّ مع الإخوة فهم عليّ وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم، ولكل [واحد] (3) قولٌ انفرد به. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان متوقفًا في أمره (4) . والصواب بلا ريبٍ قول الصديق، لأدلَّةٍ متعددةٍ ذكرناها في غير هذا الموضع (5) .
منها: أن الذين وَرثوا الإخوةَ عمدتُهم أنهم يُدْلُون ببنوة الأب، والجدُّ يُدلي بأُبوّته، والبُنوّةُ أقوى.
وهذه الحجة فاسدة، مناقضةٌ للكتاب والسنة والإجماع، فإنّ الجدَّ مقدَّم على بني الإخوة عند عامة المخالفين في هذا، وابن الابن يقوم مقامَ الابن ويُقدَّم على الجدّ، فلو كان بنوة الأب مقدَّمةً لقدِّمتْ بنوةُ الأب.
__________
(1) انظر: "المغني" (9/66) والمصادر السابقة.
(2) أخرجه عنهم: عبد الرزاق (10/269) وسعيد بن منصور (3: 1/69، 70) وابن أبي شيبة (11/293-295) والدارمي (2920-2932) والبيهقي (6/249-252) .
(3) من ع.
(4) انظر "المحلى" (9/282) .
(5) وانظر "إعلام الموقعين" (1/374-382) ، ففيه عشرون وجهًا لتصحيح هذا القول.(2/306)
ومنها: أن الجد الأعلى مقدم على العم، والعمّ ابن الجدِّ الأدنى، والجدُّ الأعلى أبوه، فالعمُّ يُدلي ببنوته، والجد الأعلى بأبوته، والجد الأعلى مقدم بالإجماع، ونسبة الجد الأعلى إلى العمّ كنسبة الأدنى إلى الأخ.
ومنها: أن ما ذكروه لو كان صحيحًا لوجب تقدم (1) الإخوة، وهذا خلاف إجماع الصحابة. وقد طرد هذا القياسَ الفاسد من قال في الولاء: إنّ إخوةَ المعتق أولى من جدّه. وهذا من أضعف الأقوال، بل الصواب أن الولاء لجدّ المعتق فقط دون إخوته، كالميراث.
وأيضًا فالبنوة وبنوة البنوة مقدّمةٌ على الأبوة وأبوة الأبوة، لأن هذا الجنسَ مقدم على هذا الجنس.
وأما بنوة الأبوة فليست من هذا البنوة، بل الأبوة وأبوة الأبوة مقدم على بنوة الأبوة في جميع أحكام الشرع، ولم يقدَّم الأخ على الجدّ في شيء من الأحكام الشرعية، بل ولا عُدِلَ به. فمن جعلَ مقتضى القياس تقديمَه أو مساواته (2) فقد خالف الأصول الشرعية كلها.
وأما العمريتان (3) فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث
__________
(1) كذا في س، ع: وفي سائر النسخ: "تقديم".
(2) س، ع: "مساويه". والتصويب من سائر النسخ.
(3) راجع لهاتين المسألتين: "المحلى" (9/260-262) و" بداية المجتهد" (2/ =(2/307)
مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها (1) الله الثلث إذا ورثتِ المالَ هي والأب، فكان القرآن قد دل على أن ما وَرِثتْه هي والأب تأخذ ثلثَه، والأب ثلثيه. واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله عنهم وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثًا، قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدَّين والوصية.
ومفهومُ القرآن ينفي أن تأخذ الأمُّ الثلثَ مطلقا، [فمن أعطاها الثلث مطلقًا] (3) حتى مع الزوجين (4) ، فقد خالفَ مفهوم القرآن. وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثَها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرثه، بل إن ورثه أبواه فلأمه الثلث مطلقًا، وأما إذا لم يرثه أبواه، بل ورثه مع من دون الأب: كالجد والعم والأخ، فهي بالثلث أولى، فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب
__________
= 257) و"المغني" (9/23-24) و"تفسير القرطبي" (5/56، 57) و"تفسير ابن كثير" (1/469) .
(1) س، ع: "أعطى". والمثبت من سائر النسخ.
(2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/252-254) وسعيد بن منصور (3: 1/ 54-56) والدارمي (2868-2876) والحاكم في "المستدرك" (4/335- 336) .
(3) ساقطة من النسختين، والزيادة من سائر النسخ.
(4) قاله ابن عباس وشريح، ويُروى عن علي أيضًا. أخرج هذه الآثار: سعيد بن منصور (3: 1/56) والدارمي (2879-2881) والبيهقي (6/228) .(2/308)
فمع غيرِه من العصبة أولى.
فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلاّ الأم والأب، أو عصبة غير الأب سوى الابن، فللأم الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأما الابن فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس.
بقي إذا كان مع العصبة ذو فرضٍ، فالبنات والأخوات قد أُعطِيَ للأم معهن السدسُ. والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الإخوة، فمع الأنثى أولى.
وإنما تُحْجَب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوةً. وإذا كانت تأخذ مع الأخ الواحد الثلثَ، فمع العم وغيره بطريق الأولى.
وإذا كان مع أحد الزوجين عصبة غير الأب والابن، كالجد والعم وابن العم، فهؤلاء لا ينقصها دون الأب، وإنما جعل الباقي بعد نصيب الزوجة أثلاثًا، لأنها والأب في طبقة واحدة، فجعل ذلك بينهما كأصل المال، وهؤلاء ليسوا في طبقتها، فلا يُجعَلون معها، كالأب، فإنه لا واسطة بينه (1) وبين الميت، بخلاف هؤلاء، فإن بينهم وسائط، وهي لا تسقط بحالٍ، بخلاف هؤلاء، فلم يمكن أن يُعطى ثلث الباقي هنا، لما فيه من تسوية هؤلاء بالأب.
ولا نزاع في ذلك إلاّ في الجد، نزاعٌ يُروَى عن ابن مسعود
__________
(1) س، ع: "بينها". والتصويب من سائر النسخ.(2/309)
رضي الله عنه، كأنه ألحقه بالأب، فأعطاها معه ثلث الباقي. والجمهور/ [167أ] ، على أنها معه تأخذ ثلثَ المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛ وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها.
وإذا لم يمكن أن تُعطَى ثلثَ الباقي، وامتنع أن تُعطَى السدسَ لأنه دون ذلك، تعيَّن أن تُعطَى الثلث. وكان إعطاؤها الثلثَ مع عدم الأب، سواء كان هناك أحد الزوجين أو لم يكن، وإعطاؤها ثلثَ الباقي مع أحد الزوجين، مما فهمه جماهير الصحابة والعلماء والأئمة، تارةً بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، وتارةً بالاعتبار الذي هو أولى وأحرى، وتارةً بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به.
فإن قلت: فهذه دلالة نصّ أو قياس؟
قلتُ لك: القياس المحض أن الأب مع الأم، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، وهما عصبة. وقد أُعطِيت (1) الزوجةُ نصفَ ما يُعطاه الزوجُ؛ لأنهما (2) ذكر وأنثى من جنس واحدٍ.
وإنما عُدِلَ عن هذا في ولد الأم لأنهم يُدْلُون بالأم، فلا عُصوبةَ لهم بحالٍ، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم
__________
(1) س، ع: "أعطت". والتصويب من سائر النسخ.
(2) س: "لأنه"، خطأ.(2/310)
يُدلون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدلون بذكر، كولد البنين والإخوة للأبوين أو الأب. فإعطاء الذكر مثلَ حظّ الأنثيين هو معتبر فيمن يُدلي بنفسه أو بعصبة، فإنه أهل للتعصيب. فأما من يُدلي بغير عصبةٍ فإنه ليس من أهل التعصيب، فالذكورة فيه ليست (1) كالأنوثة، وليس الذكر كالأنثى، لا في باب الزوجية، ولا في الأبوين، ولا في الأولاد والإخوة (2) للأب. فهذا اعتبار.
وأما (3) دلالة الكتاب على (4) ميراث الأم؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5) . فالله تعالى فرض لها الثلثَ بشرطين: أن لا يكون له ولد، وأن يرثه أبواه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تُعطى (6) الثلثَ مطلقًا، مع عدم الولد، إذ لو كانت تُعطى الثلثَ مع عدم الولد مطلقًا لكان قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) زيادة في اللفظ ونقصٌ (7) في المعنى، وكان عديم الفائدة، وجودُه كعدمه، فإنه حينئذٍ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه، لأمه الثلث. وهذا خلاف دلالة القرآن، وهذا مما يدل على صحة أكابر الصحابة والجمهور
__________
(1) "ليست" ساقطة من س.
(2) ع: "ولا الإخوة".
(3) س، ع: "إنما". والتصويب من سائر النسخ.
(4) س: "عن"، ع: "من".
(5) سورة النساء: 11.
(6) س، ع: "أنه لا يعطي"، خطأ.
(7) كذا في النسختين بالرفع.(2/311)
الذين يقولون: لا تُعطَى (1) في العمريتين -زوج وأبوين؛ وزوجة وأبوين- ثلثَ جميع المال، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وموافقوه، فإنها لو أُعطِيَتِ الثلثَ لكانت تُعطاه مع عدم الولد مطلقًا. وهو خلاف ما دل عليه القرآن.
وقد روى عنه أنه قال لزيد رضي الله عنه: أين في كتاب الله ثلثُ ما بقي (2) ؛ أي ليس فيه إلاّ ثلث وسدس.
فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلثَ مطلقًا، فكيف تعطيها مع أحد الزوجين الثلث؟! بل في كتاب الله ما يَمنعُ إعطاءَها الثلثَ مع الأب وأحد الزوجين، فإنه لو كان كذلك لكان يقول: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث ". فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقًا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال (3) عُلِمَ أنّه لا يُسْتَحَق مطلقًا.
فهذا مفهوم المخالفة (4) الذي يُسمى دليل الخطاب، يدلّ على بطلان قول من أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع (5) ، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك
__________
(1) س، ع: "لايعطى".
(2) أخرجه عبد الرزاق (10/254) وابن أبي شيبة (11/242- 243) والدارمي (2878) والبيهقي (6/228) من طرق عن ابن عباس.
(3) س، ع: (المال) ، تحريف.
(4) س، ع:"المخالف".
(5) انظر: "المغني" (9/23) .(2/312)
مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تُعطَاه (1) مع الأخ الواحد، فعُلِم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا أُعطِيتْه (2) مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى.
وهذه دلائلُ بتنبيه الخطاب ومفهومِه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة، فلما دل القرَآن على أنها لا تُعطَى الثلث ولا تُعطَى السدسَ، وكان قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثًا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا (3) ليس بينهما فرق (4) أصلاً- عُلِم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تُعطَى في هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالةُ خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياسٌ في معنى الأصل، وإذا جُعِل ما في معنى الأصل (5) دلالة لفظيةً كانت خطابيةً أيضًا، كما في قوله: "من أعتق شِركًا له في عبدٍ" (6) ، وقوله: "أيما رجلٍ وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلسَ فهو أحق به" (7) ، فإن لفظ
__________
(1) س، ع: "أنه لا يعطاه". والتصويب من سائر النسخ.
(2) س، ع:"أعطته".
(3) س، ع: "إلاّ ما"، تحريف.
(4) س، ع: "فرض"، تحريف.
(5) "إذا جعل ما في معنى الأصل" ساقطة من س.
(6) سبق تخريجه.
(7) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/249) والحميدي في "مسنده " (1035) من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة. وللحديث طرق أخرى=(2/313)
"عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكرَ/ [167بٍ] والأنثى في عرف الخطاب، من باب التعبير باللفظ الخاصّ عن المعنى (1) العام.
وهذا بابٌ غير باب القياس، وذلك تارةً لكون اللفظ الخاصّ صارَ في العرف العامّ عامًّا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (2) ، وقوله: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)) (3) ، وقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)) (4) ، وقول القائل: "والله ما أخذتُ له حبّهً، ولا شربتُ له قَطرةً، ولا أكلتُ له لقمةً"، ونحو ذلك مما صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يُقصَد بهَ النفي (5) الخاص.
وتارةً يُعبَّر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] (6) العرف الخاص عامًّا، ومن هذا الباب خطاب [المُطاع] (7) الواحدَ في أهلِ طاعته الذين قد استقر عندهم تماثلُهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيِّدِ الواحدَ من عبيده بأمور يَشترِكُ فيها العبيد، وكذلك الملكِ الواحدَ من رعيته. ومن هذا
__________
= وألفاظ مختلفة، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) .
(1) "المعنى" ساقطة من ع.
(2) سورة النساء: 40.
(3) سورة فاطر: 13.
(4) سورة النساء: 124.
(5) ع: "المعنى".
(6) زيادة من سائر النسخ.
(7) زيادة من سائر النسخ.(2/314)
خطابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للواحدِ من أمته، فإن عُرِفَ بعادتِه من خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن حضره، قد عُلِم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطَبون بمثل ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين (1) هنا لا يُراد به التخصيص، بل التمثيل.
وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا (2) لو أُعطِيتْ ثلثَ الباقي لكان جعلاً (3) لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب (4) في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير الأب فبعيد عنها.
والقراَن لما أعطاها الثلث مع الأب دلّ على أنه مع غيره من العصبة أولى، وليس إذا أُعطِيتْ ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى (5) من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم.
وقد دلّ القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تُعطَى السدس، فلما بطل إعطاؤها السدسَ مع العصبة غير الأبِ وأحد الزوجين،
__________
(1) س، ع: "التعبير"، تحريف.
(2) ع: "فهذه".
(3) ع: "جعله".
(4) س: "الأم"، تحريف.
(5) ع:"والأولى".(2/315)
وثلثَ الباقي، تعيَّن الثلثُ، وكان أُعطِيَتِ الثلثَ مع سائر العصبة وأحد الزوجين بمنزلة أن تُعطَاهُ مع الأب وحده، فإن الأب وحدَه يَحْجُبُ سائر العصبةِ ويأخذُ الثلثين.
ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلثَ الباقي ليأخذ الأبُ الثلثين الآخرين، إذ ليس هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأمّ محجوبًا لا يأخذ شيئًا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حَجْبَ حِرمانٍ، فحجبُ النقصان أولى (1) . بخلاف الأب، فإنه لا يُحجَبُ معها لا حَجْبَ حِرمانٍ ولا حَجْبَ نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلثَ إعطاءً (2) مع غير الأب في سائر الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حالَ (3) هناك يستحق أحد معها أن يأخذَ مِثلَيْ ما تأخذ (4) ، كما يستحقُّ الأبُ ذلك. فإن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (5) (دلّ على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) ،فإنه لما جعل الميراث ميراثًا بينهما، ثم أخرج (6) نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أُعطي
__________
(1) ع: "أقل".
(2) ع: "إعطاؤها".
(3) ع: "لا رجل".
(4) س، ع:"تأخذ مثلي ما يأخذ"، والتصويب من سائر النسخ.
(5) سورة النساء: 11.
(6) س:"إن خرج".(2/316)
[الأب] (1) الباقي معها لم يلزم أن يُعطَى غيرُه مثل ما أُعطِي.
وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (2) ، وبقوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3) ، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما
أَبْقتِ الفرائضُ فلأولَى رجلِ ذكرِ". (4) .
__________
(1) زيادة من سائر النسخ.
(2) سورة الأنفال: 75.
(3) سورة النساء: 33.
(4) سبق تخريجه.(2/317)
فصل
وأما ميراث الأخوات مع البنات (1) ، وأنهن عصبة كما قال جمهورُ الصحابة (2) والعلماء- فقد دل عليه القرآن والسنة أيضًا، فإن قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) (3) يدل على أن الأخت ترثُ النصفَ مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال (4) كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر الولد تدليسًا وعبثاً مُضِرّا، وكلام الله منزه عن ذلك.
وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين
__________
(1) انظر هذه المسألة في: (المحلى) (9/256- 258) و"بداية المجتهد" (2/ 258) و"المغني" (9/ 9- 10) و"تفسير" القرطبي (5/64، 6/28- 29) و"شرح مسلم" للنووي (11/54، 58- 59) و"تفسير" ابن كثير (1/607) و"فتح الباري" (12/24- 25) .
(2) كما أخرج عنهم عبد الرزاق (10/254- 255) والدارمي (2884) والطحاوي (4/393) والحاكم (4/339) والبيهقي (6/233) .
(3) سورة النساء: 176.
(4) ع: "جميع المال ".(2/318)
بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع الصور،/ [168أ] ، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن ذلك قد يُقصَد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييدِ مقصودٌ، فهنا يمتنع أن يُذكَر التخصيص إلاّ لاختصاصه بالحكم.
ومن ذلك قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) (1) وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (2) ، وإذا عُلِم أنها مع الولد لا ترث النصفَ، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقِطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى، بدليل قوله: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) ، (3) [فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد] . والإرث المطلق هو حَوْزُ جميع المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يَحُز المال؛ بل إما أن يسقط وإما أن يأخذ (4) بعضَه. فيبقى (5) إذا كان لها ولد: فإما ابنٌ، وإما بنت. فالقراَن قد بيَّن أن البنتَ إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر (6) ، إذا
__________
(1) سورة النساء: 176.
(2) سورة النساء: 11.
(3) ساقطة من س، ع. والاستدراك من بقية النسخ.
(4) س، ع: (تسقط) و (تأخذ) .
(5) س: (فبقي) .
(6) س:"الآخر النصف". ع: "لآخرين النصف". والمثبت من سائر النسخ.(2/319)
لم يكن إلاّ بنتٌ وأخٌ.
ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد (1) ، عُلِمَ أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه.
ولما (2) كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مالَ الأخت فيكون لها عصبة، كان الأب أن يكون عصبةً بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق الأولى.
وقد قال تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (3) ، فإذا كان قد جعل مواليهم واحدهم مولى، وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولىً ويرث مالَه، ويكون من أولى الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ كان لكل أحد قد جعل الله عصبتَه ترث مالَه مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون.
قال طائفة من المفسرين (4) : أي: من المال الذي ترك.
والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى: لكل جعلنا ورثة يرثن (5) مما ترك، هم: الوالدان
__________
(1) انظر تفسير (الكلالة) في: "تفسير" الطبري (8/53- 54) و"تفسير" القرطبي (5/76- 78) و"تفسير" ابن كثير (1/470- 471) و"المغني" (9/8) و"شرح مسلم" للنووي (11/58) و"فتح الباري" (12/26) .
(2) س، ع: "فلما".
(3) سورة النساء: 33.
(4) انظر: "تفسير" الطبري (8/269- 272) و"تفسير" ابن كثير (1/501) .
(5) كذا في النسخ بدلاً من "يرثون".(2/320)
والأقربون.
وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية للوالدين والأقربين بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (1) . فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن (2) الابن أولى أن يكون عصبة من الأب.
وأيضا فإن الله سبحانه قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، فأوجب الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا يرث أحدهم إلاّ ولده، وكان ميراثُ الولد وأخذُ الأب مالَ ابنه كلَّه معروفًا عندهم في الجاهلية، ففرض الله الفرائضَ لمن سَمَّاه. وأما إرث الابن مالَ أبيه إذا لم يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة (3) الواضحة التي كانوا عليها في الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، وَوَكَّد ميراث الابن، حتى وَرَّث الابنَ سواء كان صغيرا أو كبيرًا.
وكذلك سائر الورثة سوى بين (4) الصغير والكبير، وكانوا في
__________
(1) سورة البقرة: 180.
(2) "الابن" ساقطة من س.
(3) ع: "العامة".
(4) س، ع: "سواء من"، تحريف. والتصويب من سائر النسخ.(2/321)
الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلاّ الكبير (1) .
ودلَّ أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلاّ العصبة، وقد عُلِمَ أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة.
وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني العلات (2) . فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن (3) ، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربُهم إلى الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان لأب.
فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد يكون الابن عاصبًا، يَحجُبُ الأختَ ما يحجب أخاها، بقي حالُ الأخت مع إناث الولد، ليمس في القرآن ما يَنفي
__________
(1) كما روي ذلك عن سعيد بن جبير وقتادة وابن عباس، انظر "تفسير ابن كثير" (1/465، 468) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (10/249) وأحمد (1/79، 131، 144) والدارمي (2988) والترمذي (2094، 2095، 2122) وابن ماجه (2715، 2739) والدارقطني (4/86- 87) والحاكم (4/336، 342) من طريق الحارث الأعور عن علي. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم. وانظر: "تلخيص الحبير" (3/83) .
(3) س: "الأب"، تحريف.(2/322)
ميراثَ الأختِ في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما يكون مع [عدم] (1) الولد.
بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما/ [168ب] أن يكون لها النصفُ، وإما أن تكون عصبةً:
ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تُزاحِمُ البنتَ، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي، ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يُسقِط القريب.
ولا يكون لها النصفُ فرضًا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنتَ مع اجتماعها، والبنت (2) أولى منها، فلا تُساوِيها. وأيضًا فإنه لو فُرِضَ لها النصفُ لنقَصَتِ البنتُ عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف.
وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فُرِضَ للأخت النصفُ مع البنت لعالتْ، فنَقَصَت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرضٍ ولا تعصيبٍ؛ فإن الأولاد أولى منهم.
والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له
__________
(1) زيادة من سائر النسخ.
(2) س: "الثلث"، تحريف.(2/323)
ولا والد، فمن له ولد لا يُفرض لها معه النصف.
فلما بطل سقوطُها وفرضُها (1) لم يبقَ إلاّ أن تكون (2) عصبة أولى من عصبة البعيد (3) ، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور] (4) ، وقد دل عليه حديث البخاري (5) عن ابن مسعود [لما ذكر له] (6) أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا في بنتٍ وبنتِ ابن وأختٍ: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائتِ ابنَ مسعودٍ فسيتابعني (7) 0 [فقال] (8) : لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت.
__________
(1) من هنا إلى قوله "رجل ذكر، فقد تناولها الحديث …" ص (329) اضطرب ترتيب الكلام في س، ع. وقد سبقت الإشارة إليه في المقدمة.
(2) س، ع: "يكون".
(3) ع:"العصبة البعيدة".
(4) من ع.
(5) أخرجه البخاري (6736, 6242) ، وليس عنده ذكر سلمان بن ربيعة، وقد جاء ذكره في طرق أخرى لهذا الحديث عند عبد الرزاق (10/257) وسعيد بن منصور (3: 1/59) وأحمد (1/389، 428، 440، 463) والدارمي (2893) وأبي داود (2890) والترمذي (2093) والنسائي في " الكبرى" (4/ 75- 71) وابن ماجه (2721) والطحاوي (4/392) والدارقطني (4/79- 80) والحاكم (4/334) والبيهقي (2/256) .
(6) من ع.
(7) ع: "فإنه سيتابعنا".
(8) زيادة من سائر النسخ.(2/324)
فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت/ [169أ] أقوى من أخ الميت (1) ، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن (2) : أن معاذًا أَفتى في بنتٍ وأختٍ، فأعطى الأختَ النصفَ، والبنتَ النصفَ.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلى ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَحُوز المرأة ثلاثَ مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه" (3) . وإذا كان عامّا مخصوصا خُصَّتْ منه هذه الصورة بما ذكر من الدلالة.
__________
(1) ع: "ميت".
(2) أخرجه عبد الرزاق (10/255، 256، 261) وسعيد بن منصور (3: 1/ 60) والدارمي (2882، 2883) وأبو داود (2893) والطحاوي (4/393، 394) وا لدارقطني (4/82- 83) والحاكم (4/337- 338، 346) . وهو عند البخاري (6734، 6741) من طريقين عن الأسود به. وانظر "فتح الباري" (12/25) .
