إليهم رسولاً، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه.
ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} .
وروي هذا الأثر عن أبي هريرة: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، ومن رواية القاسم، عن الحسين، عن أبي سفيان، عن معمر، وقال فيه: (والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن الأسود بن سريع أيضاً، قال أحمد في المسند: حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما(8/400)
أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً» .
وبالإسناد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث، غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها» .
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا.
وهذا تفسير قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه.
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه.
فإن من قطع لهم بالنار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنةكلهم، جاءت نصوص تدفع قوله.
ثم إذ قيل: هم مع آبائهم، لزم تعذيب من لم يذنب، انفتح باب الخوض في الأمر والنهي،(8/401)
والوعد والوعيد، والقدر والشرع، والمحبة والحكمة والرحمة.
فلهذا كان أحمد يقول: هو أصل كل خصومه.
فأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخراً، وهو قوله «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، فإنه فصل الخطاب في هذا الباب.
وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة، والله تعالى أعلم.
تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد
وأحمد - رحمه الله - كان متبعاً في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة، كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه، فيما ذكره ابن عبد البر وغيره.
(ثنا يحيى بن آدم، ثنا جرير بن حازم، عن أبي رجاء العطاردي: سمعت أبن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً، أو كلمة تشبه هاتين، حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر.
قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك، فقال: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت.
وذكر محمد بن نصر المروزي، ثنا شيبان بن شيبة، ثنا جرير(8/402)
بن حازم فذكره بإسناده.
وقال: لا يزال أمر هذه الأمة مقارباً أو مواتياً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر.
وذكر المروزي أيضاً، ثنا عمرو بن زرارة، أنبأ إسماعيل بن علية، عن ابن عوان قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال: ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك؟ فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده.
قال: فكأنما كانت ناراًفطفئت؟.
تعليق ابن تيمية
قلت: ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة، وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة، والتحذير من أسباب الفتن، ما قد نقل إلينا، كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب، لما كثر القراء، وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها، والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها، وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون، وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة.(8/403)
ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاتركوه.
فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة.
والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها، ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة، ويرده من طائفة أخرى.
ولهذا قال تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} .
فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق.
فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون.(8/404)
ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله، وإلى الإيمان بشرع الله، فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر، فأخطأوا في التكذيب به، وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول: إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة، ولا يسوي بين المتماثلين، بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح.
واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح.
وهذا أصل مذهب القدرية النفاة، ولهذا قالوا: إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى، وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعاً، وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه، وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال: الظلم ممتنع لذاته، وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل، حتى تعذيب الأنبياء والصالحين، وتنعيم الكفار والفاسقين، إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر، وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم.
وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس، وكذلك أمر أطفال المشركين: طائفة يقولون: يعذبهم كلهم، أو يمكن تعذيبهم كلهم، بناءً على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة.(8/405)
وطائفة تقول: بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحاً، بناءً على رحمة بلا حكمة، وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار، وبين من آمن وعمل صالحاً ومن لم يؤمن ويعمل صالحاً، من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق.
وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها، فإن الله أكمل الدين، وأتم النعمة.
وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم: تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .
وفي الصحيح «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً» .
وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} .
قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقد قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} ، فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه.(8/406)
وقال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .
فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله، يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها، لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها، ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص، فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء، فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم، أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن، ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن.
ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس، وهو قوله: إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً، شك الراوي، حتى يتكلموا في الولدان والقدر، وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقاً.
قال له ابن المبارك: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ وقد صدق ابن المبارك، فقال له يحيى بن آدم: أفتأمر بالكلام؟ فسكت ابن المبارك، لأن أمره بالكلام مطلقاً يتضمن الإذن(8/407)
بالكلام الذي وقع من الناس، وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه.
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه، وأما الكلام بلا علم فيذم، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم، وقد يتكلم بما يظنه علماً: إما برأي رآه، وإما بنقل بلغه، ويكون كلاماً بلا علم.
وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغياً.
كما ذم الله ذلك بقوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} .
فالبغي مذموم مطلقاً.
سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم، ويذمهم على تركه، أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه، والله يغفر لهم خطأهم فيه، فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم.
فقد بغى عليهم، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه.
وقد قال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} .
والله تعالى قد قال: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} .(8/408)
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه، وإلا فالإنسان ظلوم جهول، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار، أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء، فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة.
رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» .
فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين، وخلقه وأمره، ووعده ووعيده؟.
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل، وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم، من الدهرية الفلاسفة وغيرهم، ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل، طعموا في هؤلاء القدرية.
فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع(8/409)
فيه خصمه، فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره، وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل.
ومن الناس من يحار، ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة، تناقضاً منه في حالين، أو جمعاً بين النقيضين في حال واحدة.
ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق، لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع، ويدخلهم في اتباع النص والإجماع، والكلام على هذه المسألة له موضع آخر.
والمقصود هنا تفسير قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) وأن من قال بإثبات القدر، وأن الله كتب الشقي والسعيد، لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك، كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك، فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه، فيعلم أنه يولد سليماً ثم يتغير.
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه، وهو أنهم ولدوا على الفطرة، ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان، مستلزمة له لولا المعارض.(8/410)
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده (عن موسى بن عبيده، سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} ، وقال: من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى، ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بعمل أهل الضلالة، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة.
قال: وكان من الكافرين.
وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم، عليها مسلمين.
وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} ، يقول: فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها) .
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه، وهو(8/411)
ما كتبه أنهم صائرون إليه، قد يعملون قبل ذلك غيره، وأن من ابتدأه على الضلالة، أي كتبه أنه يموت ضالاً، فقد يكون قبل ذلك عاملاً بعمل أهل الهدى، وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى، لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها، فيصير إلى ما سبق به القدر لها.
كما في الحديث الصحيح: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار، حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة» .
ولهذا قال محمد بن كعب: إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة، فأثبت هذا وهذا، إذ لامنافاة بينهما.
ثم روى ابن عبد البر بإسناده (عن سعيد بن جبير في قوله: {كما بدأكم تعودون} ، قال: كما كتب عليكم تكونون.
تعليق ابن تيمية
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {كما بدأكم تعودون} ، قال: شقي وسعيداً.
وقال غيره عن مجاهد: {كما بدأكم تعودون} ، قال: يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً.(8/412)
وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية: {كما بدأكم تعودون} قال: عادوا إلى علمه فيهم، فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة) .
قلت: ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق، وأن الخلق يصيرون إلى ذلك، حق لا محالة، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأما كون ذلك تفسير الآية، فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه.
ولفظ (بدأ الله الخلق) : يراد به ابتداء تكوينهم، وهو ظاهر القرآن.
وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك، كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان أول أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي: رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» .
قال: (وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم، فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعاً:(8/413)
بلى، فأما أهل السعادة فقالوا: بلى، على معرفة له طوعاً من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى، كرهاً غير طوع.
قالوا: ويصدق ذلك قوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، قالوا: وكذلك قوله: {كما بدأكم تعودون * فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} ، قال محمد بن نصر المروزي: وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى.
واحتج بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} .
قال إسحاق: يقول: (لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم، يعني من الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار، واحتج إسحاق بقول الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} .
قال: إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد: استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) .
وذكر (حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر.(8/414)
قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفساً زاكية بغير نفس؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، وأنه لا تبديل لخلق الله: فأمر بقتله، لأنه كان قد طبع يوم طبع كافراً) .
وروى إسحاق حديث أبي بن كعب.
«عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافراً» .
وهذا الحديث رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره (عن ابن عباس أنه كان يقرأها: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين.
قال إسحاق: فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال، لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم(8/415)
الطفل في الدنيا فقال: «أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيراً بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار، ومن كان صغيراً بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام، وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله، ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم.
قال: (ولقد «سئل ابن عباس عن الولدان: ولدان المسلمين والمشركين، فقال ابن عباس: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال: إسحاق: ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين(8/416)
فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة.
فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: مه يا عائشة، وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها» .
قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم) .
(وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم.
قال ابن عبد البر: (وقال ابن قتيبة: يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) .
قلت: مقصود حماد وإسحاق ومالك وابن المبارك، ومن اتبعهم كابن قتيبة، وابن بطة، والقاضي أبي يعلى، وغيرهم، هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، وهذا مقصود صحيح.
ولكن سلكوا في حصوله طرقاً بعضها صحيح وبعضها ضعيف.(8/417)
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه أنه قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة.
فقال له: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، فبكم تجد علي مكتوباً قبل أن أخلق: {وعصى آدم ربه فغوى} ؟ قال: بأربعين خريفاً.
قال: فحج آدم موسى» .
فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر.
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب، اضطربوا فيه: فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي، وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصداً لتصحيح الحديث، ومقصودهم صحيح.
لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة، كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه، وقول الآخر: لكونه كان قد تاب، وقول الآخر: لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى، وقول الآخر: حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة(8/418)
دون الدنيا، وقول الآخر: الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة، فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى.
وأيضاً فموسى أعلم من أن يلوم تائباً، وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب، فإن هذا لو كان حقاً لكان حجةً لإبليس وفرعون، وكل كافر وفاسق.
وكذلك قول من قال: إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل، أو احتجاج الخاصة به سائغ، فإنه قول باطل، فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر، ووقع العتب والملام بسبب الذنب، كما حقق الله ذلك في القرآن، ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة، كما في الحديث: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه، لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه، فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه، واجتباه ربه وهداه، فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك، فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، ما أخطاه لم يكن ليصيبه.
كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم(8/419)
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} ، وقال: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} .
قال طائفة من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظراً إلى القدر، وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار.
فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها.
فلا بد أن يصيبهم ذلك، فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها، وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله.
ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي شيء فعلته لما فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته، وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان» .
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت(8/420)
لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن اللو تفتح عمل الشيطان» .
والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة.
وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح، لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله، ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل.
وكثيراً ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده، وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى، مثل أن يتكلموا في مسألة، فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها رداً غير مستقيم.
وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان، والمعرفة والنكرة: إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون، ويعرفون وينكرون، وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فهذا حق يرده القدرية، فغلاتهم ينكرون العلم، وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته، وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق، كما في ظاهر المنقول عن إسحاق، فهذا يتضمن شيئين: أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجوداً فيهم، كما قال ذلك(8/421)
طوائف من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه.
والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه، وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان.
لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقاً، فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار، فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة، وأن الله خلق خلقه حنفاء، بل هو مؤيد لذلك.
وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى: طائع وكاره، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم، إلا عن السدي في تفيسره.
قال السدي في قول الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} .
قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة، قبل أن يهبطه من السماء، مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي.(8/422)
فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.
ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} .
فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين، على وجه التقية.
فقال هو والملائكة: {شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} ، فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه.
وذلك قوله عز وجل: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، وذلك قوله: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يعني يوم أخذ الميثاق.
فهذا الأثر إن كان حقاً ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله، فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة، ولكن فيه أن بعضهم أقر كارهاً مع المعرفة، بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرهاً، وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية، مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يوثق به.
فإن هذا في مثل تفسير السدي، وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها، إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل، إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيراً؟ وقد عرف أن فيها شيئاً كثيراً مما يعلم أنه باطل، لا(8/423)
سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار.
وقول الله تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعاً وكرهاً.
يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقل ذلك طوعاً بل كرهاً، فلا تقوم عليه به حجة.
وأما احتجاج إسحاق رحمه الله، بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، قال إسحاق: نقول: لا تبديل للخلقة التي جبل عليها.
فهذه الآية فيها قولان: أحدهما: أن معناها النهي، كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده، وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي والزمخشري.
والثاني: ما قاله إسحاق: وهو أنه خبر على ظاهرها، وأن خلق الله(8/424)
لا يبدله أحد.
وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهياً بغير حجة، وهذا أصح.
وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل، فلا يخلقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط.
والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغير، ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع، ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة.
وقد قال تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} ، فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته.
وأما تبديل الخلق، بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة، فهذا لا يقدر عليها إلا الله، والله لا يفعله، كما قال: {لا تبديل لخلق الله} ، ولم يقل: لا تغيير، فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، فلا يكون خلق بدل هذا الخلق، ولكن إذا غير بعد وجوده، لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله.
وأما قول القائل: لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان، فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، فهذا حق.
ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادر على ما أمره الله به(8/425)
من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة، كما قال تعالى: {إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} .
و {أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} .
تعليق ابن تيمية
وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة، فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره، وهو سبحانه لا يبدله قط، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس، فإنه يبدله دائماً، والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك.
ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فهذه فطرة محمودة، أمر الله بها نبيه، فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر؟.
وقد تقدم تفسير السلف: لا تبديل لخلق الله تعالى، بأنه: دين الله، أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه، ولم يقل أحد منهم إن المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان، إذ تبديل ذلك موجود، ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر، والله تعالى عالم بما(8/426)
سيكون، لا يقع خلاف معلومه، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه، وإن لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع.
وأما قوله: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً.
فالمراد به: كتب وختم، وهذا من طبع الكتاب، وإلا فاستنطاقهم بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} ، ليس هو طبعاً لهم، فإنه ليس بتقدير ولا خلق.
ولفظ (الطبع) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة، التي هي بمعنى الجبلة والخليقة، ظن الظان أن هذا مراد الحديث.
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه: إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف، بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ، ولكن قال في الحديث الصحيح: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً.
وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد، فإن كان بالغاً - وقد كفر - فقد صار كافراً بلا نزاع، وإن كان مكلفاً قبل الاحتلام في تلك الشريعة، أو على قول من يقول: إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه، من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم - أمكن أن يكون(8/427)
مكلفاً بالإيمان قبل البلوغ، ولو لم يكن مكلفاً، فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتداً، وإن كان أبواه مؤمنين، ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ.
فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافراً بالغاً كفر بعد البلوغ فيجوز قتله، وإما أن يكون كافراً قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة، وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، كما يقتل الصبي الكافر في ديننا، إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل.
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل، فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل.
وأما قتل صبي لم يكفر بعد، بين أبوين مؤمنين، للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن، فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه، ولا في السنة.
وقد يقال: بل في السنة ما يدل عليه، ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا.
رواه مسلم.(8/428)
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به.
ومن قال بالأول يقول: إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه، ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه.
ويقول قائل هذا القول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس، وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى، مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم، وهذا أمر يعلمه غيره.
وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين، وأن أباهما كان رجلاً صالحاً، هذا مما قد يعلمها كثير من الناس، فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه، لكن لحبهما له لا ينكران عليه، أو لا يقبل منهما الإنكار عليه.
فإن كان الأمر على ذلك، فليس في الآية حجة أصلاً، وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلاً، ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر.
فهذا أيضاً يبين أنه قتل قبل أن يصير كافراً، ومن قال هذا يقول: إنه قتل دفعاً لشره.
كما قال نوح: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}(8/429)
فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل، وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافراً.
وقول ابن عباس: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين، ظاهره أنه كان حينئذ كافراً.
وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا، دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة، فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث، فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيهاً للتغيير بالتغيير.
وأيضاً فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم، وقال أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة.
فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم، يقولون: هم كفار كآبائهم فنقتلهم.
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا، هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنه لا بد من مرب يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعاً لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفرداً عنهما صار تابعاً لسابيه عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، لكونه هو الذي يربيه.
وإذا سبي منفرداً عن أحدهما أو معهما، ففيه نزاع للعلماء.(8/430)
واحتجاج الفقهاء، كأحمد وغيرهم، بهذا الحديث على أنه متى سبي منفرداً عن أبويه يصير مسلماً، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره، فمتى سباه المسلمون منفرداً عنهما، لم يكن هناك من يغير دينها، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلماً بالمقتضى السالم عن المعارض، ولو كان الأبوان يجعلانه كافراً في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين، لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر.
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلماً، لأنه صار كافراً حقيقة.
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافراً حقيقة، لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعاً لأبويه، لا لأنه صار كافراً في نفس الأمر.
يبين ذلك أنه لو سباه كفار، لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلماً، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه.
فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه.
وذكر صلى الله عليه وسلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما، بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك.(8/431)
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً» .
فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين، ولو كان كافراً في الباطن بكفر الأبوين، لكان ذلك من حين يولد، قبل أن يعرب عنه لسانه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح، حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك، فلو كان الطفل يصير كافراً في نفس الأمر من حين يولد، لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه، لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعاً لآبائهم.
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين، وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به.(8/432)
ومن هنا قال من قال: إن هذا الحديث - هو قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» كان قبل أن تنزل الأحكام، كما ذكره أبوعبيد، عن محمد بن الحسن، فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً، لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.
وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا.
وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها، وعليها الثواب والعقاب في الآخرة، إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض، لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا، فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا، وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة، وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين.
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم، لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما، هل يحكم بإسلامه؟ فعن(8/433)
أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه، لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فإذا مات أبواه بقى على الفطرة.
والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه.
وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها.
فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، وأرض اليمن وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولد صغير، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة.
وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان، وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير، ولم يحكموا بإسلام أحد منهم، فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضاً، فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما.
وأحمد رضي الله عنه يقول: إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل، مع قوله في إحدى الروايتين: إنه يصير مسلماً، لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم، ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث، لم يحصل قبله.
والقول الآخر هو الصواب كما تقدم.(8/434)
والمقصود هنا أن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد به في أحكام الدنيا، بل في نفس الأمر، وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب، ولهذا لما قال هذا، سألوه فقالوا: يا رسول الله: أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر، بخلاف من مات.
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال: فقالت طائفة: إنهم كلهم في النار.
وقالت طائفة: كلهم في الجنة.
وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد.
الأول: اختاره القاضي أبي يعلى وغيره، وحكوه عن أحمد، وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه.
والثاني: اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره.
ومن هؤلاء من يقول: هو خدم أهل الجنة.
ومنهم من قال: هم من أهل الأعراف.
والقول الثالث: الوقف فيهم.
وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية، وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة.
وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك وإسحاق بن راهويه.
قال: وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك، وذكر أيضاً في أطفال المسلمين نزاعاً ليس هذه موضعه.(8/435)
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يعلم حكمهم، فلا يتكلم فيهم بشيء، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة، وقد يقال: إن كلام أحمد يدل عليه.
والثاني: أنه يجوز أن، يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار.
وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الكلام وغيرهم، من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم.
والثالث: التفصيل، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة، ومن علم منه أن يعصي أدخله النار.
ثم من هؤلاء من يقول: إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم، كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي.
والأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون، فيمتنحهم يوم القيامة، ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار.(8/436)
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقد روي به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسان يصدق بعضها بعضاً، وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه، وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين أن الله لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً.
والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث، وقد تبين ضعف قول من قال: الفطرة: الكفر والإيمان، وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعاً، ومن هؤلاء كرهاً.
ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره.
تعليق ابن تيمية
قال ابن عبد البر: (وقال آخرون: معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق، قبل أن يخرجوا إلى الدنيا، يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فأقروا جميعاً له بالربوبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار.(8/437)
قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرةً ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع، تصديقاً بما جاءت به الرسل، فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف، لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه، لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون.
قالوا: وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه) كما تقدم.
وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي (عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، في قول الله عز وجل: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} إلى قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .(8/438)
قال: فجعلهم جميعاً أرواحاً، ثم صورهم، ثم استنطقهم فقال: ألست بربكم؟.
قالوا: بلى شهدنا، أن يقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا.
قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، ولا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك.
قال: فإني أرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا رسلي، وصدقوا بوعدي، وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي.
قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم، ورفع أباهم آدم، فرأى منهم الغني والفقير، وحسن الصورة، وغير ذلك، فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؟ قال: أحببت أن أشكر.
قال: والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج.
وقال: وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها.
قال: فهو قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} .
قال: وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها) .
قال: (وذلك قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن(8/439)
وجدنا أكثرهم لفاسقين} .
قال: (فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق.
قال: وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم) .
فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة، التي هي المعرفة بالله والإقرار به، وفيه زيادة: أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم.
وقد فسر (فطرة الله) في الحديث بذلك.
وأما قول صاحب هذا القول: (إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب) فهذا لا يضر، فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية، وأنه بذلك صح أن يأمرهم، فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره.
ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه: أدعكم إلى الله، لقالوا مثل ما قال فرعون: وما رب العالمين؟ إنكاراً له وجحداً، كأن يكون قولهم متوجهاً.
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق، لكن أظهر خلاف ما في نفسه.
كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، وكما قال له موسى: {لقد علمت(8/440)
ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} .
ولهذا قال تعالى: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} ، فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا: {إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك} .
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي.
والمعنى: ما في الله شك، وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك، ولكن تجحدون انتفاء الشك جحوداً تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد.
فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار، وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم، لا سيما إذا كانت طرقة خفيةً طويلة، فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه، فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك، فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق، وهم(8/441)
جمهور الخلق، بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضاً إذا عرف حقيقتها.
قال ابن عبد البر: (وقال آخرون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفراً ولا إيماناً، ولا معرفة ولا إنكاراً، وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقةً وطبعاً وبنيةً، ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا.
واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء» يعني سالمة: «هل تحسون فيها من جدعاء» يعني مقطوعة الأذن.
فمثل قلوب بني آدم بالبهائم، لأنها تولد كاملة الخلق، لا يتبين فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحاير وهذه سوايب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة، فلما بلغوا(8/442)
استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم، ما انتقلوا عنه أبداً، وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون.
قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفراً أو إيماناً، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئاً.
قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} فمن لم يعلم شيئاً استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها، وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة، بدليل قوله في حديث عياض بن حمار: إني خلقت عبادي حنفاء، يعني على استقامة وسلامة، فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات(8/443)
كلها والزيادات، ومن المعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما.
ومن الحجة أيضاً في هذا قول الله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} ، {كل نفس بما كسبت رهينة} ، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء.
قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .
قلت: هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحداً منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد، لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه، فلما ذكر أن أبوه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر.
وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب، ولا استقامة ولا زيغ، إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة، وليس هو بأحدهما(8/444)
أولى منه بالآخر، كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف، ولا حكم ذم القرآن مسيلمة، والتراب قبل أن يبنى مسجداً أو كنيسة، لا يثبت له حكم واحد منهما.
ففي الجملة كل ما كان قابلاً للممدوح والمذموم على السواء، لم يستحق مدحاً ولا ذماً.
والله تعالى يقول: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها، فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم؟.
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن.
ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم، فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟.
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس، من أن المراد: أنهم ولدوا على الفطرة السليمة، التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله، فإنه صاحبه يقول: في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما(8/445)
في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة، وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها، لكن يقال: فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية: هل هي كافية في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج؟.
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج، أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى، ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجباً للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون معرفاً ومذكراً، فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة، كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا، وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان، إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك.
ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر، إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك، وهو التهويد والتنصير والتمجيس.
وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له، لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج.
وهذا القسم الأول الذي أبطلناه، وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة، وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها، وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة، لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة، سواء قيل: إن المعرفة ضرورية فيها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس، من غير أن يسمع كلام مستدل، فإن النفس(8/446)
بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد، فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة، لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلاً لكل مولود، وهو المطلوب.
والمقتضى التام يستلزم مقتضاه، فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة، وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها.
وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب، فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له، وإما أن يكون ممكناً بالنسبة إليها، ليس بواجب لازم لها.
فإن كان الثاني، لم يكن فرق بين الكفر والإيمان، إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها.
فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها، إلا أن يعارضها معارض.
فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة، ولكنها إليها أميل، مع قبولها للنكرة.
قيل: فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة، وجبت تارة وعدمت أخرى.
وهي وحدها لا تحصلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس.
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس،(8/447)
ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها، أضيفت إلى السبب، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام، صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك.
وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل.
والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة، لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك.
والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض.
وأيضاً فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له، مع(8/448)
الكبر والشرك والنفور، إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني.
فإن كانا سواء، لزم انتفاء المدح كما تقدم، ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها، وقد عرف بطلان هذا.
وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزماً لمقتضاة عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقفاً على شخص خارج عنها.
فإن كان الأول، ثبت أن ذلك من لوازمها، وأنه مفطورة عليه، لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة.
وإن قيل: إنه متوقف على شخص، فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية.
وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا.
وإذا قيل: هي إلىالحنيفية أميل، كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل.
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله، والذل له، وإخلاص الدين له، وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه.
تعليق ابن تيمية
ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية، فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين، كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من(8/449)
قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض.
وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح، ومحبة العلم، وغير ذلك.
وإذا كان كذلك، وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له، وإخلاص الدين له، وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعاً وجود المحبة فيها، والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض، وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام، وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك، كما لو خوطب الجائع بوصف طعام، أو خوطب المغتلم بوصف النساء، فإن هذا مما يذكر ويحرك، لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل.
فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته، وإن كان ذلك مذكراً ومحركاً، أومزيلاً للمعارض المانع، لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقاً.
وأيضاً فالإقرار بالصانع بدون عبادته، بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له، لا يكون نافعاً، بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقاً للعذاب، فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم، فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج، بل هو جبلي فطري، وإذا كانت(8/450)
المحبة جبلية فطرية، فشرطها - وهو المعرفة أيضاً - جبلي فطري، فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به.
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وهو فطرة الله التي أمر الله بها.
وأيضاً فإذا كانت المحبة فطرية، وهي مشروطة بالشعور، لزم أن يكون الشعور أيضاً فطرية، والمحبة له أيضاً فطرية، لأنها لو لم تكن فطرية، لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء، وهذا ممتنع كما تقدم.
وإذا كانت في الفطرة أرجح، لزم وجودها في الفطرة، وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه، كما في المجوسية وغيرها من الكفر، فتبقى الحنيفية مع المجوسية، كاليهودية مع المجوسية، وهذا باطل كما تقدم.
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال، هذه الأحوال لازمة لها، وهو المطلوب.
قال أبو عمر: (قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله، وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل(8/451)
قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية، قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقاً قط قبل خلقه إياهم، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم، وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب، ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات.
والقرآن قد نطق عن أهل النار: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} من غير إنكار عليهم.
وقال تعالى تصديقاً لذلك: {وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} قالوا: وكيف يخاطب الله عز وجل من لا يعقل؟ وكيف يجيب من لا عقل له؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه، ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه؟.(8/452)
قالوا: وإنما أراد الله بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} إخراجه إياهم في الدنيا، وخلقه لهم، وإقامة الحجة عليهم، بأن فطرهم ونبأهم فطرة: إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم.
ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة: هل تقع ضرورة أو اكتساباً.
على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان) .
قلت: ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها، والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها، بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة، وإذا كان من نفاة الأول من يقول: إن هذه ضرورية، فكيف بمن أثبت الثنتين، وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس، وهو قول من يقول: ولدوا على ما سبق به القدر، أو على ذلك، وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول، منهم مقر طوعاً وكرهاً، أو اثنان من جنس، وهو قول من يقول: ولدوا(8/453)
قادرين على المعرفة، وقول من يقول: ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر، إما من التساوي، وإما مع رجحان القبول للإسلام.
وأما من قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام، أو علىالإقرار بالصانع، وإن لم يكن ذلك وحده أيماناً، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها، بل يحصل بها المقصود.
والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله، الذي هو معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم، وبمقتضاها يجب حصوله فيها، إذا لم يحصل ما يعوقها، فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء مانع.
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة شرطاً، بل ذكر ما يمنع موجبها، حيث قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} ، فأخبر أن المشركين مفترقون.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه لا تشركوه به شيئاً، وأنت تعتصموا بحبل الله جميعاً(8/454)
ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» .
وقد قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} .
وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} .
وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} .
وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده، كما قال: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً.
فهو يجمع أصلين:
أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه وأمر به، وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق، وضده الشرك والبدع.
والثاني: حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود، وهو الوسيلة.
وضدها تحريم الحلال.
والأول كثير في النصارى، والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود، وهما جميعاً في المشركين.(8/455)
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه، كسورة الأنعام والأعراف، يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك، وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى.
وفي الحديث: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ، فنعبده وحده بفعل ما أحبه، ونستعين على ذلك بما أحله.
كما قال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} .
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه، فإنه محبوب لكل أحد، فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.
الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن «كل مولود يولد على الفطرة» ، مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه، كما أخبر الصادق المصدوق، وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك.
وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول)
أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من(8/456)
الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق، وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل.
والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب.
والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته، وهو جلب المنفعة له، وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره.
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة.
ولهذا «قال صلى الله عليه وسلم: أصدق الأسماء: الحارث وهمام، وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها: حرب ومرة» ، فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية، ولا بد من أن يهم بالأمور: منها ما يهم به ويفعله، ومنها ما يهم به ولا يفعله، فإن كان المراد موافقاً لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة، وإن كان مخالفاً لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة، كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه.
وإذا كان الإنسان تارةً تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة، وتارة تكون سيئة، فلا يخلو: إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة(8/457)
واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه، أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين.
فإن كان الأول، لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه، ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان: أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه، والآخر يرجح الكذب الذي يضره، فإما أن يتكافأ المرجحان، أويترجح أحدهما، فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة، فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق، وأن ينتفع، وأن يكذب وتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما، فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع، وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير.
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه؟ والثاني معلوم الفساد قطعاً، فتعين الأول.
وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به.
وأيضاً فإنه مع الإقرار به، إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثاني معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له، كان في فطرته محبة ما ينفعه.(8/458)
وأيضاً فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علماً وقصداً، أو الإشراك به، والثاني معلوم الفساد، فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده.
وأيضاً فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين، أو الإسلام مرجوحاً أو راجحاً.
والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين، وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة، أو نسبة قبول.
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته، وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل.
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفاً على مخاطب منفصل دائماً، فلا يحصل بدونه البتة.
ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهو أيضاً مخاطبون، وهذا تسلسل في الفاعلين، وهو ممتنع.
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل، دل على إمكان ذلك في الفطرة، فبطل هذا التقدير: وهو كون(8/459)
موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل.
وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل، علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك، وأن ذلك ليس موقوفاً على مخاطب منفصل، لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع، وهذا هو الفطرة.
وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنياً عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة، لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك، لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع، أمكن ذلك في حق كل شخص، وهو المطلوب.
الوجه الثاني
أن يقال: إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته، حصل المقصود بذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة: كالتعليم والتخصيص.
فإن الله قد بعث الرسل، وأنزل الكتب، ودعوا الناس إلى موجب الفطرة: من معرفة الله وتوحيده، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة، وإلا استجابت لله ورسله، لما فيها من المقتضى لذلك.
ومعلوم أن قوله: كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً له، بحيث يعقل ذلك.
فإن(8/460)
الله يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} .
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك، وتستوجبه بحسبها.
فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة، حصل من معرفتها بربها، ومحبتها له، ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ فحصول موجب الفطرة، سواء توقف على سبب، وذلك السبب موجود من خارج، أو لم يتوقف، على التقديرين يحصل المقصود.
ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع، فلا يحصل مقصود الفطرة.
الوجه الثالث
أن يقال: من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص، حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك.
ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق.
ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك.
وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها، لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم، والسبب في الموضعين واحد، فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل.
ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن، ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام.
وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة.(8/461)
يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج، فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس، إلا بقوة منها تقبل ذلك، وتلك القوة لا تتوقف على أخرى، وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين، أو الدور القبلي، وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء.
فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره، وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيهاً على ما لا تعلمه لتعلمه، أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره، أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده، ونحو ذلك.
وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها.
واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك، فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه.
فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل، وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك.
ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائماً في النفس وقدر عدم المعارض، فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرةً بالصانع، عابدةً له.
فإن قيل: هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض، بحسب ما يتفق من الأسباب، كما أن بعض الناس يحصل له(8/462)
من يخاطبه دون بعض، فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب.
قيل: إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج، كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك، وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره، لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه.
وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة، ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان، فإن هذا خلاف الواقع.
والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته.
الوجه الرابع
أن يقال: هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج، لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات، وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة.
الوجه الخامس
أن يقال: المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح، لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم، والمانع زائل، إذ يجب وجود مقتضاه.
والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة، وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه.
وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد، فإنه هذا(8/463)
ممتنع، بل إن الفطرة تقتضى وجوده، كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه، فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب.
لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك، يوجب نفوره عن شرب لبنها.
وحب العبد لربه هو مفطور فيه، أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه.
قال الله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} ، فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة، لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج، وهو خلاف الواقع، ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة، لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها، والثاني ممتنع، فتعين الأول.
الوجه السادس
أن السبب الذي في الفطرة: إما أن يكون مسلتزماً للمعرفة والمحبة، وإما أن يكون مقتضياً لها بدون استلزام، وعلى التقديرين يحصل المقصود.
الوجه السابع
أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلوممتنع فيها.
فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرةً مريدةً، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه، وعن محبته وعدم محبته.
وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها، ولو لم يكن لها معارض، بل هذا باطل.(8/464)
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها، وكونها مريدة من لوازم ذاتها، لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» ، وهي حيوان، وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة، وهو ممتنع، كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية، بل أولى.
وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه، فهذا هو الإله الذي يألهه القلب.
فإذاً لا بد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه.
ومن الممتنع أن يكون مفطوراً على أنه يأله غير الله لوجوده:
منها: أن هذا خلاف الواقع.
ومنها: أنه ليس هذا المخلوق، بأن يكون إلهاً لكل الخلق، بأولى من هذا.
ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد، بل عبد كل قوم ما يستحسنوه.
ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتاً فالحي أكمل من الميت، فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت، وإن كان حياً فهو أيضاً مريد، فله إله يألهه، فلو كان هذا يأله هذا، وهذا يأله هذا، لزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه.(8/465)
فإن قلت: ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله، أو لكل إنسان من إله، لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه، لا مألوهاً معيناً، وجنس المراد لا مراداً معيناً؟.
قيل: هذا ممتنع، فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه، فالأول مثل كون العطشان يريد ماءً، والسغبان يريد طعاماً، فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين، فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده.
والمراد لذاته لا يكون نوعاً، لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر، فلو كان هذا مراداً لذاته، للزم أن لا يكون الآخر مارداً لذاته، وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما، لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مراداً لذاته، وإذا لم يكن مراداً لذاته، لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مراداً لذاته.
والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معيناً، فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته، لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته، فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد، فضلاً عما يجب أن يألهه كل واحد.
فتبين أنه لا بد من إله معين، هو المحبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله، ومحبته(8/466)
مستلزمة لمعرفته، فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته، وهو المطلوب.
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلاً، وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب، فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته، بل المراد دفع ألم الجوع والعطش، أو طلب لذة الأكل والشرب.
وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب، لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته، فإنه لا يكون إلا معيناً.
أن يقال: اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به، بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار.
والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة، لكن بلا علم، بل مع ضلال وجهل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» .
رواه الترمذي وصححه.
وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آمين.
فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه، وإذا كان كذلك، والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا، فطرته السليمة: إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به، أو للعمل به دون معرفته، أو لهما، أو لا لواحد منهما.(8/467)
فإن كان الرابع: فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب، والاعتقاد المطابق والفاسد، وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها، وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة.
وإن كان الثالث: فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل، وأن تهتدي وأن تضل، وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما، وهوأيضاً خلاف المعلوم بالحس والضرورة.
وإن كان الثاني: فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائماً، إذا استوت الدواعي الخارجة.
هو أيضاً خلاف الحس الباطن والظاهر، وخلاف الضرورة.
فبين أنه لا يستوى عندها هذان، بل يترجح عندها هذا وهذا جميعاً.
وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية، فعلى المجوسبة أولى، ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به، وهو المطلوب.
فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "
فصل في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
قالت الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان:
أحدهما: أنها وقعت منهم.
ثم هؤلاء منهم من يقول: جميعهم خلقوا لها.
ومنهم من يقول: إنما خلق لها بعضهم.(8/468)
والقول الثاني: أنهم كلهم خلقوا لها، ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم.
وهؤلاء حزبان:
حزب يقولون: إن الله لم يشأ إلا العبادة، لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته، وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه.
والثاني يقولون: بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه، لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها، ولا يأمر إلا بذلك، فمنهم من أعانة ففعل المأمور به، ومنهم من لم يفعله.
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ، وفي قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} .
وقوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، على قول الأكثرين، الذي يجعول (لعل) متعلقة بقوله: (خلقكم) كما قال {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .(8/469)
وقوله: {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} .
وقوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} .
وقوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} .
وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} .
ومنه قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} .
وقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} ونحو ذلك مما فيه: أن الله يفعل فعلاً لغاية يحبها ويرضاها، ويأمر بها عباده، وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم، ثم منهم من يعينه على فعلها، ومنهم من لا يفعلها، فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس، وقالوا: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟.(8/470)
فيقال: الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان: فإنه تارةً يفعل فعلاً ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله، وهو يعلم أنه لا يكون.
والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد.
وتارةً يريد من غيره أن يفعل فعلاً باختياره، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوباً للفاعل الأول، كمن يبني مسجداً ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالاً ليحجوا به ويجاهدوا به، وسلاحاً ليجاهدوا به، ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه، وينهاهم عن المنكر ليتركوه، وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم، كان صالحاً لهم، وكان ذلك محبوباً له، وإن لم يفعلوا ذلك، لم يكن صلاحاً لهم ولا حصل محبوبه منهم.
ثم هذا قد لا يكون قادراً على فعل ما أمروا به اختياراً.
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادراً على هدي العباد، وهو خطأ عند أهل السنة، وقد يكون قادراً، فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} .
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته، ولا يعين آخر، والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به، وأحبه الله منهم، لا يعين آخرين، لما له في ذلك من الحكمة، فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده.(8/471)
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له، هي أحب إليه من طاعة أولئك، أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك.
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم، ليطيعوه ويعبدوه، ويفعلوا ما أحبه، وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها، جاز أن يقال: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ، وأن يقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
وأن يقال: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} .
وأن يقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} ، ونحو ذلك.
وإن كان هو لم يخلق ما أمره به، وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به، ليعبدوه ويطيعوه، ويشكروه ويذكروه، ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم، التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال: إنما خلقهم ليعبدوه، وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابداً له، كما جاز أن يقال: وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه، وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك، فإنه ليس من شرط من فعل فعلاً لغاية يفعلها غيره، أن يكون هو فاعلاً لتلك الغاية.
ثم إذا علم أن كثيراً من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد، وإن من(8/472)
يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه، لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل، ويأمر بما يأمر به، لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له، وهذا موجود في المخلوق والخالق، فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي، وإن كان يعلم أنه لا يطاع، لأن نفس أمره لهم، له فيه مصلحة ومنفعة وثواب، وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي.
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس، وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك، إذا كان له في ذلك أجراً ومثوبة ومصالح أخرى، فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد، وبعضهم لا يصلي فيه، قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة، وكان قد أزاح عن نفسه العلة، بأن يقال: لم يبن لهم مسجداً يصلون فيه.
والخالق تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنذر العباد، وأزاح عللهم، وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة، أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين، فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله، فلا تقوم حجة آمر على مأمور، إلا وحجة الله على عباده أقوام، ولا يستحق مأمور من آمره ذماً ولاعقاباً لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقاً وذماً، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه، إلا والله تعالى أعظم تيسيراً على مأموريه وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم.(8/473)
وكل من تدبر الشرائع، لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجد هذا فيها أظهر من الشمس.
ولهذا قال في آية الصيام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
وقال في آية الطهارة: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} .
وقال: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء، فيسقط القيام في الصلاة، والصيام في شهره، والطهارة بالماء كذلك، بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره، وقال: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .(8/474)
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله، وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه، ولا يفعله غيره، وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين، وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين، وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية، غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار، فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة.
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين، ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك، لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل، إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة، لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين، بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم، وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم.
فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم، ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك، فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين، بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما.
وقول القائل: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟
جوابه: أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط،(8/475)
فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده، ومن فعل شيئاً لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعاً.
وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون: لم يرد إلا المأمور، وما سواه واقع بغير مراده، وخلق الخلق لذلك المراد بعينه، مع علمه أنه لا يكون، وهذا تناقض.
يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.
وأما أهل السنة الذين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع إلا ما شاءه، وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به، فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه، ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه، فلا إشكال على قولهم.
وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره، وله مراد بما خلقه، فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه، فما حصل إلا مراده، وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به، لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه، وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه.
مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة، التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون.
وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول، ومعجزة القرآن،(8/476)
وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش.
وعلى هذا فيجوز أن يقال: إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإن كان منهم من لم يعبده، ولم يجعله عابداً له، إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر، هي أحب إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخر، هي أبغض إليه من معصية أولئك.
ويجوز أيضاً أن يقال: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} ، فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف.
ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها، وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون، وكلاهما مرادة له، تلك مرادة بأمره، والموجود منها مراد بخلقه وأمره.
وهذه مرادة بخلقه، والمأمور منها مراد بخلقه وأمره.
وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {إلا ليعبدون} ، قال: معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني(8/477)
وأدعوهم إلى عبادتي، واعتمد الزجاج هذا القول، فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: لآمرهم وأنهاهم.
وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس، قال: ما خلقتهما إلا للعبادة.
وأما من قال: المراد: المؤمنون، فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال هي خاص للمؤمنين.
وأمامن قال: كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها.
فروي الوالبي عن ابن عباس: إلا ليعبدون: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً.
وقال السدي: خلقهم للعبادة، فمن العبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم.(8/478)
وروى ابن أبي زائدة، عن ابن جريج في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: إلا ليعرفون.
روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي.
وذكر الثعلبي عن مجاهد: إلا ليعرفون.
قال: ولقد أحسن في هذا القول، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده.
ودليل هذا التأويل قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم} الآيات، قال: وروى حبان عن الكلبي: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه: قوله: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} ، فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه، وأقروا له بالعبودية طوعاً وكرهاً.
والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء، لكن يقولون: ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها، وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به، وإقرار به، وعبودية له طوعاً وكرهاً.
وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعاً وكرهاً، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه(8/479)
الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر.
وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الشقاء والسعادة.
وكذلك عن وهب بن منبه: {إلا ليعبدون} قال: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، ذكرهما ابن أبي حاتم؟
وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره، ونفوذ ميشئته فيهم.
وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً.
قال الثعلبي: (فإن قيل: كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه) .
قلت: وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحاً، وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية.
فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة.(8/480)
وأيضاً فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى.
وأيضاً فإن قوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ، دليل على أنه خلقهم ليعبدوه، لا ليرزقوا ويطعموا، بل هو المطعم الرازق، وإطعامه لهم ورزقه إياهم، هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم، الذي قد جعله أهل هذا القول عبادةً له، فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين، وهذا باطل.
وأيضاً: فقوله {ليعبدون} يقتضي فعلاً يفعلونه هم.
وكونه يربيهم ويخلقهم، ليس فيه إلا فعله فقط، ليس في ذلك فعل لهم.
ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول: إنهم كلهم عبدوه، أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة، كما أن قول القدرية الذين يقولون: إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط، وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف.
والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه، وفي تفسير القرأن بغير المراد، وهو مما «نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر: هذا قول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض» .(8/481)
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم.
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .
فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم، كما نقل ذلك عن طائفة من السلف، ورواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الحاكم، لكن رفعه ضعيف.(8/482)
وإنما المرفوع الذي في السنن، كأبي داود، والترمذي، وموطأ مالك، من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم، ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا.(8/483)
ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم.
وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار.
ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم.
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} ، فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده، وإن كان كثيراً، كما قال تمام الآية: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} .
وقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض} ، وقال: {ذرية من حملنا مع نوح} ، وقال: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} ، إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس} ، فاسم الذرية يتناول الكبار.(8/484)
وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره.
فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه.
قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} ، وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار.
وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أقر أربع مرات.
ومنه قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} ، فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم.
وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو إذاً الشهادة على أنفسهم.(8/485)
ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة، ويراد به أداؤها، فالأول كقوله: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، والثاني كقوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} .
وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم} ، من هذا الثاني، ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره.
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها، ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض.
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن، إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه، وهو إقراره على نفسه، فالشهادة هنا خبر.
وقولهم: {بلى شهدنا} ، هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، ولهذا قال في الآية: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فقولهم: بلى، معناه: أنت ربنا.
وهذا إقرار بربوبيته لهم، وهذا الإقرار هو(8/486)
شهادة على أنفسهم، أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته.
وقوله: (أشهدهم) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات.
لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم، لا لدين الأمهات، كما قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} .
ولهذا قال: {قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} ، فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، إذ كان سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى.
فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنه قال: {أشهدهم} أي جعلهم شاهدين.
وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة، كقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم.(8/487)
وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به، فيكون هذا إقرار مشهوداً به غير الشهادة، سواء كان شهادة بعضهم على بعض، كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به، بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم.
فالشهادة هي الإقرار، كما قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} ، وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعاً.
فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم، أي مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} ، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده.
كما يقول الملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقراً بربوبيته، شاهداً على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه.
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم.
وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه، وجعل علماً ضرورياً لهم، لا يمكن أحداً جحده.(8/488)
ثم قال بعد ذلك: {أن تقولوا} أي كراهة أن تقولوا، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم، التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنها إذا تصورت كانت علوماً ضرورية، لكن كثير من الناس غافل عنها.
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان، لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قدر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد.
كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ، وفي الحديث الصحيح: «يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتني» .(8/489)
ثم قال: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ، ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد.
إحداهما: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} .
فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل.
فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} : وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين(8/490)
أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.
وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم.
ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.(8/491)
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً.
والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أحمد وغيره.
طائفة تقول: إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة.
وكون الفعل حسناً وسيئاً إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط، فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين.
وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة، وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل، وإن لم يرد سمع، كما يقول ذلك المعتزلة، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم،: أبي الخطابي وغيره.(8/492)
وطائفة تقول: بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقب أحداً إلا بلوغ الرسالة، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .
وفي قوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} .
وقال تعالى لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} .
وهذا أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم.
وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} حجة على الطائفتين.
وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم، فهي حجة عليهم أيضاً فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول، ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول، بل يقولون: إن عذابهم واقع.
وهذه الآية حجة عليهم، كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول.
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول، ويعلم أن هذا(8/493)
الفعل محمود ومذموم، ودل على أنه لا يعذب أحداً بعد إرسال رسول.
والله سبحانه أعلم.
كلام أبي محمد بن عبد البصري
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد: (فصل في الخلق على الفطرة.
قال: وخلق الله الخلق على الفطرة، وهو قوله سبحانه: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، وهي الإقرار له بالربوبية، مع معرفة الوحدانية، وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم، مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه، فخلقهم على ما علم منهم وشاء، غير مؤمنين ولا كافرين صبغةً، بل مقرين عارفين، لا موحدين ولا جاحدين.
وكذلك قد روي في الأثر، بقول الله تعالى: خلقت خلقي حنفاء مقرين، لا منكرين ولا موحدين، وذلك إثبات ونفي الجبر، فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم، وله التحكم فيهم، وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره، فيبطل بذلك الكسب، وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان، إذ التكليف لا يكون جبلاً، ولا يقع اضطراراً وجبراً، ولا يكون إلا اختياراً، إذ قد أمروا بها، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وكل(8/494)
ما منه حق غير عابث، عدل غير ظالم، عالم لا يخفى عليه شيء، شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسباً لهم.
وهو عادل في عباده: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} .
وقال عز من قائل: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} مع ما أنه لم يزل مالكاً لهم، وقادراً عليهم، ومتصرفاً فيهم، لا غناء لهم عنه، ولا محيص لهم منه، فخلقهم عز وجل على الفطرة كما أخبر، وخلق الأعمال كما ذكرنا، ولم يضطر أحداً إلى شيء من ذلك، ولو خلقهم كفاراً صبغةً لما قال لهم: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} ، إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغةً ويغير نفس ما خلق من غير كسب.
وقال سبحانه: {أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} ، ولو خلقه كافراً لما صح منه الإيمان، وكان معذوراً مدلياً بحجته، والله تعالى يقول: {لا تبديل لخلق الله} ، وكان ذلك تكليف ما لا يطاق، كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض، والأبيض أسود، وذلك مستحيل من حكيم.
وأما قوله سبحانه: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم(8/495)
مؤمن} ، يعني: أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك، فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم، وبالإخراج من العدم إلى الوجود، فحقق فعله، وقبل من رسله، ووحد ربه.
ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه، وأشرك به ما لا يجوز له، وكذب برسله، فصار كافراً بفعله.
وقد روي نحو من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً» .
وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} ، فلما امتثل ذلك قوم، وعدل عنه آخرون، كانوا هم المرادين من قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} .
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} ، فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم، ولم يقل: خلقكم مؤمنين: وكره إليكم الكفر، فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن، وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة: كافرين ولا مؤمنين) .(8/496)
إلى أن قال: (وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن، ومن كان مؤمناً ثم كفر.
ولو كان ذلك صبغةً لما انتقلوا، ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل، وقد قال تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} ، فأضافه إليهم حقيقة.
وقال: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} ، {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} ، ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفاراً نفعهم إيمانهم؟.
ولما قال فرعون (آمنت) لم ينفعه.
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق، إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه، وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه، على ما أمرهم به من الإيمان، فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه، وفعل فعلوه، ونهي ارتكبوه، وأمر خالفوه، وهو ما أحدثوه، لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له، ولا خلقوا مجبولين عليه، إذ لو خلقهم كفاراً لكانوا إلى ذلك مضطرين، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين.
ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك، ولم يثابوا على ذلك؟ أعني: معرفة الربوبية، وهي الفطرة، ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى(8/497)
الإيمان، ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر، فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختياراً.
وقال سبحانه: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ولم يقل: منهم من خلقت مؤمناً، ومنهم من خلقت كافراً.
وقال سبحانه: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} ، فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات، وعليه توعدهم بالعقوبات، وكون الكافر مخلوقاً كافراً صراح بالجبر، ومن قال: ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر، فهو قدري رديء.
وقد لعنت القدرية والمرجئة، وكذلك المجبرة، والله لا يجبر أحداً على فعل، إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة.
وقد قال سفيان، وأحمد، وسهل، والإمام، وأهل العلم: (إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية، وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها) .
إلى أن قال: (قال سبحانه: {وما ربك بظلام للعبيد} ، مع كونه سبحانه فعالاً لما يريد، وليس معنى (شاء) معنى (علم) ، ولا معنى (علم وشاء) معنى (خلق) ، فشاءهم وعلمهم(8/498)
وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة، وهي العواقب التي لم يزل بها عالماً، وعليها قادراً، ولها شائياً، ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفاراً، ولا إقراراً للزوم المطالبة والعبودية، ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم، ويطالبهم، كما زعم أهل الإجبار، من ضرار وأصحابه، وسالكي البدعة، والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان، والمغترين المحيلين على الأقدار، والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار، لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة، والعواقب مشهودة، وأعمالهم في القبضتين داخلة، وإلى المعبود صائرون، وعلى اكتسابهم محاسبون، وبها مؤاخذون.
قال أصدق القائلين: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} ، وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم، وما قضى عليهم بما وجد منهم، ولا شاء ذلك في ملكه، ولا خلق أعمالهم، ولا أحصى سكونهم وحركاتهم، ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي، مكابر معتزلي، مدعي الحول والقوة، وأن الأمر إليه.
ومن زعم أن كلفهم صبغةً، وجبرهم على الأفعال، وجعل كسبهم(8/499)
مجازاً، وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية، وأعتى المجبرة، وهو الغالي في دين الله، المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه، وبفجوره على من تقدس عن كسبه، بل تنزه عما يقول الظالمون، ولم يزل عليماً شائياً، حكيماً عادلاً متفضلاً، منصفاً محققاً، مجبراً خالقاً، آمراً ناهياً، غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى، ولا لها مهملاً، فخلق الكافر على الفطرة، وخلق كفره وشاءه في ملكه، ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه، ولم يتوله، بل تبرأ منه، وتركه معه، ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله، وجعل له قدرةً واستطاعةً على كسبه، وتركه مع هواه، فلما دخل تحته، واعتقده في نفسه، واتصل به، واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة، والخلقة والكسب، فصار بما اعتقد واكتسب، كافراً، وسمي فاجراً، ولا هو لنفسه خالقاً، ولا لكفره مخترعاً، بل له مكتسباً، وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما، فصار لذلك مجانياً، وخالط الكفر فصار فيه والجاً، فتوجه نحوه التهديد، ولزمه الوعيد، فألزمه ما اكتسب، ورده إل ىما علم، وأدخله في وعيده، واستحق عقوبته، وخلده بنيته: {وما ربك بظلام للعبيد} .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين» .
وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه، يسفر عن إيضاح ما أوردناه، حنفاء عارفين على فطرته،(8/500)
وهي معرفة ربوبيته، والإقرار بوحدانيته، لا يقع بذلك كفر ولا إيمان، بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري، فخلق الكل على الفطرة، وأمر الكل بالإيمان، لصحة الدعوة، وعموم النصيحة، وأقدر الكل على ما أمر وأراد) .
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا الكلام يوافق قول من قال: خلقهم على الفطرة، التي هي المعرفة والإقرار بالصانع، وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمناً ولا كافراً، وقد أبطل من يقول: إنهم خلقوا على الكفر والإيمان، وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء.
وصاحب هذا الكلام يقول: الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره.
وهذا موافق لقول من قال: لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر.
لكن ذاك يقول: إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة، لا يبدل الخلق، فيخلقون على غير ذلك.
وصاحب هذا الكلام يقول: لايبدل الخلق بعد ذلك، أي: لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق، بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم، وهو يقول: كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه، وهو يثبت القدر، وأن الله خالق أفعال العباد، وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه.
فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع، وقد بينا أن مذهب الأئمة، كالأوزاعي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معاً.
ومذهب الزبيدي وطائفة: نفي الجبر(8/501)
وإنكار إثباته فقط، وهو موافق لهذا الكلام.
وأما ما حكاه أحمد ونحوه: أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده.
والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال: جبر.
وعلى من قال: لم يجبر.
وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر.
والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة، وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار.
وأما قوله: (إن ذلك ليس بإيمان، وإن ذلك لا يمكن تحويله) فقد قدمنا الكلام على ذلك، وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير، وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره، كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن.
والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية، وقد بسط ذلك مستوفياً في أول كتابه.
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي، طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف، واتباع السلف وأئمة السنة والحديث، كمالك وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وأمثالهم.
وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ.(8/502)
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد، قال: (وكان إجماع السلف والخلف، وأئمة الدين وفقهاء المسلمين، من شرق وغرب، وسهل وجبل، وسائر أقاليم الإسلام، من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين: على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة: سبعة متعلقة بالشهادة، وهي مما يدان بها في الدنيا، وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة.
فالتي في دار الدنيا: القول مع الاعتقاد بأن الإيمان: قول وعمل ونية، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن القرآن غير مخلوق، وتخيير الأربعة على الترتيب، وإثبات الإمامة، وترك الخروج على أحد منهم، والصلاة على من مات من أهل القبلة، وترك المراء والجدل.
والمتعلقة بالآخرة: الإيمان بأحكام البرزخ، والآيات التي بين يدي الساعة، والبعث بعد الموت، ورؤية الله تعالى، والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان، وخلود الدارين، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة، وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم.
وسنتكلم على كل مسألة بذاتها، ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر، وبه التوفيق والمعونة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من(8/503)
ذلك، إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول، فقال: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، إثباتاً للمجاهدة، وفقراً إلى المعونة منه سبحانه.
فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف، فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار) .
قلت: كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين: المعتزلة.
(وقال ابن كلاب وطائفة: جميعها اكتساب.
وقول أصحاب الحديث: إن منها اضطراراً ومنها اكتساباً، وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب، وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية، والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه.
فصل: في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين.
أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم، المخترع لأعيان الأشياء، والمتمم تصويره لها على غير مثال، ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود، وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه، وهي ضرورة لا اختيار فيها، كما لا كسب فيها، ولا يتوصل إليها بالأسباب.(8/504)
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ، يعني: وما من شيء إلا يسبح.
قال ابن عباس: حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده.
وقال عكرمة: لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته، فما من شيء إلا يسبح بحمده.
وروي أن صرير الباب بالتسبيح.
وقال سبحانه: {يا جبال أوبي معه والطير} ، وقد روي: سبحي.
وقال سبحانه: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} ، يعني: صاغرون.
وقال سبحانه: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} الآية.
وقوله سبحانه: {سبح لله ما في السماوات والأرض} ، وسبح إخبار عن ماض وآت، وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده، ويسجد لعظمته، ويعترف بألوهيته ووحدانيته، ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول.
وكذلك اعترافها بفضائل رسله، وما(8/505)
استفاض من مخاطبات الجمادات له صلى الله عليه وسلم، وسلامها عليه، وحنينها إليه، ومخاطبة الأنعام والوحوش، والطير، والصغار في المهود، وغير ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث» ، فذكر معرفة بارئها.
وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر، ولا عقول، ولا اختيار، ولا كسب، وقد عقل معرفتها لبارئها عز وجل، وثبت بالكتاب والسنة.
وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط، لأنها حق له عز وجل، ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول، لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة، ثم جلاها بالأسماء، فعرفت من بعد جهلها، وذلك دليل الحدث، فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها.
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها: وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول، وكل تام بغيره معلول.
ولقد أحسن فيما قال وأصاب، إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه، الذي ارتفعت عنه تغيره، الذي لولاه لم يعرف، فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره، إلى من ارتفعت عنه علة المجهول، والغير علة، والعلة لا تصحب إلا معلولاً.(8/506)
قلت: وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي، فقال: (المعنى: أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو، وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو، فصار زيد مفتقراً إلى وجود عمرو واسمه، لزوال الجهالة عنه به وباسمه، والمعنى: أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها، بخلاف الواحد الذي لا نظير له، ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها، بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته) .
قال: وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية، فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره، بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه) .
قال الشيخ أبو محمد بن عبد: (فعز ربنا أن يقوم بالعلل، فيصير دليلاً بعد ماكان مدلولاً) .
هكذا رأيته في الكتاب، وإنما أراد: (فيصير مدلولاً بعد ما كان دليلاً) .
قال: (وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة: أنا الدال على نفسي، ولا دليل أدل علي مني.
وقد روى: كنت كنزاً لا أعرف، فأحببت أن أعرف، فأظهرت خلقاً وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني.
وهذ نص بإزالة العلل، لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره، كان(8/507)
إثباته تخييراً، وتلك علل الحوادث، فهو الثابت بثباته، المعروف بنفسه، لم يعرف من بعد جهل، إذ ذاك تغيير عن الأزل، فهو المعروف أزلياً، والعارفون محدثون، كما أنه إله لم يزل، والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون، ولا يجوز على الإلهية تغيير، ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث، وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك، وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة، فتلزم مكلفاً وغير مكلف) .
قال: (والفصل الثاني: معرفة الربوبية، وهي خاصة للمكلفين من بني آدم، وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم، وهي ضرورية أيضاً، وهي عن رؤية، وهي قوله سبحانه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، وهذا في غير وقت الكسب والتكليف، فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف، فأقر الكل له بتلك المعرفة، إذ عاينوه جباراً قهاراً، وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد، لأنها إقرار للضرورة، وليس للكافر فيها اختيار، إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها، كما جحد معرفة التوحيد، ولو كانت كسبية لوقع له بها(8/508)
إيمان وثواب، بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده، قال تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} .
وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله.
قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، وقال سبحانه: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ، مع آيات كثيرة، وذلك موجود منهم ضرورة، وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه، ويقولن: إلهنا القديم والعتيق، وإله الآلهة، ورب الأرباب، وغير ذلك، مع كفرهم.
فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها، وهو قوله تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، وقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، يعني: معرفة ربوبيته.
وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى: (خلقت خلقي حنفاء مقرين) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته، وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء، وهو قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .
وقول صاحب الشرع: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا(8/509)
إله إلا الله» ، لم يقل: حتى يقولوا: إن ربهم رباً، إذ هم عارفون بذلك.
وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا، وقبل ذلك الموحدون، فقال في حال المؤمنين: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ، وقال في حال الكفار: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} .
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية، إذ لكل معرفة مقام، فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم، لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه، فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال، لكان مكلفاً لهم شططاً، إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال، ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار، فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط.
وحديث الجارية فمشهور، وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال.
وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم، لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم، فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء، لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف) .(8/510)
قال: وقد «قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله، بماذا أقول: عرفت الله؟ فقال: إنك إن قلت بمن فقد أشركت، وإن حلت كفرت، وإن وسطت واسطة ضللت» .
وقد قيل لعلي رضي الله عنه: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني نفسه، لا يشبه صورةً، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس.
وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال: يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين.
وقول الصديق الأكبر: (سبحان من لم يجعل للخق طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) .
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه، كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه، فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء، والمعلوم الذي لا يجهله شيء، فمن كانت معه معرفتان فهو كافر، وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان، وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها، وبعثوا بها، وكلفنا قبولها، وهي قوله: {وإلهكم إله واحد} ، وهو قوله: {لئلا يكون للناس على الله(8/511)
حجة بعد الرسل} ، وأخبرنا أنه ما كان معذباً قبل بعثتهم، فكانوا يعرفون أن لهم رباً وإلهاً، ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه، وبه وقع منهم الكفر.
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد، ولا يزيل ضرورتهم، وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف، وهي ما وقفتنا الرسل عليه، ودلنا عليه سبحانه، ووفقنا لذلك، وبها يجب الخلود في الجنة، وبعدمها يجب الخلود في النار، وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة، لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة، حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل، والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولاً، وإن كان العقل حجة فهو باطن، والرسل حجة الله ظاهرة.
وقد قيل لبعض العارفين: بم عرفت الله؟ قال: بالله.
فقيل: فأين العقل؟ فقال: العقل عاجز يدل على عاجز.
وقد جاء في الأثر: إن الله سبحانه لما خلق العقل، وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال: عرف بالعقل - فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: عزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف.
فتعلق الخصم بهذه(8/512)
الكلمة، وتمام الحديث: فطفق لا ينطق، فكحله بنور العزة، فقال: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، فلم يعرف العقل الله إلا بالله.
وإذا كان الله معروفاً من طريق التوحيد بالعقل، فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخباراً: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} ؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها، وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم.
وقال سبحانه: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم} الآية، وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ، لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها، وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها، فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل، فبوجود الرسل صح التكليف، وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق، وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف، وإن كان له ها هنا مدخل، فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك.
وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد، وكذلك العلم، فالعلم بيان الله، والعقل حجة الله، والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده، والمخبرة بأمره، والداعية إلى سبيله.
ولما كان سبحانه لا سبيل إليه.
ولا عقول تشرف عليه، ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه، لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا.(8/513)
وليس هذا للعقل، وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل، فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع، وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم، وخص بمعرفة توحيده المؤمنين، وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين.
وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس، فمن كان معه معرفتان كان كافراً، ومن كان معه ثلاث فهو مسلم، فإذا كان أربع كان مؤمناً، فإذا كانت معه خمس كان مؤمناً عالماً، ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم، وصدق الهمم، واتباع العلم، وقوة اليقين، وصفاء الإخلاص، وصحة المعتقد، ولزوم السنة.
فالعقل والعلم والنظر والاستدلال، والافتكار والاعتبار، يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد، فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط، وأوبقه الجهل، ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار، إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه، وفي بعضها بالعلم، وفي بعضها بالعقل، وغير ذلك.
فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر، ومقام وحال، فللكل معرفة الوحدانية والربوبية، وليس للكل معرفة التوحيد.
وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين، فليس لكل المسلمين معرفة(8/514)
المزيد، وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند.
فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} ، إلى قوله: {إني بريء مما تشركون} ، فتلك حجة على الخصم لا له، لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال: إني بريء مما تشركون، ولم يحكم النظر والاستدلال، ولا يقول: إني بريء مما تشركون، وإني وجهت وجهي، إلا عارف بربه.
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه، بقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل} ، وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم، إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله، فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال، لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد.
وإنما الإله الذي خلقكم، ولمعرفته فطركم:
هو الذي أخبر عنه بقوله: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} ، وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر، فإنما المراد به الاستفهام) .(8/515)
قلت: وذكر ابن عبد أشياء، وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت، وكلام مستدرك، فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية.
إلى أن قال: وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه، ومذكراً لهم الميثاق الأول، رداً لهم إلى ضرورتهم، ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به، وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي، فأين محل النظر والاستدلال؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره، حتى يلتبس على الخليل، الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين؟! نعوذ بالله من الحيرة في الدين.
لا جرم وقال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} ، ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولاً بعقل، وهو الذي لا يدركه عقل، ولا يحيط به إحاطة، وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير، لا إلى من: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، فعرفنا أن لكل أثراً مؤثراً، ولك بناء بان، ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك، كما عرفنا اضطراراً أن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ومعرفة وجودنا، وغير ذلك، إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه، لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز، كيف في عدمه وعجزه؟!) .(8/516)
قال: (والفصل الرابع: وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال، وخالص الأعمال مدلول عليها، وإن كان الأصل فضل الله المحض.
قال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} ، وقد روى: معرفة، {وزدناهم هدى} ، {ولدينا مزيد} ، {لئن شكرتم لأزيدنكم} ، فوعد بالزيادات وأخبر عنها، فكلما نصحوا فيما عرفوا، كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول.
وفي الحديث: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» وكان عمر بن عبد العزيز يقول: (جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا، ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وعلماً بلا تعلم، فليخرج من ذل معصية الله، إلى عز طاعة الله، فإنه واجد ذلك كله» .
وقد روي: «إذا زهد العبد في الدنيا، وكل الله سبحانه بقلبه ملكاً(8/517)
يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه» .
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله-: (احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة) فكلما استعمل العبد عقله، وعمل بعلمه، وأخلص في عمله، وصفا ضميره، وجال بفهمه في بصيرة العقل، وذكاء النفس، وفطنة الروح وذهن القلب، وقوى يقينه، ونفى شكه، وضبط حواسه بالآداب النبوية، وقام على خواطره بالمراقبة، وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال، وصار الصدق وطنه، وذهب عنه الرياء والعجب، وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده، وتبرأ من حوله وقوته، ولزم الخدمة، وقام بحرمة الأدب، وحفط الحدود والاتباع، وهرب من الابتداع، زيد في معرفته، وقويت بصيرته، وكوشف بما غاب عن الأعيان، وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد، وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة، ولا أيضاً معرفة التوحيد، إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب، فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد، وعلى معرفة المزيد، إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل، وإنزال الكتب،(8/518)
وإقامة الحجج، وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها، وأقامها مع مقدرتها، لم يكلفها فوق الطاقة، ولا شططاً، فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته، ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة، فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار، وذلك غلط.
وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة، ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب، وذلك أيضاً غير صواب، وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم، وأصحاب الحديث وأهل الظاهر، فيقولون بالاضطرار والاكتساب.
والأمر هو ما ذكرنا، والصواب ما شرحنا، لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة، نصرح بإبطالها، ونومي إلى تناقض الأحاديث، فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها، ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت، ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا.
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده، وما سواه محدث، وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء، كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطراراً وجبلاً، وكذلك لما اضطرهم في الذر، وخاطبهم كفاحاً في غير زمان التكليف، لم يجز أن يكون ذلك بكسب، فلما أرسل رسله، وأنزل كتبه، وتعرف على ألسنة السفراء، لم يصح أن يكون ذلك جبراً ولا ضرورة فيسقط(8/519)
التكليف، ولا يكون ذلك موقع الحكمة، ولا ثبوت حجة: {وما ربك بظلام للعبيد} ، وهو الفعال لما يريد، ذو الحكمة البالغة، والعدل الشامل، والفضل الذي يختص به، فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته، من حيث يعرف، ومن حيث توحيده، ومن حيث وصف ووقف، ومن حيث المزيد، من حيث استعمل ووفق، واختص وتفضل، فلكل معرفة مقام، ولكل مقام حكم، فعم بالأول، وأفراد بالثاني، واختص بالثالث من مقامات المعارف، فمعارف البلغاء بالإصابة، ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام، ومعرفة الفقه للعلماء، والحديث للرواة، والفراسة للحكماء، والمزيد للأنبياء والأولياء، مع مشاركتهم للغير في المعارف، لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا، فلما استوى الكل في كونهم أحداثاً مربوبين، استووا في تلك المعرفة، ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص، تباينوا وتفاوتوا في المعارف، وما يعقل ذلك إلا عارف، ولا ينكره إلا جاهل، فوصل الكل إلى معرفة الربوبية، ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد، وهو أن يعرف الله حق معرفته.
قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} .
وقد روي: ما عرفوه حق معرفته.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور، ولزالت بدعائكم الجبال، ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم(8/520)
الذي ليس بعده جهل، وما وصل أحد إلى ذلك.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله» .
هذا وهو أعرف الخلق بربه، الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة.
وقد كان يقول في مناجاته: «اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة، ومنك رهبة» .
وهذا طلب الزيادة في المعرفة، كما أدبه: {وقل رب زدني علما} .
وقد كان الشبلي يقول: (ما عرف الله أحد حقيقةً) يعني لو عرفوه حقيقةً ما اشتغلوا بسواه.
وكان الواسطي يقول: (كما به كانوا، كذلك به عرفوا) .
وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته:
به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه: «والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا» الحديث) .(8/521)
قال: (فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه، ولو كان الحكم واحداً والمعرفة واحدة لاستووا.
وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا، مع تصحيح الآثار، ومذاقات ألفاظ الرجال، فهو أجل أن يجهل، وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف، أو تبلغه بصائر ذوي البصائر: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} .
ومعرفة الرب بربوبيته، إذ ربوبيته ظاهرة، لا يدعها جاحد، ولا يقدر أن ينكرها معاند، إذ هو أجل أن يخفى، وأعز أن يقاس، وأعظم أن تشرف عليه العقول، أو يتناوله معقول، ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه، ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه، فعرفناه بما تعرف، ووصفناه بما وصف، إذ به عرفت المعارف، ووجدت الدلائل، فعرفنا نفسه، وعرفنا رسله، بما أظهر على أيديها من المعجزات، والبراهين والآيات، وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده، إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم، لتكون المملكة معذوقة بمالكها، ونوحده بما وحد به نفسه، ونثني عليه(8/522)
بثنائه، ونشكره كما علمنا على آلائه، إذ هو الغني عن كل شيء، وكل شيء إليه فقير.
قال الله: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} ، فلفقرنا لم نعرفه بنا، ولغنائه عنا عرفناه به، وجعل لنا الزيادة في الكسب، والتوصل بالأسباب، ومنه البداية، وإليه المنتهى، فكل من ألزمنا بسبب، عكسنا عليه ذلك السبب، وتسلسل الأمر، وإلى الله ترجع الأمور: {وإليه يرجع الأمر كله} ، فلا مجهول فيستدل عليه، ولا متوقع فيرتقب، فللرسل تأثير في العبادات، وللاستدلال تأثير في المكونات، وللعقول تأثير في المدبرات، وللرياضات تأثير في المكتسبات.
وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وقد روي: ليعرفون.
فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة، فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة، فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع، وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض، ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية، فقالوا: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} ، فما أريد منهم أن يقع بهم علل، وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف) .
تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال: (فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها،(8/523)
وأجملت وجهلت الحكم، فالتبس عليها الحكم، واختلفوا بما يصاب؟: بالعقول، أو الاستدلال أو بالإمام؟ فقال بعضهم: أصل المعرفة معرفة الإمام.
ومنهم من يقول: أهل البيت، يعني معرفتهم.
والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه، من حلال وحرام، وفرائض ومندوبات، وأحكام وسنن.
وقال بعضهم: هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك.
واختلفوا: أي وقت تقع؟ فمنهم من يزعم: قبل البحث والنظر.
ومنهم من قال: بعد البحث والنظر.
وقوم يقولون: بعد البلوغ.
ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر، وكلام يكثر ذكره، ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية، فجعلوا معرفته بأسباب، وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية، والربوبية لا تدنسها العلل، ولا يقع عليها غوامض الفطر، فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحاً، لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة.
قال سبحانه: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة، ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما(8/524)
زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه، لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده، وقام على مراعاة ما شرعه له، وتعرف به إليه، واتكل في المعرفة عليه، وأسند جميع أموره إليه، ذكره ما سلف من الحال، وكشف له عن العواقب والمآل، فزهد فيما يفنى، وزادت رغبته فيما يبقى، وصار للإله موحداً خائفاً، ومصدقاً راجياً، ومن قصر في رعايته، وخلط في سعايته، وسلك محجة التفريط، ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله، جمت عيوبه، وكثرت ذنوبه، فملكه هواه، فأعماه وأراده، ولم يبلغ مناه، فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف، فحصل في جملة من خان وعاند، ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله، إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار، ولم يكن بخارج من ضرورته) .
قال: (وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية، كمعرفة الإنسان بوجود نفسه، فالربوبية أولى بذلك.
وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام، والجمع والتفرقة، وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم، ومعرفة الشرع للفقهاء، والمعرفة التي هي(8/525)
الحجة والبرهان، والنور والبيان، للعلماء البلغاء الحكماء، ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب، ويكاشفهم بالغيوب، إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم، وهم المكاشفون بنور اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين المخصوصون بالحقائق، والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته، لأهل صفوته وولايته، فلكل قوم مقام ولكل مقام علم، ولكل علم حكم.
وكذلك المعارف على أحكام ومقامات، فلا يتعدى بمعرفة مقامها) .
قال: (وقد قيل لأبي الحسين النوري: كيف لا تدركه العقول؟ فقال: كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف.
وقال الواسطي: كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه.
وقال الشبلي: الحق لا يعرف بسواه.
وقال النباجي: طوبى لأهل المعرفة، عرفهم نفسه قبل أن عرفوه) .
قال: (صدق أئمة الدين، وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي، وهو الهادي إلى معرفته، والمتعرف بنفسه إلى بريته، إذ ضلت العقول والفهوم، والعلوم والأوهام، في تيه التيه أن تتوهمه، والأفكار والأضمار ان تدركه، لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل(8/526)
حيث وتقدير، وعجز عن توهمه كل فكر وضمير، وردعت العقول، فلم تجد مساغاً فرجعت كليلة، ورجع الوهم خاسئاً وهو حسير) .
إلى أن قال: (بل هو المعروف بما تعرف، والموصوف كما وصف، فتعرف إلينا بربوبيته، ووصف لنا توحيده ووحدانيته، وأقسم على ذلك بقوله تعالى: {والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد} ، وهو الصادق في خبره وشهادته، إذ هو الواحد في الحقيقة، الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع، وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء، فأوقفتنا السفراء على توحيده، الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه، فالأصل منه ثم السفراء.
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} ، وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة، والعلم الذي هو الحجة، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول، ليكون أقوى في البرهان، وأبلغ في البيان.
قال سبحانه: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} ، فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا، وصدق الله في خبره وصدقت الرسل) .(8/527)
وتكلم على هذه الآية، وعلى قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ، بما يناسب ذلك، إلى أن قال: (قال سبحانه: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} .
وقال سبحانه: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل} .
وقال: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا} ، مثلا لمن عبد غيره، إذ ضرب العبد مثلاً لمن عبد من دونه، لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك، لا يقدر على شيء: لا نفعا ولا ضراً، ولا خلقاً ولا أمراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
ومن رزقناه: جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته، لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سراً وجهراً، فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء، مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون، فعز من لمن يشارك في قدرته، وجل من لم يرام في وحدانيته، وتعظم من تفرد بالربوبية، فجل أن يكون له شريك في خلقه) .
إلى أن قال: (فخلقهم على الفطرة، وبعث إليهم السفراء، وعلمهم العلم، وركب فيهم العقل بالفكر.
فبالفطرة عرفوه، وبالواسائل عبدوه، فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته، ولولا إرسال الرسول مع ما(8/528)
خاطبنا به، ووقفنا عليه، ووفقنا له، ومن علينا به، وكتب في قلوبنا، واختصنا - ما عرفنا توحيده، ولا كيف نطيعه.
ولولا ما ظهرت من الآيات والمعجزات، التي أظهرها على أيدي الرسل، بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، لم نعرف رسله.
ولولا زوائد الأعمال، وتصحيح الأحوال، والعلوم والفهوم والمعارف، وأسرار مقامات القوم، وحلاوة أذواقهم، والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد.
وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته، واعترف له بنعمه، وإخراجه من العدم إلى الوجود، ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها، وكمال صورته، وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده، فصدق رسوله، وحقق ما سلف من عهده، ورجع إلى ضرورته، واعترف بوحدانيته، فأبطل ما سواه، ولم ير إلهاً إلا إياه، ولكن لما جهل النعمة.
وزاغ عن العهد، ونكث في إقراره، وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن، وأفضل النعم: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، فتركه مع هواه، فكان هلاكه في مناه، وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه، وشكرها قبول ماجاء به الرسول: قول، وعمل، وإخلاص نية، وإصابة سنة، ولزوم(8/529)
قدوة، وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة، فكلما نصح في مزيد، رفع إلى مزيد.
قال سبحانه: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} .
قلت: ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلاً عليه.
وهذه هي الآية والعلامة.
وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له، وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم، وبأن هذا ملزوم له.
ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة، لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه، فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، حتى تعرف دلالته عليه، فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه، بخلاف المعنى المركب، فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين، فنعرف أنه إذا قيل: قام فلان، أنه فعل القيام القائم به.
فإذا قيل: زيد، عرف أنه فعل القيام القائم به، بخلاف مسمى زيد، وأنه لا يعرف(8/530)
أن زيداً يدل على مسماه، حتى يعرف أولاً مسمى زيد، فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور.
وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد.
فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له، وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه، فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل، وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه، فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور، بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا، وتلك الأمور مستلزمة له، وآيات عليه، فكلما تصورت تصور المدلول عليه، فيكون كما قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ، تبصرة: إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولاً، فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده، كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف.
كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} ، وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة فطرياً حصل في النفس بلا واسطة البتة.(8/531)
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة، وآيات.
فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي، لا تدل على معنى معين.
فإذا قيل: هذا محدث.
وكل محدث فله محدث قديم.
أو: كل ممكن فلا بد له من واجب، فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه، لا يدل على عينه، بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه.
فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة، فإنه لم تعرف عينه، فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق، والايات تدل على عينه، لكن كون الآية دليلاً على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل، إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها.
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه، بحيث يميز بينه وبين ما سواه، كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره، ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل، فلا بد أن يكون مشعوراً به قبل هذا، حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله.
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوباً لها.
وإذا كان مطلوباً لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء، حتى يعلم أنه يلزم من تحقق(8/532)
الدليل تحققه.
وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوباً بالحد، وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعوراً به من بعض الوجوه، فيطلب الشعور به من وجه آخر.
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفاً بالمحدود، إن لم يعرف أن الحد مطابق له، وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود، وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد.
وكذلك الدليل القياسي.
إذا قيل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة.
وإذا كان آية على شيء معين.
مثل كون الكوكب الفلاني، كالجدي مثلاً، علامة على جهة الكعبة، فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال، وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب، فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله.
ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي، والمدلول عليه وهو جهة الكعبة، لم يمكنه الاستدلال.
لكنه عرف أولاً الدليل والمدلول عليه، ثم خفى عليه المدلول، وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع، فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به، كمن سمع منادياً ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه، وقد أضل مكانه، فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا، ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك.
فالآيات الدالة على الرب تعالى: آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن،(8/533)
وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق، تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى، وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا، ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك.
ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث.
وكذلك إرادته وحبه شيء، وعلمه بأنه مريد محب له شيء، وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث.
فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري، ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه، وإن لم يتكلم بالنية، ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها، وهو غالط في ذلك.
وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة، ثم ينظر في دلالة الخبر، فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر، وهو قد كان قبل النظر عالماً.
وقد يقال: إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه، وهذا مما يبين لك أن كثيراً من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه، وقد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً.
فإن كان فاسداً فهو لا يوجب العلم، وهم يظنون أن العلم إنما حصل به، وهم غالطون.(8/534)
بل العلم قد حصل بدونه، وإن كان صحيحاً، فقد يكون مؤكداً للعلم ومحضراً له، ومبيناً له، وإن كان العلم حاصلاً بدونه.
هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم، وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق، وهو أجل المعارف عندهم، من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلاً، لو كان ذلك الطريق صحيحاً، فكيف إذا كان فاسداً!؟.
ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .
فأما مجرد ذكر الاسم المفرد، وهو قول القائل: (الله، الله) فلم تأت به الشريعة، وليس هو كلاماً مفيداً، إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه.
وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه، وإن كان ثابتاً بأصل الفطرة، وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية.(8/535)
كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد
والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح، مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه، لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد.
قال لما ذكر التوحيد: (الكلام بعد ذلك: المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع؟) قال: (فالذي نذهب إليه قول إمامنا: إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع) قال: (وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين.
فقال الأقلون منهم: إن المعرفة تدرك بالعقول، مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها) .
قال: (والدليل على أنه تدرك بالسمع، وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها: ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق.
ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه.
يعلم ذلك كل أحد ضرورة، فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح، والشم لا يدرك به الشام الأصوات) .
قال: (وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلاً إلى إدراك الأراييح، ولا الشم سبيلاً إلى إدراك المسموعات، بل جعل كل واحد منهما سبيلاً لإدراك ما خص به، وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد، والكلام في الرجل، والنظر في اللسان، لأن الجواهر من جنس(9/3)
واحد.
وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها، ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته.
ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الآخرة إذا أنطق الله عز وجل الجوارح بقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} ، {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} ، وبقوله: {ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة} .
قال: (فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة.
كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلاً إلى إدراك السواد والبياض، ولا إلى إدراك المشام والطعوم، بل جعل الله له سبيلاً إلى التمييز بين الموجودات، وإلى إدراك فهم السمعيات، والفرق بين الحسن منها والقبيح، والباطل(9/4)
منها والصحيح، فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها، ويعجز كل فاعل عنها، وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها، علم أنها مفتقرة إلى صانع، غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع، فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل، ووقع له فهم في السمع، وتحقق صحة الخبر، وعرف الله من ناحية السمع، لا من ناحية العقل، لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط، وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز، فيبقى أن يفعل الجماد نفسه، ويقتضي بالشاهد على الغائب، فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع) .
قال: (والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار، فقال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} يعني البصائر.
وقال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي عقل.
وقال: {ليتذكر أولو الألباب} ، فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلاً إلى اعتباره دون غيره.
ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت: أن الله عز وجل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو، ولم يجعل لهم طريقاً إلى علم مائيته، ولا سبيل إلى إدراك كيفيته، جل أن يدرك أو يحاط به علماً، وتعالى علواً كبيراً: {ولا يحيطون به علما} ، فمنع من أحاطة العلم به، فلا سبيل لأحد إليه.(9/5)
وقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال، فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية، كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته.
فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا طريق له إلى علمه.
ثم كلف جل إسمه سائر بريته، وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو، ليعرف الخلق معبودهم، ويعلموا أمر إلههم وخالقهم، فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعاً، ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته، وعلم ما كلفهم من معرفته، علماً منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال، فقال تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} ، وقال: {ذلكم الله ربكم} ، وقال: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم} ، وقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} .
قال: (ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم، ماكان لهم طريق إلى علم ذلك، لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل) .(9/6)
قال: فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه: أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع، لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء، ولا إلى معرفة المسمى، لو لم يرد السمع بذلك.
ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة) .
وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه، إلى أن قال: (والمعرفة عندنا موهبة من الله، وتقع استدلالاً لا اضطراراً، لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء) .
إلى أن قال: (فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع، على ما نقول: إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات، ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم، فتعرف إليهم على ألسنة رسله، وأرسل الرسل بالدعاء إليه، والدلاة عليه، لكيلا تسقط حجج الله.
وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم، كقول نوح لقومه: {يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله} ، وكقول شعيب: {يا قوم اعبدوا الله} .
وكذلك في قصص غيرهم من الرسل، كل منهم يديم الدعوة لقومه، فإذا قبض كان حكم شريعته قائماً في حال الفترة، إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر، فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته، فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به، ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه) .(9/7)
تعليق ابن تيمية
قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل، والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع.
والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع.
فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع.
ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه، فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة.
وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية، فإنما تدل على أمر مطلق كلي، إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية، والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات، فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال، لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي.
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثاً، وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا، فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه، وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فلا يكون في ذلك معرفة عينه، ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقاً كلياً.
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات، من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة، حيث أثبتوا وجوداً واجباً قديماً، ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه، وأنه لا يكون إلا مطلقاً، وقد علم أن ما لا يكون مطلقاً كلياً، لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج.
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه،(9/8)
فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز، وإن كان دليله لم يدله على عينه، بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقاً كلياً، أو قال ما يستلزم ذلك، فإن هذا معطل له في الحقيقة.
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه، فهذا قد علمه علماً مطلقاً.
وأما من قال: إن هذا النبي إنما يوجد مطلقاً لا معيناً، فهذا قد نفى وجوده في الخارج.
فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية، فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع، فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام.
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف.
فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو، فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع، وإن أراد بذلك معرفة أخرى، مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل، فهذا أيضاً يعلم بالسمع، ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي، ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده، فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهراً أو باطناً: إما بالإحساس بعينه، أو بالإحساس بخصائصه.
فمن علم اسم شخص ونعوته، أو اسم أرض وحدودها، فإنه يعرف عينها بالرؤية: إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى، وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات.
قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} .
فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه وسلم التي نعت(9/9)
بها في الكتب المتقدمة، ثم رآه ورأى خصائصه، علم أن هذا هو ذاك، لعدم الاشتراك في تلك الصفات.
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه، وقد لا تكون بمشاهدة عينه، بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو، كما يعلم أن القرآن تلقي عنه، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها، وأنه هو المذكور في الأذان، وهو الذي يسميه المسلمون محمداً رسول الله، وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون.
فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة.
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس، وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم، معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة.
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع، ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من كل وجه، وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه.
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره.
وأما القدر الفارق، فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر، فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضاً.
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة.
لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك، علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته.
وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك.(9/10)
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع، وقد يحصل بالعيان، وقد يحصل بالاستدلال.
والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة، فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته.
وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين.
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته، فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي.
وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين.
وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب، وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر، أو شهد شهود فرع على شهود أصل، فإنه يعلم عين المسمى المنسوب، كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك، فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه، وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك، وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة؟ فيه نزاع بين الفقهاء.
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق، فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق.
والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة، وقد يكون بالمشاهدة الباطنة، وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار.
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق، ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة.
فإن المبيع قد يكون معيناً وقد لا يكون، والمعين قد يكون مشاهداً، فهذا يصح بيعه بالإجماع.
وقد يكون غائباً، وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء، وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أنه لا(9/11)
يصح بيعه، كظاهر مذهب الشافعي.
والثاني: يصح، وصف أو لم يوصف، كمذهب أبي حنيفة.
والثالث: وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد: أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدونها.
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية، انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء، ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله، لأن حقه تعين في عين معينة.
وأما المبيع المطلق في الذمة، فمثل دين السلم.
فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه.
وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين، وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة، كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك.
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك.
فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين، بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود.
ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه، كان للمستحق المطالبة بعين أخرى.
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق، كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين، كما لو نذر هدياً بعينه، فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه، لم يكن عليه بدله، بخلاف ما وجب في الذمة.
فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله.
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين.
لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه، وقد لا يكون مع العلم بعينه، كالمبيع إذا كان مشاهداً فقد عرف المشتري عينه، وإذا كان غائباً فهو معين في نفسه، والمشتري لا يعرف عينه، وإنما يعرف منه أمراً مطلقاً، سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه، أو يحتمله ويحتمل غيره، فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من(9/12)
صفتها كذا وكذا، ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها، وهذا بخلاف المسلم فيه، فإنه لا يكون معيناً، ومتى كان معيناً بطل السلم، كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه، أو زرع أرضاً بعينها، قبل بدو الصلاح، كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم، وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق، أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان، مثل أنه رب العالمين، وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه، فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه، بخلاف ما يمكن الشركة فيه.
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، ويقول: التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات، فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره.
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية، أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم، إنما يثبتون وجوداً مطلقاً لا يعين ولا يشار(9/13)
إليه، بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين، وهؤلاء يثبتون وجوداً مطلقاً كلياً، لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم.
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب، تارة يجعلونه حالاً في المخلوقات لا يختص بشيء، وتارة يسلبونه هذا وهذا، ويقولون: الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين، نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج، فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره، مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره.
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم، وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج، لكنهم ضالون في ذلك.
وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنوناً ثابتة في الأعيان.
ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال، وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أموراً موجودة ثابتة في الخارج، وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل، وذلك ضلال.
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة، ليس مما لا يمكن الإحساس به، لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت، وفي الدار الآخرة.
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان.(9/14)
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة، لأن أحدهما معقول والآخر محسوس، كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية، ومن شركهم في بعض ذلك، وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن، والآخر غائب عنا لا نشهده الآن، ولهذا سماه الله تعالى غيباً.
قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} ، لم يسمه مقولاً، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس، إما بذاته وإما ببعض خصائصه.
والله تعالى يختص بما فوق العالم، فالعباد يشيرون إلى ذلك، ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم، لا يشركه في ذلك أحد.
وهذا العلم قد يحصل بالفطرة، وقد يحصل بالاستدلال والقياس، وقد يحصل بالسمع من الرسل، كما أخبرت بأن الله فوق العالم.
ولهذا قال فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} .
ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه.
وقد يقال: هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع.
وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا، فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق، كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يشاهده، بمعرفة ما يعرفه من خصائصه.(9/15)
وأما القائل: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، فقد يقول: إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع.
والناس متنازعون في كونه فوق العالم: هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة، وهو قول ابن كلاب وابن كرام، وآخر قولي القاضي أبي يعلى.
أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه.
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا، ويقولون: لم نعلم ذلك إلا بالسمع.
ويقولون: لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع، لكن كلامه أعم من ذلك.
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع، كالصفات الخبرية.
أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين، وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك، أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية، التي يوصف الله بها.
أو أراد بذلك أن كثيراً من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع.
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات، أو أول الواجبات: المعرفة، يقولون مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع، كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي، وابنه عبد الوهاب، وابن(9/16)
درباس، وغيرهم، كما قال من قال قبلهم: إنها لا تحصل إلا بالشرع.
وهؤلاء يريدون بالعقل: الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء، وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة، بل لا بد من أمر زائد على ذلك.
كما قالوا في استدلالهم: إن المعرفة لو كانت بالعقل، لكان كل عاقل عارفاً، ولما وجد جماعة من العقلاء كفاراً، دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل.
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية، وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع.
وأيضاً فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية.
وهو أيضاً يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع، ولا يحصل عليها الإجماع.
وهوكما قالوا.
فإن الطرق القياسية العقلية النظرية، وإن كان منها ما يفضى إلى العلم، فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض.
تارة لدقتها وغموضها، وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية، كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة.
قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا(9/17)
فيه} ، فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول.
كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي
ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره: (إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل، لوجب أن يكون كل عاقل عارفاً بالله تعالى، مجمعاً على رأي واحد في التوحيد، ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفاراً، مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل، لأن العقل حاسة من جملة الحواس.
فالحواس لا تختلف في محسوساتها، ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر، وحيوان، وحجر، لا يختلف أرباب النظر فيه؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل، لوجود الأختلاف في المعرفة، والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس) .
تعليق ابن تيمية
وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم، كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره.
والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ، ولذلك قالوا: لوكان العقل علة في معرفة الباري، لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده، وتعدم بعدمه.
كالمنظورات تدرك بوجود البصر، وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر.
وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات.(9/18)
ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام، مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمناً، علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك.
وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله، ويحكم بجنونه، وهو باق على المعرفة، مقر بالتوحيد، عارف بالله.
وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به.
فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل.
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد.
وهذا مما لا ينازع فيه أحد، فإن من يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية، ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة، ولا بمجرد ذلك يصير مؤمناً.
وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي.
وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة.
كما قال تعالى عن أهل النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} .
وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} .
وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} ، وأمثال ذلك في القرآن.
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل، بقوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم(9/19)
ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} .
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله.
فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع، والمعرفة المنجية من عذاب الله.
وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له.
احتجوا أيضاً بما ذكروه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد.
هو إمام العمل، والعمل تابعه.
يرفع الله بالعلم أقواماً فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم، وينتهى إلى رأيهم» .(9/20)
قالوا: فوجه الدليل قوله: (به يعرف الله ويعبد) .
وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه، رووه عنه بالأسانيد المعروفة.
وهو كلام حسن، ولكن روايته مرفوعاً فيه نظر.
وفيه: أن الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية.
وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول.
ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية، أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل، لا يقول: إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة.
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل، أيهما أشرف؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية.
فإن العقل قد يراد به: الغريزة، وقد يراد به: علم يحصل بالغريزة.
وقد يراد به: عمل بالعلم.
فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر.
لكن قد يراد بالعلم: الكلام المأثور عن المعصوم.
فإنه قد ثبت أنه علم، لقوله: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} .
وأمثاله.
ويراد بالعقل: الغريزة.
فهنا يكون أحدهما غير الآخر.
ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل.
فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى، وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر.
وأيضاً فقد تسمى العلوم المسموعة عقلاً، كما قيل:(9/21)
رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع
فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع العين ... وضوء الشمس ممنوع
وأما العمل لعلم، وهو جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره، بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة، كالآثار المروية في فضائل العقل.
ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مرسلاً: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات.
وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم، والعلم جزء مسماه.
ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به.
وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة، كما قال مالك بن أنس: (الحكمة معرفة الدين والعمل به) .
وكذلك قال الفضيل بن(9/22)
عياض، وابن قتيبة، وغير واحد من السلف.
قال الشاعر:
وكيف يصح أن تدعى حكيماً، ... وأنت لكل ما تهوى ركوب
وقال آخر:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة، لكن لكل أمة حكمة بحسبها، كما أن لكل أمة ديناً.
فاليونان لهم ما يسمونه حكمة، وكذلك الهند.
وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك.
ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا: لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علماً.
والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به.
لقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وقوله: {ولا يحيطون به علما} .
قال ذو النون المصري: العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز، فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول، ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق) .
لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول.
وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم.
ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته.
كقولهم: (الأستواء معلوم، والكيف مجهول) .
وهذا الكيف المجهول هو(9/23)
التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به.
وقد قال ابن عباس: (التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله: من ادعى علمه فهو كاذب) .
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات: بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح، وبين تفسير اللفظ وبيان معناه، وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج، وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به، وبالمعنى الثالث انفرد الله به، وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها.
ومما احتج به هؤلاء: القدر، وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته.
تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه
قال عبد الوهاب: (وأيضاً فإن الله قال في حق المؤمنين: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} ، فاعلم أن الإيمان من تفضله، وكتبه في القلوب.
فأي عمل للعقل بعد ذلك؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب، فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل، كالمسطور يدركه النظر.
وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة) .
قال: (ثم نقول: هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة؟ فإن قال: بعقولهم.
فقد أكذبه الله تعالى بقوله: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} ،(9/24)
وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة، وإنما ذلك اختصاص من الله لهم، كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء.
وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع، كالحياة والوجود) .
قال والده أبو الفرج: قال بعض أصحابنا: عرف بنور الهداية.
وقال غيره: عرفنا نفسه بتعرفه، والجميع واحد.
قال: (وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح، فسئل بعضهم: أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به؟ فقال: عرفت الله به، وعرفت محمداً بالله، ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله) .
قلت: هذه الطريقة تصلح أن تكون رداً على القدرية من المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له، وله هدى يسره له خصه به دون الكافر.
بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية، حيث أرسل الرسول إليهما جميعاً، وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان، وأزاح علةكل منهما.
بل يقولون: إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختياراً كل ما يقدر عليه، فيفعل به الأصلح في دينه، وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء، ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما، والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما، من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه.
ولهذا قال لهم الناس: إذا كان الأمر كذلك، وهما مستويان في أسباب الإيمان، فلما أختص أحدهما(9/25)
بوجود الإيمان منه دون الآخر؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته، قالوا لهم: إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص، وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصاً بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر.
وأيضاً فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة، والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله، بل يجب عنده عليه فعله، فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك؟
وأيضاً فإن الله تعالى قال: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} .
الآية، فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه، وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه.
فيقال لهم: أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين، بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وقال في آخرها: {أولئك هم الراشدون} فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون، والكفار ليسوا براشدين، ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم، لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به.(9/26)
كما قال في أثناء السورة: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .
فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، لم يقل: إن كنتم صادقين.
فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء، أولم يكونوا صادقين.
وهذا كقوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} ، وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار.
كقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} .
وقوله: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} .
وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} ، ومثل هذا في القرآن كثير، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، ولكن المقصود التنبيه على المأخذ.
فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه.
ويقولون: إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد، لأن الواجب لا يكون إلا مقدوراً للعبد.
ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها، ولا له عليها قدرة.
وقد يقولون: إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره.(9/27)
ولهذا يقول من يقول منهم: إنه يمتنع أن تكون ضرورية، لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب.
لكن هنا هم متنازعون فيه، لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك، كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم، ولا ثواب فيه ولا أجر لها.
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس، ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم، بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه، ويثيبه عليه أعظم الثواب.
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه، ونحو ذلك من العبارات، يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية.
وهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل، كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم.
بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم: إما إرشاداً إلى الدليل العقلي، وإما اخباراً بالحق الواقع.
وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه، كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله.
ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه، وإن(9/28)
كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر.
فلا يمكن العالم العارف، بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل، أن يدفع ذلك عن قلبه، اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم.
وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان.
وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان، سواء حصل بسبب من العبد، كنظره واستدلاله، أو بسبب من غيره، أو بدون ذلك، هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره، وهي من نعمة الله على عبده، فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات.
فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالاً.
وهذا هو الذي أبطله هؤلاء.
وقولهم: إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة، كلام صحيح.
والشرط له مدخل في حصول المشروط به، كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها.
والعقل قد يراد به الغريزة، وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان.
ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك.
وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر، وله موانع تمنع حكمه، كما أن الشمس سبب في الشعاع، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به، وله مانع كالسحاب والسقف.(9/29)
والله خالق الأسباب كلها، ودافع الموانع.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» .
كما قال تعالى: ( {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} .
وقال تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} .
وقال تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} .
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم، وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك، فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه، وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله.
والقدرية لا يجعلونه من فعل الله، بل يقولون: هو متولد عن نظره، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، والجرح عن الجرح، فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط، كما يقولون في الأمور المباشرة.(9/30)
وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات، فلم يجعل للعبد فعلاً ولا أثراً في هذا المتولدات، بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم، ولم يجعل للعبد فعلاً إلا ما كان في محل قدرته، وهو ما قام ببدنه، دون ما خرج عن ذلك.
والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله.
فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع.
وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين، اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق للسببين جميعاً.
ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن.
قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات، وكذلك غير الكافر.(9/31)
وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك.
ثم قال تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم} ، فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه: {إلا كتب لهم} ولم يقل: به عمل صالح.
وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات، فقال فيه: {إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك، وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله.
قال تعالى: {نكتب ما قدموا وآثارهم} .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
وقال في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى(9/32)
ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .
ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى.
كما قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} .
وقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} .
وقال: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} .
وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} .
فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين، فهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله، بل هو من فعل العبد فقط، وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر رداً عليهم.
وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه، وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه، فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علماً نافعاً.
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم: هل هو(9/33)
بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلاً؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده.
وإذا حصل له علم بدليل عقلي، فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه، ثم يحدث العلم الذي حصل بها.
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.
فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خذل.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب» .
ويقول: «والذي نفسي بيده» ويقول: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» .(9/34)
وكان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين.
قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} .
وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ، فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، كذلك فيما يكتسبه.
من العلوم، ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح.
ولكن الشأن في(9/35)
تعيين الأسباب، فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقاً زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها، وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله.
ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى.
وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل، تارة يقول: إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به، وقد يعين طريق النظر، كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة، وكما فعل ابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم.
ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظراً في دليل.
والنظر الذي يوجبونه يكون نظراً فيما يعلم الناظر أنه دليل، لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول، وإذا كان عالماً به لم يحتج إلى الاستدلال عليه، فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق.
كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر
ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك، فقال: (مسألة: مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافاً للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول.
دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلاً أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل.
وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته.
ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول، بل وجبت بالشرع، كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل(9/36)
العقول.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال) .
قال: (واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله.
فقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، وقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} .
وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} .
وقال: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} .
وقال: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} ، وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة) .
قال: (والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به، وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا) .
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول: أما قوله: (إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع) فهذا مسلم، لكن حصولها بالشرع على وجوه:
أحدهما: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية.(9/37)
الثاني: أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته، التي بها يحصل الإيمان، تحصل بالشرع، كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} .
وقوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} .
وقوله: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} ، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه.
كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع
وأما كون مجرد الوجوب بالشرع، فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرع.
ونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أوجوبها وحصولها بالشرع.
فقالوا: (لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل، أو بالعقل دون الشرع، أو بهما جميعاً.
لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا.
ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد.
ولا يجوز أن يقال: لا يوجد في الشرع، لأن الله تعالى قال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ، وإذا كان ذلك موجوداً في الشرع، فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل) .
تعليق ابن تيمية
فيقال: هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع.
ويستدل على(9/38)
ذلك بقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} .
وقوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} .
وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} ، ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ، لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ، كما يدل عليه السياق في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء} .
وإذا كان الشيء موجوداً في الشرع، فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها.
والقرآن ملآن من ذلك، فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها، عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل، فقد جمعت وصفي الكمال.
وأيضاً فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه، وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك، لم يضر ذلك، وإن كان قد يستغنى عنه، فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه.
وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال، فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها.(9/39)
وأما الوجه الأول وهو قوله: (إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز، علم أن هناك مرسلاً أرسله، لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل) فهذا لا بد فيه من تقدير.
وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل، كلام صحيح.
فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه.
لكن المعترض يقول له: المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع، ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول، إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق، والعلم بذلك ضروري في العادة.
وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول، وإما لكون تصديق الكذاب قبيحاً، هو منزه عن فعل القبيح، ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة.
والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وأمثاله.
والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم، كأبي الخطاب وأمثاله.
وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة، فلا يحتاجون إلى هذا.
وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه.
والمقصود هنا أن قول القائل: إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول.
وإنا لا نمنع صحة النظر، ولا نمنع حصول المعرفة به، وإنما خلافنا: هل يحصل بغيره؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات.
والقاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي، كما قد كتبنا كلامه،(9/40)
وقد قال: (إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه: أحدها: ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم) إلى قوله: (فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله، وإثبات صفاته، وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم، وفي سائر المصنوعات، من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعاً حكيماً عالماً خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة.
وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته) إلى آخر كلامه.
وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق:
أحدها: بأن يقال: الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر، فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول.
الثاني: أن يقال: نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله، لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها، وأنه أحدثها لتصديق الرسول، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع.
وقد يقال: إن قصة موسى من هذا الباب.
قال تعالى:(9/41)
{كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى(9/42)
وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} .
وفي سورةطه: {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى} .
إلى آخر القصة.
ففرعون كان منكراً للصانع، مستفهماً عنه استفهام إنكار، سواء كان في الباطن مقراً به أو لم يكن، ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته، ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعاً.
كما قال: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} .
ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم، فبطل سحرهم، تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى صلى الله عليه وسلم، فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله.
وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة(9/43)
كدلالتها وأعظم.
وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار، كالمثل الذي ضربوه في أن رجلاً لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال: إن كنت رسولك فانقض عادتك، وقم ثم اقعد، ثم قم ثم اقعد، فخرق الملك عادته، وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقاً له.
فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان: هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطاً مليحاً؟ فأخذ المدعى ورقاً أبيض، ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى، وقال: إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء، فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ.
فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه، فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات، ويغير العالم عن نظامه المعتاد.
وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم، أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة، فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع، فهذا أولى.
وليس هذا الموضع بسط هذا.
وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معاً.
وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس، حتى عامة فرق أهل الكلام.
قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم.(9/44)
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة، لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام، ولكن نازع كثير منهم في الواقع.
وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر.
وجمهور الناس نازعوه في هذا، وقالوا: بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة.
كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
وابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر، وأن المعرفة لا تحصل إلا به، حتى قال: (فصل: إذا قال القائل: أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين، وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال، ولا عن نظر في حجة أو دليل، لكن بطريق التقليد في ذلك، أو مما سوى ذلك، مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق، فهذا ليس هو بمؤمن، ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله، ولا يثاب على هذا الإيمان، بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة، والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين) .
قال: (وقالت طائفة: هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة، وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية، سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته، أو ممن لا يتهيأ له ذلك)
قال: (وقالت طائفة: هو مؤمن في الظاهر عندنا، ولا نعلم: هل هو مؤمن عند الله أم لا؟ وقالت طائفة: نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز، وإبطال النبوات، وأعراض(9/45)
الشبه في ذلك.
فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه، وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة، فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه، وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذراً عن الوصول إلى حقيقة الحق) .
قال: (وقالت طائفة: لا يجب عليهم ذلك، ويحل لهم البقاء على ما هم عليه، وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئاً، مع القيام على السنة) .
قال: (والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله، وسائر المعارف الدينية: من التوحيد، وصحة النبوة، والدين.
وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقاً إلىالعلم.
وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة، الموجبة للشك، الناقلة عن الحق.
وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة، فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلاً في معرفته لم نحكم بإيمانه، لأن الإيمان ها هنا هو التصديق، وإنما يصدق بما يزول معه الشك، ويبرأ من عهدة الاشتباه) .
وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة.
وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى: (فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين: كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار) .
قال: (وقال طوائف، منهم الجاحظ وصالح قبة وفضل(9/46)
الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة: معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة.
ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال طائفة، منهم صالح قبة: إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين، من غير سبب متقدم، ولا بحث ولا نظر، وهو قول طائفة من الشيعة.
وقالت طائفة من الشيعة: إن الله يخترعها في قلوب البالغين، لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها، ثم يهب الله المعرف لمن أحب، كما يهب الولد عند الوطء، وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر، كما لا يهب الولد مع الوطء.
وقالت طائفة من الشيعة: الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب، فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة، مضطرين إليها في حال واحدة، فيكون مضطراً للسبب مختاراً للإرادة.
وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة: إن الله لا يخترع شيئاً من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعاً، ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعاً، وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة، وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع، وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع) .
قال: (وقالت طائفة من المعتزلة، منهم غيلان بن مروان: إن(9/47)
معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره، يضطر الإنسن إليها بالطبع، فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب) .
قال: (وقالت طائفة، منهم أبو الهذيل العلاف: معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار.
فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس، فذلك علم اختيار واكتساب) .
قال: (وقالت: طائفة، منهم بشر بن المعتمر: معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها، بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه، وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار، وما يعلم بالقياس اكتساب، ويجوز فيهما جميعاً الاضطرار، ويجوز فيهما جميعاً أن يكونا اكتساباً) .
قال: (وقالت طائفة منالمعتزلة: الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال، وليس لهم في ذلك حيلة) .
قال: (وقالت طائفة من المعتزلة، منهم الجاحظ: معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال) .(9/48)
قال: (وقالت الجبرية، ومتقدمهم جهم بن صفوان: معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد، وبنوه عل مذهبهم في الخبر) .
قال ابن الزاغوني: (وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة، وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول: إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل.
وأمامن قال: إنها ضرورية، فإنه يقول: فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله، وعل أنه لم يكتسب المعرفة، لأن ذلك ليس من مقدوراته، وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه) .
فصل
وما ذكرناه من أن الرسل، صلوات الله عليهم، بينوا للناس الطرق العقلية، ونبهوهم عليها، وهدوهم إليها، كما أنه معلوم لنا، فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة.
وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة، فإنهم يقولون: كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل، فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل، بناءً على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم، والتحسين والتقبيح.
وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف.
فلكل طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فيه قولان.
وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه، ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى.
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع.
ومن(9/49)
القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها.
وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وغيرهما.
بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس، وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية.
فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، وهكذا، مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية، يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع، والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم.
كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
قال أبو الخطاب في تمهيده: (اختلف أصحابنا: هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فقال أبو الحسن التميمي: في قضايا العقل ذلك، حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجاباً، كشكر المنعم، والعدل، والإنصاف، وأداء الأمانة، ونحو ذلك.
ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم، والكذب، وكفر النعمة، والخيانة، وما أشبه ذلك) .(9/50)
قال: (وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة) .
قال: (وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى -: (ليس قضايا العقل ذلك، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع) .
قال أبو الخطاب: (وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها) .
قلت: قول أحمد: (لا تدركها العقول) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه وسلم، فإنها لو أدركت ذلك، لكان علم الناس كعلم الرسول.
ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئاً أمر به ونهي عنه.
ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معياراً على السنة، ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة) .
قال أبوالخطاب: (ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة، وهم الجهمية) .
قال: (وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله: هل هي واجبة بالشرع، حتى لو لم يرد ما يلزم أحداً أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع، يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع.
ومن قال بالأول: قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له.(9/51)
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر، لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره، ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة، إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم.
وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب، وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص، وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء، والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها.
ولما وجب اطراح هذا القول، والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب، متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة، ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة) .
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين.
ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح، كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه، وإن كان ذلك ممكناً مقدوراً له، لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة.
وهم يقولون: إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء.
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق.
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه، والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة، فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل.(9/52)
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر، وأبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل.
بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله، كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، والفلاسفة وغيرهم.
قال أبوالخطاب: (دليل آخر: أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه، إذ لو كانا قادرين على ذلك، لكان هو أيضاً قادراً، وكانا يقدران على خلق غيره.
وهو يعلم أنهما لا يقدران، فيعلم أن له خالقاً من غير جنسه خلقه وخلق أبويه، ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك، كإقداره عليهم، ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه، وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر.
فإن قيل: كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم، يجوز أن يخطر له أن له خالقاً أنعم عليه، وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه.
ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر، وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟ وما أصنع بشكر مثلك؟ ونحو ذلك.
وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله) .(9/53)
قال: (والجواب: أن العاقل، مع اعترافه بحكمة خالقه، لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه، وإن كان غنياً عن ذلك، لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر، ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه، فيمتنع، لعلمه بغناه عن ذلك.
وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل.
والتعظيم للمنعم من بدائه العقول.
والحكيم لايسخط ما هذا سبيله.
فإذاً قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر، ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه، فيجب في عقله توخي ذلك.
وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل: في الطريق مفسدون، يأخذون المال ويقتلون النفس، أو سباع تفترس الآدمي.
ويقال له: أنت ما معك قليل نذر، والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا، فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك.
والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا، فلعلهم لا يعرضون لك.
فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه، كذلك ها هنا) .
قلت: مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف.
قال: (دليل ثالث: أنه لو لم يكن في قضاء العقول: إلزام وحظر، لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلاً، لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب.(9/54)
كما أخبر الله عن قوم نوح: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا} ، فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك، وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره، ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر، وحظر الإعراض عنه، وذلك وصية العقل لا السمع) .
قال: (دليل رابع: أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة، وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم: من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها.
ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان، بل أكثر.
فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء.
وإذا ثبت أن فيها تحسيناً وتقبيحاً، ثبت أن فيها حظراً وإباحة.
وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل.
دليل خامس: أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل، ويسقطان مع عدمه، فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنىً.
وإذا قد وجدنا ذلك، دل على أن في العقل حظراً أو إلزاماً.
دليل سادس: أن التكليف محال إلا مع العقل، ولهذا لا يكلف الشرع شيئاً إلا بعد كمال عقولنا.
فدل على أن السمع يعلم بالعقول.
وإذا كان معلوماً به، والعقل متقدم عليه، ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال: طريق معرفة الله السمع.
وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول؟ ولا نعلم أنه رسول(9/55)
حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل، الذي هو نوع من العلوم الضرورية؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل.
دليل سابع: لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته، وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب، كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات، ويوجب ما كان قد نهى عنه.
فلما لم يكن ذلك، دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع، وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير، ولا يجوز نكثه ونسخه.
دليل آخر: أن الله وهب العقل وجعله كمالاً للآدمي.
وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيراً، وإذا كان لا يقبح شيئاً ولا يحسنه، فوجوده وعدمه سيان، وهذا لا يقوله عاقل.
وأيضاً يدل على ذلك عبارة ملخصة: أن من وجد نفسه مؤثراً بآثار الصنعة، مستغرقاً في أنواع النعمة، لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه، وتولى تدبيره، وأنعم عليه، وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره، عوقب على ما أغفل من النظر، وضيع من الاعتراف والشكر، فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله، إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر، فدل على وجوبه بالعقل) .
قلت: هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب، كما ذكر في موضعه.
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب، وغيره من أهل النظر: من المعتزلة وغيرهم، بنوها على أن معرفة الله تحصل(9/56)
بالاستدلال بنفس الإنسان، ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام، كما سلك الأشعري أيضاً هذه الطريقة.
قال أبو الخطاب: (احتج الخصم بظواهر الآية، كقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، ولم يقل: حتى نجعل عقولاً.
وقوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ، ولم يقل: بعد العقل.
وقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ، وغير ذلك من الآيات، فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل.
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب) .
وقال: (والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام، وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال، ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود، ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد، ويكونوا شهوداً على أعمالهم.
وقد قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} .
وقال: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} .
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم، ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل(9/57)
والتشبه، بالحكمة التي جعلها الله فيهم، والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل، وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق، والرسول لعله متخرص متمترق، لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة، وهو يتوهم فيها ما ذكرنا.
إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول، وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب، وعرف محكم الكتاب من متشابه، وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها، فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله) .
قال: (فإن قيل: هذا توهين لأمر الرسل، وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئاً، وإنما يفيد بعثهم في الفروع، وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه) .
ثم قال: (والجواب: أنا نقول: بل لهم في الأصول أعظم فائدة، لأنهم ينبهون العقول الغافلة، ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر، ليسهل سبيل الوقوف عليها.
كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز، ويبين له مواضع الحجة والفائدة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته.
وأيضاً فإنه بعثهم لتأكيد الحجة، فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا: خلقت لنا الشهوات، وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا.
فقطع الله سبحانه حجتهم(9/58)
ألا ترى أنه تعالى قال: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} ، فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر، ثم التدبر للتنبيه) .
قلت: فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل، ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر، كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة، إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه، من كتب المصنفين، لا تقليداً لهم فيما ذكروه، لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله.
فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب، وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة، والطرق الموصلة، التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة، أعظم من كلام كل متكلم، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ، بل تجب قبل البلوغ، بخلاف الواجبات الشرعية.
قال: (واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر، لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه.
ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلاً؟ ولو كان ذلك كذلك، لكان من أنكر الحسن والقبح مكابراً لعقله مغالطاً لنفسه، لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر) .(9/59)
قال: (والجواب أن للحسن والقبح أصلاً في بدائه العقول، وهو علمنا بحسن شكر المنعم، والإنصاف، والعدل، وقبح الكذب، والجور، والظلم.
ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء.
إلا أن من العقلاء من قال: لا أعرف ذلك بضرورة العقل، وإنما أعرفه بالنظر والخبر.
فذلك مقر بالحسن والقبح، ومدع غير طريق الجماعة فيه، فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك، كما يعلمه أهل الأديان، فسقط أن يكون طريقه إلا العقل.
وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع.
ولا يقال: إن مخالفنا مكابر عقله.
واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاماً وحظراً، على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه، فإذا ثبت هذا، قلنا: يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر، لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة، وما أشبه ذلك.
وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها، والتفتنا إلى ما تؤثر به، وهو خبر الشرع.
فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك) .
وقال: (والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه، فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة، سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام.
ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة.
ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سبباً لهلاكه وعقابه، وأن يكون ضده سبباً(9/60)
لنجاته، فإنه يلزمه النظر في ذلك، سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان.
فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء، ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه، ثم ذلك خاطر عقلي، ولا يقال: يقف على تنبيه الشرع) .
قال: (واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ، وليس العقل موصوفاً بذلك، من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلاً، وإنما ذلك عقل قبل بلوغه، فبان أن العقل لا يوجب شيئاً ولا يحظره.
وقال: (الجواب: أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة.
فأما الأحكام المتستفادة بالعقل، فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح، فلا نسلم ما ذكروه) .
قلت: هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه.
فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان: وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ.
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم، قالوا: وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة.
وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى(9/61)
عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض، وخلق نفسه، وسائر خلق ربه.
قالوا: ويروى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم.
قالوا: وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة، حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل: إنه يجب عليه معرفة الله، وإن لم يبلغ الحنث.
قالوا: وهو قول كثير من مشايخ العراق.
ومنهم من قال: لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ، كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق) .
قلت: هذا الثاني قول أكثر العلماء، وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كما يقول به هؤلاء الحنفية، وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة، وأن الأعيان قبل ورود الشرع، هل هي على الحظر أو الإباحة؟ لا يصح إلا على قول من يقول: إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة.
وأما من قال: إن العقل لا يعلم به ذلك، ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظراً أوإباحة، فقد تناقض في ذلك.
وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت.
كقول طائفة: إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة، ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة، وليس هذا موضع بسط ذلك.
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهو معروف في السنن وغيرها، متلقى عند الفقهاء بالقبول، من(9/62)
حديث عائشة وغيرهما.
وأيضاً فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء.
وأيضاً فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار: هل يدخلون الجنة أو النار، أو يتوقف فيهم؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره، بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم.
وذهب طائفة إلى أنهم في النار، كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره.
وذكروا أن أحمد نص على ذلك، وهو غلط عن أحمد.
فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي الصحيح أيضاً من حديث ابن عباس.
لكن هذا الحديث روي أيضاً في حديث يروى «أن خديجة سألته عن أولادها من غيره، فقال: هم في النار.
فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» .
فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث(9/63)
خديجة، كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد.
وهذا غلط على أحمد.
فإن هذا الحديث ضعيف، بل موضوع.
وأحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث، والحديث متناقض، ينقض آخره أوله.
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة، كأبي الفرج بن الجوزي وغيره.
والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة، كما جاء في ذلك عدة آثار.
وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث، وقد بسطنا هذا فيما تقدم.
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة، بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف، كالقتل والقطع، لا تكون إلا لبالغ.
لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال: الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ.
وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف.
فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان.
بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة، فضربهم على الكذب والظلم أولى.
وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع: أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته.(9/64)
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي، نظير النزاع في الواجبات الشرعية، فإن أحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز: أن الصلاة تجب على ابن عشر.
وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه.
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا.
بل يقال: لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال: إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه، فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق.
وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره، والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله، فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين، بل يجب ذلك في مال المجنون أيضاً، وفي مال الطفل.
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه، وغير ذلك من أقواله وأفعاله، كلام معروف، ليس هذاموضع بسطه.
وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم، ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه، وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيماً للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر، ويحسن ويقبح، كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك، ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء.
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم، فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح، كما نقله أبو الخطاب عنهم.
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم: إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات، لما رأى الناس أنه يناقض ذلك، صاروا(9/65)
يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، كما نقله الرازي وغيره.
فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه، وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به، وأنه يوجبها، يعني على المميزين، يقولون مع ذلك: إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها، ودل الناس عليها، ووكدها وقررها، حتى تمت الحجة به على الخلق، فجعلوا ما جاء به الشرع متضمناً للمقصود بالعقل من غير عكس، حتى صارت العقليات النافعة جزءاً من الشرع، فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك، كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد، لما قسم الناس إلى أربعة أصناف، كما سيأتي.
فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله، ليعرف أن الأمر في ذلك واسع، وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته، مثل الإيمان بالله ورسوله، فإن الله يوسع طرقه وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً.
وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها، وقد يكون الخطأ الحاصل بها يناقض حقيقة الإيمان، كما أن كثيراً منهم يذكر أقوالاً متعددة، والقول(9/66)
الذي جاءت به الرسل، وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه.
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل، مثل كتاب أبي عيسى الورق، والنوبختي، وأبي الحسن الأشعري، والشهر ستاني: تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار، ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعاً من المقالات.
والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين، لا يعرفونه ولا يذكرونه.
بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق، تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما، ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل.
والقول الذي جاء به الرسول، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه، فيبقى الناظر في كتبهم حائراً ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها.
وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم(9/67)
ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصوراً ولا تصديقاً فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها.
وأما المطالب العالية والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول.
وابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء.
ولهذا لما ذكر أصناف الأمة، وجعلهم أربعة أقسام: باطنية، وحشوية، ومعتزلة، وأشعرية: جرى(9/68)
في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة.
وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن، كما سنذكره عنه.
لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة، وعليه خيارها إلى يوم القيامة.
لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال.
قال: وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} ومثل قوله {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
قال: وليس لقائل أن يقول: إنه لو كان واجباً على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة،(9/69)
لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحداً إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة، فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى.
ولذلك قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئاً من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور.
وهذا فهو أقل الوجود، فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع.
قال: فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع.
قال: وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل.
لكن سلكوا في ذلك طرقاً ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها، وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث، وانبنى عندهم(9/70)
حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه.
وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد _ وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلاً عن الجمهور، ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى.
وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث، وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزلياً ولا محدثاً، أما كونه محدثاً فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل.
وأما كونه أزلياً فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزلياً فتكون المفعولات أزلية، والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم.(9/71)
فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل، وهم لا يسلمون ذلك، فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث.
قلت: من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص، فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثاً، وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل.
وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث، وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل، حتى أن كثيراً من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة، أو غيرها من الأعراض، اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث، ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين، وما لا يسبق النوع الدائم الذي آحاده حادثة، فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده.
ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق، أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه، كما قد ذكر ذلك في موضعه.
فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم، ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم.
وهو يقول: الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث، فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم.
فهو يقول: لا يمكن وجود(9/72)
حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع، وهم لايسلمون ذلك.
قال: وأيضاً إن كان الفاعل حيناً يفعل وحيناً لا يفعل، وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى، فلنسأل أيضاً في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة، فيمر الأمر إلى غير نهاية.
قال: وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك، لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً، سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة، متقدمة على الفعل أو معه.
فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور: إما إرادة حادثة وفعل حادث، وإما فعل حادث وإرادة قديمة، وإما فعل قديم وإرادة قديمة.
والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة، إن سلمنا(9/73)
لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة.
ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل، وهو كفرض مفعول بلا فاعل، فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة.
والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل.
وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لانهاية له، إذا كان الحادث معدوماً دهراً لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده، إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له، وما لانهاية له لا ينقضي، فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل، أو ينقضي دهر لا نهاية له، وذلك ممتنع.
وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك.
وأيضاً فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت، لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت، لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل، وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه.
وأيضاً كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف، إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي(9/74)
لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة، فضلاً عن العامة، ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق.
وأيضاً فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معاً، أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية، فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور.
ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه، فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان:
أحدهما: وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم.
إحداهما: أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض، أي لا تخلو منها والثانية: أن الأعراض حادثة(9/75)
والثالثة: أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فأما المقدمة الأولى، وهي القائلة: إن الجوهر لا يعرى من الأعراض، فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة، وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد، ففيها شك ليس باليسير، وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند، وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها، وإنما ذلك صناعة البرهان، وأهل هذه الصناعة قليل جداً، والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر.
وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون: إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلاً إنما يقولون فيه: إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك(9/76)
فهو مؤلف من تلك الأجزاء، وليس هو واحداً بسيطاً، فإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب.
وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة، وذلك إنما يصدق هذا في العدد، أعني أن نقول: إن عدداً أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه، أعني الوحدات.
وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه.
ولذلك نقول في الكم المتصل: أنه أعظم وأكبر، ولا نقول: اكثر.
ونقول في العدد: إنه أكثر ولانقول: إنه أكبر.
وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد، ولا يكون هناك عظم متصل أصلاً فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها.
ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين: أعني الأعظام الثلاثة، التي هي: الخط، والسطح، والجسم.
وأيضاً فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعاً، وليس يمكن ذلك في العدد.
ولكن يعارض هذا أيضاً أن الجسم، وسائر أجزاء الكم المتصل، يقبل(9/77)
الانقسام، وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم، أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم، فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم، وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم: هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية، كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها، ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية.
قلت: هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة، وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل.
وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة، بمعنى امتياز شيء منه عن شيء، وهي القسمة العقلية المفروضة، لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء، لأن الموجود إن قيل: إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى، وإن قيل: إنه يقبلها بالفعل، فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني، كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء، وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى، ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى.(9/78)
قال: ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ: ما القابل لنفس الحدوث؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض، وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث، فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما.
قلت من يقول: إن الإحداث هو نفس المحدث، والمخلوق هو نفس الخلق، والمفعول هو نفس الفعل، كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض، ولا أن له محلاً، فضلاً عن أن يكون وجودياً، لكنه قد قدم إفساد هذا، وأنه لا بد للمفعول من فعل.
وحينئذ فيقال: الإحداث قائم بالفاعل المحدث، وحدوث الحادث ليس عرضاً موجوداً قائماً بشيء غير إحداث المحدث.
ويقال أيضاً: إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها، وكلاهما باطل.
وبتقدير صحته فيكون الجواب: أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات.
لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة: أن الحادث(9/79)
مسبوق بالإمكان لا بد له من محل، فلا بد للمحدث من محل.
قال: وأيضاً فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم، فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود، وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت: أن في القدم ذاتاً ما.
وهؤلاء أيضاً - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل.
وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء.
قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك: إن قيل: يتعلق بالشيء وقت عدمه، لزم كونه موجوداً معدوماً.
وإن قيل يتعلق به وقت وجوده، لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين.(9/80)
وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده، بمعنى أنه هو الذي يجعله موجوداً، لا بمعنى أنه كان موجوداً بدونه، فجعله هو أيضاً موجوداً.
قال: فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها، فإذاً يجب أن لا يجعل هذا مبدأً لمعرفة الله تعالى، وخاصة الجمهور، فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح، على ما سنبين بعد من قولنا.
قال: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة، فهي مقدمة مشكوك فيها، وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم.
وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض، فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب، فإن كان واجباً في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن(9/81)
نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياساً على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام، ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام.
وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه، لأنه لم يحس حدوثه، لا هو ولا أعراضه.
ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته، وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك وتعالى بيقين.
قال: وهي طريق الخواص، وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية، وأكثر النظار إنما انتهوا إليها، واعتقدوا أنها آلهة.
قلت: قول هذا وأمثاله: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة، هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة.
لكن هو يزعم أن طريقة الخواص:(9/82)
طريقة أرسطو وأصحابه، حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية، وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك.
وأولئك المتكلمون يقولون: إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثاً، لامتناع وجود حركات لا نهائية لها.
وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى، وتبين تناقضها بالأدلة العقلية.
وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة، بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب، كما قد بسط في موضع آخر.
فالآفل لا يستحق أن يعبد.
ولهذا قال {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني} وقال {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى، لكن كانوا مشركين به، فاستدل على ذم الشرك، لا على إثبات الصانع.
ولو كان المقصود إثبات الصانع، لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم، فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر، إلى أن أفلت كانت(9/83)
متحركة، ولم ينف عنها المحبة، ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت، فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم، بل نافاه أفولها.
فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن رشد: وأيضاً فإن الزمان من الأعراض، ويعسر تصور حدوثه، وذلك أن كل حادث فيجب أن يتقدمه العدم بالزمان، فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان.
وأيضاً فالمكان الذي يكون فيه العالم، إذا كان كل متكون، فالمكان سابق له، يعسر تصور حدوثه، لأنه إن كان خلاء -على رأي من يرى أن الخلاء هو المكان - احتاج أن يتقدم حدوثه، إن فرض حادثاً خلاء آخر.
وإن كان المكان نهاية الجسم المحيط بالمتمكن - على الرأي الثاني - لزم أن يكون ذلك الجسم في مكان، فيحتاج ذلك الجسم إلى الجسم، ويمر الأمر إلى غير نهاية.
وهذه كلها شكوك عويصة.
وأدلتهم التي يرومون بها بيان إبطال(9/84)
قدم الأعراض إنما هي لازمة لمن يقول بقدم ما يحسن منها حادثاً.
أعني من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة.
وذلك أنهم يقولون: إن الأعراض التي يظهر للحس أنها حادثة، إن لم تكن حادثة، فإما أن تكون منتقلة من محل إلى محل، وإما أن تكون كامنة في المحل الذي ظهرت فيه من قبل أن تظهر.
ثم يبطلون هذين القسمين فيظنون أنهم قد بينوا أن جميع الأعراض حدوثه، ولا ما يشك في أمره، مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية من حركاتها وأشكالها وغير ذلك، فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابي، إلا حيث النقلة معقولة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب وأما المقدمة الثالثة: وهي القائلة: إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي مقدمة مشتركة الاسم.
وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين: أحدهما ما لا يخلو من(9/85)
جنس الحوادث ويخلو من آحادها، والثاني: ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه.
كأنك قلت: ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي، فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق أعني ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه.
وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثاً، لأنه إن كان قديماً فقد خلا من ذلك العرض، وقد كنا فرضناه لا يخلو، وهذا خلف لا يمكن.
وأما المفهوم الأول، وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل.
أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث، لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد- أعني الجسم -تتعاقب عليه أعراض غير متناهية: إما متضاده، وإما غير متضاده.
كأنك قلت: حركات لا نهاية لها، وحركات وسلوكيات لانهاية لها، كما يرى كثير من القدماء في(9/86)
العالم، أعني أنه يتكون واحد بعد واحد.
ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة رامو شدها وتقويتها، بأن بينوا - في زعمهم - أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها.
وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها، وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها، أعني المشار إليه، لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له.
ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي، وجب ألا يوجد المشار إليه، أعني المفروض موجوداً.
مثال ذلك: أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي، إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها، فقد كان يجب ألا يوجد ذلك.
ومثلوا ذلك برجل قال لرجل: لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لانهاية لها.
قالوا: فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً.
قال: وهذا التمثيل ليس بصحيح، لأن في هذا التمثيل وضع(9/87)
مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه.
لأن قوله وقع في زمان محدود، وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود، فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان، الذي تكلم فيه، أزمنة لا نهاية لها، وهي التي يعطيه فيها دنانير لانهاية لها، وذلك مستحيل.
فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها.
وأما قولهم: إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده، فليس بصادق من جميع الوجوه.
وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين: إما على جهة الدور، وإما على جهة الاستقامة.
فالتي توجد على جهة الدور، الواجب فيها أن تكون غير متناهية، إلا أن يفرض فيها ما ينهيها.
مثال ذلك: أنه إن كان شروق فقد كان غروب، وإن كان غروب فقد كان شروق، فإن كان شروق فقد كان شروق.
وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض، وإن كان بخار(9/88)
صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض، وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر، وإن كان مطر فقد كان غيم.
وأما التي تكون على استقامة، مثل كون الإنسان من الإنسان، وذلك الإنسان من إنسان آخر، فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية، لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر، وإن كان ذلك بالعرض، مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان، الذي هو الإله وهو المصور له، ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع، فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلاً لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة، أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها، أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء، وإليه الإشارة في قوله تعالى {أن اشكر لي ولوالديك} .
قلت: مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع، لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول.
وأما في الشروط والآثار - مثل كون(9/89)
الوالد شرطا في وجود الولد، ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر - فلا يمتنع.
وهذا فيه نزاع معروف، وقد ذكر في غير هذا الوضع.
وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك، وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث.
وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين، فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم، وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفاً على حوادث قبله، وكل حادث مشروط بما قبله، كما يقولون هم في الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل، إذا كان كل حادث مشروطاً بحادث قبله.
والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم -وعند غيرهم - أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط، لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة، بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل، وهو نقيض قولهم.
قال ابن رشد: وأيضاً فإن قولهم: إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لانهاية لها، قول لا يسلمه الخصوم، فإن الخصوم: إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء، وما لا مبدأ له - كما(9/90)
نضعه نحن - فلا انقضاء له وبهذا ينكرون قولهم: إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود، لأن معنى: دخل في الوجود، أنه تناهى وجوده وكمل، ولا يتناهى إلا ما له ابتداء، فأما ما لم يبتدي فلا يدخل في الوجود.
قلت: لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام.
كما قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ، {فإذا قضيتم مناسككم} ويقال: قد انقضت هذه السنة، والمضي والزوال.
فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت، بمعنى أنها لم يبق منها شيء.
وعلى هذا فقول القائل: كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها، معناه: حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها.
ليس(9/91)
المراد: لا آخر لها، بل المراد: ليس لها ابتداء، وهذا صحيح، وهو أول المسألة.
والمنازع يقول: إذا كانت الحركات لا أول لها، فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له، كما يقال: إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له.
وهذا هو قوله، فما الدليل على بطلان هذا؟
فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني، إذا ميزت ظهر المعنى.
ولفظ الدخول في الوجود قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده، ويتناول ما وجد معاً وما وجد متعاقباً.
لكن قول القائل: إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، عند منازعه فرق لا تأثير له.
فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى، كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك، يتناول الأمرين، وهي باطلة في أحدهما، فيلزم بطلانها في الآخر، ومن اعتقد صحتها مطلقاً، ك أبي الهذيل والجهم، طردوها في الماضي والمستقبل، وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل.
وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات، فأما النفوس الإنسانية المجتمعة، إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع، وأن ذلك لا يزال يزيد، لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولاً لهذا.
ولهذا فر ابن رشد من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات، وشبهها بالضوء مع الشمس، والضوء عرض.
وفساد هذا القول معلوم، وليس هذا موضع بسطه.(9/92)
ولهذا قال ابن رشد هنا: وهذا كله ليس بيناً في هذا الموضع، وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهاناً، ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور، أعني التراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به.
قال: فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية.
وأيضاً فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا(9/93)
نهاية لها، لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً، فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة، وقبل تلك الدورة دورة، وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد أي متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة، وأن هذا المرور إلى غير نهاية، كالحال في المستقبل، فإنما نقول: إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية، ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها، وبعد الدورة المشار إليها الآن، فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال، وكذلك الحال في الأدوار الماضية.
وقولهم: إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في(9/94)
الوجود بعد، وأن مضى قد أنصرم وانقضى، وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود، فهو متناه - قول حق، إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة، هي أو لجملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود.
والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية، إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد.
وذلك على جهة التعاقب على محل وحد.
فمن أين-يلزم ليت شعري-إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد، وقبله واحد، أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا؟.(9/95)
والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدى وجوده، وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود، لو كان دخوله معا، أعني ما لا نهاية له، وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد، وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول، فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا، لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء، وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى.
هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود، أعنى أن يكون أبداً يوجد شيء خارج عنه، ويسألون: كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه، وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه ـوهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال: هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية؟ .(9/96)
فإن قالوا: غير متناهية، كما هو في المستقبل، فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي، على الشرط الذي يوجد ما لا نهاية له، أعني أن لا يوجد معاً، وأن لا ينقطع المكان.
وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية، يلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها، فتكون معلوماته بالفعل متناهية، وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية.
أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها، وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عنده بالقوة، وذلك شيء لا يقولونه.
فإن قالوا: إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود.
قال: وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين، وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء، وهو أن يكونوا مصمين في هذه الأشياء أخياراً، فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير.(9/97)
قلت: قول القائل: هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل، يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره، فلا يمكن أن يزال عليه، وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط، أو من آخرهس فقط، كالحوادث الماضية إذا قيل: لا تتناهى، فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف.
قال ابن رشد: فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون: قيل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول، أي ليس لها أول ولا آخر، بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر.
وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم.
قال: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً.
قال: فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة،(9/98)
وقبل تلك الدورة دورة، إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد، كالحال في المستقبل، فإنا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنه دورات لانهاية لها، وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وذلك محال.
فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالاً، هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه، وهو ما لا أول له ولا آخر.
وأما إذا قيل: وجد قبل هذه الدورة دورة، وقبلها دورة إلى غير نهاية، فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل، فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى، لأنها تناهت من أحد الجانبين، وإن كانت غير متناهنة من الجانب الآخر.
فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي، إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين.
وما قدر متناهياً من أحدهما فلا يسلم امتناع أنقضائه، ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى، بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى، والتناهي(9/99)
والانقضاء واحد.
ولكن يقال فيه: إنه وجد شيئاً قبل شيء إلى غير نهاية، فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه، لا عن الجانب الذي انتهى إليه.
ويقال: لا يتناهى مقيداً لا مطلقاً كما قال: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجودة، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أي يمكن أن يزاد عليه دائماً، فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده، وهو أن يكون خارجاً عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائماً، هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها، فهو متناه من احد الطرفين، غير متناه من الطرف الآخر.
فلهذا جاز أن يقال: ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب، ويجوز أن يقال: هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر.
ولهذا نقول: إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده.
وما انقضى _ ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده - لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض، وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضاً، وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء.
والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت، فما دخلت في(9/100)
الوجود.
والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى، وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود، فيكون قد انقضى، مع كونه غير متناه، وهذا ممتنع.
فأما ما يوجد شيئاً بعد شيء، وهو لم يزل ولا يزال، فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصراً أو متناهياً لأنه لم ينقض، بل هو متواصل الوجود، والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء، وليست الحوادث المستمرة كذلك.
فلفظ انقضى وانتهى وانصرم ونحو ذلك معناها متقارب.
فإذا قال المتكلم: الحوادث الماضية قد انقضت، فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له، كان هذا تلبيساً، فإنها إذا جعلت منقضية، فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية، ومن هذه الجهة هي متناهية، وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء، وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم.
فإذا قيل: انصرم وانقضى ما لا يتناهى، كان هذا تناقضياً بيناً.
والحوادث الماضية ليس لها أول، فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت، فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى، مع تقدير أنها منقضية، بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت، وإن قدر استمرارها فلم تنقض.
وما ذكره ابن رشد، كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا(9/101)
يتناهى في الماضي والمستقبل -كما يقوله من يقوله من المتكلمين - فهو مبطل أيضاً لقول إخوانه من الفلاسفة، الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى، ولا له أول ولا آخر في قديميين مختلفين، كما يقولونه: إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية، مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى.
كما يقولون: إن القمر يتحرك في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، والفلك المحيط في كل يوم مرة، فهو أعظم مقداراً وأسرع حركة من فلك الشمس القمر وغيرهما، فإنه محيط بالجميع، فهو أعظم، وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك، وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره، فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك: فلك الشمس والقمر وغيرهما، فإن الأيام أكثر عدداً من الشهور، والشهور أكثر عدداً من الأعوام.
ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقداراً مما يتحرك في الشهر والعام، مع أن كلاً من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم، فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر، كحركة فلك القمر والشمس، يقبل أن يزاد عليه أضعافاً مضاعفة، بل وجد ما هو بقدره أضعافاً مضاعفة، وهو حركة الفلك المحيط، فيكون ما لا يتناهى من(9/102)
الجانبين وليس له أول ولا آخر، أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه، وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع.
ولايلزم هذا أئمة أهل الملل قالوا: إن الرب يفعل أفعالاً، أو يقول كلمات لا نهاية لها، ليس لها أول ولا آخر.
فإن هؤلاء يقولون: لا قديم إلا الله وحده، وما سواه محدث مخلوق، فلم يقم بغيرة ولا يصدرعن غيره ما لا يتناهى، وإنما ذلك له وحده، فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين، لا أقل مما له ولا أكثر.
وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر، فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود، فلا بد أن يكون له مبدأ محدود، فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود.
ولهذا قال: وأيضاً فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها، لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً إلى قوله: (إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد، وأن ما مضى قد انقضى وانصرم، وما انقضى ونصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه، فهو قول حق ومراده(9/103)
بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ.
وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم
ولهذا قال: إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود.
والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهيه، إن كانت من الاشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد.
إلى قوله: فمن أين يلزم - ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد، أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا.
قال: والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى، ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده.
إلى قوله: لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء.
وأي جمله فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى.
وهذا هو حد مالا يتناهى الجائز الوجود.(9/104)
وقد قال قبل ذلك: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما.
إلى قوله: ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم من هذا أن يكون بغد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه.
قلت: فأما الكلام على إحاطة علم الله تعالى بالكليات والجزئيات وإرادته، فمذكور في غير هذا الموضع.
وهذا الرجل قد أورد على هؤلاء هذا السؤال المعروف، وهو الذي أوقع أبا المعالي في قوله بالارسترسال، وأن العلم يحيط بأعيان الجواهر وأنواع الأعراض، ويسترسل على أعيان الأعراض.
هذا ليس هو قول من يقول بأنه يتعلق بالكليات فإن ذلك لا يفرق بين الجواهر وأنواع أعراض وأعيانها.
ومن علم أن الكليات لا تكون إلا كلية في الذهن، وأن كل موجود فإنه معين، والأفلاك معينة، والعقول والنفوس عندهم معينة، ونفسه المقدسة معينة، تبين له أن قول من يقول: يعلم الكليات، وأنه إنما يعلم الجزئيات(9/105)
على وجه كلي، مضمون كلامه أنه لا يعلم نفسه ولا شيئا من الموجودات.
وهذا وهم يقولون: إنه مبدع لها وسبب في وجودها، وأنا العلم بالسبب يقتضي العلم بالمسبب.
فقولهم هذا يوجب علمه بنفسه وبكل موجود، وذلك يناقض هذا.
وهذا مبسوط في موضعه.
وهذا الرجل -أعني ابن رشد - أراد أن يجمع بين قولهم هذا وبين علمه بالجزئيات، فقال قولا فيه من الحيرة والتناقض ما هو مذكور في موضعه.
والمقصود هنا ذكر ما ناقض به قول هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أن عقلياتهم تعارض الكتاب والسنة، وله أيضا من عقلياته، التي يزعم أنها تناقض ذلك في الباطن، ما هو مردود عليه بالعقل الصريح أيضا.
لكن من عرف كلام بعض هؤلاء مع بعض، تبين له فساد كل ما يعارض به كل طائفة للنصوص النبوية، وأنه ما من معقول يدعى معارضته لذلك إلا وقد نقضه أهل المعقول بما يتبين فساده، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} الصافات: 180 -182.
قال ابن رشد: والأولى أن يقال لمن وصل من الجمهور إلى هذا(9/106)
القدر من التشكك: إن العالم ليس هو موجودا واحدا، وإنما هو أفعال لله متجددة ومتعاقبة، فيمكن في العقل أن تكون هذه الأفعال أزلية، ويمكن أن تكون محدثة، إلا أن الشرائع كلها قد وردت بأنها محدثة، فيجب التصديق بأحد الجائزين الذي ورد به الشرع، وأن يقال في علمه وإرادته: إنهما غير مكيفين ولا حادثين، ولا يلزم في العلم المكيف الحادث.
فصل
قال ابن رشد: وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعرفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين: إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائر أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلاً أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه،(9/107)
أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار أن تتحرك إلى أسفل، وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية، وفي الغربية أن تكون شرقية.
والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث، أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر.
قال: فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي، وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها، مثل كون الإنسان موجوداً على خلقه غير هذه الخلقة التي هو عليها، وفي بعضه الأمر فيه مشكوك، مثل كون الحركة الشرقية غربية، والغربية شرقية
، إذ كان ذلك ليس معروفاً بنفسه، إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها، أو تكون من العلل الخفية على الإنسان.(9/108)
ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء، شبيهاً بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات، من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع.
وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات - أو جلها - ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله، أعني غايته، فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة.
وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك، فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضرورياً فيه، وهذا هو معنى الصناعة.
والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلاق العظيم!.
وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع، فلا تصلح لهم.
وإنما صارت مبطلة للحكمة - لأن الحكمة ليست شيئاً أكثر من معرفة(9/109)
أسباب الشيء، وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده -على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجوداً، فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم
الخالق دون غيرة، كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة، لم يكن هنالك صناعة أصلاً، ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع.
وأي حكمة كانت تكون في الإنسان، لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق، أو بغير عضو، حتى يكون الإبصار مثلاً يتأتى بالآذان كما بالعين، والشم بالعين كما يتأتى بالأنف.
وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيماً تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك.
قلت: مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة
لاختصاص كل منها بما خص به، وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطاً في الوجود، وقد يكون شرطاً في الكمال.
وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله، ممن لايثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلاً من المخلوقات بصفته وقدره.
فإن هذا قول من أهل الكلام، كالأشعرية والظاهرية، وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة.
وأما الجمهور من المسلمين(9/110)
وغيرهم، فإنهم - مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته - يثبتون أيضاً حكمته ورحمته.
وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية، وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك، فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية، كما هو قول جمهور المسلمين، فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريداً للمفعول بطريق الأولى والأحرى.
فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه علة موجبة للمعلول بلا إردة، كان هذا في غاية التناقص.
ما هو أعظم من ذلك، فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية، كما هو قول جمهور المسلمين، فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريداً للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه على موجبة للمعلول بلا إرادة، كان هذا في غاية التناقص.
ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل، لايحتاج إلى أن ينفي الحكمة، بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى.
وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض، دال على مشيئة فاعله، وعلى حكمته أيضاً ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه.
وإذا كان كذلك فقولنا: إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه، وأن الرب قادر على غير هذا الوجه، كما هو قادر عليه.
وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض.(9/111)
فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها، وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية، وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع، وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض: هل يستلزم حدوثها أم لا؟
قال ابن رشد: وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما.
وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز، وأن هذه الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله.
وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته، وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول.
قال: وهذا قول في غاية السقوط، وذلك أن الممكن في ذابه وفي جوهره، ليس يمكن أن يكون ضرورياً من جهة فاعله، وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل: إنما نعني بكونه ممكناً باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله وتفعاً ارتفع هو.
قلنا: هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل، وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل، ولكن(9/112)
للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه.
قلت: مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديماً أزلياً فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء، حتى أرسطو وأتباعه، وحتى ابن سينا وأتباعه -وإن تناقصوا- هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل.
وهذا يمتنع أن يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، بل هذا لا يكون إلا محدثاً، يمتنع أن ينقلب قديماً، فلهذا قال: الممكن يمتنع أن يكون ضرورياً.
أما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه، وهو المحدث، يصير واجب الوجود بغيره، فهذا لا ريب فيه، وما أظن ابن رشد ينازع في هذا ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا.
وهذا حق، وإن قاله ابن سينا، فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلاً.
بل هو مذهب أهل السنة أنه م شاء الله كان فوجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده.
وهذا يوافق عليه جماهير الخلق، فإن هؤلاء يقولون: كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود.
وهذا يعنون بكونه ممكناً، لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد، فهو واجب بغيره، غير واجب بنفسه.(9/113)
ولهم نزاع فيما إذا عدم.
هل يقولون: عدم لعدم موجبه أولا يعلل عدمه؟ بل ليس له من نفسه وجود، وإنما وجوده بفاعله.
فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر.
هذا فيه نزاع لفظي اعتباري.
وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه، لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه، ولكن يلزم من عدم علته عدمه.
فإن أريد بالعلة في عدمه، المؤثر في عدمه، فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر.
وإن أريد به المستلزم لعدمه، فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه.
وهؤلاء يقولون: إن الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله، وصنف هو واجب باعتبار فاعله.
بل الجائزات الموجوده كلها واجبة باعتبار فاعلها، وما لم يوجد من الجائزات، فهو جائز باعتبار يفسه، وهو ممتنع لغيره.
فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه، فما لم يوجد منها، فهو ممتنع لغيره لا لنفسه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء أن يكون، فلا بد أن يكون، وليس هو واجباً بنفسه، ولا له من نفسه وجوده، بل الله مبدعه.(9/114)
وما لم يشأ لم يكن، فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى، وإن كان الله قادراً عليه، وهو ممكن في نفسه، أي يمكن أن يخلقه الله، لوشاء الله خلقه.
فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي.
وهم لا يعنون بكونه ممكناً باعتبار ذاته، أنه متى توهم فاعله مرتفعاً ارتفع هو.
ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون: إن الفلك قديم أزلي، وهو مع هذا ممكن، يعنون ذلك.
وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه، وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد.
وما كان كذلك فهو محدث.
ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده، لا متناع ارتفاع فاعله، ولا يمتنع ارتفاعه مطلقاً، إذا كان معدوماً فوجد، فارتفاعه مستحيل حين وجوده، لازم عن مستحيل.
والذي ينكره جمهور العقلاء - ابن رشد وغيره - على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين، قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديماً أزلياً واجباً بغيره، فهذا مما ينكره الجمهور
وقد ذكر ابن رشد أنه مخالف لقول أرسطو ومتقدمي الفلاسفة.
ولهذا(9/115)
لزم ابن سينا وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه الرازي.
وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي، وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل، وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل، فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً.
وهذا قول جمهور العقلاء.
وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب، كما ذكره ابن رشد وغيره.
وأما كلامهم فيه، في المنطق وغيره، فوافقوا فيه سلفهم،
أرسطو واتباعه وسائر العقلاء، وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بعدم نفسه، وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة، وجعلوا قسيم الممكن العامي، هو الضروري الواجب وجوده، وهو القديم الأزلي، وصرحوا بأن ما كان قديماً أزلياً يمتنع أن يقال: إنه ممكن يقبل الوجود والعدم.
وممن صرح بذلك ابن سينا وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات(9/116)
وأحدثوا مذهباً ركبوه من مذهب سلفهم- أرسطو وأتباعه-ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم، وقسموا الوجود إلى واجب ممكن، كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث 0
وهذا التقسيم ابتدعوه، لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة، بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض، كما هو معروف في كتاب قاطبغورياس، وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر 0
وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن، وقالوا: الوجود إما واجب، وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب 0 فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين 0
وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة، وأنها غاية عقول العقلاء، وهي من أفسد الطرق، لا تدل على إثبات مبدع للعالم البتة، فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين
، ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه، وهذا ممتنع على طريقهم.
فإنهم إذا قالوا: الموجود إما أن يقبل العدم، وإما أن لا يقبله، وما قبل العدم فهو الممكن، ولا بد له من واجب.
قيل لهم: إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث، كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات. وهذا حق، ولكن القديم عندكم قد يكون واجباً وقد يكون(9/117)
ممكناً، فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب.
وإن قلتم: إن الممكن لا بد له من واجب.
قيل لكم: فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل. وأما ما جعلتموه قديماً أزلياً، وسميتموه ممكناً، فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل، بل عامة العقلاء يقولون: إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل.
ولو قدر أن له فاعلاً، لكان هذا يعلم بنظر دقيق خفي، فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفاً على مثل هذه المقدمة.
فإن قالوا: نحن قد قررنا أنه ممكن، ولا بد للمكن من واجب.
قيل: أنتم جعلتموه ممكناً قديماً أزلياً، وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين، وهو ممتنع. والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع. وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي، وهذا حق0
والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجباً، ويمكن أن يكون ممكناً.
وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب، فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه، كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه.
وإن قلتم: إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر، وهو الواجب، لانحصار الموجود في الواجب والممكن، كما بيناه.
قيل لكم: كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن، فلم يثبت نفيه، بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه.(9/118)
فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب، لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن، وأمكن أن يقال الوجود كله واجب، كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول: عين وجود ما يسمى ممكناً ومحدثاً هو عين وجود الواجب، فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن، هو نوعان: قديم ومحدث.
وهذا الكلام لا فائدة فيه، بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم، والشك في وجود الواجب، أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم، وهو باطل قطعاً، فليس فيه إلا الجزم بالباطل، أو الشك في الحق، أو يقولوا: إن الموجود يمكن أن يكون كله واجباً، ويمكن أن يكون ليس فيه واجب، بل هو إما محدث وإما قديم ممكن.
ومعلوم أن كل القولين معلوم الفساد بالضرورة، وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت، وهذه ممكنات، وأنه لا بد لها من قديم أزلي، والقديم الأزلي يجب وجوده، ويمتنع أن يكون ممكناً.
وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهذا كله يناقض ما قالوه.
ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم، ك الرازي والآمدي، من البحوث المضطربة، في الواجب والممكن والعلة والمعلول، ما ليس هذا موضع بسطه، وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع.(9/119)
فصل
فإن قالوا: نحن إذ قلنا: الوجود: إما واجب، ذاته لا تقبل العدم، وإما ممكن يقبل العدم، وما كان قابلاً للعدم فلا بد له من واجب، لزم ثبوت الواجب على التقديرين، مع قطع النظر عن الممكن: هل يكون قديماً أم لا؟
بل نفس تصور هذه الحقيقة، وهو كونه يقبل العدم، فيلزم افتقاره إلى فاعل.
قيل صحيح.
لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج، إن لم يبين ثبوت الممكن، ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين.
وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم، وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم.
وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين، وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكناً يقبل العدم، وهذا الممكن لا بد له من واجب.
وحينئذ فيكون استدلالاً بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم، وهذا استدلال بالمحدثات على القديم، لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب، كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو(9/120)
وجود، إذا دل على وجود واجب، لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجباً
فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثاً.
قيل: إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديماً، ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث.
وهذه طريقة صحيحة، وهي تدل على إثبات قديم، لا على ثبوت واجب له مفعول قديم، لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال: وليس الوجود كله واجباً قديماً، فإن نشهد حدوث المحدثات، والمحدث ليس بقديم، وليس بواجب الوجود وعدمه.
ولا بممتع الوجود يجب عدمه، فإنه كان موجوداً تارة، ومعدوماً أخرى.
فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه.
وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه، فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات، وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديماً ولا واجباً، بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق، وهي طريق الحدوث، وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه، فأما الإمكان الذي ابتدعوه، فلا يثبت هو بنفسه، ولا يثبت به شيء.
ثم الكلام في تعيين القديم الواجب، وأن السماوات محدثه، له طرق(9/121)
متعددة ضرورية ونظرية، كما قد بسط في موضع آخر، وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية: معرفته بعينه، وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له، حادثه بعد أن لم تكن، وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء، ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس، فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة.
ولهذا قالت الرسل: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار، لما قال موسى: إني رسول من رب العالمين، قال: {وما رب العالمين} قال له موسى: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون *قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} .
ولما قال لموسى وهارون: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} .
قال ابن رشد: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة: إن الجائز(9/122)
محدث، فهي مقدمة غير بينة بنفسها، وقد اختلف فيها العلماء.
فأجاز أفلاطون أن يكون شيئاً جائزاً أزلياً، ومنعه أرسطوطاليس، وهو مطلب عويص، ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته.
قلت: أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة، فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر، ولا ممن يقول بقدم الأفلاك، ولا ممن يقول قولاً يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل، ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفاً على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس، كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية، وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها، وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود، وأمثال ذلك.
وهذا الذي ذكره من ينازع هذين، فإنه ينصر قول(9/123)
أرسطو طاليس، ويقول: إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً، وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديماً أزلياً، وحكايته لهذا عن أفلاطون، قد يقال: إنه لا يصح فيما يثبته قديماً من الجواهر العقلية، كالدهر والمادة والخلاء، فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية، لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة، ونقل ذلك عنه فيه نظر.
وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة، فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس، وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة، وعلى أصله يكون أزلياً، وهم ينقلون: إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس، وهو صاحب التعاليم.
وأما القدماء كأفلاطون وغيرة، فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك، وإن كانوا يقولون- أو كثير منهم -بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر، ويخلق من ذلك شيء آخر، إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم.
فهذا قول قدمائهم، أو كثير منهم، وهو خير من قول أرسطو وأتباعه.
قال ابن رشد: وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة(9/124)
بمقدمات: إحداها: أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية: أن هذا المخصص لا يكون إلا مريداً والثالثة: أن الموجود على الإرادة حادث.
ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة، أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة، وإما عن الإرادة.
والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة.
مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر.
وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة.
ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه، من الجو الذي خلق فيه، يريد الخلاء، لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء، فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة.(9/125)
قال: والمقدمة القائلة: إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة، والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها، ويلزم أيضاً عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم، وهو أن يكون قديماً، لأنه إن كان محدثاً احتاج إلى خلاء.
قلت: أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين، فيناقض ما قد ذكر أولاً من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر.
والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة.
ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة، بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به، وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول.
ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال: إن مجرد اختيار الفاعل، وهي إرادته، خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل، وبقدر دون قدر، وبوصف دون وصف.
وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به، فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمراً واحداً وجودياً يكون العالم فيه، بل هم يقولون: إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة، وإن كان ما وراءه عدم محض، وتسمية ذلك موضعاً، كقول القائل: العالم في موضع.
ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم.(9/126)
قال ابن رشد: وأما المقدمة القائلة: إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين.
وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل، فهي مع فعل المراد نفسه، لأن الإرادة من المضاف.
وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل، وجد الآخر بالفعل، مثل الأب والابن.
وإذا وجد أحدهما بالقوة، وجد الآخر بالقوة، فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة، فالمراد لا بد حادث، وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة، فالمراد الذي بالفعل قديم.
وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل، إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد.
ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل، إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل.
فإذاً لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثاً ولابد.
قال: والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور(9/127)
ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة.
وذلك قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وإنما كان ذلك كذلك، لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر، وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم.
لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها، وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث، وسنبين هذا المعنى بياناً أتم عند القول في الإرادة قلت: الكلام في الإرادة وتعددها، أو وحده عينها، أو عمومها، أو خصوصها وقدمها، أو حدثها أوحدوث نوعها، أوعينها.
وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه، وهي من أعظم محارات النظار.
والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه، لكن نفس تسليم(9/128)
الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه، بل تسليم كون الشيء مفعولاً يستلزم حدوثه.
فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارناً لفاعله المريد له، الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم، فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل.
وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريداً لأن يفعل شيئاً بعد شيء، يكون كل ما سواه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وتكون الإرادة قديمة، بمعنى أن نوعها قديم، وإن كان كل من المحدثات مراداً بإرادة حادثة.
قال: فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقاً نظرية يقينية، ولا طرقاً شرعية يقينية.
وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز، على هذا المعنى، أعني معرفة وجود الصانع تعالى.
وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما: أن تكون يقينية.
والثاني: أن تكون بسيطة غير(9/129)
مركبة، أعني قليلة المقدمات، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول.
قال ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة.
وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب.
ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول: إن هذه الطريقة، وإن سلمنا وجودها، فليست عامة للناس بما هم ناس.
ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس، لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها في الإنسان عبثاً.
مثل قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} البقرة: 282.
ومثل قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} العنكبوت: 69، ومثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} الانفال: 29، إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى(9/130)
والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر، نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطاً في صحة النظر، لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطاً فيها، كما أن الصحة شرط في العلم، وإن كانت ليست مفيدة له.
ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها، كما ظن القوم، بل إن كانت نافعة في النظرية، فعلى الوجه الذي بينا.
وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه.
قلت: العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به، لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على حصول العلم النافع، كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح، كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع.(9/131)
قال ابن رشد: وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئاً من جنس طرق الأشعرية.
قلت: طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية، وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم، وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، ذم هذه الطريقة، كما تقدم ذكر كلامه في ذلك، فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك.
وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية، فرأى اعتمادهم عليها، فذلك تكلم عليها.
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد، حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة.(9/132)
كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية
قال في أوله: إنا ذاكرون الغرض بهذا الكتاب والمنفعة به، لكي إذا عرف الإنسان شرف تلك المنفعة وشرف الغرض، صبرت نفسه على تحمل المشاق في طلبها، والاجتهاد في تحصيلها.
فنقول: إن الغرض به هو التوصل بالأدلة إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وصدق رسله، وصحة ما جاءوا به.
قال: وظاهر أن المنفعة بذلك عظيمة شريفة من وجوه منها: أن من عرف هذه الأشياء بالأدلة أمن من أن يستزله غيره عنها.
ومنها: أنه يمكنه أن يرد غيره عن الضلال إليها.
ومنها أن يكون على ثقة مما يقدم عليه في معاده، غير خائف من أن يكون على ضلال يوديه إلى الهلاك.
قال: وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم، ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم، وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح، لكي يؤمن أن نصدق الكذابين، وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه، عالم باستغنائه عنه، ولا يعرف(9/133)
غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم، ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم، ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء، ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته، ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم، ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي، ولا يعرف موصوفاً بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته، وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله، لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار، ولا طريق إليها إلا أفعاله، فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله، فنكون آمنين في المعاد.
ثم قال: باب الدلالة على محدث الأجسام.
الدلالة على محدث الأجسام والجواهر، هي أن الأجسام والجواهر محدثة، وكل محدث فله محدث، فللأجسام إذا محدث.
قال: وهذا الكلام يشتمل على أصلين: أحدهما: قولنا: إن الجسم لم يسبق الحركات والسكنات المحدثة، والآخر: قولنا: وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث.
فالأول يشتمل على ثلاث دعاو: إثبات الحركة والسكون، وأن الجسم ما سبقها، وأنها محدثان.
والأصل الآخر لا يشتمل إلا على دعوى واحدة: وهو أن ما لم يسبق المحدث محدث، فصارت الدعاوى أربعاً، ونحن نبينها ليصح حدوث الجسم.(9/134)
قلت: وهذه الدعاوى الأربع التي ذكرها أبو المعالي في أول الإرشاد، لكن جعل بدل الحركات والسكنات الأعراض، ولكنه لم يقرر حدوث الأعراض إلا بحدوث الأكوان، ولم يقرر ذلك إلا بالاجتماع والافتراق.
وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة، فهي التي يعتمدها الرازي، وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيرة، حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقاً، بناء على أن العرض لا يبقى زمانين، فإن هذه أضعف الطرق، وطريقة الحركة أقواها، وطريقة الاجتماع والافتراق بينهما، وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم، ممن يقول: إنه جسم.
ثم إن أبا الحسين أحتج لهذه الدعاوى الأربع بنظير ما تقدم.
قيل: فإن قيل: فما الدليل على أن الحركة غيرة؟
قيل: لو كان تحرك الجسم هو الجسم، لكان إذا بطل تحرك بطل الجسم، ولو كان تحرك الجسم هو الجسم لكانت الدلالة على حدث التحرك دلالة على حدث الجسم، فلو كان تحرك الجسم هو الجسم، لكان أسهل في الدلالة على حدث الجسم.(9/135)
قلت: هذا ينبني على أن ما ليس هو الشيء فهو غيره، وهو قول المعتزلة.
وأما الصفاتية فينازعونهم في هذا، ويقولون: الصفة لا يطلق عليها: إنها هي هو ولا إنها غيره، وأئمتهم لا يقولون: لاهي هو ولا هي غيره، لأن لفظ الغير مجمل.
وكثير منهم يقولون: لا هي هو ولا هي غيره لكن الاستدلال يمشي بأن تكون الحركة ليست هي الجسم وهي حادثة، ويمشي بأن يقال: الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، والحركة تفارق الجسم بالوجود.
فإنه قد يكون موجوداً ولا حركة له.
لكن يقال: لانسلم أن كل جسم يجوز أن يفارقه نوع الحركة، بل قد تقارنه عين الحركة، وهم لايدعون أن الجسم مستلزم لعين الحركة والسكون بل لنوعها.
قال أبو الحسين: والدلالة على استحالة سبق الجسم لجنس الحركة والسكون، وهي أنه لو سبقه لكان لا واقفاً ولا ماراً ولا حا صلاً في مكان، مع أنه جرم متحيز، والعلم باستحالة ذلك ضروري.
قال: والدلالة على حدوث الحركة والسكون هي أن كل حركة وسكون يجوز
عليهما العدم، والقديم لايجوز عليه العدم، وإنما قلنا: يجوز على السكنات والحركات، لأنه ما من جسم متحرك إلا ويمكن أن يسكن، أو يحول من حركة إلى حركة، كخروج الفلك من دورة إلى(9/136)
دورة، وما من جسم ساكن إلا ويمكننا أن نحركه: إما بجملته أو بأجزائه، كالأجسام العظام.
وإنما قلنا: إن القديم لا يجوز عليه العدم، لأن القديم واجب الوجود في كل حال، وما وجب وجوده في كل حال استحال عدمه.
وإنما قلنا: إنه واجب الوجود في كل حال، لأنه موجود فيما لم يزل، فإما أن يكون وجوده على طريق الجواز أو على طريق الوجوب، فلو كان موجوداً على طريق الجواز، لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل، ويستحيل أن يوجد القديم بالفاعل، لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، وليس للقديم حال عدم فيخرجه، فصح أن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه.
ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم.
قال: فإن قيل: ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها، ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها؟
قيل: إذا كان كل واحد من الحوادث له أول، استحال ألا يكون لجميعها أول، لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سوداً،(9/137)
ولأن كل واحد قد سبقه عدمه، فلو كانت لا أول لها، لكان ما مضى ما أنفك من وجودها ولا من عدمها، ولا يفصل السابق من المسبوق.
قلت: هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها، في كلام الرازي وغيره.
وهؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول، أن يكون لجميعها أول، كما أن كل واحد منها له آخر، وليس لجميعها آخر.
وكما أن كل واحد من العشرة عشر، وليس المجموع عشراً، وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو، وليس المجموع في جميع المواضع، بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد، كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجوداً فالجميع موجود، وإن كان كل جزء من المجموع ممكناً فالمجموع ممكن، وإذا كان كل جزء منها معدوماً، فالجميع معدوم، وتارة لا يكون كذلك كما تقدم.
فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين، وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة، فدعوى ذلك مصادرة.
وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأم جزئي لايحصل به المقصود، إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا.(9/138)
ولهم عنه أجوبة: المنع، والمعارضة، والفرق.
أما المنع: فيقولون: لا نسلم أن هذا مثل الزنج.
وأما المعارضة: فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر، وكل حادث له آخر، وليس لكل الحركات والحوادث آخر، وأن كل عدد له نهاية، وليس للأعداد نهاية، وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها، وليس الجمع بين الاخوات مباحاً، وكل واحد من أفراد العشرة واحد، وهو ثلث الثلاثة، وربع الأربعة، وليست العشرة ثلث الثلاثة، ولا ربع الأربعة، وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب، ليس مفرداً بسيطا، وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة، والدائرة ليست جزء دائرة، وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة، وليس المجموع قطرة، وليس المجموع قطرة، فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد، وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك.
ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود، فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود، وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد.
فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد، كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين: إن مجموعها حادث، كما أن كل واحد منها حادث.(9/139)
وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ، بل بصيغة الجمع، فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ: أسود، ولا يقال، غير أسود، بل يقال: سود.
وسود صيغة جمع، فهي بمعنى قولنا: كل زنجي أسود.
وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد، كان نظير مثال الزنج.
وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد، وقد لا يكون.
فالأول إذا قلنا: كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن، أو: كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن،
فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا، ومجموع الممكن مفتقرا إ لى غير ممكن، لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو، فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس، والجنس يتحقق في المجموع، كتحققه في كل فرد فرد.
فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا، وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن، والطبيعة لازمة للمجموع، فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها، فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره، كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره، ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة، كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى.
لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه، كما يتناول الواحد(9/140)
منه، كلفظ المخلوق والمحدث والممكن، ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه.
والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود، بل يقال: مجموعهم سود وذلك معنى قولك: كل واحد منهم أسود، ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع، كما يتصف به كل واحد واحد.
بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره، فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع، كما يثبت لكل فرد من أفراده.
والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أولا ليس له أول، فهو حكم على الجنس المجموع، فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا، بل لا يكون إلا بعد عدم، كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك، كان هذا نظير المحدث والممكن، لكن النزاع في هذا، فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو، مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه: هل يكون مخلوقا ممكنا؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا، فإن كونه محدثا، يستلزم كونه ممكنا، إذا لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم، أو ممتنعاً فلا يوجد.
والمحدث كان معدوما وصار موجودا، فطبيعته تنافي الوجوب والامتناع، لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس.(9/141)
وإذا عرضنا على العقل الحادث، مع قطع النظر عن أفراده وجنسه: هل يستلزم أن يكون منتهياً منقطعاً لن ابتداء، أو يستلزم ذلك، بل يمكن دوامه؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهياً له ابتداء.
وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع، وبين تسلسل الآثار: أثراً بعد أثر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث.
ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا: كل زنجي أسود، لم يكن في الزنج ما ليس بأسود، لأن هذا النقي يناقص ذلك الإثبات، وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر، فإنا إذا قلنا: بعض الزنج ليس بأسود، كان مناقضاً لقولنا: كل زنجي أسود، فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود، لزم أن يكون جميعهم سوداً، وأما إذا قلنا: كل حادث فله يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول، وهكذا عكس نقيضه،(9/142)
فيمتنع أن يكون جميع الزنج سوداً؟ هذا محل نزاع.
فيقال: الفرق معلوم بين قولنا: جميع الحوادث لها أول، بمعنى: أن كل واحد منها له أول، وبين قولنا: إن جنس الحوادث لها أول، بمعنى: أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة، ولا متسلسلة، فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر، وهي مع ذلك دائمة مستمرة، فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول، كما أن كل زنجي أسود.
وهو بعد ذلك لم يعلم: هل هي دائمة أم هي منقطعة؟
بل العلم بكون الحادث له أول، هو العلم بأنه مسبوق بعدم، وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم، هو العلم بأنه كان العدم مستمراً دائماً، حتى حدث جنس الحوادث، بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث، وبعده حادث، وما من عدد إلا وبعده عدد. وهو يعلم أن كل حادث فله أول، وكل نقص فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى، وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى.
ومما يبين ذلك الفرق: أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده، فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود، مع قولنا: إن كلاً منهم أسود. وأما أن كون الشيء حادثاً، أو مسبوقاً بعدم، أو موجوداً(9/143)
بعد أن لم يكن، أو له أول، فهو بمنزله كونه ماضياً وملحوقاً بعدم، ومعدوماً بعد ما كان.
وهذا يقتضي أن كلاً من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي.
أما كون جنس المنقضي انقطع، فلا يكون بعده منقض، أو كون جنس الحوادث منقطعاً، فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث، هذا نوع آخر.
والحكم على كل فرد فرد، غير الحكم على المجموع، من حيث هو مجموع في النفي والإثبات، ففي النفي نفرق بين قوله: لا تأكل هذا ولا هذا، ولا تأكل السمك وتشرب اللبن، إذا الأول نهى عن كل منهما، والثاني نهى عن جميعها.
وكذلك إذا قال: ما ضربت لا هذا ولا هذا، أو لم أضربها، وعنى نفي ضربهما جميعاً.
ولهذا تنازع الفقهاء فيمن حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه، كما لو حلف: لا آكل الرغيف، فأكل بعضه.
ولم يتنازعوا في أنه لو عنى أكل جميعه لم يحنث بأكل البعض.
وهذا كما في قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} النساء: 23، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، فالجميع بينهما منهي عنه.
فهذه وحدها مباحة وهذه وحدها مباحة، واجتماعهما ليس مباحاً.(9/144)
وكذلك كل واحد من الضدين مقدور ممكن، وليس الجمع بينهما مقدوراً ممكناً.
وكذلك الجائع إذا حضرته أطعمة يكفيه كل منها، فكل منها مباح له أكله، ولا يباح له أكل المجموع حتى يبشم ويموت.
وكذلك من قال لغيره: خذ عبداً من عبيدي، أو فرساً من خيلي، كل منها مباح له، وليس المجموع مباحاً له.
فإذا قيل: كل من هذه مباح، لم يستلزم أن يكون المجموع مباحاً.
والمقصود أن الأمور التي يتصف بها كل واحد من الأفراد ثلاثة أنواع:
أحدها: ما لا يمكن تصوره في المجموع، فلا يقال: هو ثابت ولا منتف.
والثاني: ما يمكن تصوره في المجموع، وهذا قد يكون ثابتاً كثبوت الافتقار إلى الفاعل في مجموع الممكنات والحادثات، وثبوت الحل في كل من الأجنبيات منفردة، وفي جمع أربع.
وقد لا يكون ثابتاً كثبوت النهاية في أفراد الحوادث المنقضية لا في مجموعها، وثبوت الحل في كل من الأختين لا في مجموعهما.
والفرق بين هذا وهذان أن الحكم الذي ثبت للأفراد، إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له، وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له، فيكون المحدث ممكناً أو مفتقراً إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث، وهذا ثابت للأفراد والمجموع.
وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس ثبت(9/145)
لحقيقة الإمكان، فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه، وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع.
وأما كون الحادث له أول، أو الماضي له انتهاء، فهذا يعلم في كل حادث حادث، وماض ماض.
وأما كون هذا الجنس كذلك، فالطبيعة تلزم كل واحد واحد، وليس في الخارج مجموع ثابت للحوادث والماضيات، حتى يقال: هل يحكم لذلك المجموع بحكم أفراده أم لا؟ فإن أفراده موجودة على التعاقب، وإذا قدر حوادث متعاقبة، لم يكن في العلم بهذا ما يوجب أن لا تكون دائمة.
لكن إذا قدر إجتماع حوادث في آن واحد، أو كانت محدودة.
قيل: إن هذا المجموع له ابتداء.
وإذا قدر اجتماع أمور منقضية أو محدودة الآخر.
قيل: لها انتهاء.
وأما ما لا يمكن اجتماعه لا من هذا ولا من هذا، فليس وجوده مجتمعاً في الخارج، وإنما يجتمع أفراده في الذهن لا في الخارج.
يبين ذلك أن ما لا يوجد إلا متعاقباً متتالياً، إذا قيل: إن كل واحد من أفراده يعقب فرداً آخر، لم يعلم من ذلك أنه كله يعقب شيئاً آخر، إذا لم يحكم على جنسه بأنه يعقب غير جنسه، وإنما حكمنا على أفراد الجنس بالتعاقب.
وكذلك إذا قلنا: كل واحد من أفراده سبقه عدم، لم يحكم على الجنس بأنه سبقه عدم، كما حكمنا هناك على جنس المحدث بافتقاره إلى الفاعل، وعلى جنس الممكن بافتقاره إلى ما ليس بممكن، أو إلى الفاعل أو الواجب ونحو ذلك.
والكلام على هذا مبسوط في موضعه.(9/146)
والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم.
وكذلك قوله: كل واحد قد سبقه عدم، فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها، ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق.
فإنهم يقولون: كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه، فإذا كان الجنس لا أول له، لم يلزم أن يقارنه عدمه، بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره.
وهم يسلمون عدم كل واحد واحد، كما يسلمون حدوثه، فإن حدوثه مستلزم لعدمه.
لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل، كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد.
كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وبالجملة: هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام.
وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض، ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام.
وأئمة أهل الحديث والسنة، وطوائف من أهل النظر والكلام، مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذا.
ثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم، وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم، بل قدم السماوات والأفلاك.
فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية، كان العالم قديماً، فتكون الأفلاك قديمة.(9/147)
ثم إن الفلاسفة الدهرية، كابن سينا وأمثاله، قالوا: تسلسل الحوادث ودوامها واجب، لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع، فيمتنع أن يكون جنسها حادثاً بلا سبب حادث.
لكل حادث سبب حادث، كان الجنس قديماً، فيكون العالم قديماً.
وأبو الحسين البصري، وأمثاله من المعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام، قالوا: تسلسل الحوادث ممتنع، لأن كل حادث مسبوق بالعدم، فيكون الجنس مسبوقاً بالعدم، فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث، والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة.
ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل، وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك، أوقدم العالم، أوقدم شيء من العالم.
والفلاسفة الدهرية أعظم إقراراً ببطلانه من المعتزلة، فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها، ولا قدم السماوات والأفلاك، ولا شيء من العالم.
والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها، وأن تسلسلها ممكن بل واجب.
فيقال لهم: هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها؟ بل يقال: هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة، فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها.
والحوادث متأخرة، فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط.(9/148)
وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم، يقولون: أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأنه القديم، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم.
ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك، فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم؟
وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك، وكل حادث مسبوق بحادث، مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور، حصل مقصودكم.
وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، أو فاعلاً لما يشاء، لم يناقض هذا كون العالم مخلوقاً له، فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام، كما أخبرت بذلك الرسل، والله خالق كل شيء، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم.
ويقول لهم منازعوهم: أنتم أردتم إثبات حدوث العالم، وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطاً في حدوثه، بل وشرطاً في العلم بالصانع، فكان ما ذكرتموه مناقضاً لحدوث العالم، وللعلم بحدوثه، وللعلم بإثبات الصانع.
وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها، وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات، لم يفعل شيئاً من الأفعال ولا الأقوال، بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم، ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية(9/149)
لها في الأزل، ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك، فحدث من غير تجدد شيء أصلاً.
فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث الحوادث بلا سبب، ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة، حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل.
وقلتم: يجب أن يكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن، بل أن يكون مخلوقاً في غيره، لا قائماً بذاته، أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته.
وقلتم: لا يمكنه أن يحدث شيئاً إن لم يمتنع دوام الفعل منه، فلا يكون قادراً متكلماً، إلا بشرط أن لا يكون كان قادراً فاعلاً متكلماً.
وقلتم: لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث، ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان، فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط، وبدلتم الفضايا العقلية، كما حرفتم الكتب الإلهية.
ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم، وزادوا في الكتب الإلهية تحريفاً وإلحاداً، وصار أصل الأصول عندكم _ الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله، وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة، أتباع السلف والأئمة، ومن غير أهل القبلة - هو قولكم: إذا كان كل واحد من الحدوث له أول، استحال ألا يكون لمجموعها أول، لأنها ليست سوى آحادها.(9/150)
والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد، وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة.
وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد، فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم، وليس الجسم جوهرا فرداً، بل المجموع من أفراد، وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد.
وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان، وليس كل عضو منه إنسان.
وكذلك كل من الشمس والقمر، والشجر والثمر، وغير ذلك من الأجسام المجتمعة، لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها.
والإنسان حي سميع بصير متكلم، وليس كل واحد من أبعاضه كذلك.
فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائماً باقياً، أن يكون كل من أفراده دائماً؟
والأمور المقدارية والعددية، كالكرات، والدوائر، والخطوط، والمثلثات، والمربعات، والألوف، والمئات، كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها.
وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم، أو طويل، أو ممتد، لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك.
قال تعالى في الجنة: {أكلها دائم وظلها} الرعد: 35.
ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي، والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي، ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل.(9/151)
قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} ص: 54، فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد، وأن كل واحد من أجزائه ينفد.
ويقال للزمان والحركات في الأجسام: إنها طويلة ممتدة، ولا يقال للصغير من أجزائها: إنه طويل ممتد، فيكون الرب لم يزل ممتلكاً إذا شاء، أولم يزل فاعلاً لما يشاء هو، بمعنى كونه لم يزل متكلماً فعالاً، وبمعنى دوام كلامه وفعاله، لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل.
فإن قلتم: الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره، كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره، والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره، فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل، وكذلك المحدثات، فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
وهذا من جنس قولهم: الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير، لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة.
قال لكم منازعوكم: هذا لفظ مجمل مشتبه.
وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، مع إلغاء الفارق، ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر.
فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس.(9/152)
وذلك أن قولهم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.
يقال لكم: الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليس مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم إما على كل فرد فرد، وإما على كل جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.
فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما.
وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أنه لا بد من محدث؟ الثاني مسلم، والأول محل النزاع.
وكذلك في الحركة: إن قلتم: إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم، فهذا لا نزاع فيه.
وإن قلتم: إن نوعها مسبوق بالعدم، فهذا محل النزاع.
وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم: الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير، فإن الحركة تحول من حال إلى حال، فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى، فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض، وكل ما كان مسبوقاً بغيره لم يكن أزلياً.
فالحركة(9/153)
يمتنع أن تكون أزلية.
فيقال لهم: قولكم: الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض، وهو المعنى الذي دللتم عليه؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم، أم مسبوقة بالفاعل؟
أما الأول، وهو الذي دللتم عليه، فإنه يقتضي نقيض قولكم، وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجوداً، لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة، وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى، وتلك الحال مسبوقة بأخرى، فكان ما ذكرتموه دليلاً على حدوث الحركة، كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها، فهو يدل على دوام نوعها، وهو نقيض قولكم.
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع، وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم.
وحينئذ فيقول المنازع: نحن نقول بموجب دليلكم، وهو حجة عليكم.
وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم، فلم تذكروا على هذا دليلاً أصلاً، وهو مورد النزاع.
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل، فهذا أيضاً يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل.
ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقاً انفصالياً، وإن لم يقيموا دليلاً على هذا، فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلاً عليه، وما أقمتم عليه دليلاً لا يدل على قولكم بل على نقيضه.
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة: أنتم لم تقيموا دليلاً عل قدم شيء من العالم، بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية، وهذا يدل على نقيض قولكم، فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل، والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه.(9/154)
وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه، بل دليلكم يدل على نقيضه، فإنه لو كان المفعول مقارناً للفاعل، لزم ألا يحدث في العالم شيء.
والطائفتان جميعاً أصل قولها الكلام في الحركة، فهؤلاء يقولون: يمتنع أن تكون الحركة دائمة، فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثاً عن غير سبب حادث.
وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثاً، فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة.
والزمان مقدار الحركة، فيجب قدم نوعه.
ثم قالوا: ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة، فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين.
فيقال لهم: من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها؟ وهل هذا إلا قول بلا علم، ونفي لما لم تعلموا نفيه، وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله؟
ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات، مع أنه لا أول لها ولا آخر، وهذا كذلك، وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة.
قالوا: فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى، كما ذكر ذلك أرسطو، لأن الجسم ينقسم، فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى، وهذا ممتنع: يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل.
قيل لهم: بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول، يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم.
فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان.
وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء، فليس حركة الجزء مثل حركة الكل، ولكن كلاهما(9/155)
لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان، وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه.
فهذا يدل على فساد قولكم.
لأنكم تقولون: إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما، وكلاهما لا يتناهى.
فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين، وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض، وأن حركته متبعضة، حتى يقال: إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية، وهذا ممتنع، بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر، ولا امتناع في ذلك.
ويقال للمتكلمين: إن قلتم: إنه مسبوق بالمحرك، بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك، فهذا أيضاً مسلم، لكن قولكم: إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئاً حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولاً، ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء، فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلاً، ولا يجوز أن يحدث شيئاً حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلاً.
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم، ويقولون لكم: لم ينزل الله قادرا على الفعل، والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين، فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه، فكل ما هو مقدور للرب تعالى، فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا.
ويقولون: إذا قلتم: لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا، لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا، فما الموجب لهذا التجدد والتغير؟(9/156)
فإن قلتم: حدث ذلك بلا سبب، كان هذا أعجب من قولكم الأول، إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن، من غير تجدد شيء أوجب قدرته.
وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين: المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، فيمتنع وجوده في الأزل.
قيل لكم: إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه، فلا يكون الفعل نفسه، أو المفعول نفسه، قديما.
لكن لم قلتم: إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره؟ ولم قلتم: إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض، حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا؟ فهذا غير واجب في المعقول، بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم.
وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم، وهم قد يقولون: كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل، وهذا كلام متناقض، فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم.
فحقيقة قولهم: كان قادرا حين لم يكن قادرا، فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه، فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم، أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له، فلا يكون قادرا عليه.
وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين، وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر.(9/157)
ويقال لهم: مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين.
ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا
، ولا يتكلم بشيء، ولا يمكنه ذلك، ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه
صار ممكناً من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكناً، بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه، فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفاً للسمع والعقل، ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم.
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم، بل المعروف عنهم يناقض ذلك، ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك، أو العقول، أو النفوس أو شيئاً غير ذلك مما سوى الله، قديم أزلي، لم يزل ولا يزل.
ويقال: قول القائل: الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلاً له إلا إذا حصله عن عدم؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلاً لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة، ثم صارت ممكنة؟
أما الأول فمسلم.
والثاني ممنوع.
وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه.
فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه، لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلا بعد أن لم يكن فاعلاً، بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب.(9/158)
تابع كلام أبي الحسين البصري
قال أبو الحسين البصري: فإذا ثبت حدوث العالم فالدلالة على أن له محدثاً هي أنه لا يخلو أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث.
فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذا كان حدوثه واجباً في نفسه، وإن حدث مع جواز ألا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، ويستدل على أنه عالم قادر، فصح قولنا.
قال: واستدل شيوخنا على أن الأجسام تحتاج إلى محدث، بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث، فحدوث كل محدث يحوجه إلى محدث، فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث، والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث 0 وإن كرهناه، أو كنا ممنوعين منه، فلما وقع بحسب قصدنا، وانتفى بحسب كراهتنا، علمنا أنه محتاج إلينا 0
قال: والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أنه إما أن يحتاج إلينا لحدوثه أو لبقائه، أو لعدمه احتاج إلينا لبقائه لوجب ألا يبقى البناء إذا مات الباني 0 ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه، لأن تصرفنا كان معدوماً قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين 0 فصح أنه يحتاج إلينا ليحدث، ولإن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا، وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه 0 فعلمنا أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه.
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى، وأنه حي عالم قادر، ونبوة(9/159)
نبيه صلى الله عليه وسلم، حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى، ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به، ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ونحو ذلك، فهو من دينهم الفاسد
وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل، إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة، فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري، ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة، وإبطاله أخرى، فإنه كان ذكياً كثير الكلام والتصنيف، فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم.
وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام، مثل كلامه في منهاج الأصول، وفي كف التشبيه ونحو ذلك.
ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية، ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات، بل آيات الإضافات، ونصوص الإضافات، ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة، ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك، أقرب إلى السنة والسلف والأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره، من كلام هؤلاء الذي مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة.
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من حادث، هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم، وغيرهم.(9/160)
والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص، والاستدلال على ذلك بالقياس.
والأشعري أحسن استدلالاً منه، مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل، وسلموا كلامهم.
وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح، كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية، يسندها إلى قضايا أخرى بديهية، وذلك العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه، لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال.
فإن هذه القضايا وإن كانت حقاً، وهي ضرورية، فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها، والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك، وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك، ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك.
وهذا كقول أبي المعالي، ومن وافقه على طريقة، إذا أثبت حدوث العالم: فالحادث جائز وجوده، وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات، ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات.
فإذا وقع الوجود الجائز بدلاً عن استمرار العدم المجوز، قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، وذلك - أرشدك(9/161)
الله - مستبين على ضرورة، لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر.
ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصاً على الجملة، فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجباً وقوع الحدوث، بمنزلة العلة الموجبة معلولها، وإما أن تكون طبيعة، كما صار إليه الطبائعيون، وباطلاً أن يكون جارياً مجرى العلل، فإن العلة توجب معلولها على الاقتران، فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة.
فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلاً، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم، وقد أقمنا الدلالة على حدثه.
وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص، ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي.
ومن زعم أن المخصص طبيعة، فقد أحال فيما قال، فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع، فإن كانت الطبيعة قديمة، فلتقتض قدم العالم، وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص.
قال: وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها، لا على اختيار، فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار، مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات.
قلت: فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وغيرهم.
ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص، فإنه ليس التخصص إلا نوعاً من الحوادث، فإنهم لا يريدون بذلك أن كل(9/162)
تخصيص، سواء كان محدثاً أو قديماً، لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار، فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل، فلم يبق إلا التخصص الحادث، فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار.
والتخصص الحادث إما أن يكون مساوياً للحادث في العموم والخصوص، أو يكون أخص منه، فإن كان مساوياً له، كان هذا بمنزلة أن يقال: المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك، وإن كان أخص منه كان استدلالاً على أن كل محدث لا بد له من محدث، لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث.
ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل، فيكون استدلالاً على هذا النوع بالجنس، ثم استدلالاً على الجنس بذلك النوع، فيكون استدلالاً بالشيء على نفسه.
لكن يقال من جهتهم: التخصص، وإن كان مساوياً للحدوث في العموم والخصوص، فجهة كونه تخصيصاً غير جهة كونه حدوثاً.
وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطاً بالحدوث، على أنه لا بد له من مخصص.
فيقال: هذا صحيح.
لكن عليه سؤالان: أحدهما أن جهة كونه حدوثاً أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصاً على المخصص.
فإنه لو قال لهم قائل: لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص، لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم، لمن قال: لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث.(9/163)
وإذا كان قد قال: إن ما جاز تقدمه وتأخره، فإذا وقع وجوده بدلاً عن عدمه، قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، فلأن يقال: ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه، أولى وأحرى، فإن العلم بافتقاره المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص، وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح.
السؤال الثاني: أن يقال لهؤلاء كلهم، ك أبي الحسين ومن وافقه: هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضهم فيها، فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح.
فإن هؤلاء يقولون: إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون.
والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات، أو بقدر دون قدر، لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص، والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه، فيفتقر إلى مرجح للحدوث.
والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية.
فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه، وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح، وهذا حق في نفسه، لكنهم نقضوه حيث قالوا: إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها.(9/164)
فإنهم، وإن أثبتوا فاعلاً، لكن يقولون: إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء، وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلاً بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء، ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام.
وهؤلاء يقولون: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح.
وهذا هو أصل قول القدرية، وهو أصل قول الجهمية الجبرية.
القدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله، وقالوا: إن العبد قادر مختار، فترجح الفعل على الترك بال مرجح.
وقالوا: إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون، هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية، فإن أرسل الرسل إلى الصنفين، وأقدر الصنفين، وأزاح علل الصنفين، وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان، بمنزلة من أعطى أبنيه مالاً بالسوية، ثم قالوا: إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان، والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله.
وهذا القول مخالف للشرع والعقل.
فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع، كقوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}
والقدرية يقولون: إن هذا خطاب لجميع الخلق، وليس الأمر كذلك، بل هو خطاب للمؤمنين، كما قال: {أولئك هم الراشدون}(9/165)
وكما قال قبل ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}
فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس.
وأيضاً فإن العبد إذا كان قادراً على الطاعة والمعصية، فلو لم يحدث سبب يوجب وقوع أحدهما دون الآخر للزم الترجيح بلا مرجح.
وذلك السبب، إن كان من العبد، فالقول فيه كالقول في الفعل، فلا بد أن يكون السبب الحادث الموجب للترجيح من غير العبد، والسبب الذي به وقعت الطاعة نعمة من الله خص بها عبده المؤمن.
ثم إن القدرية من المعتزلة وغيرهم بنوا على هذا أن الرب لم يكن يتكلم ولا يفعل، ثم خلق الكلام والمفعولات بغير سبب اقتضى الترجيح.
وأما المثبتون للقدر، من الجهمية ونحوهم، فخالفوهم في فعل العبد، وقالوا إنه لا يترجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح، ووافقوهم في فعل الله.
ولهذا يوجد كلام الرازي - ونحوه من هؤلاء - متناقضاً في هذا الأصل، فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدوراً إلا بمرجح، وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم، وردوا على الدهرية، بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة، وادعوا الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل بالإختيار في هذا الترجيح.(9/166)
وهذا حقيقة قول القدرية.
لكن جهم نفسه نفى كون العبد قادراً، ونفى أن يكون له قدرة على فعل.
وحينئذ إذا قال: إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، لم ينتقض قوله بناءً على أصله الفاسد.
والأشعري وغيره ممن يقول: إن العبد كاسب وله قدرة، ويقولون: ليس بفاعل حقيقة، ولا لقدرته تأثير في المقدور، إن حصل فرق معنوي بين قولهم وقول جهم، احتاجوا الى الفرق بين فعل الرب وفعل العبد، وإلا كانوا مثل جهم.
وأما جمهور المثبتين للقدر، الذين يقولون: للعبد قدرة وفعل، وهذا قول السلف والأئمة، فعندهم أن العبد فاعل قادر مختار، وهو لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا لمرجح.
والرازي يميل إلى قول هؤلاء، ويثبت للعبد قدرة وداعياً، وأن مجموعهما يستلزم وجود الفعل.
فهؤلاء الطوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أهل الحديث.
والفقه وغيرهم، وإن خالفوا المعتزلة بقدر، فهم يشاركونهم في الأصل الذي بنى أولئك قولهم في القدر عليه، وهم يناظرون الفلاسفة القائلين بالموجب بالذات، وأهل الطبع القائلين بأن فاعل العالم علة تامة أزلية تستلزم معلولها.
وهذا القول أشد فساداً، فإن حقيقة القول هؤلاء أنه ليس لحوادث العالم محدث، كما أن حقيقة قول القدرية أنه ليس لفعل الحيوان محدث، فما قاله القدرية في فعل الحيوان، قاله هؤلاء في جميع حوادث العالم،(9/167)
لأن العلة التامة المستلزمة لمعلولها لا يصدر عنها حادث لا بوسط ولا بغير وسط.
فهؤلاء شبهوا فعله بفعل الجمادات، مع تناقضهم وتقصيرهم في ما جعلوه فعل الجمادات.
والقدرية شبهوا فعله بفعل الحيوانات، مع تناقضهم وتقصيرهم فيما جعلوه فعل الحيوانات.
ثم المثبتين للقدر، من الكلابية وغيرهم، يخالفون المعتزلة في إثبات القدر، وفي بعض مسائل الصفات، ويجعلون المخصص هو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع المرادات سواء، وقالوا: إن من شأن الإرادة أن تخصص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب، ولهذا بنوا أصولهم على أن التخصيص بأحد الوقتين لا بد له من مخصص.
ثم كلام أبي الحسين وأمثاله أحذق من كلام هؤلاء من وجه، وأنقص من وجه، فإنه من حيث جعل نفس وجود الحدوث بدلاً عن العدم، مع جواز أن لا يحدث، دليلاً على المقتضي لحدوثه، كلامه أرجح من كلام من جعل الدليل هو التخصيص بوقت دون وقت، فإن نفس الحدوث فيه من التخصيص ما يستغنى به عن نسبة الحادث إلى الأوقات.
وأما كونه أنقص، فإنه متناقص من وجه آخر.
وذلك أنه قال: لو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذا كان حدوثه واجباً، فإنه بعد أن يتجاوز عن أن نفس الحدوث يستلزم المحدث.
ولو قدر واجباً، يقال له: إذا قدرت الحدوث واجباً، فلم لا يجوز أن يكون حدوثه في حال أولى منه في حال أخرى، ويكون واجباً في تلك الحال دون غيرها؟(9/168)
فإن قال: لأن الأحوال مستوية.
قيل له: الأحوال مستوية سواء قدر أن الحدوث واجب أو جائز، فلا بد من مخصص سواء قدر الحدوث واجباً أو جائزاً.
وإن قال: إن الواجب لا يختص بحال دون حال، خلاف الجائز.
قيل: هذا حق فيما وجب بنفسه.
لكن ليس العلم به بأبين من العلم يكون الحادث لا يحدث بنفسه.
بل يحتاج ذلك إلى مزيد بيان وإيضاح أكثر من هذا، لأنه قد تقدم تقريره بأن القديم واجب الوجود في كل حال، فإنه موجود في الأزل، فلا يجوز أن يكون وجوده على طريق الجواز، ولا بالفعل، فتعيين أن يكون واجباً، ولم يقرر أن الواجب لا يختص بوقت دون وقت.
فإن قال: هذا بين معروف بنفسه معلوم بالضرورة.
قيل له: إذا عرضنا على عقول العقلاء: أن الواجب: هل يكون واجباً في وقت دون وقت؟ وأن الحادث: هل يحدث بنفسه كان ردهم لهذا الثاني أعظم من ردهم لذاك، فلا يقرر الأبين بالأخفى.
وأيضاً فهذا أرجح من ذاك من وجه آخر.
وذلك أن الفلاسفة الدهرية الإلهين من المتأخرين، ك ابن سينا وغيره، يقولون: إن الواجب قد يكون قديماً، وهو واجب بغيره.
فالواجب بغيره عندهم قد لا يكون محدثاً، مع كونه مفتقراً إلى مخصص موجب.
فإذا عرف افتقاره إلى موجب، لم يلزم على قولهم أن يكون له محدثاً، ولم يقل أحد من هؤلاء: إن المحدث يكون بغير محدث.
ومن قال هذا، فإنه لا ينكر افتقار المخصص(9/169)
إلى مخصص، فحينئذ فمن أقر بالمحدث أقر بالمخصص من غير عكس، وما دل على المحدث دل على المخصص بالاتفاق، وفي العكس نزاع.
وأيضاً فلو نازعه منازع في أن ما وجب حدوثه يجوز أن يحدث في وقت دون وقت، وقال: هذا كما تقول أنت: إن القادر يخصه بوقت دون وقت، لاحتاج إلى جواب.
فإن قال: القادر له أن يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، كالجائع والهارب.
قال له المعترض: فهذا الترجيح واجب أو جائز؟
فإن قال: واجب.
قال: فلم اختص بوقت دون وقت؟
وإن قال: جائز.
قال: فحدوثه مع جواز أن لا يحدث، يفتقر إلى ترجيح آخر، وإلا لم يكن بالحدوث أولى
وإن قال: العلم بأن الواجب بنفسه لا يختص بزمان دون زمان ضروري.
قال المعترض: والعلم بأن الحادث لا بد له من محدث علم ضروري.
فإن زعم أن هذا ليس بضروري بل نظري، أمكن المعترض أن يقابله ويقول: العلم بأن الواجب لا يختص نظري لا ضروري.
والمقصود هنا التنبيه على أصول هؤلاء التي هي عمدتهم، وعليها بنوا(9/170)
دينهم الحق، وما أدخلوا فيه من البدع، وأن ذلك إما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون حقاً طولوه بما لا ينفع، بل قد يضر، واستدلوا على الجلي بالخفي، بمنزلة من يحد الشيء بما هو أخفى منه.
وإذا كانت الحدود والأدلة إنما يراد بها البيان والتعريف، والدلالة والإرشاد فإذا كان المعروف المعلوم في الفطرة، ويجعل خفياً يستدل عليه بما هو أخفى منه، أو يدفع ويذكر ما هو نقيضه ومخالفه، وكانت هذه طرق السلف والأئمة التي دل عليها الكتاب والسنة، وهي الطرق الفطرية العقلية اليقينية الموافقة للنصوص الإلهية -تبين أن من عارض تلك الطرق الشرعية - معقولها ومنقولها - بمثل هذه الطرق البدعية، بل عدل عنها إليها، كان في ضلال مبين، كما هو الواقع في الوجود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} .
وأما طريق شيوخ المعتزلة، التي ذكرها أبو الحسين وعدل عنها، فهي أبعد وأطول، والأسولة عليها أكثر، كما لا يخفى ذلك، مع أن هذه الطرق لم تتضمن كذباً ولا باطلاً، من جهة أنها إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، أو من جهة أنها قضايا كاذبة، بل من جهة الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه، بخلاف كلامهم في الترجيح بل مرجح، والحدوث بلا سبب، وإبطال دوام الحوادث، فإن منازعيهم يقولون: كلامهم في ذلك(9/171)
من نوع الكذب الباطل، وإن لم يعتمدوا الكذب كسائر المقالات الباطلة.
وهاتان الطريقتان، اللتان ذكرهما أبو الحسين عنه وعن شيوخه، هما اللتان اعتمد عليهما كثير من المثبتين للصفات، الذين استدلوا بطريقة الأعراض والحركات على حدوث الأجسام، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى في المعتمد) ، وغيرهما، فإنهم سلكوا هذه الطريق فأثبتوا وجودها، وأن الأجسام لا تخلو عنها، وأنها لا تبقى زمانين، وأنها محدثة، وأن ما لا يخلو منها فهو محدث، لأن الحوادث لها أول، وأبطلوا وجود ما لا يتناهى مطلقاً، وذكروا النزاع في ذلك مع معمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم، وأثبتوا ذلك بنظير ما تقدم من الحجيج، وقالوا: إن ما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث، وقالوا: إذا ثبت أن ذلك محدث، فلا بد له من محدث أحداثه، وصانع صنعه، خلافاً للملحدة في نفي الصانع.
قالوا: والدلالة عليه أن المحدث لو لم يتعلق بمحدث، لم تتعلق الكتابة(9/172)
بكتاب، ولا الضرب بضارب، لأن ذلك كله يتعذر، إذا استحالة محدث لا محدث له، كاستحالة كتابة لا كاتب لها، فلو جاز وجود محدث لا محدث له، لجاز محدث لا إحداث له، وذلك محال.
وهؤلاء يقولون: المحدث عين الإحداث، فحقيقة قولهم وجود محدث لا إحداث له، وقد جعلوا هنا نفي هذا مقدمة معلومة يحتج بها.
قالوا: وأيضاً فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها بعضاً، ويتأخر بعضها عن بعض، ولولا أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر، لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا، وما تأخر أولى من أن يكون متقدماً، فدل ذلك على أن لها مقدماً محدثاً لها قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر.
ثم لا يخلو ذلك الأمر من أن يكون نفس الحادثات، أو معنى فيه، أو نفسه ولا معنى فيه، أو لجاعل جعله، فيستحيل أن يكون ذلك لنفسه، لأن نفسه هو وجوده، والشيء لا يجوز أن يفعل نفسه، ولا يجوز أن يكون لذلك المعنى، لأن ذلك المعنى لا بد أن يكون موجوداً، إذ المعدوم ليس له تأثير في ذلك، وإذا كان موجوداً فلا يخلو من أن يكون قديماً أو محدثاً، فلا يجوز أن يكون قديماً، لأنه لو كان قديماً لوجب قدم الجسم المحدث، وذلك باطل.
وإن كان محدثاً فلا بد أن يكون متقدماً أو متأخراً، فإن كان كذلك، مع جواز أن لا يكون متقدماً لقدم موجبه، فلا يكون كذلك إلا لمعنى آخر، وذلك المعنى لمعنى آخر إلى غير نهاية.(9/173)
ولا يجوز أن يكون كذلك: لا لنفسه، ولا لمعنى، ولا لأمر، لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون بالوجود في وقت أولى من عدمه وبقائه على عدمه، ولما علو أن اختصاصه بالوجود أولى من عدمه، بطل أن يكون إلا لأمر، وإذا بطلت هذه الأقسام، علم أن هذه الحوادث إنما اختصت في الوجود في أوقات معينة لجاعل جعله، وأراد تقديم أحدهما على الآخر، وتأخر بعضها عن بعض، فثبت ما قلناه.
فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى، ومن سلك هذه الطريقة كأبي محمد بن اللبان، وقبلهما القاضي أبو بكر، وغيرهم: هي من جنس ما تقدم.
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام، بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ذكروا ذلك مسلماً، كأنه بين، وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها، وجعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية، تسوية بين النوع وأشخاصه فيقولون مثلاً إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها: الحوادث لها أول أبتدئت منه، خلافاً لابن الراوندي وغيره من الملحدة.
والدلالة على ذلك علمنا بأن معنى المحدث أنه الموجود عن عدم، ومعنى الحوادث أنها موجودة عن عدم، فلو كان فيها ما لا أول له، لوجب أن يكون قديماً، وذلك فاسد لما بينا من إقامة الدلالة على حدوثها.(9/174)
والجمع بين قولنا: حوادث، وأنه لا أول لها، مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وذلك باطل.
ثم يقولون: وإذا ثبت ما ذكرنا من ثبوت الأعراض وحدوثها، وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها، وجب أن تكون محدثة كهي، لأن الجواهر لا تخلو من أن تكون موجودة معها أو بعدها أو قبلها، فإذا بطل أن تكون الجواهر موجودة قبل الأعراض، وبطل أن توجد بعدها، وجب أن تكون موجودة معها، وثبت حدوثها كحدوث الأعراض.
فهذا الذي يقوله هؤلاء، كالقاضيين ومن وافقهما على ذلك، وهذا لفظ القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ونحوهما.
والمعترض على ذلك يقول إن موضع المنع لم يقيموا عليه حجة، وإنما قالوا: معنى الحوادث أنها موجودة عن عدم، فلو كان فيها ما هو لا أول له، لوجب أن يكون قديماً، وهم لا يقولون فيها ما لا أول له، بل كل حادث له أول عندهم، وإنما يقولون: إن جنسها لا أول له بمعنى أنه لم يزل كل حادث قبله حادث وبعده حادث.
وحينئذ فيقولون: إنه لا مناقضة بين قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها، لأن معنى قولنا: حوادث، أن كل واحد واحد منها حادث منها حادث بعد أن لم يكن، ليس معناه أن جنسها حادث.
والذي لا أول له هو الجنس عندهم، لا كل واحد واحد، فالذي أثبتوا له الحدوث، هو كل واحد واحد من الأعيان، وتلك لم يثبتوا لشيء منها قدماً، ولا قالوا: لا أول لشيء منها، والذي قالوا: لا أول له، بل هو قديم، هو النوع المتعاقب، وذلك لم يقولوا: إنه حادث.(9/175)
ثم إن هؤلاء أيضاً بعد ذلك يقررون ما يدقونه من امتناع حوادث لا أول لها، في ضمن دعواهم امتناع وجود ما لا يتناهى، فيقعدون قاعدة، فبقولون: لا يجوز وجود موجودات لا نهاية لعددها، سواء كانت قديمة أو محدثة، خلافاً لمعمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم من الملحدة، في قولهم: يجوز وجود ذوات محدثة لا نهاية لها، وخلافاً للفلاسفة في قولهم: يجوز وجود جواهر قديمة لا غاية لها 0
ثم يقولون: والدليل على ذلك أن كل جملة من الجمل لو ضممنا إليها خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها زادت، أو نقصت منه خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها قد نقصت.
وإذا كان هذا كذلك وجب أن تكون متناهية، لجواز قبول الزيادة والنقصان استحال أن تكون متناهية، وإذا كان كذلك استحال وجود موجودات غير متناهية، قديمة كانت أو محدثة.
وليس لأحد أن يقول يلزمكم على هذا أن تقولوا: إن معلومات الباري عز وجل أكثر من مقدوراته، لأن جميع مقدوراته معلومة، وله معلومات لا يصح أن تكون مقدورة، وهي ذاته تعالى، وسائر صفاته،(9/176)
وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها، لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين: موجودات ومعدومات، فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية، والمعدومات منها غير متناهية، ولا يصح فيها الزيادة والنقصان.
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، بطل ما قالوه.
فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء، كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم.
وهذه الطريق هي طريق التطبيق، ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل، وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول، التي يقول القائل: إنها تستلزم ما يخالف النصوص.
كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها
كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها
ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة، كما سلكه طوائف، منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشاداً إلى قواطع الأدلة، وجعل أصل الأصول، الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين، التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور، وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام، السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك، وهو مبني على أربعة أركان: إثبات الأعراض، ثم إثبات حدوثها، ثم إثبات لزومها للجسم.
قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها.(9/177)
قال: والاعتناء بهذا الركن حتم، فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة، فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه، فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح، فكل ولد مسبوق بوالد، وكل زرع مسبوق ببذر، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة، فنقول: موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها، ولا غاية لآحادها، على التعاقب في الوجود، وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول، فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها، ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها، وهذا القدر كاف في غرضنا.
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار(9/178)
عليها، حتى أتباع أبي المعالي، كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم.
وهم ينازعونه في قوله: إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول، ويقولون: قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء، الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى، ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم، بل قد يقولون: إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم، وفضلاء الطوائف، لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء، بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبرت به الأنبياء، لكن يقولون: ما زال الله تعالى متكلماً، تكلم بما شاء، أو ما زال فاعلاً، يفعل بنفسه ما شاء، أو ما زال يفعل الحوادث شيئاً بعد شيء، أو نحو ذلك من المقالات، التي يقولون: إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم، وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها.
وأما قدم الأفلاك ودوامها، فهو قول طائفة قليلة، كأرسطو وأتباعه.
وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة، وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك، وقول أرسطو هذا وأتباعه، هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل، فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة، ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة.
وما الأقوال التي قالها الرسل، أو قالت ما يستلزمها، ولم تقل نقيض ذلك، فهذه لا تضاف إلى الملاحدة، بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله، وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال(9/179)
أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار، فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلاً عقلياً، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء، بل قد يكون مناقضاً لها، ولا الدليل دليلاً صحيحاً في العقل بل فاسداً، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء.
فمن خالف هذين كان مخالفاً للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال.
والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث، يقولون: لم يذكر على وجوب تناهيها دليلاً، فإن عمدته قوله: ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها.
وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل: أتريد به الانتهاء، بمعنى أنه لا أول لها؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى؟
أما الانتهاء بالمعنى الثاني، فإنهم لا ينازعون فيه، بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى، لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت، بل يقولون: لم تزل ولا تزال، فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها، وهي لم تنفد ولم تنقطع.
وإن قيل: الماضي قد وجد بخلاف المستقبل.(9/180)
قيل: وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه.
فإن قيل: فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت.
قيل: إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير.
وقيل: إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا انتهاء.
قيل: هب أن هذا يسمى انتهاء، لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه، لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له.
وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى، بل يقولون: كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ.
وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته، وعن نعيم أهل الجنة.
كما قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54] .
وقال: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] وقال: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 33] .
وقال: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109] .
وأما عدم الانتهاء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، فلم يذكر دليلاً على امتناعه.
فإن القائل إذا قال: ما انتفت عنه النهاية، بمعنى أنه لا ابتداء(9/181)
له، يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها.
قيل له: انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها، فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال: إذا انتهت فقد انتهت، وإذا انصرمت فقد انصرمت.
وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن، فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء، بل هذا هو رأس المسألة، وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها، بل المراد انتهاء ما مضى منها، فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه، يمكن أن يقال إن له مبتدأً، ولو كان قديم الجنس لم يعد، فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، سواء كان شخصاً أو نوعاً.
وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل، فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدوداً.
ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال، كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله، مع أنه قد قدر دوام هذا النوع، كما يعلم أن كل واحد منها له أول، مع تقديره أنه لا أول لها، فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم، ولا حدوث ما حدث، وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلاً على انتفاء الآخر، فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث.(9/182)
وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة، وأوردوا سؤالهم.
قالوا: فإن قيل: مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها.
قلنا: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التوالي، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى: ما لا يحصره عدد، ولا يحصيه أمد.
والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض، وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر.
وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج، فليس هو الساعة داخلاً في الوجود، وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج، فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود، وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه، فقد استوى هذا وهذا، في الدخول والخروج، وفي العدم الآن.
لكن دخول هذا وخروجه ماض، ودخول هذا وخروجه مستقبل، وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما، فهما اشتركا فيه، لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان، فما من(9/183)
حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال، فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده، ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله، فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل، وهكذا كل حادث.
وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال، لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله، وكلا الأمرين منتف هنا.
والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا، فإما أن يصحا جميعاً وإما أن يبطلا جميعاً.
ولهذا كان من طرد هذا الدليل، وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات: الجهم بن صفوان إمام الجهمية، وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة، كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي.
وإذا قال القائل: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التعاقب.
قيل له: فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحاداً على التعاقب، لكن لم تدخل بعد، وذاك دخل ثم خرج.
وقوله: يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي، وإن كان اللفظ عاماً فهو خلاف ما سلمه، بل هؤلاء يقولون: يجب أن يدخل(9/184)
في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادراً ثم صار قادراً، أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس.
وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول.
ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم: إن الرب في الأزل لم يكن قادراً ثم صار قادراً، وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام، لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادراً، والقدرة لا تكون إلا على ممكن، فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال.
وقول القائل: من هؤلاء: أنه كان قادراً في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض.
فإنه يقال لهم: حين كان قادراً: هل كان الفعل ممكناً؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم.
فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه: قادر على الفعل.
وأما قوله: إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض.
فيقولون: هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول، وهو كل واحد واحد من الحوادث.
أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية، وهو نوع الحوادث، لم يتناقض كما تقدم.(9/185)
ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي.
قال: وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين.
قالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً.
ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط.
فيقول المعترضون: هذا التمثيل ليس مطابقاً لمسألتنا، فإن قوله: لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك ديناراً إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث.
كما أن قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده ديناراً، أو لا ديناراً إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في(9/186)
قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل، إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك.
فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار، وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه، علم أن ذلك قياس باطل.
وهذا من أعظم أصولهم، أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته، وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته.
وقوله: لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول: ما أعطيتك حتى أعطيتك.
فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل.
وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء.
وحقيقته الجمع بين النقيضين، حتى يجعل الشيء موجوداً معدوماً، كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه، فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده، بل في حال عدمه، فيكون قد جعل موجوداً حال كونه معدوماً، وهذا ممتنع بين الامتناع.
بخلاف قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، فأين هذا من هذا؟(9/187)
وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب، فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، كما إذا قال: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً.
واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا؟ فمنهم من منع ذلك، وقال: هذا مثل أن نقول: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً.
ومنهم من جوز ذلك وقال: ليس هذا مثل هذا الممتنع، ولكن هذا نظير ذلك الجائز، وهو قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث، وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث.
وهذا المعنى هو هذا المعنى، لكن هذا قدم اللفظ بما بعد، وهناك قدم التلفظ بما قبل، وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما.
قالوا: وأما الممتنع فنظيره أن نقول: ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله: لا أعطيك حتى أعطيك، ليس نظيره: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله.
فهنا أصل متفق على جوازه، وأصل متفق على امتناعه، بل أصلان متفق على امتناعهما، وأصل متنازع فيه، هل هو نظير هذا الجائز، أو نظير الممتنعين؟
ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين، كالرازي والآمدي وغيرهما، قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام، ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى، وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى: أن الله خلق السموات(9/188)
والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري، لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له، فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك، معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا، وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث، وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة، حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلاً جهل، أو ربما مالوا أحياناً إلى دين الملاحدة، حتى قد يصنفون في الشرك والسحر، كعبادة الكواكب والأصنام.
وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى، كما دل عليه المنقول والمعقول، فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى، وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به، ليس لهم على ذلك حجة صحيحة: لا عقلية ولا سمعية، بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به.
فإن كان هذا الأصل في المعقول، ولزومه للطوائف، ودلالة الشرع عليه، بهذه القوة، وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعاً وعقلاً، على أقوال المرسلين الثابة شرعاً وعقلاً، أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد -تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد.
ومصداق ذلك أن الرازي -مثلاً- إذا قرر في مثل نهاية العقول(9/189)
وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج، عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك، ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به، كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته.
وإذا كان كذلك، وجب أن تدوم أفعاله بدوامه.
وبينا أيضاً أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل، وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني، وحللنا فيه الشكوك والشبه.
قال: وأيضاً العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود، وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود، يجب أن يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود.
أما الصغرى فقد مضى تقريرها، وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجوداً دائماً، لو كان جائز العدم لكان: إما أن يكون عدمه ممكناً دائماً، أو لا يكون دائماً، فإن لم يكن(9/190)
له إمكان العدم دائماً، كان ذلك الإمكان محدوداً، وإذا تعدى ذلك الحد، وجب فيه وجوده وامتنع عدمه، مع أن الأحوال واحدة، وهذا محال، يبقى أنه إن كان عدمه ممكناً، فهو ممكن العدم دائماً، وكل ما كان ممكناً فإنه إذا فرض موجوداً، أمكن أن يعرض منه كذب، وأما المحال فلا يعرض البتة، إذا فرض معدوماً، لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال، وبيانه هو: أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن، وهو الوجود الدائم، وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائماً، فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن، فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكناً، لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائماً عدمه دائماً، وإلا لكان الشيء، في زمان غير متناه، معدوماً وموجوداً معاً، وهو محال.
نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده، ولكن ذلك العدم غير دائم، بل هو عدم متجدد.
وإذا كان هذا محالاً بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال، فالحكم على ما يمكن وجوده دائماً بأنه جائز العدم محال، فإذاً وجوده واجب، وهو المطلوب.(9/191)
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود، فيجب أن يكون دائم الوجود، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدم.
والمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره، فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه، إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه، لوجب أن يمكن عدمه دائماً، إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال، وإمكان عدمه دائماً ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات، فإنه لو وجب موجوداً في حال بنفسه أو بغيره، لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه، وهو إذا كان موجوداً كان بغيره فيكون واجباً بالغير، فإذا كان موجوداً امتنع -في حال وجوده- أن يمكن عدمه، فإذا قدر أنه ممكن العدم دائماً، بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره، امتنع أن يكون موجوداً في شيء من الأحوال.
والتقدير أنه ممكن الوجود، بل ممكن دوام الوجود.
وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود، فما أمكن وجوده دائماً امتنع عدمه.
ونكته الحجة أن ما أمكن وجوده دائماً، يكون مع وجوده واجباً بغيره، فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده، صار واجباً بغيره، وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده، صار ممتنعاً لغيره، إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده، إذ لو لم يجب معه لكان ممكناً، وإذا كان ممكناً لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح.
وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف المعتزلة، وغيرهم من أهل الكلام.
طائفة يقولون إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا(9/192)
مرجح أصلاً، كما يقول ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين.
وهؤلاء يقولون: عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل، بل يكون جائز الوجود والعدم.
وطائفة من المعتزلة الكرامية يقولون: بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحاً على العدم من غير وجود.
وهذا قول محمود الخوارزمي، وابن الهيصم الكرامي وغيرهما.
والقول الثالث: هو قول طوائف من أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين: أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور.
والقول الذي اختاره محمود يقول أصحابه: إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم، وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب.
وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه.
وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر، ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم.
لكن الناس بينوا فساد قولهم، وذلك أنه إذا حصل مرجح، وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه، فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر.
فإن قيل: جانب الوجود: أقوى أو أضعف؟
قيل: قول القائل: أقوى، يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه، أو لا بد من وجوده.
فإن قال بالثاني: ثبت وجوبه عند المرجح.(9/193)
وإن قال بالأول، قيل له: فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه، فلا بد من ترجيح، وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان: حال يحصل فيها بغير مرجح، وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح.
والممكن ليس له من نفسه وجود أصلاً، بل وجوده ممكن، ولا يحصل إلا بغيره، فكل ما وصف بهذه الحقيقة، يمتنع أن يوجد إلا بغيره، فما دام ممكناً لا يوجد إلا بغيره.
وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل، ويمكن أن لا يفعل، كان فعله ممكناً.
والممكن لا يحصل إلا بغيره.
وإذا قيل: الغير هو القادر، أو القادر المريد، أو نحو ذلك.
قيل: مجرد القادر المريد، إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى، كان ممكناً، فلا بد له من مرجح، وإلا فإذا قدر استوىء الحال من كل وجه فلا يترجح، وإذا لم يكن ترجيح، لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح، وهو ممتنع.
وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث، ومن أئمة الفلاسفة أيضاً، على من صار إليه من أهل الكلام: المعتزلة، والكلابية كالأشعرية، وطائفة من أصحاب أحمد وغيره من الأئمة.
وهو أصل قول ابن كلاب في مسألة القرآن، الذي أنكره عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.
وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم، وقد بسط في موضعه.
وإذا كان الممكن نفسه إما واجباً بغيره، وإما ممتنعاً لغيره، فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره، فيمتنع أن(9/194)
يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه، مع كونه واجب الدوام بغيره، فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه، مع كونه واجب الدوام بغيره.
فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه، امتنع مع وجوده عدمه، وامتنع مع عدمه وجوده، فإنه إذا لم يدم وجوده، لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده، أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال، فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه، فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام، والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال.
والمراد أنه عدم كمال المقتضى، لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء، بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه، وعدم المقتضى في حال دون حال، مع تماثل الأحوال، منتف، وعدمه دائماً يوجب أنه يمتنع وجوده دائماً، والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائماً.
ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم، وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع، ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه، فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد.
فالمنازع لهم من أهل الكلام، من المعتزلة والأشعرية ونحوهم، إما أن يقول: الفعل في الأزل ممتنع، كما قاله طوائف منهم.
وإما أن يقول: هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد، فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد، إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال: الفعل في الأزل: إما ممكن وإما(9/195)
ممتنع، وإذا كان ممكناً، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل.
فالتقدير الأول أنه ممتنع، لاستلزام تسلسل الحوادث.
والثاني أنه وإن قدر إمكانه، لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى، أو قدرته، أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن، أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به.
فمن قال: إن دوام الفعل ممتنع، فقد أبطلوا قوله، كما ذكر.
ومن قال: إنه ممكن، لكن لم يوجد تمام شرطه.
قالوا له: فهو قبل ذلك كان ممتنعاً، ثم صار ممكناً، بل موجوداً مع تساوي الحالين، فيلزم الترجيح بلا مرجح.
وإذا قال: إنه ممكن وما به يحصل موجود.
قالوا: فيلزم وجوده.
ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال: عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها، وقد مضى القول فيه في باب الزمان، فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول.
كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان، ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم، وأبطل ذلك كله، فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية، وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم، وأبطل ذلك كله فركب لهم(9/196)
سبع حجج: أولها: الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان، وما كان كذلك فبه بداية، فللحوادث الماضية بداية.
بيان الأولى بأربعة أوجه.
أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا.
الثانية: أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعاً أو وتراً، وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه.
الثالث: أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري.
الرابع: أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية، فكانت النفوس البشرية غير متناهية، لامتناع التناسخ، فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة(9/197)
والنقصان، فهو متناه.
فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عدداً من عدد النفوس إلى زماننا، وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فالنفوس الموجودة البشرية متناهية، ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات، وتناهي كل العالم.
قال: وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي.
قال: والحجة الثانية: لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية، لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له، وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده، وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي، فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية.
قلت: وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة، وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام.(9/198)
والثالثة: أن كل واحد واحد من الحوادث: إذا كان له أول، وجب أن يكون للكل أول، كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود، وجب أن يكون الكل سوداً.
قلت: وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة.
والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال.
وأمثاله من المعتزلة.
والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال.
وهذا من جنس الثاني.
والخامسة: أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد.
والأول محال، لأن ذلك الحادث يكون مسبوقاً بالعدم، والأزل لا يكون مسبوقاً بالعدم، وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجوداً، فإذاً كل من الحوادث مسبوق بالعدم.
السادسة: أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود، وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، وما حصره الوجود كان متناهياً، فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية.(9/199)
السابعة: أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له، فإذا فرضنا جسماً قديماً، وفرضنا حوادث لا أول لها، لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدماً، لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها، ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أموراً، ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور، فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكماً واحداً.
ثم قال: قالت الفلاسفة: الجواب عما ذكروه أولاً من وجوه ثلاثة.
الأول: المحكوم عليه بالزيادة والنقصان: إما كل الحوادث، وإما كل واحد واحد منهما، والأول محال، لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية، وما لا يكون موجوداً امتنع أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية، من الزيادة والنقصان وغيرهما، لما بينا في باب الوجود: أن ما لا يكون ثابتاً في نفسه، لا يمكن أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية.(9/200)
قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود.
والكلام غير موجود.
وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود.
وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك، بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئاً بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئاً بعد شيء، لا موجود على سبيل الاقتران.
الثاني: أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهياً من جانب، وغير متناه من جانب آخر، فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء، حتى ازداد هذا الجانب، فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر، فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهياً، إلا أن يقال: إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص، فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر.
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق، فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص، إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد، ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبداً، من غير أن ينقطع الناقص، بل يبقى أبداً مع الزائد بتلك الفضلة العددية.
الثالث: معارضة ذلك بأمور أربعة: أولها: صحة حدوث(9/201)
الحوادث من الأزل إلى الطوفان، أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا، مع أنه لا يلزم تناهي الصحة.
وثانيها: صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد، أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد، مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد.
وثالثهما: تضعيف الألف مراراً غير متناهية، أقل من تضعيف الألفين مراراً غير متناهية.
ورابعها: معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية.
قال: والجواب عما ذكروه ثانياً-يعني الحجة الثانية- أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت، وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله، فإن كان الأمر على هذا، فقد وجدنا أمراً معدوماً، ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة، فيبتدي في الوجود من وقت(9/202)
ما اعتبر هذا الاشتراط، فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود، وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له، ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال، فهذا هو نفس المطلوب، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والجواب عما ذكروه ثالثاً أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد، ثبوت الأول للكل، لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفاً لحكم الآحاد، لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة، وكل واحد من الأجزاء ليس بكل، مع أن كلها كل، وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم، مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم، بل نقول: إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساوياً لجزئه من حيث هو جزء، وإلا لم يكن أحدهما كلاً والآخر جزءاً.
وأما المثال الواحد فلا يكفي، لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفاً لحكم الآحاد، حتى يضرنا المثال الواحد، بل نقول: إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون، والأمر فيه موقوف على البرهان.
قال: والجواب عما ذكروه رابعاً أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا، وثبوت النهاية من أحد(9/203)
الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر، والدليل عليه الصحة، فإنه لا بداية لها، مع أنها قد تناهت إلينا، وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها، مع أنها في جانب البداية لها نهاية.
قال: والجواب عما ما ذكروه خامساً وهو قولهم: الأزل هل وجد فيه حادث أم لا؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة، بل هو عبارة عن نفي الأولية، فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم، يمتنع وقوعه في الأزل، فأما قولهم: لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجوداً، فنقول: قد بينا أن الأزل ليس وقتاً مخصوصاً، حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية، فقولنا: الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث، معناه: أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث، أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم، فلم قلتم: إنه لما كان واحد منها مسبوقاً بالعدم، وجب أن يكون الكل كذلك، فإن النزاع ما وقع إلا فيه.
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة، فنقول: صحة(9/204)
حدوث الحوادث: هل كانت حاصلة في الأزل أم لا؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي، وذلك محال، وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول، وهو محال.
ولما لم يكن هذا الكلام قادحاً في أن الصحة لا بداية لها، لم يكن قادحاً في هذه المسألة.
قال: والجواب عما ذكروه سادساً، وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف، ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا، أما لم قلتم: إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا، ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث؟
والجواب عما ذكره سابعاً من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها، فنقول: إن عنيتم به أنه يكون موصوفاً بوجود كل الحوادث، ويكون موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفاً بواحد من تلك(9/205)
الحوادث، فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفاً بعدم ذلك الحادث، حتى يلزم التناقض، بل يكون موصوفاً بعدم سائر الحوادث، والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفاً بالحادث المعين، وبعدم ذلك الحادث معاً، فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفاً بوجوده وبعدم غيره، فأي تناقض فيه؟.
قال: هذا جملة ما قيل في هذه المسألة.
قلت: فهذا كلام الرازي في هذا، مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة، وهو أكبر كتبه في ذلك، إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة، قدح فيه، كما قدح في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، والشيء الواحد لا يكون قابلاً وفاعلاً، ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه، وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم، إذا توجه له تقرير ذلك، فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر.
ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين، كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة، ويرجح ما يترجح له في تلك الحال.
وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم، وعليها(9/206)
بنوا حدوث الجسم، وأبطلها كلها، وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها.
وقد ذكر أيضاً حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه.
والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء، تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب، كان مما تبين لهم فساده، ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة، إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول، فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة، ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة، وليس مما أمر الله به ورسوله، ولا مما يرتضيه عاقل، أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء.
وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم -ولله الحمد- أكمل الناس عقلاً وأتمهم إدراكاً وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة.
ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل، وأصح عقلاً وديناً، ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل.
وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية، وعلى حل ذبائحهم ونسائهم، وإن خالف في ذلك أهل البدع.
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما يكونوا من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث.
فمن كان من المشركين، كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس، كفلاسفة الفرس ونحوهم، فاليهود والنصارى(9/207)
خير منه، ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان: إحداهما: أنهم هل يقرون بالجزية أم لا؟ على قولين.
والثانية: إنه يفصل الأمر فيهم، فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم، وإلا فلا، وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم، ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل، وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل، كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، بناءً على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم، وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل.
لكن جمهور العلماء، ك مالك وأبي حنيفة وأحمد في المنصوص عنه، على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة، التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل، كان شراً ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين.
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب(9/208)
والاختصاص من أهل الكلام، يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام، علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيراً من قول الأنبياء والمرسلين، فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين، مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم باطلة، وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة، لزم الأول.
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم، وقول سلفهم هو قول الأنبياء، لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيراً من قول الأنبياء، فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم، أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء.
وممن كان أقل علماً وإيماناً منهم مال إلى القول الثاني، ومن كان أعظم علماً وإيماناً كان ميله إلى الأول أهون عليه، فإن كفر لا حيلة فيه، اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية، فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة، وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه.
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف.
هم شر من اليهود والنصارى، ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل، فإن أولئك، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء شركوهم في الضلال، ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله، ومن كفرهم(9/209)
الذين يستحقون العقوبة عليه، ما لم نعلمه من حال أولئك.
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء، وأرسل إليهم رسول، فليس هو مثل محمد صلى الله عليه وسلم، بل نعلم قطعاً أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن، ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة كشريعته.
وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية، فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين، مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك، وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار.
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول، ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول، وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول، وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة.
وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول، فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم، كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك، بل يعلمون قطعاً أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل، وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء، ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبداً، ويعلمون أن جنس(9/210)
المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً.
كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام.
كما قال تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} [آل عمران: 75] .
وهم يعلمون مع هذا أن كل من كان مؤمناً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، على الوجه الذي يرضاه الله، فهو خير من كل كتابي.
لكن من المظهرين للإسلام، من المنافقين، من يكون في الآخرة أشد عذاباً من بعض اليهود والنصارى، فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والإسلام الظاهر يتناول المؤمن والمنافق، والسعداء في الآخرة هم المؤمنون دون المنافقين، والمنافقون، وإن أجريت عليهم في الدنيا أحكام الإسلام، فما لهم في الآخرة من خلاق.
فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة
فصل.
أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة
ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام، الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة، وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة.
وذلك من وجوه.
الوجه الأول
أن يقولوا لهؤلاء المتفلسفة: أنتم ادعيتم قدم العالم، بناءً على ما ذكرتموه من قدم الزمان، ووجود دوام فاعلية الله تعالى، ونحو ذلك،(9/211)
مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث، إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها، ما يدل على قدم شيء من العالم: لا السموات التي أخبر الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا غير ذلك.
فيقولون لهم: الحوادث إما أن تكون لها بداية كما قلنا، وإما أنه لا يجب ذلك كما قلتم.
فإن كان الأول بطل قولكم، ولزم أن يكون للحوادث ابتداء، فبطل قولكم بأن حركات الأفلاك أزلية، وهو المطلوب.
وإن كان الثاني، أمكن أ، يكون حدوث الفلك حركاته موقوفاً على حوادث قبل ذلك كالحوادث اليومية، وتلك الحوادث على حوادث أخرى.
وهذا مطابق لما أخبرت به الرسل من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ومطابق للأخبار المتضمنة أنها خلقها من الدخان والبخار الذي حصل من الماء، وذلك كله أسباب حادثة، ومطابق لما أخبر به الله من أنه خالق كل شيء، وليس في حججكم ما يناقض هذا.
الوجه الثاني
أن يقال: دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئاً بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئاً بعد شيء.
وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديماً، فلم قلتم: إن الأمر ليس كذلك، وإن كان ما ذكرتموه صحيحاً؟ وإن كان باطلاً فهو أبعد وأبعد.
فإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال، كان الجواب من وجوه:(9/212)
أحدها: أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث، وحجتكم على ذلك في غاية الفساد.
فإن قلتم: هؤلاء المنازعون لنا من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا.
قيل لهم: هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته، بناءً على امتناع قيام الحوادث به، وإنما منعوا ذلك، لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه، وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم، لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها.
فإن كان هذا القول فاسداً، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك.
فيقولون لكم: هذا الدليل إن كان صحيحاً بطل قولكم، ولزم أن الحوادث لها ابتداء، وإن كان باطلاً بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال، وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده.
غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض، وتقولون: يلزمكم: إما القول بدوام الحوادث، وإما القول بجواز قيامها بالقديم.
فنقول: إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك، وكان في ذلك لنا مصلحتان: إحداهما: موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك.
والثانية: موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين.(9/213)
والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى، فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع، والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه، لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي، ولا كون الجسم قديماً أزلياً، بل يوجبون ذلك كله، ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها.
الوجه الثالث
أن يقال للفلاسفة: ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه.
فإن هذا يقتضى أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث، وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئاً من الحوادث، وذلك لأن الموجب لهذه الحوادث المتعاقبة، إما أن يكون ثابتاً في الأزل أو لا.
فإن كان الأول لزم وجود كل من الحوادث في الأزل، وهو محال، لأن الموجب التام لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه.
وهم يقولون: إن واجب الوجود علة تامة لا يتخلف عنه شيء من معلوله، فإذا كانت هذه الحوادث المتعاقبة معلولة بوسط أو بغير وسط لزم مقارنتها له، لأن العلة التامة يقارنها معلولها، لا يتخلف عنها، وإذا امتنع أن يتخلف عنها معلولها، فما تأخر عنها فليس معلولاً لها، فيلزم أنه لم يحدث شيئاً من الحوادث: لا بوسط ولا بغير وسط.
وقولهم بتسلسل الحوادث لا ينفعهم، والحال هذه، إذا جعلوه علة تامة مستلزمة لمعلولها، لأن التقدير على قولهم: إنه ليس له فعل قائم بذاته متجدد أصلاً: لا خلق ولا استواء ولا غير ذلك.(9/214)
ومعلوم أن الحوادث الحادثة هي مختلفة الأجناس، متعاقبة في الوجود، فالأجناس الحادثة المختلفة، إذا قدر أن حال الفاعل لها لم يزل على حال واحدة، لا يقوم به فعل ولا وصف، بل هو واحد بسيط، امتنع أن يختلف حاله في الإحداث، وأن يحدث شيئاً بعد أن لم يكن أحدثه، كما يقولون هم ذلك، ويجعلونه عمدتهم في قدم العالم، وامتناع أن تحدث عنه الأنواع المختلفة الحادثة شيئاً بعد شيء، وهو في نفسه لم يتجدد له حال ولا فعل، ولا حكم ولا وصف، ولا شيء من الأشياء؟
وهم أنكروا على المتكلمين نفاة الفعل الاختياري القائم به أن يحدث عنه شيء بلا سبب حادث، وقالوا: إن هذا مخالف لصريح العقل.
فيقال لهم: الباطل بعض قولكم، وإذا كان حدوث بعض الحوادث عن هذا ممتنعاً، فحدوث الحوادث المختلفة دائماً عن علة تامة، لم يحدث فيها ولا منها شيء، أعظم امتناعاً من قول هؤلاء.
وأيضاً فالحادث لا يحدث حتى يحصل الفعل التام المحدث له، والممكن لا يحصل حتى يحصل الموجب التام المرجح له، والموجب التام يستلزم موجبه ومقتضاه، فكل من الحوادث الممكنات ما حدث ووجد حتى حصل له الموجب التام، وذلك الموجب التام لا بد له من موجب تام، وهلم جراً.
فيلزم أ، يحصل لكل من الحوادث موجبات تامة لا نهاية لها في آن واحد.
وذلك تسلسل في العلل والمؤثرات، وهو باطل باتفاق العقلاء.(9/215)
وإنما لزم ذلك لأن الحوادث يمتنع حدوثها عن العلة التامة القديمة، فإن العلة التامة القديمة لا يتخلف عنها معلولها، والمحدث يجب أن تكون علته تامة عند حدوثه.
وهم يقولون بكلا القولين، فلزم من هذين القولين أن واجب الوجود لم يحدث شيئاً من الحوادث، وأن الحوادث لا محدث لها.
ويلزم أيضاً وجود علل ومعلولات لا نهاية لها، وفاعلين لا نهاية لهم، وكل ذلك مما يعلمون هم وسائر العقلاء فساده، ولا مخلص لهم عن هذا إلا بأن يقولوا بأن واجب الوجود تقوم به الأفعال الاختيارية المقدورة له، وتقوم به الصفات.
وإذا قالوا ذلك بطل قولهم بنفي الصفات ووجوب قدم الأفلاك.
فعلم أن ما ذكروه من الحجج الصحيحة الدالة على دوام فاعلية الرب، ودوام الحدوث، يدل على نقيض قولهم في أفعال الرب تعالى وصفاته، وعلى ضد قولهم في قدم العالم، وتوحيد واجب الوجود، وهذا هو المطلوب، وقد بسط ما يتعلق بهذا الكلام في موضع آخر.
والمقصود هنا التنبيه على أن كل ما تقيمه كل طائفة من الناس من الحجج العقلية التي لا مطعن فيها، فإنها إنما تدل على موافقة الكتب والسنة، وإبطال ما خالف ذلك من أقوال أهل البدع، متكلمهم ومتفلسفهم، والله سبحانه أعلم.
ومما يوضح هذا أن عمدة الحجة المتقدمة في دوام فاعليته من جنس الحجة المتقدمة لمن منع حدوث الأفعال القائمة به، حيث قالوا: إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن ذاته كافية في حصولها أو لا حصولها،(9/216)
وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقتضي إمكانه، فيلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة.
وهكذا قال القائلون بقدم الفعل قالوا: ذاته إما أن تكون كافية فيه، وإما أن تكون متوقفة على غيره.
فإن كانت كافية فيه، لزم قدم الفعل لوجود موجبه التام في الأزل، وإن لم تكن كافية فيه، لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقتضي إمكانه، وهذا هو الذي يعتمدون عليه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: هذا يبطل قولكم ويرد عليكم في جميع الحوادث، فإن ذاته إن كانت كافية في حدوث الحوادث، لزم قدمها، وهو ممتنع.
وإن لم تكن كافية، لزم توقف الحوادث على غير ذاته.
ثم ذلك الشرط في حدوث الحوادث: إن كانت ذاته كافية فيه، لزم قدمه، وإلا فالقول فيه كالقول في الحادث المشروط.
ومهما قدر من الممكنات أمكن أن يقال: حدوثه موقوف على حادث قبله، كما علم حدوثه من المحدثات.
وإذا قالوا: مبدأ الحدوث هو حركة الفلك، والحركة لذاتها تتجدد شيئاً بعد شيء، وسبب ذلك تجدد التصورات والإرادات.
قيل: هذا بعينه يبطل حجتكم، فإن هذا الذي هو كذاته يتجدد شيئاً بعد شيء، لو كان ذات واجب الوجود وحده كافية في وجوده، لزم مقارنته له في الأزل، وهو ممتنع.
فعلم أن ذاته لا تكفي في وجود شيء منه، بل كل منه مشروط بما قبله، وذاته لا توجب شيئاً من الشروط.(9/217)
وإذا قيل: الذات أوجبت وجوده متعاقباً دائماً، لزم أن يكون الواحد البسيط القديم، الذي لا صفة له ولا فعل، يوجب لذاته أموراً منفصلة عنه متعاقبة مختلفة، سواء كان بواسطة لازمة له أو بغير واسطة.
وهذا مع أنه باطل في ضرورة العقل، فإنه ينقض أصولهم في تناسب الموجب والموجب، ولزوم المعلول للعلة التامة، وأن الواجب علة تامة.
ومن المعلوم بصريح العقل أن المعلول الموجب إذا كان حادثاً شيئاً فشيئاً، فلا بد من حدوث أمر في علته الموجبة اقتضت ذلك، وإلا فالعلة موجبة إذا كانت عند الحادث الثاني كما كانت عند الحادث الأول، كان تخصيصها للأول بالتقدم تخصيصاً بلا مخصص، وكان ترجيح الأول ترجيحاً الأول ترجيحاً بلا مرجح.
وأيضاً فيمتنع أن تكون الحركات الحادثة شيئاً بعد شيء معلول علة تامة قديمة أزلية يقارنها معلولها، فإن العلة الأزلية التامة يقارنها معلولها، والحركات الحادثة شيئاً فشيئاً ليس شيء منها مقارناً للعلة، فامتنع أن يكون معلولاً لها.
وهذا بخلاف ما إذا كان الفاعل يحدث أفعاله القائمة به شيئاً بعد شيء، فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها، فلا يمتنع أن تكون مستلزمة لدوام الفعل.
وأما المفعولات فكلها ممكنة، ليس فيها واجب بنفسه، فامتنع أن يكون فيها ما يوجب الفعل الدائم، بل ذلك مستند إلى الواجب بنفسه.
الثاني: أن يقال: هذا إنما يصح فيما كان لازماً لنفسه في النفي والإثبات.
أما ما كان موقوفاً على مشيئته وقدرته كأفعاله، فإنه يكون إذا شاءه الله، ولا يكون إذا لم يشأه.
وهم لا يمكنهم إقامة الدليل على أنه(9/218)
لا يتعلق بمشيئته وقدرته إلا ببيان أنه لازم لذاته، ولا يمكنهم بيان أنه لازم لذاته إلا بنفي مشيئته وقدرته، فلا تصح حجتهم.
فإن قالوا: فتلك الأمور التي يقف عليها الفعل إن كانت قديمة لزم قدمه، وإلا فلا بد لحدوثها من سبب.
قيل: هذا غايته أنه يجب التسلسل في الشروط والآثار، وذلك جائز عندكم.
ثم نقول إن كان التسلسل في الشروط جائزاً بطل هذا السؤال، لجواز تسلسل الشروط، وإن كان ممتنعاً، بطل أيضاً، لوجوب كون جنس الحوادث مسبوقاً بالعدم.
والثالث: أن يقال: أتعني بقولك: ذاته كافية: أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل، أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده؟ فإنه عنيت الأول انتفض عليك بالمفعولات الحادثة، فإنه يلزمك إما قدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل، إذا كان ما لا تكفي فيه الذات مفتقراً إلى سبب منفصل.
وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذا كان ما تكفي فيه الذات يمكن تأخره.
الرابع: أن يقال: قولك: يفتقر إلى سبب منفصل: أتعني به سبباً يكون من فعل الله، أو سبباً لا يكون من فعله؟
أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره، فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب، وفاعلها يحدث بها، فهو فاعل الجميع وليس مفتقراً في فعل إلى غيره، إلا أن يعنى به أنه لا يحصل أحد فعليه إلا بشرط فعله الآخر.
وهذا ليس فيه(9/219)
افتقار إلى غيره.
ومن سمى هذا افتقاراً إلى غيره، فهو بمنزلة من قال: إنه يفتقر إلى صفته.
وقد ذكر غير مرة أن هذا بمنزلة قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه.
وهذا إذا أطلق لا ينافي ما وجب له من الغنى بل هذا الغنى الذي لا يتصور غيره.
وإن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله، لزمك أن كل ما لا تكفي الذات فيه، ولا هو لازم لها في الأزل، لا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مفعولاته.
وهذا مع أنه باطل بالإجماع الذي توافقون عليه أهل الملل، فبطلانه معلوم بصريح العقل، كما تقدم بيان بطلانه.
الخامس: أن يقال ما تعني بقولك: ذاته كافية في ذلك؟ أتعني به بالذات المجردة عن فعل يقوم بها؟ أم تعني به الذات الموصوفة بقيام الفعل بها؟ وأيهما عنيت بطل قولك.
فإن عنيت الأول لزم أن تكون الذات المجردة عن الفعل القائم بها تفعل أموراً مختلفة متعاقبة، مع أن حالها مع فعل الشيء هو حالها مع فعل خلافه، ومع أن حالها بالنسبة إلى وجود المفعول وعدمه سواء، وهذا باطل.
ثم يقال: إن جاز أن يكون هذا صحيحاً، جاز أن يكون حالها قبل الفعل وحين الفعل سواء.
فيمكن قول القائل بأن الحوادث لها أول، وإن(9/220)
لم يجز أن يكون صحيحاً، بطل قولهم بأن الحوادث تصدر بواسطة أو بغير واسطة عن ذات لم يقم بها فعل.
وإن عنيت الثاني، فالذات الموصوفة بقيام الفعل بها، إذا قيل: هي كافية في المفعولات لم يلزم قدم المفعولات، لأنها مشروطة بالفعل، ولا يلزم من ذلك افتقارها إلى غيرها، لأن فعلها الذي هو شرط في المفعولات من لوازم ذاتها، كما أن صفاتها من لوازم ذاتها.
لكن قد يكون اللازم نوعاً، كالفعل المتعاقب، وقد يكون عيناً كالحياة التي لم تزل ولا تزال.
وهذه الحجة هي التي يعتمد عليها أولوهم وآخروهم، لكن يصرفون ألفاظها ومعانيها.
كلام السهرودي المقتول في "التلويحات"
كلام السهرودي المقتول في التلويحات
وذلك كقول السهروري المقتول في تلويحاته، فإنه قال: واجب الوجود لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن، فإنه إن كان المرجح هو نفسه، أو على ما أخذ من صفاته، وهو دائم، فيجب دوام الترجيح، ودوام وجود المعلول، وإن لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي في فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف.
فواجب الوجود لا تسنح له إرادة، وحال كل ما يتجدد حال ما لأجله التجدد في استدعاء مرجح حادث، وليس قبل جميع الوجود(9/221)
وقت يتوقف عليه الفعل، ولا يمتاز في العدم البحث حال يكون الأولى به أن يصدر عنه شيء، أو بالشيء أن يحصل عنه، فلو حصل فيه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته، ولتسلسل الحوادث فيها إلى غير النهاية وهو محال، ففعله دائم.
الرد عليه من وجوه. الوجه الأول
الرد عليه من وجوه.
الوجه الأول
وجواب هذا من وجوه.
الوجه الأول
أن يقال له: ما تعني بقولك: لا يصدر عنه بعد أن لم يكن؟
إن عنيت له أنه لا يصدر عنه شيء من أعيان الحوادث بعد أن لم يكن ذلك المحدث، فهذا باطل لوجهين:
أحدهما: أن هذا خلاف قولكم وقول أهل الملل.
فإن الحوادث متجددة شيئاً بعد شيء، سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة.
وإذا قلتم: الحركة هي السبب فيها، فكل جزء من أجزاء الحركة صادر عنه بعد أن لم يكن.
الثاني: أن ما ذكرته من الحجة لا ينفي ذلك، فإن كون ذاته تقتضي دوام الترجيح، لا يوجب أن تقتضي دوام ترجيح كل ممكن ولا كل مفعول، بل يكفي أن توجب دوام ترجيح أمر ما، كما تقولون أنتم: إن الذي رجحه هو الأفلاك والعناصر، دون أعيان الحوادث.(9/222)
وإن عنيت أنه لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن شيء من الأشياء صادراً عنه، وهذا هو مراده.
فيقال: غاية ما في هذا دوام فعله.
وحينئذ فهذا لا يستلزم دوام المفعول المعين، لا الفلك ولا غيره بل يجوز تعاقب الأفعال القائمة به، وتعاقب المفعولات المحدثة شيئاً بعد شيء، على قولك، وتعاقبها جميعاً.
وعلى التقديرات الثلاثة، فحدوث الأفلاك ممكن، فيبطل استدلالك على قدمها.
الوجه الثاني
أن يقال: حدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئاً بعد شيء من غير فعل يقوم به: إما أن يكون ممكناً، وإما ألا يكون.
فإن لم يكن ممكناً بطل قولكم، بأن سبب الحوادث هو حركات الفلك.
وإن كان ممكناً أمكن حدوث حوادث متعاقبة، الفلك واحد منها.
كما أخبرت بذلك الأنبياء، وهو قول قدماء الفلاسفة وأساطينهم.
الوجه الثالث
أن يقال: دوام حدوث الحوادث إما أن يكون ممتنعاً، أو ممكناً، كما ذكرت.
فإن كان ممتنعاً لزم حدوث الأجسام وحركاتها، ودخل في ذلك الفلك وغيره.
وإن كان ممكناً، لم يجب أن يكون الفلك دائماً، بل يجوز أن يكون حادثاً بعد حوادث قبله كما تقدم.
الوجه الرابع
أن يقال: قولكم: إما أن يكون المرجح نفسه، أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم، فيجب دوام الترجيح، ودوام وجود المعلول.
وإن لم يفعل، ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي.
لأهل الملل هنا جوابان:(9/223)
أحدهما: قول من يقول: إنه لم يزل يقوم به الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، وعلى هذا فيمكن دوام الترجيح، ولا يجب قدم شيء من المفعولات، فضلاً عن قدم الأفلاك.
والجواب الثاني: قول من يقول: يمتنع وجود المفعول في الأزل.
وعلى هذا، فإذا قلت لهؤلاء: إذا قلتم: لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف.
قالوا: فعل واجب الوجود لما فعله من المفعولات المختلفة الحادثة: إما أن يجوز صدوره عنه من غير فعل قائم به، وإما ألا يجوز.
فإن لم يجز ذلك بطل قولك.
وإن جاز ذلك فحاله حين حدوث الطوفان كحاله حين إرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد وجد منه في أحد الزمانين من المفعولات ما لا يوجد في الزمان الآخر، مع تماثل حاله بالنسبة إلى الزمانين.
وإذا قيل: إن ذلك لأجل الحوادث المختلفة، كالحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية.
قيل: الكلام في الحوادث التي أوجبت حدوث الطوفان، كالقول في الحوادث حين المبعث وغيره من الحوادث المختلفة.
فإذا كان الفاعل حاله مماثل في جميع الأزمنة، واللوازم عنه كذلك، كان اختصاص أحد الزمانين بما يخالف الزمان الآخر ترجيحاً بلا مرجح.
فإن كان ذلك جائزاً، جاز أن تحدث عنه الحوادث بعد أن لم تكن.(9/224)
وإذا نسبت الحوادث إلى الحركة الفلكية.
قيل: إن كانت الحركة الدائمة متماثلة لزم تماثل الحوادث، وإن كان مختلفة كان قد اختص أحد الزمانين بما لم يوجد في الزمان الآخر.
بل قد يقال: الفاعل إن قيل: إنه يلزمه مفعولات مختلفة دائمة متعاقبة من غير فعل يقوم به، ولا صفة له، كان كذلك أبعد في العقل من أن يقال: إنه فعل مفعولات مختلفة في وقت دون وقت، فإن هذا بعض ذاك، فكان المحذور الذي هو في هذا هو في ذاك وزيادة.
الوجه الخامس
أن يقال: قولك: وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف.
غايته أنه يستلزم امتناع كونه صار فاعلاً بعد أن لم يكن، وهذا لازم لك.
لكن نقول: لم قلت: إنه لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء؟
فإن قلت: هذا يستلزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث شيئاً بعد شيء جائز عندكم.
فبتقدير أنه لا يزال يفعل شيئاً بعد شيء كان كل ما سواه حادثاً مع التسلسل الجائز، وذلك جائز عندك.
وهو موجب دليلك.
فإن كان باطلاً بطل مذهبك.
وإن كان حقاً، فيقال: ما المانع أن يفعل ما لم يكن فاعلاً لحدوث حادث، وذلك موقوف على حادث آخر لا إلى نهاية، وتكون تلك الحوادث صادرة عنه؟
ثم يقال: إما أن يكون كل ما حدث يجوز حدوثه بلا فعل يقوم به، أو لا بد من فعل يقوم به.
وعلى التقديرين لا يلزم صحة قولك.(9/225)
فإن قلت: مقصودي أنه لم يزل فاعلاً وقد حصل، قيل: لا يلزم أن يكون فاعلاً لمعقول معين.
بل ولا يلزم أن يكون هو الفاعل على قولك.
فإنك تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أمر يحدث فيه ومنه، وعندك يحدث الحادث المخالف لما قبله كالطوفان وغيره، من غير أن يحدث منه ما لم يكن حدث قبل ذلك، فأنت تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أن يحدث منه شيء يخص حادثاً من الحوادث.
الوجه السادس
أن يقال: قولك: لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته، وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال، ففعله دائم.
جوابه أن يقال: حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته، وإما أن لا يقف.
فإن لم يقف بطل قولك: لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته، وتسلسلت فيها الحوادث.
فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته، فلا يكون حدوث الحوادث مستلزماً لحدوث شيء في ذاته.
وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفاً على حدوث شيء في ذاته، لم يكن في ذلك بمحذور، فإن حدوث الحوادث مشهودة، وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى، ولكن أحدث امتناعه مسلماً.
وتسميتك لذلك تغيراً ليس بحجة عقلية، فإن لفظ التغير مشترك، وهنا لا يراد به الاستحالة، بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك، وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك، بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيراً بهذا الاعتبار، وتجوز على القديم أن يكون محلاً للحوادث.(9/226)
وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان:
أحدهما: التسلسل في الفعل مطلقاً.
والثاني: التسلسل في فعل شيء معين.
فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئاً من الأشياء أصلاً حتى يحدث شيئاً، فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق، ولا يفعل حتى يفعل، ولا يحدث حتى يحدث، وهذا ممتنع بالضرورة.
وهذا في حقيقة دور وليس بتسلسل، فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء، فيلزم الجمع بين النقيضين، فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد، لزم أن يكون معدوماً موجوداً.
وأما إذا قيل: لا يفعل شيئاً إلا بشرط يقارنه، ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه، فهذا التسلسل في تمام التأثير، وليس بتسلسل أمور متعاقبة، وهذا هو التسلسل في تمام التأثير، والأول تسلسل في أصل التأثير، وكلاهما ممتنع.
والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل: إذا لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث شيء: إما قدرة، وإما إرادة، وإما علم، وإما أمر من الأمور.
ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول.
فإن هذا الثاني أيضاً لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثاً معه، فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجوداً حين التأثير، لا يكفي وجوده قبله.
وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين:
أحدهما: أن يقال لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، ولا يفعل شيئاً(9/227)
حتى يفعل شيئاً.
فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع.
والثاني: أن يقال: لا يحدث مفعولاً إلا بحدوث قدرة، أو إرادة، أو علم أو نحو ذلك.
ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه، فيلزم أن لا يحدث شيئاً، فإن هذا تسلسل في تمام التأثير.
والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين، فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثراً إلا عن مؤثر، ولا يؤثر إلا عن مؤثر، وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها، فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلاً إلا بوجود أمر، ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر، إلى غير غاية.
فهذا أيضاً ممتنع باتفاق العقلاء.
وأما إذا قيل لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر، ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر، فهذا فيه النزاع المشهور، وهو تسلسل الآثار المعينة، لا تسلسل في أصل التأثير، فيجب تصور الفرق بين الأمرين.
وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ حكمة الإشراق وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده، ولم يقلد فيه المشائين، بل بين فيه خطأهم في مواضع، وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند.
كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ الحكمة المشرقية ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده، وكذلك الرازي في المباحث المشرقية.
كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق"
كلام السهرودي المقتول في حكمة الإشراق
فقال السهروردي: نور الأنوار والأنوار القاهرة يعني واجب(9/228)
الوجود والعقول: لا يحصل منهم شيء بعد أن لم يحصل، إلا على ما سنذكره، فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء، إذا وجد ذلك الشيء، وجب أن يوجد، وإلا هو مما لا يتصور وجوده أو توقف على غيره، فما كان هو الذي يتوقف عليه، وقد فرض أن التوقف عليه، وهو محال.
وكل ما سوى نور الأنوار لما كان منه، فلا يتوقف على غيره، كما يتوقف شيء من أفعالنا على وقت، أو زوال مانع، أو وجود شرط، فإن لهذه مدخلاً في أفعالنا، ولا وقت مع نور الأنوار متقدم على جميع ما عدا نور الأنوار، فإن نفس الوقت أيضاً من الأشياء التي هي غير نور الأنوار، فلما كان نور الأنوار، وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة، فيدوم بدوامه ما فيه، لعدم توقفه على أمر منتظر، ولا يمكن في العدم البحث قرض تجدد، مع أن كل ما تجدد يعود الكلام إليه.
فنور الأنوار والأنوار القاهرة: ظلالها وأضواؤها المجردة دائمة، وقد علمت أن الشعاع المحسوس هو من النير، لا النير من الشعاع، وكلما يدوم النير الأعظم يدوم الشعاع، مع أنه منه.(9/229)
ثم قال: كل هيئة أي عرض لا يتصور ثباتها هي الحركة، وكل ما لم يكن زماناً ثم حصل فهو حادث، وكل حادث إذا حدث شيء مما يتوقف عليه هو حادث، إذ لا يقتضي الحادث وجود نفسه، إذ لا بد من مرجح في جميع الممكنات، ثم مرجحه، إن دام مع جميع ما له مدخل في الترجيح، لدام الشيء، فلم يكن حادثاً، ولما كان حادثاً، فشيء مما يتوقف عليه هذا الحادث حادث.
ويعود الكلام إلى ذلك الشيء، فلا بد من التسلسل، والسلسلة الغير المتناهية مجتمعة وجودها محال، فلا بد من سلسلة غير متناهية لا تجمع آحادها ولا تنقطع، وإلا يعود الكلام إلى أول حادث بعد الانقطاع، فينبغي أن يكون الوجود حادث متجدد لا ينقطع، وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة.
وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة، وأنها حركة الأفلاك.
الرد عليه من وجوه. الوجه الأول
الرد عليه من وجوه.
الوجه الأول
فيقال له عن هذا أجوبة:(9/230)
أن يقال: كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد، إلى قوله: وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره.
إلى آخره.
ما تعني بقولك: ما كان من نور الأنوار؟ تعني: الله، فلا يتوقف على غيره؟ أتعني به: أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله؟ أم تعني به: لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته؟
أما الأول: فلا ينفعك، لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله، أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته، وحينئذ فلا يلزم قدمه، بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثاً، فالمعلق به أولى أن يكون حادثاً، فإنه لا يكون قبله، وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثاً.
وإن قلت: إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، فهذا محل النزاع.
وأنت لم تذكر دليلاً على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل، وتوقف المعلول على اقتضاء العلة، والعلة شيء، واقتضاؤها المعلول شيء.
وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة، لم يحصل المشروط قبل الشرط، وأنت لم تقم دليلاً إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط، بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها، ومعلول معلولها، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلاً، وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة.(9/231)
الوجه الثاني
أن يقال: ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره، أم لا؟
فإن قلت بالثاني، لزم قدم جميع الممكنات الموجودة، حتى الحوادث، وهو مكابرة.
وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك: ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره.
وإيضاح ذلك:
الوجه الثالث
وهو أن يقال: إذا قدر الغير الذي هو شرط، هو من الله أيضاً، وتوقف أحد الفعلين على الآخر لم يكن في ذلك محذور.
فإن الله جعل بعض الأشياء شرطاً في وجود بعض، غاية ما في هذا أن يقال: هذا يقتضي التسلسل.
فيقال: وهذا عندك جائز، فلا يتعين قدم شيء من الأفلاك ولا غيرها.
الوجه الرابع
أن يقال: إن كان التسلسل باطلاً بطل مذهبك، وإن كان جائزاً بطلت حجتك.
الوجه الخامس
أن يقال أنت وقد أوجبت التسلسل في الحوادث بإيجاب حركة دائمة لا تنقطع، وقلت أيضاً: فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة، فيدوم بدوامه ما منه لعدم توقفه على أمر منتظر.
وإذا كان قولك وقول إخوانك يتضمن هذا وهذا، فيقال لكم: الحركة الدائمة إما أن تكون منه بواسطة أو بغير واسطة، وإما أن لا تكون منه، فإن لم تكن منه لزم حدوث الحوادث بدون واجب الوجود، وهذا هو القول بحدوث الحوادث بلا محدث، وإن كانت الحركة منه بواسطة أو بغير واسطة، وهو قولهم.(9/232)
فيقال: فحينئذ قد كان منه ما لا يدوم بدوامه، فإن كل جزء من أجزاء الحركة حادث، وعندكم أنه حدث عن تصور حادث وشوق حادث، فهذه أمور من واجب الوجود وليست دائمة بدوامه، فهذا ينقض قولكم: إن كل ما منه يدوم بدوامه.