(3) أخرجه أحمد (3/490، 4/106) وأبو داود (2906) والترمذي (2115) والنسائي في الكبرى (4/78، 91) وابن ماجه (2742) والدارقطني (4/ 89- 90) والحاكم (4/341) والبيهقي (6/240، 241) عن واثلة بن الأسقع. وهو حديث ضعيف، انظر الكلام عليه في "إرواء الغليل" (6/24) .(2/325)
وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب. قيل: فالمنازع يقدم المعتقَ على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكّد بالذكر ليبين أن العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول (1) الأنثى، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو ذلك مما (2) يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر" (3) ، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن (4) مراده بابن اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ (5) في هذه الحال دون ما إذا كان فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض.
ومما يبين صحةَ قول الجمهور أن قوله: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلاً
__________
(1) س، ع: "ما لا يتناول". وهو يعكس المعنى.
(2) س، ع: "فيما".
(3) أخرجه البخاري (1448 ومواضع أخرى) وأحمد (1/11) وأبو داود (1567) والنسائي (5/18) وابن ماجه (1800) عن أبي بكر الصديق ضمن كتاب الصدقة التي كتبها لأنس.
(4) "أن" ساقطة من س، ع.
(5) س: "يجري".(2/326)
للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفةً لكل صورة من صور المنطوق، ومن توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل.
فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص.
والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت؛ جاز أن يَخْلُفها- في بعض الصور أو كلها- علة أخرى. وقصد (1) التخصيص يَحصُل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نُفِي إرثها مع (2) ذكور الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى، فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض، فقد تكون عصبةً، وحينئذٍ فلا تخرج (3) من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها.
وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصًا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد الزوجين أو الأم، فإما أن تُلحَق (4) الفرائضُ بأهلها، وما بقي لا يختص به ذكور الولد
__________
(1) س، ع: "فصل"، تحريف. والمثبت من سائر النسخ.
(2) س، ع: "فإذا بقي إرثها من". والتصويب من سائر النسخ.
(3) س، ع: "يخرج".
(4) ع: "يلحقوا".(2/327)
والإخوة بالنص والإجماع أفإن الله تعالى يقول، (1) (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن) (2) [بعد قوله: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) . وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ] (3) وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث) (4) .
فقد جعلَ لكلٍ من الأبوين السدسَ مع الولد، والباقي للولد.
وإن كانوا ذكورًا وإناثًا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فدلَّ ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال.
ولو أخذ بما يُظَنُّ أنه ظاهر الحديث (5) , لكان الباقي بعد الفرض لذكور الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين. فعُلِم أنها إذا كانت عصبةً بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه الحال عصبة
__________
(1) من ع.
(2) سورة النساء: 176.
(3) من ع. ولا توجد في س.
(4) سورة النساء: 11
(5) انظر الكلام على سبب التأكيد بذَكَر في "الفتح " (12/12-13) .(2/328)
بغيرها (1) ، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فَلأنْ لا يُسقِطها العمُ وابنُه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يُسْقِطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها بخلاف أختها.
وحينئذٍ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به من له فرضٌ في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتُخَصُ منه.
ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلاّ بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم؛ أو كان يرث بفرضٍ تارةً وبتعصيبٍ أخرى، كالأب والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعدُ فلأولى رجلٍ ذكر، فقد تناولها الحديث.
فإن الورثة أقسام:
ذوو فرضٍ محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم.
وذوو تعصيبٍ محض: كالبنين، والإخوة.
ومن يكون ذا فرضٍ بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد.
ومن يكون ذا فرضٍ وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات.
__________
(1) س، ع: "لغيرها".(2/329)
[ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم يرد به سقوط البنات والأخوات] (1) إذا كنّ عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه الحال بالإجماع.
والأخوات مع البنات كالأخوات مع إخوتهن (2) ، فإذا لم ينفرد الرجل الذكر، وهو أخوهنّ ويسقطهن؛ فأَنْ لا ينفرد من هو أبعد منه ويسقطهن بطريق الأولى.
ولهذا لم تُوجَدْ قطُّ أختا تَسقُط مع عم، وابن عم، ومن هو أبعد منها. بل لابد أن ترث إما بفرض، وإما بتعصيبٍ حصل بغيرهاِ.
وحينئذٍ فإذا كنّ مع البنات وجب أن يرثن بأحد هذين، وقد تعذر به الفرضُ فتعيَّنَ التعصيبُ، كما لو كان معها أخوها. يبين ذلك أن جنس أهل الفرائض يُقدَّمون على العصبات، سواء كانوا (3) أهلَ فرض محض، أو كانوا مع ذلك لهم تعصيبٌ بأنفسهم أو بغيرهم.
والأخوات من جنس أهل الفرائض، ممن يرثن في حالٍ بفرض، وفي حالي يكنّ (4) عصبة، وهم مقدَّمون على من لا
__________
(1) من ع.
(2) س: "أختهن"، تحريف.
(3) س: "كان".
(4) س: "يكون".(2/330)
يرث (1) إلاّ بالتعصيب المحض كالعم وابن العم، فدل ذلك على أن الأخوات أولى من هؤلاء.
ولا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات، كما لا يجوز أن يُستدلَّ به على حرمانهن مع إخوتهن، [بل] (2) ولا على حرمان بنات الابن مع أخيهن ومع ابن أخيهن إذا استكمل البنات الثلثين، بل أتعصب من، (3) في درجته ومن هو أعلى منه عند الجمهور (4) ، ولكن ابن مسعود (5) ومن وافقه [كأبي ثور] (6) يقولون: إنه لا يعصب إلاّ من يرث دونه، لا يعصب (7) من يسقط بدونه، ودلالة الحديث في هذه المواضع من جنس واحد.
فإما أن يقال: هؤلاء كلهم من جنس أهل الفرائض فإنهن (8) ممن يفرض لهن، ليست بمنزلة العمة والخالة ونحوهما ممن ليس له فرض مقدر.
/ [169أ] ، وإما أن يقال: هو مخصوص. وهذا الحديث قد
__________
(1) س، ع: "لا يرثن".
(2) من ع.
(3) من ع.
(4) انظر: "المغني" (9/12) .
(5) س، ع: "ولكن ليس ابن مسعود"، والتصويب من سائر النسخ.
(6) من ع.
(7) س، ع: "لا يرث".
(8) س، ع: "فإنهم".(2/331)
رُوِي بألفاظ، فمن جُمَل ألفاظه (1) : "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وهذا لفظ يتناول كل من كان من أهل الفرائض في الجملة، وإن عرض له حال يكون فيها عصبة بغيره، إذا لم يكن محجوباتٍ بغيرهن، كما يحجب بنات الابن بالابن، وما بقي من بعده فلأولى رجل ذكر، ليس المراد به أنه ما بقي بعد الفرائض المقدرة لا يعطاه إلاّ رجل، ولو قدر أن اللفظ يتناول هذا فقد خص منه صور كثيرة بالنص والإجماع، فهذه الصورة أولى.
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1615) وأحمد (1/313) وأبو داود (2898) والترمذي (2098) وابن ماجه (2740) والدارقطني (4/71) من طريق معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس.(2/332)
وأما ميراث البنتين (1) ، فقد قال تعالى: () يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (2) .
فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف، ولما فوق اثنتين (3) الثلثان. بقيتِ البنتان، فكان إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه قال: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فقيّد النصف بكونها واحدةً، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلاّ مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، فإنه لما ذكر ضمير "كن" و"نساء" وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم
__________
(1) س، ع: "البنات"، والمثبت من سائر النسخ. والكلام هنا على ميراث البنتين، ففيه الخلاف بين العلماء، لا إذا كانت واحدة أو فوق اثنتين. وانظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/255) و"بداية المجتهد" (2/255) و"تفسير القرطبي" (5/63) و"تفسير ابن كثير" (1/469، 607) و"فتح الباري" (12/15- 16) و"المغني" (9/11- 12) .
(2) سورة النساء: 11.
(3) س، ع: "اثنتان"، خطأ.(2/333)
لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، لأنه قد عرف حكم اثنتين، وعرف حكم الواحدة. وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق اثنتين الثلثان، امتنع أن يكون للاثنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلاّ الثلثان، فكيف بما دون الثلاثة؟ ولا يكفيهما النصف، لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، [فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة] (11) .
وهذه الدلالة تظهر بقراءة النصب (2) : "وإن كانت واحدةً"، فإن هذا خبر كانت، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها فلها النصف، فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف، وانتفى الجميع، فلم يبق إلاّ الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
وأيضًا فإن الله تعالى لما قال: في الأخوات (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (3) ، كان دليلاً على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين.
وأيضًا فسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى ابنتيْ سعدِ بن الربيع الثلثين، وأمَّهما الثمن، والعمَ ما بقي (4) . وهذا إجماع لا يصح فيه
__________
(1) زيادة من سائر النسخ.
(2) وهي قراءة أكثر القراء، انظر "النشر" (2/247) .
(3) سورة النساء: 176.
(4) أخرجه أحمد (3/352) وأبو داود (2892) والترمذي (2092) وابن ماجه=(2/334)
خلاف عن ابن عباس (1) .
وقال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، لأنه لم يذكر قبل ذلك ما يدل على أن للواحدة مع أخيها (2) الثلث، وإنما ذكرِه بعد ذلك بقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، بخلاف تلك الآية، فإنه ذكر أولاً أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضمن حكمها مع أخيها، ثم ذكر حكم العدد من النساء بعد ذلك.
ودلت آية "الولد" (3) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؟ فلذلك قال في الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) (4) ، ولم يذكر ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان (5) تستحقان الثلثين، فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى. بخلاف آية
__________
= (2720) والطحاوي (4/395) والدارقطني (4/78- 79) والحاكم (4/ 333- 334، 342) من طرقِ عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعند أبي داود (2891) : "بنتا ثابت بن قيس"، قال أبو داود: أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.
(1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/11) : أجمع أهل العلم على أن فرض الابنتين الثلثان، إلاّ رواية شذت عن ابن عباس أن فرضها النصف، والصحيح قول الجماعة.
(2) س، ع: "أختها".
(3) هي الآية 11 من سورة النساء.
(4) سورة النساء: 176.
(5) س، ع: "البنتان".(2/335)
"البنات " (1) فإنه لم يدل قوله: (لَلذَكَرِ مِثْلُ حَظِ اَلأُنثَيَين) إلاّ على أن لها الثلث مع أخيها، وإذا كن فوق اثنتين لم تستحق الثلث، فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان.
هناك لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك، بين بعد ذلك ميراث ما زاد على الثنتين.
وفي آية الصيف (2) لما دل الكلام الأول على ميراث الأختين (3) ، وكان ذلك دالاّ بطريق الأولى على ميراث الثلاثة والأربعة وما زاد، لم يُحتَجْ أن يذكر ما زاد على الأختين.
فهناك (4) ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الأخرى (5) ذكر الثنتين دون ما فوقهما، لما يقتضيه حسن البيان في كل موضع، حيث كان هناك قد بين ميراث البنتين دون ما فوقهما، وكان هنا بيان حكمهما بيانًا لما فوقهما بطريق الأولى، ولم يكن فيما تقدم بيان حكمهما، فلا يجوز (6) أن يكون للأخوات أكثر من الثلثين، لأن البنات إذا لم يكن لهن أكثر من الثلثين، فالأخوات بطريق الأولى.
__________
(1) هي الآية 11 من سورة النساء.
(2) هي الآية 176 من سورة النساء. وفي س، ع: "النصف"، وهو تحريف، وقد سبق الكلام عليه فيما مضى.
(3) س: "البنتين"، خطا.
(4) أي في الآية 11 من سورة النساء.
(5) أي في الآية 176 منها.
(6) ع: "ولا بيان".(2/336)
ثم قال تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) . وأراد بذلك وإن كانوا عددًا من الإخوة من جنس / [170أ] الرجال وجنس النساء، لم يُرِد أن يكون جمع رجال وجمع نساء، فإنه لو كان رجل وامرأتان، أو امرأة ورجل، أو رجلان وامرأتان، لكان ذلك كما لو كانوا ثلاثة رجال وثلاث نساء (1) ، وهذا باتفاق الناس.
ولو قيل: الإخوة ثلاثة فصاعدًا.
لقيل: وكذلك الرجال والنساء، فلزم أن يكون المعنى إن كانوا ستة إخوة فصاعدًا. ولأنه لما بين حكم الأخت الواحدةِ والأخ الواحدِ وحكم الأختين فصاعدًا، بقي بيان الاثنتين فصاعدًا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبًا للأقسام.
ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يُعنَى به الجنس من غير قصد العدد، لقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم) (2) ، وقد يُعنَى به العددُ من غير قصدٍ لقدرٍ منه، فيتناول الاثنين فصاعدًا، وقد يعنى به الثلاثة فصاعدًا. وفي هذه الآية إنما عُني به العدد مطلقًا؛ لأنه بيّن الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرَّق فيه بين الواحد والعدد، وسَوىَ فيه بين
__________
(1) س، ع: "ثلاثة نساء".
(2) سورة آل عمران: 173.(2/337)
مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين [أن قوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يتناول الاثنين والثلاثة.
وقد صرح بذلك في] (1) قوله تعالى: () وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) . فقوله "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت، ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله "فهم"، والمظهر (2) ، وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلاّ قوله: "وله أخ أو أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما.
فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقًا: الاثنين فصاعدًا؛ لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، وقوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً) . ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدًا في موضع آخر.
وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص
__________
(1) زيادة من سائر النسخ.
(2) س، ع: "المضمر"، خطأ.(2/338)
بالتثنية، فيما (1) كان مضافًا إلى مثنى وليس فيه إلاّ واحد منه، كقوله تعالى (فَقَد صغَت قُلُوبُكُمَا) (2) ، ولا يحتمل إلاّ قلبين (3) ، فهذا يختص بالاثنين، وعُدِلَ فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه قد عُلِمَ أن لكل واحدٍ قلبًا، فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو لغة القوم. ومنه قوله تعالى: (وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَارِقَةُ فَاَقْطَعُوَا أَيدِيَهُمَا) (4) ، ولم يقل: "يديهما".
فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين، ولم يقل أحد إنها عند الإطلاق تختص بالاثنين، فكذلك تُستعمل في الاثنين فصاعدًا في الموضع المبين، وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدًا، وليس شيء من ذلك مجازًا؛ بل كله من الموضوع في لغتهم.
وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدًا (5) ، أو لاثنين فصاعدًا. بل وُضِع لاثنين فصاعدًا في موضع، ولثلاثة فصاعدًا في موضع، ولاثنين فقط في موضع، كله من موضوع العرب. والقرينة هنا من وضع العرب.
__________
(1) س، ع: "فما".
(2) سورة التحريم: 4.
(3) س، ع: "الاثنتين".
(4) سورة المائدة: 38.
(5) "وليس شيء من ذلك ... فصاعدا" ساقطة من ع.(2/339)
وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به، ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد مطلقه، ويكون مانعًا له من العموم، موجبًا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه، كما وضعت رفع الفاعل، ونصب المفعول به، وخفض المضاف إليه.(2/340)
وأما الجدة (1) فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء (2) ، فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، فالجدة وإن سُميَتْ أمًّا لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، كما دخلت في لفظ "الأمهات" في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) (3) . ولكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها السدس (4) ، فثبت ميراثها بسنته، ولم يُنقل عن النبي
__________
(1) انظر لاختلاف العلماء في ميراث الجدة: "المحلى" (9/272- 274) و"المغني" (9/55) .
(2) أخرج مالك في "الموطأ" (2/513) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) والنسائي في الكبرى (4/73- 74) وابن ماجه (2724) والحاكم (4/338) عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر ... إلى آخر الحديث. قال الحافظ في "التلخيص" (3/82) : إسناده صحيح لثقة رجاله، إلاّ أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة. وانظر "إرواء الغليل" (6/124- 126) .
(3) سورة النساء: 23.
(4) كما في حديث بريدة الذي أخرجه أبو داود (2895) والنسائي في "السنن الكبرى" (4/73) ، قال الحافظ في "التلخيص" (3/83) : في إسناده عبيد الله العتكي مختلف فيه، وصححه ابن السكن. وانظر "إرواء الغليل" (6/ 121) .(2/341)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظ عام في الجدات، بل ورَّث الجدة التي أتته، فلما جاءت الثانية إلى أبي بكر رضي الله عنه جعلها شريكة الأولى في السدس (1) .
وقد تنازع الناس في الجدات (2) :
فقيل: لا يرث إلاّ اثنتان: أم الأم وأم الأب، كقول مالك وأبي ثور.
وقيل: لا يرث إلاّ ثلاث، هاتانِ وأم الجد؟ لما روى إبراهيم النخعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورَثَ ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدة من قبل أمك (3) . وهذا مرسل حسن، فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلاّ توريث هؤلاء.
وقيل: بل يرث جنسُ الجداتِ المُدلياتِ بوارثٍ؛ وهو قول
__________
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/513) وعبد الرزاق (10/275) وسعيد بن منصور (3: 1/73) والدارقطني في (السنن) (4/90- 91) والبيهقي في "لسنن الكبرى" (6/235) عن القاسم بن محمد. قال الحافظ في "التلخيص" (3/85) : هو منقطع. وانظر: "إرواء الغليل" (6/126) .
(2) انظر: (المغني) (9/55- 56) و"المحلى" (9/274- 277) و"بداية المجتهد" (2/262- 263) و"تفسير القرطبي" (5/70- 71) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (10/273) وسعيد بن منصور (3: 1/72) والدارمي (2938) والدارقطني (4/90) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/236) من طريق منصور عن إبراهيم مرسلا. وانظر: "التلخيص" (3/83) .(2/342)
الأكثرين، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو وجهٌ في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؟ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس الذي أعطي إلاّ لغيرك؟ ولكن هو لكن، فأيتكن خَلَتْ به فهو لها. فورث الثانية،/ [170ب] ، والنص إنما كان في غيرها.
ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد، أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وأي فرق بين أم الأب وأم الجد؟
ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؟ بل هو جلى أعلى.
وكذلك الجد كالأب؟ فأي وصف يفرق بين أم أم الجد وأمْ أبي الجد؟
فبيَّن ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء (1) ، وأم أبي جده وأم جد جذه بالنسبة إلى جده سواء، وإذا كانت هاتان تشتركان في الميراث، ونسبة تينك إليه كنسبة هاتين وَجَبَ اشتراكهما في الميراث.
وأيضًا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ترث، ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فإن جدته أم أبيه إذا لم تكن مثل أم أمه،
__________
(1) "فكذلك ... سواء" ساقطة من ع.(2/343)
لم تكن أدنى منها، فإنها تُدلِي بعصبة، وبنت الابن أولى من بنت البنت، فلم تكن أم الأم أولى من أم الأب.
ونظير هذا في الحضانة، فإنهم متنازعون: هل أم الأم أولى من أم الأب؟ على قولين (1) ، هما روايتان عن أحمد.
وأصل الحضانة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدّم الأم على الأب (2) ، لكن قدّمها لكونها أنثى، فهي أحق بالتربية من الذكر، أو لكون جهة الأمومة أحقّ من جهة الأبوة؟ فإن كان الأول لم تقدم أم الأم بل أم الأب، لأنهما تشتركان في الأمومة، وامتازت تلك بأنها من نساء العصبة، والحضانة لرجال العصبة دون رجال الأم، فان كانت لجهة الأم قدمت أم الأم، وهذا مخالف لأصول الشرع (3) ، فإنّ أقارب الأم لم يُقذَفوا في شيء من الأحكام؛ بل أقارب الأب أولى من أقارب الأم في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة.
وكذلك في ميراث الجدة، أم الأب إن لم تكن أولى من أم الأم لم تكن دونها. والصحيح أنها لا تسقط بابنها (4) - أي الأب- كما هو أظهر
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (34/122، 123) و"المغني" (11/422) .
(2) أخرجه أحمد (2/182، 203) وأبو داود (2276) والحاكم في
"المستدرك " (2/207) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/4-5) من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(3) س: "الشرائع".
(4) انظر لهذه المسألة: "المحلى" (9/279- 281) و"المبسوط" (29/169) =(2/344)
الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (1) ، ولأنها وإن أدلتْ به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم، لما أدلوا بها ولم يرثوا ميراثها، لم يسقطوا بها.
وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردًا وعكسا، باطل طردًا بولد الأم مع الأم؛ وعكسًا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم، وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن (2) لم يُدلِ به. وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقامَ الأم، فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.
__________
= و"بداية المجتهد ((2/263) و"المغني" (9/60- 61) و"تفسير القرطبي" (5/70) .
(1) أخرجه الترمذي (2102) وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلاّ من هذا الوجه.
(2) س، ع: "من".(2/345)
فصل
وأما كون "بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين (1) ، وكذلك الأخت من الأب معِ أختٍ لأبوين (2) ؛ فلأن الله تعالى قال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) (3) .
وقد عُلِمَ أن الخطاب يتناول ولدَ البنين دون ولدِ البنات،. وأن قوله "أولادكم" يتناول من يُنسَب إلى الميت؛ وهم ولده وولد بنيه، فإنه يتناولهم على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أن ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم يكن إلاّ بنتٌ فلها النصف.
وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فهن استحققن الجميع لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن.
وكذلك في الأخت من الأبوين وفي أخت من الأب، أخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى للبنت النصف، ولبنت
__________
(1) انظر لهذه المسألة: "المغني" (9/14-15) و"فتح الباري" (12/18) .
(2) انظر: "المحلي" (9/269) و"المغني" (9/16) و"تفسير القرطبي" (5/ 65) .
(3) سورة النساء: 11.(2/346)
الابن السدس تكملة الثلثين (1) .
وأما إذا استكمل البناتُ الثلثين لم يبق فرض؛ فان كان هناك عصبة من ولد البنين فالباقي له؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ وإن كان معه أو فوقَه بنتٌ عَصَبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأئمة الأربعة وغيرهم (2) . وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه يسقطها (3) ؛ لأنها لا ترث مفردة، فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برِق أو كفر.
والجمهور يقولون: هي وارثة في الجملة، وهي ممن تكون عصبة بأخيها، وهنا إنما سقط (4) ميراثها بالفرض لاستكمال الثلثين، وإذا سَقَطَ الفرضُ لم يلزم سقوط التعصيب مع قيام موجبه، وهو وجود أخيها، وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيحرمها وإن ورثت بالفرض، كما في الأخ المشئوم،/ [171أ] ، فكذلك يجب أن يجعلها عصبة فيورثها (5) إذا لم ترث بالفرض. والنزاع في الأخت للأب مع أخيها (6) إذا استكملت الأخوات
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: "بداية المجتهد" (2/255- 256) و"المغني" (9/11-13, 15) و"تفسير القرطبي" (5/62) .
(3) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/252) والدارمي (2896، 2898) والطحاوي (4/394) والبيهقي (6/230) . ونصر ابن حزم مذهبه في المحلى (9/ 271) . وراجع "المغني" (9/12، 13) .
(4) ع: "يسقط".
(5) س، ع: "فيرثها".
(6) انظر: "المحلى" (9/269- 271) و"بداية المجتهد" (2/259) و"المغني"=(2/347)
للأبوين الثلثين، كالنزاع في بنت الابن مع أخيها (1) إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوتهن، يقتسمون النصف الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن (2) .
__________
= (9/16-17) .
(1) "أخيها" مطموسة في س، في ع: "مع البنتين".
(2) أخرجه عنه: عبد الرزاق (10/252) وسعيد منصور (3: 1/56، 57) والدارمي (2894- 2896) والطحاوي (4/394) والبيهقي (6/230) .(2/348)
فصل
فيمن عمي موتهم فلم يُعْرَفْ أيهم مات أولاَ، فالنزاع مشهور فيهم (1) . والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضُهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته الأحياء، وهو قول الجمهور، وقولٌ في مذهب أحمد؛ لكنه خلاف المشهور في مذهبه.
وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقط، لما جهل حال المالك كان المجهول كالمعدوم، فصار مالكَا لما التقطه؛ لعدم العلم بالمالك.
وكذلك "المفقود" (2) ، قد أخذ أحمد فيه بأقوال الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، فجعلوها (3) زوجة الثاني مادام الأول مجهولاً باطنًا وظاهرًا، كما في اللقطة، فإذا علم صار (4) النكاح
__________
(1) س، ع: "بينهم". وراجع للمسألة: "المدونة" (3/85) و"المبسوط" (30/ 27 وما بعدها) و"بداية المجتهد" (2/266) و"المغني" (9/170- 173) . وآثار الصحابة والتابعين أخرجها عبد الرزاق (10/295- 298) وسعيد بن منصور (3: 1/105- 108) والدارمي (3048- 3052) والدارقطني (4/ 73، 74، 119) والبيهقي (6/222) .
(2) راجع: "المغني" (9/186- 189) .
(3) س: "وجعلها".
(4) س، ع: "جاز".(2/349)
موقوفًا، لأنه فُرَق بينه وبين امرأته بغير إذنه، لكن تفريقًا جائزا، فصار (1) ذلك موقوفًا على إجازته ورده، فيخيّر بين امرأته والمهر. فإن اختار امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني بنفس ظهور هذا واختياره امرأته، ولم يحتج إلى طلاقه. وإن لم يخترها بقيت زوجة الثاني، وكان للأول المطالبة بالمهر الذي هو عوض خروج بُضْعِها من ملكه بغير أمره، ولم يحتج ذلك إلى إنشاء نكاح الثاني.
فلها ثلاثة أحوال:
حال الجهل بالأول، فهي زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا.
وحال انقضاء نكاحه واختياره المهر، فصارت أيضًا زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا.
وحال اختيار الأول لها، فتعود زوجته باطنًا وظاهرًا.
وحال ظهوره قبل اختياره، فالأمر موقوف كالنكاح الموقوف.
والمقصود هنا أن أحمد اتبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا (2) إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم، فيكون (3) تقدم أحدهما على الآخر معدومًا، فلا يرث أحدهما من صاحبه.
__________
(1) س، ع: "فجاز".
(2) س، ع: "وهو".
(3) س، ع: "ويلزم".(2/350)
وأيضًا فالميراث جُعِلَ للحي ليكون خليفةً للميت ينتفع بماله، فإذا ماتا على هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجَعْلُ كل منهما وارثًا موروثًا مناقضٌ لمقصود الإرث، فإن كونه وارثًا يوجب أن يكون حيا يخلف غيره، وكونه موروثًا يوجب أن يكون ميتًا مخلوفًا، فكيف يُحكَم بحكمين متناقضين في حال واحد؟
وكما أنهم لم يورثوه إلاّ من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور؛ فيجب أن لا يورثوه مطلقًا لئلا يلزم الدور في نفس المورث (1) لا في عين الموروث.
وأما إذا عاش أحدهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم حياته بعد الآخر، فإن شرطَ الإرث- وهو العلم بحياته بعده- منتفٍ، فلا يجوز توريثه منه.
وهذا يستفاد من جَعْلِ الله هذا وارثًا، والوارث لا يكون إلاّ من عاش بعد الموروث، وهذا غير معلوم، فلا يثبت الإرث، فإن الجهل بالشرط بمنزلة عدمه، كما قلنا [في] (2) الربويات: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فالجهل بالتقدم كالعلم بعدم التقدم.
والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
***
__________
(1) ع: "الموروث".
(2) زيادة على س، ع من بقية النسخ.(2/351)
الفهارس
1- فهرس المصادر والمراجع
2- فهرس موضوعات "فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد"
3- فهرس موضوعات "قاعدة في الاستحسان"
4- فهرس موضوعات "قاعدة في شمول النصوص للإحكام"(2/353)
فهرس المصادر والمراجع
- الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن مبارك السجلماسي، المطبعة الأزهرية، القاهرة، 1306.
- إبطال الاستحسان، للشافعي (ضمن كتاب الأم 7/267- 277) .
- ابن الفارض والحب الإلهي، لمحمد مصطفى حلمي، ط. القاهرة، 1945 م.
- إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1311.
- إجابة الغوث ببيان حال النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث، لابن عابدين، (ضمن مجموعة رسائله) ط. الآستانة، 1325.
- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408.
- الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1356.
- الأحكام في أصول الأحكام، للاَمدي، ط. الرياض 1387.
- الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت 1400.
- إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1407.
- أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة 1392.
- أحكام القرآن للشافعي، جمع ورواية: البيهقي، تحقيق عبد الغني عبد الخالق،
القاهرة 1371.
- أخبار القضاة، لوكيع، بيروت: عالم الكتب، د. ت.
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، بيروت 1399.
- الاستحسان بين المثبتين والنافين، للأستاذ حمزة زهير حافظ، رسالة ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، دون تاريخ.
- الاستذكار، لابن عبد البر، ط. عبد المعطي قلعجي، القاهرة.(2/355)
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، "القاهرة" 1380.
- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الشعب، القاهرة، 1964 م.
- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملأ علي القاري، تحقيق: محمد الصباغ، دار الأمانة، بيروت، 1391.
- أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن رشيق (ضمن "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية") جمع: محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة 1420.
- الإسماعيلية: تاريخ وعقائد، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور 1406.
- الأشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، تحقيق: محمد غريب سراج الدين، قطر 1414.
- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، ط. القاهرة، 1358.
- اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي، (طبع ملحقًا بكتاب "التعريفات" للجرجاني) تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م.
- اصطلاحات الصوفية، لعبد الرزاق القاشاني، تحقيق: سبرنجر، كلكتا (الهند) 1854 م.
- الأنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للأمير الصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق البدر، ط. المدينة المنورة، 1421.
- الأصل، لمحمد بن الحسن، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر آباد 1386.
- أصول الجصاص، [الجزء المتعلق بأبواب الاجتهاد والقياس] ، تحقيق: سعيد الله القاضي، لاهور 1981 م.
- أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة 1372.
- أصول الفقه وابن تيمية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، القاهرة 1405.
- أصول مذهب الأمام أحمد، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الرياض 1397.
- الاعتصام، للشاطبي، القاهرة: المكتبة التجارية.
- الأعلام، للزرِكلي، الطبعة الخامسة، بيروت 1980 م.
- إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1374.(2/356)
- أعيان العصر وأعوان النضَر، للصفَدي، الجزء1، نسخة عاطف أفندي برقم 1809.
- الأم، للشافعي، القاهرة: دار الشعب 1388.
- الأموال، لأبي عبيد، تحقيق: محمد خليل هراس، القاهرة 1396.
- أنساب الأشر اف، للبلاذري، بيروت: دار الفكر 1417.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1375.
- الأولياء، لابن أبي الدنيا، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1413.
- إيضاح المكنون في الذيل على كلشف الظنون، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول.
- الإيمان، لشيخ الاسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) .
- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1417.
- البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة 1328- 1329.
- البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، ط. الكويت 1413.
- بدائع الصنائع، للكاساني، ط. القاهرة: مطبعة الإمام.
- بدائع الفوائد، لابن القيم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الفكر، بيروت.
- البداية والنهاية، لابن كثير، ط. القاهرة 1358، وتحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، 1417.
- البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، الدوحة 1399.
- البناية في شرح الهداية، للعيني، ط. بيروت: دار الفكر 1400.
- تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامى، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306- 1307.
- تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق 1994 م.
- تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف.(2/357)
- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. القاهرة، 1349.
- تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت, 1415.
- التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق 1400.
- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، تحقيق: محمد علي النجار وعلي محمد البجاوي، القاهرة: وزارة الثقافة.
- تتمة المختصر في تاريخ البشر، لابن الوردي، بيروت: دار المعرفة 1389.
- التحرير مع شرحه التيسير، لابن الهمام، القاهرة 1350.
- تخريج أحاديث فضائل الشام ودمثق، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الأسلامي، بيروت، 1403.
- تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ط. حيدر آباد.
- تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الفتني، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1343.
- الترغيب والترهيب، للمنذري، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة.
- التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، لاهور، 1406.
- التعريفات، للشريف الجرجاني، تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م.
- التعقبات على الموضوعات، للسيوطي، ط. المطبع العلوي، لكنو، 1303.
- تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز بن محمد الخليفة، الرياض 1417.
- تفسير ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة- الرياض 1417
- تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن) ، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1373. وتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1961- 1970 م.
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. دار طيبة، الرياض، 1418.
- تقويم الأدلة، لأبي زيد الدبّوسي، نسخة مكتبة لاله لي برقم 690.
- التلخيص في أصوات الفقه، للجويني، تحقيق: عبد الله جولم وشبير أحمد العمري، بيروت 1417.(2/358)
- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1964.
- تلخيص الموضوعات، للذهبي، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الفرقان، الرياض، 1419.
- التمهيد في أصول الفقه، للكلوذاني، ج 4، تحقيق: محمد بن علي بن إبراهيم، مكة المكرمة 1406.
- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق، مكتبة القاهرة، القاهرة، 1378.
- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ط. القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية.
- التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، ط. عالم الكتب، المَاهرة، 1410.
- تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، 1397.
- جامع الأصول في الأولياء، لأحمد ضياء الدين الكمشخانلي، ط. القاهرة، 1328.
- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1346.
- جامع الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط. البابي الحلبي، القاهرة، 1356- 1382.
- الجامع الصحيح، للبخاري (بشرحه"فتح الباري") ، المكتبة السلفية، القاهرة، 1380.
- الجامع الصغير في حديث البشير النذير، للسيوطي، (بشرحه "فيض القدير") .
- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب، القاهرة، 1360.
- الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
- جامع المسانيد والسنن، لابن كثير، ط. دار الفكر، بيروت، 1415.
- جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني، لعلي حرازم برادة، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963م.
- حاشية ابن عابدين على الدر المختار= رد المحتار على الدر المختار، القاهرة: بولاق 1272.
- الحاوي الكبير، للماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية 1414.
- حلية الأبدال، لابن عربي، ط. مطبعة الفيحاء، دمشق، 1929 م.(2/359)
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. مكتبة الخانجي ومطبعة السعادة، القاهرة، 1932- 1938 م.
- حلية العلماء، للشاشي، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم، بيروت 1400.
- الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (ضمن "الحاوي للفتاوي" 2/241- 255) ، للسيوطي، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، 1353.
- ختم الأولياء، للحكيم الترمذي، تحقيق: عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1965 م.
- الخراج، لأبي يوسف، تصحيح: محب الدين الخطيب، القاهرة 1352.
- دائرة المعارف الإسلامية (بالإنجليزية) الطبعة الجديدة، بريل، ليدن.
- درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد (الهند) ، 1348- 1350.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ط. دار الفكر، بيروت، 1403.
- ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. ليدن، 1931- 1934 م.
- ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1372.
- ذيل القول المسدّد في الذب عن المسند للأمام أحمد، لمحمد صبغة الله المدراسي، ط. حيدر آباد، 1400.
- ذيل مشتبه النسبة، لمحمد بن رافع السلامي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، بيروت 1976.
- الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1358.
- رسالة في معنى القياس، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) .
- رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي، نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
- رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، لعمر بن سعيد الفوتي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1963 م.
- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للاَلوسي، إدارة الطباعة(2/360)
المنيرية، القاهرة، 1345.
- روض الرياحين في حكايات الصالحين، لليافعي، ط. القاهرة، 1286.
- روضة التعريف بالحب الشريف، للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968 م.
- روضة الطالبين، للنووي، بيروت 1388.
- روضة الناظر بشرحه نزهة الخاطر العاطر، لابن قدامة، القاهرة 1342.
- سراج المريدين، لأبي بكر ابن العربي (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية برقم [20348 ت] .
- سلسلة الأحاديث الصحيحة (1- 6) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. مكتبة المعارف، الرياض.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1- 5) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الاسلامي، بيروت؛ ومكتبة المعارف، الرياض.
- سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1372.
- سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371.
- سنن الدارقطني مع التعليق المغني للعظيم آبادي، القاهرة 1386.
- سنن الدارمي، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة.
- السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد (الهند) ، 1344- 1355.
- السنن الكبرى، للنسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
- سنن النسائي (= المجتبى) ، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348.
- السنن والآثار، لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الدار السلفية، بومبي.
- السنة، لعبد الله بن أحمد، ط. المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1349.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة الرسالة.
- السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1355. وط. همام عبد الرحيم سعيد، عمان 1409.(2/361)
- السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني، لمحمد المكي بن مصطفى بن عزوز، ط. تونس، 1310.
- سيف الله على من كذب على أولياء الله، لصنع الله الحلبي الحنفي، ط. دار الوطن، الرياض، 1420.
- شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبد السلام، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الطباع، دمشق، 1410.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، ط. دار طيبة، الرياض، 1409.
- شرح تنقيح الفصول، للقرافي، القاهرة 1393.
- شرح الخرشي على مختصر خليل، بيروت: دار صادر، د. ت.
- شرح صحيح مسلم، للنووي، ط. القاهرة 1349.
- الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين ابن قدامة، بيروت 1392.
- شرح الكوكب المنير، للفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكة المكرمة 1408.
- شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت 1408.
- شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت 1407.
- شرح مسلم الثبوت= فواتح الرحموت، لبحر العلوم اللكنوي، القاهرة: بو لاق 1324.
- شرح معاني الآثار، للطحاوي، القاهرة 1968- 1969 م.
- شرح مقدمة التائية الكبرى، لداود القيصري، (مخطوط) نسخة أياصوفيا برقم [1898] .
- شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، بيروت: عالم الكتب.
- شرح المواهب اللدنية، للزرقاني، ط. بولاق، 1291.
- شرح أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، ط. أنقرة، 1971 م.
- الشريعة، للاَجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية،(2/362)
القاهرة، 1369.
- شفاء السائل لتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، إستانبول، 1958 م.
- شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: جمال بن حبيب صلاح، ط. الرياض، 1418.
- صحيح ابن حبان (بترتيبه "الإحسان" لابن بلبان الفارسي) ، تحقيق: شعيب الأرناووط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت.
- صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، بيروت 1400.
- صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1375.
- الصلة بين التصوف والتشيع، لكامل مصطفى الشيبي، ط. القاهرة، 1969 م.
- ضحى الإسلام، لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936 م.
- طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1371.
- الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت: دار صادر 1385.
- الطبقات الكبرى (= لواقح الأنوار في طبقات الأخيار) ، لعبد الوهاب الشعراني، ط. المطبعة الشرفية، القاهرة، 1315.
- طرح التثريب بشرح التقريب، للعراقي وابنه، ط. القاهرة 1353.
- العُدَة في أصول الفقه، لأبي يعلى، تحقيق: أحمد بن علي سير المباركي، الرياض 1410.
- العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي، القاهرة 1356.
- غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الاَلوسي، ط. لاهور، 1403.
- فتاوى ابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، 1403.
- الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1970 م.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1380.
- فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الأخوان، للحلبي، ط. القاهرة، 1312.
- فتح القدير للعاجز الفقير، لابن الهمام، القاهرة 1315.(2/363)
- الفتوح، لابن أعثم، بيروت: دار الكتب العلمية.
- الفتوحات المكية، لابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م.
- فتوى فيمن يدعى أن ثمَ غوثًا وأقطاباً، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (مخطوطة) نسخة جامعة برنستون، برقم [5542] .
- فردوس الأخبار، للديلمي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1407.
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن "مجموع الفتاوى") .
- الفصول في الأصول، للجصاص الرازي، نسخة دار الكتب بالقاهرة.
- فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1950 م.
- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1400.
- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحى المعلمي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1380.
- فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، الجزء الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1973 م.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرءوف المناوي، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، 1356- 1357.
- فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن قل عن الصواب، لعبد ربه بن سليمان القليوبي، ط. القاهرة، 1964 م.
- قاعدة في الاستحسان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، قرأها وعلق عليها: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419.
- قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1310.
- القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال، لنوح أفندي بن مصطفى الرومي، (مخطوط) ، نسخة دار الكتب المصرية برقم [تصوف249] .(2/364)
- القياس في الشرع الإسلامي، لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، القاهرة 1346.
- الكامل في التاريخ، لابن الأثير، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية.
- الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت.
- كرامات الأولياء، لأبي محمد الخلال، (مخطوط) نسخة دار الكتب الظاهرية، [حديث 248] .
- كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد أعلى التهانوي، ط. كللكتا (الهند) ، 1862 م.
- كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، القاهرة 1366.
- كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، استانبول 1308.
- كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس،
لإسماعيل العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1401.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط. إستانبول 1941م.
- كشف المحجوب، لعلي بن عثمان الهجويري، دار النهضة، بيروت، 1980 م.
- كشف الوجوه النز لمعاني نظم الدر، للقاشاني، ط. القاهرة، 1319- 1320.
- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي البرهانفوري، ط. حلب، 1390.
- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة، 1963 م.
- لسان الميزان، لابن جحر، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد، 1329- 1331.
- المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت.
- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/371/1953- 395.
- مجلة "المسلم" (القاهرة) .
- مجلة "المنار" (القاهرة) .
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1932- 1934 م.
- المجموع شرح المهذب، للنووي، القاهرة: إدارة الطباعة المنبرية، د. ت.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن(2/365)
قاسم وابنه محمد، ط. الرياض، 1381- 1386.
- مجموعة الرسائل [الصغرى] ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. القاهرة، 1323.
- مجموعة الرسائل الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة 1323.
- مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: السيد محمد رشيد رضا، ط. مطبعة المنار، القاهرة، 1349.
- مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، القاهرة 1329.
- المحصول في أصول الفقه، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض 1399.
- المحلى، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1347- 1352.
- مختصر ابن الحاجب بشرح العضد، القاهرة: بولاق 1316.
- مختصر اختلاف العلماء، للجصاص، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت 1416.
- مختصر الخرقي، ط. دمشق 1402.
- مختصر العلو للذهبي، اختصار محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401.
- مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م.
- مختصر القدوري، ط. القاهرة 1377.
- مختصر المزني بهامش كتاب الأم، القاهرة: دار الشعب 1388.
- المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، تحقيق: محمد مظهر بقا، مكة المكرمة، 1400.
- المدونة، رواية سحنون، القاهرة: مطبعة السعادة.
- مرآة الأصول، لمنلا خسرو، استانبول 1272.
- مرقاة المفاتح لمشكاة المصابح، لملاّ علي القاري، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1309.
- مسائل الأمام أحمد، رواية أبي داود، ط. بيروت: محمد أمين دمج، د. ت.
- مسائل الأمام أحمد، رواية صالح، تحقيق: فضل الرحمن دين محمد، دلهي 1408.
- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ط. حيدر اباد (الهند) ، 1334.(2/366)
- المستصفى، للغزالي، ط. القاهرة: بولاق 1322.
- المسند، للأمام أحمد بن حنبل، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313.
وتحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1367.
- مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، - مسند الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الهند، 1381.
- المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محصي الدين عبد الحميد القاهرة 1384.
- مشتبه النسبة، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة 1962 م.
- مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني، لمحمد خضر الشنقيطي، دار البشائر، عمان، 1405.
- مشكاة المصابح، للتبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت.
- المصباح المنير، للفيومي، القاهرة: بو لاق 1323.
- مصنف ابن أبي شيبة، ط. الدار السلفية، بومبي 1399.
- المصنَّف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392.
- المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري، تحقيق: محمد حميد الله، دمشق 1385.
- معجم البلدان، لياقوت الحموي، بيروت: دار صادر.
- المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط. وزارة الأوقات، بغداد، 1398.
- المعدن العدني في فضل أويس القرني، تحقبق: إبراهيم الحازمي، ط. الرياض، 1411.
- المعدول به عن القياس: حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية منه، للدكتور عمر بن عبد العزيز، المدينة المنورة 1408.
- المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1367. وتحقيق التركي والحلو، القاهرة 1413.(2/367)
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1375.
- مقدمة ابن خلدون، ط. المطبعة الأدبية، بيروت، 1900 م.
- المقدمة في الأصول، لابن القصار، تحقيق: محمد السليماني، بيروت 1996 م.
- ملخص إبطال الرأي والقياس والاستحسان، لابن حزم، تحقيق: سعيد الأفغاني، دمشق 1389.
- الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط. البابي الحلبي، القاهرة 1381.
- المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1414.
- منازل القطب، لابن عربي (ضمن "رسائل ابن عربي") ، ط. حيدر اباد، 1361- 1367.
- منتخب كنز العمال، لعلي المتقي البرهانفوري، بهامش "مسند أحمد"، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313.
- المنتظم، لابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية.
- المنتقى للباجي، القاهرة: مطبعة السعادة 1332.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1406. وط. بولاق 1320- 1322.
- موارد الظمآن بزوائد ابن حبان، للهيثمي، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، د. ت.
- الموافقات، للشاطبي، القاهرة 1341.
- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني، ط. القاهرة، 1326.
- الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة، لعبد العليم البستوي، ط. المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1420.
- الموضوعات، لابن الجوزي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1965- 1968 م.
- موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،(2/368)
القاهرة 1370.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963- 1964 م.
- الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، الرياض 1418.
- الناسخ والمنسوخ، للنحاس، القاهرة 1938 م.
- نشر المحاسن الغالية (أو: كفاية المعتقد) ، لليافعي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، ط. الحلبي، القاهرة، 1410.
- نص النصوص، لحيدر بن علي العلوي الآملي،) مخطوط! نسخة مكتبة مجلس الأمة بطهران، [ملحق رقم 19] .
- النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية، لحسن العدوي الحمزاوي، ط. بولاق، القاهرة، 1297.
- نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، ط. إستانبول، 1293.
- هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. إستانبول 1951 م.
- الواضح في أصول الفقه، لابن عقيل، ج 1، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق، برقم 2872 عام. وتحقيق عبد الله التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1420.
- الوافي بالوفيات، للصفَدي، الجزء7، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1982.
- الوصول إلى الأصول، لابن برهان، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد، الرياض 1404.
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني، المطبعة الحجازية، القاهرة، 1352.
***(2/369)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه مجموعة ثالثة من "جامع المسائل" تحوي 28 رسالة وفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، مما لم يُنشَر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) . وقد قمتُ باستخلاصها من مجاميع خطية مختلفة سيأتي وصفُها، ووجدتُ بعضَها ضمن مجاميع مطبوعة ولم أعرف أصولَها الخطية. فأحببت أن أضمَّها إلى المجموعة لتكون في متناول القراء والباحثين، وتُستدرَك على "مجموع الفتاوى".