ثم أيضاً من المعلوم أن كل واحد من الحوادث منه بواسطة أو غير واسطة، وهو كان بعد أن لم يكن، ويعدم بعد أن كان فهو منه، وليس مقارناً له، ولا دائماً بدوامه.
فعلم بذلك أنه لا يجب في كل ما كان منه أن يدوم بدوامه، فلا يجب في الفلك وغيره من الأعيان المشهودة أن تدوم بدوامه، وهو المطلوب.
وإذا قال: الذي يدوم بدوامه هو جنس الأفعال والمفعولات أو جنس الحوادث شيء بعينه.
قيل: فهذا يبطل حجتك على قدم شيء بعينه، ويناقض مذهبك في قدم شيء بعينه.
كلام ابن سينا في الإشارات
وقال ابن سينا: في إشاراته في ذكر هذه الحجة: تنبيه: وجود المعلول يتعلق بالعلة، من حيث هي على الحال التي بها تكون علة، من طبيعة أو إرادة أو غير ذلك أيضاً، من أمور يحتاج أن تكون من الخارج، ولها مدخل في تتميم كون العلة بالفعل، مثل الآلة:(9/233)
كحاجة النجار إلى القدوم، أو المادة: كحاجة النجار إلى الخشب، أو المعادن: كحاجة النشار إلى نشار آخر، أو وقت: كحاجة الآدمي إلى الصيف، أو الداعي: كحاجة الآكل إلى الجوع، أو زوال مانع: كحاجة الغسال إلى زوال الدجن.
وعدم المعلول يتعلق بعدم كون العلة على الحالة التي هي بها علة بالفعل، سواء كان ذاتها موجوداً على غير تلك الحالة أو لم يكن موجوداً أصلاً، فإذا لم يكن شيء معوق من خارج، وكان الفاعل بذاته موجوداً، ولكن ليس لذاته علة، توقف وجود المعلول على وجود الحالة المذكورة، التي إذا وجدت كانت طبيعة، أو إرادة جازمة، أو غير ذلك -وجب وجود المعلول.
وإن لم توجد وجب(9/234)
عدمه، وأيهما فرض أبداً كان ما بإزائه أبداً، أو وقتاً ما، كان وقتاً ما.
وإذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال في كل شيء، وله معلول، لم يبعد أن يجب عنه سروراً، فإن لم يسم هذا مفعولاً، بسبب أن لم يتقدمه عدم، فلا مضايقة في الأسماء بعد ظهور المعنى.
تعليق ابن تيمية
فيقال له: هذا كلام مقدر على شيء مضمونه: أن العلة التامة التي لا يقف اقتضاؤها على أمر منفصل عنها، يلزم من وجودها وجود معلولها بجلاء، بخلاف ما يتوقف اقتضاؤها على أمور منفصلة، كالآلة والمادة والداعي وغير ذلك، وأنه إذا فرض شيء متشابه الحال في كل شيء وله معلول، لم يبعد عنه سرمداً.
لكن الشأن في تحقيق هذا المقدر، فإنه يقال لك: هذا غايته أن يكون إبطالاً لقول من يجعل الرب خالقاً للعالم، من غير حدوث سبب أصلاً.
وهذا قول طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى الملل، وليس هذا قول أئمة أهل الملل وجمهورهم القائلين بأن الله خالق كل شيء، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام.
وإذا كان كذلك فهؤلاء يلزموك ويقولون: هذه العلة الموصوفة هل يجوز أن يصدر عنها -بوسط أو بغير وسط- أمور مختلفة حادثة أو لا يجوز؟
فإن لم تجوز ذلك بطل قولك، ولزم أن لا يكون للحوادث فاعل، وهو معدوم الفساد بالضرورة.
وإن جوزت ذلك، قيل لك: فإذا كان الفاعل واحداً بسيطاً(9/235)
موجوداً، لا يتوقف فعله على شيء خارج عنه، فلم وجدت عنه المختلفات؟ ولم تأخرت عنه الحوادث؟ فما كان جوابك عن هذا، كان جواباً لهم عن الحوادث، وأولى.
وأما من قال: إن الواجب بنفسه تقوم به الأفعال المتعلقة بقدرته ومشيئته.
فيقولون: حدوث ما حدث يتوقف على تلك الأفعال موقوفة على ما قبلها، فإن التسلسل جائز عندك.
ثم يقال: إما أن يكون التسلسل جائزاً، وإما أن لا يكون.
فإن كان جائزاً، أمكن أن تتسلسل الأفعال التي يقف عليها وجود تلك المفعولات.
وإن لم يكن جائزاً لزم حدوث جنس المحدثات، ويبطل القول بحوادث لا أول لها، وهو نقيض قولكم.
وأيضاً قوله: إذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال لا يخلو: إما أن يجوز أن تصدر عنه الأمور المختلفة الحادثة بوسط أو بغير وسط، وإما أن لا يجوز.
فإن لم يجز ذلك لزم أن لا تكون هذه الحوادث صادرة عن علة بسيطة، لا بوسط ولا بغير وسط.
وهذا يبطل قولهم.
وحينئذ فإما أن يقال: إن هذه الحوادث لا محدث لها، وهو معلوم الفساد بالضرورة.
وإما أن يقال: ليس المحدث مجرداً عن الصفات والأفعال، بل له صفات وأفعال، كما يقوله المسلمون، وهو الحق.
وإن جاز أن تصدر المختلفات والمحدثات عن بسيط، أمكن أن يحدث عنه ما لم يكن حادثاً عنه، وحينئذ فلا يلزم أن يكون معلولاً له لازماً له.
كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرح هذا الكلام.
اعلم أن الغرض من هذا(9/236)
الفصل التنبيه على الحجة لا يزال القائلون بالقدم يتمسكون بها ويعولون عليها، وهي أن الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري تعالى في العالم، إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون، والثاني باطل، إذ لو كان شيء منها حادثاً لافتقر حدوثه إلى المؤثر.
والكلام في كونه مؤثراً في ذلك الآخر، كالكلام في الأول، فيلزم التسلسل وهو محال.
فإذاً كل الأمور المعتبرة في مؤثرية الله تعالى في العالم أزلية.
وأيضاً فمن الظاهر أن المؤثر متى حصل مستجمعاً جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية، وجب أن يترتب الأثر عليه، لأنه إن جاز تخلف الأثر عنه، كان صدور الأثر عن العلة المستجمعة لجميع تلك الأمور المعتبرة في المؤثرية، ولا صدور عنها على السواء.
ولو كان كذلك لما ترجح الصدور على أن لا صدور إلا بمرجح آخر.
فلم تكن جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية حاصلاً قبل حصول هذا الزائد، وكنا قد قد فرضنا أن الأمر كذلك، هذا خلف.
قال: وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري قد أفعاله، هذا تحرير هذه الحجة.(9/237)
قال: ولقائل أن يقول: هذا الكلام إنما يلزم في الموجب بالذات، أما الفاعل المختار فلا، لاحتمال أنه يقال: إنه كان في الأزل مريداً لإحداث العالم في وقت دون وقت، فإذا قالوا: فلم أراد إحداثه في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده؟ كان الكلام فيه طويلاً، وهو مذكور في سائر كتبنا على الاستقصاء.
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الجواب الذي أجاب به هو جواب كثير من أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم.
وقد عرف الطعن في هذا الجواب، وأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح، وأن ما ذكر في القسم الأول هو حصول الموثرية التامة في الأزل مع تأخر الأثر، وأن مضمونه تخلف الشيء عن موجبه التام، كما قد بسط في موضعه.
الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول
الجواب عن هذه الحجة بوجوه.
الوجه الأول
قوله: يلزم التسلسل وهو محال ليس كذلك، فإن التسلسل جائز عند من يقول بموجب هذه الحجة، فإن ذلك تسلسل في الآثار لا في المؤثرات، ولا يصح القول بموجبها إلا بذلك، فقولهم: التسلسل محال، باطل على أصلهم.
وهذا الموضع مما يشتبه على كثير من الناس، فإن التسلسل في الآثار: تارة يعني به التسلسل في أعيان الآثار، مثل كونه فاعلاً لهذا بعد هذا، ولهذا بعد هذا، وأنه لا يفعل هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا، وهلم جراً.
فهذا التسلسل جائز عند الفلاسفة، وعند أئمة أهل الملل، أهل السنة والحديث.(9/238)
وعلى هذا التقدير، فقول القائل، فقول القائل: الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري في العالم: إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون.
أتريد به التي يتم بها مؤثريته في كل واحد واحد من آحاد العالم؟ أو في جملة العالم؟
إن إردت الأول، لم تكن بأسرها أزلية، وكان حدوث كل واحد منها مفتقراً إلى حادث قبله.
وهذا التسلسل جائز عندهم.
وإن أردت الثاني، قيل لك: ليس جملة العالم متوقفاً على أمور معينة، حتى يرد عليها هذا التقسيم، بل بعض العالم يتوقف على أمور، وبعض آخر يتوقف على أمور أخرى، وكل بعض يتوقف على أمور حادثة، وتلك الأمور تتوقف على أمور أخرى، ويلزم من ذلك التسلسل في نوع الحادث، وهو جائز عندكم.
وأما أن أريد بالتسلسل في الآثار، التسلسل في جنس التأثير، وهو أن يكون جنس التأثير متوقفاً على جنس التأثير، بحيث لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، فهذا باطل لا ريب فيه، وهو تسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً، وهو من جنس التسلسل في المؤثر.
لكن بطلان هذا يستلزم أنه لم يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً لشيء، فيلزم دوام نوع الفاعلية لا دوام مفعول معين، وحينئذ فلا يدل على قدم شيء من العالم، وهذا بين لمن تدبره.
ويراد بالتسلسل معنى ثالث، وهو أن فاعليته للحادث المعين، لا تحصل حتى يحصل تمام المؤثر لهذا الحادث المعين، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد، وهذا ممتنع أيضاً باتفاق العقلاء.(9/239)
فهذا تسلسل في تمام تأثر المعنى، وذاك في أصل التأثير وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء.
فتبين أن حججهم الهائلة، التي أرعبت قلوب النظار، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم البتة.
فقولهم بقدم شيء من العالم: الأفلاك أو غيرها، قول بلا حجة أصلاً، بل هو قول باطل، كما بين في موضع آخر.
نعم هذه الحجج إنما أرعبت قلوب أهل الكلام المبتدع المحدث في الإسلام، الذي هو كلام الجهمية والقدرية، ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكرامية، ومن تبعهم أو قلدهم من المتفقه وغيرهم، فما ذكره الفلاسفة إنما يبطل قول هؤلاء، الذي زعموا أن الرب لم يزل معطلاً عن أن يفعل بمشيئته أو يتكلم بمشيئته ثم يفعل أو يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء.
وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه.
فإذاً ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتب والسنة، بل ولا مذهب السلف والأئمة، وهو المطلوب.
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه، وبين التسلسل في الآثار، يظهر صحة الدليل، الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة، على أن كلام الله غير مخلوق، مثل سفيان بن عيينة.
وبيان ذلك: أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئاً إلا بكن، فلو كانت كن مخلوقة، لزم أن يخلق بكن أخرى، وتلك الثانية بثالثة،(9/240)
وذلك هو من التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء، فإنه تسلسل في أصل التأثير، فإنه لا يخلق شيئاً إلا بكن، فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئاً، ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن، فيلزم الدور الممتنع، وهو المستلزم للجمع بين النقيضين، وهو أن تكون موجودة معدومة.
وأيضاً فإذا قدر أنه خلق الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، وهلم جراً، فلا بد من وجود جميعها في آن واحد، فإن كل واحد منها شرط في الثانية، وهي من الأمور الوجودية المشروطة في التأثير، فلا بد أن تكون موجودة عند وجود الأثر، كالاستطاعة والقدرة، وحياة الفاعل، وعلمه، وسائر شروط الفعل، فإنها كلها لا بد من وجودها عند وجود الفعل.
ولهذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر، على أن الاستطاعة لا بد أن تكون مع الفعل وتنازعوا في جواز وجودها قبله، ودوام وجودها إلى حين الفعل في حق المخلوق، على قولين.
وأما في حق الخالق، فاتفقوا على بقائها ودوامها إلى حين الفعل.
والصحيح الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء، أنها تكون موجودة قبل الفعل، وتبقى إلى حين الفعل.
ولهذا يجوز عندهم وجود الاستطاعة بدون الفعل، كما في حق العصاة، ولولا هذا لم يكن أحد ممن كفر وعصى الله، إلا غير مستطيع لطاعة الله، وهو خلاف الكتاب والسنة.
قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] .
وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .(9/241)
وقال: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 91] .
ومعلوم أنه ليس المنفي هنا استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإنه قد يكون حينئذ معنى الكلام، فمن لم يفعل فعليه صيام شهرين متتابعين.
وكذلك يكون الأمر بالتقوى لمن اتقى لا لمن لم يتق، وإيجاب الحج على من حج دون من لم يحج، وهذا باطل.
فعلم أن المراد استطاعة توجد بدون الفعل، وما كانت موجودة بدون الفعل أمكن وجودها قبله بطريق الأولى.
وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح الفعل واتفاق العقلاء، وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين، والخلق والخالقين، فيمتنع أن يكون للخالق خالق، وللخالق خالق إلى غير نهاية.
ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من وسوسة الشيطان، فقال في الحديث الصحيح: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» .. وفي رواية أخرى: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليتعوذ بالله ولينته» .
وكذلك إذا قيل: لا يخلق شيئاً إن لم يخلق كذا، ولا يخلق كذا إن لم(9/242)
يخلق كذا، كان هذا ممتنعاً، لأنه منع وجود الخالق بالكلية، حتى يوجد تمام كونه مؤثراً، وتمام كونه مؤثراً موقوف على تمام آخر، فيلزم ألا يوجد تمام كونه خالقاً، فيلزم ألا يخلق شيئاً قط.
فإذا علم أنه لا يخلق شيئاً إلا بكن فلو كان كن مخلوقاً بكن أخرى وهلم جراً، كان كل واحدة من ذلك بها يصير خالقاً، ولم يوجد شيء من ذلك، فيمتنع أن يصير خالقاً.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: يخلق هذا بكن، وهذا قبله أو بعده بكن وهلم جراً، فإن هذا يقتضي أنه لا يوجد الثاني إلا بعد وجود الأول.
والتوقف ها هنا على الشرط، هو فعله لهذا المعين، لا أصل الفعل، فلهذا كان في هذا نزاع مشهور، بخلاف الأول.
ومعلوم أن الأدلة العقلية لا تدل على قدم شيء من العالم، وإنما غايتها أن تدل على دوام الفاعلية، وامتناع كونه فاعلاً بعد أن لم يكن.
فإذا قالوا: التسلسل باطل، فإن عنوا به تسلسل الآثار، ووجود شيء بعد شيء فهذا خلاف قولهم، ولم يقيموا دليلاً على بطلانه.
وإن أرادوا به التسلسل الخاص، وهو التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً، فهذا مسلم أنه ممتنع، لكن امتناع لا يدل على فعله لشيء معين، بل على أصل الفعل، وهذا لا ينفعهم بل يضرهم.
الوجه الثاني
أن يقال: أما التسلسل في أصل الفاعلية فلا ينفعهم.
وإنما فيه إبطال قول الجهمية والقدرية.
وأما التسلسل في الأفعال المعينة، فإن كان جائزاً لم يصح احتجاجهم به، بل تبطل الحجة، وإن كان ممتنعاً(9/243)
لزم أن يكون للحوادث أول، فيبطل قول القائلين بقدم العالم.
وإذا بطل هذا القول، بطلت حجته بالضرورة، فيلزم بطلان هذه الحجة على التقديرين، وذلك يقتضي أنها فاسدة في نفس الآمر.
الوجه الثالث
أن يقال: كل حادث من الحوادث المشهودة إما أن تكون مؤثريته حاصلة في الأزل، وإما ألا تكون.
فإن كان الأول، لزم حصول الحوادث عن الموثر القديم، من غير تجدد شيء، وبطلت الحجة.
وإن كان الثاني فحصول كمال المؤثرية فيه بعد أن لم تكن أمر حادث، فيقف كمال مؤثريته في هذا الكمال.
وحينئذ فحال الفاعل إما أن يكون عند كمال التأثير في الحادث الثاني، كحاله عند كمال التأثير في الأول، وإما ألا يكون، فإن قدر الأول، لزم أن يحدث هذا الحادث الثاني، والذي بعده، والذي بعده، من غير حدوث سبب أوجب هذا الحدوث، لأن الذات الفاعلة حالها عند الأول كحالها عند الثاني والثالث، وحينئذ فإذا كانت عند الأول لا تفعل الثاني، فعند الثاني لا تفعل الثالث، لأنه لم يتجدد ما يوجب حدوثه.
وأيضاً فالذات نفسها ليست موجباً تاماً في الأزل لشيء من الحوادث، وهي لم تزل على ما كانت عليه، فيلزم ألا تكون موجبة لشيء من الحوادث في الأبد، وإلا لزم الإحداث بلا سبب حادث.(9/244)
وهؤلاء فروا من حدوث الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب، وادعوا دوام حدوثها بلا سبب، فكان الذي فروا إليه شراً من الذي فروا منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وأما إن قيل: إن الفاعل نفسه تقوم به إرادات وأفعال توجب تخصيص كل وقت بما أحدثه فيه، كان هذا مبطلاً لحجتهم، إذ يمكن والحال هذه أن يحدث شيئاً بعد شيء مع دوام فاعليته، بل هذا مبطل لمذهبهم.
فإن من تصور هذا الفاعل علم يقيناً امتناع مقارنة شيء من أفعاله ومفعولاته له، وعلم أن كل واحد من أفعاله ومفعولاته لا يكون إلا حادثاً، لا مساوقاً له أزلاً وأبداً.
وإن كان هذا معلوماً في كل ما يقدر أنه فاعل، فهو فيما يقدر أنه فاعل بمشيئته وقدرته وأفعاله تقوم به، أظهر وأظهر.
ثم يقال: إما أن يكون تسلسل كمال المؤثرات ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً لزم حدوث كل ما سوى الله، وأنه لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً، وهو مبطل لقولهم.
وإن كان ممكناً لم يلزم إلا دوام كونه مؤثراً في شيء بعد شيء، وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو مبطل لحجتهم ومذهبهم كما تقدم.
والقول في الثاني كالقول في الأول، فيلزم التسلسل في الآثار.
وإذا كان ذلك لازماً كان جائزاً بطريق الأولى، وإذا كان جائزاً بطل القول بأنه محال، فبطلت الحجة.(9/245)
الوجه الرابع
أن يقال: حدوث الحوادث من المؤثر القديم من غير تجدد شيء إما أن يكون جائزاً، وإما أن يكون ممتنعاً.
فإن كان جائزاً بطلت المقدمة الثانية من الحجة.
وإن كان ممتنعاً لزم حدوث ما به يتم التأثير في هذه الحوادث، إذ لو لم يحدث ما به يتم التأثير، لكانت قد حدثت عن المؤثر القديم من غير تجدد شيء، والتقدير أنه ممتنع.
ثم القول في حدوث ذلك التمام، كالقول في حدوث أثره، ويلزم التسلسل في الآثار، وذلك يبطل القول بامتناع التسلسل مطلقاً.
فإن كان هذا هو المراد في المقدمة، كما يريده طائفة ممن يصوغ هذه الحجة فهو ممتنع.
وإن كان المراد به ما ينبغي أن يراد، وهو التسلسل في تمام أصل التأثير، فهذا إذا امتنع إنما يستلزم دوام كونه فاعلاً، لا فاعلاً لشيء معين، وذلك لا ينفعهم بل يضرهم، فيلزم فساد إحدى المقدمتين على تقدير أحد النقيضين، وفساد الأخرى على تقدير النقيض الآخر.
ولا بد من ثبوت أحد النقيضين، فيلزم فساد إحدى المقدمتين قطعاً.
فتفسد الحجة.
الوجه الخامس
أن نقول: قوله: وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري تعالى قدم أفعاله أتعني به جميع أفعاله، أو فعلاً ما من أفعاله، أم قدم نوع أفعاله؟.
أما الأول فباطل قطعاً، لأنه خلاف المشاهدة.
وأما الثاني فلا دليل في الحجة عليه، فإنها لا تدل على قدم شيء معين، لا فعل ولا مفعول.(9/246)
وأما الثالث فلا يفيد قدم السموات لجواز أن يكون هناك فعل قائم بالذات بعده فعل، أو مفعول بعد مفعول، أو كلاهما.
وهذه الحجة قد ذكرها الآمدي، والأبهري، وغيرهما، وأجابوا عنها بالمعارضة بالحوادث اليومية.
كلام الآمدي في "دقائق الحقائق"
كلام الآمدي في دقائق الحقائق
فقال الآمدي في دقائق الحقائق في الاحتجاج لهم: لو كان ما وجد عن الواجب بذاته محدثاً موجوداً بعد العدم، فهو لذاته: إما أن يكون واجباً، أو ممتنعاً، أو ممكناً.
القول بالوجوب ممتنع، وإلا لما كان معدوماً.
والقول بالامتناع ممتنع.
وإلا لما وجد.
فلم يبق إلا أن يكون ممكناً لذاته.
وعند ذلك فحدوثه إن كان لا لمحدث ومرجح فقد ترجح أحد طرفي الممكن لا لمرجح، وهو محال.
وإن كان لمحدث ومرجح فالمرجح إما قديم، أو حادث.
فإن كان حادثاً فالكلام فيه كالكلام في الأول، والتسلسل والدور محال.
فلم يبق إلا أن يكون المرجح قديماً أو منتهياً إلى مرجح قديم، والمرجح القديم إما أن يكون قد تحقق معه في القدم كل ما لا بد منه في الإيجاد، أو بقي شيء منتظر.
فإن بقي شيء منتظر، فالكلام في حدوثه كالكلام في الأول، ويلزم في التسلسل أو الدور وهو ممتنع.
وإن كان القسم الأول فيلزم من قدم العلة قدم المعلول.
وكذلك الحكم فيما وجب عن الواجب بالواجب لذاته.
وقال الآمدي في الجواب: إنه يلزم منها وجود شيء من الحوادث.
إذ(9/247)
الكلام في كل حادث يفرض بالنسبة إلى علته، كالكلام في معلول واجب الوجود، وهو خلاف المعقول والمحسوس، وما هو الجواب فيما اعترف به من الحوادث فهو الجواب فيما نحن فيه، ولا بد من التفاتهم في ذلك إلى الإرادة النفسانية، وبيان انتفائها عن واجب الوجود.
وقد عرف ما فيه.
تعليق ابن تيمية
قلت: قد يظنون أنهم يجيبون عن هذه المعارضة بأن الحوادث اليومية مشروطة بحدث بعد حادث، وهذا يقتضي التسلسل في الآثار، والتسلسل في الآثار عندهم ليس بمحال.
وحقيقة قولهم: إن المرجح القديم هو دائم الترجيح، والحوادث المنفصلة عنه تحدث شيئاً بعد شيء.
ثم قد يعينون ذلك بحركة الفلك، فيقولون: هي الحادثة شيئاً بعد شيء.
ومن حذق منهم كابن سينا علم أن هذا جواب باطل، وأن حدوث حادث بعد حادث عن القديم من غير تجدد شيء ممتنع.
فادعى ما هو أفسد من ذلك فقال: إن الحركة لا توجد شيئاً بعد شيء، وإنما هي شيء موجود دائماً، وأن ما يوجد شيئاً بعد شيء لا وجود له في الخارج، بل في الذهن.
وهذه مكابرة بينة، قد بسط الكلام عليها في شرح الأصبهانية.
وقد اعترف حذاقهم بأن حدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن ذات لا يقوم بها حادث مما تنكره العقول.
وأما من اعترف منهم بقيام الأمور الاختيارية بذاته، فيقال لهم: هذا أدل على حدوث المفعولات.
ويقال للطائفتين: إذا جوزتم ذلك، لم يكن لكم دليل على قدم شيء من العالم.
فظهر بطلان حجتكم.(9/248)
لكن هذا الجواب الذي عارض به هؤلاء لأولئك، لا يمكن أن يقال في أول الحوادث، لأنه ليس قبل أول الحوادث حادث يشترط في الحوادث المستقبلة.
فهذا فرق هؤلاء الفلاسفة بين ما يثبتونه من الحوادث اليومية التي تشاهد، وما ينفونه من أن للحوادث أولاً ابتدأت منه، وبهذا يتبين بطلان قول الطائفتين: هؤلاء وهؤلاء، وأن كل طائفة أقامت برهاناً على بطلان قول الأخرى، لا على صحة قولها، إذ لا يلزم من بطلان أحد القولين صحة الآخر، إلا إذا انحصر الحق فيهما، وليس الأمر كذلك.
كلام الآمدي في أبكار الأفكار
وذكرها الآمدي أيضاً في كتابه أبكار الأفكار قال: وجوابها: أنها باطلة من جهة أن الحس والعيان والبرهان شاهد بوجود حوادث كائنة بعد ما لم تكن.
وما ذكروه من الشبهة يلزم منه امتناع وجود الحوادث، والقول بامتناع وجود الحوادث ممتنع، وكل دليل لزم عنه الممتنع فهو باطل في نفسه.
وبيان الملازمة هو أن ما ذكروه من الترديد والتقسيم في حدوث العالم بعينه لازم في حدوث كل حادث، وكل ما هو جواب لهم في حدوث الحوادث بعينه يكون جواباً في القول بحدوث العالم بجملته.(9/249)
وهذا الذي ذكره يجيبون عنه بما تقدم، وهو أن هذه الحجة إنما كانت حجة على من يقول ببطلان التسلسل في الآثار من أهل الكلام، وأما نحن فنجوز التسلسل في الآثار، فتكون الحوادث موقوفة على حوادث قبلها لا إلى أول.
وهذا الجواب منتف في جملة العالم، لأنه ليس قبله حادث نقف عليه عند الطائفتين.
وحقيقة جوابهم أن التسلسل الذي نفوه في هذه الحجة، ليس هو التسلسل في الحوادث التي تحدث شيئاً بعد شيء، فإنها لا تدل على بطلان هذا، وهم لا يقولون ببطلانه، وإنما دلت على بطلان التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً.
ومن قال بكونه فاعلاً، لا يقول بتوقف فاعليته على غيره: لا حادث ولا غير حادث، فلا يلزمهم هذا.
الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول
الجواب عن حجتهم من وجوه.
الوجه الأول
ونحن قد ذكرنا الأجوبة القاطعة لهذه الحجة في غير موضع من وجوه:
أن يقال: إن كان التسلسل في الآثار ممتنعاً، لزم القول بأن للحوادث أولاً، وبطل المذهب فبطلت حجته، وإن كان ممكناً بطلت الحجة، لإمكان دوام كونه فاعلاً ليس بعد شيء، مع أن كل ما سواه مخلوق حادث.
هذا إذا أريد بالتسلسل الممتنع تسلسل أصل الفاعلية، وأما إذا أريد تسلسل الآثار، فإنه يظهر بطلانها.
الوجه الثاني
أن يقال: غاية الحجة أنه لا بد لكل حادث أن يكون قبله حادث.
وحينئذ فقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما(9/250)
بينهما في ستة أيام، وكان عرشه على الماء.
وجمهور المسلمين وغيرهم على أن المخلوق ليس هو الخلق، بل الخلق قائم بذات الله فتكون السموات والأرض وما بينهما محدثة بحوادث قبلها، والحوادث محدثة بما يقوم بذات الله من مقدوراته ومراداته سبحانه وتعالى.
الوجه الثالث
أن يقال: إما أن تقولوا بأن كل ما صدر عن الواجب بذاته لازم لذاته، أو لازم للازم بذاته، أو منه ما ليس بلازم بذاته.
فإن قلتم بالأول كان مكابرة للحس.
ولم يقل بذلك أحد من الناس، وهو الذي أنكره المعارضون لهم، وجعلوه لازم حجتهم.
وإن قالوا: إن منه ما ليس بلازم لواجب الوجود، ولا لازم للازمه، بل هو متأخر عنه.
فيقال: فالسموات والأرض وما بينهما، الذي أخبرت به الرسل عن الله، أنه خلق ذلك في ستة أيام: لم لا يجوز أن تكون من الحوادث المتأخرة كغير ذلك من الحوادث؟
الوجه الرابع
أن يقال: إذا كان العالم صادراً عن علة مستلزمة له، لا يتأخر عنها موجبها، لزم ألا يكون لشيء من الحوادث فاعل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولاً لها، ولا لشيء من معلولاتها.
فلزم أن تكون الحوادث لا فاعل لها، أو يكون فاعلها ليس هو، بل يكون فاعل كل محدث محدثاً، وهلم جراً، ويلزم تسلسل الفاعلين.
وهذا مع اتفاق العقلاء على فساده، ففساده معلوم بالضرورة من وجوه كثيرة، كما بين في غير هذا الموضع.(9/251)
فصل
ومنشأ ضلال هاتين الطائفتين هو نفي صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه.
فإنهم لما نفوا ذلك، ثم أرادوا إثبات صدور الممكنات عنه، مع ما يشاهدون من حدوثها، لم يبق هناك ما يصلح أن يكون هو المرجح لوجود الممكنات -إلا لما شوهد حدوثه منها- ولا لغير ذلك.
وصارت المتفلسفة تحتج على هؤلاء المتكلمة بالحجج التي توجب تناقض قولهم، فيجيبوهم بما يتضمن الترجيح بلا مرجح، مثل إسنادهم الترجيح إلى القدرة أو الإرادة القديمة، التي لا اختصاص لها بوقت دون وقت.
فيقول لهم أولئك: إسناد التخصيص والترجيح إلى مرجح، لا فرق بالنسبة إليه بين وقت دون وقت، وبين مفعول ومفعول، كإسناد التخصيص والترجيح إلى ترجح الذات المجردة عن الصفات.
لكن كل ما تحتج به المتفلسفة يلزمهم نظيره، وما هو أشد فساداً منه، فإن قولهم أعظم تناقضاً من قول هؤلاء المتكلمين، وما من محذور يلزم أولئك، إلا ويلزم المتفلسفة ما هو مثله أو أعظم منه.
فإنهم يسندون وجود الممكنات المختلفات، كالأفلاك والعناصر وما يسمونه العقول والنفوس، مع ما يتعاقب على ذلك من الحوادث المختلفات أيضاً، إلى ذات مجردة بسيطة لا صفة لها ولا فعل، ويقولون: إنها لم تزل ولا تزال مجردة عن الصفات والأفعال، وهي مع ذلك لا تزال تصدر عنها الأمور المختلفة والمحدثات المختلفة المتعاقبة.(9/252)
وهذا مما يظهر فيه من الفساد والتناقض أعظم مما يظهر في قول أولئك.
وإذا دفعوا ذلك بما يجعلونه صادراً عن الأول من اللازم لذاته، كالعقل الأول ولوازمه، لم يكن هذا دافعاً لما يلزم قولهم من الفساد.
فإن ما كان لازماً لذاته مع وحدته، يقال فيه ما يقال فيه من امتناع صدور الأمور المختلفة والحوادث الدائمة عنه، ولهذا ينتهون إلى إثبات العقل الفعال، ويقولون: إنه صدر عنه فلك القمر ونفسه، والعناصر التي تحته، مع اختلاف أنواعها وصفاتها وأقدارها، وهو في نفسه بسيط، ثم يقولون: إنه بسبب حركات الأفلاك حصلت استعدادات مختلفة لما يفيض منه.
والكلام في تلك الحركات المختلفة كالكلام في غيرها، فلا بد لهم من إسناد الأمور المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، والحوادث المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، إلى ذات بسيطة مجردة عن كل صفة وفعل يقوم بها، مستلزمة لكل ما يصدر عنها، وهذا فيه من التناقض والفساد أضعاف ما في قول أولئك.
ومن سلم من الفلاسفة أن الرب تقوم به الصفات والأفعال الاختيارية، فهؤلاء حدوث كل ما سوى الله على قولهم أظهر، وقدم شيء من العالم على قولهم أبعد.
ولهذا كان القائلون بهذا الأصل من الأساطين لا يعرف عنهم القول بقدم صورة الأفلاك، إذ أول من عرف عنه القول بقدم صورة الأفلاك هو(9/253)
أرسطو، لكن يحكى عن بعضهم القول بقدم المادة، وقد يريدون قدم جنسه لا قدم شيء معين، ومنهم من يقول بقدم شيء معين.
وأما أبو البركات فإنه من المثبتين للصفات والأفعال القائمة بذاته، وهو لم يقم حجة على قدم شيء من العالم، وإنما أبطل قول من قال بأنه فعل بعد أن لم يفعل.
والذي تقتضيه حججه العقلية الصحيحة وحجج سائر العقلاء، إنما هو موافق لما أخبرت به الرسل لا مخالف لها.
وكأن القول الوسط لم يعرفه، كما لم يعرفه الرازي وأمثاله.
ولو عرفوه لكان هو المتصور عندهم دون غيره، وإنما استطال ابن سينا، وأمثاله من الفلاسفة الدهرية، على أولئك بما وافقوهم عليه من نفي الصفات.
ولهاذ تجد ابن سينا يذكر قول إخوانه وقول أولئك المتكلمين فقط.
ومعلوم أن فساد أحد القولين لا يستلزم صحة القول الآخر، إلا أن تنحصر القسمة فيهما.
فأما إذا أمكن أن يكون هناك قول ثالث هو الحق، لم يلزم من فساد أحد القولين صحة القول الآخر.
وهذا مضمون ما ذكره في كتبه كلها، وما ذكره سائر هؤلاء الفلاسفة.
كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه
وملخص ذلك ما ذكره في الإشارات، التي هي مصحف هؤلاء الفلاسفة.
قال: أوهام وتنبيهات.
قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في(9/254)
شرط واجب الوجود، لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى: {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] .
فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما.
قلت: هذا القول هو قول الدهرية المحضة من الفلاسفة وغيرهم، الذين ينكرون صدور العالم عن فاعل أو علة مستلزمة له، وهو الذي أظهر فرعون وغيره.
وإليه يرجع عند التحقيق قول القائلين بوحدة الوجود من قدماء الفلاسفة.
ومن هؤلاء الفلاسفة الذين يدعون التحقيق والتوحيد والمعرفة، كابن عربي وابن سبعين ونحوهما، فإن هؤلاء لا يثبتون موجودين متباينين أحدهما أبدع الآخر، بل كل وجود في الوجود فهو الوجود الواجب عندهم.
ثم لما رأوا أن الموجودات فيها اختلاف وتفرق، وفيها ما حدث بعد وجوده، احتاجوا إلى أن يجمعوا بين كون الوجود واحداً بالعين، وبين ما يوجد فيه من التفرق والاختلاف، فتارة يقولون: الأعيان ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فيجمعون بين كون المعدوم شيئاً ثابتاً في العدم غنياً عن الله تعالى، كما قال ذلك من قاله من المعتزلة والشيعة، ويضمون إلى ذلك أن وجوده وجود الخالق تعالى.
وهذا لم يقله أحد من أهل الملل، بل ولا من الفلاسفة الإلهيين.
وهذا حقيقة قول ابن عربي.
وتارة يجعلون الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والأعيان هي الممكنات، كما يقوله صاحبه القونوي.
وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي، وهذا أفسد من ذاك، فإن المطلق بشرط إطلاقه لا(9/255)
وجود له في الخارج، وبتقدير وجوده فهو يعم ما تحته عموم الجنس والعرض العام، والعالم بشرط سلبه عن كل أمر ثبوتي هو وجود مقيد بالعدم وسلب الوجود، هذا أبعد عن الوجود من المقيد بسلب الوجود والعدم، فإن ما قيد بانتفاء الوجود والعدم، أقرب إلى العدم والامتناع مما قيد بسلب الوجود والعدم.
ومع هذا فهذا المطلق لا يوجد إلا بوجود الأعيان، لا يتصور أن يكون مبدعاً لها ولا علة لها، بل غايته أن يكون صفة لها أو جزءاً منها، فيكون الوجود الواجب صفة للمكنات أو جزءاً منها، وما كان جزءاً من الممكن أو صفة له أولى أن يكون ممكناً، فإما أن ينفوه أو يجعلوه محتاجاً إلى المخلوقات، والمخلوقات مستغنية عنه.
وتارة يجعلونه مع الممكنات كالمادة في الصورة، أو الصورة في المادة، نحو ذلك مما يقوله ابن سبعين ونحوه.
وتارة لا يثبتون شيئاً آخر، بل هو عين الموجودات، وهي أجزاء له وأبعاض، كما قد يقوله التلمساني وأمثاله، وهذا محض قول الدهرية المحضة، الذين يجعلون هذا المحسوس واجباً بنفسه.
لكن طريقة ابن سينا وأتباعه في الرد عليه مبينة على أصله في توحيد واجب الوجود ونفي صفاته، وهي طريقة ضعيفة كما بين فسادها في غير هذا الموضع.
فلا يمكن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالفلاسفة الإلهية الرد على(9/256)
أولئك الدهرية الطبيعية بمثل هذه الطريق، بل بيان كون المشاهدات ليس واجبة بنفسها، بل مفتقرة غلى غيرها، يمكن بوجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، إذ المقصود هنا ذكر كلامه في أفعال الرب تعالى، وما ذكره في قدم العالم.
قال: وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول، ثم افترقوا.
فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة.
وهؤلاء فقد جعلوا في الوجود واجبين، وأنت خبير باستحالة ذلك.
ومنهم من جعل واجب الوجود لضدين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك، هؤلاء في حكم الذي قبلهم.
قلت: هؤلاء كالمجوس القائلين بأن له أصلان: النور والظلمة، وهما قديمان، فإن هذا أحد قوليهم، والآخر أن الظلمة محدثة.
والقائلون بالقدماء الخمسة كديمقراطيس ومن اتبعه، كابن زكريا الطبيب الملحد، يقولون بقدم الباري والنفس والمادة والدهر والخلاء.
فهؤلاء يجعلون الواجب أكثر من واحد، وهم مع هذا يقولون بأن أصله غير معلول، وطينته معلولة.
وأما من جعل المبدع أكثر من اثنين فهذا لا يعرف.
فقوله: منهم من زعم أن أصله وطينته معلولة يتناول هذا القول،(9/257)
كما يتناوله قول من جعل وجوب الوجود لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك، وقد يحكى عن طائفة من القدماء أنهم قالوا: كانت أجزاء العالم مبثوثة، ثم إن الباري ألفها، لكن هؤلاء قد يقولون: إنها معلولة عن الواجب بنفسه، فإن هذا القول الذي قاله أئمة الفلاسفة وقدماؤهم وأساطينهم، وهو أن المادة العالم قديمة، وصنعته محدثة، لم يذكره ابن سينا، فإن هؤلاء لا يقولون: إن المادة غير معلولة، بل يقولون: هي مبدعة مفعولة للباري.
وهذا القول الذي هو قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم لم يتعرض لحكايته، ولا لرده وإبطاله، وليس في كلامه ما يبطله.
وقد قالوا: إن أول من قال بقدم صنعة العالم من هؤلاء الفلاسفة هو أرسطو، فهذا كلامه في حكاية مذاهبهم.
وأما رده الأقوال التي حكاها بامتناع وجود واجبين فهو بناء على نفي الصفات، وهو توحيده الذي قد علم فساده، وبين ذلك في غير هذا الموضع.
ثم أخذ بعد ذلك في ذكر مقالة من قال بحدوث العالم من نفاة الأفعال القائمة به، ومن قال بقدمه، فلم يذكر إلا هذين القولين مع تلك الأقوال الثلاثة، فكان مجموع ما ذكره خمسة أقوال.
كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرح ذلك: المسألة العاشرة في مذاهب أهل العلم في إمكان العالم وحدوثه ثم ذكر كلام ابن سينا، وقال في شرحه: أقول: أهل العالم فريقان: منهم من أثبت أكثر من واجب(9/258)
وجود واحد، ومنهم من لم يقل إلا بالواجب الواحد.
أما الفريق الأول فقد تحزبوا إلى ثلاث فرق: أحدها: الذين زعموا أن هذا العالم المحسوس واجب لذاته، على ما هو عليه من الشكل والمقدار والهيئة.
قال الشيخ: لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً.
ثم استدل الرازي بما يدل على أن الأجسام ممكنة، وقد ذكرت هذه الأدلة وضعفها في غير هذا الموضع.
ولهذا قال الرازي لما ذكرها: هذا مجموع ما يدل على أن الأجسام ممكنة، وقد عرفت ما في كل واحد منها.
المقالة الثانية: أن العالم له ذات وصفات، فأما الذات فهي للأجسام، وهي واجبة لذواتها.
ومنهم من قال: الذات هي الهيولى التي هي محل الجسمية، وهي واجبة لذاتها.
فأما الصفات وهي الشكل والمقدار والتحيز والحركة والسكون، فكل ذلك من الممكنات.
قال: وهذه المقالة أيضاً باطلة بالأدلة المذكورة على فساد المقدمة الأولى.
قال: والمقالة الثالثة: أن هذا العالم ممكن الوجود بذاته وصفاته، لكن واجب الوجود مع ذلك أكثر من واحد.
ثم هؤلاء أيضاً فرق: منهم من أثبت إلهين واجبين لذاتيهما، أحدهما خير، والآخر(9/259)
شرير.
ومنهم من قال: خمسة أشياء واجبة لذواتها: الباري، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء.
قال: وفساد هذه الأقاويل وأشباهها إنما يظهر بالأدلة المذكورة على أن واجب الوجود يستحيل أن يكون أكثر من واحد.
تعليق ابن تيمية
قلت: فقد تداخلت المقالتان في كلامه، كما تداخل في كلام الآخر، وذلك أن من قال: الأجسام أو الهيولى التي هي محل الجسمية واجبة لذاتها وصفاتها ممكنة، فهو من جنس من قال بخمسة أشياء واجبة، إذ كلاهما يقول: إن الباري أحدث التأليف والصنعة، بخلاف من قال بإلهين: الخير والشر: فإنه يقول: كلاهما فاعل، وليس في هذه الأقوال قول من يجعل وجوب الوجود لعدة أشياء، وجعل ما سواها مفعولاً لها، كما يقوله القائلون بالأصلين: النور والظلمة من المجوس.
لكن القائلون بقدم النفس يقولون: إنها أحبت الهيولى، ولم يمكن تخليصها منها إلا بإحداث العالم.
والقائلون بقدم المادة فقط لا يقولون بذلك.
والقائلون بقدم الهيولى أو بعض الأجسام أو نحو ذلك، لا يلزمهم أن يقولوا: إنها واجبة الوجود بنفسها، بل قد يقولون: إنها مبدعة مفعولة للواجب بنفسه.
وهذا المشهور عن قدماء الفلاسفة.
والرازي قد ذكر في شرح الإشارات من كتبه: أن هؤلاء يقولون إن الباري هو الواجب بذاته، وأن النفس وغيرها معلولة له.
وذكر هنا(9/260)
عنهم: أنهم يصفون الجميع بوجوب الوجود، وهذا تناقض في نقل أقوالهم.
ثم إبطال هذه الأقوال بناء على توحيدهم، الذي مضمونه نفي الصفات، لكون الواجب لا يكون إلا واحداً، قد عرف فساده.
قال الرازي: فأما القائلون بأن واجب الوجود واحد، فقد اختلفوا على قولين: منهم من قال: إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً، وهم المليون بأسرهم.
ومنهم من قال: أنه كان في الأزل فاعلاً، وهم أكثر الفلاسفة.
قلت: القول الذي حكاه عن المليين بأسرهم هو قول طوائف من أهل الكلام المحدث منهم، الذين ذمهم السلف والأئمة، ولا يعرف هذا القول عن نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين.
لم يقل أحد من هؤلاء: إن الله لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً، وإنما المعروف عنهم ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن.
وهذا هو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه أهل الملل.
وكذلك نقله عن جمهور الفلاسفة: إن الله لم يزل فاعلاً، كلام مجمل، فجماهير الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم.
وأول من ظهر عنه منهم القول بقدمه هو أرسطو.
ولا يلزم من قال: إنه لم يزل فاعلاً، أن يقول بقدم شيء من العالم، إذ يمكنه مع ذلك أن يقول: لم يزل فاعلاً لشيء بعد شيء، فكل ما سواه مخلوق محدث، وهو لم يزل فاعلاً.(9/261)
وقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأن الله كان ولم يكن قبله شيء، وكان حينئذ عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض.
وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من السلف، هذا القول الذي حكاه عن أهل الملل كلهم، بل صرح أئمة الإسلام بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، قادراً على ما يشاء، فاعلاً يقوم به الفعل الذي يشاؤه، بل وصرحوا أنه لم يزل فاعلاً، وأن الحي لا يكون إلا فعالاً، يقوم به الفعل.
ولفظ بعضهم: أن الحي لا يكون متحركاً، وعبارة بعضهم: كان محسناً فيما لم يزل، عالماً بما لم يزل، إلى ما لم يزل.
وعبارة بعضهم: كان غفوراً رحيماً، عزيزاً حكيماً، ولم يزل كذلك.
فنقل الرازي لمقالة أهل الملل، كنقل ابن سينا لمقالات الفلاسفة.
فكلا الرجلين لم يذكر في هذا المقام أقوال أئمة الفلاسفة المتقدمين الأساطين، ولا أقوال الأنبياء والمرسلين، ومن اتبعهم من الصحابة والتابعين، كأئمة المسلمين وعلماء الدين، بل هذه الخمسة الأقوال التي ذكرها هذان وأتباعهما، ليست قول هؤلاء، ولا قول هؤلاء.
ولهذا كان جميع ما ذكروه، من الأقوال التي ينصرونها ويزيفونها، أقوالاً يظهر فسادها وتناقضها.(9/262)
كلام ابن سينا في الإشارات
قال ابن سينا: ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد، ثم افترقوا، فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه، ثم ابتدأ وجود شيء عنه، ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها، موجودة بالفعل، لأن كل واحد منهما وجد، فالكل وجد، فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود.
قالوا: وذلك محال، وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معاً، فإنها في حكم ذلك.
وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية لها، فيكون موقوفاً على ما لا نهاية له، فيقطع إليها ما لا نهاية له.
ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الأحوال، وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟
ومن هؤلاء من قال: إن العالم وجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد.
ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر، بل بالفاعل، ولا يسأل عن لم؟.
فهؤلاء هؤلاء.
وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول، يقولون:(9/263)
إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته، وأحواله الأولية، وإنه لن يتميز في العدم الصريح حال أولى به فيها ألا يوجد شيئاً، أو بالأشياء ألا توجد عنه أصلاً، وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع، ولا أن تسنح جزافاً.
وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال.
وكيف تسنح إرادة لحال تجددت، وحال ما تجدد، كحال ما تمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حال ما لم يتجدد شيء حالاً واحدة مستمرة على نهج واحد.
وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلاً كحسن من الفعل وقتاً ما تيسر، أو وقت معين، أو غير ذلك مما عد، أو لقبح كان يكون له، أو كان قد زال، أو عائق أو غير ذلك كان فزال.
قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والوجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة، فهذا الداعي(9/264)
ضعيف قد انكشف لذي الإنصاف ضعفه، على أنه قائم في كل حال، وليس في حال أولى بإيجاب السبق من حال.
وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه، واجب الوجود لغيره، فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره، كما نبهت عليه.
وأما كون غير المتناهي كلاً موجوداً، ككون كل واحد وقتاً ما موجوداً، فهو توهم خطأ، فليس إذا صح على كل واحد حكمه، صح على كل محصل، وإلا لكان يصح أن يقال: الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود، لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود، فيحتمل الإمكان على الكل، كما يحمل على كل واحد.
قالوا: ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوماً إلا شيئاً بعد شيء، وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أقل وأكثر.
ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم.
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له،(9/265)
واحتياج شيء منها إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب.
فإن معنى قولنا: توقف على كذا، هو أن الشيئين وصفا معاً بالعدم، والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول، وكذلك الاحتياج.
ثم لم يمكن البتة، ولا في وقت من الأوقات، يصح أن يقال: إن الأخير كان متوقفاً على وجود ما لا نهاية له، أو محتاجاً إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له، بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية، ففي جميع الأوقات هذه صفته، لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد، فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها، وذلك محال، فهذا نفس المتنازع فيه، أنه ممكن أو غير ممكن، فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه؟ أبان يغير لفظها بتغير لا يتغير به المعنى؟ قالوا: فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أولياً،(9/266)
وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوماً ذاتياً، إلا ما يلزم من اختلافات تلزم عندها فيتبعها التغير، فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً.
شرح الرازي لكلام ابن سينا
قلت: والرازي قد شرح هذا الكلام إلى أن وصل إلى آخره، وهو قوله: وإليك الاختيار بعقلك دون هواك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً.
وقال: فاعلم أن الغرض منه الوصية بالتصلب في مسألة التوحيد.
ولكنه يكون كلاماً أجنبياً عن مسألة القدم والحدوث، وإن كان الغرض منه إنما هي المقدمة التي منها يظهر الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف، لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلاً، لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى الواجب بذاته، فسواء كان الواجب واحداً أو أكثر من واحد، لزم من كونه واجباً دوام آثاره وأفعاله.
وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتتنية، فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد.(9/267)
تعليق ابن تيمية
قلت: لقائل أن يقول: بل ابن سينا عرف أن قوله لا يتم إلا بما ادعاه من التوحيد الذي مضمونه نفي صفات الرب وأفعاله القائمة بنفسه، كما وافقه على ذلك من وافقه من المعتزلة، وبموافقتهم له على ذلك استطال عليهم، وظهر تناقض أقوالهم، وإن كان قوله أشد تناقضاً من وجه آخر.
لكنه صار يحتج على بطلان قولهم بما اشتركوا هم وهو فيه من نفي صفات الله الذي هو أصل الجهمية.
وهكذا هو الأمر.
فإن حجة القائلين بقدم العالم، التي اعتمدها أرسطو طاليس وأتباعه، كالفارابي وابن سينا وأمثالهما، لا تتم إلا بنفي أفعال الرب القائمة بنفسه، بل وتبقى فاته، وإلا فإذا نوزعوا في هذا الأصل بطلت حجتهم، وإذا سلم لهم هذا الأصل صار لهم حجة على من سلمه لهم، كما أن عليهم حجة من جهة أخرى.
ولهذا كان مآل القائلين بنفي أفعال الرب الاختيارية القائمة به في مسألة قدم العالم: إما إلى الحيرة والتوقف، وإما إلى المعاندة والسفسطة، فيكونون إما في الشك وإما في الإفك.
ولهذا كان الرازي يظهر منه التوقف في هذه المسألة في منتهى بحثه ونظره، كما يظهر في المطالب العالية، أو يرجح هذا القول تارة، كما رجح القدم في المباحث المشرقية، وهذا تارة، كما يرجح الحدوث في الكتب الكلامية.
وابن سينا وصى بالأصل المتضمن نفي صفات الرب وأفعاله القائمة به.
ثم ذكر القولين في قدم العالم وحدوثه، مع ترجيحه القدم، مفوضاً إلى الناظر الاختيار، بعد أن يسلم الأصل الذي به يحتج على القائلين بالحدوث.(9/268)
ونحن نبين إن شاء الله أن قوله، مع تسليم نفي الصفات والأفعال القائمة بالله، أشد فساداً وتناقضاً من قول القائلين بالحدوث، فإن كان في قول هؤلاء ما يناقض صريح العقل، ففي قول أصحابه من مناقضة المعقول الصريح ما هو أشد من ذلك.
وذلك أنه إذا كانت الذات بسيطة ليس لها فعل يقوم بها أصلاً، بل كان امتناع صدور الأمور المختلفة، والحادثة عنها بوسط أو بغير وسط دائماً، أشد امتناعاً من صدور ذلك بعد أن لم يصدر، فإنه إن أمكن أن يحدث عنها حادث بلا سبب محدث منها، أمكن حدوث الحوادث عنها بعد أن لم تحدث، وإن لم يمكن كان حدوث الحوادث المختلفة عنها، بوسط أو غير وسط دائماً من غير فعل منها، هو أبعد في الامتناع من صدور المختلفات عنها بعد أن لم تصدر.
ولهذا كان أرسطو طاليس مقدم هؤلاء لم يذكر علة فاعلة لحدوث الحركة، وإنما ذكر أن سبب الحوادث الحركة الفلكية وما يحدث عنها، وذكر لذلك علة غائية.
فذكر أن كل متحرك فلا بد له من محرك يحركه، وجعل الأول يحرك الفلك، كما يحرك الإمام المقتدى به المشبه به للمأموم المقتدى المتشبه، وقد يشبه ذلك، كما يحرك المعشوق عاشقه.
ومعلوم أن هذا التحريك ليس هو بفعل من المحرك، ولا قصد، وتلك الحركة حادثة بعد أن لم تكن، فنسأل عن الفاعل لتلك الأجسام الممكنة، فإن الممكن وإن كان قديماً لا بد له من فاعل، فما الفاعل لها؟ ونسأل عن العلة الفاعلة لتلك الحوادث، فإن المتحرك ممكن، فالمحرك إذا كان أموراً تحدث في ذاته، كما يقولونه في تصورات النفس الفلكية وشوقها، قيل لهم: فما المحدث لتلك التصورات والارادات شيئاً بعد(9/269)
شيء، وهي أمور ممكنة كانت بعد أن لم تكن، وهي قائمة بممكن هو مفتقر إلى غيره، ليس بواجب بنفسه.
معلوم أن الحركة لا يكفي في حدوثها العلة الغائية، بل لا بد من العلة الفاعلية، ومعلوم أن افتقار الفعل إلى الفاعل، إن لم يكن مثل افتقاره إلى الغاية لم يكن دونها، بل العقل يعلم افتقار الفعل الحادث إلى الفاعل قبل علمه بافتقاره إلى الغاية.
وأرسطو وأتباعه إنما زعموا افتقاره إلى الغاية المنفصلة عنه، ولم يذكروا احتياجه إلى الفاعل المنفصل عنه.
ومعلوم أن الموجب لحدوث الحركة يحدثها شيئاً بعد شيء، فلا بد له من محدث منفصل، كما أنه لا بد له من غاية منفصلة بطريق الأولى، فإن جوز المجوز أن يكون هو المحدث لفعله، من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكناً، فلنجوز أن يكون هو غاية لنفسه من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكناً، وذلك ممتنع عندهم.
وأيضاً فمن المعلوم أن الممكن الذي ليس له شيء من نفسه، بل ذاته، نفسها من غيره يمتنع أن يكون شيء من أفعاله من نفسه، بدون افتقاره في ذلك إلى غيره، كما يمتنع أن تكون صفاته وأبعاضه من نفسه، من غير افتقار في ذلك إلى غيره.
فإن ما به يعلم أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون بنفسه موجوداً، يعلم أن سائر ما يحصل له من الصفات والأفعال لا تكون بنفسه، فإن ما لا يوجد بنفسه بل بغيره، كيف يكون موجداً لغيره بنفسه بدون غيره؟(9/270)
والكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في مسألة خلق أفعال العباد، فكلما نعلم أن الله خالق أفعال العباد نعلم أنه خالق حركات الفلك إذا قدر أنها اختيارية، وإن قدر أنها اختيارية كان الأمر أولى وأولى، فإن القدرية تنازع في الأول، لا تنازع في الثاني.
وليس القائل أن يقول: إن هؤلاء الفلاسفة، كأرسطو وأتباعه، قد يسلكون في حركات الأفلاك الاختيارية مسلك القدرية، الذين لا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد.
لأنه يقال: أولاً: ليس هذا مذهبهم، بل عندهم أن أفعال الحيوان وغير ذلك من الممكنات صادرة عن واجب الوجود، وهذا هو الموجود في كتب الذين نقلوا مذهبهم، كابن سينا وأمثاله.
وأيضاً فيقال لهم: إما تجوزوا على الحي أن يحدث الأفعال من غير سبب من خارج يقتضي حدوث تلك الأفعال، لست أعني من غير مقصور يحدث، بل من غير مقتض للفعل، وإما ألا تجوزوه.
فإن لم تجوزوا على الحي ذلك، لزمكم أن الفلك الحي عندكم لا تحدث حركته إلا بسبب منفصل، يكون مقتضياً لفعل الحدوث، لا يكفي أن يكون ذلك متشبهاً به.
ثم القول في حدوث اقتضاء ذلك المقتضى، كالقول في حدوث حركة الفلك، فيلزم أن يكون فوق الفلك سبب فاعل للحوادث، وذلك يبطل قولهم.
فإنه ليس عندهم فوق الفلك حركة ولا فعل بوجه من الوجوه.
وإن جوزوا على الحي أن يحدث الأفعال بغير سبب حادث من غيره،(9/271)
لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره.
كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه
فذكر أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة وهو العلم الإلهي، الذي هو أصل حكمتهم، نهاية فلسفتهم، فيما حكاه عنه ثابت بن قرة، فإنه قال في كتاب تلخيص ما أتى به أرسطو طاليس فيما بعد الطبيعة: إن أرسطو طاليس يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيها إغماض، يرمي فيها إلى غرض واحد، إذا وفى حقه من الشرح والبيان، قبل على هذه الجهة، مما جرى الأمر فيه على صناعة البرهان، سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع.
وقال: إنما عنون أرسطو كتابه هذا بما بعد الطبيعة، لأن قصده فيه: البحث عن جوهر غير متحرك، وغير قابل للشوق، إلى شيء خرج عن ذاته.
وقال: إن الجوهر الجسماني كله الوجود مبتدأ لمتكون، إنما قوامه بطبيعته الخاصة به، وطبيعته الخاصة به إنما قوامها بصورته الخاصة به، وصورته الخاصة به المقومة لذاته، إنما قوامها بحركته الخاصة به، وكل متحرك بحركة خاصة به، فإنما يتحرك إلى تمام وتمام كل واحد من الأشياء ملائم لطبيعته، وموافق لها.
وكل متحرك إلى ما لاءمه، ووافق(9/272)
طبيعته، فبالشوق والمحبة والتوق منه إليه يتحرك، والشيء المتشوق إليه، علة لحركة المتحرك إليه بالشوق، والشيء المشتاق معلول له من جهة تلك العلة، وفي تلك الحركة، وحركة كل واحد من الأجسام، فتنساق كلها، وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك كما بين أرسطو ذلك في كتابه المعروف بـ السماع الطبيعي.
لأنه وإن وجد بعضها يحرك بعضاً، فالمتحرك الأقصى متحرك عن محرك غير متحرك، والمحرك الأول علة الصورة المقومة لجوهر كل واحد من الأشياء المتحركة حركة خاصية، فقوام جوهر كل واحد من الأشياء المتحركة، ليس له في ذاته، لكنه من الشيء الذي هو السبب الأول في حركته.
فيقال لهم: هب أن الحركة الإرادية لا تتصور إلا بمحبوب منفصل عنها، لكن إذا كان المتحرك ليس واجباً بنفسه، لا هو ولا حركته، فما الموجب له ولحركته؟ وأنتم لم تجعلوا المحرك الأول محركاً إلا من جهة كونه محبوباً معشوقاً، لا من جهة أنه فعل شيئاً أصلاً.
قال ثابت: وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن كل ما يتحرك فحركته بالشوق إلى شيء، والصورة الأولى فيما هو في الكون، وفيما هو موجود الحركة الخاصة به، فالمحرك الأول إذن هو المبدأ والعلة في وجود صور الجواهر الجسمانية كلها وبقائها، إذ كنا متى توهمنا ارتفاع وجود الحركة الطبيعية، وإن شئت أن تقول: القوي من كل واحد من الأجسام التي له، فسد جوهره لا محالة.(9/273)
ثم ذكر سؤالاً وجواباً مضمونه: إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به.
قال: فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه، انحل إلى شيء آخر أبسط منه، ليس في طبيعته حركة خاصة به، فيكون حينئذ في ذاته، لا معلول، لكن المركب فيه معلول.
فأرسطو طاليس يقول: إن هذا الظن باطل محال، لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط.
فأما في خاصة نفسه مفرداً، فلا وجود له بالحقيقة، لا قوام لذاته.
وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن، لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم، إذا توهمنا فساد صورته تلك، قبول صورة أخرى، فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول.
فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط، قلنا: فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل، وجب أن تبطل ذاته، يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو، إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول.
فإن قيل أيضاً: إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول، وليس يمكن أن ينحل هذا دائماً إلى ما لا نهاية له.
قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره، ووجوده، وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع.
قلت: فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى، التي هي المبدأ الذي(9/274)
يسميه المتأخرون: واجب الوجود بذاته، وهي طريقة المتقدمين من المشائين.
وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين: وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب، فهذه هي التي سلكها ابن سينا ومتبعوه، ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته، ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية، لا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك، ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالاً بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته، بانحلاله إلى شيء أبسط منه، فلا يكون المحرك علة لذاته، بل علة للتركيب فقط.
وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج.
وأجاب أتباعه بجواب ثان، وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول، والقبول حركة.
وهذا الجواب ساقط، فإنه إذا قدر أن فيه قبولاً، لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية.
وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب، بل يستلزم وجود فاعل مبدع.
وهم لم يثبتوا ذلك.
وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد، فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية، مع أن في تقدير هذا كلاماً ليس هذا موضع بسطه، لكن بتقدير أن هذا سلم له، فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقراً إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به، فيكون وجوده شرطاً في وجوده، بأن يقال: لا قوام للجسم إلا بطبيعته، ولا قوام لطبيعته إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا(9/275)
بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق، فغاية ما في هذا أنه لابد من وجود محبوب معشوق، ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به، لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته، ولا في وجود طبيعته، ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك، ولا دليلاً على وجود المبدع لذلك كله، بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل.
وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم، لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم، الذي ينقله أصحابه عنهم، فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان، ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله، ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق.
وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي، وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده، فكيف إذا أخذ الكلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله، أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له.
ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم، بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم، فكل بالنبوات أعلم وإليها أقرب، كان عقله ونظره أصح.
ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا.
وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات.(9/276)
ثم إنهم مع أنهم لم يذكروا المبدع للأجسام الممكنة المتحركة، اللهم إلا أن يكون هؤلاء قائلين بأن الأجسام الفلكية المتحركة واجبة الوجود بنفسها، وأنها مع ذلك مفتقرة إلى المحرك الأول.
وهذا حقيقة قول أرسطو، فهذا أعظم في التناقض، فإنه إذا قدر إن الأجسام الفلكية واجبة الوجود بنفسها، وهي متحركة حركة تفتقر فيها إلى غيرها، كان واجب الوجود متحركاً مفتقراً في حركته إلى غيره.
وحينئذ فكونه متحركاً لا يفتقر في حركته إلى غيره أولى، فإنهم حينئذ يكونون قد أثبتوا واجباً بنفسه لا يتحرك أصلاً، وواجباً بنفسه يفتقر في الحركة إلى محبوب غيره، لا قوام له إلا به.
وحينئذ فإثبات واجب يتحرك لا يفتقر في الحركة إلى غيره، أولى بالإمكان من هذا، فإن كلاهما متحرك، لكن هذا يفتقر إلى غيره، وهذا مستغن عنه.
هم قد جعلوا على هذا التقدير واجب الوجود بنفسه اثنين: واجباً لا يفتقر إلى غيره، وواجباً يفتقر إلى غيره.
فإذا قدر واجباً يتحرك بنفسه لنفسه، من غير افتقار إلى غيره، كان أولى بالجواز، ولم يكن في ذاك محذور، إلا لزمهم فيما أثبتوه ما هو أشد منه، وسيأتي تمام كلامهم في ذلك، وقولهم: إن الجسم لا يجوز أن يتحرك بنفسه حركة لا نهاية لها.
فهذا فصل، وهنا فصل ثان، وهو أنهم مع إثباتهم لكون الفعل معلولاً، إنما أثبتوه بكونه محتاجاً إلى معشوق يكون هو مبدأ الحركة الإرادية، من جهة كونه غاية لا فاعلاً، وليس في هذا ما يدل على أن الفلك له علة مبدعة فاعلة له، كما لا يخفى على عاقل.(9/277)
ثم ادعوا أن ذلك المعشوق الذي هو العلة الغائية لا يجوز أن يكون متحركاً، ولا له حركة أصلاً.
ومن هنا قالوا بقدم العالم، إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها، فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول، لئلا يكون فيه تغير.
وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل.
وكلامهم في ذلك في غاية التناقض.
وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم.
فلما قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم.
قلت وقد عرف أنه لم يبين، إن سلم له ما ذكره من المقدمات، إلا أنه لا بد للحركة من محرك، ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك، ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها.
فقال في بيان ذلك: ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود، فيما علة وجوده شيء غيره، ولا كل الأنظام أقدم من النظام، ولا كل بسيط أقدم من المركب، لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره، فإن قوام غيره به وبسببه، أو وجود غيره عنه، وجب أن يكون متقدمه في الزمان، وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه، من أنه علة وجود كل موجود، وسبب بقاء كل باق منذ الأبد، من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان، وبعد أن لم يكن كذلك، إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به.(9/278)
وقال: وذلك أنه لم يزل، ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول، يعني المحرك الأول، إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به، وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره، التي بارتفاعها يرتفع وجوده.
فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة.
قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان.
فيقال له: أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته، وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلاً، بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه، بل ادعيت ذلك دعوى.
نعم: إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد، أما أن كون المراد منفصلاً عن المتحرك أو غير منفصل، فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه، ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه، وكونه شرطاً في وجودها لا يقتضي كونه مبدعاً لها وفاعلاً لها، إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة، لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة وواتفاق العقلاء، وهم لم يدعوا ذلك.
لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلاً، قلنا: نعم، لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلاً للحوادث مبدعاً لها، وهم يأبون ذلك، حيث يكون فيه جهتان: جهة كونه مراداً محبوباً، وجهة كونه فاعلاً مبدعاً.
وهذا إذا قيل: إنه حق، أفسد أصولهم ومذهبهم.
والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه، فهو من(9/279)
جهة كونه رباً هو الخالق المبدع الفاعل، ومن جهة كونه إلهاً هو المعبود المألوه المحبوب.
لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله، فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه، وعلى ما يقوله المسلمون.
فتبين أن قوله: إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود كلام مبني على محض الدعوى والكذب.
أما الدعوى: فإنه ادعى أن المتحرك لا بد له من معشوق منفصل.
وأما الكذب: فقوله: إن ذلك هو العلة في وجود المتحرك، وإنما هو مجرد شرط، وغايته أن يكون جزءاً من أجزاء العلة في وجوده.
فهذا إذا سلمت المقدمات كلها، وهو أن الفلك يتحرك بالإرادة، وأن المتحرك بالإرادة لا وجود له إلا بحركته، وأن حركته لا بد لها من معشوق منفصل -لم يثبت إلا مجرد كون ذلك شرطاً في وجوده، لا علة تامة لوجوده، فكيف إذا قيل: إن المقدمات الثلاث باطلة، كما هو مذكور في موضعه؟
ثم قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود هذا العالم في زمان.
قال: وكان يجب من هذا أن الأشياء الموجودة لم يكن لها بتة وجود ثم أخرجت إلى الوجود، فيلزم من ذلك أن يكون لوجود العالم علة أخرى مشاركة للعلة الأولى فيه، أو فوق العلة الأولى، لأنه إن لم يكن للعلة الأولى في إخراج العالم إلى الوجود أمر من الأمور، ولا ها هنا علة تعين، أو تدعو العلة الأولى إلى إخراج العالم إلى الوجود غير ذاتها، ولا علة ترتبها(9/280)
وتعوقها، فليس لتأخر وجود العالم عن وجود ذات العلة الأولى سبب يوجبه، فكيف يمكن أن يتأخر وجود زماناً بلا نهاية، ثم يخرج إلى الوجود، كحال من كان نائماً فانتبه؟.
فيقال لهؤلاء الذين مثلهم، كما قال عبد الله بن عمر، لما سأله بعض الناس عن المحرم يقتل البعوض: انظروا إلى هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
وكما يقال عن بعض الناس إنه كان يزني بامرأة وهو صائم، فقال لها: غطي وجهك فقد كره العلماء القبلة للصائم.
وكما يقال عن بعض النصارى، إذ قال لبعض المسلمين: أنتم تقولون: إن راعياً هو رسول الله، فيقال له: أنتم تقولون: إن جنيناً في بطن أمه هو الله.
ونظائر هذه الأمثال كثيرة، التي ينكر فيها الرجل شيئاً، وقد التزم ما هو أولى بالإنكار منه.
فإن هؤلاء قالوا: إذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن، لزم افتقار العالم إلى شيء غير العلة الأولى.
وهم لم يذكروا أن العلة الأولى أبدعت العالم أصلاً، بل قولهم مضمونه: إن العالم أبدعه غيرها، أو هو واجب آخر بنفسه ليس هو مبدع، ولكن هو محتاج إليها احتياج المحب إلى محبوبه.
وهم لم يثبتوا هذا الاحتياج إلا بمقدمات، إذا حقق الأمر عليهم فيها ظهر جهلهم وتناقضهم.
فغاية ما أثبتوه ليس فيه أن العالم إبداع الأول أصلاً، مع أنهم ينكرون على من جعله محدثاً للعالم، لكون الحادث يفتقر إلى سبب حادث، فهل يكون أعظم تناقضاً من مثل هذا القول؟!(9/281)
ثم يقال: الأجسام المتحركة: إما أن تكون -أو شيء منها- واجب الوجود بذاته، وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته.
فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته، بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه، وهو العلة الأولى، لا يمكن أن يتحرك، إذ كان على هذا التقدير قد قيل: إن شيئاً واجباً بنفسه هو متحرك.
وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركاً.
وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه، فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلاً مبدعاً لها، سواء قيل: إنها قديمة أو حادثة، فإن الممكن لا بد له من فاعل، سواء قيل بقدمه أو حدوثه، إذ كان لا يكون بنفسه.
ولو قيل: إنه لا فاعل له ولا مبدع، كان واجباً بنفسه، فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه، وإما أن يكون وجوده بغيره.
فالأول هو الممكن بنفسه، والثاني هو الواجب بنفسه.
وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب، بل لا بد من تأخره عنه.
لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك، بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب، مع كونه معلولاً موجباً له صادراً عنه، وهم يسمون الواجب علة ومبدعاً وفاعلاً، وقد يسمونه محدثاً، لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم، لئلا(9/282)
يخالف المسلمين في الظاهر، كما فعل ذلك ابن سينا وغيره.
لكن بكل حال لا بد للمكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه، بل يوجب صفاته وحركاته، لا يكفي في وجوده مجرد وجوده محبوبه، بل لا بد من موجب لذاته وصفاته، بل وموجب لنفس حبه.
ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه، لزم احتياجه إلى المحبوب.
وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له، الموجب لذاته وصفاته وأفعاله، من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب، بل لمحض كونه محبوباً -فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده.
وهم، وكل عاقل، يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية، ولا بد من علة فاعلية، فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية، لزم كونه مبدعاً له، وهو المطلوب، وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم.
وإن لم يجعلوه مبدعاً له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم.
وقيل لهم: افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته، أبين من افتقاره إلى محبوب له.
قال ثابت بن قرة: وأرسطو طاليس ينكر هذا الرأي المجدد.
والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو: أن العالم أبدي، أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه- ظن كاذب.
فيقال له: الذين يظنون هذا يقولون: إن هذا لازم لأرسطو، لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له، وإن كان مقارناً لها.
بل إنما(9/283)
أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله، وليس مجرد كون الشيء محبوباً يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبة، فلهذا ألزموه ذلك.
ثم هذا اللازم له: إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله، لأن إذا كان العالم واجباً بنفسه ليس له مبدع، مع كونه مفتقراً إلى محبوب له، كما يقوله أرسطو، لزم كون الواجب بنفسه مفتقراً إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته.
وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم، لم يكن باطلاً على هذا القول الذي يلزم أرسطو.
وأيضاً فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركاً لغيره، فلأن يكون متحركاً لنفسه أولى وأحرى، وأرسطو أبطل كون الأول متحركاً بحجج تنقض مذهبه.
قال ثابت: وأرسطو طاليس يقول: فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداءً زمانيا، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجوداً زمانا بلا نهاية؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة؟.
فيقال له: هذا كله يبين فساد قولك، فإنه يقال: إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه، وإما أن يكون ممكناً.
فإن كان واجباً بنفسه، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث، وحركته المتحددة، وتحريكه لما يحركه؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على(9/284)
ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور، فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة؟
فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جواباً له.
فإن قال: ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث، وحينئذ فيجوز أن يقال: إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم، إذ كان فعل الواجب بنفسه، على هذا التقدير، قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث.
وإن قال: إن العالم ممكن.
قيل له: فلا بد له من واجب فعله.
وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث، فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما يحدث من الحوادث؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك؟
وأيضاً فيقال لهم: إن كان ممكناً صادراً عن الواجب، فما الذي أوجب الأول أن يفعله؟ وما الذي دعاه إلى ذلك؟
فإن قالوا: مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك.
قيل: فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها، لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة، وجب اقتران كل ما صدر عنها بها، ووجب اقتران الصادر عن الصادر به، فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم، بل يكون كله(9/285)
بجميع أجزائه قديماً ملازماً للذات المجردة، وهو خلاف الحس والمشاهدة.
وأيضاً فيقال له: فعل الأول إما أن يقف على داع، وإما أن لا يقف على داع.
فإن وقف على داع، قيل لك: ما الداعي الموجب لإبداعه للعالم على ما هو عليه من الأمور المختلفة والحادثة؟ وإن لم يقف على داع جاز أن يحدث ما حدث بلا داع، ولم يجب أن يكون لفعله علة.
قال ثابت: ويلزم أهل هذا الرأي أن يكون في المبدأ الأقصى الذي عنده يتناهى الأبد في ابتداء كل فعل ما هو بالقوة، وما بالقوة ليس يخرجه ما هو له بالقوة بغير علة داخلة عليه من خارج يصير معلولاً لها في تلك الجهة، لأنه إن كان ليس لإخراج ما هو له بالقوة إلى الفعل سبب غير ذاته، فيجب أن يكون وجوب ذلك الأمر بالفعل مع وجود تلك الذات المخرجة له، وذلك الشيء غير متأخر عن وجودها، وإن كان له سبب غير ذاته، فإذن تكون العلة الأولى والمبدأ الأول ليس بمبدأ أول على الحقيقة، لأنه يحتاج حينئذ إن كانت تلك حاله إلى مبدأ آخر.
وأيضاً فيلزم جوهر العلة الأولى، وإن كان لها ما هو بالقوة حيناً لم يخرج إلى الفعل حيناً تغير.
وهذا أمر قد أضرب عنه سائر القدماء، فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال.
وكما أنه ليس يمكن منه في مادة من المواد أن تؤخرها الطبيعة لحظة من غير أن يعمل منها أجود ما ينعمل من مثلها، ما لم يعتور ذلك شيء من خارج، كذلك يرى أرسطو طاليس أن الأمر واجب في جملة أمر العالم، أي في وجود جملته، إذ كان إمكانه لم يزل، والإمكان له بمنزلة المادة.
الرد عليه من وجوه. الوجه الأول
الرد عليه من وجوه.
الوجه الأول
فيقال له: جواب هذا من وجوه.(9/286)
أن يقال: خروج ما بالقوة إلى الفعل: إما أن يفتقر إلى علة من خارج وإما أن لا يفتقر.
فإن لم يفتقر بطل هذا الكلام.
وإن افتقر، فإما أن يفتقر إلى علة خارجة فاعلة، أو علة غائية، أو كلاهما.
والافتقار إلى علة غائية وحدها غير كاف، لأن ما بالقوة إذا لم يخرج إلى الفعل إلا بعلة من خارج، فلا بد أن يكون علة لوجود كونه فاعلاً، وإلا مجرد المحبوب بدون ما به يفعل المحب مطلوبه، لا يوجب وجود الفعل.
ولهذا إذا كان المحب غير قادر على الفعل.
لم يتحرك إلى المحبوب، وتحركه إلى المحبوب هو ممكن ليس بممتنع ولا واجب بنفسه، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح تام يستلزم وجود الممكن، فلا بد لفاعلية الممكن من مرجح تام الفاعلية، وذلك هو الفعل، إذ مجرد الغاية ليس مرجحاً تاماً.
وإن افتقر خروج ما بالقوة إلى الفعل إلى علة من خارج، علة فاعلة أو علة فاعلة وغائية.
قيل له: فحركة الجوهر الجسماني حينئذ يفتقر إلى فاعل خارج عنها.
وحينئذ فذاك الفاعل لم يكن فاعلاً لتلك الفاعلية في الأزل، إذ لو كان كذلك لزم وجود جميع الحركات والحوادث في الأزل، لوجود فاعلها التام، فتعين أنه صار فاعلاً لتلك الحوادث بعد أن لم يكن فاعلاً.
فيلزم حينئذ إذا جعل الممكن مفتقراً إلى علة خارجة، أن تكون العلة صارت علة لفاعليته بعد أن لم تكن علة.
وهذا قد يستدل به على العلية مطلقاً، سواء جعلت فاعلية أو غائية.
فإنه يقال: كل ما حدث من الحوادث فإنه يمتنع وجود علته التامة في(9/287)
الأزل، فإذن قد حدثت عليته -علية الفاعل والغاية- بعد أن لم تكن، فيجب أن يكون الأول قد صار علة فاعلية وغائية بعد أن لم يكن لكل ما يحدث على قلولكم، وهذا يبطل ما ذكرتموه فيه.
ثم يقال: إذا كان هذا جائزاً فيه، جاز أن يكون حدوث الأفلاك لحدوث علية حدوثها، وأن تكون قبلها حوادث قائمة به أو منفصلة عنه متعاقبة، ليس فيها ما هو قديم بعينه.
الوجه الثاني
أن يقال: لم قلت: إن ما هو بالقوة لا يخرجه فاعله بغير علة منفصلة؟ قوله: لأنه إن لم يكن لإخراجه سبب غير ذاته فيجب أن يكون مقارناً للذات، وإن كان له سبب غير ذاته، لم تكن العلة الأولى مبدأ أولاً على الحقيقة.
فيقال له: وأنت لم تجعل الأول مبدأً لوجود ما سواه، بمعني أنه فاعل له مبدع، وإنما جعلته مبدأً بمعنى أنه محبوب معشوق.
ومجرد كونه محبوباً معشوقاً لا يوجب وجود المحب وذاته وصفاته وأفعاله.
فليس الأول على ما ذكروه وحده مبدأ، بل ما ذكرته أبعد عن كونه مبدأً، لأن كونه فاعلاً يتوقف فعله على شيء من غير أقرب إلى كونه مبدأً، من كونه ليس إلا مجرد كونه محبوباً.
الوجه الثالث
أن يقال: ما تعني بقولك: إن كان ليس لإخراجه سبب غير ذاته؟ أتعني به ذاتاً مجردة عن فعل يقوم بها، أم ذاتاً موصوفة بفعل يقوم بها؟(9/288)
فإن عنيت الأول، كان اللازم أن الذات المجردة عن الفعل ليست مبدأً أول، ولا علة أولى.
وهم يلتزمون هذا، فإن الذات المجردة من الفعل لا حقيقة لها عندهم، وهم يمنعون أن يكون الأول كذلك.
وإن عنيت الثاني، لم يلزم أن يكون المبدأ الأول بمبدأ أول، لأنه إذا كان مبدأً بما هو عليه من صفاته وأفعاله التي لا يحتاج فيها إلى غيره، كان هو المبدأ الأول من غير احتياج إلى غيره.
الوجه الرابع
أن يقال: العالم إن كان واجب الوجود بنفسه مع كونه مفتقراً إلى محبوب، كان واجب الوجود معلولاً من بعض الجهات، فجاز حينئذ أن يكون المحبوب الأول، مع وجوب وجوده بنفسه، من خارج ما به يصير فاعلاً، فإن العالم حينئذ واجب الوجود، وله من خارج ما به يصير فاعلاً.
وإن كان ممكن الوجود بنفسه، لم يوجد إلا بمبدع فاعل يبدعه، فالإبداع فعل من المبدع وصنع وأنت لم تجعل الأول إلا محبوباً فقط.
وأيضاً فإذا كان الأول فاعلاً مبدعاً للعالم، بما فيه من الأمور المختلفة المحدثة، امتنع أن يكون صانعاً بالفعل لها في الأزل، لأن ذلك يستلزم وجود كل من المحدثات في الأزل وهو مكابرة للحس.
فيلزم أنه كان صانعاً بالقوة، ثم صار صانعاً بالفعل، من غير سبب خارج عنه، إذ الخارج عنه كله على هذا التقدير ممكن مفعول له، ففعله له لو توقف على تأثير فيه لزم الدور.(9/289)
ومن تدبر هذه الوجوه وما يناسبها، تبين له فساد قول هؤلاء في رب العالمين، وأن الحق ليس إلا ما جاء عن المرسلين بالعقل الصريح المبين.
الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه
وأما قوله: وأيضاً فيلزم جوهر العلة الأولى تغير، وهذا أضرب عنه القدماء.
فجوابه من وجوه.
الوجه الأول
أن صدور التغير عن غير المتغير إما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً.
فإن كان ممكناً، بطلت هذه الحجة.
ثم يجوز أن يقال: كان بحيث لا يصدر عنه شيء، ثم صدر عنه شيء من غير تغير، كما يقول ذلك كثير من أهل النظر.
وإن كان ممتنعاً.
قيل له: فالعالم المتغير: إما أن يكون صادراً عنه، وإما أن لا يكون.
فإن كان صادراً عنه، لزم أن يكون متغيراً.
وإن لم يكن صادراً عنه، فهو إما واجب بنفسه وإما ممكن.
فإن كان واجباً بنفسه، وهو مع ذلك متغير، فقد لزم أن يكون الواجب بنفسه متغيراً.
وإن كان ممكناً بنفسه، لزم أن يكون الممكن قد وجد بلا موجب.
وهذا مع واتفاق العقلاء على فساده، فهو معلوم الفساد بالضرورة.
ثم من جوز أن يوجد الممكن بلا فاعل، فلأن يجوز تغير الواجب أولى وأحرى، لأن هذا فيه مصير ما ليس بشيء شيئاً من غير فاعل، فلأن يصير شيئاً بفاعل متغير أولى وأحرى.
الوجه الثاني
قولك: هذا أمر أضرب عنه سائر القدماء لو كان(9/290)
هذا النقل حقاً لم ينفعك، لأنه لا حجة في إضراب من ليس بمعصوم.
وأنت لو احتج عليك محتج بنصوص الأنبياء، وهو ممن يعتقد عصمتهم، وقد قام الدليل عنده على ذلك، لم تقبل حجته، فلأن لا يقبل منك قول قوم توافقه أنت على عدم عصمتهم أولى وأحرى.
فكيف وهذا النقل ليس صحيحاً؟
بل كثير من القدماء ومن المتأخرين جوزوا أن تقوم بالأول أمور يشاؤها ويقدر عليها، بل صرحوا بأنه متحرك، وأنه تقوم به إرادات حادثة وعلوم حادثة وغير ذلك، كما تقدم.
فإن لم يبطل قولهم بحجة عقلية لم يكن ما ذكرته حجة.
الوجه الثالث
أن يقال: ما تعني بالتغير؟ أتعني به استحالته كاستحالة الجسم من صورة إلى صورة؟ أو تعني به كونه يفعل ما لم يكن فاعلاً له؟
فإن عنيت الأول، منعت المقدمة الثانية.
فإن المتحركات التي يخرج منها ما بالقوة إلى الفعل كالأفلاك، لا تستحيل صورتها بذلك.
وإن عنيت الثاني، قيل لك: هذا لا يسمى تغيراً، أو لا نسميه تغيراً.
وإذا سميته تغيراً، لم يكن في مجرد تسميتك له ولا تسميتنا له -إذا وافقناك على التسمية- ما يمنع جوازه.
فإن مجرد الألفاظ لا تثبت بها المعاني العقلية، فلم قلت: إن هذا المعنى ممتنع؟
بل هذا هو نفس المتنازع فيه، لكن بدلت العبارة عنه.
أفبأن(9/291)
بدلت العبارة عنه صادرت عليه وجعلته مقدمة في إثبات نفسه؟ ونحن لا نعني بالتغير إلا كونه يفعل ما لم يكن فاعلاً.
الوجه الرابع
أن يقال لك: نحن نشاهد حدوث الحوادث، وأنت تسمي ذلك إخراج ما بالقوة إلى الفعل، فلا بد حينئذ في حدوث الحوادث من إخراج ما بالقوة إلى الفعل، فمحدثها أخرج ما بالقوة إلى الفعل، والمحدث لإحداثه الذي جعله يخرج ما بالقوة إلى الفعل كذلك، وهلم جراً.
فإن قدرت مع هذا محدثاً لفاعليته، غير مخرج ما بالقوة إلى الفعل، بطلت حجتك.
وإن جعلت الأول أخرج ما بالقوة إلى الفعل، بطل أيضاً دليلك.
وإن ادعيت أن بعض الفاعلين يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل دون الآخر، بطل دليلك، فهو باطل على كل تقدير.
وذلك أنه يلزمه أحد أمرين، كلاهما يبطل قوله.
فإنه إن أثبت فاعلاً يخرج ما بالقوة إلى الفعل، من غير سبب من خارج، أمكن أن يكون الأول كذلك، فبطل قوله.
وإن لم يجوز أن يكون فاعلاً يخرج ما بالقوة إلى الفعل إلا بسبب من خارج، لزمه أن يكون كل فاعل للحوادث لم يحدث فاعليته إلا بسبب أخرج ما بالقوة إلى الفعل: فإن كان الأول كذلك، لزم التسلسل الممتنع.
وإن لم يكن كذلك، كان الأول مخرجاً لما بالقوة إلى الفعل، من غير سبب من خارج، وذلك يبطل قوله.(9/292)
قال: فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال.
الرد على كلام آخر لثابت بن قرة
فيقال له: أولاً: أرسطو لم يثبت على أولى مبدعة للعالم، ولا فاعلة له، ولا علة فاعلة له.
وإنما أثبت علة غائية له، ولم يقم على ذلك دليلاً.
فهو مع أنه لم يذكر إلا جزء علة لم يقم عليه دليلاً.
فأي تمام وكمال أثبته للعلة الأولى؟!
وأما أهل الإثبات فيقولون: نحن نثبت للأول غاية ما يمكن من التمام والكمال، بما نثبته له من صفات الكمال وأفعاله سبحانه وتعالى، فنحن أحق بوصفه بالكمال، من وجوه لا تحصر.
وإذا قال القائل: فلم تأخر ما تأخر من مفعولاته؟
قلنا: هو لازم على القولين، فلا يختص بجوابه.
ثم يقال: الموجب لذلك ما تقول أنت في نظيره في تأخر الحوادث، مثل استجماع الشروط التي بها يصلح كون الحادث مفعولاً، أو بها يمكن كونه مفعولاً، فإن عدمه قبل ذلك قد يكون لعدم الإمكان، وقد يكون لعدم الحكمة الموجبة تأخره، إذ لا بد في الفعل من القدرة التامة والإرادة التامة المستلزمة للحكمة.
وأما قوله: كما أنه ليس يمكن أن تؤخر الطبيعة فعلها في المادة القابلة إلا لعائق، فكذلك الأمر في العالم إذا كان إمكانه لم يزل.
والإمكان له بمنزلة المادة.(9/293)
فيقال: أولاً أنت لم تثبت له فعلاً ولا إبداعاً، بل الطبيعة عندك تفعل.
والأول لم يثبت إلا كونه محبوباً للتشبه به، وأثبت ذلك بلا دليل.
ويقال لك: ثانياً: إن كان مجرد الإمكان موجباً لكون الممكن مقارناً للواجب، لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزلياً.
وهذا مكابرة للحس والعقل.
فإن قلت: إن بعض الممكنات توقف على شروط، أو يكون له مانع.
قيل لك: فحينئذ ما المانع أن يكون إبداع الأول للعل متوقفاً على شروط، أو له مانع، مع كون الأول لم يزل يفعل أفعالاً قائمة بنفسه، أو مفعولات منفصلة عنه، كما يقوله أساطين أصحابك من الفلاسفة المتقدمين على أرسطو أو غيرهم؟
ويقال لك: ثالثاً: إن كان العالم واجباً لنفسه، فقد تأخر كثير من أفعاله، فيلزم أن يتأخر ما يتأخر من فعل الواجب بنفسه، وإن كان ممكناً بنفسه، ففاعله قد أخر كثيراً مما فيه من الأفعال.