وهذه المجموعة مثل المجموعتين السابقتين تحتوي على رسائل وفتاوى في موضوعات مختلفة، وفي أثنائها مباحث وفوائد لا توجد في مؤلفات أخرى للشيخ، فهو يستطرد أحيانًا إلى تفسير الآيات وتحرير الأقوال الواردة فيها وترجيح بعضها على بعض، ويتوسع في الكلام على مفردات اللغة وقواعدها، وتضعيف آراء بعض اللغويين والنحاة، كما فعل -مثلاً- في حديثه عن حرف "لو" (في الرسالة التاسعة عشرة) والكلام على كلمة "الأسباط" (في الرسالة السادسة عشرة) . وفي بعضها مناقشةٌ للمتكلمين والفلاسفة وردٌّ على شبههم واعتراضاتهم (انظر رقمي 6، 7) ، ودعوة للشيعة وزوَّار القبور إلى مذهب أهل السنة والجماعة وبيان ما كان عليه السلف الصالح (رقم3) ، وغير ذلك من الفوائد والتحقيقات التي تميَّزت بها مؤلفات(3/5)
الشيخ وكتاباته، ولا تظهر إلاَّ لمن قرأها وتأمَّل فيها واستخرج ما فيها من كنوز.
وأكثر رسائل هذه المجموعة لم يرد ذكرها بهذه العناوين في المصادر القديمة، لكثرة ما كتب الشيخ وأفتى، فلم يقدر أحد من تلاميذه والمترجمين له على إحصاء مؤلفاته، وقد ذكرتُ في مقدمة المجموعة الأولى (ص10-11) بعض النصوص التي تدلّ على صعوبة حصر كتبه ورسائله وفتاواه. ومن الكتب التي ورد ذكرها عند القدماء: "مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع" (رقم20) ، فقد ذكره كل من الصفدي وابن شاكر (1) . وذكر ابن عبد الهادي (2) أن الشيخ شرح ما رُوِي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "نعم العبد صهيبٌ، لو لم يَخفِ اللهَ لم يَعصِه" وتكلّم على "لو". وهي الرسالة رقم (19) من هذه المجموعة. وهناك رسائل أخرى نجد لها عناوين مشابهة في المصادر، ولكنّا لا نستطيع أن نجزم بأنها هي أو غيرها، ومن أمثلتها: "قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل" التي ذكرها ابن رشيق (3) ، هل هي "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل بالتكبير والتسبيح بالتحميد" (برقم15) ؟ وذكر ابن رشيق أيضًا (4) أنه رأى كلام الشيخ على قوله (الم (1) أيحسب الناس) هو من سورة العنكبوت، فهل هو الموجود هنا بعنوان "تفسير أول العنكبوت"؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك، فإن الشيخ كان يكتب في موضوع واحدٍ رسائل عديدة،
__________
(1) انظر "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (ص294، 317، 332) .
(2) "العقود الدرية" (ص63) .
(3) انظر "الجامع" (ص 242) .
(4) المصدر السابق (ص 228) .(3/6)
ويُفسِّر الآية في مناسبات مختلفة.
ومهما يكن من أمرٍ فإن الرسائل والمسائل الموجودة في هذه المجموعة ثابتة النسبة إلى الشيخ بالمعايير التي تحدَّثتُ عنها في مقدمة المجموعة الأولى (ص11- 12) ، والتي يجب أن تُفحَص في ضوئها الكتب والرسائل التي تُنسَب إلى الشيخ، ولا يثبَت شيءٌ منها له إلاّ بعد التأكد من صحة نسبته إليه.
وقد أخطأ كثير من الباحثين والمفهرسين في نسبة بعض المخطوطات والمطبوعات إلى الشيخ، وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لذكرها في هذه المقدمة، وإنما أقتصر على ذكر مثالٍ طريفٍ منها، وأُبيِّن كيف وقع المفهرس في الوهم. وجدتُ في فهرس مخطوطات مكتبة جامعة علي كره بالهند (2/129) ذِكرَ كتاب "عمل اليوم والليلة" ونسبتَه إلى الشيخ، وهو برقم [H.G. 2/33] ، ولما طلبتُ هذا المخطوط واطلعتُ عليه وجدتُه يبدأ بقوله: "الحمد لله، وسلام
على عباده الذين اصطفى، هذا جزء لطيف في عمل اليوم والليلة منتخب من الأحاديث والآثار، محرَّر معتبر، لخصتُه من كتابي "منهاج السنة" ومن "الكلم الطيب"، والله الموفق".
ومن هنا ضَلَّ المفهرس وانخدع، فنسب المخطوط إلى شيخ الإسلام، لأن "منهاج السنة" و"الكلم الطيب" من أشهر مؤلفاته، فيكون هذا المخطوط أيضًا له!! ولم يتأمَّل في باقي الكتاب ومنهج المؤلف فيه، ولم يقرأ تلك الأدعية التي فيها صريح التوسل بالنبي، ولم يساوره الشكُّ في أسلوب الكتاب الذي هو أبعد ما يكون من أسلوب شيخ الإسلام. وقد نفيتُ نسبتَه إلى الشيخ، وبدأتُ أبحث عن مؤلفه الحقيقي، وبمراجعة "كشف الظنون" (2/1173) ظهر لي(3/7)
أن من بين المؤلفين في "عمل اليوم والليلة": السيوطي العالم المشهور، وله "الكلم الطيب والقول المختار في المأثور من الدعوات والأذكار" (1) ، و"منهاج السنة ومفتاح الجنة" (2) . فيكون المخطوط الذي بين أيدينا للسيوطي، وأسلوب الكتاب ملائم لأسلوبه المعروف في سائر كتبه. ثم وجدتُ الكتاب مطبوعًا بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1365 عن نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، وفي آخره: "قال مؤلفه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: فرغتُ من تأليفه في رجب سنة 892 هجرية، والحمد لله رب العالمين". وبهذا تأكّدتْ نسبتُه إلى السيوطي، وانتفتْ عن شيخ الإسلام.
يجب علينا إذًا تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف قبل التفكير في خدمته ونشره وتقديمه إلى القراء. وتشتدّ الحاجة إلى ذلك إذا أردنا نشر شيء من كتب شيخ الإسلام وغيرِه من أئمة السنة والحديث، لئلا يُنسَب إليهم من الآراء والاعتقادات ما هم بريئون منه، ولا يُجعَل ذلك ذريعة إلى القدح فيهم والنيل منهم.
• وصف الأصول المعتمدة
اعتمدت في نشر هذه المجموعة على أصول خطية من مكتبات مختلفة، وعلى بعض المجاميع المطبوعة التي تحوي رسائلَ للشيخ لم أهتدِ إلى مخطوطاتها في المكتبات. وفيما يلي وصف هذه الأصول:
__________
(1) ذكره السيوطي في "التحدث بنعمة الله" (ص112، 155) ، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/1506) .
(2) "التحدث بنعمة الله" (ص108) ، و"كشف الظنون" (2/1872) .(3/8)
(1) "فصل في الفرق بين ما أمر الله به ورسوله من إخلاص الدين الله و ... ": هذه الرسالة والرسائل الآتية بأرقام (2، 9، 10، 12، 15، 18، 21) ضمن مجموعة خطية في مكتبة عاشر أفندي بإستانبول برقم [1154) (1) ، وهي التي نشر منها الدكتور محمد رشاد سالم عدة رسائل ضمن المجموعة الأولى من "جامع الرسائل"، ووصفها في مقدمتها (صفحة ج-هـ) . هذه المجموعة تحتوي على عدد كبير من رسائل الشيخ طبع أكثرها ضمن "مجموع الفتاوى" و"جامع الرسائل"، والبقية تتضمنها المجموعة التي بين أيدينا.
وقد تصحفتُ مصورة هذه المجموعة الخطية، فوجدتُ أن عدد الرسائل التي كانت فيها (حسب الفهرس الموجود في أولها) 53 رسالة، منها 51 رسالة من مؤلفات شيخ الإسلام، ولكن الموجود منها الآن 36 رسالة فقط، ونُزِعَتْ منها الأوراق (112- 131، 151- 172، 210- 222، 268-679) ، ففُقِدتْ 15 رسالة للشيخ و"رسالة في الكلام على الاستواء على العرش" لابن عبد الهادي.
ويظهر من عناوين الرسائل الضائعة أنها كانت في موضوعات التوحيد والشرك وزيارة القبور والاستغاثة والتوسل والتمذهب والتقليد واللعب بالشطرنج وحكم الحشيشة وغيرها، وكأن أحد القراء المتعصبين لم يعجبه كلام الشيخ في هذه الموضوعات، فنزع تلك الأوراق ومزَّقها لئلاّ يطلع الناس عليها. وظن أنه بفعله هذا يضيِّع ما كتبه الشيخ، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظه في نسخ أخرى، وطُبع أكثر من طبعة، واستفاد منه الناس في العالم. وقد ظهر لي
__________
(1) انظر فهرس المكتبة (ص78) طبعة إستانبول 1306.(3/9)
بالتتبع أن معظم هذه الأوراق الضائعة والرسائل الناقصة توجد بتمامها في "مجموع الفتاوى" (ط. الرياض) ، وفيما يلي إشارة إلى بعضها: -
"فصل في قوله تعالى (وَجَعَلُوْا للهِ شُرَكَاَءَ قُل سَمُّوهُمْ) [ق112- 113،] (= مجموع الفتاوى 15/196-197) .
- "فصل في قوله تعالى (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ اَلْعِلْمَ دَرَجَات) [ق113-114] (= مجموع الفتاوى 16/48- 51) .
- "فصل في المعاني المستنبطة من سورة الكوثر" [ق 114- 115] (= مجموع الفتاوى 16/526- 533) .
- "فصل في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) [ق117- 129] (= مجموع الفتاوى 15/62-94) .
- "فصل في قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة… [ق129- 136] (= مجموع الفتاوى 14/168- 200) .
- "فتوى فيمن ينزل به حاجة من أمور الدنيا والآخرة ثم يقصد بعض قبور الأنبياء والصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته، هل هو سنة أم بدعة؟ " [ق155-162] (= مجموع الفتاوى 27/151- 179) .
- "رسالة جامعة في توحيد الله تعالى وإخلاص الوجه والعمل له" [ق162- 167] (= مجموع الفتاوى 1/20- 36) .
- "مسألة في الاستشفاع بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " [ق210-215،) = مجموع الفتاوى 1/313- 368) .
- "مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة واشتغل(3/10)
بعده بالحديث ... " [ق215-217، (= مجموع الفتاوى 20/210- 217) .
- "فتوى في اللعب بالشطرنج" [ق217-218] (= مجموع الفتاوى 32/216-239) .
هذه بحض تلك الرسائل والفتاوى التي فُقِدت من المجموعة، ولكنها بقيت محفوظةً بحمد الله في نسخ أخرى، ولم تنجح محاولة إخفائها وتضييعها من قبل بعض القراء.
كتبت رسائل هذه المجموعة بخطوط مختلفة، بعضها في سنة 735، وبعضها في سنة 819. وأغلبها بدون تاريخ، كتبه ناسخ غير معروف بخط نسخي واضح جميل يغلب عليه الصحة، ولعله من خطوط القرن التاسع. وجميع رسائل الشيخ فيها (ما عدا "الواسطية") بهذا الخط، ومنها الرسالة الأولى من مجموعتنا هذه، وتقع بين (الورقة 148- 155) ، والموجود منها الآن إلى الورقة 151ب، ثم يبدأ الخرم الذي ذهب ببقية هذه الرسالة ورسائل أخرى تليها، كما أشرت إلى ذلك قريبًا، ولم أجد نسخة أخرى تُكمل النقص.
(2) "فصل في حق الله وحقّ عبادته وتوحيده": هذه الرسالة أيضًا ضمن المجموعة السابقة (ق243ب-247ب) .
(3) "رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر": توجد نسخة فريدة منها في دار الكتب المصرية برقم [2577 تصوف] (1) ، ومعها "الرسالة القبرصية" للشيخ. وهما بخط
__________
(1) انظر الفهرس الثاني للدار (1/309) .(3/11)
نسخي جميل، كتبه محمد بن سليمان بن داود ابن الجوهري الشافعي، كما هو مثبت على صفحة العنوان.
(4) "مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة والنذر وقراءة القرآن وغير ذلك": توجد النسخة الخطية منها في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] ضمن مجموعة في 163 ورقة تحتوي على رسائل مختلفة (1) ، وفي أولها فتاوى للشيخ (ق1-47) بعنوان "فصل من فتاوى شيخنا الشيخ الفاضل الكامل فريد دهره وحيد عصرِه الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية أمتعنا الله بحياته". وفيها 15 فتوى للشيخ في موضوعات متنوعة، نشر معظمها ضمن "مجموع الفتاوى" وغيره، ومما لم يُنشر هذه المسألة التي تقع في (الورقة 8ب-27ب) . والمجموعة بخط نسخي واضح، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلّها من القرن الثامن، وكتبت في حياة الشيخ كما تدل على ذلك عبارات الدعاء في أول المجموعة وفي مواضع مختلفة من الفتاوى. وقد كانت هذه المجموعة في ملك السيد محمد شريف رزاز سنة 1243، وفي ملك السيد محمد زكي سنة 1298 كما يظهر من كتابتهما على صفحة العنوان. وعليها ختم "محمد بيري" مما يدل على أنها كانت في حوزته أيضًا.
(5) "فصل فيمن يعظّم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورهم": توجد نسختها الخطية أيضًا في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] ضمن مجموعة تحوي 15 رسالة (2) ، منها الفتوى المذكورة التي عُنوِنتْ
__________
(1) انظر فهرس المكتبة -بالإنجليزية- (6/73-74) .
(2) انظر فهرس المكتبة (2/19- 23) .(3/12)
بـ "في السماع" في المجموعة وفي الفهرس، وهي وإن شملت الجواب عن حضور مجلس السماع أيضًا في أسطر قليلة، إلاَّ أنَّ معظمها في تعظيم المشايخ والاستغاثة بهم وزيارة قبورهم والنذر لها وما إليها. وتشغل هذه الفتوى الأوراق (7ب-11أ) ، وهي مكتوبة بخط نسخي جيد، ومقابلةٌ على الأصل المنسوخ عنه. وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر.
(6) "مسألة في تأويل الآيات في المعية وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت": أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] ، تحتوي على عدة رسائل وفتاوى للشيخ (1) ، وهي بخط علي بن حسن بن محمد الحرَّاني كما في آخر المجموع، وقد فرغ من نسخ هذه المسألة في خامس ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة. والمسألة المذكورة تبدأ بالورقة (60ب) ، ثم تضطرب اضطرابًا شديدًا، وتتداخل مع المسألة التالية في نسبة البارئ تعالى إلى العلو (الآتية برقم7) والتي تبدأ بالورقة (66أ) ، وقد تأمَّلتُ في المسألتين، ونظرتُ في الأوراق التي قبلهما وبعدهما، وقرأتُ المجموعةَ بعناية، حتى اهتديتُ إلى ترتيب الكلام فيها، وتمكنتُ من استخراج المسألتين منها، وهما في المجموعة حسب ما يلي:
- "مسألة في تأويل الآيات في المعية ... " (الورقة 60ب- 63أ/ سطر12، ثم الورقة 53ب/ سطر 8-60ب/ سطر 15، ثم الورقة 72أ/ سطر 9- 74أ/ سطر 14، ثم الورقة 63أ/ سطر 12- 65ب نهاية المسألة) .
__________
(1) انظر فهرس المكتبة (3/18- 19) .(3/13)
- "مسألة في نسبة البارئ تعالى إلى العلو" (الورقة 66أ-72أ/ سطر8) . وما بعدها من المسألة السابقة، ولم أجد تتمتها ضمن هذه المجموعة.
(7) "مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من جميع الجهات المخلوقة": هي ضمن المجموعة السابقة كما ذكرنا، وناقصة من آخرها، ولم أجد لها نسخة ثانية تكمل النقص.
(8) "مسألة في العلو": توجد منها عدة نسخ في مكتبات مختلفة:
أ- نسخة في مكتبة برلين برقم [We. 1538] . (الورقة 51ب- 55أ) (1) ضمن مجموعة أولها "التدمرية"، مكتوبة سنة 1180.
2- نسخة في مكتبة ميونخ برقم [885/5] (الورقة 41-51) ، ضمن مجموعة تحتوي على رسائل مختلفة للشيخ وغيره (2) ، وهي بخط نسخي جيد. وبعض رسائل هذه المجموعة مؤرخة بسنة 731 و735 و739، والمسألة المذكورة غير مؤرخة، إلا أنها مكتوبة في القرن الثامن.
3- نسخة في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [84/3] ذكرها بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" (الملحق 2/122) مع النسختين السابقتين.
4- 6: ثلاث نسخ بعنوان "الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل" في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض بالأرقام الآتية:
__________
(1) انظر فهرسها (2/531-532) برقم 2311.
(2) انظر "إطلالة على العالم الفسيح بين الشرق والغرب" للأستاذ حمد الجاسر (ص24-25) .(3/14)
[1737/8م] (ص134- 136) ، وهي نسخة ناقصة الآخر، بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث عشر تقديرًا.
[2263/3م] (ص126-135) ، نسخة جيدة بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث عشر تقديرًا.
[1639/20م] (ص447-456) ، ضمن مجموع بخط نسخ معتاد، كتبه عبد الله بن إبراهيم بن محمد المعروف بالربيعي سنة 1350 (1) .
7- نسخة ناقصة في المكتبة المحمودية بالمدينة برقم [2593] (ق59ب-60ب) كتبت سنة 1184. وتوجد هذه المسألة مع اختلاف كثير ضمن "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" للألوسي (ص437-449 من طبعة المدني سنة 1401) ، ومقتطفات منها في "مجموع الفتاوى" (5/256- 261) .
وقد اعتمدت في تحقيقها هنا على النسخ القديمة، واستعنت بما في "جلاء العينين" دون إثبات جميع الفروق، فإنها كثيرة وقليلة الجدوى.
(9) "قاعدة شريفة في الرضا الشرعي ... ": أصلها من مجموعة عاشر أفندي الموصوفة برقم (1) ، وهي فيها (الورقة 258أ- 259ب) .
(10) "فصل: الأقوال نوعان": هذا أيضًا من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 207أ- 208أ) .
(11) "قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمرَ الثقلين الجن والإنس": توجد نسختها الخطية في المكتبة الأزهرية برقم [182مجاميع] 4485، وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي
__________
(1) انظر وصف النسخ الثلاث في فهرس مخطوطات جامعة الملك سعود (5/46-47) .(3/15)
بتاريخ سادس عشر من صفر سنة 766.
(12) "مسألة فيمن قال: إن عليًا أشجع من أبي بكر": أصلها ضمن مجموعة عاشر أفندي بتركيا (الورقة 179 ب- 180 ب) .
(13) "تفسير أول العنكبوت": لم أعثر على نسخته الخطية، وهو ملحق بكتاب "الفوائد" لابن القيم (ص 257- 212 من الطبعة المنيرية سنة 1344) .
(14) "مسألة في قوله تعالى (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله…) : أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733]
(الورقة 14أ-15أ) . وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (4) .
(15) "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 182أ-187ب) .
(16) "مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ ": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد نقلها السيوطي ضمن "الحاوي للفتاوي" (1/311-312 من الطبعة المنيرية 1352) .
(17) "فتوى في قراءة القرآن بما يُخرِجه عن استقامته": هي ضمن مجموعة في مكتبة جامعة برنستون برقم [4098] (الورقة 61ب- 62أ) ، كتبت في القرن التاسع تقديرًا (1) ، وهي بخط نسخي جيد.
(18) "رسالة في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا دخل أحدكم على أخيه ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 258ب-209أ) .
(19) "جواب سؤال سائل عن حرف لو": توجد منه نسخة خطية
__________
(1) انظر فهرس المكتبة (ص21) رقم 214 بعنوان "فتوى في قراءة القرآن".(3/16)
في دار المخطوطات الوطنية بقبرص برقم [2/1138 A] (الورقة 79ب وما بعدها) ، كتبت في القرن العاشر (1) . وقد أورده السيوطي في "الأشباه والنظائر في النحو" (3/288-292 من طبعة حيدرآباد 1361) نقلا من خطّ البرزالي.
(20) "فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع": توجد منه نسخة خطية ضمن مجموعة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [مجاميع 6454] (2) ، تحتوي على ثماني رسائل للشيخ أولها "التدمرية". وهي مكتوبة في نهاية القرن الثالث عشر. وقد طبعت مفرقةً بهامش كتاب "مراتب الإجماع" لابن حزم (طبعة القدسي سنة 1357) . وفي المطبوعة أخطاء في مواضع.
(21) "رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفت هي منه": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 16أ-17ب) ، والثانية في مكتبة الإسكوريال برقم [1593] (الورقة 62أ-65أ) ، وهي بخط نسخي جيد، وليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر. والنسخة الأولى أصح من الثانية، كما ظهر لي بالمقابلة بينهما.
(22) "فتوى في أمر الكنائس": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد أوردها ابن القيم في "أحكام أهل الذمة" (2/677-686 طبعة دار العلم للملايين سنة 1961م) .
(23) "مسألة فيمن يُسمِّي خميس النصارى عيدًا": توجد منها
__________
(1) انظر فهرس المخطوطات الإسلامية في قبرص (ص382) .
(2) انظر الكشاف عن مخطوطات خزائن كتب الأوقاف (ص269) .(3/17)
نسختان خطيتان، إحداهما في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2961عام] (الورقة 76ب- 78أ) ، كتبت سنة 753 (1) . والثانية في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] . (الورقة 14ب-15أ) ، وهي نسخة مقابلة مصححة بخط نسخي جيد، كتبت في القرن العاشر تقديرًا (2) .
(24) "فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": توجد النسخة الخطية منه في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 42أ- 43أ) . وقد سبق وصفها برقم (6) .
(25) "مسألة في تلاوة القرآن والذكر أيهما أفضل": أصلها ضمن المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 40ب-41أ) . وقد أشار الشيخ في هذه المسألة إلى فتاوى أخرى له في هذا الموضوع، يُوجد بعضها في "مجموع الفتاوى" (23/56- 60، 62-63) .
(26) "فتوى في السماع": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 30أ-ب) ، وقد سبق وصفه برقم (4) .
(27) "مسألة في رجلٍ شتم شريفًا": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 10ب-11ب) . والثانية في مكتبة المدرسة القادرية ببغداد، ضمن مجموعة من فتاوى الشيخ بخط حديث من القرن الرابع عشر بقلم محمد بن علي بن الملا أحمد.
__________
(1) انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية [المجاميع] (2/137) .
(2) انظر فهرس المكتبة -بالإنجليزية- (2/20) .(3/18)
(28) "قاعدة في حضانة الولد": توجد منها نسخة خطية في المكتبة الأزهرية برقم [182 مجاميع] 4485) (الورقة 163-176) (1) ، وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي، كتبها في شهر ربيع الأول سنة 764. والنسخة مقابلة على أصلها، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلةً بحولِه ومنِّه، فصحّح حسب الطاقة في ليلة صباحُها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبعمائة، أحسن الله عاقبتها بمنّه وكرمه".
ومنها نسخة ثانية بعنوان "حضانة الصغير" في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [71/6] (الورقة 82- 100) ، وثالثة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [3835] (الورقة 122-132) وهي ناقصة من آخرها.
وبعد، فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة في إخراج هذه المجموعة الثالثة من "جامع المسائل"، وقد سبق أن ذكرتُ منهج التحقيق في مقدمة المجموعة الأولى منه (ص21) ، فأكتفي بالإحالة إليها.
وفي الختام أحمد الله تعالى على توفيقه، وأشكره على تيسيره، وأسأله المزيدَ من فضله والإعانةَ على إصدار بقية الكتب والرسائل، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد عزير شمس
__________
(1) انظر فهرس المكتبة (2/646) .(3/19)
- نماذج من النسخ الخطية(3/21)
فصل
في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسولُه
من إخلاص الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه
من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك(3/31)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآلِه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذا فصل في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسولُه من إخلاصِ الدين لله وشريعتهِ، وبين ما نهى عنه من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك، فنقول:
زيارة القبور جائزة، سواء كان الميِّتُ مسلمًا أو كافرًا، لكن يُفرَّق بينهما في الزيارة، فأما الكافر فيُزَار قبرُه ليُذكر الموت، ولا يجوز الاستغفارُ له ولا الدعاءُ له بالرحمة ونحو ذلك، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تُذكِّر الآخرة". وثبتَ عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأذنتُ ربّي في أن أزورَ قبرَ أمي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فزوروا القبور فإنها تُذكِّر الآخرة".
وقد زار أمَّه في ألف مقنع عام فتح مكة، فبكى وأبكى من حولَه، وقد كانت أمُّه ماتتْ كافرة فيِ الجاهلية قبل أن يَبلُغَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك في الصحيح (3) أنه حَضرَ عمَّه أبا طالب حينَ موته، وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "يا عَمِّ! قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله"، فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: "لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى:
__________
(1) أخرجه مسلم (977) عن بريدة بن الحصيب.
(2) مسلم (976) عن أبي هريرة.
(3) البخاري (1360 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن المسيّب بن حزن.(3/33)
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (1) . وذلك أن بعض المسلمين احتِج بأن إبراهيم وعدَ أباه بالاستغفار، واستغفرَ له بقوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (2) ، فأجاب الله عن ذلك، وأمرنا أن نتأسَّى بإبراهيم في موعده بالاستغفار لأبيه، فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الآيات (3) . فذكر سبحانَه أن المؤمنين لهم أسوة حسنة في إبراهيم والمؤمنين معه إذ تبرَّءوا من المشركين وما يعبدون من دون الله، إلا في هذا القول الذي قاله إبراهيم لأبيه، فإنهم ليس لهم في ذلك أسوة.
وأما زيارة قبور المؤمنين من الأنبياء والصالحين وغيرهم فإنها من جنس الصلاة على جنائزهم، قال الله تعالى في المنافقين: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (4) ، فنهى نبيه عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم لأجل أنهم كفار، وكان ذلك دليلاً على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورِهم. وهذه كانت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
__________
(1) سورة التوبة: 113- 114.
(2) سورة إبراهيم: 41.
(3) سورة الممتحنة: 4 وما بعدها.
(4) سورة التوبة: 84.(3/34)
المؤمنين، فإن الصلاة على المسلمين مشروعة بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتواترة بإجماع المؤمنين، وهي فرض على الكفاية. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى على جنازة فله قيراطٌ، ومن اتبعها حتى يُدفَن فله قيراطانِ أدناهما مثلُ أُحُد" (1) .
وكذلك بعد الدفن يُستَحبّ أن يُزارَ فيُسَلَّم عليه ويُدعَى له بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك. ويُستحبُّ حينَ الدفنِ أن يُدعَى له أيضًا، كما ثبت في سنن أبي داود (2) عن عثمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول إذا دفنَ الميِّتَ أصحابُه: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل". أي اسألوا له أن يُثبِّتَه الله بالقول الثابت، كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)) (3) ، وقد ثبت في الصحيحين (4) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذه الآية نزلتْ في عذاب القبر حينَ يُسأَلُ الميِّتُ: مَن ربُّك وما دينُك ومن نبيُّك؟
وأما بعد الدفن، فكما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمر أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقولوا: "سلامٌ عليكم أهلَ دارِ قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تَحرِمْنا أجرَهم ولا تَفتِنَّا بعدَهم، واغفر لنا ولهم" (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري (1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة.
(2) برقم (3221) .
(3) سورة إبراهيم: 27.
(4) البخاري (1369، 4699) ومسلم (2871) عن البراء بن عازب.
(5) أخرجه مسلم (975) عن بريدة.(3/35)
وثبت أيضًا في الصحيح أنه كان يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم ويستغفر لهم (1) . وثبت أيضًا في الصحيح أنه خرج إلى شهداء أُحد قبل موته، فصلَّى عليهم ودعا لهم (2) .
فهذان أمران مشروعان: السلام على الميت والدعاء له. وقد قال ابن عبد البر (3) : ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا، فيُسَلِّم عليه، إلا ردّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ" (4) .
وفي سنن أبي داود (5) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من رجلٍ يُسَلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام".
وفيه أيضًا أنه قال: "أكثروا عليَّ من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ "، فقالوا: كيف تُعرَض صلاتُنا عليك وقد أَرِمتَ؟ فقال: "إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" (6) .
وأما الدعاء حين الزيارة فمن جنس الدعاء في صلاة الجنازة، كلُّ ذلك حقّ للميت وعملٌ صالح من الحيّ، مثل الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه أحمد (6/252) عن عائشة. وأخرجه مسلم (974) عنها مطولاً.
(2) أخرجه البخاري (1344 ومواضع أخرى) ومسلم (2296) عن عقبة بن عامر.
(3) في "الاستذكار" (1/234) .
(4) أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق. وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى" (1/345) و"الأحكام الوسطى" (2/152، 153) .
(5) برقم (2041) . وأخرجه أيضًا أحمد (2/527) .
(6) أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس.(3/36)
والسلام عليه، وسؤال الله له الوسيلةَ، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة وغيرها. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من صلَّى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا". وثبت في الصحيح (3) أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة".
وثبت في الصحيح (4) عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكَّلَ الله به ملَكًا كلَّما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ به: آَمين، ولك مثل ذلك ".
فأمَّا [ما] يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس-: فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين (5) متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ
__________
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) مسلم (408) عن أبي هريرة.
(3) مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(4) مسلم (2732) .
(5) في الأصل: "المسلمون".(3/37)
إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له، ولا يسجد لغَيرِ الله لا لحيٍّ ولا لميّتٍ، حتى إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أمتَه عن اتخاذ القبور مساجدَ لئلاّ يُفضِي ذلك إلى الشرك. ففي صحيح مسلم (1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قبل أن يموتَ بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي الصحيحين (2) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحذر ما فَعَلوا. قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي الصحيحين (4) أيضًا أنّ أم سلمة وأم حبيبة ذكرتَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسةً رأينَها بأرض الحبشة، وذكرتَا حُسنَها وتصاويرَ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أولئك إذا ماتَ فيهم الرجل الصالح بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرُّ الخلق عند الله يوم القيامة".
وفي مسند الإمام أحمد (5) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنّ من شِرار الناس مَن تُدرِكهم الساعةُ وهم أحياءٌ، الذين يتخذون القبور مساجد".
وعن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَعن الله زوَّاراتِ القبور
__________
(1) برقم (532) عن جندب بن عبد الله لا عن جابر.
(2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) .
(3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) .
(4) البخاري (427، 434، 1341) ومسلم (528) عن عائشة.
(5) 1/405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789) .(3/38)
والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ". رواه أهل السنن (1) ، وصححه الترمذي أو حسَّنَه.
فلَعَن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يتخذ القبور مساجد ويُسرج عليها سُرُجًا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفقَ عليه أهلُ العلم، فلم يتنازعوا في أنَّ ذلك غيرُ مشروع، بل يُنهَى عنه، حتى قال العلماء: من نَذَر لنبي أو غيرِ نبيّ شمعًا أو زيتًا أو نحو ذلك فإنَّه نذرُ معصيةٍ لا يجوزُ الوفاءُ به، لكن منهم من يَجعلُ عليه كفَّارةَ يمينٍ، ومنهم من يقول: لا شيء. وإذا صَرَفَ ذلك إلى مسجدٍ يُعبَد الله فيه وحده لا شريك له، أو صَرَفه إلى فقراء المسلمين المؤمنين الذين يَستعينونَ به على عبادةِ الله كان حسنًا. وقد ثبت في صحيح البخاري (2) عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من نَذَر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه، ومَن نَذَر أن يَعصِيَ اللهَ فلا يَعصِه".
وأما اعتقادُ بعض الجهّال أن حاجتَه قُضِيتْ بسبب هذه النذور فهذا جهلٌ وضلالٌ، فإن نذرَ الطاعة الذي يجب الوفاءُ به لا يُفيد في قضاء الحوائج، ولا يُستَحبّ بل يُكرَه، فكيف نذرُ المعصية؟ وقد ثبتَ في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيرِ وجهٍ أنه نَهَى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستَخرج به من البخيل" (3) . وقال: "إنّ النذر يَرُدُّ ابنَ آدمَ إلى القدر، فيعطي على النذر ما لم يُعطه على غيره" (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/94) وابن ماجه (1575) . وتكلم عليه الألباني في "الضعيفة" (225) .
(2) برقم (6696، 6700) .
(3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.
(4) أخرجه البخاري (6694) ومسلم (1640) عن أبي هريرة.(3/39)
لكن إذا كان المنذور طاعة لله تعالى -مثل الصلاة المشروعة والصوم المشروعِ والحج المشروع والصدقة المشروعة ونحو ذلك- فهذا يجب أن يُوفَى، وإن كان عَقْدُه مكروهًا، لقولِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نَذَر أن يُطيع الله فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَ الله فلا يَعْصِه" (1) .
وأما إذا كان المنذورُ ليس طاعة لله فلا يجب الوفاء به، بل عليه كفّارةُ يمينٍ لتركِه عند طائفة من أهل العلم، لما ثبتَ في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كفارةُ النذر كفارةُ يمين" (2) . وفي السنن عنه أنه قال: "لا نذرَ في معصية، وكفارتُه كفارةُ يمين" (3) .
وأما إذا كان المنذور معصيةً، مثل أن ينذرَ لوثنٍ من الأوثان: كالنذر للأصنام التي كانت تَعبُدها العرب، والبُدود التي تعبدها الهند والزُّطُّ (4) ، والنذر لكنيسةٍ أو بيْعةٍ، أو النذر لغير نبي أو رجلٍ صالح أو غير ذلك، فهذا كلُّه لا يجوَز الوفاءُ به بإجماعِ المسلمين.
وإن كان في المنذور طاعة ومعصية أُمِرَ بفعل الطاعة ونُهِيَ عن فِعل المعصية، وإن كان الناذرُ يَعتقد أنها طاعة، كما في صحيح البخاري (5) عن ابن عباس قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، إذا هو برجلٍ قائم، فسألَ عنه، فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذَر أن يقومَ في الشمس، فلا يقعدَّ وَلا يَستظلّ ولا يتكلَّم، ويصوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرُوهُ فلْيتكلمْ
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.
(3) أخرجه أبو داود (3290- 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة.
(4) في الأصل: "الخطا"، وهو تحريف.
(5) برقم (6704) .(3/40)
ولْيستظِلَّ ولْيقعدْ ولْيُتمَ صومَه".
وهكذا حكمُ جميع العقود والعهود التي يأخذها المشايخ وغيرهم على الناس، يُوفى منها ما كان طاعةً الله عزَّوجلّ، ولا يُوفَى منها بدينٍ لم يَشرعْه الله.
وكذلك لا يُشْرَعُ بإجماع المسلمين أن يَبنيَ مسجدًا على قبرٍ من القبور، بل هذا يُنْهَى عنه باتفاق المسلمين، وهو محرَّمٌ نَهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ولَعنَ من يفعل ذلك.
والمساجدُ المبنيةُ على القبور يُشرَعُ باتفاق المسلمين إزالتُها ويَجب
ذلك، فإن كان المسجد قِبَلَ القبر فإنه ينبغي أن يُسَاوَى القبرُ ويُزالَ
أَثَرُه، أو يُعادَ المسجدُ إلى ما كان. وإن كان المسجدُ يُبني على القبر
فيُهدَم المسجدُ ويُزَال، كما هُدِمَ مسجدُ الضرار الذي قال الله تعالى
فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)) (1) .
ولهذا كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرون بهدمِ مثلِ ذلك، كما روى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابنًا له ماتَ، فاشترى غلامٌ له جَضًا وآجُرًّا لِيَبنيَ على القبر، فقال له زيد: حفرتَ وكفرتَ، أتُريد أن
__________
(1) سورة التوبة: 107- 110.(3/41)
تَبنيَ على قبرِ ابني مسجدًا؟ ونهاه عن ذلك.
ولهذا لما فتح المسلمون تُسْتَر- التي يُسمونها العجمُ "شُشْتَر"- وجدوا عندها قبرًا عظيمًا قالوا: إنه قبرُ دانيال، ووجدوا عنده مصحفًا. قال أبو العالية: أنا قرأتُ ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم وسِيَرُكُم ولحونُ كلامكم، وشَمُّوا من القبر رائحةً طيبةً، ووجدوا الميتَ بحالِه لم يَبْلَ، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفِرَ بالنهار بضعةَ عشرَ قبرًا، فإذا كان الليلُ دَفَنَه في قبرٍ من تلك القبور لِيَخفَى أثرُه، لئلا يُفتَتَنَ به الناسُ، فينزلون به ويُصلُّون عنده ويتخذونه مسجدًا (1) .
وقد اتفق المسلمون على أن الصلاةَ عند القبور غيرُ مشروعة، فلا تجب ولا تُستَحبّ، ولم يَقُلْ قَطُّ أحدٌ من علماءِ المسلمين أن الصلاةَ عندْ قبرٍ أو مسجدٍ أو مشهدٍ على قبرٍ سواء كان قبرَ نبيّ أو غير نبي، أن ذلك مستحب، أو أن الصلاةَ هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو قالَه أو عَمِلَ به فقد فارقَ إجماعَ المسلمين وخَرجَ عن سبيل المؤمنين.
وقد تنازع العلماءُ في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرَّمة أو مكروهة أو مباحة، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنها مستحبة ولا واجبة.
والذي عليه جماهير العلماء أنها منهيٌّ عنها نهيَ، تحريم أو نهيَ تنزيه، وكثيرٌ منهم يقول: إنها باطلةٌ.
والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثةُ أَقْبُرٍ فصاعدًا، فلم
__________
(1) نقل ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/376-378) خبر دنيال هذا عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بإسنادِه إلى أبي العالية؛ ومن كتاب "أحكام القبور" لابن أبي الدنيا بإسناده إلى أبي موسى الأشعري.(3/42)
يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبرِ لا فرقَ بين أن يُبنَى على قَبرٍ أو أكثر، كالذين لعنَهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم إنما كانوا يَبنُون المسجد على قبرٍ واحد، قبرِ نبي أو رجلٍ صالح. وإن كان بعضُ من نهَى عن الصلاة في المقبرة علَّلَه بالنجاسة، فإنه لا يُعلِّل الصلاة في المسجد المبني على قبر بالنجاسة، بل قد نَصَّ هؤلاء -كالشافعي وغيرِه- على أن العلَّة هنا خشيةُ الافتتان بالقبر التي هي الشرك.
وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضاً إنما هي مُشابهتُه للمشركين وأن ذلك قد يُفضِي إلى الشرك، كما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس ووقتَ غروبها، وقال: إنه حينئذٍ يَسجُد لها الكفَّار (1) . ولهذا نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إلى القبور، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم (2) وغيره عن أبي مَرثد الغنوي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصَلُّوا إليها". فنهى أن يكون في القبلة قبر.
وفي صحيح البخاري (3) عن أنس قال: كنتُ أصلِّي وهناك قبرٌ، فقال عمر بن الخطاب: القبر القبر! فظننتُه يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر. أو كما قال.
وإذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن لم يَقصِد العبدُ السجودَ له، فكيف بمن يسجد للقبرِ؟ فإن هذا شرك. وقد روى
__________
(1) أخرجه مسلم (832) عن عمرو بن عبسة ضمن حديث طويل.
(2) برقم (972) . وأخرجه أيضًا أحمد (4/135) وأبو داود (3229) والترمذي (1050، 1051) والنسائي (2/67) .
(3) 1/523 (مع "الفتح") معلّقًا.(3/43)
الإمام أحمد (1) عن معاذ بن جبل أنه لما قَدِمَ الشامَ وجدَهم يسجدون لأسَاقِفَتِهم، فلما رجعَ سجدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "ما هذا يا معاذ؟ "، فقال: يا رسولَ الله! رأيتُهم يسجدون لأساقفتهم وعُظَمائهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: "إنه لا يَصلُح السجودُ إلا الله، ولو كنتُ آمرُ أحدًا أن يَسجُد لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تَسجُدَ لزوجها، لعِظَمِ حقَه عليها". ثم قال: "يا معاذ! أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا إليه؟ "، قال: لا، قال: "فلا تسجد لي". فمعاذٌ كان يَعلم أن السجودَ للقبور لا يجوز.
قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)) (2) . وهذا في كتاب الله كثير جدًا.
وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)) (3) .
وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
__________
(1) 4/381. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2/175) .
(2) سورة الأنبياء: 26-29.
(3) سورة الزمر: 36- 38.(3/44)
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)) (1)
وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)) الآيات إلى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) (2) .
وفي الصحيحين (3) عن عبد الله بن مسعود قال: لمَّا (4) [نزلتْ
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس هو كما
تظنّون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) ] .
كان يُظَنُّ أن السجود للحيّ مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدًا، فبيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه في شريعتِنا لا يَصلُح السجودُ إلا لله، كما بيّن في الأحاديث المتقدمة أن الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجدًا من الذين نهانا رسولُنا أن نتشبَّهَ بهم.
وكذلك التمسُّح بالقبور - كاستلامِها باليد وتقبيلها بالفم- منهيٌّ عنه باتفاق المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لا يَستلِمُه بيدِه ولا يُقبِّله بفمِه، فلا يُشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرعَ أن يَستَلِم الحجرَ الأسودَ
__________
(1) سورة فاطر: 2- 3.
(2) سورة الأنعام: 78- 82.
(3) البخاري (32، 3360، 3428 ومواضع أخرى) ومسلم (124) .
(4) سقط بعدها ذكر الحديث الوارد في تفسير آية الأنعام السابقة، فاضفناه بين معكوفتين، ولا ندري مقدار السقط بعده.(3/45)
الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يُقبّله أيضًا، حتى إنه يُستحبُّ إذا لم يُمكِن تقبيلُه أن يُقبِّلَ اليدَ التي استلَمتْه، حتى إنه يستحبُّ استلامُه بالمِحْجَنِ والعصا ونحو ذلك إذا لم يُمكِن استلامُه باليد. وكذلك الركن اليماني يستحبُّ استلامُه. ولم يَستلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أركان البيت الأربعة إلا الركنينِ اليمانيينِ، لأنهما بُنيا على قواعدِ إبراهيم، وأما الركنانِ اللذانِ يَلِيَانِ الحِجْرَ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَستلمْهما، ولهذا لا يستحبُّ استلامُهما عند الأئمة الأربعة وعامةِ العلماء، كما لا يُستَحبُّ أن يَستلِمَ الرجلُ جوانبَ بيتِ الله، ولا يستحبُّ تقبيلُ ذلك أيضًا.
وكذلك مقام إبراهيم الذي قال الله تعالى فيه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) (1) لم يَستلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يُقبِّلْه، ولا يُشْرَعُ ذلك فيه بل يُنهَى عنه باتفاقِ العلماء. فإذا كان مقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن لا يُشْرَع أن يَتَمسَّحَ العبدُ به فكيف سائر المقامات والمشاهد التي يُقال: إنها أثر بعضِ الأنبياء والصالحين؟.
وإذا كان قبر نبينا لا يُشرَع باتفاق المسلمين بأن يُقبَّلَ أو يمَسَّح به، فكيف بقبر غيره؟ وفي سنن أبي داود (2) عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر". وقال أيضًا (3) : "صَلُّوا عَليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني".
ولهذا رأى عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رجلاً يُكثِر الاختلاف إلى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا هذا! إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبرِي عيدًا، فصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن
__________
(1) سورة البقرة: 125.
(2) برقم (2042) عن أبي هريرة.
(3) كما في المصدر السابق.(3/46)
صلاتكم تبلغني"، فما أنتَ ورجلٌ بالأندلس فيه إلا سواء. ذكره سعيد بن منصور في سننه (1) ، ورَوى بنحو هذا المعنى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين عن علي بن أبي طالب. ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في صحيحه (2) .
ورُوِي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اللهمَّ لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ". رواه مالك في "الموطأ" (3) ، وعن مالك مرسلاً ومسندًا.
وقد كانت حجرةُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي هو الآن مدفونٌ فيها هي حجرة عائشة، وكانتْ شرقيَّ المسجد لم تكن داخلة فيه، وكان حُجَرُ أزواجِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلي المسجد وشرقيّه، وكانت منفصلةً عن المسجد على عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الوليد بن عبد الملك، فإنه عَمرَ المسجدَ وغيرَه، وكان عمر بن عبد العزيز نائبَه على المدينةِ، فتولَّى هو عمارةَ المسجدِ، فأدخلَ فيه حُجَرَ أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأدخلَ فيه حجرةَ عائشة، وأمر عمرُ أن يُحَرَّفَ الحجرة عن يمينِ القبلة، وأن يُسَنَّم مؤخَّرُها، لئلاَّ يُصلَّي أحدٌ إلى قبر.. (4) .
__________
(1) وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "مصنفه" (3/577) وغيره بنحوه، انظر "تحذير الساجد" (ص141) ، ولكن في هذه المصادر أن الذي أنكر هو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
(2) وأخرجه أيضًا إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي" (20) .
(3) 1/172 عن عطاء بن يسار مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
(4) انتهى الموجود من الأصل، وبعده خَرمٌ بفعل فاعلٍ!(3/47)
فصل
في حقّ الله وحقّ عبادته وتوحيده(3/49)
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فصل
في حق الله وحق عبادته وتوحيده
قد ثبت في الصحيحين (1) عن معاذ بن جبل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: "حقُّه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئا. يا معاذ! أتدري ما حقُّ العبادِ على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: "حقُّهم عليه أن لا يُعذِّبهم".
وروى الطبراني في كتاب الدعاء (2) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يقول: "يا عبادي! إنما هي أربعٌ: واحدٌ لي، وواحدة [لك] ، وواحدةٌ بيني وبينك، وواحدةٌ بينك وبين خلقي، فالتي هي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي هي لك: [عملك] أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: منك الدعاء وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأتِ إلى الناس ما تُحبُّ أن يأتوه إليك".
وضدُّ هذا الظلم، وهو ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث
__________
(1) البخاري (7373) ومسلم (30) .
(2) رقم (16) عن أنس. وإسناده ضعيف لضعف صالح بن بشير.(3/51)
مرفوعًا (1) وموقوفًا على بعض السلف: "الظلم ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وديوانٌ لا يَعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا. فالديوان الذي لا يغفره الله هو الشرك، والديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا ظلم العبد فيما بينه وبين ربه، والذي لا يترك منه شيئا ظلم العباد بعضهم بعضًا.
فالتوحيد ضدُّ الشرك، فإذا قام بالتوحيد الذي هو حقُّ الله، فعَبَدَه لم يُشرِك به شيئا، ومن عبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يَخْلُصُ به العبد من الشرك. وإعطاءُ الناسِ حقوقَهم وامتناعه من العدوان عليهم يَخْلُص به العبدُ من ظلمهم، وبطاعة الله يَخْلُص من ظُلم نفسِه.
وتقسيمُه في الحديث إلى قوله "واحدةٌ لي وواحدة لك" هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة (2) حيث يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". والعبد يَعُود عليه نفعُ الصنفين، والله تعالى يُحِبُّ الصنفين، لكن هو سبحانه يُحِبّ أن يُعبَد، وما يُعطِيه العبدَ من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنما يُحبُّه لكونه طريقًا إلى عبادته. والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً، وهو محتاجٌ إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يَصِل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولاً مما يتوسَّل به إلى محبوب الربّ الذي فيه سعادتُه.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (6/240) والحاكم في "المستدرك" (4/575-576) عن عائشة مرفوعًا. وضعفه الألباني في تعليقه على "المشكاة" (5133) و"شرح الطحاوية" (ص326) .