وعلى كل تقدير فقد تأخر عن الواجب بنفسه ما تأخر من مفعولاته، فعلم أنه لا يلزم مقارنة مفعولاته كلها له، وإذا جاز تأخر ما يتأخر من مفعولاته، فلم لا يجوز أن تكون الأفلاك من ذلك المتأخر؟
قال: إلا أن قوماً يرون أنه يجب من هذا -أعني من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى- أن لا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود(9/294)
العالم، كما لا صنع لها في وجود جوهرها، إذ كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود جوهر العلة الأولى، فيكون وجوده لازماً اتباعه لوجود العلة الأولى، فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له، فيكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته، إذ وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك، لا سيما وأرسطو طاليس يقول: إن المحرك الأول هو علة حركة كل ما في الكون بالتشوق.
فالأولى على ظاهر الأمر أن يكون الشيء المتشوق إليه تشوق بجهة طبيعته لا بإرادته، لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائماً أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه.
فإذن ليس يؤثر جوهر هذه العلة أثراً ولا يفعل فعلاً منقلباً عن قصدها وإرادتها، ولا دون إرادتها، إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوق جوهرها أمر تقتبس منه ازدياد في شيء من حاله، ولا يعرض لها أمر تحتاج إلى استدفاعه.
فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء، ولا قبول لتغيير، ولا لحدوث شأن متجدد له.
فليس يوجد إذن أمر يحدث هذه الذات بالطبع وبغير إرادة، وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات في حال أو شأن، ليس هي المبدأ الأول له، والعلة فيه.
وبالجملة فكل ما كان له ما هو الطبع على الجهة الطبيعية التي(9/295)
ينحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته، والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق له، والشيء المشوق له مبدأ له في ذلك الشوق، ومن جهة أنه هو له علة تمامية من جهة من الجهات.
وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول، ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة.
فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول
فساد كلام آخر له من وجوه.
الوجه الأول
هذا كلامه ولقائل أن يقول: هذا الكلام قد كشف فيه قوله ومذهبه، وقد تبين في ذلك من التناقض والفساد ما يطول ذكره بالوصف والتعداد.
وذلك من وجوه:
قول أرسطو: إن المحرك الأول هو علة كل ما في الكون بالتشوق، والمتشوق إليه إنما تشوق بجهة طبيعته لا إرادته، ولأنه قد يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يوجد شيء عليه، فإذن ليس يؤثر أثراً، ولا يفعل فعلاً، لا عن إرادتها، ولا بدون إرادتها إلى آخر كلامه.
فيقال له: قد صرحتم في كلامكم بأن الأول ليس له فعل بإرادة، ولا بدون إرادة، ولا تأثير في العالم أصلاً إلا من جهة كونه معشوقاً متشوقاً إليه، والمعشوق المتشوق إليه لا يجب أن يكون شاعراً بالعاشق، ولا مريداً له، ولا قادراً على فعل يفعله به، بل الجمادات تحب ويشتاق إليه، كما(9/296)
يشتاق الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الشراب، والبردان إلى الثياب، والضاحي في الشمس إلى الظلال.
ثم إنكم مع هذا لم تذكروا على ذلك دليلاً صحيحاً، ولكن نحن نخاطبكم بما أقررتم به.
فيقال: إذا كان بهذه المثابة، لم يكن علة للعالم، ولا مبدأ له، ولا فاعلاً له، ولا مؤثراً فيه أثراً، فبطل قولكم: إنه علة العلل، وإنه المبدأ الأول.
قولكم: إنه علة طبيعية للعالم ومتممة له.
غاية ما في الباب أن العالم يكون محتاجاً إليه، من كونه مشتاقاً إليه، والشيء المشتاق إليه لا يجب أن يكون هو المبدع المشتاق ولا الفاعل له، ولا يكون مؤثراً فيه، كما اعترفتم به، وكما هو معلوم لكل عاقل.
فإن كون الشيء علة غائية، لا يستلزم أن يكون على فاعلية، لا سيما وإنما هو علية من جهة أن الفلك يحب التشبه به، فهذا مع ما فيه من جحد وجود واجب الوجود المبدع للعالم، فيه من تناقض قولكم ما قد تبين.
وسنبين إن شاء الله فرقهم بين العلة الأولى وبين العالم القديم بأنه جسم، وأن الجسم لا تكون فيه قوة غير متناهية، وما ذكروه في ذلك.
الوجه الثاني
أن يقال: هذا القول الذي قلتموه يبطل حجتكم على قدم العالم أيضاً، فإنه إذا لم يكن مؤثراً في العالم وعلة له، ومبدأ ومحركاً له، إلا من جهة كونه محبوباً شائقاً معشوقاً، أمكن تأخر وجود العالم عن وجوده، فإن الشيء المشتاق إليه قد يتأخر عنه ما يشتاقه، والشيء(9/297)
المشتاق إليه هو مستلزم لوجود المشتاق، بل الأمر بالعكس فالمشتاق إليه غني عن المشتاق، والمشتاق محتاج إلى المشتاق إليه.
وحينئذ فيكم وجود الأول المشتاق إليه، بدون وجود العالم المشتاق، ثم بعد هذا يوجد العالم المشتاق، ولا يقدح ذلك في كمال المشتاق إليه.
فإن قلتم: فما الموجب لوجود العالم بعد هذا؟
قيل لكم: هو الموجب لوجوده قبل هذا على أصلكم، فإنكم لم تثبتوا للعالم مبدعاً فاعلاً، وحينئذ فلا فرق بين تقدم وجوده وبين تأخره، إلا أن تقولوا، إنه واجب الوجود بنفسه.
وإذا قلتم: إن العالم مع احتياجه إلى المعشوق الغني عنه واجب الوجود بنفسه، كان قولكم أعظم تناقضاً.
الوجه الثالث
ونحن نبي ذلك بالوجه الثالث: فنقول: إذا أثبتم للعالم وعلته المعشوقة له، التي يجب التشبه بها، وتتحرك لاستخراج ما فيه من الأيون والأوضاع، لأن ذلك غاية التشبه بها.
فإما أن تقولوا: هذا واجب الوجود بنفسه، أو تقولوا: إن أحدهما ممكن بنفسه، لا يوجد إلا بالواجب بنفسه.
فإن قلتم بالأول، ثبت أن العالم المحتاج إلى محبوبه واجب الوجود بنفسه، مع كونه معلولاً من هذه الجهة، وكونه ذي إرادة وشوق، وكونه يؤثر آثاراً ويفعل أفعالاً بالإرادة.(9/298)
وقد قلتم: إن هذا لو كان في الأول لكان نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من خارج، فقد أثبتم في الواجب بنفسه نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من الخارج، فإن كان هذا جائزاً في الواجب بنفسه، لم يمتنع هذا في الأول المعشوق، بل جاز مع وجوبه بنفسه أن يكون أيضاً عاشقاً مريداً مؤثراً فاعلاً، فيه على أصلكم نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج.
وإذا كان هذا غير ممتنع في الواجب بنفسه، بطل ما ذكرتموه من امتناع ذلك عليه.
وأيضاً فإذا جاز ذلك عليه، لم يكن أحدهما بكونه عاشقاً والآخر معشوقاً أولى من العكس، بل يمكن أن يكون كلاهما محباً للآخر مشتاقاً إليه.
وبتقدير أن يكون هو المحب للعالم المريد له، يكون هو المحدث لما فيه من الحركات.
ثم على هذا التقدير لا يجب أن تكون الأفلاك هي الواجبة بنفسها، بل يمكن أن يقال هناك واجب بنفسه غيرها، ثم إن أحد الواجبين أحدث الأفلاك لما حدث له من الشوق، كما تقولون فيما يحدث بحركة الفلك.
وفي الجملة إذا قالوا: إن العالم واجب الوجود بنفسه، نقضوا كل ما ذكره في المبدأ الأول، ولم يكن لهم حجة على الطبيعية الذين ينكرون الأول.
والطبيعة الذين يقولون: العالم واجب بنفسه، قولهم أفسد من قول هؤلاء الإلهيين منهم كلهم، كما قد بين فساد قولهم في غير هذا الموضع.(9/299)
لكن فساد أقوالهم يظهر من وجه آخر، من غير التزام صحة قول الإلهيين بل قول كلا الطائفتين باطل متناقض، يعلم بطلانه وتناقضه بصريح العقل.
وإن قال هؤلاء الإلهيون: إن العالم ممكن الوجود بنفسه، فلا بد أن يكون هناك واجب، هو علة فاعلة له، لا يكفي في وجوده ما هو مشتاق إليه، فإن ما لا وجود له من نفسه، ليس له من نفسه لا صفة ولا شوق ولا حركة ولا شيء من الأشياء، فلا بد لكم من إثبات مبدع للممكن، قبل إثبات شوقه إلى غيره، ثم يبقى النظر بعد ذلك في قدمه وحدوثه نظراً ثانياً.
الوجه الرابع
أن يقال: قولهم أولاً: إن قوماً يرون أنه يجب من هذا، أي من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى، ألا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم، كما لا صنع لها في وجود جوهرها، إذا كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود العلة الأولى.... إلى آخره.
فيقال لكم: إرادة العلة الأولى إما أن يستلزم تأخر فعلها للعالم أو يجوز مع ذلك تقدم فعلها للعالم، فإن كانت الإرادة تستلزم تأخر المراد، لزم تأخر العالم المشتاق صاحب الإرادة والشوق، فإن العالم عندكم قديم له إرادة وشوق قديم، فإن كان القديم لا يكون له شوق وإرادة بطل قولكم بقدم العالم، مع القول بشوقه.(9/300)
وإن كان القديم يمكن أن يكون له إرادة وشوق، أمكن أن يكون الأول له إرادة وشوق مع قدمه، وأن يكون صانعاً للعالم صنعاً إرادياً، وهذا أيضاً يبطل قولكم.
الوجه الخامس
أن يقال: القديم: إما أن يجوز أن يكون له إرادة، وإما ألا يجوز.
فإن لم يجز، امتنع كون العالم قديماً مريداً.
وحينئذ فلا يبقى لكم حجة على إثبات المبدأ الأول، فإنكم إنما أثبتموه بأنه، معشوق للعالم المتحرك بالإرادة مع قدم العالم.
فإذا امتنع كون القديم مريداً، لم يلزم أن يكون هناك معشوق قديم، فلا يبقى دليل على ثبوته.
وإن جاز أن يكون القديم مريداً، جاز كون الأول مريداً، وبطل قولكم: إنه لا صنع إرادي للعلة الأولى.
فأنتم بين أمرين: إما سلب الإرادة عن العالم القديم، وإما إثباتها للأول القديم.
وأيهما قلتم بطل قولكم ببطل قولكم، وسنتكم إن شاء الله على فرقهم.
الوجه السادس
بل يقال في الوجه السادس: إنكم لو أثبتم الإرادة للأول القديم، وسلبتموها عن الفلك، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الملل، كان أقرب إلى المعقول من إثباتها للفلك، ونفيها عن العلة الأولى، فإن صريح العقل يعلم أن العلة والمبدأ الأول أولى أن يكون مريداً من المعلول الثاني، فإن الفعل إن لم يستلزم إرادة، لم تستلزم حركة الفلك إرادة، وإن استلزم إرادة، فالعلة الفاعلة أولى بالإرادة من المعلول المفعول.
ألا ترى أن المعلولات قد تكون جامدة، كالعناصر والنباتات التي لا إرادة لها؟.(9/301)
يبين ذلك أن الحركات ثلاثة: الطبيعية والقسرية والإرادية.
فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية لا تكون إلا إذا خرج الجسم عن مركزه، فيميل بطبعه إلى مركزه، فكلاهما عارضة، وإنما الحركة الأصلية هي الإرادية.
وإذا كان كذلك فالمعلول المفعول يحتاج إلى إرادة فاعلة، أعظم من حاجته إلى كونه هو مريداً، فإنه إذا كانت جميع الحركات مستندة إلى الإرادة، فمن المعلوم أن احتياجها إلى إرادة الفاعل، أعظم من احتياجها إلى إرادة المفعول.
فإن قالوا: الفلك عندنا ليس بمعلول عن واجب مبدع، بل هو قديم واجب بنفسه.
كان ما يلزمهم على هذا التقدير، مثل جعل الواجب بنفسه جسماً متحيزاً تحله الحوادث، مفتقراً إلى علة يتشبه بها، وسائر اللوازم أعظم مما فروا منه.
الوجه السابع
أن يقال: الممكن لا يوجد إلا بفاعل، ويمكن وجوده بدون كونه مشتاقاً، فوجوده مشروط بالفاعل له، ليس مشروطاً بكونه مشتاقاً، فكيف يجوز إثبات ما لا يحتاج الممكن في وجوده إليه، وإلغاء ما لا يكون موجوداً إلا بوجوده؟.
الوجه الثامن
أن يقال: قولكم: فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له، ويكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك، ويؤثره بطبيعته، أو وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك، لا سيما(9/302)
وأرسطو يقول: إن المتحرك الأول إنما يحرك كل ما في الكون بالشوق، وهو شوق المتحرك إليه إلى آخره.
فيقال: هذا كلام متهافت متناقض، وذلك أن ما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته، هو عندكم مريد له، مع أن وجوده مع وجود الفلك، وقد شبهتم فعل الأول بفعل الفلك، ثم قلتم إن الأول ليس له إرادة ولا تأثير، فهذا التمثيل يناقض هذا التفريق.
الوجه التاسع
أن يقال: الفلك إما أن يكون فاعلاً بالإرادة، وإما ألا يكون.
فإن كان الأول، وهو قولكم: ووجود فعله مع وجوده، لزم أن يكون الفعل الإرادي يجوز مساوقته للفاعل، وألا يتأخر عنه.
وهذا يبطل قلوكم: إنه يجب من وجوب الفلك مع العلة الأولى أن يكون لا صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم فإنكم حينئذ أثبتم فاعلاً فعلاً إرادياً، مع كون فعله موجوداً معه.
وأما قولكم: كما لا صنع لها في وجود جوهرها فهذا تمثيل ساقط إلى غاية، فإن الواجب بنفسه لا يكون فاعلاً لنفسه، وأما معلوله فلا بد أن يكون فاعلاً له.
فكيف يقال: لا يفعل معلوله، كما لا يفعل نفسه؟
وإن لم يكن الفلك فاعلاً بالإرادة، بطل كونه مشتاقاً عاشقاً، وبطل ثبوت المبدأ الأول، وحينئذ فيبطل ما بنيتم عليه ثبوت الأول وقدم العالم.
الوجه العاشر
قولكم: ينبغي أن ينزل أمر العلة الأولى في جوهرها(9/303)
وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه كلام حق، لكن أنتم من أبعد الناس عنه، فإنكم جعلتم أمر العلة الأولى من أنقص ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، بل جعلتموه أنقص من كل موجود شبيهاً بالمعدوم، فإن الموجودات أقسام: أعلاها الذي يفعل غيره ولا ينفعل عن غيره.
وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المبدأ الأول.
والقسم الثاني: الذي يفعل وينفعل، كالإنسان.
وثالثها: الذي ينفعل ولا يفعل كالجماد.
وأما ما لا يفعل وال ينفعل فهذا لا يكون إلا معدوماً.
وأنتم جعلتم الأول لا يفعل شيئاً ولا ينفعل، فإنكم قد قلتم: إنه لا يؤثر أثراً ولا يفعل فعلاً، لا عن إرادة ولا دون الإرادة، وقلتم أيضاً، إنه لا ينفعل عن غيره، وهذا حال المعدوم.
ووصفهم له بأنه معشوق لا يفيد، فإن المحبوب المعشوق من الموجودات لا بد أن يكون فاعلاً أو منفعلاً.
وأما ما لا يفعل ولا ينفعل فلا يحب ولا يحب، ولا حقيقة له.
فوصفتم الواجب الوجود المبدع لكل ما سواه بما هو أنقص من صفات سائر الموجودات، ولا يتصف به إلا المعدومات.
الوجه الحادي عشر
أنكم قلتم: إن المحرك الأول إنما يحرك الفلك، لكون الفلك مشتاقاً إليه أي إلى التشبه به.
وقلتم: إن المشتاق إليه إنما تحرك بجهة طبعية لا إرادية، لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائماً أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه(9/304)
والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه.
وأردتم تنزيهه أن يشبه بالنائم ونحوه، وأنتم وصفتموه بدون صفة النائم.
فإن المحبوب الذي لم يشعر بمحبه لنومه يمكن أن يتنبه فيشعر به، ويمكن أن يحب محبه.
ومن المعلوم أن المحبوب الذي يمكن أن يعلم بمحبه، وأن يحبه، أكمل من النائم الذي لا يعلم به ولا يحبه.
وأنتم قد قلتم: إنه لا يمكن أن يكون منه محبة لمحبه، ولا أثر، ولا فعل من الأفعال.
وقال أرسطو وأكثركم: إنه لا شعور له بمحبة، بل قد يقولون: إنه لا شعور له بنفسه أيضاً.
فهل هذا إلا وصف له بدون صفة النائم ونحوه من الناقصين؟!
الوجه الثاني عشر
أن يقال: إذا نزل أمر الأول على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، فمن المعلوم أن الموجود إذا انقسم إلى حي وميت، فالحي أكمل من الميت، وإذا قسم إلى ما يقبل الاتصاف بالحياة والموت وما لا يقبل، فالذي يمكن اتصافه بذلك كالحيوان، أكمل ممن لا يمكن اتصافه بذلك كالجماد.
وإذا قسم إلى عالم وجاهل، وما لا يقبل لا هذا ولا هذا، وقادر وعاجز، وما لا يقبل لا هذا ولا هذا، كان ما يقبل واحداً منهما، أكمل مما لا يقبل، وما كان عالماً قادراً أكمل مما كان جاهلاً عاجزاً.(9/305)
وإذا قسم إلى ما يكون فاعلاً بالإرادة، وما يفعل إرادة، وما لا يفعل لا بهذا ولا بهذا، كان ما يفعل بالإرادة أكمل مما يفعل بدون إرادة، وما يفعل بدون إرادة أكمل ممن لا فعل له، وأنتم جعلتموه لا يفعل لا بإرادة ولا بدون إرادة.
الوجه الثالث عشر
قولكم: فإذن لا يؤثر هذه العلة أثراً، ولا يفعل فعلاً منقلباً عن إرادتها وقصدها، ولا دون إرادتها، إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوق جوهرها أمر يقتبس منه ازدياداً في شيء من حاله إلى آخره.
فيقال لكم: إذا قدر ذات لها فعل وتأثير بالإرادة، وذات ليس لها فعل ولا تأثير، لا بإرادة ولا بدونها، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل.
ولهذا كان الحيوان أكمل من الجماد.
وقلتم أنتم: إن حركة الفلك إرادية، وإن ذلك أكمل من أن تكون حركته غير إرادية.
وإذا قدر مع هذا أن المتحرك بالإرادة محتاج إلى تمام من خارج، وهو متحرك لطلب ذلك التمام، فهو أكمل من الذي لا يقبل التمام كالجماد، فإذا كان الأول عندكم لا شعور له ولا إرادة ولا فعل بالإرادة ولا يمكن أن يكون له شيء من ذلك، كان المتحرك بالإرادة لطلب تمامه أكمل من هذا الناقص المسلوب صفات الكمال، الذي لا يمكن اتصافه به، فالعميان والعرجان والصم والبكم العمي أكمل من هذا الأول الذي فرضتموه، والفلك أكمل منه بكثير، وفيما ذكرتموه من التناقض وغاية الفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد.
الوجه الرابع عشر
أن يقال: العالم: إما أن يكون واجباً بنفسه(9/306)
وإما أن يكون ممكناً.
فإن كان ممكناً، لم يوجد إلا بواجب يبدعه ويفعله، فيلزم أن يكون للأول فعل وتأثير، وذلك مناقض ما ذكرتموه.
ثم إذا قدر من يفعل بإرادة ومن يفعل بلا إرادة، فالفاعل بالإرادة أكمل، فيلزم أن يكون فاعلاً له بالإرادة، حيث سلمتم أنه يجب أن ينزل أمره في جوهره وسائر أموره، على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، وإن كان العالم واجب بنفسه، مع كونه عندكم مفتقراً إلى الأول، افتقار الشيء إلى من يتشبه به، ويحركه بالإرادة حركه يحصل بها تمامه -أمكن أن يكون واجب الوجود يتحرك حركة إرادية، يحتاج فيها إلى تمام من خارج.
فثبت أنه على تقدير إمكان العالم بنفسه، ووجوبه بنفسه، يلزم أن يكون الواجب بنفسه له فعل وتأثير، وذلك ينقض ما ذكرتموه، وإن وصفه بذلك أولى من وصفه بكونه لا فعل له ولا إرادة ولا تأثير، ولا يمكن اتصافه بشيء من صفات الكمال.
الوجه الخامس عشر
أن يقال: أنتم فررتم من إثبات نوع من النقص له، فأثبتم له من النقائص ما يكون أنقص به من جميع الموجودات.
فإنكم فررتم من كونه يفعل بإرادة وبغير إرادة، لأن ذلك بزعمكم يستلزم نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من خارج.
فيقال: إذا قدر أنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة، ولا فعل لا بإرادة ولا غير إرادة، ولا يؤثر شيئاً أصلاً، ولا يتأثر عن شيء -كان ما في الموجود أكمل منه، فهذا منتهى كل نقص، ومن كان فيه نقص يمكنه إتمامه من خارج، كان خيراً من العدم، ومن لا يمكنه إتمام نقصه.(9/307)
الوجه السادس عشر
أن يقال: ما هو النقص الذي نزهتموه عنه؟ فإن النقص لا يعقل إلا عدم كمال، أو وجود مناف لكمال.
فعدم العلم والحياة والقدرة يسمى نقصاً، ووجود الصم والبكم والخرس المنافي لهذه الصفات يسمى نقصاً، ثم ما كان قابلاً للاتصاف بصفات الكمال، أكمل ممن لا يقبلها.
فإذا كان عندكم لا متصفاً بها ولا قابلاً للاتصاف بها، كان هذا غاية ما يعقل من النقص، فما النقص الذي نزهتموه عنه؟
فإن قالوا: نزهنا عن طلب تمامه من خارج، فإن كون تمامه لا يحصل إلا بسبب من خارج نقص.
فيقال لهم: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن هذا إن كان نقصاً، فما وصفتموه به من النقائص أعظم من هذا وأكثر.
الثاني: أن يقال: فكون تمامه ممكناً وهو طالب له، أكمل من كونه لا يقبل التمام ولا يطلبه.
الثالث: ولم قلتم: إن هذا نقص؟ فإن النقص إنما يكون نقصاً إذا عدم ما ينبغي وجوده أو ما يمكن وجوده، فإذا قدر أمر لا يمكن وجوده في الأزل، أو لا يصلح وجوده في الأزل، فلم قلتم: إن عدم هذا نقص؟
الرابع: أن يقال: ظنكم أن تمامه يحتاج إلى سبب منفصل غلط، كما قد بسط في موضع آخر، فليس هو محتاجاً في شيء من أفعاله، فضلاً عن صفاته وذاته، إلى سبب خارج عنه.
الوجه السابع عشر
أن يقال: لم قلتم: إن الأول إذا كان فاعلاً مؤثراً(9/308)
بالإرادة، لزم أن يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج؟ فإن هذا إنما يلزم لو كان المحرك له شيئاً منفصلاً عنه.
أما إذا لم يكن مبدأ فعله إلا منه، لم يلزم أن يكون محتاجاً إلى تمام من خارج.
وأنتم لم تقيموا دليلاً على أن كل فاعل بالإرادة لا يكون مبدأ فعله إلا بسبب من خارج، بل ادعيتم هذا دعوى مجردة.
ومن هنا يتبين فساد أصل كلامهم.
فنقول في:
الوجه الثامن عشر
أنتم لما ذكرتم أن حركة الأفلاك إرادية قلتم: إن المتحرك بالإرادة لا يكون إلا بمحبوب منفصل عنه، ثم إنكم قلتم: الأول لا يتحرك بالإرادة، لئلا يكون له محبوب منفصل فنحتاج إليه، ولم تذكروا دليلاً على أن كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون مفتقراً إلى محبوب منفصل، بل ذكرتم هذا دعوى مجردة بنيتم عليها إثبات الأول، وبنيتم عليها امتناع كون الأول مؤثراً ويفعل بإرادة أو غير إرادة، وإذا لم يفعل بإرادة ولا غير إرادة امتنع وجود الممكنات، فامتنعت حركتها بالإرادة، فامتنع احتياجها إلى معشوق، فبطل دليلكم على إثبات الأول، فكان نفس دعواكم التي بنيتم عليها إثبات الأول وسلب أفعاله، ولم تقيموا عليها دليلاً، هي بعينها تستلزم عدم دليلكم على ثبوت الأول، فتبين أنه ليس في كلامكم لا إثبات للأول، ولا نفي لشيء عنه.
الوجه التاسع عشر
أن يقال: لم قلتم: إن كل فاعل بالإرادة أو كل متحرك، بالإرادة يجب أن يكون محتاجاً إلى مراد منفصل عنه غني عنه؟ ولم(9/309)
تذكروا على هذا دليلاً.
ويقال لكم: لم لا يجوز أن يكون هو المراد المحبوب، فيكون محباً لنفسه، فهو المحب وهو المحبوب؟ أو يكون مريداً محتاجاً لما هو مفعول له، فيكون هو مراده، فلا يكون في ذلك احتياجه إلى غيره؟
وأنتم تقولون ما هو موجود في كتبكم: إن الأول عاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ، ومبتهج ومبتهج به، فإذا جاز عندكم أن يكون محباً محبوباً، مريداً مراداً، فلم لا يجوز أن يكون إذا فعل بالمحبة والإرادة، هو المحبوب المراد؟
وعلى اصطلاحكم: هو العاشق المعشوق؟ وعلى هذا التقدير يبطل أصلاً كلامكم، ويمكن وصفه بصفات الكمال وبالأفعال الكاملة الإرادية، التي لا يفتقر فيها إلى غيره، ولا يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج.
الوجه العشرون
أنكم تقولون: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإن حركة الفلك الإرادية لا يجوز أن تكون لأجل السفليات، لكن لزم حصول ما حصل عن حركته الإرادية بالقصد الثاني.
وإنما مقصوده بحركته الإرادية التشبه بمحبوبه الأعلى.
وإذا كان الأمر كذلك، فلم لا يجوز أن يكون الأول هو المريد والمراد، والمحبوب والمحب؟ وهو لا يريد شيئاً لأجل شيء سواه، ولكن محبته لنفسه وإرادته لها، استلزم وجود المفعولات، كما قلتموه فيما صدر عن الأفلاك.
وإذا قيل: هو فاعل باختياره وإرادته، فعلاً يستلزم وجود المعلولات، كان كما قلتم مثل ذلك في حركة الفلك، فهذا القول جاز على(9/310)
أصولكم، وهو أحق بالجواز إن كانت أصولكم صحيحة -مما قلتموه فيه من وصفه بغاية النقص، فإذا وصفتموه بهذا كنتم قد وصفتموه بصفات الكمال، مع رعاية أصولكم التي اعتقدتم صحتها، ولم يكن في هذا محذور، إلا كان في نفيه من المحذور ما هو أعظم منه.
الوجه الواحد والعشرون
أن يقال: قولكم: فجوهرها ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء مضمونه أنها لا تحب شيئاً ولا تبغضه، فلم قلتم ذلك؟
فإن قلتم: إن المحب المبغض لا يحب إلا ما يحتاج إليه من غيره، ولا يبغض إلا ما يحتاج إلى دفعه عن نفسه.
قيل لكم: ولم قلتم ذلك، والفلك عندكم يحب بل يعشق؟ وإذا كان يحب شيئاً فإنه يبغض زواله، ومع هذا فهو عندكم لا يخاف من شيء منفصل، ولا يحتاج إلى دفع ضرر عن نفسه، بل ولا يجوز عليه الفساد والانحلال، وهو مع هذا عاشق محب، طالب مشتاق، فلا يلزم من كونه مشتاقاً، أن يكون من يعرض له أمر يحتاج إلى استدفاعه.
وأما كون الحب يوجب أن يكون فوقه جوهر آخر يقتبس منه، فهذا إنما يلزم إذا لم يكن قادراً على حصول محبوبه.
فأما إذا قدر أنه ليس في ذلك حاجة إلى ما هو غني عنه، لم يكن في ذلك محذور.
الوجه الثاني العشرون
أن يقال: قولكم: فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء، ولا قبول لتغيير، ولا لحدوث(9/311)
شأن متجددة أمر لم يذكروا عليه حجة عقلية، إلا ما ذكرتموه من أن هذه الذات ليس فيها نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوقها ما تزداد منه، ولا يعرض لها ما يحتاج دفعه.
فيقال لكم: الجوهر المتحرك أهو محتاج إلى شيء من خارج، وفوقه ما يزداد منه، ويعرض له ما يحتاج إليه في دفعه، أم ليس كذلك؟
فإن قلتم: إنه بهذه الصفة وهو متحرك، لم يكن في ثبوت هذه الصفات ما يمنع كون الموصوف متحركاً، فيجوز حينئذ على الأول أن يكون متحركاً قابلاً لقيام الأمور الاختيارية به، كما يقبله الجوهر المتحرك، إذ كان كلاهما مشتركاً في هذه الصفات.
وإن قلتم: ليس كذلك، وإن الجوهر المتحرك يعرض له ما يدفعه عن نفسه.
قيل لكم: ليس هذا قولكم: وبتقدير أن يعرض له، فليس فوقه ما يدفع هذا عنه، إذ عندكم ليس فوقه فاعل، إنما فوقه محبوب ليس بفاعل ولا مؤثر: لا بإرادة ولا بدون إرادة.
وكذلك إن قلتم: إنه يحتاج إلى تمام من خارج، أو فوقه جوهر يقتبس منه زيادة.
قيل لكم: فمن الذي يفيده الزيادة ويزيل عنه الحاجة غيره؟
فإن قلتم: الأول.
فالأول عندكم ليس يؤثر أثراً، ولا يفعل فعلاً: لا عن إرادة ولا عن غير إرادة.
وكونه محبوباً لا يقتضي أنه يفعل بالمحب فعلاً(9/312)
يزداد به، إذ كان الفاعل للحب في المحبوب المحرك له إلى المحبوب ليس نفس المحبوب، إذ كل عاقل يعلم أن الخبز إذا أحبه الجائع لم يفعل حركته ولا قصده، كذلك المعشوق الذي لا يشعر بعاشقه، ليس منه فعل ولا حركة يزيد بها المحب شيئاً، وإنما يضاف الفعل إليه كما يضاف إلى الجماد.
كما يقال: أهلك الناس الدرهم والدينار.
ويقال: قتلني حب المال.
ويقال للذهب: قاتول.
ويقال للدنيا: غرارة خداعة مكارة، ونحو ذلك مما يضاف إلى ما تحبه النفوس وتهواه، من غير فعل منه ولا قصد، فإنما يضاف الفعل إليه لأنه كان بسببه، لا أنه هو المحدث لذلك الفعل ولا الفاعل له، ولا المبدع له، وهذا متفق عليه بين العقلاء.
وإذا كان كذلك فليس في الجوهر الجسماني الفلكي إلا من جنس ما جعلتموه في الأول، وهو غني كغنى الأول، ومع هذا فقد جاز عليه الحركة وقيام الحوادث به، فكذلك في الأول.
وإذا جاز أن يقال: إن الفلك يتحرك بنفسه، فلم لا يجوز أن يقال: إنه يشتاق إلى نفسه.
وإذا قيل: إن الأول هو محبوب مشتاق إليه، فلم لا يجوز أن يكون محباً لنفسه، وحركته من المحبة لنفسه؟
وإذا قلتم: إلى أي شيء يتحرك؟
قيل لكم: والفلك إلى شيء يتحرك؟
فإذا قلتم: لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعةً عن الأيون والأوضاع.
قيل لكم: ولم لا يجوز على هذا أن تقولوا: إن الأول يتحرك لإخراج(9/313)
ما لا يمكن وجوده دفعةً من أحواله وشؤونه، ثم الحوادث المنفصلة تابعة لذلك كما قلتم مثل ذلك في الفلك؟
الوجه الثالث العشرون
أن يقال: قولكم ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء: أتريدون به أنه ليس فيه حب لشيء أصلاً: لا لنفسه ولا لغيره؟ ولا بغض لشيء من الأشياء؟ وسميتم الحب الباعث على الفعل شوقاً؟ أم تريدون به ليس فيه شوق إلى شيء مستغن عنه كما قلتموه في الفلك؟
فإن كان مرادكم الثاني: لم يضر هذا، مع أنكم لم تقيموا على هذا دليلاً.
ولو قيل لكم: بل يجوز أن يكون مشتاقاً إلى غيره، وغيره مشتاق إليه -لم يمكنكم الجواب، لأنكم إن قلتم: إن الفلك ممكن بنفسه، لزم أن يكون الأول فاعلاً له، ولزم أن يكون كالفلك، وهو عندكم لا يفعل ولا يؤثر، وإن كان الفلك واجباً، كان الواجب موصوفاً بالشوق إلى غيره.
وأيضاً فأنتم لم تذكروا دليلاً على ثبوته، فضلاً عن غناه، إذ دليلكم في ثبوته مبني على أن المتحرك بالإرادة لا تكون حركته إلا عن حب لغيره، وهذا لم تقيموا عليه دليلاً، وهو لا يتم حتى يمتنع كون الأول فاعلاً بالإرادة، فإذاً لا يمكنكم ثبوته حتى يمتنع كونه فاعلاً بالإرادة، ولا يمتنع كونه فاعلاًً بالإرادة حتى يعلم ثبوته، فإذاً لا يثبت لا هذا ولا هذا.
وإن كان مرادكم الأول، فيقال لكم: من أين علمتم أنه لا يكون محباً لنفسه ولا لغيره؟(9/314)
فإن قلتم: إن المحب لغيره ناقص يحتاج إلى الغير.
كان جوابكم من أربعة أوجه:
أحدها: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون محباً لنفسه، ثم محبته لغيره تبعاً؟ كما تقولون في حب الفلك وإرادته بالقصد الأول والقصد الثاني.
الثاني: أن يقال: فلم لا يجوز أن يكون محباً لغيره، الذي هو مفعول مصنوع له؟ وإذا كان مريداً كما هو مفعول مصنوع له، وهو ممكن، لم يكن في ذلك إرادته ومحبته إلا لمفعولاته ومبتدعاته، التي هي فقيرة إليه من كل وجه، فليس في هذا افتقار إلى شيء هو مستغن عنه بوجه من الوجوه.
ومعلوم أن هذا خير من قولكم: إن الفلك لا يحتاج إليه إلا من جهة كونه محبوباً، فإن ذلك في إثبات فقر الفلك إليه من كل وجه، وهذا أبلغ في الكمال.
الثالث: أن يقال: ولو فرض محباً لغيره مريداً لغيره، وذلك الغير أيضاً محتاج إليه، لكونه لا يقوم إلا به، كان غاية ما في هذا أن يكون قوام كل منهما بالآخر ومعلوم أن هذا، وإن كان المسلمون ينزهون الله عنه، فهو خير من قولكم المتضمن أن الفلك ليس له مبدع فاعل، مع كونه محتاجاً إلى محبوبه، لأن هذا يتضمن شيئين، كل منهما فاعل له، وأحدهما محب للآخر، أقرب إلى العدل والإمكان، إن كان ذلك ممكناً، وإلا فهو أقرب إلى الامتناع، لأن كلا القولين يتضمن إثبات شيئين لا فاعل لهما، وأحدهما يتضمن أن المحب أحدهما والآخر محبوب، والقول الثاني يتضمن أن كلاهما محب محبوب.(9/315)
الوجه الرابع: أن يقال: المحب المريد لأمور منفصلة عنه، إذا كان قادراً عليها، وهو يفعلها بحسب محبته وإرادته من غير مانع.
فلم قلتم: إن هذا نقص؟ أو ليس الموصوف بهذا أكمل من الذي لا يحب شيئاً ولا يريده ولا يقدر عليه؟ وإذا شبه الأول بالحيوان، كان الثاني مشبهاً بالجماد، والجماد أنقص.
الوجه الرابع العشرون
أن يقال: إذا قدر موجودان: أحدهما محب مريد يفعل ما يريده وهو قادر على ذلك، والثاني لا يحب شيئاً ولا يريده ولا يقدر على شيء محبوب مراد، لكن غيره يحبه -كان إجماع العقلاء أن الأول أكمل من الثاني، فإن الثاني شبيه بالخبز والماء واللباس، والمساكن التي يحبها الناس ويريدونها، والأول شبه بالناس الذين يحبون ذلك.
ومعلوم أن الثاني أنقص من الأول، والأول أقرب إلى الكمال.
فهؤلاء فروا بزعمهم مما توهموه نقصا، فوقعوا فيما هو أعظم نقصاً بلا ريب.
وإيضاح هذا أن يقال: إذا قسمنا الموجودات إلى قسمين: حي وميت، وعالم وجاهل، وقادر وعاجز، وقادر على الفعل وغير قادر عليه، بل قادر على الفعل والحركة بإرادته ومحبته، ومن لا إرادة له ولا قدرة له، أو لا فعل له ولا حركة إلى ما يريده، ونحو ذلك- كان الأول هو الموصوف بصفات الكمال دون الثاني.
وأما مجرد كون الشيء مراداً محبوبا، فليس بصفة كمال، إلا أن يكون محبوباً لنفسه مراداً لذاته.
وهؤلاء سلبوا الرب جميع صفات الكمال، ووصفوه بالنقائص، ولم يثبتوا له شيئاً من الكمال، إلا مجرد كونه(9/316)
محبوباً، ولم يقيموا حجة على ذلك، ولا على أنه محبوب لنفسه، فكان ما وصفوه به غاية النقص، بل العدم.
بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه
قال ثابت: فليس يوجد إذن أمر يجتذب هذه الذات بالطبع وبغير إرادة، وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات إلى حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه.
فيقال لهم: أولاً: لم تقيموا دليلاً على شيء من ذلك.
فإنكم لم تجعلوها فاعلاً لشيء ولا مؤثراً فيه أصلاً، فليست مبدأً لشيء من الأشياء ولا علة له، إلا من كونها محبوبة فقط، وليس في هذه الجهة أنها تحدث شيئاً، ولا أنها تبدع شيئاً.
وإذا كان كذلك فما المانع أن يكون غيرها جاذباً لها وداعياً لها إلى شيء؟ وما المانع أن تكون هي محبة لغيرها؟ وأنتم لم تذكروا على امتناع ذلك حجة أصلاً.
والمسلمون، وغيرهم من أهل الملل، إذا نزهوا الله عن الحاجة إلى غيره، فهم يثبتون أنه رب غيره ومليكه وخالقه.
وأنتم لم تثبتوا أنه رب كل ما سواه ومليكه وخالقه.
وحينئذ فلا دليل لكم على انتفاء الحاجة عنه، لا سيما مع أنه يلزمكم أن تجعلوا العالم واجب الوجود بنفسه مع فقره إليه، فيكون الواجب بنفسه فقيراً إلى غيره، أو تجعلوه ممكناً لا بد له من فاعل، فيكون الأول مبدعاً فاعلاً لغيره، والفاعل، كما ذكروه، يستلزم أن يكون له فعل وإرادة، وهذا نقيض قولهم.(9/317)
ويقال لهم: ثانياً: لم لا يجوز أن يكون مفعولها المحتاج إليها هو الداعي الجاذب؟ وليس في هذا افتقار إلى ما هو مستغن عنها، وأنتم لم تقيموا دليلاً على انتفاء ذلك.
ويقال لهم: ثالثاً: لم لا يجوز أن يكون هو المبدأ لما يفعله، والداعي منه لا من غيره، وهو المحب لنفسه؟ وقد ذكر أئمتكم في كتبهم أنه عاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ به.
قال: وبالجملة فكل ما كان له ما هو بالطبع، على الجهة الطبيعية التي يمحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع، إلى حال لا تملكها إرادته، والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق إليه مبدأ له في ذلك الشوق، ومن جهة أي هو له علة تمامية من جهة من الجهات.
وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول.
ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة.
فيقال له: الكلام على هذا من وجوه:
الأول: قولكم: إن الأول مبدأ لكل طبيعة وكل شوق وكل حركة، كلام مناقض لما ذكرتموه، فإنكم لم تجعلوه إلا محبوباً فقط، لا فاعلاً مبدعاً، ولا علة فاعلة، ومجرد كون الشيء محبوباً لا يوجب أن يفعل شيئاً في غيره.
وقد علم الفرق بين العلة الفاعلة والغائية.
والثاني: قولكم: إن المشتاق إليه علة للمشتاق.
فيقال لكم: ولم يمتنع أن يكون محباً لنفسه؟ فهو المحب المحبوب.(9/318)
الثالث: أن يقال: ما المانع أن يكون محباً مريداً لما هو مفعول مصنوع له؟ وليس في هذا كونه معلولاً لغيره، لأن ذلك الغير هو معلوله من كل وجه، مفعول له بكل طريق، محتاج إليه بكل سبب.
وليس في حب الشيء وإرادته لمثل ذلك نقص، بل هذا من الكمال.
فإن من أراد ما هو مفعول له معلول له، وهو قادر على ذلك المراد المحبوب، كان هذا غاية الكمال، بخلاف من لا يفعل شيئاً منفصلاً عنه، ولا يريده، ولا يقدر عليه، بل ولا يفعل فعلاً قائماً بنفسه، بل هو كالجماد الذي ليس له صفة كمال، بل كالمعدوم.
الرابع: قولكم: وليس يليق هذا البتة بالمبدأ الأول كلام بلا برهان، وأنتم تدعون البرهان والحجة -وقد ذكر هذا غيركم- لم ترضوا أن تجعلوا هذا خطابة، بل جعلتموه دون الخطابة، وأنتم تجعلونه عمدة في مثل هذا الأمر العظيم بلا حجة أصلاً، مع أنكم لم تثبتوا أن الأول مبدأ ولا فاعل أصلاً، إلا بجهة كونه محبوباً، مع أنكم لم تقيموا على ذلك دليلاً.
الخامس: قوله: كل ما كان ما هو له بالطبع من الجهة التي ينحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته.
فيقال لهم: هذه قضية كلية لم يذكروا عليها دليلاً، وغاية ما يستدلون به أن يقولوا: وجدنا المتحركات بالإرادة كذلك الحيوان.
فيقال لهم: وكذلك وجدتم ذلك ممكناً مفعولاً مصنوعاً، مفتقراً إلى(9/319)
فاعل مبدع، فقولوا: إن الأول ممكن مفعول مصنوع مفتقر إلى فاعل مبدع.
فإن كان الدليل قد أثبت موجوداً واجباً بنفسه لا يفتقر إلى غيره، فإما أن يكون ذلك هو الفلك، أو أمراً فوق الفلك، فإن كان هو الفلك، وهو مشتاق إلى حال تملكها إرادته، بطل نفيكم لهذا عن الواجب بنفسه.
وإن كان الواجب بنفسه أمراً فوق الفلك، كان هو الفاعل للفلك المبدع له.
وحينئذ فالفلك وما فيه محتاج إليه من كل وجه، فليس في الوجود ما هو خارج عن ملكه، حتى يقال: إنه مشتاق إلى ما تملكه إرادته.
السادس: أن هذا الكلام إنما يصح أن لو كان فيه الوجود ما لا تملكه إرادة الأول.
فأما إذا كان كل ما سواه كائناً بإرادته ومشيئته، فليس في الوجود شيء لا تملكه إرادته.
وأنتم لم تقيموا دليلاً على امتناع إرادته، وإذا كانت إرادته ممكنة على هذا الوجه، كما يقول المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن -لم يمنع أن يكون مريداً على هذا الوجه.
السابع: أن يقال: كونه يفعل بالطبع، أو نحو ذلك، ليس من عبارة المسلمين.
فإذا كانوا يسمون كل ما يفعل فعلاً قائماً بنفسه متحركاً بالطبع، لم ننازعهم في المعنى.
لكن نقول: لم قلتم: إن من كان فاعلاً فعلاً يقوم به بإرادته مشتاق إلى حال لا يملكها؟(9/320)
فإذا سميتم كل ما كان كذلك فاعلاً بالطبع، فلم قلتم: إن كل ما كان كذلك مشتاق إلى حال لا يملكها؟
فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
ثم قال ابن رشد: فإن قيل: فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري، فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة؟
قلنا: الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها، ودعا الكل من بابها، إذا استقرئ الكتاب، وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، وتسمى هذه دليل العناية.(9/321)
والطريق الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الخمسة والعقل، ولنسم هذا دليل الاختراع.
أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما: أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان.
والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك، بدليل موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر، لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضاً وهو الأرض.
وكذلك أيضاً يظهر موافقة كثير من الحيوان له، والنبات والجمادات، وجزيئات كثيرة: مثل الأمطار، والأنهار، والبحار، وما تحمله(9/322)
الأرض والماء والهواء والنار.
وكذلك أيضاً تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده.
وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس.
ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات.
قال: وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السموات.
وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس.
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات.
كما قال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الآية [الحج: 73] ، فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن ها هنا موجداً للحياة ومنعماً بها، وهو الله تبارك وتعالى.
وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة(9/323)
بالعناية بما هو ها هنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.
قلت: هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها، بل من محرك منفصل عنها، حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر.
وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع، مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب، ومن جهة المقصود والغاية، أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئاً منفصلاً عنها، مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل: إنها عابدة لله تعالى، ويقول المتفلسفة -كأرسطو وأتباعه-: إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة.
وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه، والطالب إلى مطلوبه، وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه -فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه، ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنياً بنفسه، بل يكون مفتقراً إلى ما هو منفصل عنه، وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه، بل يكون ممكناً عبداً فقيراً محتاجاً، فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة.
والوجه الثاني: أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه، فتكون حركته من غيره، والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره، إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه، فليس هو وحده المحرك(9/324)
لسائر أنواع حركاتها، بل يجب أن يكون المحرك غيره، والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده، بل منه ومن غيره، فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك، وما كان مفتقراً إلى غيره لم يكن واجباً بنفسه.
فلا بد من محرك منفصل عنها.
ومثل أن يقال: ليس شيء منها مستقلاً بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها، بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها، ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها، فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون، له مانع يعوقه عن مقتضاه، فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه، وانتفاء مانع معارض له، فيمتنع أن يكون مبدعاً لشريكه الغني عنه، ولمانعه المضاد له، وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله، فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره، وذلك هو الأمر والتسخير.
لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر.
وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها، فهي مقسورة على الخروج.
وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره، ويمتنع بمعارضة غيره له فيها، هو مفتقر في مقصوده إلى غيره.
ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه، لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقراً إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه، إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، لم يكن من ذلك الوجه غنياً عن الغير، بل مفتقراً إليه.(9/325)
ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه.
والمريد لأمر إذا لم يكن قادراً على تحصيل مراده كان عاجزاً، وكان فقيراً إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجباً بنفسه، ولا يكون كماله حاصلاً به، بل بما هو مستغن عنه.
فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب.
قال: وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلاً مخترعاً له.
وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات، ولذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع.
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185] .
وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم.
فهذان الدليلان هما دليلا الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع(9/326)
سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى.
وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا} [النبأ: 6-7] إلى قوله: {وجنات ألفافا} [النبأ: 16] .
ومثل قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} [الفرقان: 61] ، إلى قوله: {أو أراد شكورا} [الفرقان: 62] .(9/327)
ومثل قوله: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الآيات [عبس: 24] .
ومثل هذا كثير في القرآن.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق} [الطارق: 6] .
ومثل قوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] الآية.
ومثل قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا} [الحج: 73] .
ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا} [الأنعام: 79] ، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضاً، بل هي الأكثر، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من(9/328)
قبلكم} [البقرة: 21] ، إلى قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22] .
وذلك أن قوله: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] ، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} [البقرة: 22] ، تنبيه على دلالة العناية.
ومثله قوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} [يس: 33] .
وقوله: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191] .
وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة.
قال: فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى.(9/329)
وإلى هذا الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم} إلى قوله: {قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172] .
ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى، في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذي يشهدون لله بربوبيته، مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له.
كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] .
قال: ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] .
قلت: في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه.
وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين.(9/330)
وقوله: إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع وغير ذلك -كلام ليس هذا موضعه، بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع، ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره.
قال: فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع.
قال: وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما: طريقة الخواص، ويعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور.
وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل: أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس.
وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان، هو قريب من عشرة آلاف منفعة.(9/331)
قال: وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه، فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعها، فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً.
ومثلا العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط.
وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات، بل ينسب ما(9/332)
رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته.
قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم، المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين، كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك، هي مع طولها وصعوبتها، لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة.
هذا مع أنه يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق، كما قد بسط في موضعه.
والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية، كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها، لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها، ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله -هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالماً بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف، ولكل من تدبر القرآن والحديث.
وكل متكلم فاضل، كالأشعري وغيره، يعلم ذلك، كما تقدم كلام الأشعري.
وأما كون هذه الطرق المعتزلية -كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص- هي برهانية أو ليست برهانية، وهي تفيد العلم أو لا(9/333)
تفيده، فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح، فمن كان ذكياً طالباً للحق، عرف الحق في ذلك.
ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية.
وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلاً للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلاً لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب.
والمقصود الثاني أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها، وإن لم نقل إنها أصل للعلم به، وقد ذكرنا من قدح فضلاء أهل الكلام والفلسفة فيها بالأدلة العقلية ما يحصل هذا المقصود.
فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر، ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم، كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض، وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين، ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي، يصلح لمعارضة أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن اتفقوا على مطلوب، كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلاً -فهؤلاء يثبتون ذلك وينفقون التجسيم بدليل الأعراض، والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل، وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي، وأولئك يثبتون فساد هؤلاء، فصار هذا بمنزلة من ادعى حقاً وأقام عليه بينتين، وعلى بينة تقدح في الأخرى، وتقول:(9/334)
إنها كاذبة فيما شهدت به، وتبدي ما يفسد شهادتها، وأنها غير صادقة، فلا يمكن ثبوت الحق بذلك، لأنا إن صدقنا كلاً منهما فيما شهدت به من الحق، وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود، فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء، فلا يثبت الحق.
وإن عينا إحدى البينتين بالقبول، أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى، كان تحكماً.
مع أنه ما من مطلوب من المطالب إلا وقد تنازع فيه أهل الكلام والفلسفة جميعاً، فأهل الفلسفة متنازعون في الجهة وحلول الحوادث، وأهل الكلام متنازعون أيضاً في ذلك.
والمثبتون من هؤلاء وهؤلاء يقدحون في أدلة النفاة بالقوادح العقلية.
وأهل السنة، وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقول النفاة، فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة، ولا يطلقون القول بأن الله جسم، وأنه تحله الحوادث، وأنه مركب، ولا نحو ذلك.
ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول ودلت العقول عليه، بل يفسرون المجملات، ويوضحون المشكلات، ويبينون المحتملات، ويتبعون الآيات البينات، ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح.
وهؤلاء المتفلسفة، مثل هذا الرجل وأمثاله، وإن وافقوا النفاة في الباطن في بعض ما نفوه، فهم معترفون بأن الشرع لم يرد بذلك، ومبطلون(9/335)
لأدلة إخوانهم النفاة، ثم يذكرون من أدلة النفي ما هو أضعف وأفسد مما ضعفوه وأفسدوه.
ونحن نذكر كلامه في ذلك، وذلك أنه لما تكلم على الطريق العقلية الشرعية في إثبات الصانع، تكلم أيضاً على إثبات التوحيد والصفات الثبوتية والسلبية والأفعال..
فقال: القول في الوحدانية: فإن قيل: إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الصانع سبحانه، فما طريقة معرفة وحدانيته الشرعية أيضاً، وهو معرفة أنه لا إله إلا هو، فإن هذا النفي هو معنىً زائد على الإيجاب الذي تضمنته هذه الكلمة، والإيجاب قد ثبت من القول المتقدم، فبماذا يصح النفي؟
قلنا: أما نفي الألوهية عما سواه، فإن طريق الشرع في ذلك هي الطريق التي نص الله عليها في كتابه.(9/336)
وذلك في ثلاث آيات: إحداها قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .
والثانية قوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91] .
والثالثة قوله: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .
فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع، وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، أه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الإلهية، فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد، فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن واحد.
فهذا معنى قوله سبحانه: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .(9/337)
قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلاً لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون، ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولاً لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره، فإنه إذا كان أحدهما مستقلاً به، لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده، فلو قدر أن الآخر كذلك، للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده، وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه، فضلاً عن آخر مستقل، فيلزم الجمع بين النقيضين: إثبات استقال أحدهما ونفي استقلاله، وإثبات تفرده به ونفي تفرده به، وهذا جمع بين النقيضين.
ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول، الذي يفعله فاعل، لا يشركه فيه غيره، كما لا يستقل به، فإنه لو شرك فيه غيره، لم يكن مفعوله، بل كان بعضه مفعوله، وكان مفعولاً له ولغيره، فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد.
ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون، بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر، كالمتعاونين على البناء: هذا ينقل اللبن، وهذا يضعه.
أو على حمل الخشبة: هذا يحمل جانباً، وهذا يحمل جانباً.
والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضاً في الأفعال، فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به، بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه، ثم مع احتياجه إلى المشارك، له من يعارضه ويعوقه عن الفعل، فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق.(9/338)
وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلاً.
فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه.
وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود.
ويقولوا: لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، وهو ما يسمونه العقل.
فإن هذا القول، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع.
ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد، لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحداً.
وأيضاً فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها، ليست هي الوحدة التي يدعونها، فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج، إذ يثبتون وجوداً مطلقاً أو مشروطاً بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية.
وهذا لا يكون إلا في الأذهان، كما قد قرروا ذلك في منطقهم، وهو معلوم بصريح العقل، وقد بين هذا في موضعه.
والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحداً يصدر عنه شيء غير الله تعالى.
فإذا قالوا: الشمس يصدر عنها الشعاع، فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع، فصار لوجوده سببان: الشمس،(9/339)
والجسم المقابل لها.
ثم له مانع، وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع.
وهكذا النور الخارج من السراج، ونحوه من النيران، لا يحصل إلا بالنار، وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وارتفاع الحجب الحائلة بينهما.
وكذلك تسخين النار، وتبريد الماء، وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري، وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك، فإنه لا بد من النار، ومن جسم يقبل أثرها، وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار.
وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم، وأمثال ذلك كثيرة.
وكذلك الفاعل المختار كالإنسان، فإن حركته الحاصلة باختياره، لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها، وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها، فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته، وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة.
هذا فعله في نفسه، فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال: إنها متولدة عن فعله، فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى، كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر.
ومنهم من يقول.
بل هو مفعول له على طريق التولد، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم: أنه قال: لا فاعل لها بحال.
وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل(9/340)
عنه، فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسبب آخر من الحجر والهواء.
وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه، الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك، والله خالق هذا كله.
وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلاً، فالقلب الذي هو ملك البدن، وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء، فلا يستقبل بتحريك، إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم.
وولاة الأمور، المدبرون للمدائن والجيوش، لا يستقل أحدهم بمفعول، إن لم يكن له من يعينه عليه، وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه، وكل ما يصدر خارجاً عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله.
وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما، فلا يكون شيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلاً، إذ رب الشيء من يربه مطلقاً من جميع جهاته، وليس هذا إلا لله رب العالمين.
ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم: اسق ربك أطعم ربك» .(9/341)
بخلاف إضافته إلى غير المكلفين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي: «أرب إبل أنت أم رب شاء؟» وقولهم: رب الثوب والدار.
فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله، فإن هذا لا يمكن فيها، فإن الله فطرها على أمر لا يتغير، بخلاف المكلفين، فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله، كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره، فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقاً للتوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
ولهذا لم يكن شيء يستلزم جود المفعولات إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وإن لم يشأ ذلك غيره، وما لم يشأ لا يكون، ولو شاءه جميع الخلق.
فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وإذا عرف أنه ليس في المخلوقات ما هو مستقل بمفعول ولا معلول، فليس في المخلوقات ما هو رب لغيره أصلاً، بل فعل كل مخلوق له فيه شريك، وقد يكون له مانع، وهذا مما يدل على إثبات الصانع تعالى ووحدانيته، كما نبه عليه في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه من المعلوم بنفسه أنه لا يكون اثنان مستقلين بفعل، ولا يكون مفعول واحد قد فعله كل من الاثنين، ولا يكون نفس(9/342)
مفعول الفاعل الواحد قد شاركه فيه غيره، فحيث حصلت المشاركة لم يكن هناك مفعول واحد لفاعل واحد، فإن الوحدة تناقض الشركة، ومفعولات المخلوقات لا بد فيها من الاشتراك، لكن لا يفعل أحد الشريكين نفس فعل الآخر، فلا تفعل اليد ما تفعله العين، ولا يفعل الدماغ ما يفعله القلب، وإن كان كل منها مفتقراً إلى غيره في فعله.
فكذلك السفينة إذا كان فيها ربانان، أو كان للقرية رئيسان، أو للمدينة ملكان، لم يمكن أن يكون فعل هذا هو نفس فعل هذا، بل يفعل هذا شيئاً وهذا شيئاًن وما يفعله كل منهما لا يفعله الآخر.
فلهذا قال هذا الرجل: إنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، وقوله: من نوع واحد -إن كان زيادة إيضاح، وإلا فلا حاجة إليه، فإنه لا يمكن أن يكون عن فاعلين فعل واحد، سواء كان فعلهما نوعاً واحداً أو نوعين مختلفين، بل الامتناع هنا أظهر.
وقوله: متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفاعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن فاعل واحد فحقيقته أن يقال: بل يمتنع الفعل والحال هذه، فلا يمكن وقوعه حتى يقال: إن المحل يفسد أو لا يفسد.
ولكن هو ظن -كما ظن من ظن من المتكلمين- أن الإله هو بمعنى الرب، وأن دلالة الآية على انتفاء إلهين إنما دلت به على انتفاء ربين فقط، وذلك يظهر بتقدير امتناع الفعل من ربين.(9/343)
وسنبين إن شاء الله أن الآية دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا، وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولا أثبت أحد إلهين متماثلين، ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال، ولا أثبت أحد قديمين متماثلين، ولا واجبي الوجود متماثلين.
ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية بعبادة غير الله تعالى، واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها، كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان، وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك.
فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين.
وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] .
وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84-89] .
وقال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] .
والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية، وذلك متضمن لتوحيد الربوبية.
كما قال كل منهم لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59] .(9/344)
وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45] .
وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25] .
وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] .
وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون به، وذلك وحده لا ينفع.
وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة، يظنون أن هذا هو غاية التوحيد، كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية، الذين يظنون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية.
وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.
فإن هذا التوحيد -الذي هو عندهم الغاية- قد كان مشركو العرب يقرون به، كما أخبر الله عنهم.
ولكن كثير من الطوائف قصر فيه، مع إثباته لأصله، كالقدرية الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه، ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث.
وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم، فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل.
ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه، كما يزعمون مثل ذلك في العقل.(9/345)
ومشركو العرب كانوا خيراً في التوحيد من هؤلاء، فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسباباً لبعض الموجودات.
لكن الأسباب لا تستقل، بل تفتقر إلى مشارك، وانتفاء معارض، وقد يثبتون أسباباً وعللاً لا حقيقة لها، كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها.
وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولاً بإلهين، لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة -التي هي فاعل الشرور- فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور.
وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولاً للنور.
لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين، فجعلوه فاعلاً لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سبباً لحدوث أصل الشر.
والقول الآخر قولهم: إن الظلمة قديمة كالنور.
فهؤلاء أثبتوا قديمين، لكن لم يجعلوها متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر.
ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب(9/346)
وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء، وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى، فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم، فتذوق ما فيه من الشرور.
وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم، وطولب بسبب حدوثه، فأثبت نوعاً من الحركات سماها الحركة الفلتية، وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره، وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب، وظهر الناس جهله في إلحاده، فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن، فيسأل عن سبب حدوثها، كما يسأل عن سب حدوث حركة أخرى، فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال.
والمقصود أن كثيراً من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات، أو حدوث بعض الحوادث، إلى غير الله.
وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب.
وهم مع شركهم، وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية، لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته.(9/347)
وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون، وانتفاء معارض مانع، وجعلها مخلوقة لله -فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن، ودل عليه العيان والبرهان.
وهو من دلائل التوحيد وآياته، ليس من الشرك بسبيل، فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات.
والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] ، إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية، وهو أنه ليس للعالم خالقان، ثم صار كل منهما يذكر طريقاً في ذلك.
فهذا الفيلسوف ابن رشد قرر هذا التوحيد كما تقدم.
قال: وأما قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يعقل في الآلهة المختلفة الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، أن لا يكون عنها موجود واحد، بل موجودات كثيرة، فكان يكون العالم أكثر من واحد، وهو معنى قوله: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، ولما كان العالم واحداً، وجب أن لا يكون موجوداً عن آلهة كثيرة متفننة الأفعال.
قلت: لما قرر أولاً امتناع ربين فعلهما واحد، قرر امتناع أرباب تختلف(9/348)
أفعالهم، فإن اختلافهم الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحداً والعالم واحداً.
وكلامه في تفسير هذا الآية بهذا، من جنس كلامه في تفسير تلك الآية بذاك.
قال: وأما قوله تعالى: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، فهي كالآية الأولى، أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد.
ومعنى هذه الآية: أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله قادرة على إيجاد العالم وخلقه، غير الإله الموجود، حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه.
فكان يوجد موجودان متماثلان ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإن المثلين لا ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، لأنه إذا اتحدت نسبته اتحد المنسوب، أعني أن يكونا بالمحل، وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش ضد هذه(9/349)
النسبة أعني أن العرش يقوم به، لا أنه يقوم بالعرش.
ولذلك قال: {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] .
قلت: قد سلك في هذه الآية هذا المسلك الذي ذكره.
والآية فيها قولان معروفان للمفسرين: أحدهما: أن قوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له.
والثاني: بالممانعة والمغالبة.
والأول هو الصحيح، فإنه قال: {لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42] ، وهم لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تمانعه وتغالبه.
بخلاف قوله: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيه أنها تعلوا على الله، وأن المشركين يقولون ذلك.
وأيضاً فقوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، يدل على ذلك، فإنه قال تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [المزمل: 19] ، والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته، بخلاف العكس، فإنه قال: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء: 43] ، ولم يقل: إليهن سبيلاً.
وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مأمور به، كقوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة: 35] ، وقوله: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه(9/350)
فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 56-57] .
فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة.
فهذا مناسب لقوله: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .
وليس المقصود هنا بسط الكلام على ذلك، إذ المقصود بيان ما ذكره في طرق المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية.
قال: فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية.
وإنما الفرق بين الجمهور وبين العلماء في هذا الدليل أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم وكون أجزائه بعضها من أجل بعض، بمنزلة الجسد الواحد، أكثر مما يعلمه الجمهور من ذلك.
ولهذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في آخر الآية: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} [الإسراء: 43-44] .
قال: وأما ما يتكلفه الأشعرية -يعني والمعتزلة- من(9/351)
الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية، وهو الذي يسمونه دليل التمانع، فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية ولا الشرعية.
أما كونه ليس يجري مجرى الطبع، فلأن ما يقولون في ذلك ليس برهاناً، وأما كونه ليس شرعياً لا يجري مجرى الشرع، فإن الجمهور لا يقدرون على فهم ما يقولون من ذلك، فضلاً عن أن يقع لهم به إقناع، وذلك أنهم قالوا: لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما أن يتم مرداهما جميعاً، وإما أن لا يتم مراد أحدهما ويتم مراد الآخر، وإما أن لا يتم مراد واحد منهما.
قالوا: ويستحيل أن لا يتم مراد واحد منهما، لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان العالم لا موجوداً ولا معدوماً.
ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً، لأنه كان يكون العالم موجوداً معدوماً معاً.
فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما، ويبطل مراد الآخر.
والذي بطلت إرادته عاجز، والعاجز ليس بإله.(9/352)
قال: ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا، قياساً على المريدين في الشاهد، كذلك يجوز أن يتفقا، وهو الأليق بالإلهية من الاختلاف.
وإذا اتفقا على صناعة العالم، كانا مثل الصانعين: اتفقا على صنع مصنوع ما.
وإذا كان هذا هكذا، فلا بد أن يقال: إن أفعالهم -ولو اتفقا- كان تتعاوق لورودهما على محل واحد، إلا أن يقول قائل: ولعل هذا يفعل بعضاً والآخر بعضاً، أو لعلهما يفعلان على المداولة، إلا أنه هذا التشكيك لا يليق بالجمهور.
والجواب في هذا لمن يشكك من الجدليين في هذا المعنى: أن الذي يقدر على اختراع البعض يقدر على اختراع الكل، فيعود الأمر إلى قدرتهما على كل شيء، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا، وكيفما كان يتعاوق الكل.(9/353)
وأما التداول، فهو نقص في حق كل واحد منهما.
والأشبه أن لو كانا اثنين أن يكون العالم اثنين.
فإذاً العالم واحد، فالفاعل واحد.
فإن الفعل الواحد إنما يوجد عن واحد، فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، من جهة اختلاف الأفعال فقط، بل من جهة اتفاقهما، فإن الأفعال المتفقة تتعاوق في ورودها على المحل الواحد، كما تتعاوق الأفعال المختلفة.
قال: وهذا هو الفرق بين ما فهمناه نحن من الآية، وما فهمه المتكلمون، وإن كان قد يوجد في كلام أبي المعالي إشارة إلى هذا الذي قلناه.
قلت: بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين، الذي سموه دليل التمانع، برهان تام على مقصودهم.
وهو امتناع صدور العالم عن اثنين وإن كان هذا هو توحيد الربوبية.
والقرآن يبين توحدي الإلهية وتوحيد الربوبية.
لكن المقصود هنا أن اعتراض هذا على دليل نظار المتكلمين هو اعتراض مشهور، قد ذكره غيره، وظنوا أنه اعتراض قادح في الدلالة، كما ذكر ذلك الآمدي وغيره.
وحتى ظن بعض الناس أن التوحيد إنما يعرف بالسمع.
وليس الأمر كما ظنه هؤلاء، بل هو برهان صحيح عقلي.
كما قدره(9/354)
فحول النظار، وكما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وأفردت مصنفاً للتوحيد.
وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر، وحينئذ: إما أن يحصل مراد أحدهما، أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.
والأقسام الثلاثة باطلة، فيلزم انتفاء الملزوم.
أما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر.
وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما، لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.
وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما.
وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين.(9/355)
فلما قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما.
أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر، فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول، يمنع استقلال الآخر به، بل لا بد أن يكون مفعول هذا متميزاً عن مفعول هذا.
وهذا معنى قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] .
وهذا ممتنع، فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطاً يوجب أن الفاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر، لا حتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض.
وأيضاً فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض، فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما، إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما.
وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادراً، فإنهما إذا كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة.
وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة، كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده لآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، إلا إذا جعله الآخر قادراً، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر.(9/356)
وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل، إلا ما يريده الآخر ويفعله، والآخر كذلك، وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين، لم يكن هذا قادراً مريداً، حتى يكون الآخر قادراً مريداً.
وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادراً مريداً، كان هذا دوراً قبلياً، وهو دور في الفاعلين والعلل.
كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا، ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر، فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل، ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك، وهذا يسمى الدور القبلي.
بخلاف ما إذا قيل: لا يكون هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتلازمة، فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني.
وذلك جائز، كما إذا قيل: ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها، وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته، وقيل: لا تكون حياته إلا مع علمه، ولا علمه وحياته إلا مع قدرته، ونحو ذلك.
فتبين أنه يمتنع أن تكون قدرة كل منهما مستفادة من قدرة الآخر.
وإن قيل: بل كل منهما قادر مريد، من غير أن يستفيد أحدهما ذلك من الآخر.
وهو دور معي لا قبلي، كان هذا أيضاً باطلاً.
فإنه حينئذ يجب أن تكون قدرة كل منهما من لوازم ذاته، فلزم أن صانع العالم لا بد أن يكون قادراً، قدرة لا يحتاج فيها إلى غيره، بل تكون من لوازم ذاته، وهذا حق.(9/357)
وحينئذ فإذا قدر ربان، لزم أن يكون كل منهما قادراً قدرة لازمة لذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، فيكون الفعل بتلك القدرة ممكناً، فيلزم أن يكون الرب قادراً متمكناً من الفعل بمجرد قدرته، لا يحتاج في ذلك إلى غيره.
وحينئذ فيمتنع وجد ربين: كل منهما كذلك، لأنه إذا كان كل منهما قادراً بنفسه على الفعل، أمكنه أن يفعل دون الآخر، وأمكن الآخر أن يفعل دونه، وهذا ممتنع، فإنه إذا فعل أحدهما شيئاً، امتنع أن يكون الآخر فاعلاً له، أو شريكاً فيه، مع استقلال الأول بفعله، فيلزم عجز كل منهما عما يفعله الآخر، ويلزم أنه لا يمكنه الفعل إن لم يمكنه الآخر منه، فلا يفعله هو، فيلزم أن يكون كل منهما عاجزاً غير قادر على الفعل.
وقد تبين أنه لا بد أن يكون كل منهما قادراً على الفعل، فيلزم الجمع بين النقيضين، ويلزم أيضاً أنه لا يكون هذا قادراً إلا إذ كان الآخر غير قادر، فيلزم أن يكون كل منهما قادراً غير قادر، وهذا جمع ثان بين النقيضين.
فتبين أن الخالق لا بد أن يكون قادراً بنفسه على الاستقلال بالفعل.
وهذا وحده برهان كاف.
وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر، فيلزم علو بعضهم على بعض.(9/358)
ولهذا بين الله تعالى في كتابه: أن كل واحد من ذهاب كل إله بما خلق، ومن علو بعضهم على بعض، برهان قاض بأنه ليس مع الله إله.
كما قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] .
فجعل هنا لازمين، كل منهما يدل على انتفاء الملزوم.
أحدهما قوله: {إذا لذهب كل إله بما خلق} فإن الإله لا بد أن يكون قادراً مستقلاً بالقدرة على الفعل، لا يحتاج في كونه قادراً إلى غيره، كما تقدم من أنه لو كانت قدرة أحدهما يحتاج فيها إلى من يجعله قادراً، كان ذلك ممتنعاً.
فإن الذي يجعله قادراً: إن كان مخلوقاً له، فهو الذي جعل المخلوق قادراً، فلو كان المخلوق هو الذي جعله قادراً، كان هذا دوراً ممتنعاً، كما يمتنع أن يكون المخلوق خالقاً للخالق.
وإن كان قديماً واجباً بنفسه مثله.
كان القول في قدرته كالقول في قدرة الآخر.
فإن كانت قدرته من لوازم ذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، ثبت المدعى.
وإن كان يحتاج فيها إلى غيره، لم يكن قادراً حتى يجعله ذلك الآخر قادراً، وهذا دور ممتنع، كما يمتنع أن لا يكون أحدهما موجوداً أو عالماً حتى يجعله الآخر موجوداً وعالماً، فإنه حينئذ يكون كونه موجوداً وقادراً وعالماً، مستفاداً من الآخر ومفعولاً له، فلا يكون هذا حتى يكونه هذا، ولا يكون هذا حتى يكونه هذا.
فلا يكون هذا ولا هذا.(9/359)
وهذا أعظم امتناعاً من أن يقال: لا يكون الشيء حتى يكون نفسه، فإنه ذلك يقتضي كون نفسه فاعلة لنفسه ومتقدمة عليها.
وهذا وإن كان ممتنعاً في صريح العقل، فكونه فاعلاً لفاعل نفسه، ومتقدماً على المتقدم على نفسه، أبلغ في الامتناع.
فإذا كان يمتنع أن لا يكون الواحد قادراً، حتى جعل نفسه قادراً، فكون كل منهما لا يكون قادراً، حتى يجعله الآخر قادراً -أولى بالامتناع.
وذلك أنه لا يجعل نفسه قادراً حتى يكون هو قادراً، فيلزم أن يكون حينئذ قادراً غير قادر.
وكذلك يلزم إذا لم يكن أحدهما قادراً ألا يجعل الآخر، أن يكون كل منهما قادراً غير قادر مرتين: حين جعل مجعوله قادراً، وحين جعله مجعوله قادراً.
ولما كان هذا من المعالم البديهية الضرورية لمن تصوره، لم يحتج إلى تقرير، وإذا كان ذلك الإله لا بد أن يكون قادراً على الاستقلال بالفعل، فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلاً له ومشاركاً له فيه، فيلزم أن ينفرد كل إله بما خلق، ولا يحتاج فيه إلى غيره.
وحينئذ يلزم أن لا يحتاج مخلوق هذا إلى مخلوق هذا، لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما إلى الآخر، وأنه لا يقدر أن يفعل إلا مع فعل الآخر، ويكون فعل كل منهما مستلزماً لفعل الآخر ملزوماً له، والملزوم لا يوجد(9/360)
بدون لازمه، فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل، وذلك بنفي القدرة التي هي من لوازم الربوبية.
وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهم على بعض، وذلك بمنع إلهية المغلوب فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر، لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله، مع كونه فعل الأول.
ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادراً، فيمتنع أن يكون كل منهما قادراً على الاستقلال، ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد، فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد، لا بطريق استقلال أحدهما، ولا بطريق اشتراكهما فيه، وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادراً.
وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة، فإنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل، لزم امتناع الفعل، وانتفاء القدرة عن كل منهما.
وإن لم يمكنه ذلك، لزم أن لا يكون قادراً على ما يقدر عليه الآخر، إذا لو كان قادراً عليه، لأمكنه فعله.
وذلك ممتنع.
وإذا لم يكن قادراً على ما يقدر عليه الآخر، لم تكن قدرته مثل قدرته، فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر، ويقوم مقامه.
وإذا امتنع تماثل القدرتين، وجب كون أحدهما أقدر من الآخر، وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف.
وهذا معنى قوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] .(9/361)
فإن قيل: قد أوردوا هنا سؤالاً معروفاً، أورده الآمدي وغيره، وذكروا أنه لا جواب عنه.
وهو أنه يجوز أن يكون كل منهما قادراً، بشرط أن لا يفعل الآخر معه.
ولا يقدح ذلك في القدرة كما يكون هو قادراً على أحد الضدين، بشرط عدم الآخر.
فإن اجتماع الضدين محال، فالقدرة على فعل أحدهما ينافي القدرة على فعل الآخر معه، ولا ينافي القدرة على فعل الآخر حال عدمه.
بل كل من الضدين مقدور بشرط عدم الآخر، وهو مقدور على سبيل البدل، لا على سبيل الجمع، فكذلك يقال في القادرين: كل منهما قادر على الفعل المعين، حال عدم قدرة الآخر عليه.
قيل: هذا تشبيه باطل.
وذلك أن القادر على الضدين يفعل كل منهما بمشيئته.
وإذا فعل أحدهما لم يكن عاجزاً عن فعل الآخر، لكنه قادر عليه إن اختاره والجمع بينهما ممتنع لذاته، ليس بشيء.
وذلك لا ينافي القدرة بوجه من الوجوه، فإن الفاعل لأحد الضدين يختار هذا دون ذاك، فلم يكن عدمه إلا لكونه لم يرده، لا لأن غيره منعه منه.
ولا أن قدرته عاجزة عنه إذا أراد أن يفعله، بخلاف القادر إذا قيل: إنه لا يمكنه الفعل إلا إذا أمكنه غيره، ولم يرد أن يفعل معه، ولو أراد الآخر أن يفعل ما فعله، لم يقدر أن يفعله هو، فإنه حينئذ لا يكون قادراً بنفسه، بل يكون غير قادراً حتى يمكنه الآخر، ويمتنع من أن يفعل ما يفعله.
ومما يوضح هذا أن الخالق لا بد أن يكون قادراً، وأن يكون قادراً بنفسه، لا بقدرة استفادها من غيره، ويمتنع أن يكون معه آخر قادر(9/362)
بنفسه، فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولاً لا يشركه فيه غيره، فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره، لم يكن قادراً بنفسه، بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له.
ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادراً إلا بإعانة الآخر، فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، فليس واحد منهما قادراً بنفسه، ومن لم يكن قادراً بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادراً، فإنه إذا لم يكن القادر قادراً بنفسه، امتنع أن يجعل غيره قادراً بطريق الأولى، فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه، بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل، فيفعل وحده من غير شريك ومعين، لم يكن في الوجود حادث، لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه.
والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه، ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل، بحيث يكون كل منهما مستقلاً بالفعل وحده، فإنه إذا قدر ذلك، فحال ما يفعل أحدهما الفعل، يمتنع أن يكون الآخر قادراً على ذلك الفعل بعينه، فاعلاً له وحده، فإنه إذا فعله أحدهما وحده، لم يكن له شريك، فضلاً عن أن يفعله غيره مستقلاً، فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدوراً لقادر مستقل، أو مفعولاً لفاعل مستقل، لا يكون مقدوراً ولا مفعولاً لآخر مستقل.
فتبين أن ما يقدر عليه يفعله القادر المستقل، يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره، بل يكون هذا عاجزاً عما يفعله هذا، ولا يكون هذا قادراً(9/363)
إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله، فلا يكون واحد منهما قادراً حتى يجعله الآخر قادراً، فلا يكون واحد منهما قادراً.
فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين، وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل، أنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل، ولا يجوز وجود قادرين مستقلين، فعلم أن القادر على الخلق واحد، لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق، سواء اتفقا أو اختلفا، وهو المطلوب.
وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك.
إن لم يكن ملك هذا منفصلاً عن ملك هذا، وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر، امتنع أن يكون كل منهما قادراً مالكاً لما يقدر عليه الآخر ويملكه، لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادراً على ما يقدر عليه الآخر، بل فاعلاً مدبراً لما يفعله الآخر ويدبره، وذلك ممتنع، فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له، يمنع أن يكون الآخر قادراً عليه وفاعلاً له، إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله، فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا، ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر.
فأما حال فعل الآخر له، فيمتنع أن يكون الآخر فاعلاً له إذا أراد فعله، وإذا امتنع كون أحدهما فاعلاً له إذا أراده، امتنع كونه قادراً عليه، فإن كونه قادراً عليه، مع امتناع فعل له إذا أراده، جمع بين النقيضين، فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله، فإذا كان(9/364)
لا يقدر عليه إذا أراده، لم يكن قادراً عليه، فامتنع أن يكون الشيء قادراً على فعل ما يفعله غيره، حال كون الآخر فاعلاً له، ومفعول أحدهما مقدور له.
فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فصل.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وإذا كان حينئذ يمتنع كون الآخر فاعلاً له، وذلك يمنع كونه قادراً عليه، امتنع أن يكونا قادرين على مقدور واحد في حال واحدة، وفاعلين لمفعول واحد في حال واحد، بل لا يقدر أحدهما على الفعل إلا إذا تركه الآخر يفعله، وسكت عن فعله استقلالاً ومشاركة، ولو أراد الآخر أن يفعله، كان الآخر غير قادراً على فعله، فصار المانع لأحدهما من القدرة على الفعل والاستقلال به، كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له.
وذلك يوجب بطلان الربين من وجوه:
منها: أن الممنوع الذي منعه غيره لا يكون قادراً، بخلاف من لم يفعل الفعل لكونه هو لم يرده، فإن هذا لا يمنع قدرته على الآخر.
فإذا كان الرجل قادراً على القيام والقعود فاختار أحدهما بدلاً عن الآخر، لم يكن عدم الآخر لعجزه عنه، بل لأنه لم يرده، وهو لا يريد اجتماعهما في حال واحدة، لأن ذلك ممتنع لنفسه، لا لكونه غير قادر، أو لكونه عاجزاً عنه، فإن الممتنع بذاته ليس بشيء يتصور وقوعه.
ولهذا اتفق النظار على أنه ليس بشيء، فلا يدخل في قوله: {إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 20] ، بخلاف من كان لا يقدر أن يفعل فعلاً لأن غيره فعله، فإنه حينئذ يكون غير قادر على أن يفعل مفعول ذلك ولو أراده.(9/365)
ولهذا كان أحد الملكين غير قادر على أن يكون ملكاً مع ملك غيره، بل إنما يكون ملكاً مع انتفاء ملك غيره.
وأيضاً فإنه إذا كان أحدهما قادراً، ولم يمنعه أن يكون قادراً فاعلاً للفعل إلا كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، لزم أن يكون كل منهما ممنوعاً حال ما هو مانع، وقادراً حال ما هو غير قادر، فإن أحدهما حينئذ لا يمنعه من الفعل المعين كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، وذلك لا يكون قادراً فاعلاً، إلا إذا لم يكن ممنوعاً، ولا يكون ممنوعاً إلا إذا كان المانع قادراً، فيلزم ألا يكون هذا قادراً إلا إذا كان غير قادر، ولا ممنوعاً إلا إذا كان غير ممنوع، ولا فاعلاً إلا إذا كان غير فاعل، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا كله بين في فطر الناس، فإنه يعلمون أن من كان أميراً أو متولياً على فعل، أو إماماً لقوم، أو قاعداً في مكان، لم يقدر غيره أن يكون أميراً، أو متولياً أو إماماً، أو فاعلاً، حال كون الآخر أميراً، أو متولياً، أو إماماً، أو قاعداً.
فتبين أن القادر على الفعل لا يقدر حال فعل الآخر له، ولا حال قدرة الآخر عليه.
أما قدرته حال فعل الآخر، فظاهر الامتناع.
وأما حال قدرة الآخر، فلا يمكن أن يفعله، إلا إذا سكت الآخر عن فعله، وتركه وحده يفعل، وأما حال فعل الآخر فلا يكون قادراً.
فتبين أن اجتماع قادرين بأنفسهما ممتنع لذاته في فطر جميع الناس(9/366)
وحينئذ فالقادر بنفسه هو واحد، فيجب أن يكون الإله العالي الغالب وما سواه مقهور مغلوب.
وحينئذ فلا يكون الواحد قادراً إلا إذا كان الآخر غير قادر، فإن كلاً منهم قادر حال عدم قدرة الآخر، فلا يكون أحدهما قادراً إلا مع كون الآخر غير قادر، وكل منهما قدرته من لوازم ذاته إن كان قادراً، فيلزم من ذلك أن يكون كل منهما لا يزال قادراً غير قادر، فيلزم الجمع بين النقيضين.
وكذلك إذا قيل: لا يكون أحدهما قادراً إلا إذا جعله الآخر قادراً، أو مكنه الآخر، وامتنع من منعه، فإنه يلزم ألا يكون واحد منهما قادراً للدور الممتنع، وهو قد جعل فاعلاً، فيلزم اجتماع النقيضين، فيلزم ألا يكون واحد منهما قادراً، مع وجوب كون الخالق قادراً، ويلزم أن يكون كلاً منهما غير قادر مع كونه قادراً.
وهذا كله من الممتنع بصريح العقل، وهو لازم من إثبات ربين قديمين واجبين بأنفسهما، فدل على امتناع ذلك.
وسواء قدر اتفاقهما على الفعل أو اختلافهما فيه، فنفس كونهما قديمين واجبين قادرين ممتنع، ونفس كونهما غير قادرين ممتنع، ونفس اجتماع القدرة وعدمها ممتنع، ونفس اتفاقهما على مفعول واحد يستقل به كل منهما ممتنع، ونفس الاشتراك بأن يفعل هذا بعضه وهذا بعضه ممتنع.
وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر أو الأقدار، فيعلو بعضهم(9/367)
على بعض، ولا بد إذا كانا قادرين من أن يذهب كل إله بما خلق، فإن العالي هو الإله المعبود، فلا يكون معه إله، بل يكون ما يقال إنه إله مملوكه وعابده.
وهم مقرون بذلك، لكن بين لهم فساد عبادة المخلوق والعابد لغيره.
كما قال: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] .
وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56-57] .
فإنه سبحانه ينهي عن الشرك الواقع، وهو اتخاذ ما سواه إلهاً، وإن كان المشركون مقرين بأنه إله مخلوق عابد للإله الأعظم ولهذا يقول: {لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42] .
وبين أيضاً امتناع أن يكون معه إله غني عنه بقوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، وبقوله: {لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد ذكرها العلماء في كتبهم.
وكذلك ما ذكره هذا الفيلسوف ذكره غير واحد من النظار، وذكروا أنه بتقدير الاتفاق يمتنع أن يكون مفعول أحدهما هو مفعول الآخر، والمفعول الواحد لا يكون مفعولاً لفاعلين باتفاق العقلاء.
لكن التقدير(9/368)
الذي يحتاج إلى نفيه تقدير التعاون، كما ذكر من فعل هذا البعض وهذا البعض، وما ذكره من أن التداول نقص هو موجود في التبعيض، فإن الشريكين قد يتهابان بالمكان وقد يتهابان بالزمان.
وهذا التقدير قد أبطلوه بوجوه:
منها: أن هذا نقص في حق كل واحد منهما ينافي الإلهية.
ومنها: أن كلاً منهما إن لم يكن قادراً على الاستقلال كان عاجزاً، وإن كان قادراً عليه -وهو لا يمكنه مع معاونة الآخر كان ممنوعاً من مقدوره، وهو مثل العجز وأشد.
وكذلك إن لم يكن قادراً على خلاف مراد الآخر كان عاجزاً، وإن كان قادراً ولم يفعل إلا ما يوافق الآخر، فإن كان الفعل الآخر ممكناً لا مانع له من غيره أمكن تقديره، ويعود دليل التمنع، وإن لم يكن ممكناً، لزم تعجيزه، ومنعه بغيره.
وبالجملة فالدلائل العقلية على هذا متعددة، وإن كان من الناس من يزعم أن دليل ذلك هو السمع، لكن هذا المطلوب الذي أثبتوه هو متفق عليه بين العقلاء.
ومقصود القرآن توحيد الإلهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس.
ولهذا قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] ، فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير الإله(9/369)
المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلهاً مع كونه مملوكاً له؟.
ولهذا قال: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} [الروم: 28] .
وقال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] .
وقال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} [الزمر: 43-45] ، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا ما ذكره هذا.
قال: ويدلك على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنته الآية: أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم، غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية.
وذلك أن المحال الذي أفضى إليه الدليل الذي زعموا أنه دليل الآية، هو أكثر من محال واحد، إذ قسموا الأمر إلى ثلاثة أقسام، وليس في الآية تقسيم.
فدليلهم الذي(9/370)
استعملوه هو الذي يعرفه أهل المنطق بالشرطي المنفصل، ويعرفونه هم في صناعتهم بدليل السبر والتقسيم.
والدليل الذي هو الآية هو الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل، وهو غير المنفصل.
ومن نظر فيه أدنى نظر في تلك الصناعة تبين له الفرق بين الدليلين.
وأيضاً فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب، وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجوداً ولا معدوماً، وإما أن يكون موجوداً ومعدوماً، وإن أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً.
وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد.
والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلاً على الدوام، وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص، وهو أن يوجد العالم فاسداً في وقت الوجود، فكأنه قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله) لوجد العالم فاسداً في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد.
قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص، والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين، إذا أراد أحدهما شيئاً وأراد الآخر نقيضه، ولا هو أيضاً امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين، فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود.(9/371)
وأما الفساد فهو ضد الصلاح، كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11] .
وقال تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف: 142] .
وقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] .
وقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة 205] .
وقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: 32] .
وقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] .
وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} [المائدة: 33] .
وقال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون 71] .
وجماع الصلاح اللآدميين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم، والفساد بالعكس.
فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته.
وفساده بالعكس،.
والخلق صلاحهم وسعادتهم(9/372)
في أن يكون الله هو معبودهم، الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات.
ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره، وكانت أعمال الذي كفروا: {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] .
قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] .
فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم، فإن الإنسان حارث همام.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» والحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يكثر الهم، الذي هو أول الإرادة، فالإنسان متحرك بالإرادة، وكل مريد لا بد له من مراد.
والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله، فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك، وهكذا العالم العلوي أيضاً.
والحركات ثلاثة، طبيعية، وقسرية، وإرادية.
لأن الحركة: إما أن يكون مبدأها من المتحرك، وإما من غيره.
فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية، وما كان مبدؤها من المتحرك، فإن كان على شعور منه فهي الإرادية، وإلا فهي الطبيعية.
والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه، كصعود الحجر(9/373)
والماء إلى فوق، ففي طبعه الهوي والنزول، فهي تابعة للقسرية، فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها.
فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية، وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها، كانت ضارة لصاحبها مفسدة له، غير نافعة ولا مصلحة له.
وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله.
كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون رباً له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها.
وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يجب أن يحب لله، لا يحب واحد منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة.
والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم.
وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته(9/374)
أن يكون للعالم مبدع غير الله.
قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، ففسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مراً، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح.
ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك.
والثاني إيمان.
قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] ، فليس لأحد أن يحب شيئاً مع الله.(9/375)
وأما الحب لله، فقال تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله} [التوبة: 24] .
وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار» .
وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» .
وهذا حقيقة قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك» .
فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين، فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة، فإن كون هذا مستقلاً بكونه هو المراد المحبوب، يناقض كون الآخر كذلك، ومتى لم يكن المراد مستقلاً(9/376)
بالإرادة، لم يكن هو المراد، بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس، وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به، فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله، ومن لم يكن الله هو مراده، لم يحصل صلاحه، بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر، بخلاف ما دونه.
وأفضل الكلام قول: لا إله إلا الله.
والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء، فهو بمعنى المألوه، وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك.
ولكن أهل الكلام الذي ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية، فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء، اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله: اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع، كما يقول الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع.
ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، قال ما يناسب ذلك في الإلهية، وهكذا غيرهم، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور، وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد، وفي الطرق التي بينها القرآن، فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد.
ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها، فجعل نفي ذلك داخلاً في مسمى التوحيد.
وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم.(9/377)
وأما الأول، فلا ريب أنه من التوحيد الواجب، وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد، لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد، بل المشركون الذي سماهم الله ورسوله مشركين، وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم، كانوا مقرين بأن خالق كل شيء.
فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنه به يعرف التوحيد، الذي هو رأس الدين وأصله.
وهولاء قصروا في معرفة التوحيد، ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة، وهي، وإن كانت صحيحة، فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم، وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم، كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد.
قال ابن رشد: فقد تبين من هذا القول الطرق التي دعا الشرع من قبلها الناس إلى الإقرار بوجود الباري تعالى، ونفي الإلهية عما سواه، وهما المعنيان اللذان تضمنتها كلمة التوحيد: أعني لا إله إلا الله، فمن نطق بهذه الكلمة، وصدق بهذين المعنيين اللذين تضمنتهما بهذه الطرق التي وصفنا، فهو المسلم الحقيقي الذي عقيدته العقيدة(9/378)
الإسلامية، ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة، وإن صدق بهذه الكلمة، فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم.
ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال: الفصل الثالث في الصفات: أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
ووجه الدلالة: أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالماً به.
مثال ذلك: إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما(9/379)
صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف -تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء، وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتاً ما.
لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون: إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علماً واحداً.
وهذا أمر غير معقول، إذ كان العلم واجباً أن يكون تابعاً للموجود.
ولما كان الموجود تارة يوجد فعلاً، وتارة يوجد قوة، وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً، إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.
وهذا -يعني قول المتكلمين- شيء لم يصرح الشرع به، بل الذي صرح به خلافه، وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها.
كما قال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .(9/380)
فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان، وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه.
وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع.
وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى، وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة، إلا أنهم يقولون: إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث، والباري تعالى لا يقوم به حادث، لأن ما ينفك عن الحوادث، زعموا أنه حادث.
قال: والذي يقال للخواص: إن العلم القديم لا يشبه علم(9/381)
الإنسان المحدث، فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم، لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال، فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها، وانتفى التكييف، إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث.
قلت: هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين، فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل، ولم يكن هذا مغايراً لهذا، كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحداً، وهذا مناقض لما تقدم من قوله، يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفاً.
غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول: إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث.
ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا، ولكن يقولون: ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم، ويقولون: إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات، التي لا توحب حدوث المنسوب المضاف، كالتيامن والتياسر.
وهكذا هذا يقول: إنما تتجدد النسب والإضافات، وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم، لكن المتكلمون خير منه، لأنهم يقولون بعلمها(9/382)
بعد وجودها: إما بعلم زائد عند بعضهم، وإما بذلك الأول عند بعضهم.
وأما هذا فلا يثبت إلا العلم الذي هو سبب وجودهما.
كما سيأتي كلامه.
وهذا عندهم حكم يعم الواجب والقديم.
وهذا يقول: بل ذلك حكم يخص المحدث.
وهو لم يأت على الفرق بحجة إلا مجرد الدعوى.
وقد بين ذلك في كلام أفرده في مسألة العلم، وأراد أن ينتصر بذلك للفلاسفة الذين قيل عنهم: إنهم يقولون: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، فذكر أنهم يقولون: إنه يعلم الجزئيات، لكن على هذا الوجه.
كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه
فقال لمن راسله: لما فقتم بجودة ذهنكم، وكرم طبعكم، كثيراً ممن يتعاطى هذه العلوم، وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في العلم القديم، مع كونه متعلقاً بالأشياء المحدثة، وجب علينا لمكان الحق، ولمكان إزالة الشك والشبهة عنكم، أن تحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره، فإن لم يعرف الربط لم يقدر على(9/383)
الحل والشك يلزم هكذا إن كانت الأشياء كلها في علم الله تعالى قبل أن تكون، فهل هي في علمه في حال كونها كما كانت عليه قبل أن توجد؟.
فإن قلنا: إنها في علم الله تعالى في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد، لزم أن يكون العلم القديم متغيراً، وأن تكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود، فقد حدث هناك علم زائد، وذلك مستحيل على العلم القديم.
وإن قلنا: إن العلم القديم فيها واحد في الحالين.
قيل: فهل هي في نفسها -أعني الموجودات الحادثة قبل أن توجد- كما هي حين وجدت؟ فيجب أن يقال: ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين وجدت، وإلا كان المعدوم والموجود واحداً.
فإذا سلم الخصم هذا، قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه؟.(9/384)
فإذا قال: نعم.
قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه، أن يكون العلم به يختلف، وإلا فقد علم على غير ما هو عليه، فإذاً يجب أحد الأمرين: إما أن يختلف العلم القديم في نفسه، أو تكون الحودث غير معلومة، وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه.
ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان، أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود، وتعلق علمه بها إذا وجدت، فإنه من البين بنفسه أن العلمين يتغايران، وإلا كان جاهلاً بوجودهما في الوقت الذي وجدت فيه، وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا، بأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل كونها، على ما تكون عليه في كونها، من زمان ومكان، وغير ذلك من الصفة المختصة به بوجود موجود.
فإنه يقال لهم: إذا وجدت فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث، وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود؟(9/385)
فإن قالوا: لم يحدث، فقد كابروا.
وإن قالوا: حدث هنالك تغير.
قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للقديم أم لا؟ فيلزم الشك المتقدم.
وبالجملة فيعسر أن ستصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد، وأن العلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه.
فهذا هو تقرير هذا الشك.
قال: وقد رام الإمام أبو حامد الغزالي حل هذا الشك في كتابه الموسوم بـ تهافت الفلاسفة بشيء ليس فيه منتفع.
وذلك أنه قال قولاً معناه هذا، وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، وكما أنه قد يتغير أحد المتضايفين ولا يتغير هذا الآخر في نفسه، كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه وتعالى، أعني أن تتغير في أنفسها، ولا يتغير علمه سبحانه وتعالى بها.(9/386)
ومثال ذلك في المضاف: أنه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته، وزيد بعد لم يتغير في نفسه.
قال: وليس هذا بصادق، فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها، وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة، وإنما الذي لم يتغير موضع الإضافة، أعني الحامل لها الذي هو زيد.
وإن كان كذلك، وكان العلم هو نفس إضافة، فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم كما تتغير الإضافة: إضافته الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها في نفسها، وذلك أنها عادت يسرة بعد أن كانت يمنة.
قال: والذي ينحل به هذا الشك عندنا، هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود بخلاف الحال في العلم المحدث مع(9/387)
الموجود، وذلك أو وجد الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود، فلو كان إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد فقد حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون العلم القديم معلولاً للموجود لا علة له، فإذاً وجب أن لا يحدث هنالك تغير، كما يحدث في العلم المحدث.
وأنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقد عرف فساد هذا القياس.
وكما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له، أعني تغيراً لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في العلم القديم تغير عند حدوث مفعوله عنه.
فإذاً قد انحل هذا الشك، ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير، أعني في العلم القديم، فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، وإنما لزم أنه لا يعلمه بعلم محدث، بل لا يعلمه إلا بعلم قديم، كما ظن أنه لازم من ذلك القول، لأن حدوث التغير في(9/388)
العلم عندنا بتغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو العلم المحدث.
فإذاً العلم القديم إنما يتعلق بالموجود على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلاً، كما حكى عن الفلاسفة أنهم لموضع هذا الشك قالوا: إنه لا يعلم الجزئيات.
ولي الأمر كما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، ويعلمها بالعلم القديم الذي ليس من شرطه الحدوث بحدوثها، إذا كان علة لها لا معلولاً عنها، كالحال في العلم المحدث.
وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به، فإنه إذاً قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء من جهة أن صدورها عنه، إنما هو من جهة أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط، أو موجود بصفة كذا، بل من جهة أنه عالم.
كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم(9/389)
بالمحدث، فواجب أن يكون هناك بالموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم.
قال: وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات.
قال: فهذا ما ظهر لنا في وجه هذا الشك، وهو أمر لا مرية فيه ولا شك.
قلت: لقائل أن يقول: ليس فيما ذكره جواب، وذلك أن تفريقه بين العلم القديم والعلم المحدث، بأن ذلك سبب للوجود، وهذا سبب عنه -هو قول تقوله طائفة من الفلسفة، وقد عارضهم طائفة من المتكلمين، فزعموا أن ليس في العلم ما هو سبب لوجود الموجود، بل العلم يطابق المعلوم على ما هو عليه، فلا يكسبه صفة، ولا يكتسب عنه صفة.
وأولئك يقولون: علمه فعل، وهؤلاء يمنعون ذلك.
والتحقيق أن كلاً من العلمين: علم الخالق وعلم المخلوق، ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه، وإلى ما لا يكون كذلك، فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه، فإن هذا العلم ليس سبباً لهذا الموجود، فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقاً.(9/390)
وكذلك علمنا بمخلوقات الله التي لا أثر لنا فيها كالسماوات.
وأما الثاني فعلم الله بمخلوقاته، فإن خلق المخلوقات مشروط بالعلم بها.
كما قال: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] ، فالعلم بها شرط في وجودها، لكن ليس هو وحده العلة في وجودها، بل لا بد من القدرة والمشيئة.
ومن هنا ضل هؤلاء المتفلسفة، فجعلوا مجرد العلم بنظام المخلوقات موجباً لوجوده، ولم يجعلوا للقدرة والمشيئة أثراً، مع أن تأثير القدرة والمشيئة في ذلك أظهر من تأثير العلم، مع أنهم متناقضون في ذلك، فإنهم قد يثبتون العناية والمشيئة تارة وينفوها تارة.
وعلم العبد بما يريد فعله من أفعاله، هو أيضاً شرط في وجود المعلوم، فهذا العلم بهذا المحدث شرط في حصوله، والمعلوم تابع للعلم المحدث هنا، فليس وجود كل معلوم لنا هو علة وسبباً لعلمنا مطلقاً، بل يفرق في ذلك بين العلم النظري والعلم العملي، فبطل هذا الفرق.
ثم يقال أيضاً: لا ريب أن الفاعل إذا أراد أن يفعل أمراً، فعلم ما يريد أن يفعل، لم يكن هذا هو العلم بأن سيكون، فإنه ليس كل من تصور ما يريد أن يفعل يعلم أن سيكون ما يريده، بل الواحد منا يتصور أشياء يريدها ولا يعلم أنها تكون، بل لا تكون، ثم إذا علم العالم أن الشيء سيكون ثم كان، علم أنه قد كان.
فهنا في حقنا ثلاثة علوم، وهو إنما ذكر في حق الله العلم المشروط في الفعل، وهو الذي لا يكون المريد مريداً حتى يحصل ذلك، فإن الإرادة مشروطة بتصور المراد.(9/391)
أما العلم بأن سيكون المراد، فهذا لا يثبت بمجرد ما ذكره، فإن هذا علم خبري، وذاك علم طلبي، ثم إذا ثبت هذا العلم جاء الشك، وهو أنه هل يكون هذا العلم هو نفس العلم بوقوعه إذا وقع أم لا؟
والمتكلمون تكلموا في هذين العلمين، وأرادوا جعل أحدهما هو الآخر، فكانوا أقرب إلى الصواب ممن جعل العلم بما يريده هو العلم بأن سيكون المراد، وذلك هو العلم بأن قد كان.
فتبين أن طريقة المتكلمين أقل إشكالاً، وأقرب إلى الصواب.
وأيضاً فيقال له: العالم بما يريد أن يفعل إذا فعله علم أنه سيكون، ثم علم أن قد كان، لم يخرج بذلك عن أن يكون العلم القديم شرطاً في وجود المعلوم، وهو من تمام علة وجوده، إذا كانت نفسه مستلزمة لعلمه بالموجود بشرط فعله لها، كما في سمعه وبصره، لم يكن شيء من أحواله معلولاً لغيره.
فقوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولاً للوجود لا علة له -ليس بلازم.
وأما ما ذكره من نفي التغير، فهو قد طعن في دليل المتكلمين على نفيه، ولم يذكر هو دليلاً على نفيه، فبقي نفيه له بلا حجة أصلاً، إلا قوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولاً للوجود لا علةً له، وليس هذا بصحيح، فإنه بتقدير تجدد علم ثان، لا يخرج العلم الذي به كان الفاعل فاعلاً عن أن يكون علة.
وأيضاً فعلم الله لازم لذاته، وهو الذي فعل الموجودات.
فإذا قيل(9/392)
إن ذاته أوجبت له هذا العلم، بشرط فعله ما فعل، لم يكن ذلك موجباً لافتقاره في العلم إلى غيره.
وقوله: إنما أتى هذا من قياس الغائب على الشاهد.
فيقال: جميع ما تذكره أنت وأصحابك والمتكلمون في هذا الباب، لا بد فيه من مقدمة كلية تتناول الغائب والشاهد، ولولا ما يوجد في الشاهد من ذلك، لما تصور من الغائب شيء أصلاً، فضلاً عن معرفة حكمه، فإن أبطلت هذا بطل جميع كلامكم.
وأما قوله: كما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له، كذلك في العلم عند حدوث مفعوله.
فيقال له: أنت قد أبطلت دليل المتكلمين على هذا الأصل الذي قاسوا عليه، ولم تذكر لك عليه دليلاً، فإن أولئك بنوه على أن ما لا يسبق الحوادث حادث، وهذا ثبت بطلانه، فيجوز عندك أن تقوم الحوادث بالقديم، وإذا كان كذلك، لم يمتنع عندك أن يتجدد للفاعل القديم عند فعله حال من الأحوال، بل أنت قد بينت في غير موضع أنه لا يعقل صدور الحوادث عن المحدث بدون هذا.
وأما قوله: لا يلزمنا إذا لم يحدث هناك تغير أن لا يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه.
فيقال: هذا لك ألزم منه للمتكلمين، لأنك ألزمتهم أن العلم بأن ما سيكون قد كان، ومعلوم أن العلم بما نريد أن نفعل، ليس هو العلم بأن سيكون، ولا بأن قد كان.(9/393)
فإن نفيت علمه بأن ستكون الموجودات قبل وجودها، وعلمه بأن قد كانت بعد وجودها -كان هذا أعظم عليك.
وإن جعلت ذلك هو نفس علمه بما يريد فعله، كان جعلهم العلم بالشيء قبل كونه واحداً أقرب إلى العقل.
وأما قوله: حدوث التغير في العلم عندما يتغير الموجود، هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو المحدث.
فيقال له: هذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ما ذكرته من الدليل لا يفرق.
الثاني: أنه يلزم علم العبد بما يريد أن يفعله، فإنه متقدم على المعلوم به الموجود، وهو متغير، فليس هو معلولاً عن الموجود، فتبين أن كونه سبباً في الوجود أو تابعاً له، لا يمنع ما ذكر من التغير.
وعلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفاداً من شيء من الموجودات، فإن علمه من لوازم ذاته، فعلم العبد يفتقر إلى سبب يحدثه، وإلى المعلوم، الذي هو الرب تعالى، أو بعض مخلوقاته، وعلم الرب لازم له، من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم، والمعلوم: إما نفسه المقدسة، وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها.
وهذه المسألة: مسألة تعلق صفاته بالمخلوقات بعد وجودها، تعلق العلم والسمع والبصر ونحو ذلك، هي مسألة كبيرة.
والناس متفقون على تجدد نسب وإضافات لا تقوم بذات الرب،(9/394)
وتنازعوا فيما يقوم بذات الرب، وهذا كما تنازعوا في الاستواء ونحوه: هل هو مفعول للرب يحدثه في المخلوقات من غير قيام أمر به؟ أم يقوم به أمر؟ على القولين
فالكلابية والمعتزلة ينفون أن يقوم بالرب شيء من ذلك.
وأكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام يجوزون ذلك.
وأما النسب والإضافات فتتجدد باتفاقهم.
وابن عقيل يسمي هذه النسب والإضافات الأحوال، ولعله سماها بذلك، كما يسمى غيره كونه عالماً وقادراً حالاً معللة بالعلم والقدرة، كما هي طريقة القاضي أبي بكر، ومن وافقه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهما.
وهؤلاء يقولون -تبعاً لأبي هاشم- إن الحال لا موجودة ولا معدومة، وكذلك هذه النسب والإضافات على قولهم.
أو أن يكون ابن عقيل شبه ذلك بالأحوال التي يثبتها أبو هاشم، ويجعلها لا موجودةً ولا معدومةً، كذلك هذه النسب والإضافات.
ولأهل الحديث والتفسير والكلام وغيرهم من الكلام في هذه المسألة ما هو معروف.
ولهذا صار طائفة من أهل الكلام، كهشام بن الحكم، والجهم، وأبي الحسين البصري، والرازي، وغيرهم -إلى إثبات أمور متجددة.
والكلام على هذا متعلق بما ذكره الله في القرآن في غير موضع.
كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] .(9/395)
وقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142] .
وقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء} [آل عمران: 140] .
وقوله: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] إلى قوله: {فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا} [آل عمران: 165-166] الآية.
وقوله: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف: 12] .
وقوله: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} إلى قوله: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} [العنكبوت: 3-11] .
وغير ذلك في كتاب الله.
هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها، على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون.
وقد نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم فهو كافر.
ومن هؤلاء غلاة القدرية، الذين ينكرون علمه بأفعال العباد قبل أن يعملوها، والقائلون بالبداء من الرافضة ونحوهم.(9/396)
وإنما المسألة الدقيقة أنه عند وجود المسموع والمرئي والمعلوم، إذا سمعه ورآه علمه موجوداً فهل هذا عين ما كان موجوداً قبل وجود ذلك؟ أو هناك معنى زائد؟
وأما قول من قال من الفلاسفة: إنه لا يعلم إلا الكليات، فهذا من أخبث الأقوال وشرها، ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة.
وهؤلاء شر من المنكرين لعلم القديم، من القدرية وغيرهم.
وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون: إنه لا يعلم الجزئيات، بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث، وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزيئات العالم، فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل، وعدم معرفته بحقيقة مذهبهم، فإنه دائماً يتعصب لأرسطو، صاحب التعاليم المنطقية والإلهية.
وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه ما بعد الطبيعة، وقد ذكر بألفاظه أبو البركات صاحب المعتبر وغيره، ورد ذلك عليه أبو البركات، مع تعظيمه له.(9/397)
وأرسطو ينكر علم الرب بشيء من الحوادث مطلقاً.
وكلامه في ذلك وحججه من أفسد الكلام كما سنذكره إن شاء الله.
ولكن ابن سينا وأمثاله زعموا أنه إنما يعلم الكليات والجزئيات: يعلمها على وجه كلي.
وهؤلاء فروا من وقوع التغير في علمه.
وأما من قبل أرسطو من المشائين، فلا ريب أن في كلامهم ما هو خير وأقرب إلى الأنبياء من كلام أرسطو.
ولهذا نقل عنهم أنهم كانوا يقولون بحدوث الأفلاك، وأن أرسطو أول من قال بقدمها من المشائين.
وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات، فاستدلال ضعيف، فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات، إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية، وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة، قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ، كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء والمضنون وغير ذلك من كتبه.
وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة، يذكرون اللوح المحفوظ، ومرادهم به النفس الفلكية، ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه.
ومن علم دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام، كما قد بسط في موضع آخر، إذ تنزيهه هنا للفلاسفة المشائين عن أن يكون هذا كلامهم، هو تعصب جسيم منه لهم.(9/398)
وهذا نظر سيء في نقل أقوال الناس، وليس تحقيق هذا من غرضنا هنا.
والفلاسفة طوائف متفرقون لا يجمعهم قول ولا مذهب، بل هم مختلفون أكثر من إاتلاف فرق اليهود والنصارى والمجوس.
وكلام المشائين في الإلهيات كلام قليل الفائدة، وكثير منه بلا حجة.
والنقل المذكور موجود في كتب المتبعين لهم كابن سينا وأضرابه.
وقد نظرت فيما نقل عنهم من الأقوال في العلم فوجدتها عدة مقالات، لكن من الناس من يحكي عنهم قولين أو ثلاثة، ومن الناس من لا يحكي إلا قولاً واحداً.
وقد وجدت أربعة مقالات منقولة عنهم صريحاً في كتب متعددة.
فنقل طائفة عنهم.
ك الشهرستاني وغيره في العلم ثلاث مقالات.
قالوا: ذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط، ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات، وهي غير معلومة عنده، أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال
وذهب قوم منهم إلى أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.
وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعاً، على وجه لا يتطرق إلى علمه نقص وقصور.(9/399)
فهذا القول الثالث هو شبيه بالقول الذي اختاره ابن رشد.
وأما القول الثاني والأول فهما اللذان حكاهما الغزالي عن الفلاسفة.
قال: منهم من قال: لا يعلم إلا ذاته، ومنهم من يسلم أنه يعلم غير ذاته.
قال: وهو الذي اختاره ابن سينا، فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي، لا يدخل تحت الزمان، ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم.
وذكر الغزالي أنهم اتفقوا على أنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان، ويكون
قال: فمن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه، لا يخفى فساد هذا من مذهبه، ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، كما اختاره ابن سينا، فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.
قلت: ول أبي البركات صاحب المعتبر مقالة في العلم رد فيها على أرسطو.
ونصر فيها أنه يعلم الكليات والجزئيات.(9/400)
وما ذكره ابن رشد عنهم من أنهم يرون أن العلم سبب الإنذار بالجزئيات.
فيقال: أما الفلسفة الموجودة في كتب ابن سينا وأمثاله، ففيها أن ذلك من العقل الفعال والنفس الفلكية، وعندهم ذلك هو المنذر بذلك، ويسمون ذلك اللوح المحفوظ، ومن ذلك ينزل عندهم الوحي على الأنبياء، ومن ذلك كلم موسى.
وكثير من المتصوفة الذين سلكوا مسلكهم قد دخل ذلك في كلامهم.
فإن كان فريق غير هؤلاء المتفلسفة يجعله ذلك من علم الله، فلا ريب أن من جعل الله منذراً لعباده بالجزئيات، لزم أن يكون عالماً بها، فإن الإعلام بالشيء فرع على العلم به، وهذا ما يثبت القول الثالث المحكي عنهم.
وذكر أبو البركات في معتبره الأقوال الثلاثة: قول من قال: لا يعلم إلا ذاته، وذكره عن أرسطو، وذكر ألفاظه.
وابن رشد هو يعظم أرسطو إلى الغاية، وهو من أعظم الفلاسفة عنده، فكيف ينفي هذا القول عنهم؟!
وذكر أبو البركات قول ابن سينا، وذكر عنهم القول الثالث، وهو أنه يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات، على اختلاف الحالات، مما هو كائن، وما هو آت.
وهذا القول ينزع إلى قولين: أحدهما: القول الذي اختاره ابن رشد، الذي قربه من التغير، ولم يجب عنه، والثاني التزام هذا اللازم، وبيان أنه ليس بمحذور.
وهذا قد اختاره أبو البركات، كما يختاره طوائف من(9/401)
المتكلمين كأبي الحسين والرازي وغيرهما، وكما هو معنى ما دل عليه الكتاب والسنة، وذكره أئمة السنة.
فصارت الأقوال للفلاسفة في علم الله أربعة أقوال، بل خمسة، بل ستة، بل سبعة.
وأكثر من ذلك القول الذي ذكره ابن سينا، والقول الذي اختاره ابن رشد، والقول الذي اختاره أبو البركات.
وهذان القولان هما القولان اللذان يقولهما نظار المسلمين.
وقول أرسطو وابن سينا، فلا يمكن أن يقولهما مسلم.
ولهذا كان ذلك مما كفرهم به الغزالي وغيره، فضلاً عن أئمة المسلمين، ك مالك والشافعي وأحمد، فإنهم كفروا غلاة القدرية، الذين أنكروا علمه بالأفعال الجزئية قبل وجودها، فكيف من أنكر علمه بالجزئيات كلها قبل وجودها وبعد وجودها؟!
ول السهروردي المقتول قول آخر سنحكيه بعد إن شاء الله.
وكذلك ل الطوسي قول قريب منه، مضمونه أن العلم ليس صفة له، بل هو نفس المعلومات.
كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه
قال أبو البركات: فأما معرفته وعلمه فقد اختلف فيه كثير من العلماء، من المحدثين والقدماء، يعني علماء النظار من الفلاسفة، لا يعني به أتباع الأنبياء.
قال: فقال قوم منهم: إنه لا يعرف ولا يعلم سوى ذاته، وصفاته التي له بذاته.
وقال آخرون: بل يعرف ذاته وسائر مخلوقاته، في(9/402)
سائر الأوقات، على اختلاف الحالات، فيما هو كائن، وفيما هو آت.
وقال آخرون: بل يعرف ذاته بذاته، والصفات الكلية من مخلوقاته، والذات الدائمة الوجود من معلولاته، ولا يعرف الجزئيات، ولا يعلم الكليات الفاسدات المتغيرات المستحيلات، ولا شيئاً من الحوادث من الأفعال والذات.
قال: واشتهر القول بين المتفلسفة من القدماء بالمذهب الأول، أعني تنزيه الذات فقط، وبين المحدثين القول الثالث: وهو معرفة الكليات.
وضعفت بينهم حجج القائلين بمعرفة الجزئيات، لتدقيق النظر، وتقرير أصول لم تحرر، وافقهم عليها السامعون، فألزمهم بتصديقهم من حيث لا يشعرون.
قال: ونحن الآن نقتص مذاهب الذين يقولون بأنه تعالى لا يعرف الجزئيات وحججهم، ثم نشرع في اعتبارها والنظر فيها، وفي مذهب القائلين بخلافها، ونجري على العادة في توفية كل مذهب حجته،(9/403)
مما قيل، ومما لم يقل، حتى ينتهي النظر إلى الحجة التي لا مرد لها، ولا حجة تبطلها، فنعرف الحق فيها.
ثم قال: الفصل الرابع عشر: في شرح كلام من قال: إن الله لا يحيط علماً بالموجودات.
قال أرسطو طاليس ما هذه حكايته فيما بعد الطبيعة: فأما على أية جهة هو المبدأ الأول، ففيه صعوبة.
فإنه إن كان عقلاً وهو لا يعقل، كالعالم النائم، فهذا محال.
وإن عقل أفترى عقله في الحقيقة لشيء غيره؟ وليس جوهره معقوله، لكن فيه قوة على ذلك، وبحسب هذا لا يكون جوهراً، فإن كان هذا الجوهر بهذه الصفة، أعني أنه عقل، فليس يخلو أن يكون عاقلاً لذاته أو لشيء آخر.
فإن كان عاقلاً لشيء آخر، فلا يخلو أن يكون عقله دائماً لشيء واحد أو لأشياء كثيرة.
فإن كان معقوله لأشياء كثيرة، فمعقوله على هذا منفصل، عنه فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته، لكن في عقل شيء آخر، أي شيء كان.
إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره، إذ كان جوهراً في(9/404)
الغاية من الإلهية والكرامة والعقل، فلا يتغير.
والتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما، فيكون هذا العقل ليس عقلاً بالفعل، لكن بالقوة.
وإن كان هكذا، فلا محالة أنه يلزمه الكلال والتعب في إيصال للمعقولات، ومن بعد فإنه يصير فاضلاً بغيره، كالعقل في المعقولات، فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصاً، ويكمل بمعقولاته.
وإن كان هذا هكذا، فيجب أن يهرب من هذا الاعتقاد، وإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها، فكمال ذلك العقل، إذ كان أفضل الكمالات، يجب أن يكون بذاته لها، فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات.
وهذا يوجد هكذا دائماً، دون تعرف أو حسن أو رأي أو فكر.
فهذا ظاهر جداً، فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره، فإما أن يكون شيئاً واحداً دائماً، أو يكون علمه بما يعلمه واحداً بعد آخر.
وهذه الأمور بالهيولى غير الصورة، فأما في الأمور العقلية، فطبيعة الأمر وكونه معقولاً شيء واحد، فليس العقل فيها شيئاً غير المعقول.(9/405)
وبالجملة فجميع الأشياء العرية عن الهيولى، فمعنى العقل والمعقول فيها واحد.
قلت: وقد صنف أبو البركات مقالة في العلم ذكر فيها نحو ما ذكره في المعتبر وقال: هذا القول هو الذي نقل عن أرسطو طاليس في مقالة اللام من كتابه المعروف بـ ما بعد الطبيعة، وقد تداولته العقلاء، وتصرفت فيه العقول، وأكثر فيه المفسرون.
والغرض منه ظاهر، وهو إجلال المبدأ الأول عن أن يكون له كمال بغيره، فيكون بذاته ناقصاً بالقياس إلى ذلك الكمال، وتكون له غيرية بإدراك الأبصار، وتغير بإدراك المتغيرات، وتعب باتصال إدراكها وازدحامها، وخروجه من القوة إلى الفعل فيفعلها.
قال: وإذا كان هذا مفهوم الكلام قد لاح عن كثب، فلا حاجة إلى التطويل.
وهذا قول إذا تتبع بطريقة النظر المحض، لم يثبت له قدم فيه وساق كلامه عليه.
قال أبو البركات في المعتبر: وقد كان أرسطو قال قبل هذا ما قصد به أن ينفي عنه أن تتجدد له الأحوال، ويمنع به تغيره من حال إلى حال، حتى يحكم بذلك في العلوم والمعارف.
قال: وليس يمكن في العلة الأولى أن تنفعل، وجميع هذه هي(9/406)
حركات توجد بآخرة بعد الحركة المكانية، وجميع هذه هي بينة على هيئة على هذه الصفة.
ثم ذكر عبارة ابن سينا في هذه المسألة كما سنذكره.
وكلام أرسطو فيه أربعة أمور:
أحدها: أن العلم بالغير يوجب كونه كاملاً بغيره، فأن لا يبصر بعض الأشياء أولى من أن يبصرها.
الثاني: أن علمه بالمتغيرات يوجب تعبه وكلاله.
الثالث: أن هذا نوع من الحركة يستلزم تقدم الحركة المكانية.
الرابع: أن علمه الأشياء نوع حركة يوجب كثرة العلوم، فيكون هو لها كالهيولى للصورة.
ومدار الحجج على أن العلم يوجب الكثرة والتغير والاستكمال بالمعلوم.
قال أبو البركات: الفصل الخامس عشر: في اعتبار الحجج المنقولة عن أرسطو طاليس: أما قول أرسطو بأن تعقله للغير كمال يوجب له نقصاً باعتبار لا كونه، فيرد بأن يقال فيه على طريق الجدال الذي يلزمه الإذعان له، وهو أن يقال: إنك تعرفه مبدأ أولاً، وخالق(9/407)
الكل، فنقول في خلقه مثلما قلت في تعقله.
فإن قلت: الخلق لزم عن ذاته.
قلنا: والتعقل لزم عن ذاته.
وإن قلت: إن ذلك يمنعه عنه، حتى لا يجعل له به كمالاً، أعني كونه يعقل الأشياء.
قلنا: فامنع هذا أيضاً، أعني كونه يخلق الأشياء، حتى لا يكون له به كمال، فيما لا يخلق لا يكون خالق المخلوقات ومبدأً أول لها، كما أنه بما لا يعقل لا يكون عاقل المعقولات، ولو بما لا يعقل واحداً منها، مثلما لا يخلق واحداً منها، فإن الذي لزم في علم المعلوم، يلزم مثله في خلق المخلوقات أو إبداع المبدع، فإنه بقياس لا وجوده عنه ليس بخالق ولا مبدع، فإن لم يوجب هذا نقصاً، لم يوجب ذاك.
وإن أوجب ذاك، فقد أوجب هذا، وإجلاله عن ذلك، كإجلاله عن هذا، وقدرته على هذا، كقدرته على ذاك، فلم نزهته عن ذاك، ولم تنزهه عن هذا؟ ولم خشيت عليه التعب في أن يعقل، ولم تخشه عليه في أن يفعل؟.(9/408)
قال: فهذا جواب كاف في رده على مذهب المجادلة.
قلت: قوله على مذهب المجادلة -يعني المعارضة والنقض- التي تبطل حجة المستدل، وتبين أنها فاسدة وإن لم يعلم حلها، وذلك أن ما ذكره في العلم يلزم مثله بطريق الأولى في الفعل، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن كون الشيء مفعولاً دون كونه معلوماً، فإن المفعولات دون الفاعل، وليس كل معلوم دون العالم، فالإنسان يعلم ما هو أكمل منه، ولا يفعل ما هو أكمل منه.
فالمفعول يجب أن يكون دون الفاعل، ويجب أن يكون الفاعل أكمل من المفعول، ولا يجب مثل ذلك في العالم والمعلوم، بل يجوز أن يعلم العالم ما هو أكمل منه، وما لا يفتقر إليه بوجه من الوجوه.
وأما مفعوله فهو مفتقر إليه.
فإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له، مما يوجب نقصاً له وكمالاً بها، فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصاً له وكمالاً بها بطريق الأولى، إذ كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة له، فإذا كانت فاعليته لا تتم إلا بها، ولم يكن ذلك نقصاً، فأن لا تكون عالميته التي لا يتم إلا بها نقصاً بطريق الأولى.
وذلك من وجوه:
أحدها: أن كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة.
الثاني: أن لزوم الفعل له أولى بأن يجعل نقصاً من لزوم العلم له.
الثالث: أن استلزام الفاعلية المفعول أولى من استلزم العالمية لوجود(9/409)
المعلوم، فإن العالم قد يعلم المعلوم معدوماً، ويعلمه ممتنعاً، ويعلمه قبل وجوده.
وأما الفعل فلا يكون إلا لما يوجد بالفعل، لا لما يكون معدوماً مع وجود الفعل.
وحينئذ فتوقف كونه فاعلاً على وجودها أولى من توقف كونه عالماً على وجودها.
الرابع: أنه إذا قيل: فعله لها لا يوجب احتياجه إليها، بل هي المحتاجة إليه من كل وجه، وكماله بفعله الذي هو من ذاته لا منها.
قيل: وعلمه بها لا يوجب حاجته إليها بوجه، بل العالم أغنى عن المعلوم من الفاعل إلى المفعول، إذ لا يعقل في الشاهد فاعل إلا وهو محتاج إلى فعل، بل ومفعوله، ويوجد عالم لا يفتقر إلى معلوماته، بل ولا إلى علمه بكثير من المعلومات، وإن كان علمه بها صفة كمال، وجوده أكمل منه.
وإذا قدر أن بعض الأفعال لا يحتاج إليه بل هو صفة كمال.
قيل: الفعل الاختياري لا يكون إلا بإرادة، وحاجة الإنسان إلى وجود كل مراد مطلقاً، أعظم من حاجته إلى العلم بما يعلمه مطلقاً، تعلق النفوس بمراداتها، أعظم من تعلقها بمعلوماتها.
ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن علي: قيمة كل امرئ ما يحسن ولا يصح هذا عن علي.
ويقول أهل المعرفة: قيمة كل امرئ ما يطلب.
فكمال النفوس ونقصها بمرادها، أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها.
بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصاً، وأما إرادة بعض(9/410)
الأشياء فيوجب لها نقصاً، فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصاً، فكيف بعلمه بذلك؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاجاً إليها مستكملاً بها، فكيف يوجب ذلك علمه بها؟
ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها، وأما كونه لا يعلمها، فلا يعقل كونه نقصاً، إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم، لا أن نفس العلم يذم، فإذا كان فعله لبعض الموجودات ليس أكمل من فعله لها كلها، ولم يكن أن لا يفعلها أكمل من أن يفعلها، فكيف يكون أن لا يبصرها أفضل من أن يبصرها؟
وإذ قيل: هو فاعل لبعضها بتوسط بعض.
قيل: كيفما قدرت وجود الفعل ونفي كونه نقصاً، كان تقدير وجود العلم ونفي كونه نقصاً أولى وأحرى.
فإن قلت: فعله للمفعول الأول لازم لذاته وهلم جراً، ولا يكون نقصاً.
قيل: إن قدر أن هناك معلولاً أول يلزمه، فإن علمه بنفسه إذا كان يستلزم علمه بالمعلول الأول ولوازمه، لم يكن نقصاً بطريق الأولى.
وإذا قيل: إن في التعقلات تعباً.
قيل: من لم يتعب بالفعل، فأن لا يتعب بالعلم بطري الأولى، فكيف يعقل فاعل يفعل دائماً ولا يتعب بالفعل؟ فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى.
فكيف يعقل فاعل يفعل دائماً ولا يتعب بالفعل، ولكن يتعب(9/411)
بعلمه بالمفعول مع كونه عقلاً؟ والعقل الذي هو العلم أولى به من الفعل.
وهم يعلمون -وكل عاقل- أن نفس الإنسان لا يتعب بالعلم، كما يتعب بالفعل.
وكذلك بدنه إذا قدر فعل لا يكون استحالة وتغيراً، فلأن يقدر علم به لا يكون استحالة وتغيراً بطريق الأولى.
وإذا قدر فعل لا يوجب حركة مكانية، فالعلم به أن لا يوجب ذلك أولى وأحرى.
ففي الجملة كل ما توهم المتوهم أنه نقص في العلم، مثل كونه استكمالاً بالغير، أو كونه تغيراً، أو كونه متعباً، مثله في فعل ذلك لغير المعلوم بطريق الأولى.
وإذا كان الفعل لا نقص فيه بل هو كمال، فكذلك للعلم وللغير المذكور، هو مفعوله ومخلوقه الذي هو أبدعه.
فإذا قيل: إن كماله به، فليس كماله إلا بنفسه، إذ هو المبدع له، فلم تفتقر نفسه إلى غير نفسه، ونحن نعقل أن ما هو غني عنا علمنا به أكمل من أن لا نعلمه وإن كان غنياً عنا، فلو قدر أن في الوجود ما ليس مفعولاً له، كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه، فكيف إذا كان هو مفعوله؟
وهل يقال: إن من علم الأشياء بعلوم متجددة، بل علمها بعد وجودها، أنقص ممن لا يعلمها بحال، فكيف يكون من لا يعلمها قبل وجودها وبعد وجودها؟
ولو سمى مسم العلم بالمتغيرات تغيراً وحركة واستكمالاً بالغير، ومهما سماه من ذلك، فإذا قيس من يعلم الإشياء إلى من لا يعلمها، كان الأول أكمل بكل حال.(9/412)
ولهذا كان الإنسان القابل للعلم أكمل من الجماد، وإن كان في علمه من التغير والحركة ما ليس في الجماد.
وأيضاً فمن يكون حياً حساساً يقدر على الحركة، أكمل ممن لا يكون كذلك.
وكلما كانت صفات الكمال أكمل، كان الموصوف أكمل، فإن الإنسان أكمل من الحيوان البهيم، والحيوان أكمل من الجماد، وإن قدر أن علمه وفعله مستلزم للحركة، بل للحركة المكانية، فهو أكمل ممن لا علم له ولا يتحرك بإرادته، فالمتحرك بإرادته أكمل ممن لا يمكنه الحركة البتة.
هذا هو المعقول في الموجودات.
وكلما تدبر الإنسان، ونظر في الأدلة المعقولة، تبين له أن ما ذكره عن أرسطو من الحجج لنفي العلم من أفسد الحجج، بل هي الغاية في الفساد، وهي مبنية على مقدمتين.
ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه
إحداهما: إن العلم يستلزم أموراً.
والثانية: أنه يجب نفي تلك الأمور لكونها نقصاً.
وهذا باطل من وجوه:
منها: المعارضة بما تقدم.
ومنها: أن نفي العلم أعظم نقصاً من تلك اللوازم، فلو قدر أنها تتضمن ما يسمونه نقصاً، لكان ما يتضمنه نفي العلم من النقص أعظم، فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذراً من أدناهما، إذا قدر أن كلاهما قد جعله هؤلاء نقصاً.(9/413)
ومنها: أن ما ذكره من المقدمة الأولى اللزومية مما ينازعهم فيه كثير من الناس.
ومنها: أن كون تلك اللوازم نقصاً مما ينازع فيه كثير من الناس.
ومنها: أنه يستفصل عن الحدود المذكورة في المقدمتين، فإنها ألفاظ مجملة، وحينئذ فلا بد من منع الملزوم، أو انتفاء اللازم، فإما أن لا يسلم ما ذكروه عن اللزوم، وإما أن لا يسلم ما ذكروه من انتفاء اللازم.
ومنها: بيان أن لوازم العلم كلها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
ومنها: أن ما ذكره مبني على وجوب ثبوت الكلام للرب تعالى وتنزيهه عن النقص، وهذا حق كما قررناه في غير موضع، وبينا أن الكمال الممكن وجوده، الذي لا نقص فيه بوجه، يجب إثباته لله تعالى، وأن العلم من أعظم الكمالات الذي لا نقص فيه بوجه، وقد وجد العلم في الوجود، فثبوته له أولى من ثبوته لغيره، وأن العلم من حيث هو علم لا يستلزم نقصاً أصلاً، ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم، والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق، فقد يضرها معرفة تلك الحقائق، فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر.
أما المقدس المنزه عن كل عيب، فعلمه من تمام كماله، وهو مما يحمد به ويثنى به عليه، لا يستلزم الذم والنقص بوجه من الوجوه، فكيف إذا علم وجود العالم وامتناع وجوده بدون العلم وامتناع كونه فاعلاً لشيء إلا مع علمه به؟ إلى غير ذلك من الدلائل البرهانية المثبتة لوجوب كونه تعالى عليماً بكل شيء.(9/414)
لكن نحن في هذا المقام في أبطال شبه النفاة، لا في بيان حجج المثبتين.
وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن، فإن من لا يلزمه تعب ولا نقص في خلق المخلوقات، فأن لا يلزمه ذلك في علمه بها أولى وأحرى.
وهذا مما يبين أن قول اليهود، الذين وصفوه بالتعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه استراح بعد ذلك -أقرب إلى المعقول من قول أرسطو وأتباعه، الذين يقولون: لو كان عالماً بهذا لتعب، لكن هذه المعارضة مبنية على أنه علة فاعلة للعالم، سواء قيل: إنه فاعل له بالإرادة، أو موجب له بذاته بلا إرادة.
وكونه مبدأً للعالم هو مما اتفق عليه الأمم من الأولين والآخرين، ووافقهم على ذلك أئمة أتباع المشائين، كابن سينا وأمثاله.
وأما أرسطو فليس في كلامه إلا أنه علة غائية، بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه به، ليس فيه أنه مبدع للعالم.
وهذا، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فكلامه في علمه مني على هذا.
وإبطال كلامه في العلم ممكن، مع تقدير هذا الأصل الفاسد أيضاً من وجوه.
فإن حقيقة قول أرسطو وأتباعه: إن الرب ليس بخالق ولا عالم.
وأول ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5] .(9/415)
وكذلك قوله: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1-3] .
وقوله موسى لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] ، وأمثال ذلك.
وهؤلاء عندهم لم يخلق شيئاً، ولم يعلم أحداً، بل هو في نفسه ليس بعالم، فكيف يعلم غيره ويهديه؟
بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه
قال أبو البركات: فأما الجواب النظري البرهاني، فهو أن نقول: ليس كماله بفعله، بل فعله بكماله وعن كماله، ومن فعله عقله، فعقله عن كماله الذاتي، الذي لا وجه لتصور النقص فيه ولا القول به، فإن النقص في ذات المبدأ الأول غير متصور لأنه واحد، والنقص إنما يتصور في موضع الزيادة والنقصان، والزيادة والنقصان معاً إنما هي من صفات الكثرة والغيرية، حيث تتصور في الكثرة قلة، وفي الزيادة نقصان، كل واحد بقياس الآخر.
فأما حيث لا كثرة ولا غيرية بل وحدة محضة، فلا يتصور نقص.
وكيف والنقص من الصفات الإضافية، حيث يقال: نقص كذا، كما يقال: زاد كذا؟
فالنقص المتصور في الذات الأحدية، أي نقص يكون؟ ونقص ماذا(9/416)
يكون؟ وكيف يتصور؟ لا أقول: كيف يقال؟ فإن القائل قد يقول ما لا يتصوره، لكن العالم لا يعلم ما لا يتصوره إثباتاً ولا نفياً.
فإن قيل: إن النقص ها هنا متصور بقياس ذاته، وهو أن لا يعقل كذا لولا كذا المعقول، أي لا يعقل لولا المعقول.
قلنا: إن الكمال الذي له ليس هو بأن يعقل كل موجود، بل كونه بحيث يعقل كل موجود، فإن كان المعقول موجوداً عقله، وإن فرض غير موجود، لزمه فرض أن لا يعقله، لا لأنه لا يعقله، أي لا يقدر على عقله، بل النقص من جانب العدم المفروض، فكماله وقدرته له بذاته، ويلزم عنهما ما له بالقياس إلى موجوداته، فما كمل بإيجاد مخلوقاته، بل وجدت مخلوقاته عن كماله.
وليس هذا القول في المبدأ الأول فقط، بل وفينا أيضاً، فإنا لسنا نكمل بكل معقول، بل إنما كمالنا بقدرتنا على أن نعقله وإنما نكمل بما نعقله بالفعل، حيث نعقل بالفعل معقولات أشرف منا، وذلك نوع آخر من الكمال، فإن العقل له بذاته الكمال، الذي هو قدرته على أن يعقل، وله بأن يعقل، وذلك أمر له من ذاته: عقل بالفعل أم لم يعقل.
وله كمال عرضي إضافي اكتسابي، بما يعقل معقولات هي أشرف(9/417)
منه، وذلك ليس للأول، إذ ليس أشرف منه في الموجودات، حتى يشرف ويكمل بعقله له، وليس إذا ارتفع هذا عنها ارتفع ذاك، فإن ذاك هو الأول، والذي بالذات -أعني كونه بحيث يعقل، وقدرته على أن يعقل -فهو كماله الذاتي الذي به شرف وجل وعلا عما لا يعقل.
والآخر هو الثاني.
والذي بالعرض، أعني كماله بمعقولاته وشرفه بها، فإن كوننا بحيث نعقل ما نعقله، شرف لنا وكمال، بالقياس إلى ما ليس له ذلك.
وكثير من المعقولات التي نعقلها لا نشرف بها، وليس الشرف الحاصل من الفعل، هو الشرف الذي بالقدرة، فإن الذي بالقدرة قبل الفعل ومعه وبعده، والذي بالفعل يحصل مع الفعل وبه وبعده، ولا يكون قبله، فما شرف الله بمخلوقاته، بل خلق بشرفه، أعني: ما خلق فشرف، بل شرف فخلق، وكذلك ما علم فكمل، بل كمل فعلم.
قلت: ملخص هذا أن الكمال هو الذي يجب له أزلاً وأبداً، وهو لازم لا يتجدد منه شيء، وهو كونه بحيث يفعل ويعقل، لا نفس وجود الفعل المعين والعلم المعين، وهذا هو القدرة على الفعل والعقل، وهذا له بذاته لا يتوقف على شيء من الموجودات.
ولهذا قال: إن النقص غير متصور في الذات الواحدة، فإن النقص يستلزم التعدد، ولا تعدد هناك.
لكن قد يقال على هذا: إنه، وإن كان الذات واحدة، فإذا كانت الصفات متعددة، كالقدرة والعلم، أمكن تقدير أحدهما دون الآخر، فالكمال هو بوجود الجميع، والنقص معقول بعدم بعض ذلك.(9/418)
لكن ما قاله لازم لمن ينفي الصفات من الجهمية والفلاسفة، ويقدر ذاتاً لا صفة لها، أو وجوداً مطلقاً لا يختص بأمر، فهذا لا يعقل فيه كمال ولا نقص.
وأرسطو من نفاة الصفات، وقد قدر أنه يكمل تارة ولا يكمل أخرى، وجعل أحد الأمرين أكمل له من الآخر.
وأصحاب أرسطو يقولون: هذا إنما يمكن تقديره في الأمور الإضافية والسلبية.
فيقال لهم: أما الإضافات فإنها تتجدد عندكم.
فإن قلتم: إنها كمال.
لزم أن يتجدد له الكمال، وهو خلاف أصلكم.
وإن قلتم: ليست بكمال.
بطل تقدير الكمال لامتناع تقدير النقصان.
ولكن قد يقال: تقدير النقصان في الواحد المسلوب الصفات غير متصور، كما قال أبو البركات.
لكن يمكن تقدير كمال منتظر ونفيه، وهو الذي نفاه أرسطو.
وأبو البركات جعل الكمال في نفس القدرة اللازمة له، لا فيما ينتظر.
لكن أبو البركات من مثبتة الصفات، فما ذكره، وهو أن عدم إمكان النقص في الواحد من كل وجه، تقريراً لامتناع النقص عليه، وامتناعه بوجه كماله، فيكون فعله عن كماله.
الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول
الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا.
الوجه الأول
ويقال: يمكن الجواب عن شبهة أرسطو من وجوه أخر غير ما ذكره أبو البركات.
أن يقال: العلم لازم لذاته أزلاً وأبداً، ليس شيئاً متجدداً، فلا يحتاج أن يقال: كماله في أن يقدر على العقل، كما قال أبو البركات.(9/419)
بل نفس العقل، الذي هو العلم في لغة المسلمين، أمر لازم لذاته، كما قال أبو البركات في القدرة.
وحينئذ فليس كماله بغيره، بل بعلمه الذي هو من لوازم ذاته، الذل لم يزل ولا يزال، كما أن كماله بقدرته كذلك.
وكون العلم متعلقاً بغيره، مثل كون القدرة متعلقة بغيره.
وكما أن القدرة صفة كمال، لا يقدح فيها أنه لا بد لها من مقدور، فالعلم كذلك وأولى، لأنه يتعلق بنفسه ويتعلق بغيره، والقدرة لا تكون قدرةً إلا على غيره.
الوجه الثاني
أن ما ذكرناه من أن الأعيان الذين يتعلق بهم العلم والقدرة هم مخلوقاته، الذين لم يشركه أحد في خلقهم، وهم كلهم محتاجون إليه لا إلى غيره، فما في الوجود إلا نفسه ومخلوقاته، التي لا وجود لها إلا بنفسه، فلم يكن تعلق صفاته بمخلوقاته، بأعظم من تعلق ذاته بهم، وكما أن تعلق ذاته بهم هو من كماله لا من نقصه، فتعلق علمه وقدرته بهم كذلك، ومعلوم أن وجود ذاته دون لوازم ذاته ممتنع باتفاق العقلاء، فيمتنع عند المسلمين وجوده بدون علمه وقدرته.
وجماهير المسلمين يقولون: إن إرادته من لوازم ذاته، سواء قالوا: إنها واحدة بالعين أو متعددة.
وإذا كانت إرادته من لوازم ذاته، فيمتنع وجوده بدون وجود مراداته، التي هي مخلوقاته، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
والمتفلسفة يقولون: إن وجوده بدون وجود معلولاته ممتنع، ومع هذا(9/420)
فلم يكن كونه ملزوماً لغيره نقصاً، فكيف يكون كون علمه ملزوماً للمعلوم نقصاً، مع أنه هو خالق المعلومات؟
الوجه الثالث
جواب من يقول: إنه يعلم الأشياء كلها بعلم قديم أزلي، وأنه لا يتجدد عند تجدد المعلومات إلا تعلق العلم بها، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام، ومن اتبعهم من الفقهاء، فهؤلاء يقولون: إن العلم لا يقف على شيء أصلاً، بل هو حاصل أزلاً وأبداً على وجه واحد.
الوجه الرابع
جواب من يقول: إنه يعلم الشيء موجوداً بعد أن علمه معدوماً، وأن هذا الثاني فيه زيادة على الأول، فهؤلاء يقولون: لم يحصل المعلوم والعلم الثاني إلا بقدرته ومشيئته، فما استفاد شيئاً من غيره، ولا كمل بغير نفسه.
ويقولون: إن ما لا يكون إلا بمشيئته وقدرته، يمتنع وجوده في الأزل، ووجوده بقدرته ومشيئته أكمل من عدم وجوده، فوجوده على هذه الحال هو غاية الكمال، وعدم هذا الكمال هو النقص الذي يجب تنزيهه عنه، فإنه كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، وكل ما كان كذلك كان واجباً له، إذ لو لم يكن واجباً له، لكان: إما ممتنعاً -وهو خلاف الفرض- أو ممكناً، وحينئذ فالمقتضى له هو ذاته بلوازمها، وقد وجد ذلك، فيجب وجوده، وإلا فيكون ممتنعاً.
وهو خلاف الفرض.
وبهذين الجوابين يزول ما يقدح به كلام أبو البركات، حيث جعل العقل بالفعل ليس كمالاً، وإنما الكمال في القدرة عليه، ولم يجعل الكمال إلا في عقل الأفضل لا الأدنى، فإن هذا مما نازع فيه.
ويقال: ما كان كمالاً، إذا كان بالقوة فهو إذا صار بالفعل أكمل(9/421)
وأكمل، فكيف تكون القدرة على الفعل والعقل للأشياء الخسيسة كمالاً؟ ولا يكون خروج القوة في الفعل، ونفس فعلها وعقلها كمالاً؟
ولكن يقال: ما كان يمتنع وجوده أزلياً، ولا يمكن أن يوجد إلا حادثاً، ليس الكمال إلا في إحداثه، ولا في فعله في الأزل، وإذا قدر أن علمه موجود لا يمكن تحققه إلا بعد وجوده، كان أن يعلم موجوداً بعد وجوده، أكمل من أن لا يعلم موجوداً، وإن علم أنه سيوجد.
وأما قول أبي البركات: ما كمل بفعله وعقله، بل فعل وعقل بكماله فهو صحيح، إذا أريد بالكمال ما هو أزلي للذات، لا يمكن تجدد شيء من أفراده، كما لا يتجدد نوعه.
وأما إذا أريد بالكمال ما يتضمن جميع ما يمكن وجوده من الكمال على الوجه الذي يمكن.
فيقال: كماله بنفسه وذاته، ونفسه تتضمن ما يقوم به من صفاته وأفعاله، فلم يكمل بشيء مباين له.
وما كان داخلاً في مسمى اسمه فليس هو مبايناً له، ولا يطلق القول عليه بأنه مغاير له.
وحينئذ فكماله بذلك مثل كماله بذاته وصفاته اللازمة، وما كان حدوثه حيث تقتضي الحكمة حدوثه على الوجه الممكن، فهو كمال في ذلك الوقت، لا كمال في غيره، وذلك إنما حصل بنفسه ولها، لم يحصل بغيره ولا لغيره.
وعلى هذا فإذا قيل: لو عقل لكمل له.(9/422)
يقال: إن أردت بقولك: كمل به، إن ذلك بغير أعطاه الكمال، فذلك باطل.
وإن أردت أنه لولا ذلك الغير لما وجد العلم به، فيقال: نعم.
وهذا لا يضر لوجوه.
أحدها: أنه هو الذي أوجد ذلك الغير، وبقدرته ومشيئته وجد وهو ولوازمه، فلم يكن ما حصل له حاصلاً إلا به وحده.
الثاني: أنه لو قدر موجوداً بغيره، لكان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه.
الثالث: إذا كان العلم بالغير مشروطاً بالغير، ولولا الغير لما حصل، والغير حاصل على التقديرين: علم أو لم يعلم، فوجود الغير -مع فوت الكمال الذي يمكن معه- هو النقص، إذ النقص هو فوت ما يمكن وجوده، لا ما لا يمكن، والعلم صفة كمال، والعلم بكل شيء ممكن، فوجود هذا كمال، وعدمه نقص.
عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية
قال أبو البركات: فأما القول بإيجاب الغيرية فيه، بإدراك الأغيار، والكثرة بكثرة المدركات -فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثراً في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا تعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت له وجوب وجوده بذاته.
ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه(9/423)
ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبته وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقيته وذاته وهويته.
ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته، قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى، ووجوب وجوده بذاته، والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا في مدركاته ومضافاته، فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات، فذلك أمر إضافي، لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لا تبطله الحجة، ولم يمنعه برهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى.
قلت: أرسطو إنما اعتمد على نفي التغير إذا علم شيئاً بعد شيء، فأما كثرة المعلومات مع قدم العلم فلم يتعرض له، وكأنه عنده غير ممكن.
قال أبو البركات: فأما الذي قيل في منع التغير مطلقاً، حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم، فهو غير لازم في التغير مطلقاً، بل هو غير لازم البتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، في بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن(9/424)
كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك المتغير حركة مكانية.
قال أبو البركات: وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم، من غير أن تتحرك في المكان على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها تكون في مكان البتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض الذوات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيها أبداً، فإن الحجر الكبير يسخن ولا يصعد، ويبرد ولا يهبط، بل ولا يتحرك من مكانه، وإنما ذلك مما يصعد بالبخار من الماء، ويدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء، دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة، التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك.
والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر، وإنما تتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها، كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية.(9/425)
وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبين، وهو في مكانه لم يتحرك، ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع.
ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضاً، لما لزم انتقال الحكم فيه إلى المتغيرات في المعارف والعلوم، والعزائم والإرادات.
فالحكم الجزئي لا يلزم كلياً، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء كلها على حال واحدة.
وهو قدم هذا على كلامه في العلم، حتى يجري عليه الحكم في المعرفة والعلم، فاعتبر بهذا، فإن استقصى لهذا القول البحث أمكن أن يرجع إلى أصل، ويصح على وجه، لكنه مع ذلك لا ينتصر به القول، الذي أبطلوا به معرفة الله وعلمه بالحوادث.
فأما الأصل الذي يرجع إليه باستقصاء النظر في التأويل له، فهو أن يقال: إن الشيء إذا تسخن بعد برده، أو تبرد بعد سخونة، وتبيض(9/426)
بعد سواد، وتسود بعد بياض، بسبب يقرب منه بعد بعد يؤثر فيه، ذلك إما بحركته إلى السبب، وإما بحركة السبب إليه، فإن الماء يسخن بعد ما كان بارداً بحرارة النار مثلاً التي يقرب منها، إما بحركة النار إليه، أو بحركته هو إليها.
كذلك المبيض بعد اسوداده، يتحرك إلى المسود، أو يتحرك المسود إليه، فتتقدم الحركة المكانية بهذا البيان سائر الحركات، وتتقدم الدورية المستمرة الدائمة، على المستقيمة المنقطعة ذات البداية والنهاية المحدودتين، فهكذا يصح أن يقال: تتقدم الحركة الدورية على سائر الحركات والتغيرات، فيصح ذلك في الأجسام الداخلة تحت الكون والفساد، بالتغيرات المحدودة في التكيفيات المبصرة والملموسة، والأشكال والمقادير وما يتبعها ويتعلق بها، فأما في النفوس والعقول، وفي الله تعالى، فلا يلزم شيء من ذلك بهذا البيان.
قال: وأعجب من هذا قوله بأنه يتعب، حيث قال: وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات، وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها(9/427)
المتصلة، لأن طبعها لا يخالف إرادتها، فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة، وها هنا كثرة الأفعال واتصالها، وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل.
والقوة قوتان: استعداد، وقدرة.
والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة، ثم عن القدرة تصدر الأفعال، والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال، والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال.
فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد، وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال.
ولو كانت من هذا القبيل لما جاز أن يحكم عليها بالتعب الكلال، بل باللذة والكمال، فإن ما بالقوة يشتاق إلى كماله الذي بالفعل، ومن قبله تكون اللذة والسعادة.
والكلال والتعب إنما يعرضان لنا لا من جهة اتصال أفعالنا، ولا من جهة ازدحامها، بل من جهة تحريك أعضائنا وأرواحنا بتقبلنا وتفكرنا، حركةً تخالف مقتضى الطبيعة التي في جوهرنا، كما نفاه عن السماء.
وليس ذلك في جهة الخلاف، فإن القوى المتقاومة قد تتقاوم مدة(9/428)
فلا يعرض لها تعب، كما لو فرضت مغناطيس علق حديداً زماناً، فإنه لا يتعب ولا تضعف تلك القوة الجاذبة، ولا يبطل ذلك التعلق ما لم يتجدد أمر من خارج، بل لأن الحركة تحل جوهر الروح منا، أعني من أعضائنا، لتركيبها من لطيف وكثيف.
واللطيف عرضة للانحلال، والحركة تسبب ذلك له، فإذا انحلت الروح التي بها تعلق القوة المحركة، ضعفت القوة المحركة فينا، وعجزت فيها تعباً وكلالاً.
وذلك إنما ارتفع عن السماء لارتفاع التركيب والانحلال، لا لأن الطبيعة لا تضاد الإرادة فيها أو تضادها، فإن ذلك هو سبب بعيد للتعب والكلال، والقريب هو ما ذكرناه.
فإذا ارتفع عن السماء لذلك، فلم بالحري أن يرتفع عن سماء السماء، وبسيط البسائط الوحداني الذات؟
قال: فأما قوله: فإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها -فهو أشبه ما قاله من الحجج، وأقربها إلى التروج والقبول قبل التأمل، وإنما ذلك يكون بالقياس إلينا على ضيق وسعنا وزماننا، فيصح أن يقال: إن اشتغالنا بإبصار الأفضل أولى منه بالأخس، فأما إذا(9/429)
كان الوسع بحيث لا يشغل فيه إدراك الأخس، ولا يعوق عن إدراك الأفضل، فلا.
ثم هذا الخسيس إنما هو خسيس بالقياس إلينا أيضاً وفي أشياء مباينة لطباعنا، منافرة لحواسنا، لا على الإطلاق.
وبالقياس إلى كل خساس، فإن طعم العذرة في فم الخنزير، كطعم العسل في فم الإنسان، وإذا نظرت إلى الكل لم تجد فيه خسيساً تعر معرفته أو يضر علمه، أو يكون لا إدراكه أولى من إدراكه، لا في الروحانيات ولا في الجسمانيات، لا في السماويات ولا في الأرضيات، كيف وما في الأرض وتحت السماء ليس غير الاستقصات الكائنة، وما يتولد عنها بامتزاجها! وليس في الممتزج منها سواها إلا قوىً سماوية، وما منها ما يضر إدراكه أو تعر معرفته، اللهم إلا لشخص ينافيه ويضاده لا على الإطلاق، ومن علا عن المضادة والمباينة، فلا يكون ذلك بالقياس إلا مكروهاً.
فالله تعالى وملائكته أجل من أن ينالهم الأذى بضد أو مباين، من(9/430)
لون أو طعم أو رائحة، فكيف وما في الوجود إلا ما صدر عنه تعالى، ومما عنه، وهو عنه الحقيقة؟ فما لا يأنف منه أن يخلقه ويوجده، لا يأنف منه أن يدركه، وما لم يعره في أن فعله لا يعره في أن علمه، ولا له كيفية تناسبه، من لون أو طعم أو رائحة فيؤثرها، وأخرى تباينه فيكرهها فلم ننتفع الآن بالقضية المشنعة، أعني القائلة: فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها.
ثم الإبصار، إن كان عن عجز وضيق وسع، فليس بأفضل من الإبصار، وإن كان من نوع الالتفات والتقزز، فذلك من المنافي والمؤذي، وقد قلنا فيه.
قال: وأما قوله: فكمال ذلك العقل، إذ كان أفضل الكمالات، يجب أن يكون بذاته، فإنها أفضل الموجودات وأكملها، وأشرف المعقولات -فقول صادق صحيح، على الوجه الذي قلناه، لا على الوجه(9/431)
الذي يقصده من أن كماله بفعله الذي هو بعقل ذاته، إذ قد سلم أن ذاته في غاية الكمال والشرف والجلال، فليس كمالها بفعل من الأفعال: لا بعقل ذاته، ولا بعقل غيرها، بل تعقلها لذاتها فعل شريف كامل، صدر عن شرف الذات وكمالها، فكان كمال الفعل لكمال الذات، لا كمال الذات لكمال الفعل، وقد سبق هذا.
قال: وأما قوله: وهذا يوجد هكذا دائماً، من دون تعرف أو حس أو رأي أو تفكر -فهذا ظاهر جداً، فإن الإدراك والتعقل التام للأمر القديم الدائم، من العاقل التام القديم الدائم، تام قديم دائم لا محالة.
وقوله: فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره، فإما أن يكون شيئاً واحداً دائماً، وإما أن يكون علمه بما يعلمه واحداً بعد آخر -فجوابه أن يعقل ذاته ويعقل غيره، فيعقل الدائمات دائماً، ويعقل المتجددات عقلاً قديماً دائماً، من حيث قدمها النوعي والمادي، والذي من جهة العلل الفاعلية والغائية، فتعقلها في تغيرها، على وفق تغيرها.
ولا يكون ذلك التغير فيه، بل فيها، وهو يعقلها كلها على ما هي عليه، كما نعقل نحن بعضها فنعلم عينها وأنها ستكون، ومساوقتها وأنها(9/432)
كائنة، ومعدومها بعد كونه، وأنه كان لا يضيق وسعه عن ذلك، ولا يتغير به، ولا ينتقص، ولا يكمل، بل هو له كما يشاء، وعلى وفق قدرته وإرادته في خلقه، لا يمتنع ذلك بحجة، لا من جهة التعجيز، لأنه مردود بدليل الخلق.
فقدرته على الخلق دليل قدرته على العلم، إذ هو خالق الكل، والخلق أكبر في القدرة من العلم.
وإذا لم يصح التعجيز في الخلق، فهو بأن لا يصح في العلم أولى وأحرى، وكيف وأكثرهم يقولون: إن علم الله هو قدرته، وقدرته وسعت كل شيء خلقاً، فلا عجب أن يسع كل شيء علماً؟ ولا بدليل التنزيه، فإنه لا تعره ولا تضره معرفته بشيء من خلقه، ولا ضد له فيه ولا مباين، وليس به كماله، بل هو بكماله على ما قيل.
هذا، مع أن في الجواب مساعدة ما، وإلا فلو فرضنا أن له به كمالاً على ما قيل، لم يكن له في ذلك نقص، لأن الكل منه وعنه، وكماله بما منه وعنه، فهو كماله بذاته في الحقيقة.
والقول بأنه لولا أشياء غيره لم يكن بحال كذا من الكمال، إنما كان يكون له وجه، لو كانت تلك الأمور ليست منه وعنه، فأما وهي منه فلا يضر، لأنه كأنه قال: لولاه -أعني لولا ذاته- لم يكن بحال كذا، لأن(9/433)
الرفع في الفرض إنما يقع من جهة العلة الأولى، التي لا يرتفع المعلول إلا بارتفاعها.
قلت: فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو، وهو أقرب إلى تحرير النقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد، وابن رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا، مع غلوه في تعظيم أرسطو وشيعته.(9/434)
فصل. باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية
فصل.
باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية
قال أبو البركات بعد أن فرغ من حكاية حجة أرسطو: فأما قول التابعين في هذه المسألة، والمشيدين لما قيل فيها، والمستفيدين بحججها وبراهينها، فأقصى ما وقفنا عليه منه، وأجمعه لما تبدد في غيره، وهو ما قال الشيخ الرئيس، وهذه عبارته.
نقل ابن ملكا لكلام ابن سينا في النجاة
قال: وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارض لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة، وذلك محال.
إذ لا يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له(10/3)
حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره، فيكون لغيره فيه تأثير والأصول السالفة تبطل هذا، ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا، ويتوسط ذلك بأشخاصها.
قال: ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من(10/4)
الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات.
قال: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة.
قال: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة، وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، فكذلك إثبات كثير من التعلقات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وهذا من العجائب.
قلت: تقسيم ابن سينا صفاته إلى مقومة للذات وعرضية، بناءً(10/5)
على أصلهم الفاسد في المنطق: من أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما تكون مقومة للذات داخلة فيها، يقولون: هي أجزاء للذات سابقة لها سبقاً عقلياً، وإلى ما تكون خارجة عن الذات عارضة لها بعد تحققها، وإن كانت لازمة لها بوسط أو بغير وسط.
وهذا التقسيم قد بين فساده في غير هذا الموضع، وبين أن الصفات اللازمة للموصوف لا يجوز تقسيمها إلى هذين القسمين، ولا يجوز جعل الذات مركبة من أحد الصنفين دون الآخر، بل لا يجوز جعل الذات مركبة أصلاً منها، إلا أن يعنى بالتركيب اتصاف الذات بها وقيامها بالذات، أو لزوم الذات لها، ونحو ذلك مما تشترك فيه جميع الصفات اللازمة للموصوف.
فأما جعل بعضها داخلاً في حقيقة الموصوف الثابتة في الخارج، وبعضها خارج عن حقيقته الثابتة في الخارج -فكلام في غاية الفساد، وغايتهم أن يجعلوا ذلك تركباً مما يتصوره المتصور من صفات الموصوف، وهذا أمر يزيد وينقص، ويدخل في المتصور ويخرج منه بحسب تصور المتصور، لا بحسب الحقيقة الثابتة في الخارج، وإن ادعوا أن الحقيقة من حيث هي هي مركبة من ذلك، وأن تلك الحقيقة لا تحقق لها إلا في الأذهان لا في(10/6)
الأعيان، كما يقوله من يقوله منهم، كان هذا من أدل الأشياء على فساد قولهم وضلالهم في تصورهم.
قال أبو البركات: فهذا ما قاله الشيخ الرئيس.
قال: فقوله: إنه إذا عقل الأشياء من الأشياء كان على أحد وجهين: أحدهما: أن تتقوم ذاته بما تعقل، أو يكون عارضاً لها أن تعقل، وأنه على كلا الوجهين لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته.
جوابه: أما في التقويم فالفرض فيه محال، لأن العاقل لا يتقوم بما يعقله، لأن يعقل هو يفعل، ويفعل: إنما يكون بعد أن توجد بعدية بالذات، فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟.
وأما كونها عارضاً لها أن تعقل، وإلزامه منه أنه لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته، فكأنه من مدح الشعراء، أو من(10/7)
كلام محسني الألفاظ بالتخيلات من الخطب والمدائح، وإلا فما معنى: من جميع جهاته؟
فإن كونه مبدأ أولاً، بل كونه مبدأ مطلقاً يلزم فيه ما لزم في هذا، وهو أنه: إما أن يتقوم بكونه مبدأً أولاً، أو يكون ذلك عارضاً له، فلا يكون واجد الوجود من جميع جهاته، أي لا يكون واجب الوجود في كونه مبدأ أولاً لزيد وعمرو وغيرهما من الموجودات.
والذي ألزمنا البرهان أنه واجب الوجود بذاته، فأما هذا من جميع جهاته إن كان من جهات وجوده فذلك، وأما في إضافاته ومناسباته فلا، إذ بطل بما قيل.
قلت: وهذا الذي قاله أبو البركات رداً على ابن سينا قد صرح به ابن سينا في موضع آخر يناقض ما قاله هنا، فإنه قال في كتابه المسمى بـ الشفاء في مسألة العلم: ولا تبالي أن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود، فإنها من حيث هي علة لوجود زيد، ليست بواجبة الوجود، بل من حيث ذاتها.
وهذا يوافق ما قاله أبو البركات.(10/8)
قال أبو البركات: فإما أن لا يكون مبدأ أولاً، وإما أن لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته، أعني من جهة إضافاته إلى ما وجوده بعد وجوده بالذات.
وأما قوله: لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال كذا، فكذلك لولا المخلوقات لم يكن مبدأً أولاً، لكن ليس ذلك بمحال، وقد رد على طريقي المساعدة والمخالفة.
وأما قوله: وتكون له حال لا تلزم عن ذاته، بل عن غيره، فقول باطل، وذلك أن العلم إضافة لزمت عن ذاته بالنسبة إلى مخلوقاته، ومخلوقاته لزمت عن ذاته، ولازم لازم الذات لازم الذات، فما لزمت عن غيره كما قيل.
ولو لزمت لما لزم المحال، وإلا فبأي حجة تلزم؟.
وهم فلم يوردوا على ذلك حجة، بل أوردوه كالبين بنفسه، وليس ببين، بل مردود وباطل على ما قيل.
وأما قوله: فيكون لغيره فيه تأثير، أما في وجوده ووجوب وجوده فلا، وأما في إضافته ونسبه، فأي أصول أبطلته ما بطل ولا يبطل، وإنما تمت المغالطة بلفظ التأثير حيث يتوهمه السامع متأثراً مستحيلاً، وليس العلم استحالة على ما علمت.(10/9)
وأما قوله: ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود، فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك لأشخاصها -فهو حق وغير مردود، فإنه يعقل ويدرك، على كل وجه من وجوه العقل، وجهة من جهات الإدراك، فهو سميع بصير، وبالجملة مدرك عالم حكيم، مقدر مدبر، يسع كل شيء علماً: غيباً وشهادة، قبل، ومع، وبعد.
وأما قوله: ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها، حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات -فقد أجبنا عنه في جواب كلام أرسطو طاليس ولم يبعد، فتحسن إعادته.
وأما قوله: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة- ففيه الكلام.
وقد سلف في علم النفس، وما رد(10/10)
عليه في قوله: إن الصور الجسمانية والأشكال الوضعية لا تدركها إلا قوة جسمانية.
وأعاد أبو البركات مناقضته في ذلك.
قلت: ما ذكره أبو البركات من أن العاقل لا يتقوم بما يعقله، وأن فرض ذلك محال، لأن كونه يعقل تابع لذاته، وهو بعده بعدية بالذات، فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟ فهذا كلام صحيح، وهو مطرد في جميع الصفات اللازمة للموصوف: أن ذاته لا تتقوم بشيء منها، ولا تكون صفة الموصوف جزءاً مقوماً متقدماً عليه بالذات، إذا كانت الصفة تابعة للموصوف، فهي إلى أن تكون بعده بالذات أولى من أن تكون قبله بالذات.
فإن قدر أن هنا ترتيباً عقلياً تكون فيه الصفة الذاتية قبل الموصوف أو بعده، فإنها لا تكون إلا بعده.
وإن قيل: لا ترتيب هنا أصلاً، بل كلاهما ملازم للآخر مقترن به.
لم يتقدم أحدهما الآخر، وليس بينهما ترتيب عقلي، كما ليس بينهما ترتيب زماني، فليس أحدهما قبل الآخر، بل الموصوف وصفته اللازمة له موجودان معاً، لم يسبق أحدهما الآخر، سواء(10/11)
قدر أن الموصوف قديم أزلي واجب بنفسه، وصفته لازمة له، أو قدر أنه محدث مخلوق وصفته لازمة له.
وقد تكلمنا على هذا لما تكلمنا على ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الصفة الذاتية المقومة الداخلة في الماهية، والصفة اللازمة للماهية، والصفة التي يزعمون أنها لازمة لوجودها، وكلاهما خارج عن الماهية.
وذكرنا ما ذكروه من الفرق بين اللازم الداخل، واللازم الخارج، واعترافهم بانتفاء ما ذكروه من الفرق، واعتراض بعضهم على بعض في هذا المقام، وبيان أن ما ذكروه من الفرق لا يعود إلى فرق حقيقي موجود في الخارج، ولا معقول في الذهن، إلا إذا جعل الذاتي ما هو لازم للذات المفروضة في الذهن.
فأما إذا تصورنا شيئاً وعبرنا عنه، فمن الصفات ما هو داخل في معلومنا ومذكورنا بالذات، ومنه ما هو داخل بالعرض، وهو اللازم الخارج.
وهذا كما يقولونه في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع المعنى الذي عناه المتكلم.
ودلالة التضمن دلالة اللفظ على ما هو داخل في ذلك المعنى، ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على ما هو لازم لذلك المعنى خارج عن مفهوم اللفظ.
فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع هذه الماهية التي عناها المتكلم بلفظه، وهو دلالة على تمام الماهية.
وذلك المدلول(10/12)
عليه بالمطابقة هو مقول في جواب ما هو، إذا قيل ما هو بحسب الاسم.
وإذا سئل عما هو المراد بهذا اللفظ، ذكر مجموع ما دل عليه بالمطابقة، فالمدلول فهو خارج عن حقيقته، عرض لازم له، فهذا تقسيم معقول، ولكنه يعود إلى قصد المتكلم ومراده باللفظ.
وأما كون الموجود في الخارج تنقسم صفاته اللازمة له التي لا يكون موجوداً إلا بها: إلى ما هو داخل في حقيقته مقوم لها متقدم عليها بالذات، وإلى ما تكون خارجة عن حقيقته عرضى لها، فهذا باطل عند جماهير العقلاء من متكلمي أهل الإسلام وغيرهم.
وقد بينا فساد ذلك في مواضع، وكذلك بين فساده غير واحد من أهل الكلام والفلاسفة، وتكلمنا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات وغيرها، وبينا تناقضه وتناقض غيره في الفرق بين الذاتيات والعرضيات اللازمة إذا جعلا لازمين للحقائق الموجودة في الخارج، وما ذكره في مسألة العلم مبني على ذلك الأصل الفاسد، حيث قال: لو كان واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، لكانت ذاته: إما متقومة بما تعقل، فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارضاً لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من جميع الجهات.
كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول
كلام ابن سينا باطل من وجوه.
الوجه الأول
ثم نقول: هذا الكلام باطل من وجوه:(10/13)
ما ذكرناه من نفي تقوم شيء بصفته.
الوجه الثاني
أن يقال: إذا قدر تقوم الموصوف بصفته، فهو متقوم بنفس علمه بالأشياء، أو بنفس الأشياء المعلومة.
والثاني باطل وهو إنما ذكر الثاني حيث قال: فذاته متقومة بما يعقل.
وهذا باطل، فإنا إذا قدرنا العالم متقوماً بعلمه، فليس المقوم له المعلوم، إنما المقوم له علمه بالمعلوم، والمعلوم قد يكون منفصلاً عنه، فلا يكون قائماً به، فضلاً عن كونه لازماً له: لا ذاتياً ولا عرضياً، فكيف يكون مقوماً له؟.
وإن قال قائل: يعني بالتقوم أنه لولا المعلوم لما كان العلم.
قيل له: هذا ليس مراده، ولو كان مراده لكان باطلاً، لأنه على هذا التقدير لا يكون العلم إلا مقوماً، فلا يقال: إما أن يكون مقوماً، وإما أن يكون عارضاً.
وهو قد جعل هذا أحد القسمين.
وأيضاً فإنه على هذا التقدير يكون هذا سؤال الاستكمال بالمعلوم الذي ذكره أرسطو، وقد عرف جوابه من عدة أوجه.
أحدها: أن ذلك الغير هو مفعوله، فلم يحتج إلى غيره بوجه من الوجوه.
الثاني: أنه لو قدر وجود موجود مستغن عنه، كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه، فإن العلم صفة كمال، والملك والبشر إذا علموا ما هو مستغن عنهم، كان أكمل لهم من أن لا يعلموه.(10/14)
الثالث: أنه لو قدر موجود غيره واجب بنفسه، أو موجود عن ذلك الواجب بنفسه، وذات العالم هي التي اقتضت العلم به -لكان هذا كمالاً له على هذا التقدير، لم يكن هذا مما ينفيه وجوب وجوده.
الرابع: أن هذا وإن قدر أنه استكمال بالغير، فلا دليل لهم على نفيه، لا من جهة الوجوب، ولا من جهة استحقاق الكمال.
ولا من غير ذلك، بل الأدلة تقتضي ثبوته.
الوجه الثالث
عن شبهة ابن سينا أن يقال: قوله: ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل، فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارضاً لها أن تقعل، فلا تكون واجبة الوجود من كل وجه.
يقال له: قولك: يعقل الأشياء من الأشياء أتريد به أن الأشياء تجعله عاقلاً، فتعلمه العلم بها؟ أم تريد أن علمه بالأشياء لا يكون إلا مع تحقق المعلوم؟ أم تعني به أن علمه بالأشياء يكون بعد وجود المعلوم؟.
أما الأول فلا يقوله مسلم، بل المسلمون متفقون على أن الله مستغن عما سواه في علمه بالأشياء في غير ذلك، بل هو المعلم لكل من علم سواه من علمه.
وقد قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] .(10/15)
وقال: {علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 4-5] .
وقال: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] .
وقال: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} [الأعلى: 2-3] .
وقال: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان} [الرحمن: 1-4] .
وقال: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113] .
وقال: {وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65] .
وقال: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} [البقرة: 282] .
وقال: {وعلم آدم الأسماء كلها} إلى قول الملائكة: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 31-32] .
وقال: {تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4] .
وإن أراد بعقله الأشياء من الأشياء: أنه لا يكون عالماً إلا مع تحقق معلوم بعلم، فهذا حق.
لكن لا يمكن ثبوت إلا كذلك، وإلا فإذا قدر علم لا يطابق معلومه كان جهلاً لا علماً وحينئذ الأمر إلى سؤال الاستكمال، وقد تقدم.(10/16)
وإن أراد بذلك أنه يعلم الأشياء بعد وجودها، فلا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهل يتجدد له علم آخر؟ أم علمه به معدوماً هو علمه به موجوداً؟ هذا فيه نزاع بين النظار، وأي القولين كان صحيحاً حصل به الجواب.
وإذا قال قائل: القول الأول هو الذي يدل عليه صريح المعقول، والثاني باطل، والإشكال يلزم على الأول.
قيل له: وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشرة مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف.
وما أورد عليه من الإشكال، فهو باطل كما قد بين في موضعه.
الوجه الرابع
أن يقال: قوله: إما متقومة بما يعقل وإما عارض لها إن يعقل.
يقال له: بعد أن ذكرنا أن هذا التقسيم باطل، أي تقسيم الصفة اللازمة إلى مقوم وعارض باطل، وأن علمه لازم لذاته.
هب أن الأمر كذلك، فلم قلت: إن العلم لا يكون ذاتياً على اصطلاحكم؟.
فإذا قال: يلزم من ذلك أن يكون مركباً من الصفات الذاتية والمركب مفتقر إلى جزئه.(10/17)
قيل: هذا أصل حجتكم على نفي الصفات، وقد بين فساده من غير وجه.
وهذه الحجة لا تختص العلم، بل ينفون بها جميع الصفات، وهي من أفسد الحجج، كما قد بين غير مرة، وإن كانت قد أشكلت على طوائف من النظار، وقادتهم إلى أقوال من أقوال أهل النار، وقد تبين فسادها من جهة أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة، بل هو اتصاف ذات بصفات لازمة لها، وأن لفظ الجزء ليس المراد به اجتماع بعد افتراق، ولا إمكان افتراق ولا انفصال شيء من شيء، وإنما المراد به ثبوت معان متعددة، وهذا مورد النزاع، ولا دليل على نفيه، بل على ثبوته.
ولفظ الافتقار يراد به التلازم، وهو هنا حق لا محذور فيه.
ويراد به افتقار المعلول غلى علة فاعلة، وهو باطل.
وإذا أريد به افتقار الصفة إلى محلها، ويسمونه هم افتقار المعلول إلى علة قابلة، فهذا لا محذور فيه.
ولفظ الغيرين يراد به المتباينان، وهو هنا ممتنع.
ويراد به ما يمكن العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وهو حق.
وثبوت هذا الغير لا بد منه.
الوجه الخامس
أن يقال: هب أن هذه الصفة عرضية باصطلاحكم.
فيقال له: إذا كان العلم لازماً لذاته، أو لوجود لذاته، إن قدر أن الوجود زائد على الذات، لم يكن ثبوت لوازمه مفتقراً إلى غيره، فلم يكن هذا منافياً لوجوب الموجود من جميع(10/18)
جهاته، فإن المحذور إنما يحصل لو كان حصول العلم ليس من لوازم ذاته، بل حصل بسبب غيره، فيكون ثبوت الصفة مفتقراً إلى ذلك الغير.
أما إذا كان علمه من لوازم ذاته، كان واجباً بوجود ذاته.
وهم يقولون: هو واجب بذاته، مع كونه مستلزماً للمفعولات المنفصلة، ولم يقدح كونها لازمة له في وجوب ذاته، فإن لا يقدح لزوم علمه له بطريق الأولى والأحرى.
الوجه السادس
أن يقال: لنظار المسلمين في علم الرب قولان: أحدهما: أن علمه واحد بالعين، يعلم به جميع المعلومات أزلاً وأبداً.
وعلى هذا التقدير فهو واجب الوجود بصفاته أزلاً وأبداً فليس علمه متوقفاً على وجود شيء من المعلومات، بل إذا وجدت تعلقت المعلومات به.
لكن قد يقول أكثر العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، إن هذا لا يمكن، بل علمه بهذا غير علمه بهذا.
فيقال: القول الثاني: إن علمه واحد بالنوع، وإنه يتعدد بتعدد المعلومات، وعلى هذا القول فهل يكون علمه بأن قد كان الشيء هو نفس علمه بأن سيكون؟ على قولين.
ومن النظار من قال: العلم إضافة محضة، وأن ذات الرب مقتضية لها بشرط المضاف.
وسنبين إن شاء الله ما هو الصواب في هذا الباب.(10/19)
وعلى كل تقدير فذاته هي الموجبة لكونه عالماً، لا أن شيئاً من الموجودات جعله عالماً، وإن كان العلم بأن قد كان، مشروطاً بوجود المعلوم، كما أن رؤيته وسمعه مشروط بوجود المرئي والمسموع، فذاك لا يمنع وجوب وجوده بنفسه أزلاً وأبداً، ولكن عروض هذا السمع والرؤية والعلم بأن قد كان، نظير عروض الإضافات له، وقد ثبت بصريح العقل واتفاق العقلاء وجوب تجدد الإضافات له.
وإذا قيل: الإضافة ليست وجودية، والعلم والسمع والبصر أمور وجودية.
كان الجواب على هذا القول إلغاء هذا الفرق، كما قد قرر في موضعه.
ومعلوم أن كون الرب بكل شيء عليماً، هو أظهر في الأدلة الشرعية والعقلية من كونه لا تقوم به الأمور المتجددة، فلو قدر أن لهذا أدلة تعارض تلك، وكان ثبوت العلم مستلزماً لثبوت الأمور المتجددة للزوم القول بثبوت العلم، فإن ثبوت العلم حق، ولازم الحق حق، فكيف إذا كان ما يمنع الأمور المتجددة إنما هو من أضعف الأدلة؟
أما المتفلسفة فلا يمكنهم أن يقولوا: قيام الحوادث به يستلزم حدوثه، فإن القديم عندهم تحله الحوادث.
وإنما ظن من ظن منهم أن قيام ذلك يمنع وجوب وجوده، وهو غلط ظاهر، فإنه لا(10/20)
يمنع وجوب وجوده المعلوم الذي قام عليه الدليل، وإنما يمنع ما يختلف في وجوب الوجود، حيث ظنوا أن واجب الوجود لا يفعل شيئاً باختياره، ولا يقوم به شيء باختياره وذلك خطأ محض.
الوجه السابع
ويظهر هذا بالوجه السابع وهو أن يقال: قول القائل: أنه واجب الوجود من جميع جهاته -إذا أريد به: أنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه، فهذا حق، فإنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه.
وإن أراد به أن كل ما ثبت له من الأحوال فهو واجب الوجود، بمعنى أنه نفسه مقتض لذلك، لا يحتاج في ثبوته له إلى غيره، فهذا أيضاً حق.
فإن كل ما ثبت للرب تعالى من الصفات والأفعال، فلا يحتاج فيه إلى غيره، بل هو الموجب لذلك، لكن ما كان لا يمكن وجوده إلا باختياره من الأفعال ولوازم الأفعال، فهذا يمتنع كونه بعينه أزلياً، بل يجب تأخره، سواء قيل: إنه عالم بذاته.
أو قيل: إنه منفصل عنه.
وهو الموجب له عند وجوده، لا موجب له في غيره.