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/84) ومسلم (395) عن أبي هريرة.(3/52)
وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصِّلَة لسعادته، فلا يطلب العبد قَطُّ إلا ما فيه حظٌّ له، وإن كان الربُّ يُحِبُّ ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، والربُّ تعالى يحبُّ أن يُعبَد لا يُشرَك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبَّه وأثابَه، فيَحصُل للعبد ما يُحِبُّه من النعيم تبعًا لمحبوب الربّ، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد أولاً الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن.
فالرب تعالى يُحبّ أن يُعبَد، ومن لوازم ذلك أن يحبّ مالا تَحصُل العبادةُ إلا به، والعبد يحبّ ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله تعالى. فمن عَبَد اللهَ وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحقّ الله وحقّ عبادِه لأجله، ومن طلبَ منهم العوضَ ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يُحسِن إليهم لله. ومن خافَ اللهَ فيهم ولم يَخَفْهم فقد قام بحقّ الله في إخلاص الدين له، وقام بحقّهم، فإنّ خوف الله يحمله على أن يعطيهم مالهم ويَكُفَّ عن ظلمهم؛ ومن [لم] يخفِ اللهَ بل خافَ الناسَ، ولم يَرجُ الله بل رَجَا الناسَ فهذا ظالم في حق الله، حيث خافَ غيرَه ورَجَا غيرَه، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفعَ شرَّهم عنه، وهو إذا لم يخفِ اللهَ بنفسِه وهواه يختار العدوانَ عليهم والبغي، فإن طبع النفس ظُلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضربَ كثيرَ الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يُوقع الفِتنَ بين الناس.(3/53)
وكذلك إذا رَجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابدّ أن يُبغِضَهم فيظلمَهم إذا لم يكن خائفًا من الله. وهذا موجود كثيرًا، تجد الناسَ يخاف بعضُهم بعضًا ويرجو بعضُهم بعضًا، وكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء يتظلَّم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضُهم بعضًا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيرَه ورَجَوا غيرَه، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تُعذَّب النفسُ عليها، وهو أيضًا يَجُرُّ إلى فعل المعاصي المختصَّة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبعَ هواه، لاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبةً لما تستريح به وتدفع به الغمَّ والحُزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، فتستريح بالمحرَّمات من فعل الفواحش وشرب المحرَّمات وغير ذلك.
ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، فإن الإنسان خُلِق محتاجًا إلى جَلْبِ ما ينفعُه ودَفْع ما يَضُرُّه، ونفسُه مريدةٌ دائمًا، ولابُدَّ لها من مرادٍ يكوَن غايةَ مطلوبهَا، فتسكن إليه وتطمئنُّ به، وليس ذلك إلا الله وحدَه لا شريكَ له. فإذا لم تكن مخلصةً له الدينَ عبدتْ غيرَه، فأشركتْ به عبادَةً واستعانَةً، فتعبد غيرَه وتستعين غيرَه. وسعادتُها في أن لا تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبإعانته تستغني عن مُعينٍ غيرِه، وإلاّ يَبقَى مذنبًا محتاجًا.
وهذا حالُ الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنبٌ خَطَّاء، فلابدّ له من ربِّه الذي يَسُدُّ مَفاقِرَه، ولابُدَّ له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (1) .
__________
(1) سورة محمد: 19.(3/54)
فبالتوحيد يَقوى ويستغني، ومن سِرِّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛ وبالاستغفار له يُغفَر له. فلا يزول فقرُه وفاقتُه إلا بالتوحيد، لابدَّ له منه، وإلاّ فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا لا يحصل مطلوبه معذَّبًا، والله تعالى لا يغفر أن يُشرَك به. وإذا حَصَل مع التوحيد الاستغفار حَصَل غناه وسعادته، وزال عنه ما يُعذَّب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهو مفتقر دائمًا إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابدَّ أن يشهد دائمًا فقرَه إليه وحاجته في أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم أولياءه (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)) (1) . هذا هو الصواب الذي علمِه جمهور المفسرين (2) ، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة كالفراء (3) وابن قتيبة (4) والزجاج (5) وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوِّفكم بأوليائه، كما قال: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي ببأسٍ، وقوله: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)) أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يُخوِّفكم من أوليائه. قال أبو بكر الأنباري (6) : والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيتُ الأموال، أي أعطيتُ القومَ الأموالَ، فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني.
__________
(1) سورة آل عمران: 175.
(2) انظر تفسير الطبري (4/122) و"زاد المسير" (1/506) .
(3) معاني القرآن (1/248) .
(4) تفسير غريب القرآن: (ص116) .
(5) معاني القرآن (1/490) .
(6) نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/507) .(3/55)
قال فهذا أشبه من ادّعاءِ "باءٍ"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة.
قلتُ: وهذا لأن الشيطان يُخوِّف الناسَ أولياءَه تخويفًا مطلقًا، ليس له في تخويفِ ناسٍ [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودًا.
وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلانٌ يُعطي الأموال والدراهم.
وقد قال بعض المفسرين (1) : إن المراد يخوّف أولياءَه المنافقين، ونُقِل هذا عن الحسن والسدِّي. وهذا له وجهٌ سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)) إلى أن قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ، ثم قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)) (2) . فإنما نزلت فيمن خوَّف المؤمنين من الناس، وقد قال تعالى: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ثم قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . والضمير عائد إلى أوليائه الذين قيل فيهم (فَاخشَوهُم) .
وأما ذلك القول فالذي قاله فَسَّرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوِّف أولياءَه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يُخوِّفهم. أو أنهم أرادوا المفعول المتروك، أي يُخوِّف المنافقين أولياءَه، وإلاّ فهو يخوّف الكفار كما يخوِّف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود إليه، وهو قوله (فَلا تَخَافُوهُمْ) .
__________
(1) نقل عنهم الطبري (4/122) وابن الجوزي في "زاد المسير" (1/507) .
(2) سورة آل عمران: 173- 175.(3/56)
وأيضًا فهذا فيه نظرٌ، فإن الشيطان يَعِدُ أولياءَه ويمنِّيهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) الآية (1) ، وقال: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (120)) (2) . ولكن الكفار يُوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) (3) ، وقال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الآية (4) ، وقال: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (5) . وفي حديث قريظة (6) أن جبريل قال: إني ذاهبٌ إليهم فأُزلزِلُ بهم الحصنَ.
فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابُهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوِّف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)) (7) ، وقال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ) الآية (8) .
__________
(1) سورة الأنفال: 48.
(2) سورة النساء: 120.
(3) سورة الحشر: 13.
(4) سورة الأنفال: 12.
(5) سورة آل عمران: 151.
(6) انظر: "سيرة ابن هشام" (2/233، 234) .
(7) سورة التوبة: 56.
(8) سورة الأحزاب: 18- 20.(3/57)
فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي يجعلهم الشيطان مخوِّفين لا خائفين، كما دلَّ عليه سياقُ الآية ولفظُها، وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوَّفَه الشيطان فجعله خائفًا. فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوِّفين، ويجعل ناسًا خائفين أولياءَه.
ودلَّت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف الله، فخوف الله أُمِرَ به وخوفُ أولياء الشيطان نُهِي عنه. وهذا كقوله في الآية الأخرى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية (1) ، فنَهَى عن خشية الظالم وأَمَر بخشيته تعالى. وقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (2) ، وقال: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)) (3) .
وبعض الناس يقول: يا ربِّ! أخافك وأخافُ من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالمٌ من أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يُخاف.
وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يُؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه دفعَ شرِّه عنك دَفَعَه، فالأمر لله. أنتَ إذا خفتَ الله فاتقيتَه وتوكلتَ عليه كفاكَ شرَّه، ولم يُسلِّطْه عليك، فانه تعالى قال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (4) .
__________
(1) سورة البقرة: 150.
(2) سورة الأحزاب: 39.
(3) سورة النحل: 51.
(4) سورة الطلاق: 3.(3/58)
وتسليطُه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفتَ الله وتُبتَ من ذنوبك واستغفرتَه [لم يسلِّطه عليك] ، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (1) . وفي الآثار: "أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتُهم عليه رحمةً، ومن عصاني جعلتُهم عليه نقمةً، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطِفْ قلوبَهم عليكم".
وقد قال لما سلَّط العدوَّ عليهم يوم أحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)) (2) ، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)) (3) . والأكثرون يقرأون "قَاتَل معه ربيون كثير"، والربّيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة (4) . قال ابن مسعود وابن عباس- في روايةٍ عنه- والفراء (5) : ألوف كثيرة" وقال ابن عباس -في رواية أخرى- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدّي والربيع وابن قتيبة (6) : جماعات كثيرة. وقُرِئ
__________
(1) سورة الأنفال: 33.
(2) سورة آل عمران: 165.
(3) سورة آل عمران: 146- 148.
(4) انظر تفسير الطبري (4/77) و"زاد المسير" (1/472) .
(5) معاني القرآن (1/237) .
(6) تفسير غريب القرآن (ص113) .(3/59)
بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا معه هم الذين ما وَهنوا وما ضعفوا وما استكانوا.
وأما على قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع "قُتِلَ" ففيها وجهان:
أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قُتِل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون، فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتلِ كثير منهم.
والثاني أن النبي قُتِل ومعه ربّيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم.
وهذا يناسب كونَ يومِ أحدٍ صرخ الشيطانُ بأن محمدًا قد قُتِل. لكن هذا المعنى لا يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال: "ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قُتِل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتلِ نبيهم لم يخافوا.
وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحُهم بعدم الخوف فيه عبرة.
وأيضًا فإذا وُصِفَ من قُتِلَ نبيُّه بكونهم كثيرين لم يكن في هذا حجة على الصحابة ولا عبرة لهم، فإنهم يوم أحد كانوا قليلين، وكان العدوّ أضعافَهم، فكانوا يقولون: أولئك كانوا ألوفًا مؤلفة فلهذا لم يَهِنُوا، ونحن قليلون.
وأيضًا فقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرَف أن أنبياءَ كثيرين قُتِلُوا في الجهاد.
وأيضًا فيقتضي أن المقتولين كان مع كل واحدٍ ربيون كثيرون، فيكون قد قُتِل أنبياءُ كثيرون، ومع كل واحدٍ خلقٌ عظيم، وهذا لم يُوجَد. فإن مَن قبلَ موسى من الأنبياء لم يكونوا يُقاتِلون، وموسى(3/60)
وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتَلوا في الغَزاة، والذين قبلهم بنو إسرائيل من الأنبياء لم يُقتَلوا في جهادٍ، بل لا يُعرَف نبيٌّ قُتِلَ في جهادٍ، فكيف يكون هذا كثيرًا؟ ويكون جنسُه كثيرًا ولا يُعرَف هذا في شيء من الأخبار؟!.
وهو سبحانه أنكر على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي مقتولاً أو ميتًا، لم يخصَّ حال القتل، فلم يذمّهم إذا مات أو قُتِل على الخوف والرعب، بل على الردَّة والانقلاب على العقبين. ولهذا تلاها الصديق يوم ماتَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأنَّ الناس لم يسمعوها حتى تلاها (1) .
ثمَّ ذكر بعدها معنى آخر، وهو أنّ من قبلكم كانوا يقاتلون، فيُقْتَل معهم خلق كثير وهم لا يَهِنُون. ويكون ذكر الكثرة مناسبًا؛ لأنه إن قُتِلَ منهم كثيرٌ فهذا يقتضي الوهنَ وما وَهَنوا، وإن كان الذين قاتلوا كثيرين وما وَهَنوا دلَّ على إيمانهم كلِّهم مع الكثرة. ولم يقل هنا: وما انقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيَّهم قُتِل لقالَ: "فما انقلبوا على أعقابهم"، لأنه هو الذي أنكره إذا مات الرسولُ أو قُتِلَ، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات الرسول أو قُتِل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ولهذا قال: (فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اَستَكَانُوا) ، ولم يقل: "فما وهنوا لقتل النبي". ولو كان النبي هو المقتول وهم كلهم أحياء لذكَرَ ما يناسب ذلك ولم يقل (فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) . ومعلومٌ أن ما يُصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قَتْلَ نبي.
__________
(1) أخرجه البخاري (1242، 4454 ومواضع أخرى) عن ابن عباس.(3/61)
وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قُتِل معه ربّيون كثير لا يستلزم أن يكون معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتلَ على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قُتِل على دينه فقد قُتِل معه، وحينئذٍ تظهر كثرة هؤلاء، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون. ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان النبي قد مات. والصحابة الذين كانوا يغزون في السرايا والرسولُ غائب عنهم كانوا معه وكانوا يقاتلون معه، وهم داخلون في قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (1) ، وفي قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (2) . فليس من شرط مَن يكون مع المطاع أن يكون رائيًا للمطاع.
وقد قيل في "ربّيين" هنا: إنهم العلماء (3) ، واختاره الرمّاني والزجّاج، ورُوِي عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك قال ابن فارس (4) : هم المتألّهون العارفون بالله. وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي" كلفظ "الربَّاني". وعن ابن زيد قال: هم الأتباع. كأنه جعلهم المربوبين.
والمعنى الأول أصحُّ من وجوه:
أحدها: أن الربانيين غيرُ الأحبار، وهم الذين يُرَبُّون الناس، وهم
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) سورة الأنفال: 75.
(3) انظر "زاد المسير" (1/472) .
(4) "مجمل اللغة" (2/370) .(3/62)
أئمتهم الذين يقتدون بهم في دينهم. ومعلوم أن هؤلاء لا يكونون إلا قليلاً، فكيف يقال: هم كثير؟.
والثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختصُّ بهؤلاء، والصحابة لم يكونوا كلهم ربانيين، فيقولون: أولئك أُعطُوا علمًا منعهم [من] الخوف.
الثالث: أن استعمال لفظ "الربِّي" في هذا ليس معروفًا في اللغة، بل المعروف الأول. والذين قالوا ذلك قالوا: هو نسبة إلى الربّ بلا نون، والقراءة المشهورة: "رِبِّيّ" بالكسر، وما قالوه إنما يتوجَّه على قراءة من قرأ "ربيُّون" بالفتح، وقد قُرِئَ "رُبّيُّون" بالضم. فعُلِمَ أنها لغات.
الرابع: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كلَّ من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن.
الخامس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (1) ، وفي مثل قوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) (2) ، وهناك ذكرهم بلفظ الربانيين.
السادس: أن "الرباني" قيل: منسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون، كالرقباني واللحياني، وقيل: إنه منسوب إلى ربَّان السفينة.
وهذا أصحّ، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى
__________
(1) سورة المائدة: 63.
(2) سورة آل عمران: 79.(3/63)
تربية الناس وكونهم يُرَبُّونهم، وهذه النسبة تختص بهم. وأما نسبتهم إلى الربّ فلا اختصاص لهم بذلك، بل كلُّ عبدٍ فهو منسوبٌ إليه. ولم يُسمِّ الله تعالى أولياءه المتقين ربانيين، ولا سَمَّى أنبياءه والرسلَ ربانيين، فإن الربَّانيِ من يَرُبُّ الناسَ كما يَرُبُّ الرَّبَّانُ السفينةَ. ولهذا كان الربانيون يُذمُّون تارةً ويُمدَحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الربّ بأنهم عرفوه وعبدوه لم يكونوا مذمومين قطُّ، وهذا هو الوجه السابع:
أن نسبتهم إلى الرب إن جُعِلَتْ مدحًا فقد ذمَّ الله الربانيين في موضعٍ آخر، وإن لم تُجعَل مدحًا لم يكن لهؤلاء خاصَّةٌ يمتازون بها من جهة المدح. وإذا كان الربَّاني منسوبًا إلى ربَّان السفينة لا إلى الربّ بَطَلَ قولُ من يجعل الربَّانيَّ منسوبًا إلى الربّ، فنسبة "الربيون" إلى الرب أولى بالبطلان.
الثامن: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فهذه النسبة لا تدلُّ على أنهم علماء، نعم تدلُّ على إيمان وعبادة وتألُّهٍ، قاله ابن فارس. وهذا يَعُمُّ جميع المؤمنين، فكلُّ من عبدَ الله وحدَه لا يُشرِك به شيئًا فهو متألِّهٌ عارفٌ بالله.
والصحابة كلُّهم كانوا يعبدون الله وحدَه لا يُشركون به شيئا، وكانوا متألهين عارفين بالله، ولم يُسَمَّوا "ربيون" ولا "ربَّانيون"، وإنما جاء عن منذر الثوري قال: قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم ماتَ ربَّانيُّ هذه الأمة (1) ، لكونه كان يُؤدِّبهم بما أعطاه الله من
__________
(1) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/540) بهذا الطريق. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/368) والبلاذري في "أنساب الأشراف" (3/54) والحاكم في "المستدرك" (5/543) من طريق آخر عن ابن الحنفية بنحوه.(3/64)
العلم، فيأمرهم وينهاهم. والخلفاء الراشدون كانوا ربّانيين. وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربّون الناس بصغار العلم قبلَ كبارِه. فهم أهل الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدَّث به، وإن لم يأمُرْ ويَنْهَ، وذلك هو المنقول عن السلف في "الربَّاني" (1) . نُقِل عن علي رضي الله عنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويُرَبُّونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلِّمون.
قلتُ: أهل الأمر والنهي [هم الفقهاء المعلمون] .
وعن قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة (2) : واحدهم ربَّاني، وهم العلماء المعلِّمون. وقال أبو عبيد (3) : أحسب الكلمةَ ليست بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية. وذلك أن أبا عبيدةَ زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وسمعتُ رجلاً عالمًا بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي.
قلت: هذا صحيح، واللفظة عربية منسوبة إلى ربّان السفينة، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربَّانيون، لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل، فلهذا لم يشتهر هذا الاسم عنهم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (3/233) و"زاد المسير" (1/413) و"فتح الباري" (1/160، 161) .
(2) تفسير غريب القرآن: 107.
نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (1/413) .(3/65)
وحكى ابن الأنباري (1) عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب، لأن العلم مما يُطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية.
وهذا قولٌ ضعيف كما تقدم التنبيه عليه.
والله سبحانه أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
__________
(1) نقل عنه ابن الجوزي في المصدر السابق.(3/66)
رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع
وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر(3/67)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ الإمام العالم فريد عصره، مُفتِي الفِرَق، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية -رضي الله عنه وأرضاه وأعلى درجته-:
هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولَّون الله ورسولَه والذين آمنوا (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) (1) ، الذين يحبُّون الله ورسولَه ومن أحبَّه الله ورسولُه، ويَعرِفون من حقّ المتصلين برسولِ الله ما شرعه الله ورسولُه، فإنَّ من محبَّةِ الله وطاعتِه محبَّةَ رسولهِ وطاعتَه، ومن محبةِ رسوله وطاعتِه محبَّة من أحبَّه الرسول وطاعة مَن أمرَ الرسولُ بطاعتِه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)) (2) .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاعَ أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" (3) .
__________
(1) سورة المائدة: 55- 56.
(2) سورة النساء: 59.
(3) أخرجه البخاري (2957، 7137) ومسلم (1835) عن أبي هريرة.(3/69)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما الطاعةُ في المعروف" (1) .
وقال: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق" (2) .
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاتُه، فإنَّا نَحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ وهو على كل شيء قدير، ونُصلِّي على إمام المتقين وخاتمِ النبيين محمد عبدِه ورسولِه، صلى الله عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى بعثَ محمدًا بالكتاب والحكمة، ليُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صَراط العزيز الحميد (3) ، وقال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)) (4) ، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (5) ، وقال لأزواج نبيِّه: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري (4340، 7257) ومسلم (1840) .
(2) أخرجه بهذا اللفظ البغوي في "شرح السنة" (15/44) عن النواس بن سمعان.
وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، والحديث صحيح رواه الحكم بن عمرو الغفاري وعمران بن حصين بنحوه، أخرجه أحمد (4/432، 5/66، 67) وغيره، انظر: "مجمع الزوائد" (5/226) و"السلسلة الصحيحة" (179، 180) .
(3) إشارة إلى الآية الأولى من سورة إبراهيم.
(4) سورة آل عمران: 164.
(5) سورة البقرة: 231.
(6) سورة الأحزاب: 34.(3/70)
والذي كان يتلوه هو ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيوت أزواجه: كتاب الله والحكمة، فكتاب الله هو القرآن، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه، وهي سنتُه. فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا.
وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ستكونُ فتنةٌ"، قلت: فما المَخْرَجُ منها يا رسولَ الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبَأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدَكم، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تَركَه من جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومن ابتغى الهُدى في غيرِه أضلَّه الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيمِ، وهو الذي لا تَزِيغ به الأهواءُ، ولا تَلتَبسُ به الألْسُنُ، ولا يَخْلقُ على كثرةِ الردَّ، ولا تَنقضِيْ عجائبُه. منَ قال به صدقَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دَعَا إليه فدِيَ إلى صراطٍ مستقيم".
وقال الله تعالى في كتابه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) (2) ، وقال في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (3) .
فذمَّ الذين تفرقوا فصاروا أحزابًا وشيعا، وحَمِدَ الذين اتفقوا وصاروا
__________
(1) أخرجه الترمذي (2906) والدارمي (3334، 3335) وأحمد (1/91) من طريق الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب. قال الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص71) : هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف. ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه، فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(2) سورة آل عمران: 103.
(3) سورة الأنعام: 159.(3/71)
جميعًا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعةً واحدةً للأنبياء، كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)) (1) . وإبراهيم هو إمام الأنبياء، كما قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)) (2) ، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) إلى أن قال: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعلِّم أمتَه أن يقولوا إذا أصبحوا: "أصبحنا على فطرةِ الإسلام وكلمةِ الإخلاص، ودينِ نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين" (4) .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا إني أُوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، فلا أُلْفِيَنَّ رجلاً شبعانَ على أَرِيْكَتِه يقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلالٍ حلَّلناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه. إلا إني أُوْتيتُ الكتاب ومثله معه" (5) .
فهذا الحديث موافق لكتاب الله، فإن الله ذكر في كتابه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) سورة الصافات: 83.
(2) سورة البقرة: 124.
(3) سورة النحل: 120.
(4) أخرجه أحمد (3/406، 407) والدارمي (2691) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1، 2، 3، 343، 344، 345) عن عبد الرحمن بن أبزي.
(5) أخرجه أحمد (4/130) وأبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12، 3193) عن المقدام بن معدي كرب، وحسَّنه الترمذي. وله شاهد من حديث أبي رافع، أخرجه أحمد (6/8) وأبو داود (4605) والترمذي (2669) وابن ماجه (13) ، وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم في المستدرك (1/108، 109) والألباني في تعليقه على "المشكاة" (162) .(3/72)
يتلو الكتاب والحكمة، وهي التي أُوْتِيَها مع الكتاب، وقد أمرَ في كتابه بالاعتصامٍ بحبله جميعًا، ونهى عن التفرق والاختلاف، و [أمر] أن نكون شيعة واحدةً لا شِيَعًا متفرقين. وقال الله تعالى في كتابه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)) (1) . فجعلَ المؤمنين إخوةً، وأمرَ بالإصلاحِ بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر" (2) . وقال: "المؤمن للمؤمن كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا"، وشَبَّكَ بين أصابعِه (3) .
فهذه أصولُ الإسلام التي هي الكتاب والحكمة والاعتصام بحبل الله جميعًا، على أهل الإيمانِ الاستمساكُ بها. ولا ريبَ أنّ الله قد أوجبَ فيها من حُرمةِ خُلفائِه وأهلِ بيتِه والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسانٍ ما أوجبَ، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)) (4) .