وإن قيل: واجب الوجود من جميع جهاته، بمعنى أنه لا يجوز أن يتأخر عنه شيء مما يضاف إليه، بل كل ذلك يجب أن يكون أزلياً -فهذا باطل لا دليل عليه، بل الدليل يدل على نقيضه، فإنا نشاهد المحدثات دائماً وهي حادثة عنه، سواء قيل: إنها حدثت بواسطة أو بلا واسطة، وحدوثها يستلزم حدوث ما به صارت محدثة، وإلا فإذا قدر حال الذات قبلها وبعدها سواء.(10/21)
قيل: حدوث الحوادث ترجيح بلا مرجح، وإذا أمكن أن يحدث من غير تجدد أمر يقوم بالفاعل، بل نفس الخلق يكون نسبة وإضافة، أمكن أن لا يتجدد إلا تعلق العلم القديم بالمعلوم، ولا يتجدد إلا نسبة وإضافة بقدر ذلك.
الوجه الثامن
وهو أن يقال: لا ريب في تجدد المفعولات شيئاً بعد شيء، فليس كونه محدثاً للحادث المعين بالفعل أمراً لازماً لذاته، بل صار محدثاً له بعد أن لم يكن، وهذا خروج لهذه الفاعلية عن القوة إلى الفعل.
فإما أن يكون كونه فاعلاً إضافة محضة، ولم يقم بذاته فعل يكون به فاعلاً، كما يقوله من يقول: الخلق هو المخلوق.
وإما أن يقال: بل كونه فاعلاً أمر وجودي يقوم بنفسه، والخلق غير المخلوق، كما هو قول الجمهور من أهل السنة وغيرهم.
فإن قيل بالأول، فمعلوم أنه إذا قيل: إن كونه فاعلاً أمر إضافي، أمكن أن يقال: كونه عالماً أمر إضافي.
ثم للناس على هذا التقدير في الفاعلية قولان: منهم من يقول المكونات حادثة بتكوين قديم، وإما عند وجود المكون فلا يحدث شيء.
ومنهم من يقول: ليست الفاعلية إلا إضافة محضة أزلاً وأبداً.
فعلى هذا القول يمكن أن يقال في العلم كذلك.(10/22)
وعلى الآخر يمكن أن يقال: بل العلم قديم العين، ولكن تتجدد له الإضافات، كما يقوله ابن كلاب.
وهؤلاء جعلوا العلم ثابتاً في الأزل دون التكوين، فإذا ثبت أن كونه فاعلاً لا يقتضي تكويناً قائماً بذاته، مع تجدد التكوينات الإضافية.
فهؤلاء إذا أثبتوا علماً قديماً، وقالوا بتجدد تعلقاته، كانوا أبعد عن الامتناع.
وأما من جعل الفاعلية أمراً قائماً بالفاعل، وقال: إنه يتجدد عند تجدد المفعولات، فإنه إذا قال بتجدد عالمية بعد وجود المعلوم، مع قوله: إنه علم ما سيكون قبل أن يكون، كان اقتضاء ذاته لهذه العالمية كاقتضائها لتلك الفاعلية، وإذا كان واجب الوجود مع تلك الفاعلية فكذلك مع هذه العالمية.
الوجه التاسع
أنه إذا قدر واجب الوجود يقدر على الأفعال الحادثة شيئاً فشيئاً، وقدر آخر لا يمكنه إحداث شيء -قضى صريح العقل أن من أمكنه الإحداث شيئاً بعد شيء، هو أكمل ممن لا يمكنه إحداث شيء.
وإذا قال القائل: هذا كان فيه شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا شيئاً فشيئاً، وذاك كله بالفعل ليس فيه شيء بالقوة.
قيل له: كل ما لهذا بالفعل هو للآخر، فإن ذاته وصفاته التي يمكن قدمها لازمة له.
وأما الحوادث التي لا يمكن وجودها إلا شيئاً فشيئاً، فهذا يمتنع أن تكون بالفعل قديمة أزلية، فلا تكون بالفعل(10/23)
في الأزل، بل لا يمكن أن تكون إلا بالقوة، ثم تخرج إلى الفعل بحسب الإمكان شيئاً فشيئاً.
وإذا لم يمتز من قدر عدم هذه له بوصف كمال بل المتصف بها أكمل.
كان نفى هذه عن واجب الوجود نفي صفة كمال لا إثبات كمال له.
وهؤلاء النفاة المعطلة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية يظنون أن ما نفوه عن الرب هو كمال له وهو تعظيم له، وذلك من جهلهم بل إثبات ما نفوه هو الكمال الذي يكون مثبته معظماً للرب.
ولكن هم في ذلك نظير إخوانهم من معطلة النبوات، الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقالوا: الله أعظم من أن يرسل رسولاً من البشر.
قال تعالى: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] .
أو لم يعلموا أن إرسال رسول من البشر يبلغهم رسالات ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، أبلغ في قدرة الرب ورحمته بعباده، وإحسانه إليهم، وأعظم إثباته للكمال من كون ذلك عنه ممكن له ومن امتناعه عن فعله؟.
وكذلك كونه يخلق الأشياء شيء بعد شيء أبلغ من كونه لا يمكنه إحداث شيء، بل عند كثير من الناس -أو أكثرهم- كونه يخلق أكمل من كونه لا يخلق.
كما قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] .(10/24)
وحينئذ فإذا قيل: جنس الفعل لازم، وإنما الحادث أعيانه.
كان أن يقال: جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى.
بل إذا قيل: جنس الخلق حادث.
أمكن أن يقال: نفس العلم لازم، سواء قيل بحدوث شيء معين عند وجود المعلومات، أم لا.
فذاك أبعد عن منافاة وجوب الوجود، من كونه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له.
الوجه العاشر
قوله: إذ يكون لولا أمور من خارج، لم يكن هو بحال.
يقال له: الضمير في هو: إن كان عائداً إلى الله، كان معنى الكلام: لولا تلك الأمور الخارجة لم يكن هو تقدير ارتفاع اللازم يوجب ارتفاع الملزوم، لكن ارتفاع اللازم محال.
وهم يقولون لو ارتفع المعلول لارتفعت العلة، فليس في هذا محذور.
وإن كان الضمير عائداً إلى العلم، أي: لولا المعلوم لم يكن العلم، فهذا أولى أن لا يكون ممتنعاً.
وإنما حصلت الشبهة أن قول القائل: لولا أمور من خارج لم يكن هو، يحتمل شيئين:
أحدهما أن تلك الأمور فاعلة له أو جزء من الفاعل، أو(10/25)
هو محتاج إليها بوجه من الوجوه، وهذا باطل.
والثاني: أن تكون تلك الأمور لازمة لإرادته اللازمة له، أو لغير ذلك من لوازم اللوازم.
وعلى هذا فهي المخلوقة المحتاجة إليه من كل وجه.
فإذا قيل: لولا تلك الأمور لم يكن.
كان معناه أنه إذا قدر ارتفاعها لزم ارتفاع ملزومها، وهذا فرض محال.
الوجه الحادي عشر
قوله: ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره، فيكون لغير فيه تأثير الأمور السالفة تبطل هذا.
فيقال: ذلك الحال إذا قدر تجدده بعد الحادث، فإنه لا يلزم عن نفسه، فإن العلم أو غيره مما يقوم بنفسه إنما هو لازم عن ذاته لا عن غيره.
لكن لزومه عن نفسه قد يقال: إنه يكون عند إحداثه لتلك المحدثات، على قول من يقول بذلك.
وأي محذور في هذا؟ فإن هذا لا ينافي وجوب وجوده بنفسه.
هذا لو كان ذلك الغير مخلوقاً لغيره، فكيف وهو مخلوق له؟ فكلاهما لازم عنه ما قام به وما انفصل عنه، وليس لغيره فيه تأثير، إذ كانت نفسه هي الموجبة للجميع.
ولا ريب أن العباد يدعون الله فيجيبهم، ويطيعونه فيرضى عنهم، ويعصونه فيغضب عليهم، ويفرح بتوبة التائب، كما دلت على ذلك النصوص.(10/26)
وهو سبحانه الخالق لكل ما سواه، فليس في الوجود ما يؤثر فيه سبحانه.
وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين للقدر، القائلين بأنه خالق كل شيء.
وأما على قول القدرية، الذين يقولون بحدوث حوادث بدون خلقه وإرادته، فإنهم، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء الفلاسفة النفاة لعلمه أضل منهم.
وهم على قولين: منهم من يقول بتجدد أحوال له، ومنهم من ينفي ذلك.
فمن أثبت ذلك قال لهؤلاء -كما قال لهم أبو البركات - فما الدليل على أنه لا يحصل به حال من الأحوال بسبب هؤلاء؟ ولم قلتم: إن ذلك ينافي وجوب وجوده؟.
وهؤلاء يقولون: أفعال العباد توجب له داعياً إلى الثواب والعقاب.
الوجه الثاني عشر
قوله: وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، فكذلك إثبات كثير من التعلقات.
فيقال له: إن أردت بالأفاعيل ما وجد، فليس في إثبات فعله للموجودات نقص له.
كيف، وهو فاعل لها بالاتفاق؟ سواء كان فاعلاً لبعضها بوسط أو بغير وسط.
وإذا كان فاعلاً لها على وجه التفصيل، فيجب أن يكون عالماً بها على وجه التفصيل.
ومعلوم أنه إذا لم يلحقه بفعلها نقص، فأن لا يلحقه بعلمها نقص بطريق الأولى.
فإن علم العالم بما لا يفعله لا نقص فيه، وإن(10/27)
كان المعلوم خسيساً، فكيف علمه بما فعله؟ وإذا كانت لا توجد إلا مفصلة معينة، فيجب أن يعلم كذلك، وإلا لم يعلم على ما هي عليه.
وإن عنى بقوله: إن كثيراً من الأفاعيل لواجب الوجود نقص ما لم يفعله فقياس هذا أن يقول: علمه بما لم يفعله نقص، وليس الكلام فيه.
الوجه الثالث عشر
أن يقال: أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران.
فطائفة تقول: ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص، والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع، بل كل ممكن ففعله جائز عليه، وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له، لا لكونه نقصاً.
وهذا قول الجهمية والأشعرية، وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم.
وعلى هذا لا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص، وإذا منعوا هذا في الفعل، ففي العلم أولى وأحرى.
والقول الثاني: قول من يقول: بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة.
وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر، كالكرامية، وغيرهم من المعتزلة، وغيرهم نفاة القدر.
وهو قول كثير من أهل المذاهب الأربعة، وأهل الحديث، والصوفية والعامة وغيرهم.
وعلى هذا القول فلا نسلم أن ما ينزه عن أن يفعله يجب أن يتنزه(10/28)
عن علمه به، فإن العلم يتعلق بالواجب والممكن، والممتنع والموجود والمعدوم، وأما الفعل فلا يتعلق إلا بما يراد، ولا يراد إلا ما هو ممكن في نفسه، وما تكون إرادته حكمةً على قول هؤلاء.
ومعلوم أن الواحد من الناس يحمد بأنه لا يفعل القبيح، ولا يحمد بأن لا يعلمه، ويعلم حسن فعله ويعلم قبحه، ولم يقل أحد قط: إن علمنا بقصص المكذبين للرسل وما فعلوه من السيئات نقص، كما أن تلك الأفعال نقص، بل المعرفة بالخير والشر من صفات الكمال.
وإن قيل: مراده أن العلم يلزم منه التغير أو التكثر.
فيقال له: معلوم أن هذا اللازم لفعله المتكثرات والمتغيرات ألزم، فإن فعله للمتكثرات والمتغيرات يلزم منه قيام معان في ذاته، فليس ذلك نقصاً، ولا يكون في علمه بها مع هذه اللوازم نقص.
وإن قيل: بل فعله للمتغيرات والمتكثرات لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة في ذاته.
فيقال: إن كان هذا حقاً، فعلمه بها أولى أن لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن اقتضاء الأفعال المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الفاعلة، أولى من اقتضاء المعلومات المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات(10/29)
العالمة، فإن كل عاقل لفعل محكم عالم به، وليس كل علام به فاعلاً له.
وهؤلاء، وإن كانوا قد قالوا في فعله أقوالاً باطلة، لظنهم أنه لا يصدر عنه ابتداءً إلا واحد بشرط، فقد لزمهم أن يجعلوا كل شيء مفعول له بوسط أو بغير وسط، فكان الواجب أن يقولوا: إنه علام بكل شيء جرى، كما هو فاعل لكل شيء جرى، إذ الكليات لا توجد في الأعيان إلا جزئية معينة.
الوجه الرابع عشر
قوله: بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وهذا من العجائب.
فيقال: إن عنيت أنه لا يعزب عنه من حيث هو كلي، فهل في هذا ما يقتضي أنه يعلم شيئاً من الجزئيات؟ فإن العلم بالكلي من حيث هو كلي، لا يوجب علماً بشيء من المعينات الموجودة، فمن علم أن كل إنسان حيوان، لم يوجب ذلك أن يعلم إنساناً بعينه، ولا شيئاً من تعيناته، ولا عدد الأناسي، بل ولا يعلم حيواناً بعينه.
وإن عنيت أنه لا يعزب عنه شيء من المعينات، فهذا مع قولك: إنما يعقلها على وجه كلي، باطل.(10/30)
وقد قال قبل هذا: إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة، لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة.
فقد ذكر أنها إذا عقلت بالماهية المجردة وما يتبعها، فلم تعقل عينها المعينة، وإن عقلت معينة فهي محسوسة لا معقولة، فالمعينات عنده لا تكون إلا محسوسة لا معقولة، وعنده لا توصف بالحس، فكيف يقول: إنه لا يعزب شيء شخصي مع قوله: إنه لا يعلم شيئاً عن المشخصات المتغيرة؟.
الوجه الخامس عشر
أنه قال: فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها أولاً، ويتوسط ذلك في أشخاصها.
فقد أثبت هنا أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها، وذلك كالأفلاك والكواكب، مع ما يثبتونه من العقول والنفوس.
ثم قال: وإن عقلت الفاسدات بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة، لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة.(10/31)
وقد قال: إنه يعقلها بأعيانها.
فسمى العلم بالأجسام المعينة تارة عقلاً، وتارة قال: هو حس أو تخيل، ليس بعقل.
وأثبت أنه يعلمها تارة، ونفى ذلك أخرى، لكونه حساً لا عقلاً.
وليس الكلام هنا في إدراكها متغيرة أو غير متغيرة، بل في إدراك الأجسام المعينة هل يعلمها معينة أم لا؟ وهل ذلك عقل أو حس؟ فقد أثبت أنه يعقلها، وعلل غيرها بعلة تقتضي أنه لا يعقلها، وهذا تناقض بين.
ولا ريب أن كلامه هنا إنما ينفي كونه يعلمها متغيرة، لئلا يكون متغير الذات.
ثم يعلل ذلك بأنه لا يعلم الحسيات.
لكنه في موضع آخر قال: إن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما يدركها المدرك بآله متجزئة، وإن مدرك الجزئيات لا يكون عقلاً بل قوة جسمانية.
وهنا قد ذكر أن واجب الوجود الجسمانيات التامة بأعيانها، فيلزم أحد الأمرين.
إما أنه جسم يدركها بقوة جسمانية، وإما أنه لا يدركها كما قاله أرسطو.
وإما أن تكون الأجسام تدرك بقوة غير جمسانية، كما قاله أبو البركات، وقد ناقضه أبو البركات في هذا الفصل، وسنذكر إن شاء الله كلامهما.
فكلام ابن سينا في العلم متناقض، فإنه يثبت أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها، وهذا يناقض جميع ما ذكره في نفي(10/32)
العلم، أو حصول التغير.
ولم يذكر على نفي كونه عالماً بالجزئيات إلا حصول التغير.
وأما التعدد فقد التزمه.
الوجه السادس عشر
فيقال: الوجه السادس عشر: أن يقال: ابن سينا يثبت علمه بأعيان الباقيات مع كثرتها، كما سنذكر لفظه إن شاء الله.
وما ذكره من الحجة على نفي علمه بالمتغيرات، مثل كونه إما متقوم وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة.
وقوله: تكون حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره، ونحو ذلك -يلزم من العلم بأعيان الباقيات وأنواع المتغيرات، كما يلزم في المتغيرات، وإنما يختص بالمتغيرات بحدوث شيء آخر، وذاك ليس عنده ما ينفيه بخصوصه، فإنه يجوز في القديم أن تحله الحوادث، وإنما منع حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات، أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله، وكل ذلك فضيحة من الفضائح، ما يظن بأضعف الناس عقلاً أن يقول بمثل ذلك.
ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم، لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان.
وهذه ألفاظ ابن سينا في الإشارات بعد أن قرر بطلان قول من يقول باتحاد العاقل والمعقول: فيظهر لك من هذا أن كل(10/33)
ما يعقل بأنه ذات موجودة، تتقرر فيها القضايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر.
قال: تنبيه: الصورة العقلية قد يجوز، بوجه ما، أن تستفاد من الصور الخارجية.
مثلاً كما تستفيد صورة السماء من السماء.
وقد يجوز أن تسبق الصورة الأولى إلى القوة العاقلة، ثم يصير لها وجود من خارج مثلما تعقل شكلاً ثم تجعله موجوداً.
ويجب أن يكون بما يعقل واجب الوجود من الكل على الوجه الثاني.
ثم قال: تنبيه: كل واحد من الوجهين قد يجوز أن يحصل من سبب عقلي متصور لوجود الصورة في الأعيان أو غير موجودها بعد، في جوهر قابل للصور المعقولة.
ويجوز أن يكون للجوهر العقلي من ذاته لا من غيره.
ولولا ذلك لذهبت العقول المفارقة إلى غير النهاية.
وواجب الوجود يجب أن يكون له ذلك من ذاته.(10/34)
قلت: فقد بين أن علم الرب هو من نفسه لا من غيره، وأن علمه بالمعقولات ليس مستفاداً بها بل علمه بها سبب لوجودها، وحينئذ فلا يكون علمه مفتقراً إلى معلومه، بل معلومه مفتقراً إلى علمه، سواء كان المعلوم متغيراً أو غير متغير.
ثم قال: إشارة: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق، ويعقل ما بعده، من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث حدثها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً.
ثم قال: إشارة: إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته، هو أفضل أنحاء كون الشيء مدركاً ومدركاً، ويتلوه إدراك الجواهر العقلية اللازمة للأول بإشراق الأول، ولما بعده منه من ذاته، وبعدهما الإدراكات النفسانية التي هي نقش ورسم، عن طابع عقلي متبدد المبادئ والمناسب.
ثم قال: وهم وتنبيه: ولعلك تقول: إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها مع بعض، لما ذكرت.
ثم سلمت أن(10/35)
الواجب الوجود يعقل كل شيء، فليس واحداً حقاً، بل هناك كثرة فنقول: إنه لما كان تعقل ذاته بذاته، لم يلزم قيوميته عقلاً بذاته لذاته أن يعقل الكثرة، جاءت الكثرة لازمة متأخرة، لا داخلة في الذات مقومة بها، وجاءت أيضاً على ترتيب وكثرة اللوازم من الذات مباينة، أو غير مباينة، لا تثلم الوحدة.
والأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية، وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء، لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته.
قلت: فقال: هذا الكلام صريح في ثبوت صفات الله قائمة به ليس إضافية ولا سلوب، كما قال: تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب.
وهذا مما اعترف به الشارحون لكلامه، المنتصرون له وغير المنتصرين.
كلام الرازي في "شرح الإشارات"
كلام الرازي في شرح الإشارات
قال الرازي في شرحه: أقول هذا سؤال جيد، وتقديره: أنك إذا قلت: الله يعلم جميع الماهيات، والعلم عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم، فقد حصل في ذاته صور المعلومات بأسرها، ثم زعمت أن العالم لا يتحد بالعلم، فلزم أن تكون ذات(10/36)
الله محلاً لتلك الصورة الكثيرة، الغير المتناهية.
قال: وحاصل جوابه أنه التزم ذلك، وبين أنه لا يلزم منه محذور، لأن الدلالة إنما دلت على تنزيه ذات الله عن الكثرة.
فأما أنه لا يكون في لوازمه كثرة، فذلك مما لم يثبت بالدلالة أصلاً.
وقد بينا أن علمه بالأشياء من لوازم علمه بذاته، فتكون الكثرة الحاصلة بسبب علمه بالأشياء كثرة في لوازم ذاته، وكثرة اللوازم لا توجب الكثرة في الملزوم، فإن الوحدة التي هي أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة، يلزمها لوازم غير متناهية، من كونها نصفاً للإثنين، وثلثاً للثلاثة.
وربعاً للأربعة، وهلم جراً، إلى ما لا نهاية له.
ثم قال بعد ذلك: فالأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء، لكن لا تأثير لذلك في وحدانيته ذاته.
قال الرازي: وأقول: إن هذا الكلام يدل على رجوع الشيخ عن مذهب الفلاسفة في مسألتين من أمهات المسائل: أحدهما: أن المشهور من قولهم إن البسيط لا يكون قابلاً وفاعلاً.
وهنا اعترف(10/37)
بأن المؤثر في تلك الصور العقلية ذاته، والقابل لها أيضاً ذاته.
فالبسيط هناك فاعل وقابل.
وثانيتهما: أن المشهور من مذهبهم أنه ليس لله من الصفات إلا السلوب والإضافات.
وهاهنا اعترف أن لله كثرة لوازم إضافية وغير إضافية، وكثرة سلوب، فأثبت لله صفات ثبوتية غير إضافية، وكيف يمكنه أن لا يعرف بذلك؟ وعنده أن الله عالم بالماهيات، والعلم بالأشياء عنده عبارة عن حصول صورة في العالم، وتلك الصورة ليست مجرد إضافات، لأن مذهبه أن الصورة الحاصلة عند العقل مساوية لماهية المعقول، والمساوي للجواهر والكميات والكيفيات في تمام ماهيتها كيف يكون مجرد إضافات؟
فظهر أن الفلاسفة لا يمكنهم ادعاء تنزه الله عن الصفات الحقيقية.
كلام الآمدي
وكذلك الآمدي قال: واعلم أن من أثبت لواجب الوجود من الفلاسفة علماً، وفسر العلم بانطباع صورة المعلوم في النفس، فقد أثبت لواجب الوجود صفة وجودية زائدة على ذاته، وناقض أصله في نفي الصفات الوجودية الزائدة لذات واجب الوجود(10/38)
ضرورة، لأن انطباع صورة المعلوم في النفس أمر وجودي زائد على الذات.
كلام الطوسي في "شرح الإشارات"
كلام الطوسي في شرح الإشارات
ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه، هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ابن سينا، ومع هذا فلما شرح هذا الفصل قال: تقرير الوهم أن يقال: إنك ذكرت أن المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها ببعض، بل هي صور متباينة منفردة في جوهر العاقل، وذكرت أن الأول الواجب يعقل كل شيء، فإذن معقولاته صور متباينة متقررة في ذاته.
ويلزمك على ذلك أن لا تكون ذات الأول الواجب واحداً حقاً.
بل تكون مشتملة على كثرة.
قال: وتقرير التنبيه أن يقال: إن الأول لما عقل ذاته بذاته، وكانت ذاته علة للكثرة، لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته بذاته، فتعقله للكثرة لازم معلوم له، فصور الكثرة، التي هي معقولاته، هي معلولاته ولوازمه، مترتبة ترتب المعلولات، فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة.
وذاته ليست بمتقومة بها، ولا بغيرها، بل هي واحدة.
وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علمها(10/39)
الملزومة إياها، سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة لها، فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته، المتقدم عليها بالعلية والوجود، لا يقتضي تكثره.
والحاصل أن الواجب واحد، ووحدته لا تزول بكثرة الصور المعقولة المقررة فيه.
قال: فهذا تقرير التنبيه.
وباقي الفصل ظاهر.
قال: ولا شك في أن القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وقول بكون الأول موصوفاً بصفات غير إضافية ولا سلبية على ما ذكره الفاضل الشارح.
يعني الرازي.
وقول بكونه محلاً لمعلولاته الممكنة المتكثرة، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقول بأن معلوله الأول غير مباين لذاته، وبأنه تعالى لا يوجد شيئاً مما يباينه بذاته، بل بتوسط الأمور الحالة(10/40)
فيه، إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء، القائلين بنفي العلم عنه تعالى.
وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها، والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل بالمعقول، إنما ارتكبوا تلك المحالات حذراً من التزام هذه المعاني.
قال: ولولا أني اشترطت على نفسي في صدر هذه المقالات أني لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفاً لما أعتقده لبينت وجه التقصي عن هذه المضايق وغيرها بياناً شافياً لكن الشرط أملك.
ومع ذلك فلا أجد في نفسي رخصة أن لا أشير في هذا الموضع إلى شيء من ذلك أصلاً، فأشرت إليه إشارة خفيفة، يلوح الحق منها لمن هو ميسر لذلك.
قال: فأقول: العاقل، كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو.
فلا يحتاج أيضاً في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو.
واعتبر في نفسك: أنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقاً، بل بمشاركة(10/41)
ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضاً بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك.
بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب.
وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك لك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟.
قال: ولا تظنن أن كونك محلاً لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها، فإنك تعقل ذاتك، مع كونك لست بمحل لها، بل إنما كان كونك محلاً لتلك الصورة، شرطاً في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر، غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك.
ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية(10/42)
للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها، من غير أن تكون هي حالة فيه.
وإذ تقدم هذا فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود، إلا في اعتبار المعتبرين على ما مر.
وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول، فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضاً: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مبايناً للأول، والثاني متقرراً فيه.
وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتباراً محضاً، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك.
فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك.
ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها.(10/43)
والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور، لا بصور غيرها، بل بأعيان تلك الجواهر والصور، وكذلك الوجود على ما هو عليه، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة، من غير لزوم محال من المحالات المذكورة.
قال: فهذا أصل إن حققته وبسطته انكشفت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكلية والجزئية، إن شاء الله تعالى.
و {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة: 54] .
ولولا أن تلخيص هذا البحث على هذا الوجه الشافي يستدعي كلاماً بسيطاً، لا يليق أن نورد أمثاله على سبيل الحشو، لذكرت ما فيه كفاية، لكن الاقتصار هنا على هذا الإيماء أولى.
الرد على كلام الطوسي من وجوه
قلت: فليتدبر العاقل الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم، كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى، لما كان ابن سينا -وهو أفضل متأخريهم- قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح، مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصاراً لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به، ما يظهر(10/44)
لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدميين، وأشبه الأشياء بأقوال المجانين.
ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل، وقعت في هذا الجهل الطويل.
فجعل نفس الحقائق، المعلومة الموجودة المباينة للعالم، هي نفس علم العالم بها، ولا ريب أن هذا أفسد من قول من جعل العلم نفس العالم، كما يقوله طائفة من النفاة، كابن رشد ونحوه وقول أبي الهذيل خير منه.
ولا ريب أن من جعل نفس المخلوقات نفس علم الخالق بها.
فقد أتى من السفسطة بما هو من أعظم الأشياء فرية على الخالق تعالى وعلى مخلوقاته، وما هو من أظهر الأقوال فساداً عند كل من تدبره.
والحمد لله الذي جعل أقوال الملحدين يظهر فسادها لكل ذي عقل، كما علم إلحادهم كل ذي دين، هذا مع تعظيم أتباعهم لهم، ونسبتهم لهذا ونحوه إلى التحقيق في المعارف الحكمية، والعلوم الإلهية.
ثم إن هذه اللوازم الظاهرة لفساد بناها على مقدمة ستسلفها ممن سلمها له من أشباهه.
وأقرب الأشياء شبهاً بهذا القول، قول أهل الوحدة، الذين يقولون: وجود المخلوق عين وجود الخالق.(10/45)
فإن أولئك جعلوا الوجودين وجوداً واحداً، وهذا جعل نفس علم الخالق ووجود المخلوق شيئاً واحداً، فتلك وحدة في وجوده، وهذه وحدة في علمه، مع وجود المخلوقات.
ولا ريب أن قول النصارى بالاتحاد والحلول، أقرب إلى المعقول من قول هؤلاء، فإن أولئك يجعلون الكلمة.
التي هي عندهم جوهر قد تجدد له اتحاد بالمسيح، وهؤلاء جعلوا نفس علمه اللازم له، الذي لم يزل ولا يزال، هو نفس المخلوقات كلها.
ونحن نبين فساد مقدماته التي استسلفها، وفساد نتائجه التي استنتجها.
أما قوله: العاقل، كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو.
فلا يحتاج أيضاً في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة تلك الصادر التي بها هو هو.
الوجه الأول
فيقال: كلا المقدمتين ممنوع، فلا نسلم أنه لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته، ولا نسلم أنه إذا كان كذلك لا يحتاج في إدراك ما يصدر عنه إلى صورة غير صورة الصادرة عنه.
والمقدمة الأولى له فيها سلف، وعليها بنى طائفة من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، كالسهروردي المقتول، كلامهم في مسألة(10/46)
العلم، وإن كان جماهير العقلاء من بني آدم يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة.
حتى قال الرازي: وأعلم أنه لولا ولوع الناس بكل كلام هائل لا يخلصون حقيقته، لما احتيج إلى الكلام على قولهم: إن الشيء الأحدى الذات عقل وعاقل ومعقول، من غير تعدد صفاته.
وأما هذه الثانية فما علمت له فيها سلفاً.
فنقول في الأولى التي ذهب إليها بعض سلفه، لم قلت: إن العالم إذا علم نفسه، لم يكن علمه بنفسه إلا مجرد نفسه؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل هذه إلا مجرد الدعوى؟
ثم إنها دعوى معلومة الفساد بالضرورة وبالأدلة، فإن الإنسان حاله قبل أن يعرف نفسه، خلاف حاله إذا عرفها: يعلم أنه حصل له علم لم يكن، مع أن نفسه لم تزل، ويعلم أنه إذا قال: علمت نفسي، كان في هذا زائد على قوله: كانت نفسي.
وإذا قال: علمي بنفسي موجود، علم أن هذا زائد على قوله: نفسي موجودة.
وقوله: علمت نفسي، كقوله: أحببت نفسي، وظلمت نفسي، ورأيت نفسي، فهل يكون حبه لها وظلمه لها ورؤيته لها هو ذاتها؟!.
الوجه الثاني
ومن الأقوال المشهورة عند الناس: من عرف نفسه عرف ربه، فلو كانت معرفته بنفسه هو نفسه، لكان كل أحد عارفاً بنفسه وبربه.(10/47)
ثم إن العاقل يتبين له كل وقت من أحوال نفسه، ما لم يكن متبيناً له قبل ذلك، فيزداد عقلاً ومعرفة وتبيناً لنفسه.
ويجد ذلك فيه وجوداً ضرورياً، كما يجد علومه الضرورية، فكيف يكون علمه بنفسه ليس فيه زيادة على مجرد نفسه، التي كانت قبل العلم بها؟.
وقول القائل: العاقل لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو.
يقال له: من المعلوم بالضرورة أن إدراك ذاته ليس هو عين ذاته، بل إذا قدر ذاته بدون إدراكها، وقدر ذاته مع إدراكها، كان إدراكها قدراً زائداً على ذاته بدون إدراكها، وهذا الإدراك غير الذات الخلية عن إدراك، فهذا معلوم بالحس والضرورة.
ثم إن كان القائل ممن يقول: الإدراك هو انطباع صورة المعقول في العاقل، أو يقول: الإدراك هو نفس تلك الصورة، أو هو إدراك تلك الصورة، أو يقول: ليس هناك صورة، بل الإدراك علم بالمدرك بلا صورة، أو يقول: هو نسبة بين المدرك والمدرك بلا صورة، فأي قول في هذه الأقوال قاله، فلا بد له أن يجعل الإدراك ليس هو المدرك، فليس العلم هو نفس المعلوم، كما أنه(10/48)
ليس هو العالم، بل يعقل بالضرورة الفرق بين العالم والمعلوم والعلم، كما يعقل الفرق بين المريد والمراد والإرادة، والمرئي والرائي والرؤية، والمسموع والسامع والسمع، والمحبوب والمحب والمحبة.
لكن إن كان الواحد هو العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، بحيث يقال: إنه يعرف نفسه، ويحب نفسه، فهنا، مع كونها العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، فليس علمها بنفسها وحبها نفسها هو ذات نفسها، بل يمكن تقديرها غير عالمه بنفسها ولا محبة لنفسها، ويمكن تقديرها مع علمها وحبها.
ويعلم أنه مع تقديرها الوجود، هناك أمر موجود زائد على تقدير العدم، هذا مع أن جهة كونه عالماً غير جهة كونه معلوماً، وإن كانت الذات واحدة.
وأما نفس العلم فليس هو لا ذات العالم ولا ذات المعلوم.
وقول القائل: الشيء لا يضاف إلى نفسه، كلام مجمل.
فإن عنى به أنه لا يضاف في اللفظ، فهذا ليس بحثاً عقلياً، مع أنه ممنوع، فإنه قال: نفسه وذاته، وليس الكلام في هذه.
وإن أراد بذلك ما نحن فيه، وهو أن ذاته لا تتعلق بها الصفات الثبوتية الإضافية، كالعلم والحب والظلم، فلا يكون عالماً بنفسه ولا محباً لها، ولا ظالماً لها- فهذا مكابرة.
ثم لو قدر أن إدراكه لذاته ليس فيه صورة عقلية غير صورة ذاته التي بها هو، فلم قلت: إنه يلزم مثل ذلك في إدراك كل(10/49)
شيء؟ والذين فرقوا قالوا: ذاته لا تضاف إلى ذاته، وهذا الفرق منتف فيما سواهما.
قالوا: ليس بينه وبين ذاته واسطة أقرب من ذاته إلى ذاته وهذا منتف فيما سوى ذاته.
وقالوا: العلم هو العالم وليس هو المعلوم، فعلمه بذاته هو نفس ذاته، بخلاف علمه بغيره.
وبالجملة فهم قد ذكروا فروقاً، إن كانت صحيحة بطل الجمع، وإن كانت باطلة منع الحكم في الأصل.
أما كون الحكم في الأصل يوجد مسلماً، مع قياس العلم بما سواه على العلم بنفسه، في أن كل عالم بمعلوم هو نفس المعلوم، وليس هناك علم زائد على المعلوم- فهذا مردود بصريح العقل، ومجرد تصوره التام كاف في العلم بفساده.
الوجه الثالث
أن يقال: قوله: فلا يحتاج في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته، إلى صورة غير صورة ذلك الصادر، التي بها هو هو قضية معلومة الفساد بالضرورة، فإن الإنسان يجد من نفسه أنه إذا أراد أن تصدر عنه صورة خارجية، من قول أو فعل، فإنه يتصور في ذهنه ما يريد أن يظهره قبل أن يظهره، ويميز بين الصورة التي في ذهنه، وبين ما يظهره بقوله وفعله.(10/50)
والفلاسفة، مع سائر العقلاء، متفقون على هذا، ويقولون: أول الفعلة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقولون: العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود.
وجمهور العقلاء يقولون: السابق هو تصور العلة الغائية وإرادتها.
وأما ابن سينا ونحوه من الفلاسفة فيقولون: بل نفس العلة هي السابقة في الذهن.
ويقولون: العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية.
وجمهور العقلاء لا يجعلونها علة فاعلية، بل يقولون: تصور الفاعل لها، وإرادته لها، به صار فاعلاً، فلولا تصور الغاية والإرادة لها لما كان فاعلاً، فتصورها وإرادتها شرط في كون الفاعل فاعلاً، وهي مقدمة في التصور والإرادة، وإن تأخرت في الوجود.
ففي الجملة العاقل الفاعل فعلاً باختياره، يتصور ما يريد أن يفعله في نفسه، ثم يوجده في الخارج، فتلك الصورة الموجودة في الخارج بفعله، ليست هي الصورة المعقولة في ذهنه، كمن أراد أن يصنع شكلاً مثلثاً أو مربعاً، أو يصنف خطبة، أو يبني داراً، أو يغرس شجراً أو يسافر إلى مدينة، فإنه يتصور ما يريده ابتداءً، فتكون له صورة عقلية في نفسه، قبل صورته التي توجد في الخارج، وهو معنى قولهم: أول البغية آخر الدرك، أي أول ما تبغيه فتريده وتطلبه، هو آخر ما تدركه وتناله.(10/51)
وهذا العلم، هو العلم الفعلي المشروط في الفعل، وعلم الرب عندهم فعلي، فكيف يكون نفس علمه به، هو نفس المعلوم الذي أبدعه في الخارج؟ وهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟.
الوجه الرابع
قوله: واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقاً، بل بمشاركة ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل، كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك.
إلى قوله: وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل، مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟.
فيقال له: هذا تلبيس لا يروج إلا على جاهل أو متجاهل، فإن هنا أمرين: أحدهما: الشيء الموجود في الخارج، وهذا هو الذي يقال: إن تعقله ارتسام صورته في العالم.
والثاني: نفس الصورة العلمية التي في العاقل المطابقة لهذا المعلوم، فهذه الصورة لم يقل أحد: إنها تفتقر إلى صورة أخرى، فإن هذه هي العلم.
وهم قالوا: إن العلم صورة مطابقة للمعلوم.
والعلم من حيث هو علم لا يجب أن تكون له صورة غير نفسه في العقل تطابقه،(10/52)
اللهم إلا إذا قيل: إن ذلك العلم صار معلوماً، فتكون له صورة من حيث هو معلوم، لا من حيث هو علم.
وقوله: إنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها وتستحضرها، فهي صادرة عنك، وأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضاً بنفسها.
فيقال: قوله: صادرة عنك إنما تعرف فيما يفعله الإنسان.
أما حصول الصورة العلمية في نفسه، فهذا قد يكون ضرورياً حصل بغير فعل منه، وإن كان نظرياً فهو ضروري بعد وجود سببه.
ولهذا من يقول: المتولدات ليست مكتسبة، يجعل جمهورهم العلوم كلها ضرورية، كما قال أبو المعالي: والمختار عندنا أن العلوم كلها ضرورية.
وحينئذ فلا تكون تلك الصورة العقلية صادرة عنه، بل هي حاصلة في ذاته بغير اختياره.
وعلم الرب القديم اللازم لذاته، كعلمه بنفسه، لا يقال: إنه صادر عنه ولا مفعول له، بل هو كحياته.
ولكن ما يتجدد من سمع وبصر وعلم بالكائن كائناً، فهذا من أثبته فإنه يمكن أن يجعله صادراً عنه.
وأما علمه بالأشياء التي يريد أن يفعلها قبل فعلها، فهذا للناس فيه كلام بحسب تنازعهم في هذا الأصل.
وعلى كل قول، وبكل تقدير، ليست صورة المعلوم التي خلقها(10/53)
وأبدعها هي نفس علمه به، وإذا سمي العلم صورة عقلية، فليس هذا هو ذاك.
وإذا قيل: إن عقل العاقل للصورة الموجودة، لا يكون إلا بصورة عقلية، لم نقل: إن الصورة العقلية لها صورة أخرى.
ولكن للناس هنا نزاع.
وهو أن العلم بالعلم هل يحصل بالعلم أم لا بد من علم ثان؟ وكذلك العلم الثاني هل يفتقر إلى ثالث؟ فمن أثبت ذاك بطلت الحجة على قوله.
ومن نفي ذاك، قال: العلم يعلم به غيره، فلأن يعلم هو بنفسه بطريق الأولى، كالنور الذي يرى به غيره، ويرى هو بنفسه، فلا يلزم إذا احتاج ما ليس بعلم إلى صورة عقلية، أن يحتاج نفس العلم إلى صورة عقلية غير العلم، بل من علم شيئاً علماً تاماً، علم أنه عالم.
ومن نصر القول الأول يقول: قد يعلم المعلوم ويذهل عن كونه عالماً به.
فإن قيل: هذا لا يتصور في حق الله تعالى، فإنه يعلم المخلوقات، ويعلم أنه عالم بها، فإذا كان العلم بكونه عالماً، ليس هو العلم بالمعلوم المنفصل، لزم وجود علوم لا تتناهى.
وهذا هو الذي احتج به الطوسي.
فيقال: علمه بنفسه يوجب كونه عالماً بصفاتها، ومن صفاتها كونه عالماً بهذا وهذا، فعلمه بنفسه يتضمن العلم بكونه عالماً بالمعلومات، وهذا العلم ليس هو العلم بالمعلومات المخلوقات، لكن هو مستلزم له، فعلمه تعالى بنفسه مستلزم للعلم بجميع صفاته، يمتنع وجود أحدهما دون الآخر،(10/54)
فليس هناك علمان متباينان، بخلاف علمه ومخلوقه المعلوم، فإن هذا مباين لهذا.
والعلم محله نفسه المقدسة، والمخلوق ليس بمباين له، فكيف يكون هو إياه؟ وهو سبحانه يعلم الشيء قبل وجوده، فيكون العلم به موجوداً، والمعلوم لم يوجد بعد.
وهذا بخلاف علمه، وعلمه بعلمه.
فإنه يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، فيمكن أن يقال: علمه بنفسه يتضمن العلم بعلمه، فلا يوجد بدونه، كما يوجد علمه بالمخلوقات قبل وجود المخلوق.
الوجه الخامس
قوله: بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك، وبتلك الصورة فقط، على سبيل التركب.
فيقال: تضاعف هذا الاعتبار هو الذي يريده من يقول بتضاعف الصور، فإن مقصودهم أن العلم بالعلم بالشيء ليس هو العلم بالشيء.
ثم كون العلم صورة المعلوم في العالم، أو إدراك الصورة، أو إدراكه بلا صورة، أو نسبة، أو غير ذلك- نزاع في حقيقة العلم.
والمقصود هنا أن علم العالم بالمعلوم ليس هو المعلوم، وهو يريد أن يقرر أن العلم بالمعلوم عين المعلوم، كما أن العلم بالعلم بالمعلوم هو نفس العلم المعلوم.
وجوابه إما بالمنع، وإما بالفرق.(10/55)
فإن كان العلم بالعلم زائداً على العلم، منع الحكم في الأصل.
وإن لم يكن زائداً، فالفرق حاصل.
وهو يريد التسوية بين العلم بالعلم وبين العلم بالمعلوم.
ونقول: إذا كان ذاك المعلوم هو نفس العلم، فكل معلوم نفس العلم.
وكلا المقدمتين ممنوعة، ولقد قرر أنه لم تنحل هذه الشبهة، فنحن نعلم علماً ضرورياً أن هذا سفسطة، وأن من جعل نفس المعلوم الموجود المخلوق، هو نفس علم العالم به، فهو مكابر جاحد للخالق.
الوجه السادس
قوله: ولا تظنن أن كونك محلاً لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها، فإنك تعقل ذاتك مع أنك لست بمحل لها، بل إنسا كان كونك محلاً لتلك الصورة شرطاً في حصول تلك الصورة لك، الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر، غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول.
فيقال: هنا صورتان: الصورة الموجودة في الخارج، والصورة المعقولة المطابقة لتلك المسماة بالعلم.
فإن أريد أن كونه محلاً للصورة العقلية.
ليس شرطاً في تعقل(10/56)
الصورة العقلية.
فهذا باطل.
فإن تعقلها لا يكون إلا بحصولها له، والصورة العقلية لا تحصل له إلا إذا قامت به، بل الصورة العقلية لا تكون إلا حالة في الإنسان، لا تكون حاصلة له بدون الحلول أبداً.
وكذلك كل عالم لا بد أن يكون العلم قائماً به، وحصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع، فإن العلم لا يقوم بنفسه، ولو قدر قيامه بنفسه لم تختص به ذات دون ذات، فلا تكون الذات عالمة علماً، إن لم يكن ذلك العلم قائماً بها.
وهذا مما رد به على جهم حيث قال: إن الرب عالم بعلم لا يقوم به، لامتناع قيام الصفات به.
كما رد به على البصريين من المعتزلة قولهم: مريد بإرادة لا تقوم به.
وقول هذا الطوسي شر من قول جهم، فإن جهماً، وإن قال: إنه عالم بعلم لا يقوم به- فالعلم عنده ليس هو المعلوم.
وهذا يجعله عالماً بعلم منفصل عنه، ويجعل العلم هو المعلوم.
فإن حقيقة قول النفاة للصفات من الفلاسفة، من جنس قول النفاة لها من الجهمية، فيشتركان في التعطيل، ويفترقان في مسائل الحدوث والقدم.
ولهذا وصى ابن سينا بملازمة قول النفاة للصفات، فإن القول بالحدوث ممتنع على أصلهم، فالنفي حجة له عليهم، بخلاف مثبتة(10/57)
الصفات، فإن فساد قول الدهرية على قولهم ظاهر.
وإن أراد أن تعقل الموجود في الخارج ليس مشروطاً بحصول الصورة العقلية، فقد اعترف هو بثبوت الصورة العقلية، وادعى أنها صورة المفعول.
ثم نقول: مقصودنا لا يتوقف إلا على إثبات علم قائم بالعالم، سواء سمي صورة عقلية أو لم يسم، فعقل الوجود في الخارج لا يكون إلا إذا قام بالعاقل عقل له، وذلك العقل ليس هو العقل الموجود في الخارج المباين للعاقل.
وإذا سمي ذلك العقل صورة عقلية، وقيل: إن التعقل ليس مشروطاً بها، كان معناه أن وجود العلم ليس مشروطاً بوجود العلم.
ومعلوم أن الشيء لا يثبت بدون لازمه، فكيف يثبت الشيء مع انتفائه؟ وهل هذا إلا جمع بين النقيضين: وجوده وعدمه؟
وحينئذ فكون العالم محلاً للعلم شرط في حصول العلم، فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع.
فلا يكون العقل، الذي هو العلم، حاصلاً للعاقل، إلا إذا كان العاقل، الذي هو العالم، محلاً لذلك العقل الذي هو العلم، كما أن المحب لا يكون محباً، إلا إذا كانت المحبة قائمة به، وكذلك في الإرادة والكلام وسائر الصفات.
وهذا أصل مطرد لأهل السنة: أن الصفة إذا قامت بمحل، عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يتصف بتلك الصفة غير ذلك المحل.(10/58)
ولهذا قالوا: لو كان كلام الله مخلوقاً، لكان المتكلم به هو المحل الذي خلق فيه.
وطرد أئمتهم وجمهورهم هذا في الصفات الفعلية.
وآخرون، كالأشعري ونحوه، فرقوا بينهما فرقاً، كانوا به متناقضين عند جمهور الناس من المثبتة والنفاة.
وأما من يقول: عالم لا بعلم يقوم به، ومريد لا بإرادة تقوم به، ومتكلم لا بكلام يقوم به- فهذا كلام الجهمية النفاة، ومن وافقهم من المعتزلة.
وهذا الطوسي وأمثاله هم الجهمية النفاة المتفلسفة الملاحدة.
وهو في التعطيل شر من المعتزلة وغيرهم.
وكذلك ابن سينا وأمثاله هم من أتباع الملاحدة النفاة.
وكان هذا الطوسي من أعوان الملاحدة الذين بالألموت، ثم صار من أعوان المشركين الترك، لما استولوا على البلاد.
وكذلك ابن سينا، وقد ذكر سيرته، فيما ذكره عنه أصحابه، فذكر أن أباه كان بلخياً وأنه تزوج بقرية من قرى بخارى، في أيام نوح بن منصور، بامرأة منها فولد بها، وأنهم انتقلوا إلى بخارى.(10/59)
قال: وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ومقدمهم، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم.
وكذلك أخي.
وكانا ربما تذاكروا ذلك بينهم، وأنا أسمعهم، وأدرك ما يقولونه، وابتدأوا يدعونني إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند.
ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعي الفلسفة، وأنزله أبي دارنا.
رجاء تعلمي منه.
ثم ذكر قراءته عليه المنطق وإقليدس والمجسطي.
ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقاً وإلحاداً في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم نسباً وديناً، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل.(10/60)
وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشراً منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقياً عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأصحاب الإشارات، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد.
وأما قوله: فإنك تعقل ذاتك ولست بمحل لها.
فيقال: ليس من شرط الموجود المعلوم أن يكون هو نفسه حالاً في العالم، بل أن يكون العلم به حالاً في العالم، ومن عرف نفسه فلابد أن يقوم في نفسه علم بنفسه، فيكون العلم بنفسه حالاً في نفسه، لا أن تكون نفسه حالة في نفسه، ولكن هو يريد أن يسوي بين العلم والمعلوم، فيجعل ما لا يشترط في المعلوم لا يشترط في العلم، ويجعل العلم نفس المعلوم، وهذا باطل كما تقدم.
الوجه السابع
قوله: بل إنما كان كونك محلاً لتلك الصورة، شرطاً في حصول تلك الصورة لك، الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك.
هذا كلام متناقض، فإن كونه محلاً لتلك الصورة: إذا كان(10/61)
شرطاً في حصول تلك الصورة، امتنع وجود المشروط بدون شرطه فلا تحصل الصورة له إلا بحلولها فيه، لأن الحلول شرط فيها، فدعواه بعد هذا أنه يمكن حصولها له بدون الحلول، جمع بين النقيضين.
وكان ينبغي أن يقول: إنما كان كونك محلاً للصورة سبباً في حصولها لك، والحصول يحصل بهذا السبب تارة وبغيره أخرى.
ومع هذا فلو قال ذلك كان باطلاً أيضاً، لكن هو يعلم أن هذا الحلول شرط في تعقل العبد، وإنما يدعي أنه ليس بشرط في علم الرب.
الوجه الثامن
أن يقال: حصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع، فإذا كانت الصورة العقلية هي العلم، أو كان العلم مستلزماً لها لا يوجد إلا بوجودها لكونها شرطاً فيه، امتنع حصول العلم، وحصول الصورة العقلية، التي هي العلم، أو شرطه أو لازمه، للعالم بدون حلولها فيه، كما يمتنع مثل ذلك في سائر صفات الحي، فيمتنع أن يحصل له علم أو قدرة، أو حب أو بغض، أو رضى أو سخط، أو فرح أو ألم أو لذة، أو غير ذلك من صفات الحي، بدون حلول ذلك في الحي، ولا يحصل ذلك له إلا بحلوله فيه، لا مع وجوده مبايناً له.
الوجه التاسع
أن يقال: مراده بالصورة الحاصلة بلا حلول: إن كان هو مجرد الصورة الموجودة، وهو لم يرد ذلك، كان(10/62)
حقيقته أن العلم يحصل بمجرد وجود المعلوم، فلا يكون هنا علم قائم بالعالم ولا صورة عقلية، وهذا مع ظهور فساده، فهو يسلم بطلانه، في العبد، ويقول: إن كونه محلاً لتلك الصورة، شرط في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط في تعقله إياها، فيجعل الحلول شرطاً في الحصول، الذي هو شرط في التعقل، ويثبت الصورة العقلية القائمة بقلب الإنسان، فيمتنع أن يريد بالصورة الحاصلة بلا حلول، الصورة العقلية الحاصلة للإنسان.
وإن أراد بذلك الصورة الموجودة، فلا ريب أنها تحصل من غير حلول، بل الحلول فيها ممتنع.
لكن يقال: ليس في مجرد حصولها للإنسان، ما يوجب أن يكون الإنسان عاقلاً لها، إذا لم يكن في نفسه علم بها، بل الحصول الخالي عما يقوم بالعالم من العلم، ليس معه علم ضرورة، فإن ادعى حصول الصورة العقلية بلا حلول فيمتنع، وإن ادعى حصول الصورة الموجودة بلا حلول فهو ممكن، لكن وجود العلم بمجرد ذلك من غير شعور يقوم بالشاعر بها ممتنع.
وهذا أمر معلوم بالضرورة واتفاق العقلاء، لكن هؤلاء القوم يدعون أن علم الله بالأشياء بلا علم يقوم به، ويسمونه عاقلاً، ويفرقون بين عقل وعقل، مع جعل العقل جنساً واحداً، وهو تناقض بين، وقول بلا علم، بل مما يعلم بطلانه.(10/63)
الوجه العاشر
أن يقال: قوله: فإذا حصلت تلك الصورة بوجه آخر غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك.
ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله، في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله.
فيقال: حصول الشيء لغيره بدون حلول فيه لفظ مجمل.
قد يراد به حصوله في ملكه، وقد يراد به حصوله عنده وفي يده.
وقد يراد به حصوله لينتفع به بوجه معاوناً له ومشاركاً.
فإنه يقال لك: هذا المال، وهذه الدار، وهذا المملوك.
ويقال: حصل لك هذا لتستعيره أو تستأجره.
وقد يقال: حصلت لك هذه المرأة لتتزوجها، وهذا الرفيق أو الشريك لترافقه وتشاركه، وحصل لك هذا المعلم لتتعلم منه، وحصل لك هذا العدو في يديك وقبضتك، وأمثال ذلك.
ومعلوم أنه ليس في هذه الأنواع من الحصول، ما يوجب أن يكون هذا الحصول موجباً للعلم بدون شعور يقوم بالعالم، بل إن لم يقم بالحي شعور قائم بنفسه بما حصل له، وإلا لم يكن شاعراً بها.
والشعور أول درجات العلم والعقل، فمن لم يكن شاعراً بالشيء كيف يكون عالماً به وعاقلاً له؟.(10/64)
فقوله: إذا حصلت تلك الصورة بوجه غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك.
كلام لا دليل عليه، وهو باطل.
ويكفيه المنع المجرد، وهو أن يقال: لا نسلم أن الحصول الخالي عن حلول، يكون تعقلاً من غير حلول، أو يوجب التعقل من غير حلول.
ونعني بالحلول ما بيناه من حلول نفس الشعور بالشاعر، سواء كان هناك صورة عقلية أو لم يكن، فكيف وقد رأينا الحصول من غير شعور لا يكون علماً في عامة أنواع الحصول؟.
الوجه الحادي عشر
قوله: ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه.
يقال له: لا ريب أن كونها مفعولة مخلوقة فيه، مغاير لكونها قائمة به، لكن يجب أن نعرف أنه لم يقل عاقل: إن العلم بالمخلوقات يقتضي حلول المخلوقات بذات الخالق، كما أن خلقه لها نفس إبداع ذواتها، فلم يقل عاقل: إن الذي هو مخلوق مفعول، هو نفس الذي هو حال مقبول، حتى نفرق بينهما، بأن أحدهما(10/65)
حصول للفاعل، والآخر حصول للقابل، بل الحاصل للفاعل هو نفس الأشياء المخلوقة، كالسماوات والأرض وما بينهما.
وأما القبول القائم بالقابل، فهو العلم بها، الذي يسمونه صورة عقلية، لا نفسها الموجودة.
ولا يقول عاقل يتصور ما يقول: إن العلم حصول نفس الموجودات في العالم، فإن كل عاقل يعلم أنه إذا علم النار والشمس والقمر، لم تكن هذه الحقائق في نفسه، وإن قدر أن أحداً قال ذلك، أو قال: إن الحاصل في نفسه مثل حقائقها الموجودة في الخارج في الحد والحقيقة، حتى يقول: إن من علم الشمس صار في نفسه شمساً مساوية في الحد والحقيقة للشمس التي في السماء، ومن علم النار حصل في نفسه نار مساوية في الحقيقة للنار التي تحرق فهذا القول ظاهر الفساد.
وإنما الذي قد يقال: إنه تحصل صورة عقلية تطابق تلك الحقيقة، مطابقة ما في النفس لما في الخارج.
ولهذا يمثلون ذلك بمطابقة الوجه لما في المرآة.
فنقول: حصول الصورة العلمية في العالم، كحصول الصورة المرئية في المرآة، أو في الماء، ونحو ذلك.
ومعلوم أنه لم تحل في المرآة والماء نفس الشمس والوجه، ولا ما يساويهما في الحد والحقيقة، ولكن صورة تحكيهما، وليست هذه الصورة كالصورة التي تحصل في الشمع والطين من طبع الخاتم والرسم، فإن تلك عرض منقوش حل في جسم يشبه الآخر، بخلاف ما في المرآة فإنه(10/66)
عرض، والشمس والوجه جسم، وكذلك العلم الذي في القلب، والمعلوم القائم بنفسه، كالسماء والأرض جواهر، فليس هذا مثل هذا.
وبالجملة فنحن ليس غرضنا في هذا المقام إلا إثبات قيام العلم بالعالم، فإنه أمر موضع الكلام فيه، إذ كل أحد يميز بين شعوره بالشيء، وعدم شعوره به.
أما كون ذلك بانطباع صورة عقلية مطابقة أو مشابهة، أو غير ذلك- فليس هذا موضع الكلام فيه، إذ المقصود هنا أن ذلك العلم هو المسمى بالصورة العقلية، وهو حال في العالم.
وليس هذا هو الصورة الموجودة في الخارج، ولا فاعل هذا فاعل ذاك، ولا قابل هذا هو قابل ذاك، فإن العلم بقلبه -قلب العالم- فهو صفة قائمة بالعالم، وفاعله هو ما أحدثه فيه.
وعلم الله القديم اللازم لذاته قائم به، وليس له فاعل، وإن كان له موصوف به يسمى محلاً ويسمى قابلاً.
وأما الصورة الموجودة في الخارج، فالله سبحانه خالقها.
والإنسان قد يكون له فعل في بعض الصور، ومحلها -إن كانت عرضاً- الجسم الذي قامت به، كما أن محل الصياغة هو الذهب والفضة، ومحل النجارة هو الخشب، ومحل صورة الدرهم والدينار والخاتم هو الذهب والفضة، ومحل الخياطة الثوب، ومحل النساجة الغزل، وأمثال ذلك.(10/67)
فقول القائل: حصول الشيء لفاعله غير حصوله لقابله يقتضي أن الشيء الحاصل للفاعل، هو الشيء الحاصل للقابل، وإنما اختلف الحصولان.
وليس كذلك، فإن حصول الشيء لفاعله هو حصول نفسه المخلوقة الموجودة، كحصول العالمين لرب العالمين، فإن كل المخلوقات حاصلة له، حصول المفعول لفاعله، بل حصولاً لا يماثله فيه أحد، فإن أحداً لا يخلق كخلقه.
وأما حصول المقبول لقابله.
فإنما المراد به هنا حصول العلم بهذه المخلوقات للعالم بها، فإن العلم يحصل له حصول المقبول لقابله، لا يراد به أنها نفسها حصلت له حصول المقبول لقابله، بحيث حلت فيه، وكان محلاً لها، فهذا هذا.
الوجه الثاني عشر
أن يقال: وإذا كان هذا الحصول غير هذا الحصول، فأي مقصود يحصل لك بذلك؟ وأي دليل في ذلك على أن المعلولات -التي هي المخلوقات- إذا كانت حاصلة للخالق الذي خلقها، من غير أن يقوم به شعور بها أصلاً، بل ذاته مع عدم العلم بها، كذاته مع وجود العلم بها، فيكون عالماً بها من غير حلول شيء فيه؟.
وقوله: فهو عاقل إياها، من غير أن تكون حالةً فيه.
يقال له: لم يشترط أحد حلول ذواتها فيه، فإن كان هذا الشخص رد قول من أدخل فيه ما يماثلها في الحد والحقيقة، فنحن نساعده على ذلك، ولا حاجة إلى ما ذكره.(10/68)
ولم يقل أحد من المسلمين: إن الله لا يعلم المخلوقات، حتى تحل في ذاته، أو يحل في ذاته ما هو مماثل في الحقيقة لهذه المخلوقات.
فإن كان في سلفه الملاحدة من قال نحو هذا، فدونه وإياه.
وأما سلفنا المسلمون فلم يقل أحد منهم شيئاً من هذا.
وإن أراد بقوله: من غير أن تكون حالة فيه من غير أن يقوم به علم بها، بل يكون حال ذاته مع العلم بها، كحالها إذا قدر عدم العلم بها، فهذا باطل معلوم الفساد بالضرورة، وإذا أثبت علماً بجميع المخلوقات، يتصف به الرب، غير المخلوقات المعلومة، حصل المقصود في هذا المقام، ويبقى المقام في تفصيل ذلك له مقام آخر.
الوجه الثالث عشر
قوله: وإذ تقدم هذا، فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود، لا في اعتبار المعتبرين على ما مر، وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله المعلول الأول.
فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضاً: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مبايناً للأول، والثاني متقرراً فيه.
وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتباراً محضاً، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك.(10/69)
فيقال: كلا المقدمتين ممنوعة باطلة: التلازمية والاستثنائية، المشبه والمشبه به، الأصل والفرع.
أما قوله: حكمت بكون ذاته وعقله لذاته شيئاً واحداً في الوجود فهذا لم يحكم به أحد من مثبتة الصفات، الذين هم سلف الأمة وأئمتها وجماهيرها، على تنوع أصنافهم، فلم يقل منهم أحد: إن علمه بنفسه هو عين نفسه، وإنما يحكي ما يشبه هذا عن المعطلة الجهمية من أهل الكلام والفلسفة، كابن رشد ونحوه، بل علمه بنفسه في كونه ليس هو نفسه، كعلمه بسائر المعلومات، فليس العلم نفس العالم عند أحد من أهل الإثبات للصفات.
ولكن هل يقال: إنه غيره؟ هذا فيه نزاع لفظي.
منهم من يقول: إن علمه غيره.
ومنهم من يقول: لا هو هو، ولا هو غيره.
ومنهم من يقول: لا نقول: لا هو هو، ولا هو غيره فأنفيهما جميعاً، بل أقول: ليس هو إياه منفرداً، وأقول: ليس هو غيره مفرداً.
ولا أجمع بينهما فأقول: لا هو هو، ولا هو غيره.
وأما السلف والأئمة، كـ أحمد بن حنبل وغيره، فلم يقولوا شيئاً من ذلك، بل امتنعوا من إطلاق القول بأنه غيره، كما لم يطلقوا أنه هو، ولم يقولوا: إنه لا هو هو، ولا غيره، فينفوهما جميعاً: لا مجتمعين ولا منفردين، بل منعوا من إطلاق لفظ الغير، لأن لفظ الغير مجمل، يراد به المباين، ويراد به ما ليس هو إياه.(10/70)
والجهمي إذا سأل أحدهم عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ فإن قال: هو غيره.
قال: كل ما هو غير الله مخلوق.
ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في المحنة عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ وإذا كان غيره كان مخلوقاً- عارضهم بالعلم فسكتوا.
وقد تكلم على لفظ الغير في الرد على الجهمية.
والقول الذي قبله قول الأشعري وطائفة، والذي قبلهما قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وطائفة، والأول قول الكرامية وطائفة.
ومما يدل على قول الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» .
وثبت عنه الحلف بعزة الله، والحلف بقوله: لعمر الله، فلو كان الحلف بصفاته حلفاً بغير الله لم يجز، فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله، ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم، لأن الحلف بالصفة اللازمة، حلف بالموصوف سبحانه وتعالى.(10/71)
وقول القائل: الصفات زائدة على الذات ليس كقوله: صفات الله زائدة على الله، لأن مسمى اسم الله يدخل في صفاته، فإذا قال: الله دخل فيه صفاته، فإذا قال: هي غيره أوهم مباينةً لله لم تدخل في اسمه.
وأما لفظ الذات فقد يراد بها الذات التي يقدر أنها مجردة عن الصفات، والصفات زائدة على لفظ الذات.
ولفظ الغيرين يراد بهما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، وعلى هذا فالصفة ليست مغايرة للموصوف.
ويراد بهما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وعلى هذا فالصفة غير الموصوف، والعلم غير العالم.
وهذا هو لغة هؤلاء فنخاطبهم بلغتهم.
فإذا قال: الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود.
قيل: هذا ممنوع، بل عقله لذاته ليس هو ذاته، بل هو مفهوم مغاير لمفهوم الذات، وإن كانا متلازمين.
واعتبار المعتبرين: إن كان مطابقاً للحقيقة، وإلا كان خطأً.
وكون الشيء لا يتميز عن الشيء من وجه، لا يقتضي أنه لا يتميز عنه من وجه آخر، فالطعم لا يتميز عن اللون باللمس، ولكن يتميز أحدهما عن الآخر بالرؤية والذوق، فلو قدرنا عدم القوة المميزة لم يمتنع الامتياز في نفس الأمر.
وكذلك إذا قدرنا صفة لازمة لموصوفها، لم نشعر بأحدهما(10/72)
منفكاً عن الآخر، لم يدل ذلك على أنهما شيء واحد في نفس الأمر.
وكذلك الصفات العامة والخاصة في الموصوف الواحد، مثل كون الإنسان حيواناً وناطقاً، وكون الجسم جسماً ونباتاً، وكون اللون سواداً وبياضاً، وإن لم يتميز هذا من هذا ببعض أنواع الإدراك، فإنه يتميز بنوع آخر.
الوجه الرابع عشر
قوله: وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول، فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين شيئاً واحداً.
فيقال: أما كون ذاته علة، فمعناه أنها مبدعة فاعلة لمفعولها.
وأما كون عقله لذاته علة لعقله، فليس معناه أن عقل ذاته أبدع عقل مفعوله، بل معناه أن عقله لذاته مستلزم لعقله لمفعوله، فإن كونه فاعلاً له من لوازم ذاته، والعلم التام بالملزوم يقتضي العلم بلوازمه، فكونه هنا علة بمعنى كونه ملزوماً، وهناك بمعنى كونه فاعلاً.
ولفظ العلة فيه اشتراك كثير بحسب اصطلاحات الناس، ينبغي لمن خاطب به أن يعرف مقصود المخاطب به.
فقد رأيت من(10/73)
غلط الناس بسبب اشتراك هذا اللفظ، لتعدد الاصطلاحات فيه، ما لا يمكن إحصاؤه ها هنا.
وإذا كان كذلك، لم يلزم من كون ذاته الفاعلة وعلمه بنفسه شيئاً واحداً -إذا قدر أن الأمر كذلك- أن يكون مخلوقه المباين له، وعلمه بهذا المخلوق، شيئاً واحداً، لأن المخلوق مباين له، وعلم الخالق صفة للخالق قائمة به، فلم يكن العلم قائماً بالمخلوق، كما كان عقله لذاته قائما بذاته.
وهناك إنما جعل من جعل عقله عين ذاته، لكون العلم هو العالم عندهم، لا لكون العلم هو المعلوم عندهم.
لكن هناك كان ذات العلم والمعلوم واحدة، ولم يبق إلا العلم، وعندهم العلم ليس بزائد على الذات، فقالوا: ذاته وعقله لذاته شيء واحد.
وأما هنا: فالعالم مباين للمعلوم، والعلم صفة للعالم قائمة به، ليس صفة للمعلوم قائمة به، فلم يكن جعل المخلوق الذي يسمونه المعلول الأول، وعلم الخالق به، شيئاً واحداً.
الوجه الخامس عشر
أن يقال بأن العلم بالمخلوق ليس هو المخلوق علم ضروري، لا يمكن دفعه بالشبهات، بل القدح فيه سفسطة.
فإن كان من لوازم هذا كون علمه بنفسه ليس هو نفسه، فلازم الحق حق، والتزام هذا هو من التزام كون المخلوق هو نفس علم الخالق، وإن لم يكن من لوازم هذا كون علمه بنفسه هو نفسه، فقد بطلت الحجة.(10/74)
وهذا بين جداً إذا تصور الإنسان نتيجة مقدماته.
وهو قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه.
فهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟ ويقول مع ذلك: إن الله أبدع شيئاً من الأشياء، فيقول: إن نفس مبدعه المفعول المصنوع المخلوق المباين له هو نفس علمه.
وطرد هذا أن تكون السموات والأرض هي نفس علمه بالسموات والأرض، والإنسان هو علم الله بالإنسان.
والإنسان مولود كان في بطن أمه، فيكون علم الله مولوداً كان في بطن أمه.
فهل قالت النصارى مثل هذا القول الباطل؟!.
الوجه السادس عشر
قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول، تعالى عن ذلك.
فيقال له: ليس كل أحد يقول: إنه يحتاج إلى صورة مستأنفة، بل من يقول: إنه يعلم الأشياء قبل وقوعها، وأن علمه بها بعد الوجود هو ذلك الأول، لا يقول: إنه تكون هناك صورة مستأنفة.
فهؤلاء لا يلزمهم ما ذكرت.
فإن قلت: قول هؤلاء ضعيف، لأن العلم بأن الشيء سيكون، ليس هو العلم بأن قد كان.(10/75)
قلت لك: معلوم أن قولك: إن نفس علم الخالق هو نفس المخلوق، أشد امتناعاً في العقل من هذا، فعجل العلم بأن سيكون هو العلم بأن قد كان، إن كان باطلاً، فهو أقرب إلى العقل من جعل العلم نفس المخلوق.
وإذا كان أقرب إلى العقل، كان التزامه -إن كان تجدد العلم محذوراً- أولى من التزام ذاك، وإن لم يكن محذوراً، التزم ذاك.
الوجه السابع عشر
أن يقال: لم قلت إن استئناف علم يحل ذات الأول بعد وجود المخلوق محال؟.
وقولك: إنه يتعالى عن ذلك، فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله، الذي سلبته صفات الكمال، ووصفته بصفة الجهل، وقلت فيه المحال، وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال.
وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال، ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين، وما فطر الله عليه عباده أجمعين، وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين، ووصفوا ربهم بأنه يسمع كلامهم، ويرى أعيانهم، ويسمع سرهم ونجواهم.
وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك، ولم تجعل له علماً سوى المخلوقات.
والمخلوقات ليست علماً باتفاق أهل الفطر السليمات، فتعالى الملك الحق عن قولك، وقول أمثالك المفترين الملحدين، أعداء الأنبياء، شياطين الإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.(10/76)
وأنت فليس لك دليل أصلاً ينفي ذلك، فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته، لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفي به الصفات، كما نفيت العلم.
ومعلوم أن هذا من أفسد أقوال الآدميين.
وغاية ما تقوله أنت وأصحابك: إن ذلك يستلزم التكثر والتغير، وهما لفظان مجملان، فذاك لا يستلزم تكثر الآلهة، بل الرب إله واحد، وإنما يستلزم تكثر علمه وكلماته، وهذا حق، وهو من أعظم كمالاته.
وأما التغير، فليس المراد به استحالته، وإنما المراد أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، ويحدث الحوادث بقدرته ومشيئته.
ومعلوم أن من كان قادراً على أن يفعل بمشيئته وقدرته ما شاء كان، أكمل ممن لا يقدر على فعل يختاره يفعل به المخلوقات، ولا كلام يتكلم به بمشيئته، ولا يرضى على من أطاعه، ولا يغضب على من عصاه.
وهم يعلمون أن الفعل الاختياري القائم بالفاعل صفة كمال، بل الحركة عندهم صفة كمال، فبأي دليل ينفون ذلك، مع تجويزهم حوادث لا أول لها، بل إيجابهم لذلك؟.
الوجه الثامن عشر
قوله: ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول(10/77)
الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها.
فيقال: مضمون هذا الكلام أن الجواهر العقلية لما عقلت الأول، لزم أن تعقل كل شيء، لأن ما سواه معلول له، وأن تكون جميع صور الوجود حاصلة فيها.
وفي هذا الكلام من الباطل أنواع:
منها أن يقال: ومن أين لكم أن مخلوق الرب يعلمه علماً تاماً، بحيث لا يخفى عليه من أحوال الرب شيء؟ بل يعلم الرب، كما يعلم نفسه، حتى يكون علمه بالرب متضمناً للعلم بكل موجود؟ وما الدليل على هذا، والكتب الإلهية والدلائل العقلية تناقض ذلك؟.
قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] .
وقال عن الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] .(10/78)
وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 26-28] .
وقال: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض} [الأعراف: 187] : أي خفي علمها على أهل السماوات والأرض.
وقال تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} [طه: 15] ، أي أخفيها من نفسي، فكيف أطلعكم عليها؟.
وقال: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] .
وقال عن الملائكة: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: 64] .
وقال: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} [طه: 98] ، إلى قوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 108-110] .(10/79)
ومنها أن الأول الواجب لم يثبتوا له علماً محققاً بجزئيات المخلوقات، بل ولا بكلياتها، فكيف يستفاد من العلم بنفسه العلم بتفاصيلها، وهو عندهم لا يعلم تفاصيلها؟ فإذا لم يستفد العلم بتفاصيلها إلا من العلم به لكونه مبدأً امتنع ذلك.
ومنها أن يقال: حصول جميع صور الموجودات الجزئية والكلية على ما هي عليه: إن كان صفة الكمال، فالرب أحق بها من مخلوقاته.
وإن كان صفة نقص، فلا موجب لوصف العقول بها.
فإن قلتم: أثبتناها للعقول لتعلم جميع الأشياء.
قيل: إن كان العلم بجميع الأشياء يمكن بدون حصول صورها في العالم، أمكن ذلك في العقل، كما أمكن في الأول.
وإن لم يمكن ذلك، وجب إثباتها للأول، وكان أحق بذلك من مفعوله.
فإن الأول إذا كان علمه بالمخلوق نفس المخلوق، كان علم العقل به يفيده العلم بالمخلوق، من غير قيام صورة المخلوق عنده، بل يكفيه ارتسام صورة المخلوق.
ومنها: أن يقال: إذا كان العقل المعلول إنما يستفيد علمه بالموجودات من علمه بالأول، وهي ليست متصورة في ذات الأول، فكيف يتصور في ذات العقل ما لم يتصور في ذات معلومة؟ وكيف يكون الفرع أكمل من أصله؟.
فإن قيل: علمه بالأول ومعلولاته يوجب الارتسام، فاستفاد ذلك من علمه بوجوده، لا من علمه بعلمه.(10/80)
قيل: إذا كان هذا صفة كمال، فالأول أحق به، وإن كان نقصاً وجب تنزيه العقل عنه.
الوجه التاسع عشر
قوله: والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور، لا بصور غيرها، بل بأعيان تلك الجواهر والصور، وكذلك الوجود على ما هو عليه، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة، من غير لزوم محال من المحالات المذكورة.
فيقال له: ما هي الصورة التي يعقلها مع الجواهر؟ أهي صورة عقلية قائمة به؟ فهذا عندك باطل، وليس عندك إلا الموجودات.
أم صور أخرى منفصلة عنه مقارنة للموجودات، فيكون علمه بها خارجاً عن ذاته مقارناً لها؟ وهذا أيضاً باطل كما تقدم.
أم تعني بالصور الماهيات التي تدعي أنت وسلفك أنها ماهيات غير مجعولة مقارنة للموجودات؟ فتلك لم تذكرها، وكيف نعلمها وهي عندك غير مجعولة له، حتى يكون جعله لها يوجب العلم بها كما ذكرت؟ ولم يرد شيئاً من ذلك، وإنما أراد بالصور: الصور العقلية القائمة بالجواهر، أي تعقل الجواهر، وتعقل عقلها للموجودات.
ومن جملة عقلها للموجودات عقلها له، فهو يعلم علمها له ولكل شيء، وهو نفسه ليس له علم عنده إلا وجود المخلوقات.
فهل هذا القول إلا من أعظم الأقوال فساداً في العقل والدين؟.(10/81)
ثم قوله: يعقل تلك الجواهر بأعيان تلك الجواهر من العجب، فإنه ليس عنده موجود إلا تلك الجواهر، فما العقل الذي يكون به؟ أهو عقل يتصف به؟ فعنده لا يتصف بعقل يقوم به، بل عقله نفس مخلوقاته.
فحقيقة قوله: إنه يعقل تلك الجواهر التي هي عقله، وهي معقوله، ليس له عقل يقوم به.
الوجه العشرون
أن يقال: حقيقة القول هذا الرجل، هو قول غلاة النفاة للعلم من سلفه، وهو أن الخالق تعالى لا يعلم شيئاً: لا نفسه ولا غيره، فإن العلم لا يكون إلا بقيام صفة به، وإذا كان قيام الصفات به ممتنعاً عندهم، امتنع كونه عالماً بنفسه وبغيره فهذا حقيقة ما قاله.
وأما كون المخلوقات هي العلم، فكلام لا حقيقة له، وإن كان يظن من يجهل معناه أن فيه إثباتاً لعلم الله، فمن تصوره حق التصور علم أنه ليس فيه إثبات لعلم الله، وعلم بذلك أن ابن سينا وابن رشد وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول، من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء.
ومعلوم أنه إنما دعاهم إلى ذلك القول بنفي الصفات، والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله، وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها، ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه.(10/82)
ونفي هذين هو الذي أوقع نفاة العلم في نفيه، فإنهم رأوا إثبات العلم لا يمكن إلا مع إثبات الصفات اللازمة والأحوال العارضة، وظنوا وجوب نفي هذين.
وإذا كان العلم مستلزماً لهذين، فلازم الحق حق، لا سيما ومهما قدر من توهم تنزيه وتعظيم في نفي لوازم العلم -لأن ثبوت العلم مستلزم ما يظن نقصاً من تجسيم وحلول حوادث وغير ذلك- فنفي العلم فيه من النقص والعيب ما هو أحق بتنزيه عنه من لوازم العلم، ونفي ما يناقض العلم هو أولى بالنفي، من نفي لوازم العلم.
والأدلة العقلية الصريحة، مع النقلية الصحيحة، إنما تدل على إثبات العلم ولوازمه، لا يدل شيء منها على نقيض ذلك، بل كل ما يظن من لوازم العلم أنه منفي بدليل العقل، يوجب ثبوته لا نفيه، ولكن هم استسلفوا مقدمات باطلة ظنوها عقلية، واحتاجوا إلى القول بلوازمها، فألجأهم ذلك إلى الأقوال الباطلة المخالفة لصريح العقول وصحيح المنقول، مع أنها من أعظم الفرية على رب العالمين، وأعظم الجهل بما هو عليه سبحانه من نعوت الكمال.
دع ما في ذلك من تكذيب رسله، والإلحاد في أسمائه وآياته.
والمقدمات الفاسدة التي بنوا عليها أقوالهم هي نفيهم صفاته سبحانه، وظنهم أنه لا تقوم به المعاني، وإن كانت قديمة النوع أو العين، ولهذا كان من تكلم منهم مع التزام هذا الأصل، فكلامه ظاهر البطلان، مع ما فيه من التناقض.(10/83)
وقد تكلم في ذلك السهروردي المقتول صاحب التلويحات وحكمة الإشراق وغيرهما، مع تألهه على طريقتهم، ومع أنه في حكمة الإشراق سلك طريقاً لم يقلد فيها المشائين، بل بين فساد أقوالهم فيها في مواضع، وكان كلامه في مواضع متعددة خيراً من كلامهم، وإن كانت سمة الإلحاد تتناولهم كلهم.
فالمقصود بيان الحق، وإذا كان بعضهم ينازع بعضاً ويرد عليه، وكان أحدهما أقرب إلى الحق في ذلك الموضع من الآخر، كان بيان رد بعضهم على بعض بما قاله من الباطل مما يؤيد الله به الحق.
فرد عليهم دعواهم أن العقول عشرة.
وهؤلاء المتأخرون يقولون: إنها الملائكة بلسان أهل الملل، ويسميها صاحب حكمة الإشراق الأنوار، ويقول: إن قدماء الفلاسفة وفلاسفة الفرس والهند يقولون: هي كثيرة أكثر مما أثبته المشاؤون، مع أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما أثبته المشاؤون من العقول لا حقيقة له في الخارج البتة، وإنما الحق ما أثبته الله ورسوله من الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء، ودلت عليها الدلائل العقلية.
والمقصود هنا مسألة العلم.
كلام السهرودي في حكمة الإشراق
قال السهروردي: فصل لما تبين أن الإبصار(10/84)
ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء، بل كفى عدم الحجاب بين الباصر والمبصر، فنور الأنوار ظاهر لذاته فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا يحجبه شيء عن شيء، فعلمه وبصره واحد، ونوره قدرته، إذ النور مباين لذاته.
قال: والمشاؤون وأتباعهم قالوا: علم واجب الوجود ليس بزائد عليه، بل هو عدم غيبته من ذاته المجردة عن المادة.
وقالوا: وجود الأشياء عن علمه بها.
قال: فيقال لهم: إن علم لزم من العلم شيء، فيقدم العلم على الأشياء وعلى عدم الغيبة، فإن عدم الغيبة عن الأشياء يكون بعد تحققها، فكما أن معلوله غير ذاته فالعلم بمعلوله غير العلم بذاته.(10/85)
قال: وأما ما يقال: إن علمه بلازمه منطو في علمه بذاته، فكلام لاطائل تحته، فإن علمه سلبي عنده، فكيف يندرج العلم بالأشياء في السلب؟ والتجرد عن المادة سلبي، وعدم الغيبة أيضاً سلبي، فإن عدم الغيبة لا يجوز أن يعني به الحضور، إذ الشيء لا يحضر عند ذاته، فإن الذي حضر غير من يكون عنده الحضور، فلا يقال إلا في شيئين -بل أعم، فكيف يندرج العلم بالغير في السلب؟ ثم الضاحكية غير الإنسانية، فالعلم بها غير العلم بالإنسانية، والضاحكية علمها عندنا ما انطوى في الإنسانية، فإنها ما دلت مطابقةً أو تضمناً عليها، بل دلالةً خارجية، فإذاً الضاحكية التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى، ودون تلك الصورة إنما هي معلومة لنا بالقوة.
قال: وما ضربوه من المثال في الفرق بين العلم التفصيلي(10/86)
بمسائل، وبين العلم بالقوة بها، كمسائل ذكرت، فوجد الإنسان من نفسه ملكةً وقدرة على الجواب لهذه المسائل المذكورة فهذه القوة أقرب مما كانت قبل السؤال، فإن القوة مراتب، ولا يكون عالماً بجواب كل واحدة على الخصوص ما لم يكن عنده صورة كل واحد، وواجب الوجود منزه عن هذه الأشياء.
ثم إذا كان ج غير باء فسلب باء كيف يكون علماً بهما، وعنايةً بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام، وإن كان علمه بالأشياء هو العلم المتقدم؟.
قال: فإذاً الحق في العلم هو قاعدة الإشراق، وهو أن علمه بذاته هو كونه نوراً لذاته وظاهراً لذاته، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرةً له، إما أنفسها أو متعلقاتها التي هي مواضع الشعور(10/87)
المستمر للمدبرات العلوية.
وذلك إضافة، وعدم الحجاب سلبي.
قال: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر.
مع عدم الحجاب.
فإضافته إلى كل ظاهر له إبصار إدراك له، وتعدد الإضافات العقلية لا يوجب تكثراً في ذاته.
قال: وأما العناية فلا حاصل لها.
الرد عليه
فيقال: قد بين هو بطلان قولهم، وما أختاره هو أيضاً باطل، فإن قوله: علمه بذاته كونه نوراً لذاته وظاهراً لذاته، علمه بالأشياء كونها ظاهرة له، وذلك إضافة، وعدم الحجاب أمر سلبي.
يقال له: هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض، أو يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن كان عدماً محضاً لم يكن هناك علم أصلاً، فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدماً محضاً، بل نعلم أن قولنا: لا يعلم هو العدم، فنعلم أن نفي العلم عدم، وإثباته وجود.(10/88)
ومما يبين ذلك أن ثبوت العلم ونفيه يتناقضان، فإن كان ثبوته عدماً، فنفيه ثبوت، فيلزم إذا قيل: لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئاً.
ومعلوم أن هذا قلب للحقائق.
وأما قوله: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر، مع عدم الحجاب.
فيقال: إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض، كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى.
فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمراً وجودياً مخالفاً لحالة عدم الرؤية، كما يجد من نفسه ذلك في العلم.
فدعوى كون الرؤية أمراً عدمياً، مثل دعوى كون العلم أمراً عدمياً، ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي، وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي.
ومعلوم أن من لم يشهد شيئاً ولم يعلمه، فقد عدم الرؤية والعلم، فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم، فلا فرق بين أن يرى ويعلم، وبين أن لا يرى ولا يعلم.
وهذا تسوية بين الأعمى والبصير، العالم والجاهل.(10/89)
وأصدق الكلام كلام الله الذي قال: {وما يستوي الأعمى والبصير} [فاطر: 19] وقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] .
ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى، والعالم أكمل من الجاهل.
ومعلم هؤلاء أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر.
وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول، وأثبتوا له أمراً حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم، فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر، وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما.
وأيضاً فيقال له: قولك: علمه بذاته كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إن أردت بقولك: كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته أي كونه مرئياً لذاته، ومعلوماً لذاته -كان حقيقة الكلام: علمه بذاته كونه معلوماً لذاته.
وهذا أمر معلوم، ليس فيه قدر زائد على ما دل عليه قولنا: هو عالم بذاته.
وإن أردت بذلك: أن علمه بذاته كونه في نفسه بحيث يظهر لذاته نوراً يتجلى لذاته -كان المعنى.
أن علمه بذاته معناه: أن(10/90)
ذاته متصفة بما يجب لأجله أن يظهر لذاته، فهي متصفة بما يوجب أن تكون معلومة له ظاهرة.
وكذلك إن أردت أنها متصفة بما يوجب أن تكون عالمة ظاهراً لها غيرها.
وكذلك إن فسر بما يوجب كونها عالمة معلومة، فسواء فسر ذلك بنفس كونه عالماً أو معلوماً أو مجموعهما، أو رائياً أو مجموعهما، إنما يوجب أحد هذه الأمور الستة.
فهذا كله لا يمنع كون العلم صفة ثبوتية، ولا يقتضي أن العلم مجرد نسبة عدمية، بل إذا فسره بمجرد أمر عدمي، كان هذا بمنزلة القول الذي رده، وهو قولهم: إنه ليس بزائد عليه، بل هو عدم غيبته عن ذاته المجردة عن المادة، فإذا كان يجعل الظهور الذي أثتبه أمراً عدمياً، فهو بمعنى عدم الغيبة الذي أثبتوه.
وأكثر ما يقال إنهم جعلوا العلم نفس عدم الغيبة، وأنا أجعله نسبة تستلزم عدم الغيبة، فهم فسروه بعدم الغيبة، وأنا أفسره بالنسبة.
فيقال له: هذه النسبة: إن لم تكن موجودة فهي من جنس عدم الغيبة.
ويقال للجميع: عدم الغيبة يكون معه علم بنفسه، أو مجرد عدم الغيبة عن نفسه هو العلم؟.
فإذا قالوا بالأول، أصابوا، وهو قول الرسل.
وإن قالوا: بل نفس عدم الغيبة هو نفص العلم، كان هذا معلوم البطلان، فإنه ما(10/91)
من موجود من الموجودات إلا وليس هو غائباً عن نفسه، مع كونه كثير منها ليس عالماً بنفسه، فعلم أن حقيقة العلم أمر مغاير لحقيقة عدم الغيبة.
وإن قالوا: إنما قلنا: هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن حقيقةالعلم: إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم.
فإن العلم يتعلق بكل معلوم، وكل شيء يمكن أن يكون معلوماً، وهو غير غائب عن ذاته، فيجب أن يكون كل شيء معلوماً لنفسه، ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به، لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره.
الثاني: أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره، فإن كان العلم عدم الغيبة، فكل ما كان حاضراً لشيء يجب أن يكون عالماً به.
الثالث: أن يقال: عدم غيبته عن ذاته المجردة، ما تعنون بقولكم: المجردة؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة، أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم، ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالماً أو معلوماً، أو يمكن كونه عالماً أو معلوماً ...
كان معنى الكلام: أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك.
ومعلوم أن هذا أيضاً عدم، فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة،(10/92)
إذا لم تغب ذاته عن ذاته، كان عالماً بها.
وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك، وإن أمكنا معاً، فعدم الغيبة يستلزم العلم، وعدم الغيبة مستلزم للعلم، لا أنه نفس العلم.
وإن قال: أعني بالمجردة أنها ليست جسماً ولا مدبرة لجسم.
فيقال: أولاً: هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف.
وجمهور العقلاء ينكرون هذا -حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين: أرسطو وأتباعه، لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلاً -إما أن يقولوا: ليس قائماً بنفسه إلاالجسم، كما يقوله ابن حزم وغيره.
وإما أن يقولوا: الفرق بين النفس والعقل، ليس إلا فرقاً عارضاً، كنفس الإنسان، التي هي حال مقارنتها للبدن: نفس، وحال مفارقتها: عقل، كما يقوله أبو البركات وغيره.
وإما أن يقولوا: هذه العقول، التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة، لا تزيد على العقل، الذي هو عرض قائم بعاقل.
وإثبات عقل، هو قائم بنفسه ليس جسماً، هو باطل.
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال.
وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه، أو بما لا دليل على صحته.
الوجه الرابع: أن يقال: هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي(10/93)
يدعونه، لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطاً بكونه مجرداً، ولا مجرد كونه مجرداً موجب للعلم بنفسه، فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي، لم يكن شاعراً، فضلاً عن أن يعلم أنه عالم.
وإذا قيل: كل مجرد حي.
قيل: فلا بد أن يقال هذا بالدليل، فإن هذا ليس معلوماً بنفسه.
وأيضاً فكل حي شاعر، سواء قيل: إنه مجرد، أو قيل: إنه ليس بمجرد.