__________
(1) سورة الحجرات: 9.
(2) أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.
(3) أخرجه البخاري (481، 2446، 6026) ومسلم (2585) عن أبي موسى الأشعري.
(4) سورة الأحزاب: 28- 29.(3/73)
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما (1) عن أم سلمةَ أن هذه الآيةَ لما نزلتْ أدارَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِسَاءَه على علي وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ رضي الله عنهم، فقال: "اللهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي، فأَذْهِبْ عنهم الزَجْسَ وطَهِّرْهم تطهيرًا".
وسنتُه تُفَسِّر كتابَ الله وتُبيِّنُه، وتَدُلُّ عليه وتُعبِّر عنه، فلما قال: "هؤلاء أهلُ بيتي" -مع أن سياق القرآن يدلُّ على أن الخطابَ مع أزواجه-علمنا أن أزواجَه وإن كُن من أهلِ بيتهِ كما دلَّ عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهلَ بيته، لأن صلةَ النسب أقوى من صلة الصِّهر. والعرب تُطلِق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكينُ بالطوَّاف الذي تَرُدُّه اللقمةُ واللقمتانِ، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكينُ الذي لا يَجدُ غِنىً يُغنِيه، ولا يتَفَطَّنُ له فيُتَصَدَّق عليه، ولا يسأل الناسَ إلحافًا" (2) .
بيَّن بذلك أن هذا مختصٌّ بكمالِ المسكنة، بخلاف الطوَّاف فإنه لا تَكْمُل فيه المسكنةُ، لوجودِ من يُعطِيه أحيانًا، مع أنه مسكينٌ أيضًا. ويقال: هذا هو العالم، وهذا هو العدوّ، وهذا هو المسلم، لمن كَمُلَ فيه ذلك، وإنْ شاركه غيرُه في ذلك وكان دونَه.
ونظيرُ هذا الحديثِ ما رواه مسلم في صحيحه (3) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه الترمذي (3205، 3787) عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة.
وفي آخر الحديث: "قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبيَّ الله؟ قال: أنتِ على مكانكِ وأنتِ على خير". وأخرجه أحمد (4/107) من حديث واثلة بن الأسقع نحوه.
(2) أخرجه البخاري (1476، 1479، 4539) ومسلم (1039) عن أبي هريرة.
(3) برقم (1398) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أيضًا أحمد (3/24) . وفي الباب عن أبي بن كعب وسهل بن سعد الساعدي. انظر تفسير ابن كثير (2/404، 405) .(3/74)
أنه سُئِل عن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال: "مسجدي هذا" يعني مسجد المدينة. مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)) (1) يقتضي أنه مسجد قُباء، فإنه قد تَواتَر أنه قال لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ "، فقالوا: لأننا نَستنجيْ بالماء (2) . لكن مسجده أحقُّ بأن يكون مؤسَّسًا على التقوى من مسجد قُباء، وإن كان كلٌّ منهما مؤسّسًا على التقوى، وهو أحقُّ أن يقوم فيه من مسجد الضرار، فقد ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأتي قُباءَ كلَّ سَبْتٍ راكبًا وماشيًا (3) . فكان يقوم في مسجده القيامَ الجامعَ يومَ الجمعة، ثمَّ يقومُ بقُباءَ يوم السبت، وفي كلٍّ منهما قد قامَ في المسجد المؤسَّسِ على التقوى.
ولمَّا بيَّن سبحانَه أنه يُريد أن يُذْهِب الرجسَ عن أهلِ ببتِه ويُطَهَّرهم تطهيرا، دعا النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقربِ أهلِ بيتهِ وأعظمِهم اختصاصًا به، وهم: عليٌّ وفاطمةُ -رضي الله عنهَما- وسيِّدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قَضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان في ذلك ما دلَّنا على أنَّ إذهابَ الرجسِ عنهم وتطهيرَهم نعمةٌ من الله ليُسْبِغَها عليهم، ورحمةٌ من الله وفضلٌ لم
__________
(1) سورة التوبة: 108.
(2) أخرجه أحمد (3/422) وابن خزيمه في صحيحه (83) عن عويم بن ساعدة الأنصاري، وأخرجه أحمد (6/6) عن محمد بن عبد الله بن سلام، وأخرجه ابن ماجه (355) عن طلحة بن نافع عن أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس، انظر تفسير ابن كثير (2/403، 404) .
(3) أخرجه البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر.(3/75)
يبلغوهما لمجردِ حَوْلهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما يَظنّ من يَظُنّ أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانةِ الله تعالى له وهدايتهِ إيّاه.
وقد ثبت أيضًا بالنقل الصحيح (1) أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أزواجه، وخيَّرهن كما أمره الله، فاخترنَ الله ورسولَه والدار الآخرةَ، ولذلك أقَرَّهنّ ولم يُطلِّقْهن حتى ماتَ عنهن. ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يُمتِّعهن ويُسَرِّحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخشى الأمةِ لربه وأعلَمهُم بحدودِه.
ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور ورفع الوزر بلغَنا عن الإمام علي بن الحسين زينِ العابدين وقُرَّةِ عينِ الإسلام أنه قال: إني لأرجو أن يُعطِيَ الله للمحسن منّا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منّا وِزرين.
وثبت في صحيح مسلم (2) عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغَدِيرٍ يُدعَى "خُم" بين مكة والمدينة، فقال: "وأهل بيتي، أُذكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكِّركم اللهَ في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: ومن أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقةَ: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس. قيل لزيد: أكلُّ هؤلاء أهل بيته؟ قال: نعم.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوهٍ صحاحٍ (3) أن الله لما أنزل عليه
__________
(1) أخرجه البخاري (4785، 4786) ومسلم (1475) عن عائشة، وأخرجه مسلم (1478) عن جابر بن عبد الله.
(2) برقم (2408) .
(3) أخرجه البخاري (3370، 4797، 6357) ومسلم (406) عن كعب بن عجرة،=(3/76)
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)) (1) سأل الصحابة كيف يُصلُّون عليه، فقال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
وفي حديثٍ صحيح (2) : "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وأزواجِه وذريته". وثبتَ عنه (3) أن ابنه الحسن لما تناول تمرةً من تمر الصدقة قال له: "كخذ كخ، أما علمتَ أنَّا -آلَ بيتٍ- لا تَحِلُّ لنا الصدقةُ؟ " وقال (4) : "إنَّ الصدقةَ لا تَحِل لمحمدٍ ولا لآل محمد".
وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقةَ أوساخ الناس، فطهَّرهم الله من الأوساخ، وعوَّضَهم بما يُقِيْتُهم من خُمسِ الغنائم، ومن الفَيء الذي جُعِلَ منه رِزقُ محمدٍ، حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه أحمد وغيره (5) : "بعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعةِ حتى
__________
= وأخرجه البخاري (3369، 6360) ومسلم (407) عن أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاري (4798، 6358) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (405) عن أبي مسعود الأنصاري. هذا ما في الصحيحين، وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها المفسرون في تفسير الآية.
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) حديث أبي حميد الساعدي المذكور.
(3) أخرجه البخاري (1485، 1491، 3072) ومسلم (1069) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم (1072) عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ضمن حديث طويل.
(5) أخرجه أحمد (2/50، 92) وعبد بن حميد في مسنده (848) عن ابن عمر.
وأخرج أبو داود (4031) الشطر الأخير منه فقط. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1269) .(3/77)
يُعبَد الله وحده لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزْقي تحتَ ظِلِّ رُمْحِي، وجُعِلَ الذلَّةُ والصَّغَارُ على من خالفَ أمري، ومن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم".
ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامُهم بكفايةِ أهل البيت الذين حُرِّمتْ عليهم الصدقةُ أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لاسيَّما إذا تعذَّر أخذُهم من الخمس والفيء، إمّا لقلَّةِ ذلك، وإمّا لظلمِ من يَستولي على حقوقِهم فيَمنعُهم إيّاها من وُلاةِ الظلم، فيُعْطَون من الصدقةِ المفروضةِ ما يكفيهم إذا لم تَحصُل كفايتُهم من الخمس والفيء.
وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه، حيث قال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآيات (1) . فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (10)) (2) .
وذلك أن الفيء إنما حصلَ بجهادِ المهاجرين والأنصار وإيمانِهم وهجرتهم ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفًا عن أولئك، مشبهًا بتناول الوارث ميراث أبيه، فان لم يكن مواليًا له لم يستحق الميراثَ، فلا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضًا لهم خرجَ عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء، حتى يكونَ قلبه مسلمًا لهم، ولسانُه داعيًا لهم. ولو فُرِض أنه صَدَرَ من
__________
(1) سورة الحشر: 7 وما بعدها.
(2) سورة الحشر: 10.(3/78)
واحدٍ منهم ذنب محقَّقٌ فإنّ الله يغفره له بحسناتِه العظيمة، أو بتوبة تَصدُر منه، أوْ يَبتليه ببلاءٍ يكفِّر به سيئاتِه، أو يَقْبَل فيه شفاعةَ نبيِّه وإخوانِه المؤمنين، أو يدعو اللهَ بدعاءٍ يَستجيبُه له.
وقد ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحاح (1) من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعةَ كاتَبَ كفَّارَ مكة لمّا أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغزوهم غزوةَ الفتح، فبعث إليهم امرأةً معها كتابٌ يُخبِرهم فيه بذلك، فجاء الوحيُ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فبعثَ عليًّا والزبيرَ، فأحضَرا الكتابَ، فقال: "ما هذا يا حاطبُ؟ "، فقال: والله يا رسول الله! ما فعلتُ ذلك أذًى ولا كفرًا، ولكن كنتُ امرأ مُلْصَقًا من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يَحمُون بها أهليهم، فأردتُ أن أتخذَ عندهم يدًا أَحْمِي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دَعْني يا رسولَ الله أَضرِبْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال: "إنه شَهِدَ بدرًا، وما يُدرِيك لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآيات (2) .
وثَبتَ في صحيح مسلمِ (3) أن غلامَ حاطب هذا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسولَ الله! واللهِ ليدخلَنَّ حاطبٌ النَّارَ، وكان حاطب يُسيءُ إلى مماليكه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كذبتَ، إنه قد شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ".
__________
(1) البخاري (3007 ومواضع أخرى) ومسلم (2494) .
(2) سورة الممتحنة: 1 وما بعدها.
(3) برقم (2495) .(3/79)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخلُ النَّارَ واحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة" (1) .
فهذا حاطبٌ قد تجسَّسَ على رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة فتح مكة التي كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكتُمها عن عدوِّه، وكتَمها عن أصحابه، وهذا من الذنوب الشديدة جدًّا. وكان يُسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع: "لن يدخلَ الجنَّةَ سيئُ الملكة" (2) . ثم مع هذا لمَّا شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ غفرَ الله له ورَضِيَ عنه، فإن الحسنات يُذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضلُ من حاطبٍ، وأعظمُ إيمانًا وعلمًا وهجرةً وجهادًا، فلم يُدْنِبْ أحدٌ قريبًا من ذنوبه؟!
ثم إن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه روى هذا الحديثَ في خلافته، ورواه عنه كاتبُه عبيد الله بن أبي رافع (3) ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهد لأهل بدرٍ بما شهد، مع علمِ أمير المؤمنين بما جرى، ليَكفَّ القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى، فلم يأتِ أحدٌ منهم بأشدَّ ما جاءَ به حاطبٌ، بل كانوا في غالِب ما يأتون به مجتهدين، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا اجتهدَ الحاكم فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ"، وهذا حديث صحيح مشهور (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد (3/350) وأبو داود (4653) والترمذي (3860) عن جابر بن عبد الله. وهو عند مسلم (2496) بلفظ: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحدٌ من الذين بايعوا تحتها".
(2) أخرجه أحمد (1/7، 12) والترمذي (1946) وابن ماجه (3691) عن أبي بكر الصديق. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (6340) .
(3) كما عند البخاري (3007) ومسلم (2494) .
(4) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، بلفظ: "إذا حَكَم الحاكم ... ".(3/80)
وثبتَ عنه (1) أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فَرَدَّ الله الأحزابَ بغَيظِهم لم ينالوا خيرا، وأمر نبيَّه بقصد بني قريظة، قال لأصحابه: "لا يُصلِّيَنَّ أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قُريظةَ"، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فمنهم قوم قالوا: لا نصليها إلا في بني قريظةَ، ومنهم قومٌ قالوا: لم يُرِدْ منّا تفويتَ الصلاة، إنما أرادَ المسارعةَ، فصلَّوا في الطريق. فلم يُعنِّف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدةً من الطائفتين.
وكانت سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه موافقةً لما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (2) . فأخبر سبحانه وتعالى أنه خصَّ أحد النبيَّين بفهم الحكم في تلك القضية، وأثنى على كلٍّ منهما بما آتاه الله من العلم والحكم.
فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان -رضي الله عنهم ورضوا عنه-[كانوا] فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق.
وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من يَعِشْ منكم بعدي فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإن كل
__________
(1) أخرجه البخاري (946، 4119) عن ابن عمر. ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يصلينّ أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة"، وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" (7/408، 409) .
(2) سورة الأنبياء: 78-79.(3/81)
بدعة ضلالة" (1) .
وروى عنه مولاه سَفِيْنَةُ أنه قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكًا" (2) ، فكان آخر الثلاثين حين سَلَّم سِبْطُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحسن بن علي -رضي الله عنهما- الأمرَ إلى معاوية، وكان معاويةُ أوَّلَ الملوك، وفيه ملكٌ ورحمةٌ، كما رُوِيَ في الحديث: "ستكون خلافةُ نبوةٍ، ثم يكون ملكٌ ورحمة، ثمَّ يكون ملكٌ وجبرية، ثمَّ يكون ملك عَضُوض" (3) .
وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوهٍ أنه لمّا قاتَلَ أهلَ الجمل لم يَسْبِ لهم ذُرّيّةً، ولم يَغْنَم لهم مالاً، ولا أَجْهَزَ على جَريح، ولا اتبعَ مدبرًا، ولا قَتلَ أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلَى الطائفتين بالجمل وصفين، وقال: "إخوانُنا بَغَوا علينا" (4) ، وأخبَر أنهم ليسوا بكفَّار ولا منافقين، واتَّبعَ فيما قالَه كتابَ الله وسنةَ نبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنّ الله سماهم إخوةً، وجعلَهم مؤمنين في الاقتتال والبغي، كما ذكر في قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (5) .
وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحاح (6) أنه قال: "تَمرقُ مارقةُ على
__________
(1) أخرجه أحمد (4/126، 127) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) والدارمي (96) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية.
(2) أخرجه أحمد (5/220، 221) وأبو داود (4646، 4647) والترمذى (2226) ، وتكلم عليه الألباني وصححه في "الصحيحة" (459) .
(3) أخرجه أحمد (4/273) والبزَّار في مسنده (1588) بأطول منه عن النعمان بن بشير. وصححه الألباني في "الصحيحة" (5) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" (15/256- 257) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/182) .
(5) سورة الحجرات: 9.
(6) أخرجه مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري.(3/82)
حينِ فُرقةٍ من المسلمين، تَقتُلُهم أولى الطائفتين بالحق". وهذه المارقة هم أهل حَرُورَاءَ، الذين قتلوا أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابَه لما مَرَقُوا من الإسلام، وخرجوا عليه، فكَفَّرُوه وكَفَّروا سائرَ المسلمين، واستحلُّوا دماءَهم وأموالَهم.
وقد ثبتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرقٍ متواترةٍ (1) أنه وصفَهم وأمرَ بقتالِهم، فقال: "يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامِهم، وقرأنه مع قرآنِهم، يَقرءون القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم، يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُق السَّهمُ من الرَّميَّةِ، لو يَعلم الذين يقتلونهم مالهم على لسانِ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنَكَلُوا عن العمل". فقتلَهم علي رضي الله عنه وأصحابُه، وسُرَّ أميرُ المؤمنين بقتلهم سرورًا شديدًا، وسَجَدَ الله شُكْرًا، لمّا ظهرَ فيهم علامتُهم، وهو المُخْدَجُ اليدِ الذي على يَدِه مثلُ البَضْعَةِ من اللحم عليها شَعَراتٌ، فاتفقَ جميعُ الصحابة على استحلالِ قتالِهم، ونَدِمَ كثير منهم -كابن عمر وغيرِه- أن لا يكونوا شهدوا قتالَهم مع أمير المؤمنين. بخلافِ ما جَرى في وقعة الجمل وصفِّين، فإنّ أمير المؤمنين كان متوجعًا لذلك القتال، مُتشكِّيًا مما جَرَى، يَتَراجِعُ هو وابنُه الحسنُ القولَ فيه، ويذكر له الحسنُ أن رأيَه أن لا يفعله.
فلا يستوي ما سَرَّ قلبَ أميرِ المؤمنين وأصحابه وغَبِطَه به مَن لم يَشْهَدْه، مع ما تواتَر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وساءَه وساَءَ قلبَ أفضلِ أهلِ بيتِه حِبِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي قال فيه: "اللهمَّ إني أُحِبُّه، فأحَبَّ من
__________
(1) أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد الخدري من طرق كثيرة.(3/83)
يُحِبُّه" (1) . وإن كان أميرُ المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتلَه في جميع حروبِه.
ولا يستوي القَتلَى الذين صلَّى عليهم وسمَّاهم "إخواننا"، والقتلَى الذين لم يُصَلِّ عليهم، بل قيل له: مَن (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)) (2) ؟ فقال: هم أهلُ حَرُورَاءَ.
فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرِهم الذي سمَّاه أميرُ المؤمنين في خلافته بقوله وفعلِه موافقًا فيه لكتاب الله وسنةِ نبيِّه-: هو الصواب الذي لا مَعدِلَ عنه لمن هُدِيَ رُشْدَه، وإن كان كثيرٌ من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان، بل يجعلون السيرةَ في الجميع واحدةً، فإمّا أن يُقصِّروا بالخوارج عمَّا يَستحِقُّونه من البُغْضِ واللَّعنةِ والعقوبةِ والقتلِ، وإمَّا أن يَزِيدوا على غيرِهم ما يَستحقُّونَه من ذلك.
وسببُ ذلك قلَّةُ العلم والفهم لكتاب الله وسنةِ رسوله الثابتةِ عنه، وسيرةِ خلفائِه الراشدين المهديين، وإلاّ فمن استهدى الله واستعانَه بحثَ عن ذلك، وطلبَ الصحيحَ من المنقول، وتدبَّر كتابَ الله وسنةَ نبيِّه وسنةَ خلفائِه، لاسيَّما سيرةَ أمير المؤمنين الهادي المهدي، التي جرى فيها ما اشتبهَ على خلقٍ كثيرٍ فضَلُّو بسبب ذلك، إمَّا غُلُوًّا فيه وإمَّا جَفَاءً عنه، كما رُوِي عنه أنه قال: "يَهلِكُ فِيَّ رجلانِ: محبٌ غَالٍ يُقَرِّظُني بما ليسَ فيَّ، ومُبغِضٌ قَالٍ يَرمِيْني بما نزَّهَني اللهُ منه" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري (3749) ومسلم (2422) عن البراء بن عازب، وأخرجه البخاري (2122، 5884) ومسلم (2421) عن أبي هريرة.
(2) سورة الكهف: 104.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (984) ، وحسَّنه الألباني.(3/84)
وحدُّ ذلك ومِلاكُ ذلك شيئانِ: طلبُ الهدى ومجانبةُ الهَوَى، حتى لا يكون الإنسان ضالاً وغاويًا، بل مهتديًا راشدًا. قال الله تعالى في حقّ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) (1) ، فوصفَه بأنه ليس بضال وهو الجاهل، ولا غاوٍ وهو الظالم، فإن صلاحَ العبد في أن يعلمِ الحقَّ ويَعمَلَ به، فمن لم يَعلمِ الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومَن عَلِمَه فخالفَه واتبَعَ هَواه فهو غاوٍ، ومَن علمه وعَمِل به كان من أولي الأيدي عملاً ومن أولي الأبصار علمًا. وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كلِ صلاة أن نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)) (2) ، فالمغضوب عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالّون: الذين يعملون أعمالَ القلوب والجوارح بلا علمٍ كالنصارى.
ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (3) ، ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه بذلك في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (176)) (4) .
ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ
__________
(1) سورة النجم: 1- 4.
(2) سورة الفاتحة: 6- 7.
(3) سورة الأعراف: 146.
(4) سورة الأعراف: 175- 176.(3/85)
قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (1) ، ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علمٍ حيث قال: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)) (2) ، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (3) .
وأخبر أن من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضلّ الضالون، ولا يَشقَى كما شَقِيَ المغضوبُ عليهم، فقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (4) . قال ابن عباس: تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه إلا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة (5) .
ومن تمام الهداية أن يَنظُر المستهديْ في كتاب الله، وفيما تواتَر من سنةِ نبيه وسنةِ الخلفاء، وما نقلَه الثقاتُ الأثباتُ، ويُميِّزَ بين ذلك وبين ما نقلَه مَن لا يَحفظ الحديثَ، أو يُتَّهَم فيه بكذب لغرضٍ من الأغراض، فإنّ المحدِّثَ بالباطل إمَّا أن يتعمد الكذبَ، أو يَكذِبَ خطأً لسوءِ حفظِه أو نسيانِه أو لقلَّةِ فهمِه وضبطِه.
ثمَّ إذا حَصَلَتِ، المعرفةُ بذلك تدبَّر ذلك، وجَمَعَ بين المتفق منه، وتَدبَّر المختلفَ منه حتى يتبيَّنَ له أنه مُتّفق في الحقيقة وإن كان الظاهرُ مختلفًا، أو أن بعضَه راجحٌ يَجِبُ اتباعُه، والآخر مرجوحٌ ليس بدليلٍ في الحقيقة وإن كان في الظاهرِ دليلاً.
__________
(1) سورة المائدة: 77.
(2) سورة الأنعام: 119.
(3) سورة القصص: 50.
(4) سورة طه: 123.
(5) انظر تفسير الطبري (16/163) .(3/86)
أما غَلَطُ الناس فلعدمِ التمييز بين ما يُعقَلِ من النصوصِ والآثار،
أو يُعقَل بمجردِ القياس والاعتبار، ثمَّ إذا خالط الظنَّ والغلط في العلم
هَوَى النفوس ومُنَاها في العمل صارَ لصاحبِها نصيبٌ من قوله تعالى
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)) (1) .
وهذا سبب ما خُلِقَ الإنسانُ عليه من الجهلِ في نوع العلم، والظلمِ في نوع العمل، فبجهلهِ يتبع الظن، وبظلمِه يتبع ما تَهوَى الأنفسُ. ولمّا بعثَ اللهُ رسلَه وأنزلَ كُتبه لهدى الناسِ وإرشادهم، صارَ أشدُّهم اتباعًا للرسلِ أبعدَهم عن ذلك، كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)) (2) .
ولهذا صار ما وصفَ الله به الإنسانَ لا يَخصُّ غيرَ المسلمين دونَهم، ولا يَخصُّ طائفة من الأمة، لكن غير المسلمين أصابَهم ذلك في أصولِ الإيمان التي صارَ جهلُهم وظلمُهم فيها كفرانًا وخسرانًا مبينًا، ولذلك من ابتدعَ في أصولِ الدين بدعة جليلةً أصابَه من ذلك أشدُّ ممّا يُصيبُ مَن أخطأَ في أمرٍ دقيقٍ أو أذنبَ فيه، والنفوسُ لَهِجَة بمعرفةِ محاسنِها ومساوئ غيرِها.
وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحقَّ، ولا يتّبعُ إلا إيَّاه، ولهذا من يَتَّبع المنقولَ الثابتَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائِه وأصحابِه وأئمةِ أهلِ
__________
(1) سورة النجم: 23.
(2) سورة البقرة: 213.(3/87)
بيتهِ -مثل الإمامِ علي بن الحسين زين العابدين، وابنِه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وابنِه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة- ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجدَ ذلك جميعَه متفقًا مجتمعًا في أصولِ دينهم وجماع شريعتهم، ووجدَ في ذلك ما يَشْغَلُه وما يُغْنِيْه عما أحدثَه كثيرٌ من المَتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف، ممن ينتصب (1) لعداوَةِ آلِ بيتِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويَبْخَسُهم حقوقَهم ويُؤذيهم، أو ممن يَغلُو فيهم غير الحق، ويَفترِي عليهم الكذبَ، ويَبخَسُ السابقين والطائعين حقوقَهم.
ورأى (2) أنَ في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات، وباب العدل والقدر، وباب الإيمان والأسماء والأحكام، وباب الوعيد والثَّواب والعذاب، وبابَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وما يتصل به من حكم الأمراَء أبرارِهم وفُجَّارِهم، وحكم الرعيَّةِ معهم، والكلام في الصحابة والقرابة-: ما يُبيِّنُ لكل عاقلٍ عادلٍ أنَّ السلفَ المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنسِ النزاع الذي أقرَّهم عليه الكتاب والسنةَ كما تقدَّم ذكرُه، وأنَّ البدعَ الغليظةَ المخالفةَ للكتابِ والسنةِ واتفاقِ أولي الأمر الهداةِ المهتدين إنّما حَدَثَتْ من الأخلاف، وقد يَعزُونَ بعضَ ذلك إلى بعض الأسلاف، تارةً بنقل غيرِ ثابتٍ، وتارةً بتأويلٍ لشيءٍ من كلامهم متشابهٍ.
__________
(1) وصف لـ "كثير من المتأخرين".
(2) خبر آخر لـ "من يتبع المنقول…"، ومعطوفٌ على "وجد ذلك جميعَه متفقًا…"
و"وجد في ذلك ما يشغله ... ".(3/88)
ثمَّ إن من رحمة الله أنه قَلَّ أن يُنقَل عنهم شيء من ذلك إلا وفيِ النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقولِ المحكم الصريحِ ما يُبيِّنُ غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في المِلَل، فكمالُ الإسلام هو الوسَطُ في الأديان والمِلَل، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (1) لم ينحرفوا انحرافَ اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك أهلُ الاستقامةِ، ولزومِ سنة رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما عليه السلف، تمسَّكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف.
فاليهود مثلاً جَفَوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذَّبوهم، كما قال الله تعالى: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)) (2) ، والنصارى. غَلَوا فيهم حتى عَبَدوهم، كما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) الآية (3) .
واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، كما ذكر الله عنهم إنكارَه في القرآن حيث قال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (4) ، والنصارى قابَلُوهم، فجوَّزوا للقِسّيسين والرهبان أن يُوجِبوا ما شاءوا ويُحرِّموا ما شاءوا.
وكذلك تقابلهم في سائر الأمور.
فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ووقَّروهم وعَزَّروهم وأحبُّوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردُّوهم
__________
(1) سورة البقرة: 143.
(2) سورة البقرة: 87.
(3) سورة النساء: 171.
(4) سورة البقرة: 142.(3/89)
كما فعلت اليهود" ولا أَطْرَوهم ولا غَلَوا فيهم فنزَّلوهم منزلةَ الربوبية كما فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوَّزوا أن ينسخ الله، ولم يُجوِّزوا لغيره أن ينسخ، فإنّ الله له الخلق والأمر، فكما لا يَخلُق غيرُه لا يأمُر غيرُه.
وهكذا أهلُ الاستقامةِ في الإسلام المعتصمون بالحكمةِ النبوية والعصمة الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطِّلة وبين المشبِّهة الممثِّلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرجَ أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جَعَلَ إيمان الفُسَّاق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يُوافِقون الولاةَ على الإثم والعدوان ويَركَنون إلى الذين ظلموا، وبين الذين لا يرون أن يُعاوِنوا أحدًا على البرّ والتقوى لا على جهادٍ ولا جمعةٍ ولا أعيادٍ إلا أن يكون معصومًا، ولا يَدخُلوا فيما أمر الله به ورسولُه إلا في طاعةِ من لا وجودَ له.
فالأوَّلون يدخلون في المحرَّمات، وهؤلاء يتركون واجباتِ الدين وشرائعَ الإسلام، وغُلاتُهم يتركونَها لأجل موافقةِ من يظنونه ظالمًا، وقد يكون كاملاً في علمه وعدلِه.
وأهلُ الاستقامة والاعتدال يُطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون اللهَ ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسولُ بأمرٍ أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما أُمِروا به لفعلِ غيرِهم ما نُهِيَ عنه، بل كما قال تعالى:(3/90)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (1) . ولا يُعاوِنون أحدًا على معصية، ولا يُزِيلون المنكرَ بما هو أنكرُ منه، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف. فهم وَسَط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم (2) .
ومن ذلك أن اليوم الذي هو يومُ عاشوراء الذي أكرمَ الله فيه سِبطَ نبيِّه وأحدَ سيِّدَي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي مَن قَتلَه من الفَجَرة الأشقياء، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد وغيره (3) عن فاطمة بنت الحسين -وقد كانت قد شهدتْ مصرعَ أبيها- عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جدِّه رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من رجل يُصابُ بمصيبةٍ فيذكُر مصيبتَه وإن قدمتْ، فيُحدِثُ لها استرجاعًا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يومَ أُصِيبَ بها".
فقد علم الله أنّ مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرُها مع تقادُمِ العهد، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديثَ صاحبُ المصيبةِ والمُصَابُ به أوَّلاً، ولا ريبَ أن ذلك إنما فعلَه الله كرامةً للحسين رضي الله عنه، ورفعًا لدرجتِه ومنزلتِه عند الله، وتبليغًا له مَنازلَ الشهداء، وإلحاقًا له بأهل بيته الذين ابتُلُوا بأصنافِ البلاء. ولم يكن الحسن والحسين حصلَ لهما من الابتلاءِ ما حَصَلَ لجدِّهما
__________
(1) سورة المائدة: 105.
(2) أخرجه أحمد (4/102) والدارمي (2521) وأبو داود (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان. وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وغيرهما، انظر "الصحيحة" (203، 204) .
(3) أخرجه أحمد (1/201) وابن ماجه (1600) .(3/91)
ولأمّهما وعَمِّهما، لأنهما وُلِدا في عِزِّ الإسلام، وتَربَّيا في حُجور المؤمنين، فأتمَّ الله نعمتَه عليهما بالشهادة، أحدهما مسمومًا والآخر مقتولاً، لأنّ الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهلُ البلاء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سُئِلَ: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ فقال: "الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتَلى الرجلُ على حسبِ دينه، فإن كان في دينه صَلابة زِيْدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاءُ بالمؤمنِ حتى يَمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ" (1) .
وشَقِيَ بقتلِه من أعانَ عليه أو رضي به. فالذي شرعَه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصائب وإن عظُمتْ أن يقولوا: إنّا لله وإنا إليه راجعون. وقد روى الشافعي في مسنده (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتَ وأصاب أهلَ بيته من المصيبة ما أصابَهم، سمعوا قائلاً يقول: يا آلَ بيتِ رسول الله! إنّ في الله عَزَاءً من كلّ مصيبةٍ، وخَلَفًا من كل هالك، ودَركًا من كل فائت، فبالله فثِقُوا وإيَّاه فارْجُوا، فإن المُصَابَ من حُرِمَ الثوابَ. فكانوا يرونه الخضر جاء يُعزِّيهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/172، 173، 180، 185) والدارمي (2786) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023) عن سعد بن أبي وقاص.
(2) 1/216 (من ترتيبه لمحمد عابد السندي) عن علي بن الحسين مرسلاً، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/268) . وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/258) من هذا الطريق ثم قال: "شيخ الشافعي القاسم العمري متروك، قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: يكذب، زاد أحمد: ويضع الحديث. ثم هو مرسل، ومثلُه لا يُعتمد عليه هاهنا، والله أعلم. وقد رُوِي من وجهٍ آخر ضعيف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي، ولا يصحّ". وهذا أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7/267) ، وانظر الكلام عليه في "فتح الباري" (6/435) و"الإصابة" (1/442) .(3/92)
فأما اتخاذ المآتم في المصائب واتخاذ أوقاتها مآتمَ فليس من دين الإسلام، وهو أمر لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحد من السابقين الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم. وقد شَهِدَ مقتلَ عليٍّ أهلُ بيته، وشهدَ مقتلَ الحسين من شهدَه من أهل بيته، وقد مرَّتْ على ذلك سنون كثيرة وهم متمسكون بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يُحدِثون مأتمًا ولا نياحةً، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسولُه، أو يفعلون مالا بأسَ به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" (1) ، وقال: "ليس منا من لَطَم الخدودَ وشَقَّ الجيوبَ ودَعا بدعوى الجاهلية" (2) ، يعني مثل قول المصاب: يا سَنَداه! يا ناصراه! يا عَضُداه! وقال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبلَ موتها فإنها تُلْبَسُ يومَ القيامة دِرعًا من جَرَبٍ وسِربالاً مَن قَطِرانٍ" (3) . وقال: "لعن الله النائحةَ والمستمعةَ إليها" (4) .
وقد قال في تنزيله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) أخرجه أحمد (1/237، 335) عن ابن عباس، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (47) .
(2) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.
(3) أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.
(4) أخرجه أحمد (3/65) وأبو داود (3128) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/63) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، وقد خرَّجها الألباني في "رواء الغليل" (3/222- 223) وضعَّفها كلَّها وبيَّن وهم من عزاها لصحيح مسلم.(3/93)
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)) (1) . وقد فسَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) بأنها النياحة (2) ، وتَبرَّأَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحالقة والصالقة (3) . والحالقة: التي تَحلِق شَعرَها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتَها عند المصيبة. وقال جرير بن عبد الله (4) : كنا نعدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصَنْعَتهم الطعامَ للناس من النياحة. وإنما السنةُ أن يُصنَع لأهل الميت طعامٌ، لأنّ مصيبتَهم تَشْغَلُهم، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نُعِيَ جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتةَ فقال: "اصنَعوا لآلِ جعفرٍ طعامًا، فقد جاءهم ما يَشْغَلُهم" (5) .
وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراءَ من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال، فهو بدعة أيضًا لا أصلَ لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين، وإنما رُوِي فيها حديث "من اغتسلَ يومَ عاشوراءَ لم يَمرض تلك السنةَ، ومن اكتحلَ يومَ عاشوراء لم يَرمَدْ ذلك العام" (6) ونحو ذلك، ولكن الذي ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صامَ
__________
(1) سورة الممتحنة: 12.
(2) أخرجه أحمد (5/85، 6/408) وأبو داود (1139) وابن خزيمة في صحيحه (1722، 1723) عن أمّ عطية. وانظر "الدر المنثور" (8/139 وما بعدها) .
(3) أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.
(4) أخرجه أحمد (2/204) وابن ماجه (1612) عنه، وصححه البوصيري في "الزوائد".
(5) أخرجه أحمد (1/205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم في "المستدرك" (1/372) .
(6) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/201) عن أبي هريرة ضمن حديث طويل، ثم قال: هذا حديث لا يشك عاقل في وضعه. وقال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/110) : موضوع، ورجاله ثقات، والظاهر أن بعض=(3/94)
يومَ عاشوراءَ، وأمرَ بصيامه، وقال: "صومُه يُكفر سنةً،، وقرَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله أنجىَ فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وقومَه (1) ، ورُوِيَ أنه كان فيه حوادث الأمم، فمن كرامة الحسين أن الله جعلَ استشهادَه فيه.
وقد يجمع الله في الوقت شخصًا أو نوعًا من النعمة التي تُوجب شكرًا، أو المحنة التي تُوجِب صبرًا، كما أنّ سابعَ عشر شَهر رمضان فيه كانت وقعةُ بدرٍ، وفيه كان مقتلُ عليّ. وأبلغ من ذلك أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه هجرته، وفيه وفاته.
والعبد المؤمن يُبتَلى بالحسناتِ التي تَسُرُّهُ والسيئاتِ التي تَسُوءُه في الوقت الواحد، ليكون صبَّارًا شكورًا، فكيف إذا وقعَ مثلُ ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد؟
ويُستحب صومُ التاسع والعاشر، ولا يُستحبُّ الكحلُ، والذين يصنعونَ من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت، وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومَن قَصدَ منهم أهلَ البيت بذلك أو غيره، أو فرحَ أو استشفَى بمصائبهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده لا يدخلون
__________
=المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد. وأخرج ابن الجوزي (2/203) الشطر الثاني منه عن ابن عباس، ونقل عن الحاكم أنه قال: "أنا أبرأ إلى الله من عهدة جويبر، والاكتحال يوم عاشوراء لم يُروَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قتلةُ الحسين". وحكم عليه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص403) والألباني في الضعيفة (624) بأنه موضوع.
(1) انظر باب صيام يوم عاشوراء من كتاب الصوم عند البخاري ومسلم وغيرهما.(3/95)
الجنةَ حتى يُحبّوكم من أجلي" (1) لما شَكَا إليه العباس أن بعض قريش يَجْفُون بني هاشم. وقال: "إن الله اصطفى قريشًا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشمِ" (2) . ورُوِيَ عنه أنه قال: "أَحِبُّوا الله لما يَغذُوكم به من نِعَمِه، وأحبُّوني لحبّ الله، وأَحِبُّوا أهلَ بيتي لحبّي" (3) . وهذا باب واسع يطولُ القول فيه.
وكان سببُ هذه المواصلة أن بعض الإخوان قَدِمَ بورقةٍ فيها ذِكرُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذِكر سادة أهلِ البيت، وقد أُجري فيها ذِكرُ النذور لمشهد المنتظر. فخُوطِبَ من فضائل أهل البيت وحقوقِهم بما سَرَّ قلبَه وشَرحَ صَدْرَه، وكان ما ذُكِر بعضَ الواجب، فإن الكلام في هذا طويل، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك. وخُوطِبَ فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله، فسألَ المكاتبةَ بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان، فإنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد (1/207) من طريق عبد الله بن الحارث عن العباس، ولفظه: "والذي نفسي بيده لا يَدخلُ قَلْبَ رجل الإيمانُ حتَى يُحبَّكم لله ولرسوله".
وأخرجه ابن ماجه (140) نحوه من طريق محمد بن كعب القرظي عن العباس.
قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه قيل: رواية محمد بن كعب عن العباس مرسلة.
(2) أخرجه مسلم (2276) عن واثلة بن الأسقع.
(3) أخرجه الترمذي (3789) والحاكم في "المستدرك" (3/150) عن ابن عباس.
قال الترمذي: حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة" (ص20) وتكلم عليه.
(4) أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري. ورُوِي عن غيره من الصحابة، انظر "جامع العلوم والحكم" (1/215) و"مجمع الزوائد" (1/87) .(3/96)
أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلطٌ في مواضع متعددة، مثل ذكرِه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي في صفر، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن عمرو بن العلاء بن هاشم، وأنّ جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد، وغير ذلك.
فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي في شهرِ ربيع الأول شهرِ مولده وشهرِ هجرته، وأنه توفي يوم الاثنين، وفيه وُلِد وفيه أُنزِل عليه. وجدُّه هاشم بن عبد مناف، وإنما كان هاشم يُسمَّى عمرًا، ويقال له عمرو العلا، كما قال الشاعر (1) :
عَمرو العُلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لقومِه ورجالُ مكَّةَ مُسنِتُون عِجَافُ
وأن جعفرًا أبا عبد الله توفي في سنة ثمانٍ وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور.
وأما المنتظَر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنسابِ أهلِ البيت أن الحسن بن علي العسكري لما توفي بعسكر سامَرَّاء لم يُعقِب ولم ينسل، وقال من أثبته: إن أباه لما توفي سنة ستين ومئتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل، وأنه غاب من ذلك الوقت، وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض، لا يَتِمُّ الإيمانُ إلا به، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يَعلم كل ما يُفتَقر إليه في الدين.
وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يَتثبَّتَ فيه ويَستهديَ الله ويستعينَه، فإن الله قد حرَّمَ القولَ بغير علم، وذكر أن ذلك من خُطوات الشيطان،
__________
(1) هو مطرود بن كعب الخزاعي أو ابن الزبعرى، انظر تاريخ الطبري (2/251، 252) و"البداية والنهاية" (3/356) .(3/97)
وحَرَّم القولَ المخالفَ للحق، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك، ونَهى عن اتباع الهوى.
فأما المهديّ الذي بَشَّرَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحافظونَ لها، الباحثون عنها وعن رُواتِها، مثل أبي داود والترمذي وغيرهما. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (1) .
فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو لم يَبقَ من الدنيا إلا يومٌ لطَوَّل اللهُ ذلك اليومَ، حتى يَبعثَ الله فيه رجلا من أهل بيتي يُواطِئ اسمُه اسمي، واسمُ أبيه اسمَ أبي، يملأ الأرض قِسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا" (2) .
ورُوِي هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها (3) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "المهدي من ولد ابني هذا"، وأشار إلى الحسن (4) .
__________
(1) جمع الدكتور عبد العليم البستوي أحاديث المهدي الواردة في كتب السنة مع الكلام عليها ودراسة أسانيدها، ونشرها في كتابين: "المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة" و"الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة"، وهما أفضل الكتب المؤلفة في هذا الباب.
(2) أخرجه أبو داود (4282) بإسناد حسن. وانظر الكلام عليه في "المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة" (ص269- 278) .
(3) حديث أم سلمة أخرجه أحمد (6/316) وأبو داود (4286، 4287) ، وإسناده ضعيف. انظر الكلام عليه في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" (ص324- 335) .
(4) أخرجه أبو داود (4290) بلفظ: " ... سيخرج من صلبه رجلٌ يُسمَّى باسم نبيكم ... ". وإسناده ضعيف، انظر "الموسوعة" (ص347- 349) .(3/98)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يكون في آخر الزمان خليفةٌ يَحثُو المالَ حَثْوًا" (1) ، وهو حديث صحيح.
فقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اسمه "محمد بن عبد الله" ليس "محمد بن الحسن". ومن قال: إن أبا جدِّه "الحسين"، وإن كنيةَ الحسينِ "أبو عبد الله"، فقد جعل الكنيةَ اسمَه، فما يَخفى على من يَخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه، وأنه من جنس تأويلات القرامطة.
وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حَسَني لا حُسَيني، لأن الحسن والحسين مُشبِهانِ من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاقَ، وإن لم يكونا نبيَّينِ، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهما: "أُعِيذُكُما بكلماتِ الله التامَّة، من كلّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كلِّ عين لاَمَّة" (2) ، ويقول: "إن إبراهيم كان يُعوِّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ" (3) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب على المنبر والحسنُ معه على المنبر: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتينِ من المسلمين" (4) .
فكما أن غالبَ الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبَّق أمرُه مشارقَ الأرض ومغاربَها كان من ذرية إسماعيل، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن.
__________
(1) أخرجه مسلم (2913) عن جابر بن عبد الله، و (2914) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه البخاري (3371) عن ابن عباس.
(3) ضمن الحديث السابق.
(4) أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109) عن أبي بكرة.(3/99)
وأيضًا فإن من كان ابنَ سنتينِ كان في حكم الكتابِ والسنةِ مستحقًا أن يُحجَر عليه في بدنِه، ويُحجَر عليه في مالِه، حتى يَبلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فإنه يتيم، وقد قال الله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (1) . فمن لم تُفَوِّض الشريعةُ إليه أمرَ نفسه كيف تُفوِّضُ إليه أمرَ الأمة؟ وكيف يجوز أن يكون إمامًا على الأمَة من لا يُرى ولا يُسمَع له خبر؟ مع أنّ الله لا يُكلِّف العبادَ بطاعةِ من لا يَقدرون على الوصولِ إليه، وله أربعمئه وأربعون سنةً ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجودَ له.
وكيف لم يظهر لخواصِّه وأصحابِه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه؟ وما المُوجِب لهذا الاختفاء الشديد دون غيرِه من الآباء؟ وما زال العقلاءُ قديمًا وحديثًا يضحكون ممن يُثبت هذا ويُعلِّق دينَه به، حتى جعلَ الزنادقةُ هذا وأمثالَه طريقًا إلى الَقدحِ في الملَّة وتسفيهِ عقولِ أهلِ الدين إذا كانوا يعتقدون مثلَ هذا.
لهذا قد اطلع أهلُ المعرفة على خلقٍ كثيرٍ منافقينَ زنادقةٍ يتستَّرون بإظهار هذا وأمثالِه، ليستميلوا قلوبَ وعقولَ الضعفاءِ وأهلِ الأهواء، ودَخلَ بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم. والله يُصلح أمرَ هذه الأمة ويهديهم ويُرشِدهم.
وكذلك ما يتعلق بالنذور والمساجد والمشاهد، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهمِ قد أمرَ بعمارةِ المساجد، وإقامة الصلواتِ فيها بحسب الإمكان، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من يفعل ذلك. قال الله تعالى:
__________
(1) سورة النساء: 6.(3/100)
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)) (1) .
وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) (2) .
وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)) (3) وقال: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)) (4) .
وقال: (وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (5) .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتا في الجنة" (6) .
وقال: "بَشِّرِ المشَّائين في ظُلَمِ الليل إلى المساجد بالنور التامّ يومَ القيامة" (7) .
__________
(1) سورة التوبة: 18.
(2) سورة البقرة: 114.
(3) سورة النور: 36- 37.
(4) سورة الجن: 18.
(5) سورة الحج: 40.
(6) أخرجه البخاري (450) ومسلم (533، وبعد رقم 2983) عن عثمان بن عفان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
(7) أخرجه أبو داود (561) والترمذي (223) عن بريدة بن الحصيب، وأخرجه ابن ماجه (781) عن أنس، وأخرجه ابن ماجه (780) عن سهل بن سعد الساعدي.
وهو بمجموعه صحيح.(3/101)
وقال: "من غدا إلى المسجد أو راحَ، أعدَّ الله له نزلاً كلَّما غدا أو راح" (1) .
وقال: "صلاةُ الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسُوقهِ بخمسٍ وعشرين درجةً" (2) .
وقال: "من تَطَهَّر في بيته فأحسنَ الطهورَ، وخرجَ إلى المسجد لا يُنهِزُه إلا الصلاةُ، كانتْ خطوتاه إحداهما تَرفعُ درجةً، والأخرى تَضَعُ خطيئةً" (3) .
وقال: "صلاةُ الرجل مع الرجل أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاتِه مع الرجل، وما كان أكثر كان أحبَّ إلى الله" (4) .
وقال: "سيكون عليكم أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتها، ثمَّ اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري (662) ومسلم (669) عن أبي هريرة.
(2) روي هذا الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب وأنس وغيرهم. وأقرب ما ورد من لفظ المؤلف أخرجه البخاري (477، 647، 2119) ومسلم (649) عن أبي هريرة.
(3) ضمن حديث أبي هريرة السابق بنحوه. وأخرجه مسلم (666) من طريق آخر عن أبي هريرة بنحوه.
(4) أخرجه أحمد (5/140) وأبو داود (554) وابن خزيمة (1476) والنسائي (2/104) عن أبي بن كعب. وإسناده صحيح.
(5) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر. وفي الباب عن ابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي أُبيّ الأنصاري وعامر بن ربيعة وشداد بن أوس عند أحمد في "مسنده".(3/102)