فبدن الإنسان يشعر بأمور كثيرة، مع كونه جسماً غير مجرد عن المادة على اصطلاحهم.
وأما ما اعترض به على قولهم: إن وجوده بالأشياء عن علمه بها، وأن هذا يوجب كون الأشياء معلومة له قبل وجودها، فتكون ثابتة في علمه، وهي أشياء في علمه، فيلزم كون علمه أمراً ثبوتياً، ويلزم التعدد في علمه -فاعتراض متوجه.
وكذلك إذا فسروا العلم بعدم الغيبة عنها، فعدم الغيبة لا يكون إلا بعد تحققها، فيلزم أن يكون عالماً بها بعد تحققها، وأن ذلك مغاير لعلمه بها قبل وجودها، فإن ذلك العلم سبب وجودها بخلاف الثاني.
وكذلك قوله: كما أن معلوله غير ذاته، فالعلم به غير العلم بذاته.
وهذا لازم، لأنهم إنما نفوا كون العلم ثبوتياً لما يستلزم من تكثر العلوم وتغيرها، إذ كان العلم بهذا غير العلم بهذا.(10/94)
وإذا قالوا: إنه يعلم معلوله، ويعلم نفسه، لزم أن يكون هذا العلم ليس هذا العلم.
وأما قولهم: إن علمه بالمعلول يندرج في علمه بالعلة، فقد رده بأمور:
أحدها: أن العلم عندهم سلبي، وكذلك التجرد عن المادة، وكذلك عدم الغيبة.
والسلب لا يتضمن العلم بالأشياء، وهذا الذي قاله صحيح، مع ما تقدم من أن ذلك السبب ليس هو علماً، فلا هو علم، ولا متضمن لعلم.
وإذا قدر أن ذلك السلب علم، كان تقديراً باطلاً.
وحينئذ فهل يقال: إنه يتضمن غيره من السلوب.
هذا مما قد ينازعونه فيه.
ولكن له أن يقول: إن السلب إنما يتضمن غيره غذا كان أعم منه.
وليس هنا سلب عام ليتضمن سلباً خاصاً، بل السلب عندهم نفي معنى زائد على نفسه، أو نفي المادة عنه، أو نفي الغيبة عنه، وكل هذا سلب خاص لا يتضمن سلباً عاماً.
الأمر الثاني: أنه قد بين لهم أن المندرج في غيره هو ما يدل عليه بالتضمن لا بالالتزام، فالدال على غيره بالالتزام لا بالتضمن لا يكون مشتملاً عليه، ولا يكون الثاني مندرجاً فيه.
ومثل ذلك اللوازم الخارجة عن الماهية على أصلهم، كالضاحكية.
فإن الإنسانية ما انطوت على الضاحكية ولا انطوى علم الضاحكية في علم الإنسانية، فإنها ما دلت عليها مطابقةً ولا تضمناً، بل دلالة(10/95)
خارجية، فإن هذه اللوازم التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى، إنما هي معلومة لنا بالقوة لا بالفعل.
فإذا جعلوا علمه بمفعولاته كذلك، لزم أن يكون عالماً بها بالقوة لا بالفعل.
وهم قد يضربون لقولهم مثالاً، وهو العلم بالأشياء جملة، مع العلم بها تفصيلاً، فإن العلم بالمفصل يندرج في العلم بالمجمل.
وإن كان العلم بالمجمل متضمن تلك التفاصيل، وشبهوا ذلك بمن سئل عن مسائل، فقد يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجد من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجل من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر تفصيله فيما بعد، فأجاب بأن هذا علم بالقوة، والقوة مراتب، فهو بعد السؤال حصل له من القوة على الجواب، أعظم مما كان حاصلاً قبله.
وأما العلم بجواب كل مسألة بخصوصها، فلا يحصل إن لم يكن عنده صورة العلم بجواب كل واحدة.
ثم ادعى الأصل الذي شاركهم فيه وهو قوله: وواجب الوجود منزه عن ذلك بناءً على أنه عندهم لا تقوم به المعاني والصفات المتعددة ومن هذا الأصل منشأ ضلالهم.
قال: وإذا كان أحد الشيئين غير الآخر، فكيف يكون سلب أحدهما علماً بهما، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ وذلك أنهم يقولون: هو وجود مجرد عن المادة، والمجردات غير الماديات، فكيف يكون سلب المادة علماً بالمجرد(10/96)
والمادة، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ كيف وهم يقولون: إنه وجود مشروط بسلب كلام ثبوتي، فهو وجود بسلب كل ما يعرف من الحقائق، وتلك الحقائق مغايرة له، فكيف يكون سلبها عنه علماً به وبها؟ وعناية بكيفية ما يجب أن تكون الحقائق معه عليه؟.
فحقيقة قولهم: إنهم جعلوا العلم به، والعلم بكل واحد واحد من المخلوقات، وعنايته بالمخلوقات المتضمنة لإرادته وحكمته، التي باعتبارها انتظمت المخلوقات -جعلوا هذا كله أمراً سلبياً، وهو التجرد، أو عدم الغيبة، أو العقل الذي ليس بمعنىً زائد على ذاته، وهو عندهم وجود مقيد بسلب جميع الحقائق عنه، وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه في الخارج.
فإن الموجودين لا يكون المميز بينهما عدماً محضاً، ولو قدر ثبوت هذا لكان كل موجود خيراً منه، لأنه امتاز بوصف ثبوتي.
ومن قال من متأخريهم: له وجود خاص غير هذا الوجود، فلم يعرف حقيقة قولهم.
فإن الوجود الخاص إن امتاز بأمر وجودي، فليس هو قولهم.
وإن لم يميز إلا بالسلب، فيكون هذا هو الموجود، قد شارك الموجودات في مسمى الوجود، وامتاز عنه بالسلب، فتكون سائر الموجودات خيراً منه، لو كان له وجود.
وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوساً كثيرة، قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك.(10/97)
فصل. تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
فصل.
تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قال ابن سينا في تمام مسألة العلم: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس، وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة.
فيقال له: هذا إن كان حقاً، فهو منتقض على أصلك بعلمه بالأفلاك والكواكب، فإنها محسوسة، وعندك أنه يعلمها بأعيانها.
وقد قال في بيان أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة، وأن مدرك الجزئيات لا يكون عقلاً بل قوة جسمانية: أما المدرك من الصور الجزئية، كما تدركه الحواس الظاهرة على هيئة غير تامة التجريد والتعرية(10/98)
عن المادة ولا نجرده أصلاً عن علائق المادة.
فالأمر فيه واضح سهل.
وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد موجودة حاضرة، والجمس الحاضر الموجود إنما يكون موجوداً حاضراً عند جسم.
وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم، فإنه لا نسبة له غلى قوة تفرده من جهة الحضور والغيبة،، فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه، بل الحضور لا يقع إلا مع وضع وقرب أو بعد للحاضر عند المحضور، وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسماً، إلا أن يكون المحضور جسماً او في المحضور، وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسماً، إلا أن يكون المحضور جسماً أو في جسم.
قال: وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة، وعدم تجريد البتة من العلائق كالخيال، فهو لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم ارتساماً مشتركاً بينه وبين الجسم.
قال: ولتفرض الصورة المرتسمة في الخيال: صورة(10/99)
زيد على شكله وتخطيطه، ووضع أعضائه بعضها عند بعض، فنقول: إن تلك الأجزاء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم في جسم، وتختلف جهات تلك الصورة في جهات ذلك الجسم وأجزاؤها في أجزائه.
قال: ولننقل صورة زيد غلى صورة مربع.
ثم فرض مربعين متساويين من كل جهة، وقرر أنه لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بمحله.
معارضة ابن ملكا لابن سينا
وقد اعترض عليه أبو البركات بما مضمونه أن الأجسام المرئية والمتخيلة كثيرة، ومحل ذلك في الجسم لا يكون أكثر من مجموع جسم الإنسان، وجسم الإنسان لا يسع مقادير هذه الأجسام.
قال أبو البركات: أول المعارضة أن نناقض فنقول وندعي نقيض المسألة المصدر بها، وهو أن مدرك الجزئيات فينا من المبصرات والمسموعات وسائر المحسوسات ليس بقوة(10/100)
جسمانية ...
وإذا ثبت في هذه التي هي الأظهر، صار بطلانه في النقيض الأخفى والأضعف يقيناً.
قال: وذلك أن القوة الجسمانية فينا لا يكون محلها أكبر من جسم الإنسان الواحد بجملته.
وقد قالوا: إنه جزء صغير من أجزائه، حيث جعلوا محل القوة الخيالية جزءاً من جوهر الدماغ، الذي في البطن المقدم من الرأس، أو جزءاً من الروح الدماغي، وهو الذي يختص بهذا الجزء منه.
ونحن فندرك من المتخيلات ونتصور من الموجودات الجزئية أشياء كثيرة محفوظة في أذهاننا وملحوظة، بها يكون الواحد منها أضعافاً كثيرة لجسمنا بأسره، فكيف للجزء المذكورة من بعض أجزائه.
قال: وهو فقد طلب في احتجاحه الأخير جسماً يتخيل به السواد والبياض، ليثبت كلاً منهما في جزء منه، غير الجزء الذي أثبت فيه الآخر، فكيف أعرض عن المقدار؟ ونحن إنما ندرك الألوان في الأجسام مع مقاديرها، حتى غذا رأيناها مرة أخرى(10/101)
على قدر مخالف عرفنا أنها زادت أو نقصت، فلو لم نكن أدركنا المقدار الأول لما حفظناه، ولو لم نحفظه لم نعرف الزيادة والنقصان.
هذا في شخص واحد في تمثله وتخيله، فكيف في أشخاص كثيرة جداً نحفظها بأشكالها وصورها، ومقاديرها وأوضاعها، لا تسعها خزانة من خزائن تسع عدة من أشخاص الناس؟ بل ولا بلدة من أكبر البلدان؟ فإن من جملة ما نحفظه في ذلك صورة بلدة مع مقدارها الكبير، وأوضاع أجزائها، حتى لو صغرت أو كبرت عن ذلك، شعرنا بموضع الزيادة والنقصان مقيساً إلى ما استثبتناه وحفظناه.
قال: ففي هذا كفاية لمن تأمله بذهن سليم ونظر ثابت.
قال: وأما ما قاله من أن المدرك بالحواس الظاهرة فالأمر فيه سهل واضح، لأن هذه الصورة إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة، والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم، وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم، فإنه لا نسبة للجسم إلى قوة مفردة من جهة الحضور والغيبة، فإن الشيء الذي ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه.(10/102)
قال: وأعجب ما في هذا القول استسهاله، أذ قال: إن الأمر فيه واضح سهل، ولو كان هذا القول حقاً على ما قيل، لبطلت علائق النفوس الناطقة بالأبدان، فإنها ينسب إليها بفي، ومع، وعند، ومقارنة، ومفارقة، وغيبة، وحضور، كما ينسب المدرك غلى مدركه.
ثم لو كان هذا حقاً، لما أدركنا بعقولنا معنى شيء مما ندركه بحواسنا البتة، فإن رأيه هو أن البصر يرفع صورة المبصر غلى الخيال، وهو جسماني، فالعقل إن أدركها في الخيال فقد أدركها جسمانية أيضاً، وإن إدركها قوة جسمانية في الخيال، نقلها إلى قوة أخرى، فأدركها العقل فيها -كان القول كذلك أيضاً، ولو كانت الوسائط ما كانت، إذ كان أو لما يلقاها إما أن يلقاها في قوة جسمانية، فيكون حكمها حكم الأولى، وإما أن يلقاها في قوة مجردة، فحكمها حكم العقل.
فإن قيل: إن العقل لا يدركها في القوة الجسمانية، بل يرفعها إليه، وينتزعها منه، أو يجردها، فكل تلك العبارات(10/103)
المقولة تقتضي لقاءً من الرافع للمرفوع إليه، وحضوراً من المرفوع عند الرافع، وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه، والمجرد عند المجرد عنه.
فلولا نسبة لقاء وحضور، وما شئت سمه للنفس إلى البدن، لما كان آلة لها، وإلى المدركات لما أدركها، ولو لم يدركها لما عقلها كليةً ولا جزئية، وكيف والشيء المدرك واحد في معناه، والكلية تعرض له بعد كونه مدركاً باعتبار ونسبة وإضافة، بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين، وهو هو بعينه؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كلياً ولا جزئياً، وإنما يدرك من حيث هو موجود، لا من حيث هو كلي ولا جزئي، وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه، فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة، لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه، لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كلياً وجزئياً.
تعليق ابن تيمية
فيقال: ما ذكره أبو البركات يدل على تناقض ابن سينا، حيث زعم أنه ما ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه، وذكر أن الأمر في ذلك واضح سهل، فإن هذا مناقض لقوله: إن النفس ليست جسماً، مع أن الجسم حاضر عندها، لكن هذا التناقض يدل على بطلان أحد قوليه: إما قوله: إن النفس ليس جسماً، وإما قوله:(10/104)
ما ليس في مكان لا يكون للمكان إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه.
ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه القضية هي الكاذبة، بل قد تكون الكاذبة قوله: إن النفس ليس إلا جسماً.
ونظير هذا التناقض قوله: إن واجب الوجود يعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، فيعقل الموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها ويتوسط ذلك أشخاصها، فإنه إذا كان واجب الوجود يعقل الأفلاك بأعيانها وهي أجسام، وقد قال: إن الجسم لا يرتسم إلا في جسم لزم أن يكون جسماً.
ومع قوله: ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنده.
ومع قوله: الجسم الحاضر الموجود، إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم، وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم.
فهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض، لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسماً، وأن تكون النفس على أقواله أيضاً جسماً.
وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة، وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك، وإنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار، والمدرك إذا كان جسماً أو قوة في جسم فهو صغير لا يسعها.(10/105)
وهذه حجة ضعيفة، فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون: إن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج، كما أنهم لا يقولون: إن المرتسم حقيقته مساوية لحقيقة الموجود في الخارج.
وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم، بأنه لو كان من أدرك النار وجب أن يسخن، ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد، ومن أدرك الرحى وجب أن يدور، ونحو ذلك مما لا يقوله عاقل.
ولهذا صاروا يتعجبون، بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا، وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة.
ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلاً في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج.
أما حقيقته، فلأن غايته أن يكون عرضاً في المرآة، والمرئي الخارج يكون جسماً موجوداً، كالسماء والشمس والإنسان، وغير ذلك مما يرى في المرآة.
وكذلك الإدراك، فإنه عرض قائم بالمدرك.
والمدرك نفسه يكون عيناً قائمة بنفسها، سواء كان مرئياً أو معلوماً بالقلب.
وأما قدره، فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا(10/106)
كانت كبيرة رئي كبيراً، وإذا كانت صغيرة رئي صغيراً، وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج.
فكذلك إذا قيل: إن المدرك يتمثل في المدرك، لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه.
ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان، وفي البنان، ووجود عيني، وعلمي ولفظي، ورسمي.
ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني، هي مطابقة العلم للمعلوم، ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج.
فإن هذا لا يقوله عاقل، بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه، وبين الحقائق الموجودة في الخارج.
ومن أظهر ذلك الخيال، فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه، وفي حال تغميض عينيه ونومه، ويعلم قطعاً أنه خياله ومثاله، وأنه مشابه له، ويعلم قطعاً أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج، سواء قيل: إنه منطبع في النفس، أو في جزء من البدن، أو فيهما، وسواء قيل: إن النفس تدركه، أو قيل: إن المدرك له هو البدن.
فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقاً ضرورياً بين حقيقة ذلك المثال، وبين حقيقة الموجود في الخارج، وأنه لا يماثله: لا في ذاته، ولا(10/107)
صفاته، ولا مقداره، ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية، والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار.
وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج، بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض، ويجتمع فيه المثلان كالسوادين، ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه، فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم، لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين، كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج، ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع، وما له وجود في الخارج، وما ليس وجود في الخارج.
فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي.
لكن تلك الأمور مثل خيالية، ليست حقائق موجوده في أنفسها.
وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه، فيظنه موجوداً في الخارج، وطائفة من فلاسفة الصوفية، كابن عربي، يسمي هذا أرض الحقيقة، ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه.
وذلك أن الخيال لا حد له، بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج، أعظم من أن تحصر.
فهؤلاء الضالون قالوا: هذا أرض الحقيقة، وهو عالم الخيال.
وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج، ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم، كما يتخيل للنائم.
ويتخيل لأحدهم أنه صار إلهاً ونبياً، أو أنه المهدي، أو خاتم الأولياء، غلى غير ذلك مما يطول(10/108)
وصفه، ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه.
ومن قال من المتفلسفة: إن النفس ليست جسماً، وأنكر معاد البدن، فمنهم من يقول: إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك، فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعماً خيالياً، وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية، وقد يقال: إنه أعظم منها، كما ذكر ذلك ابن سينا.
فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذي جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة.
ونحن لا ننكر وجود الخيالات، فإن هذا لا ينكره عاقل، لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية، أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس.
والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد، ولا يقول أحد: إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان، سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها.
فقد تبين أن ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية، ليس منافياً لعلم الله بالجزئيات، بل فيه ما هو دليل على ذلك.
ولكن غاية ما فيه تناقضهم، حيث يثبتون الشيء دون لوازمه، كما أثبت ابن سينا علمه بأعيان الموجودات التامة، وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم.(10/109)
وأدلته الصحيحة توجب علمه بالمتغيرات، وأنه يعلم الكليات والجزئيات، كما سنذكر ألفاظه.
وكذلك أبو البركات أثبت علمه بالكليات والجزئيات والمتغيرات، لكنه قال في القدر وفي علمه بما لا يتناهى قولاً منكراً، سنذكره إن شاء الله.
وكل من قال في مسألة العلم قولاً يخالف النصوص النبوية، من أهل الكلام والفلسفة، فلا بد أن يكون قوله مناقضاً لأصوله الصحيحة، مخالفاً لصريح المعقول.
ولهذا كثر اضطراب هؤلاء في مسألة العلم.
فصل. عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
فصل.
عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى
قد تقدم ما ذكرناه من أقوال ابن سينا في تقرير أنه سبحانه عالم بمفعولاته، حيث قال: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق، ويعقل ما بعده، من حيث هو علة لما بعده، ومنه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً.
فقد ذكر هنا أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته، وأما تقرير كونه عالماً بنفسه، فسيجيء إن شاء الله تعالى.(10/110)
كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا
قال الطوسي في شرح هذا الفصل: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي ذاتي، أشار إلى إحاطته بجميع الموجودات.
فذكر أنه يعقل ذاته بذاته، لكونه عاقلاً لذاته، معقولاً لذاته، على ما تحقق قبل ذلك، ويعقل ما بعده، يعني المعلول الأول، من حيث هو علة لما بعده.
والعلم التام بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول، فإن العلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بكونها مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها.
وهذا العلم يتضمن العلم بلوازمها، التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها.
ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأول، من حيث وقوعها في سلسلة المعلولية النازلة من عنده، إما طولاً: كسلسلة المعلومات المترتبة المنتهية إليه في ذلك الترتيب.
أو عرضاً: كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه، لكنها تنتهي إليه من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه، وهو احتياج عرضي، تتساوى جميع آحاد السلسلة فيه، بالنسبة إليه تعالى.
قلت: أما قوله: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي إشارة إلى إحاطته بجميع الموجودات، فذكر أنه يعقل ذاته بذاته ويعقل ما بعده.(10/111)
فيقال: علمه بذاته لا يمكن أن يكون فعلياً، وإنما يكون فعلياً علمه بخلقه.
فإن علمه له تأثير في فعل خلقه، وليس له تأثير في وجود نفسه، وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فهمه، ولعله ما أراد إلا هذا.
فإن القدرية من أهل الكلام يقولون: العلم تابع للمعلوم، مطابق له، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة.
وكثير من المتفلسفة يقولون: علم الرب فعلي، وقد يجعلون نفس علمه إبداعه.
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر، وبينا أن العلم نوعان: علم العالم بما يريد أن يفعله، فهذا علم فعلي، هو شرط في وجود المعلوم، إذ وجود المعلوم بدونه ممتنع.
ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار، لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع، من غير قدرة وإرادة، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، فإن هذا باطل، كما قد بين في موضعه.
والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد، فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه، فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعلياً، لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه.
وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطاً في وجوده، كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه، فهذا علم تابع للمعلوم، مطابق له، ليس فعلياً بوجه من الوجوه.
وعلم الرب بنفسه من هذا الباب.
لكن إذا سمي علمياً انفعالياً فلا بأس، فإنه علم حادث.
وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة(10/112)
لم يحدث، فليس انفعالياً بهذا الاعتبار، لكنه مطابق للمعلوم موافق له، فعلمه تابع لنفسه، ومخلوقاته تابعة لعلمه.
والمقصود هنا أنه إذا كان عالماً بنفسه لزم أن يكون عالماً بخلقه، وهذه قضية صحيحة، ويمكن تقريرها بطرق:
أحدها: أنه لا يكون عالماً بنفسه علماً تاماً إلا إذا كان عالماً بلوازمها، والخلق من لوازم مشيئته، التي هي من لوازم نفسه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته من لوازم نفسه.
والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم: إنه علة تامة، والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول.
ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي، والمعنى صحيح، فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده، فما شاء كان، فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه، والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه.
وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره، فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره، لا من جهة أن كونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه، كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته، لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب.
ففي الجملة لا يكون عالماً بنفسه إن لم يكن عالماً بلوازمها، وقدرته وإرادته من لوازمها، ومراده من لوازم الإرادة.
فالمفعولات لازمة(10/113)
للإرادة اللازمة لذاته، ولازم اللازم لازم.
ومجرد النظر إلى كونه مستلزماً لمفعوله يوجب العلم.
مع قطع النظر عن توسط الإرادة، لكن هي ثابتة في نفس الأمر، وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها.
وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون: إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته.
وأما القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها، أو يقولون: أحدث إرادة لا في محل، فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق.
وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] .
ودلالة الآية تقرر بطريق ثان، وهو أن يقال: خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه، فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة، والإرادة مشروطة بالعلم، فإرادة ما لا يشعر به محال.
وإذا كان إنما يخلق بإرادته، وإنما يريد ما يصوره، لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه.
وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين، والقرآن قد دل عليها، والعقل الصريح يدرك صحتها، وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئاً، لأنه لا يحيط علماً بجزيئات أفعاله، فلا يكون خالقاً لها، وإن كان شاعراً بها من بعض الوجوه، ومريداً لها من بعض الوجوه، فهو فاعل لها من ذلك الوجه.
وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها الأشعري في كون العبد ليس خالقاً لفعل نفسه.(10/114)
قال: لو كان خالقاً لها لكان محيطاً بتفاصيلها، واللازم منتف.
لكن الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة.
وطائفة أخرى قالوا: لا يحتاج إلى فرض في العاقل، بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علماً بتفاصيل أفعاله، لكنه يشعر بها من حيث الجملة.
ولهذا كان العبد لا يريد شيئاً إلا بعد شعوره به، فهو يتصور المراد تصوراً مجملاً، وإن لم يكن مفصلاً.
وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد.
وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب، ولا علمهم كعلمه، كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقاً لها.
وهذا القول الوسط، وهو إثبات كون الرب خالقاً لكل شيء، ومع كون أفعال العباد مخلوقة له، ومع كونها أفعالاً للعباد أيضاً، وأن قدرة العباد لها تأثير فيه، كتأثير الأسباب في مسبباتها، وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب، وليس شيء من الأسباب مستقلاً بالفعل، بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه، وإلى دفع موانع تعارضه، ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد، وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد.
وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها.
وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر، وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله.
الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته، أن يقال: كل ما كان من صفات الرب وأفعاله، فليس هو(10/115)
موقوفاً على شيء سواه، فلا شريك له بوجه من الوجوه، فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته، وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته، فإذا كان عالماً بنفسه، لم يكن أن يكون عالماً بذاته دون صفاته، فإن ذلك ليس علماً بنفسه، فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته، ولا وجود لها، وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله، وإلا لم يكن عالماً بصفاته، لأنه إذا علم أنه خالق للعالم، لم يعلم كونه خالقه، إن لم يعلم العالم، وإلا فالعلم بكونه خالقاً للعالم، مع عدم العلم بالعالم، بمنزلة كونه خالقاً للعالم بدون وجود العالم، وهذا ممتنع فذاك ممتنع.
ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقاً للعالم يوجب العلم بالعالم.
وهم يعبرون عن ذلك بكونه علةً ومبدأً، ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون.
وكونه مبدعاً وفاعلاً، فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلاً، وإلا لم يكن عالماً بنفسه.
والعلم بكونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلاً، لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم، بدون كونها فاعلة ممتنع، ووجود فعلها بدون العالم ممتنع.
وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى، وكون العلم قديماً أو حادثاً، واحداً أو متعدداً، فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود، إذ كل موجود مفعوله، وهذا يتناول علمه بكل موجود، وكل موجود جزئي، فهو يقتضي علمه بكل جزئي.(10/116)
قال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 13-14] .
وقد استدل طوائف من أهل السنة بهذه الآية على أنه خالق أقوال العباد وما في صدورهم.
وهذه الآية تدل على كونه عالماً بالجزئيات من طرق:
أحدها: من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق.
والثاني: من جهة كونه في نفسه لطيفاً خبيراً، وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وحفيها.
ثم يقال: اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره، وعلمه بنفسه، مستلزم لعلمه بلوازم ذاته، كما تقدم.
فقد تضمن الآية هذه الطرق الثلاثة.
اعتراض الرازي على ابن سينا
وقد اعترض الرازي على ما قرره ابن سينا، من كون علمه بذاته يستلزم علمه بمفعولاته.
فقال في شرحه: كنا قد بينا في الأبواب السالفة أنه علام بذاته وبسائر المعلومات، والآن نريد أن نبحث عن كيفية حصول تلك العالمية له فنقول:
قد بينا قبل هذا الفصل أن علمه بالأشياء لا بد وأن يكون(10/117)
حاصلاً له لذاته.
فنقول: إنه يجب أن يعلم ذاته بذاته، ثم إذا علم ذاته، فذاته علة لما بعده، يجب أن يعلم من ذاته كونه علة لما بعده، فإذا علم ذاته علم لا محالة معلوله.
ثم يلزم من علمه بمعلوله، علمه بسائر المعلولات النازلة من عنده طولاً وعرضاً.
وأما طولاً فكالعقول التي كل واحد منها علة للعقل الذي تحته، وأما عرضاً فكما إذا صدر شيئان أو أكثر عن علة واحدة، كما يقال: إنه يصدر عن كل عقل: عقل، ونفس، وفلك، معاً.
قال: ولقائل أن يقول: لم قلتم: إن علمه بذاته يقتضي علمه بمعلوله؟ بيناه: أنكم إما أن تقولوا: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعمله بمعلوله، أو تقولوا إن علمه بذاته، من حيث إنها علة لذلك المعلول، يقتضي وجوده بذلك المعلول، والأول ممنوع، فلم قلتم: إن علمه بذاته المخصوصة -التي من جملة لواحقها واعتباراتها كونها علة لذلك المعلول-(10/118)
يقتضي العلم بذلك المعلول؟.
وظاهر أن هذه المقدمة ليست بدهية، بل لا بد فيها من الدلالة، وأنتم ما ذكرتم الدلالة عليها.
وأما الثاني فباطل، لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني، علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء، والعلم بإضافة أمر إلى أمر مسبوق بالعلم بكل واحد من المضافين، فلو كان العلم بذلك المعلول مستفاداً من العلم بتلك الإضافة، لزم الدور، وأنه محال.
تعليق ابن تيمية
قلت: فيقال في الجواب عما ذكره الرازي.
قوله: إن قلتم: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعلمه بمعلومه، فهو ممنوع، وهذه المقدمة ليست بدهية فلا بد لها من الدليل.
فيقال: هي بعد التصور التام بديهية، وبدون التصور التام تفتقر إلى بيان.
وذلك لأن العلم بذاته المخصوصة، لا يكون علماً بها إلا مع العلم بلوازمها التي تلزم الذات بنفسها، ولا تفتقر في لزومها إلى سبب منفصل، فإن هذه اللوازم هي عند نظار المسلمين كلها صفات ذاتية، فإنهم لا يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين الذاتي المقوم والعرضي الخارج، بل الجميع عندهم ذاتي، بمعنى أنه لازم لذات الموصوف، لا تتحقق الذات إلا بتحققه.(10/119)
وأما كون بعض الصفات داخلة في الذات، وبعضها خارجاً، فإن أريد بذلك أن بعضها داخل فيما يتصور الذهن وينطق به اللسان، فهذا حق.
ولكن يعود الدخول والخروج إلى ما يدخل في علمه وكلامه، وما يخرج عن ذلك.
وإن أريد بذلك أن نفس الموجود في الخارج: بعض صفاته اللازمة داخل في حقيقته، وبعضها خارج عنه، فهذا باطل، كما قد بسط.
وأما على طريقة المنطقيين، فالصفات اللازمة: إما ذاتية يتعذر معرفة الموصوف بدونها، وإما لازمة لماهيته، أو لازمة لوجوده، وهذه اللوازم لا بد لها من لازم بغير وسط، لئلا يلزم التسلسل، كما قرر ذلك ابن سينا في الإشارات، واللازم بوسط هو اللازم بتوسط دليل، لا بتوسط علة مبنية له، فجميع اللوازم للذات بغير توسط شيء في الخارج.
هذا مراده.
وإن أريد بذلك أن من اللوازم شيئاً يلزم توسط في الخارج، فذلك الوسط لازم لآخر بنفسه، فلا بد على كل تقدير من لازم بنفسه، وللازم لازم، وهلم جراً.
وحينئذ فإذا عرف نفسه، التي لها لوازم لا توجد إلا بها، فيلزم من معرفته بها معرفته بلوازمها، كما يلزم من وجودها وجود لوازمها، وإلا لم تكن المعرفة معرفة بها، فكما أن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع،(10/120)
فالمعرفة به بدون معرفة لازمة ممتنعة، وإنما تقع الشبهة في هذا الموضع، لظن الظان أن التصور الناقص معرفة به، وليس كذلك، فإن الشعور مراتب، وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه، ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض.
ونحن لا نعرف شيئاً من الأشياء على الوجه التام، بل لو علمنا شيئاً على الوجه التام، لعلمنا لوازمه ولوازم لوازمه، فلا يكون علمنا بشيء من الأشياء مماثلاً لعلم الرب.
ولهذا لما تكلم الناس في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فاعتبر بعضهم اللزوم مطلقاً، واعتبر بعضهم اللزوم الذهني، قالوا: لأن اللزوم الخارجي لا نهاية له، لأن للازم لازماً، وللازم لازماً فلفظ البيت إذا جل على الحيطان والأرض والسقف بالمطابقة، وعلى بعض ذلك بالتضمن، فهو مستلزم للأساس، ولأساس الأساس وللصانع، ولأب الصانع، ولأب أبيه، ولصانع الآلات، وأمور أخر، فيجب اعتبار اللزوم الذهني.
فيقال لهم: اللزوم الذهني ليس له ضابط، فإنه قد يخطر لهذا من اللوازم، ما لا يخطر لهذا.
فإن قلتم: كل ما خطر للمستمع لزومه، فقد دل اللفظ عليه باللزوم، وإلا فلا.
قيل لهم: فحينئذ يخطر له لزوم هذا، ثم لزوم هذا ويلزم ما ذكرتم من التسلسل، فلا فرق.(10/121)
وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر، فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر.
وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم، فمهما شعر به من اللوازم، استدل عليه باللزوم.
وليس لذلك حد، بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم.
وهذا هو الدليل، فالدليل أبداً مستلزم للمدلول من غير عكس، وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها، فإن هذا لا ضابط له، بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه، وهي دلالة عقلية، تابعة للدلالة الإرادية، وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على التلازم، بتوسط دلالته على الملزوم.
وفي الجملة، فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه، ولا يكون الدليل إلا ملزوماً، ولا يكون ملزوم إلا دليلاً، فكون الشيء دليلاً وملزوماً أمران متلازمان، وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك.
وأما كونه علة، فأخص من كونه دليلاً، فكل علة فهي دليل على المعلول، وليس كل دليل علة.
ولهذا كان قياس الدلالة أعم من قياس العلة، وإن كان قياس العلة أشرف، لأنه يفيد السبب العلمي والعيني، وقياس الدلالة إنما يفيد السبب العلمي.
ولهذا يعظمون برهان اللمية على برهان الإنية، ويقولون: برهان لم أشرف من برهان إن.(10/122)
فمن كان علمه أكمل العلوم، وقد علم علة كل موجود، كيف لا يكون عالماً بأكمل دليل يدل على كل موجود؟.
ولو قدر أن الواحد منا يعلم الرب على ما هو عليه، لكان عليماً بكل شيء، لكن قوانا تعجز عن ذلك.
وأما هو سبحانه فهو يعلم نفسه، وهي ملزمة لكل موجود، وخالقة لكل شيء، وموجبة بمشيئتها وقدرتها لكل شيء، وبلغتهم: هي علة لكل شيء.
وهو سبحانه الدليل والبرهان على كل شيء من هذه الجهة، ومن جهة أنه يدل عباده بإعلامه وهدايته وكلامه، فإذا كان هو سبحانه عالماً بنفسه، المستلزمة لك شيء، التي هي دليل على كل شيء، وموجبة لكل شيء، وباصطلاحهم: علة لكل شيء -وجب أن يكون عالماً بكل شيء، وإلا لم يكن عالماً بنفسه، بل كان عالماً ببعض أحوال نفسه، والتقدير أنه عالم بنفسه.
ثم يقال: الموجب لعلمه بنفسه، يوجب علمه بجميع أحوال نفسه، كما سيأتي تقريره.
ويمتنع أن يخص علمه ببعض أحوال نفسه، إذ لا موجب للتخصيص، بل الموجب للتعميم قائم.
وإذا كان عالماً بجميع أحوال نفسه، وجب ضرورة أن يعلم لوازمها.
واعلم أن المقصود هنا: أن علمه بنفسه يستلزم علمه بخلقه، ويمتنع وجوده بدونه، كما يستلزم العلم بالدليل على الوجه التام العلم بالمدلول عليه، ويمتنع وجوده دونه.
وأما كون العلم بنفسه أوجب ذلك، وكان علة في وجوده -فهذا،(10/123)
وإن كان المتفلسف قد يقوله، فلا حاجة بنا إليه، بل لا يجوز أن يقال ذلك، كما لا يجوز أن يقال: علمه بالدليل سبب لعلمه بالمدلول على، فإن علمه سبحانه ليس باستدلالي، بحيث يستفيد العلم بهذا من العلم بهذا، سواء كان الدليل علة، أو لم يكن.
بل هذا مما يطعن به في كلام بعض هؤلاء المتفلسفة، الذين جعلوا علمه من هذا الباب، فإن علمه سبحانه من لوازم نفسه، ونفسه المقدسة مستوجبة للعلم بكل شيء.
كما دل عليه قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ، فإنه في نفسه لطيف خبير، يمتنع أن يخفى عليه شيء.
لكن المقصود هنا أن علمه بنفسه مستلزم لعلمه بخلقه، فيمتنع أن يكون عالماً بنفسه علماً تاماً بدون علمه بخلقه.
وحينئذ فنحن نستدل بعلمه بنفسه على أنه عالم بخلقه، كما نستدل بكل ملزوم على لازمه، وإن كان هو سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الاستدلالات.
ولهذا كان من القضايا الصادقة قول القائل: العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، أي العلم بالسبب التام، وهو العلة التامة، فإذا علمنا أن الخشبة وقع فيها نار لا تطفأ، علمنا أنها تحترق.
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو بمشيئته وقدرته موجب لكل موجود.
فعلمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقاته، أعظم من استلزام(10/124)
علم كل عالم بكل علة لكل معلول، فإنه ما من علة تفرض لمعلول، وموجب مقدر لموجب، إلا وهو سبحانه في فعله وإيجابه، أكمل من ذلك في إيجابه واقتضائه.
وما من عالم يفرض علمه بعلة، إلا وعلم الرب بنفسه أكمل من علم كل عالم بتلك العلة، فإن علم كل حي بنفسه، أكمل من علمه بغيره، فكيف بعلم رب العالمين بنفسه؟!.
وحينئذ فالعلم بهذا الدليل يستلزم العلم بمدلوله، أعظم من استلزام كل علم بكل دليل لكل مدلول، وعلمه بنفسه بكون هذا الموجب، أو العلة أو المبدأ أو السبب، يوجب العلم بموجبه ومعلوله، أكمل من علم كل عالم بكل موجب وعلة.
وكلما تدبر العاقل هذه المعاني ولوازمها، تبين له أن كون علمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقه عند التصور التام هي من أعظم البديهيات، وعند النظر والاستدلال هي من أعظم القضايا التي تقوم عليها الأدلة النظرية.
ومما يبين ذلك أنه إذا كان عالماً بنفسه، فإن قيل: هو يفعل المخلوقات ولا يشعر بأنه يفعل، فهذا يمتنع أن يكون شاعراً بنفسه، فإنه ما من عالم بنفسه يقدر أنه يفعل شيئاً، إلا ولا بد أن يعلم أنه يفعله، بل لا بد أن يتصور مفعوله مع غفلته عن نفسه، فكيف مع علمه بنفسه؟.
فهو يجب أن يعلم مفعوله من جهة علمه بنفسه، ومن جهة أنه يفعله بإرادته، كما تقدم التنبيه على الطريقين، بل العالم بنفسه لو حصل لنفسه حال من غيره لعلم به، وإلا لم يكن عالماً بها، فكيف إذا كانت فاعلة؟!.(10/125)
وأما قول الرازي على التقدير الثاني: إن قلتم: إن علمه بذاته، من حيث إنها علة لذلك المعلول، يقتضي علمه بذلك المعلول، لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني، علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء، والعلم بالإضافة مسبوق بالعلم بالمضافين، فلو كان المعلول مستفاداً من العلم بتلك الإضافة، لزم الدور.
فيقال له: العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين، ولا يجب أن يكون العلم بالمضافين متقدماً عليه تقدماً زمانياً، بل لا يكون عالماً بالإضافة، إلا مع تصور المضاف والمضاف إليه.
ثم إذا كان المضاف هو العلة للمضاف إليه، أمكن أن يكون العلم بها، من جهة إنها علة لذلك المعلول، مستلزماً للعلم بذلك المعلول.
والعلم بأنها علة للمعلول يتضمن ثلاثة أشياء: العلم بها، وهي المضاف الذي هو علة، والعلم بالمعلول، وهو المضاف الذي هو معلول.
والعلم بالعلية، وهي الإضافة.
والثلاثة متلازمة، لا يجب أن يتقدم بعضها على بعض بالزمان، ولا نقول: إن العلم ببعضها يستفاد من العلم ببعض، كما ذكره.
فإن الرب لا يحتاج أن يستدل بشيء من معلوماته على بعض، وإنما يحتاج إلى ذلك من لا يكون عالماً بالمدلول، حتى يدله عليه الدلي.
وأما هو فعلمه من لوازم نفسه المقدسة.(10/126)
ولكن المقصود أن علمه بنفسه وبمخلوقاته متلازمان، يمتنع ثبوت العلم بنفسه دون العلم بخلقه، كما يمتنع ثبوت العلم بخلقه بدون العلم بنفسه.
والرازي لعله رد ما قد يضاف إلى ابن سينا وحزبه، من أن علمه بنفسه هو الذي أوجب علمه بخلقه، وكان ذلك العلم علة لهذا العلم، كعلمنا نحن بالدليل الذي يوجب حكمنا بالمدلول عليه.
وما ذكره يدل على فساد قول هؤلاء، فإنه إذا قيل: إن علمه بكونه علة للمعلول، هو الموجب لعلمه بالمعلول، لزم الدور، كما ذكر، فإنه لا يعلم كونه علة للمعلول، حتى يعلم المعلول، كما ذكره من أن العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين، فلا تعلم أن هذا علة لذاك، حتى تعلم هذا وذاك، فلو كان علمك بذاك، مستفاداً من علمك بهذه الإضافة، لزم الدور.
ونحن قد بينا فساد هذا، وقلنا: المراد إن علمه بهذا يستلزم علمه بهذا، أي يمتنع تحقق هذا العلم بدون هذا العلم، وإن لم يكن أحدهما هو العلة للآخر.
كما يمتنع تحقق إرادته دون علمه، وعلمه دون قدرته، وسائر صفاته المتلازمة، ويمتنع تحقق ذاته دون صفاته، وصفاته دون ذاته، فكل منها يستلزم الآخر، فيستدل بثبوت واحد منها على ثبوت سائرها، إذا عرف بلازمها، وإن لم يجعل هذا هو العلة في وجود هذا.
ونحن مقصودنا بيان ما دل على أن الله بكل شيء عليم، وبيان ما ذكره ابن سينا، وغيره من الفلاسفة والمتكلمين، مما يدل على ذلك،(10/127)
وإن كان قد يكون فيما يقوله الواحد من هؤلاء باطل، وقد يكون قصر في بيان الحق، وقد يجتمع الأمران.
فنحن نستدل بعلمه بذاته، على أنه لا بد أن يعلم مخلوقاته، لما بينهما من التلازم، الدال على أن ثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر، لا نحتاج أن نجعل علمه بهذا هو الموجب لهذا.
فإن قيل: فبتقدير أن لا يكون موجباً، فليس معكم ما يدل على أن علمه بذاته يستلزم علمه بمخلوقاته، كما أنا إذا قدرنا أن علم أحدنا بالملزوم ليس موجباً لعلمه باللازم، لم يكن معنا ما يدل على أنه عالم باللازم.
قيل: بل كون أحد العلمين مستلزماً للآخر ثابت، وإن لم يكن أحدهما موجباً للآخر، فإن الملزوم أعم من أن يكون علة أو غير علة.
وإذا قدر أنه ليس علة، لم يمتنع أن يكون ملزوماً.
وإذا كان في بعض الناس ملزوماً وعلة، لم يجب أن يكون في كل عالم ملزوماً وعلة، إلا إذا لم يكن للعالم طريق إلى العلم باللازم، سوى عمله بعلته.
وهذا باطل في حق الله، ولا يمكن دعواه، فلا يمكن أحداً أن يدعي أن الله لا يمكن أن يعلم شيئاً من الموجودات إلا لعلمه بعلته، إذ لا دليل على هذا النفي.
وإذا قدر أن ذاته مستلزمة لنفسها أن تعلم كل شيء لا يخفى عليها شيء، أوجب ذلك أن لعلم كل شيء.(10/128)
وإن قدر أنه غير مفعول له، كما يعلم المعدومات والممتنعات التي ليست مفعولة، وكما يعلم المقدرات.
كقوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ، وقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .
وإن كان وجود إله غيره ممتنعاً، فعلمه سبحانه بما يعلمه، ليس من شرطه كونه مفعولاً له، بل كونه مفعولاً له، دليل على أنه يعلمه والدليل لا ينعكس.
وكذلك علمه بنفسه مستلزم لعلمه بمخلوقاته، وإن لم يكن علمه بنفسه علة لعلمه بمخلوقاته.
فينبغي تدبر هذه المعاني الشريفة، فإنه يبين كثرة الطرق البرهانية الدالة على علمه سبحانه، بخلاف من يقول: لا يمكننا إثبات علمه إلا بطريق الإرادة ونحو ذلك.
وهكذا كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء، فإن الله يوسع عليهم دلائل معرفته، كدلائل معرفة نفسه، ودلائل نبوة رسوله، ودلائل ثبوت قدرته وعلمه، وغير ذلك، فإنها دلائل كثيرة قطعية، وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسعه الله على من هداه، كما أن من الناس من يعرض له شك وسفسطة في بعض الحسيات والعقليات، التي لا يشك فيها جماهير الناس.
والمقصود هنا أنا نحن أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً فنفتقر في حصول العلم لنا إلى أسباب غير أنفسنا.
ومن الأشياء ما نعلمها(10/129)
بمشاعرنا بلا دليل، ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل، فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل، الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه.
والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة، وكذلك قدرته، لم يستفد شيئاً من صفاته المقدسة من غيره، ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه.
وإذا قدر أن علمه بالملزوم شرط في علمه باللازم، كما أن وجود الملزوم شرط في وجود اللازم، وإبداعه للملزوم شرط في إبداعه للازم، كما أن خلقه للأب من حيث هو أب شرط من خلق الابن، فالابن لا يكون ابناً إن لم يكن له أب، فلا بد في خلق الابن من خلق الأب قبله.
فهو سبحانه خالق الملزوم واللازم، وعالم بالملزوم واللازم، وكل ما سواه هو مما خلقه بمشيئته وقدرته، فليس مفتقراً في شيء من الأمور إلى شيء سواه.
وقول القائل: علمه بهذا شرط في علمه بهذا معناه أنه لا يوجد علمه بهذا، إلا مع وجود علمه بهذا، ليس المراد به: أنه يكون العلم بأحدهما متقدماً موجوداً، مع عدم العلم الآخر، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط، بل لا بد من وجوده معه بخلاف العلة.
فإذا قيل: ليس علمه بهذا علة لهذا، وإنه لم يستفد علمه بهذا من علمه بهذا، ولا استدل على هذا بهذا، لم يكن في هذا نفي كون أحد(10/130)
العلمين شرطاً في الآخر، أي ملزوماً له، بل ولا نفي كون كل منهما شرطاً في الآخر وملازماً له، كما أن العلم والقدرة أو الإرادة، كل منهما لا يوجد إلا مع الآخر، وهو ملازم له، فوجوده شرط في وجوده بهذا الاعتبار، وإن لم يكن أحدهما علة لوجود الآخر.
وكذلك علمه بنفسه المقدسة، هو مستلزم لعلمه بمخلوقاته، وشرط في علمه بها، فلا يكون عالماً بمخلوقاته، إلا وهو عالم بنفسه، وإن لم يكن علمه بنفسه هو العلة لعلمه بمخلوقاته، ولم يكن هو محتاجاً أن يستدل بعلمه بنفسه على علمه بمخلوقاته، بل نفس ذاته المقدسة اقتضت العلم بهذا وبهذا.
وإن كان أحد الأمرين شرطاً في الآخر، فكونه شرطاً في الآخر، غير كونه علة، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، والعلة يجب تقدمها على المعلول.
والشرط لا يوجب المشروط، والعلة توجب المعلول.
فما علمه من مخلوقاته، فعلمه به مشروط بعلمه بنفسه، ويلزم من علمه بنفسه علمه به، ويلزم من علمه به علمه لنفسه، وإن لم يكن أحد العلمين يجب أن يقدم على الآخر، ولا يكون هو العلة في وجود الآخر، ولا يحتاج أن يستدل بأحد المعلومين على الآخر.
فلهذا كان علمه بأنه خالق يستلزم العلم بالمخلوقات من وجهين:(10/131)
من جهة أن علمه بأنه خالق لا يكون إلا مع علمه بالمخلوقات، لأن العلم بالإضافة يتضمن العلم بالمتضايفين.
ومن جهة أنه عالم بنفسه علماً تاماً.
وكونه خالقاً من صفات نفسه، فلا يكون عالماً بنفسه علماً تاماً، إلا مع علمه بأنه خالق، ولا يكون عالماً بأنه خالق، إلا مع علمه بالمخلوقات.
ومما ينبغي أن يعرف أن كلاً من المتلازمين يلزم من وجوده وجود الآخر، فكل منهما يصلح في حقنا أن نستدل به على الآخر، فنستدل على هذا بذاك تارة، ونستدل بذاك على هذا تارة.
إما أن نستدل على المجهول منهما بالمعلوم، أو نستدل بالمعلوم على المعلوم، لبيان أنه دليل عليه أيضاً، ولتقوية العلم، ولحصوله في النفس تارة بهذا الدليل، وتارة بهذا، إذا عزب عنها علمه بالآخر، فإن النفس قد تعلم الشيء ثم يعزب عنها، فإذا كثرت الأدلة، كان كل منها يقتضي العلم به، إذا قدر عزوب غيره من الأدلة.
ولهذا جاز تعدد الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد، وكل ما يصلح أن يستدل به على غيره، فإن علم الرب به يستلزم علمه بالمدلول عليه، لامتناع العلم التام بالملزوم.
بدون العلم باللازم، وإن كان هو سبحانه لا يحتاج أن يستدل بالعلم بأحدهما على العلم بالآخر، فهذا هذا.
ومرادنا بيان ما يذكره الناس من الدلالة على الحق، فإن قصروا في بيان الدليل تممناه، وإن قالوا بخلاف موجبه من وجه آخر أبطلناه.(10/132)
وهذه حال ابن سينا وأمثاله في تقرير علم الله تعالى، فإن كلامه في العلم فيه تقصير عظيم من وجهين: من جهة تقصيره في بيان ما ذكره من الحق، ومن جهة ما ذكره من الباطل، فإنه ذكر حقاً، وذكر ما يستدل به عليه، لكنه لم يعرف البيان حقه، من جهة أنه لم يعط الدليل حقه في التزام ما يلزمه، ومن جهة أن بعض المقدمات قد تقصر في بيانها، وإلا فالمادة التي سلكها في الدلالة مادة جيدة مستقيمة، إذا أعطيت حقها كانت مما تبين أن الله بكل شيء عليم من الجزئيات والكليات.
ولهذا كان الذين قدحوا في دلالة ابن سينا، كالغزالي والشهرستاني والرازي، إنما يقدحون بكونه لم يقرر مقدماته، أو بكونه لم يقل بموجبها، ولم يلتزم لوازمها، بل تناقض، فيوردون عليه سؤال الممانعة والمعارضة: المنع لكونه لم يقرره، والمعارضة لكونه ناقض موجبها.
وهذان السؤالان إذا توجها، فإنما يدلان على قصور ابن سينا، لا على قصور مادة الدليل الذي استدل به، بل هو من أحسن المواد، وهو مما يعلم به أن الله بكل شيء عليم: بالكليات والجزئيات.
ونحن نذكر من كلامهم ما يبين ما ذكرناه.
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه
قال الغزالي: مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره، ويعلم الأجناس والأنواع بنوع كلي.(10/133)
فنقول: أما المسلمون -يعني المتكلمين الذي هم يذبون عنده عن المسلمين- لما انحصر عندهم الموجود في حادث وقديم، ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته، وكان ما عداه حادثاً من جهته بإرادته، حصلت عندهم مقدمة ضرورية في علمه، فإن المراد بالضرورة لا بد أن يكون معلوماً للمريد، فبنوا عليه أن الكل معلوم له، لأن الكل مراد له وحادث بإرادته، ولا كائن إلا وهو حادث بإرادته، ولم يبق إلا ذاته.
ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده، فهو حي بالضرورة، وكل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، فصار الكل عندهم معلوماً لله، وعرفوه بهذا الطريق، بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم.
فأما أنتم إذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته، فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته، فلا بد من الدليل عليه.
قال: وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك، في أدراج كلامه، يرجع إلى فنين.(10/134)
قلت: ما ذكره الغزالي من الاستدلال بالإحداث على العلم، طريق صحيح يوصل إلى تقرير أنه بكل شيء عليم.
لكن الطرق إلى ذلك كثيرة متعددة، لم تنحصر في هذه الطريق، لا سيما إذا أريد تقرير حدوث العالم بحدوث الأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه.
فإن هذه الطريق مبتدعة في الإسلام باتفاق علماء الإسلام، وهي باطلة عند أئمة الإسلام وجمهور العقلاء، والعلم بكون الرب مريداً لا يقف على هذه الطريق، بل ولا على العلم بحدوث الأجسام، بل يكفي في ذلك مجرد العلم بأنه فاعل، حتى أن كثيراً من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، يقول: إنه مريد، وإنه عالم بالجزئيات، كما ذهب إلى ذلك من ذهب إليه من الفلاسفة، وهو الذي نصره أبو البركات، فهؤلاء يثبتون العلم بطريق الإرادة.
وأما المسلمون، الذين يقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق، فأئمتهم وجمهورهم لا يثبتون ذلك بامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، بل هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة.
وأيضاً فالرب إذا عرف أنه علام بمخلوقاته، لأنه خلقهم بإرادته، علم أنه إذا كان عالماً بكل ما سواه، فعلمه بنفسه أولى، فإن هذه المقدمة لا تحتاج إلى توسيط كونه حياً، وإن كان ذلك طريقاً صحيحاً، وإن كانت الحياة شرطاً في كونه عالماً، لكن ليس كل ما كان شرطاً في الوجود، كان العلم به شرطاً في الاستدلال، فإنه من علم أن الله يعلم كل ما سواه، ثم نظر: هل يعلم نفسه أم لا؟ علم أن علمه بنفسه أولى من(10/135)
علمه بكل ما سواه، قبل أن يستشعر أنه حي، وأن كل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف نفسه أولى.
بل إذا كانت هذه القضية بينة، وهو أن كل حي عرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، قضية بينة بنفسها، فهي بينة وإن لم يذكر فيها كونه حياً، إذ علم الإنسان بهذه الأولوية غير مشروط بهذا، وإن كانت الحياة شرطاً في كل علم.
كما أنا إذا علمنا أنه مريد، علمنا أنه عالم بما أراده، وإن لم يخطر بقلوبنا أنه حي، وإن كانت الحياة شرطاً في العلم والإرادة، فالعلم باستلزام علمه بغيره لعلمه بنفسه، لا يقف على العلم بهذه المقدمة، وإن كانت هذه المقدمة تفيد هذا المطلوب أيضاً.
وأيضاً فعلم المسلمين بأن الله بكل شيء عليم، له طرق غير الاستدلال بالإرادة، كما هو مذكور في موضعه.
والمقصود كلامه على ما ذكره ابن سينا.
قال: وحاصل ما ذكره يرجع إلى فنين: الأول: أنه عقل محض، وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له.
إلى أن قال: وإن عنيت بأنه عقل: أنه يعقل نفسه، فربما(10/136)
يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك، ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره.
فيقال: ولم ادعيت هذا، وليس ذلك بضروري، وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة، فكيف تدعيه ضرورياً؟ وإن كان نظرياً فما البرهان عليه؟.
إلى أن قال: الفن الثاني: قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد للإحداث، ولا إن الكل حادث حدوثاً زمانياً، فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه، إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلية، فلم يزل فاعلاً، فلا نفارق غيرنا إلا في هذا المقدار، وأما في أصل الفعل فلا.
وإذا وجب كون الفاعل عالماً -بالاتفاق- بفعله، فالكل عندنا من فعله.
قال أبو حامد: والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الفعل قسمان: إرادي: كفعل الحيوان والإنسان.
وطبيعي: كفعل الشمس في الإضاءة، والنار في التسخين، والماء في التبريد.
وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي، كما في الصناعات(10/137)
البشرية.
فأما في الفعل الطبيعي فلا.
وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار، لا بطريق الإرادة والاختيار، بل لزم الكل ذاته، كما يلزم النور الشمس.
وكما لا قدرة للشمس على كف النور، ولا النار على كف التسخين، فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله، تعالى عن قولهم علواً كبيراً.
قال: وهذا النمط، وإن تجوز بتسميته فعلاً، فلا يقتضي علماً للفاعل أصلاً.
فإن قيل: بين الأمرين فرق، وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل، فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل، ولا مبدأ له سوى العلم بالكل، والعلم بالكل عين ذاته، فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل، بخلاف النور من الشمس.
قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك، فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار، لا من حيث هو عالم(10/138)
بها، فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟.
وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور، بل يتبعها النور ضرورة، فليقدر ذلك في الأول، ولا مانع منه.
الوجه الثاني: هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل، يقتضي العلم أيضاً بالصادر، فعندهم فعل الله واحد، وهو المعلول الأول، الذي هو عقل بيسط، فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به، والمعلول الأول يكون أيضاً عالماً بما صدر منه فقط، فإن الكل لم يوجد من الله دفعة.
بل بالوسط والتولد واللزوم، فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوماً له، ولم يصدر منه إلا شيء واحد، بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي، فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة، ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته، من مصادمته وكسر غيره، فهذا أيضاً لا جواب له عنه.(10/139)
قال: فإن قيل: فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه، لكان ذلك في غاية الشناعة، فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره، فكيف يكون في الشرف فوقه؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة؟.
قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم، فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له، ولا بد من ترك الفلسفة والإعتراف بأن العالم حادث بالإرادة.
ثم يقال: بم تنكرون ...
إلى آخره.
قلت: ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة، في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته، تقدم بيانه له.
وكون ابن سينا خالفهم في هذا، هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحساناً منه في هذا الباب.
فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره، كان ذلك مما يفضل به ويمدح، وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره، بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته، كما تقدم.(10/140)
والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها، توجب موافقتهم له في هذا الموضع، كما تقدم.
هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة، وليس كذلك.
بل بينهم من يصرح بثبوتها، وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم.
كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه
ومنهم من يحكي إثبات الإرادة عنهم مطلقاً، كما اختاره ابن رشد عنهم، فإنه قال في تهافت التهافت: استفتح أبو حامد هذا الفصل بأن حكى عن الفلاسفة شيئاً شنيعاً، وهو أن الباري ليس له إرادة، لا في الحادث، ولا في الكل، لكون فعله صادراً عن ذاته ضرورة، كصدور الضوء من الشمس.
ثم يحكي عنهم أنهم قالوا: من كونه فاعلاً يلزم أن يكون عالماً.
قال: والفلاسفة ليس ينفون الإرادة عن الباري تعالى، ولا يثبتون له الإرادة البشرية، لأن البشرية إنما هي لوجود نقص في المريد، وانفعال عن المراد.
فإذا وجد المراد له تم النقص، وارتفع ذلك الانفعال المسمى إرادة.
وإنما يثبتون له من معنى الإرادة أن(10/141)
الأفعال الصادرة عنه هي صادرة عن علم، وكل ما صدر عن علم وحكمة، فهو صادر بإرادة الفاعل، لا ضرورياً طبيعياً، إذ ليس عن طبيعة العلم صدور الفعل عنه، كما حكى هو عن الفلاسفة، لأنا إذا قلنا: يعلم الضدين، لزم أن يصدر عن الضدان معاً، وذلك محال.
فصدور أحد الضدين عنه، يدل على صفة زائدة على العلم، وهي الإرادة.
وهكذا ينبغي أن يفهم ثبوت الإرادة في الأول عند الفلاسفة، فهو عندهم: عالم مريد عن علمه ضرورة.
وقال ابن رشد أيضاً: وأما قول أبي حامد: إن الفعل قسمان: إما طبيعي وإما إرادي -فباطل.
بل فعله عند الفلاسفة: لا طبيعي بوجه من الوجوه، ولا إرادي بإطلاق.
بل إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان.
وكذلك اسم الإرادة مقول عليهما باشتراك الاسم.
كما أن اسم العلم كذلك على العلمين: القديم والحادث، فإن الإرادة في الحيوان والإنسان انفعال لاحق له عن المراد، فهي معلولة عنه.(10/142)
هذا هو المفهوم من إرادة الإنسان، والباري سبحانه منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة، فلا يفهم من معنى الإرادة إلا صدور الفعل مقترناً بالعلم، وأن العلم، كما قلناه، يتعلق بالضدين، ففي العلم الأول، بوجه ما، علم بالضدين، ففعله أحد الضدين دليل على أن هنا صفة أخرى، وهي التي تسمى إرادة.
قلت: ابن رشد يتعصب للفلاسفة، فحكايته عنهم أنهم يقولون: إنه مريد، كحكايته عنهم إنهم يقولون: إنه عالم بالمخلوقات.
ولا ريب أن كلاهما قول طائفة منهم.
وأما نقل ذلك عن جملتهم، أو المشائين جملة، فغلط ظاهر.
ولكن الذي انتصر لثبوت هذا وهذا انتصاراً ظاهراً أبو البركات ونحوه، وابن رشد وهو إثبات ذلك دونه، وابن سينا دونهما.
ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل، وفيه خطأ كثير، بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير، وصوابه فيه كثير.
وهؤلاء المتأخرون وسعوا القول في الإلهيات، وكان صوابهم فيها أكثر من صواب أوليهم لما اتصل إليهم من كلام أهل الملل وأتباع الرسل، وعقول هؤلاء وأنظارهم في الإلهيات، فإن بين كلام هؤلاء في الإلهيات وكلام أرسطو وأمثاله تفاوتاً كثيراً.(10/143)
والمقصود أن ما ذكره أبو حامد من أنه إنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي فكلام صحيح، وهذا يدل على أن الفعل إذا كان إرادياً، لزم كون الفاعل عالماً بفعله، فنستدل بكونه مريداً على كونه عالماً، وهو استدلال صحيح، ويقتضي أنه إذا قدر نفي اللازم، وهو العلم، انتفت الإرادة، وهو أيضاً صحيح.
وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي، لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي، فإذا قدر فعل ليس بإرادي، لم يلزم كون الفاعل عالماً، هو كلام صحيح.
وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم، لزم أن يكون الفعل إرادياً، لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم، وغير الإرادي مستلزم لنفيه، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم.
فالإرادة ملزومة للعلم، والعلم لازم لها، ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم، ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة.
فإذا قدر ثبوت العلم، لزم انتفاء نقيضه، وهو نفي العلم، ولازم نقيضه، وهو انتفاء الإرادة، وإذا انتفى هذا الانتفاء، ثبت نقيضه، وهو الإرادة.
وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة، كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم، فما ليس بعالم ليس بمريد، وهذا الذي يسمونه عكس النقيض، فإن العلم لازم للإرادة، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو العلم، انتفى الملزوم، وهو الإرادة.(10/144)
وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم، فإذا انتفت الإرادة في الفعل، لزم نفي العلم، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو نفي العلم، انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة، فحصلت الإرادة، فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة، ومن نفيه نفيها، ومن ثبوتها ثبوته، ومن انتفائها انتفاؤه.
وهذا بين، إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم.
ولك فعل ليس بإرادة فلا علم معه، فينعكس كل منهما عكس النقيض.
فيقال: كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة، وكل ما معه علم فمعه إرادة، فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، وهذا حق، وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة، وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة.
ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم، فإنه إذا استدل على كونه عالماً بمخلوقاته: بأن الفاعل يجب أن يكون عالماً بفعله، وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها- كان دليلاً صحيحاً، كما تقدم تقريره، وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلاً بالإرادة، فإن هذا شرط في كونه فاعلاً، كما أن كونه حياً شرط في كونه فاعلاً، وكما أن كونه عالماً شرط في كونه مريداً.
والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه، ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم، كما يدل الدليل على كونه فاعلاً بالاختيار، وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالماً.
ثم إذا علم أنه فاعل(10/145)
بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم، وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم، فليس كما من علم من البشر شيئاً علم لوازمه، لقصور علم البشر، بخلاف علم الخالق الذي علمه تام، فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم.
وإذا كان كذلك، فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا، من الطريق الدال على كونه عالماً بالمخلوقات، فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه.
ولكن يقال له: هذه الطريق تستلزم كونه مريداً، فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض.
وموجب الدليل شيء، وفساد الدليل شيء آخر.
فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب، دون القدح في دليله الصحيح.
وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم، حيث قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار، لا من حيث إنه عالم بها.
وقوله: فما المحيل لهذا المذهب، مهما وافقهم على نفي الإرادة؟.
فيقال له: المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته.
والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم نفسه.
فمن قال: إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته، كان قوله باطلاً.
وأما تقرير كونه عالماً بنفسه، فهذا مذكور في موضعه.(10/146)
وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع، كالنار والماء، فإن ذاك إنما قيل: ليس بعالم بفعله، لكونه ليس عالماً بنفسه.
ولم يقل عاقل: إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله، كما لم يقل عاقل: إنه عالم بفعله دون نفسه، إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر.
وأما تمثيل ذلك بنور الشمس، فعنه جوابان.
أحدهما: أن الشمس علة تامة فاعلة للنور.
بل هي شرط في فيضانه، وفيضانه مشروط بوجود جسم ينعكس عليه شعاعها، والأول سبحانه هو وحدة مبدع لكل ما سواه.
الثاني: أن الشمس إن قيل: إنها عالمة بنفسها، وقيل مع ذلك: إنها مبدعة للشعاع، لم نسلم أنها لا تعلم الشعاع، لكن الشأن في تينك المقدمتين.
وأما قوله: مهما وافقهم لازم له.
فيقال: بل الصواب أن يقال: إثباتك العلم مع نفي الإرادة تناقض يلزمه منه خطؤك: إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة.
وحينئذ فيقال: هؤلاء نفوا العلم والإرادة، وأنت أثبت العلم دون الإرادة، وهما متلازمان، فيلزم خطؤك: إما في إثبات العلم، وإما في نفي الإرادة.
وحينئذ فيقول: أدلتي المذكورة على ثبوت العلم صحيحة توجب(10/147)
ثبوت العلم، وإذا كان ذلك مستلزماً للإرادة، كان خطئي في نفي الإرادة، فهذا هو الصواب، دون أن يقال: كما وافقتهم على الخطأ في نفي الإرادة، فوافقهم على الخطأ في نفي العلم.
وأما قوله في الوجه الثاني: إن فعل الله واحد، وهو المعلول الأول فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به.
فيقال: إذا ثبت أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته، وجميع الممكنات مفعولة، لزم أن يعلمها كلها.
وأما قولهم: إنه أول ما أبدع العقل الأول، فكلامهم في هذا خطأ في بيان فعله، لا خطأ في إثبات وجوب كونه عالماً بمفعولاته، ولا ريب أن قولهم في صدور الأفعال منه خطأ، لكن لا يلزم من الخطأ في ذلك الخطأ فيما به قررت كونه عالماً بمفعولاته.
ثم يقال: ولا يلزم أيضاً على أصلهم أنه لا يعلم إلا العقل الأول، بل يلزم علمه بكل شيء.
وذلك لأنهم تارة يقولون: صدر عنه عقل، وبتوسطه عقل ونفس وفلك، وتارة يجعلون الثاني صادراً عن الأول، وتارة يجعلون الأول شرطاً، وتارة يجعلونه مبدعاً للثاني.
ومنهم من يقول بلزوم جملة الفلك له.
وعلى كل تقدير فلا ريب أن علمه بالملزوم علماً تاماً يستلزم علمه باللازم.
وكذلك العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول، كما تقدم.(10/148)
فأقصى ما يقدر أن الأول كان علة للثاني، فإذا كان عالماً بالأول علماً تاماً، لزم أن يعلم لوازمه، التي منها علمه بفعله للثاني، كما تقدم.
فعلى كل تقدير لا يكون قول من سلبه العلم خيراً من قول من أثبته.
وبهذا أجابه ابن رشد، فقال: الجواب عن هذا أن الفاعل الذي هو في غاية العلم يعلم ما صدر عما صدر منه، وما صدر من ذلك الصادر، إلى آخر ما صدر.
فإن كان الأول في غاية العلم، فيجب أن يكون عالماً بكل ما صدر عنه، بوساطة أو بغير وساطة.
وليس يلزم منه أن يكون علمه من جنس علمنا، لأن علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم.
ومن فر من شناعة القول بأنه لا يعلم إلا نفسك، فهو معذور في هذا الفرار.
وقوله: إن هذه الشناعة لازمة في مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم، فيجب ارتكابهما كما ارتكب سائر(10/149)
الفلاسفة.
ولا بد من ترك الفلسفة، والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة.
فيقال: إذا كان هذا لازماً لمن نفي الإرادة والحدوث، فيجب إثبات الإرادة والحدوث.
فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، لا يجب إذا ترك بعض الحق أن يترك سائره، بل يجب الاعتراف به كله، وإلا فالاعتراف ببعضه خير من جحده كله.
وقد تقدم تحقيق الأمر في تلازم العلم والإرادة.
قال أبو حامد: ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة: إن ذلك يعني العلم ليس بزيادة شرف، فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد كمالاً، فإنه في ذاته قاصر، فشرف بالمعقولات إما ليطلع على مصالحه في العواقب في الدنيا والآخرة، وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقضة، وكذلك سائر المخلوقات.
وأما ذات الله فمستغنيه عن التكميل، بل لو قدر له علم يكمل به،(10/150)
لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة.
وهذا كما قلت في السمع والبصر، وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه، وأن المتغيرات الداخلة في الزمان، المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفها الأول، لأن ذلك يوجب تغيراً في ذاته وتأثيراً.
ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان، بل هو كمال، وإنما النقصان من الحواس والحاجة إليها، ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به.
وكذلك العلم بالحوادث الجزئية: زعمتم أنه نقصان، فإذا كنا نعرف الحوادث كلها، وندرك المحسوسات كلها، والأول لا يعرف شيئاً من الجزئيات، ولا يدرك شيئاً من المحسوسات، ولا يكون ذلك نقصاناً، فالعلم بالكليات العقلية أيضاً يجوز أن يثبت لغيره، ولا يثبت له، ولا يكون فيه نقصان، وهذا لا مخرج عنه.(10/151)
فيقال: هذا الكلام متوجه على سبيل الإلزام والمعارضة، يظهر به تناقض من أثبت له علماً بمعلوم دون آخر، كابن سينا وأمثاله، فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما فر منه فيما نفاه، فإن كان ذلك حقاً، فيلزم أن لا يعلم شيئاً ولا نفسه، وإن لم يكن حقاً، فيلزم أن يعلم كل شيء.
ولا ريب أن هذا هو الصواب، فهو يقول لهم: إن العلم: إن كان صفة كمال وشرف، فمعلوم أن علمه بكل شيء أكمل من علمه ببعض الأشياء، وإن لم يكن صفة كمال، فلا يثبت شيء منه.
واستشهد على ذلك بأنكم نفيتم عنه السمع والبصر والعلم بالمتغيرات، فإن كان نفي ذلك نقصاً، فقد وصفتموه بالنقص، وإن لم يكن نقصاً، لم يكن نفي غيره نقصاً.
وابن سينا يفرق بين علمه بالثابتات، وبين علمه بالمتغيرات، لئلا يلزم تغيره بتغير العلم.
وقد بين أبو حامد بعد هذا أنه لا محذور في علمه بالمتغيرات، بل يلزمه إثبات العلم بذلك، فإثبات العلم مطلقاً هو الواجب دون نفيه، وكل ما لزم من إثبات العلم، فلا محذور فيه أصلاً، بل غايته ترجع إلى مسألة نفي الصفات والأفعال والاختيارات، فليس لهم في نفي العلم إلا ما ينشأ عن هذين السلبين.
وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات.
وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزماً لثبوت هذين الأصلين، كان ذلك مما يدل على صحتهما، كما دل على ذلك(10/152)
سائر الأدلة الشرعية والعقلية، فإن ثبوت العلم بكل شيء، مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين، ومما هو ثابت بقواطع البراهين.
فإذا كان مستلزماً لإبطال هذين الأصلين، اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية، كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه، وتصديق ما جاء به الرسول، وموافقته لصريح العقل، وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله، بخلاف الأقوال المخالفة لذلك، فإنها كلها متناقضة.
وتدبر حجج النفاة، فإنها كلها من أسقط الحجج، كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة: إن العلم ليس بزيادة شرف، فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم، ويقول: إنه إذا كان عالماً فقد جعل ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره.
أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر: أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم، كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر.
ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر، وأن النافي لها قال قولاً منكراً في الفطرة.
كقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] ، فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر، تنكر على من سوى بينهما.
كقوله تعالى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} [الأنعام: 143] .(10/153)
وقوله: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] .
وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] .
وقوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] .
وكذلك قوله: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [النحل: 75-76] .
وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] .
وقوله: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} [يونس: 35] .
وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره، وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر، والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها، وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها، فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص،(10/154)
لا يمكن أن يكون رباً ولا معبوداً، ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب.
كقوله تعالى عن الخليل: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] .
وقوله تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148] .
وقوله: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 89] .
وقوله: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20-21] .
وقوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] .
وقوله عن الخليل: {أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] .
وقوله أيضاً: {هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72-73] .
وقوله: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء: 66-67] .
وأمثال ذلك كثير.(10/155)
والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال، وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم، كون عدم العلم نقصاً- هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم.
وأما قول القائل: إن العلم إنما احتاج إليه غير الله ليستفيد كمالاً: إما ليطلع على مصالحه، وإما لتكميل ذاته المظلمة.
فيقال له: هذا بعينه دليل على أن الذوات لا تكمل إلا بالعلم، من جهة أنها لا تقدر أن تفعل ما تصلح إلا به، ومن جهة أنها بدونه مظلمة.
والرب فاعل لكل شيء، وفاعل لكل فاعل، فهو أحق بأن يكون عالماً من كل فاعل، وذاته أكمل الذوات، فهي أحق بأن يكون لها غاية الكمال، وأن تكون برية من كل نص.
وقول القائل: ذات الله مستغنية عن التكميل.
كلمة حق، فإنه مستغنية عن أن يكملها أحد سواها، لكن ما هي ذات الله المستغنية عن التكميل: أهي ذات مسلوبة العلم وغيره من صفات الكمال، فلا تعلم ولا تسمع ولا تبصر؟ أم هي الذات المتصفة بهذه الصفات؟.
أما الأول، فلا حقيقة لتلك الذات ولا وجود لها، فضلاً عن أن يقال: ذات الله، فإن ذاتاً لا تتصف بشيء من الصفات، إنما تعقل في الأذهان لا في الأعيان، وذاتاً لا تتصف بصفات الكمال(10/156)
ليست خالق المخلوقات ولا وجود لها، ولو قدر وجودها فهي من أنقص الذوات، بل كل حيوان أكمل منها، فإنا نعلم بصريح المعقول أن الحي أكمل مما ليس بحي، والعالم أكمل مما ليس بعالم، والقادر أكمل مما ليس بقادر.
وقول القائل: لو قدر له ما يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة قول باطل من وجوه.
أحدها: أن ذاته المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، أو نقول: لا نعلم ثبوتها، أو نعلم أن الذات المجردة عن الكمال معدومة.
ولفظ ذات لفظ مولد، وهو تأنيث ذو، ومعنى ذات: أي ذات علم، وذات قدرة، وذات حياة.
فتقدير ذات بلا صفات، تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة.
ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجوليقي النطق بهذا اللفظ، وقالوا: هذا مؤنث، والرب لا يجري عليه إسم مؤنث، ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم، أو حقيقة ذات علم.
وفي الجملة فتقدير الذات ذاتاً مجردة عن الصفات، هو الذي أوقعه في هذه الخيالات الفاسدة.(10/157)
وقوله: الذات من حيث ذاته: إن أراد به أن الذات من حيث هي لا صفة لها، فهذه لا وجود لها، فصلاً عن أن تكون كاملة.
وإن أراد من حيث حقيقتها الموجودة، فهي من تلك الجهة لا تكون إلا متصفة بصفات الكمال.
قوله: وهذا كما قلت في السمع والبصر والعلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه إلى قوله: وهذا لا مخرج منه.
فيقال: لا ريب أنه لا مخرج لابن سينا من هذا الإلزام، فإنه إذا لم يكن عنده عدم العلم بالجزئيات نقصاً، كذلك عدم العلم بالكليات.
وإن قال: عدم علمه بها كمال، أمكن منازعوه أن يقولوا: نفي علمه بالثابتات كمال.
وإذا قال: أنا نفيت عنه، لأن إثباته يفضي إلى التغير.
قالوا له: ونحن نفينا ذاك لأنه يفضي إلى التكثر.
فإذا قال: ذاك التكثر ليس بممتنع.
قيل له: وهذا التغير ليس بممتنع.
وذاك أنه جعل التكثر في الإضافات، فإن كان هذا حقاً، أمكن أن يقال بالتغير في نفس الإضافات.(10/158)
وذلك أنه إن قال: إن نفس العلم إضافة، فالتكثر والتجدد في العلم إضافة.
وإن قال: بل هو صفة مضافة، والتكثر في المعلوم لا في العلم، بل يعلم بعلم واحد جميع المعلومات، كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما.
قيل له: والتغير في المعلوم لا في العلم، لأن العلم واحد لا يتعدد، فضلاً عن أن يتغير.
وإن قال: هذا باطل، فإن العلم بأن سيكون الشيء، ليس هو العلم بأن قال قد كان.
قيل له: وكذلك العلم بالسماء، ليس هو العلم بالأرض.
وأنت تقول أبلغ من ذلك، تقول: ليس العلم إلا العالم، بل تقول: العلم والعالم شيء واحد.
ومعلوم أن هذا القول أبعد عن المعقول، من قول من قال: العلم بالمعلومات شيء واحد.
فإن هذا يقول: إن العلم ليس هو العالم ولا هو المعلوم، بل هو صفة للعالم.
ولا ريب أن ابن سينا يتناقض في هذه المواضع.
فتارة يجعل العلم زائداً على الذات العالمة، وتارة لا يقول بذلك.
أبت
كلام ابن سينا في الإشارات ورد ابن تيمية عليه
فإنه قال: لما رد على من قال باتحاد العاقل بالمعقول: فيظهر(10/159)
لك من هذا أن كل ما يعقل، فإنه ذات موجود، تتقرر فيها الجلايا العقلية، تقرير شيء في شيء آخر
فصرح بأنه يتقرر في ذات العاقل الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر، وهذا خلاف قول: العاقل والمعقول والعقل شيء واحد.
والمقصود قبول ما يقوله من الحق، وهو ما أثبته من كون الرب عالماً بالأعيان الثابتة، وبيان صحة حجته على ذلك.
وأما ما نفاه من علمه بالجزئيات، فحجته على نفيه ضعيفة.
وقد بين أبو حامد وأبو البركات وغيرهما، أنه يلزمهم القول بعلمه بالجزئيات، وبينوا فساد ما نفوا به ذلك.
قال ابن سينا: إشارة: الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات، من حيث تجب بأسبابها، منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه يتخصص به، كالكسوف الجزئي، فإنه قد يعقل وقوعه بسبب توافق أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها، ويعقلها كما يعقل الجزئيات، وذلك غير الإدراك الجزئي الزماني لها، الذي يحكم أنه(10/160)
وقع الآن، وهو قبله، أو يقع بعده، بل مثل أن نعقل أن كسوفاً جزئياً يعرض عند حصول القمر، وهو جزئي ما، وقت كذا، وهو جزئي ما في مقابلة كذا.
ثم ربما وقع ذلك الكسوف، ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع، أو لم يقع.
وإن كان معقولاً له على النحو الأول، لأن هذا إدراك آخر جزئي، يحدث مع حدوث المدرك، ويزول مع زواله.
وذلك الأول يكون ثابتاً الدهر كله، وإن كان علماً بجزئي، وهو أن العاقل يعقل أن بين كون القمر في موضع كذا، وبين كونه في موضع كذا، يكون كسوف معين في وقت من زمان أول الحالين محدود.
عقله ذلك أمر ثابت قبل الكسوف ومعه وبعده.
هذا لفظه.
قلت: وهذا الذي ذكره إنما يتأتى في الأمور الدائمة عنده، كالشمس والقمر والكواكب والأفلاك، فإنه يعلمها بأعيانه، فإنها دائمة.
وأما الأمور المتجددة، مثل حركاتها، ومثل الكسوف والخسوف، والإهلال والإبدار، ومثل أشخاص الناس والحيوان، فهذه لا يتصور أن يعقلها إلا على وجه كلي، مثل أن يعلم أنه في كل شهر يحصل إهلال وإبدار، وفي كل سنة يحصل صيف وشتاء.
فأما العلم بإهلال معين(10/161)
وإبدار معين وكسوف معين، فهذا جزئي حادث كائن بعد أن لم يكن زائل بعد ما كان، فإن علمه بعينه لزم ما حذروه من التغير في علمه، فإنه إذا علمه قبل وجوده، علمه معدوماً سيوجد، ثم إذا وجد علمه موجوداً.
ثم إذا زال علمه معدوماً قد كان، وهذا الذي فروا منه.
ولو علم الجزئيات بأعيانها بعلم ثابت، لزم وجود ما لا نهاية له من المعقولات دائماً في ذاته.
وأما قوله: مثل أن يعقل أن كسوفاً جزئياً يعرض عند حصول القمر، وهو جزئي وقت كذا، وهو جزئي في مقابلة كذا، ثم ربما وقع ذاك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع، وإن كان معقولاً له على النحو الأول، لأن هذا إدراك آخر جزئي، يحدث مع حدوث المدرك، ويزول مع زواله، وذلك الأول يكون ثابتاً الدهر كله، وإن كان عالماً بجزئي.
فيقال: هذا الكسوف المعلوم أهو كسوف واحد بالعين أم بالنوع؟ فالأول أن يعلم أن الشمس تكسف في برج الحمل في السنة الفلانية سنة الطوفان.
والثاني أن يعقل أنها كلها إن حصلت في برج كذا على وجه كذا كسفت.
فإن قيل: إنه كسوف معين، فهذا إذا كان عقله ثابتاً أبداً، يكون(10/162)
قد عقل قبل وجوده.
وحينئذ يكون معدوماً لا موجوداً، والعلم بأنه موجود جهل، والعلم بأن سيوجد هو الذي فروا منه.
وإن قالوا: نعلم أنه إذا حصل الشيء المعين الجزئي حصل الكسوف، وإن لم نعلم متى يحصل ذاك.
قيل: فمثل هذا لا يكون إلا إذا كان المعلوم كلياً، وهو أن نعلم أنه إذا حصل ذلك الأمر المعين على الوجه المعين حصل الكسوف، وهذا العلم كلي لا جزئي.
ففي الجملة الجزئي لا يكون جزئياً إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا إذا لم يكن أمراً ثابتاً، بل أمراً حادثاً، فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين.
وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته، وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف، فهذا كلي.
وإن علم أنه لا بد أن يحصل، فإنه كلي من حيث الزمان، فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه، فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
وقولهم مع هذا: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، مغالطة بل لم يعلم شيئاً من الأمور المعينة الحادثة البتة، بل هو عازب عنه، لا يدري أكان أم لم يكن، فإن نفس تصور الكلي من(10/163)
حيث هو كلي، لا يفيد تصور المعينات، والوجود ليس فيه إلا المعينات، فلا يكون تصور شيئاً من المعينات الحادثة.
lأمر أمر
كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه
وقد بين ذلك شارحو كلامه فقال الطوسي: يريد التفرقة بين إدراك الجزئيات على وجه كلي لا يمكن أن يتغير، وبين إدراكها على وجه جزئي يتغير بتغيرها، ليبين أن الأول تعالى، بل كل عاقل، فهو إنما يدرك الجزئيات من حيث هو عاقل على الوجه الأول دون الثاني.
وإدراكها على الوجه الثاني لا يحصل إلا بالإحسان أو التخيل، أو ما يجري مجراهما من الآلات الجسمانية.
قال: وقبل تقرير ذلك نقول: كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها.
فلا تدخل التصديقات في ذلك يعني بذلك أن التصديق إنما يكون كلياً أو جزئياً باعتبار ما فيه من التصور: هل هو جزئي أو كلي؟.
قال: فإن قولنا: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت، جزئي.
وقولنا: الإنسان يقول القول في وقت، كلي.
ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان، والقول، والوقت، والجزئية بالكلية.(10/164)
ولقائل أن يقول: بل نفس النسبة لا تكون جزئية وكلية، فإنه إذا قيل: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان الجميع جزئياً.
وإذا قيل: يقول أقوالاً حسنة، أو يقول هذا القول دائماً، كان الثاني كلياً، فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة فيه.
فإن قلت: المحمول، الذي هو خير المبتدأ عن أحدهما، قول معين، وفي الآخر قول مطلق، فالجزئية والكلية إنما وقعا في التصورين.
قيل إن أريد ذلك لم يكن لنا تصديق غير التصورات، فلا حاجة إلى نفي الكلية عنه.
ولكن المعروف أن هذا القول هو الخبر المحمول على المبتدأ المخبر به عنه، وهو قول معين جزئي، ونسبته إليه هو التصديق المغاير للتصورين، فإن التصديق يراد به الجملة كلها، فيكون التصور بعضه بعينه، ويراد به النسبة الحكمية، فيكون التصور شرطاً فيه.
وإذا أريد به هذا فنسبة القول المعين إلى المعين تصديق، فإن عنيت النسبة من جميع الوجوه، بحيث يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها، فهي جزئية، وإن لم يمنع ذلك فهي كلية.
مثل كونه يقوله دائماً، أو الإخبار عنه بأنه يقوله في وقت ما، فإن هذا لا يمنع كونه يقوله في هذا الوقت وفي غيره، بل لا يمنع أن يقوله بالعربية وبالعجمية، فهو كلي بالنسبة إلى العربية والعجمية.
وبالجملة فما لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو كلي، سواء كان احتمال الشركة لدخوله أشخاصاً أو أزمنة أو أمكنة أو لغات أو غير(10/165)
ذلك من الأمور، وهذا مما يبين أنه من لم يقل أن الرب يعلم الجزئيات، فإنه يلزمه أن لا يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ما من موجود إلا وهو متميز عن غيره بحيث يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
ولهذا لم يمنع ابن سينا كونه يعلم الجزيئات الثابتة الدائمة على أصله، كالسموات والنجوم، وإنما منع علمه بالمتغيرات، فراراً من قيام الحوادث به، مع أن أساطين من أساطين الفلاسفة، ومن وافقهم من المتأخرين، يقولون: إنه تقوم به الحوادث، ولا حجة له على نفي ذلك أصلاً، إلا ما ينفي به قيام الصفات، وإثباته للعلم يستلزم إثبات الصفات كما تقدم بيانه، فعلم أن إثباته للعلم بالكليات دون الجزئيات في غاية التناقض.
قال الطوسي: وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه، وما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل، ولا يتناولها البرهان والحد، بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها، وما يجري مجراها من المخصصات، التي لا سبيل إلى إدراكها إلا بالحس وما يجري مجراه، فإن أخذت تلك الطبيعة مجردة عن تلك المخصصات، صارت كلية يدركها العقل، ويتناولها البرهان والحد،(10/166)
وكان الحكم المتعلق بها -حين كونها جزئية- باقياً بحاله، اللهم إلا أن يكون الحكم متعلقاً بالأمور المخصصة من حيث هي مخصصة.
قال: وإذا ثبت هذا فنقول: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع.
يعني طبائع كلية وأدراك أحوالها الجزئية وأحكامها، كتلاقيها وتباينها، وتماسها وتباعدها، وتركبها وتحللها، من حيث هي متعلقة بتلك الطبائع، وأدرك الأمور التي تحدث: معها وبعدها وقبلها، من حيث يكون الجميع واقعاً في أوقات يتحدد بعضها ببعض، على وجه لا يفوقه شيء أصلاً، فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع كلياته وجزئياته الثابتة، والمتجددة المنصرفة، الخاصة بوقت دون وقت، كما عليه الوجود، غير مغادر إياها بشيء، وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر، لو حصلت في الوجود، مثل هذا العالم بعينه، فتكون صورة كلية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها، غير متغيرة بتغيرها.
هكذا يكون إدراك الجزئيات على الوجه الكلي.
فيقال: فعلى هذا التقدير لا يكون الرب عالماً بشيء من هذه الأمور(10/167)
الموجودة، ولا فاعلاً لها، إذا كان علمه بها هو إبداعه لها، فإن العلم بالجزئيات، على هذا الوجه الكلي، لا يتضمن العلم بشيء من المعينات، ولا يكفي هذا العلم في وجودها، فضلاً عن أن يكون هو إيجادها.
فإنا إذا علمنا أن بني آدم لا بد أن تحصل لهم شهوة الأكل فيأكلون، وإذا أكلوا فلا بد أن تحصل لهم فضلة فيتغوطون، ولا بد أن تحصل لهم شهوة النكاح فيجامعون، ولا بد أن يحصل إنزال وحبل، فتحبل النساء ويلدن، ولا بد أن يموتوا -كان هذا علماً كلياً يتضمن أنه لا بد من وجود أكل وتخل، ونكاح وإنزال، وحبل وولادة وموت، بحيث لو قيل: إن في الآدميين من لا يموت، أو من لا يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك- كان ذلك العلم الكلي مناقضاً لهذا القول.
ولو قيل: إنه لم يبق من ينكح ويحبل، ويلد ويموت، كان ذلك العلم الكلي دافعاً لهذا القول، كما إذا علمنا أن نبياً لا يخبر إلا بالصدق، وعلمنا أنه أخبر بأخبار لا نعرف أعيانها -علمنا أنها كلها صادقة، ولم يكن في مجرد هذا العلم الكلي علم شيء منها.
وإذا علمنا أن كل دليل شرعي دل على الإيجاب أو التحريم، وجب إثبات موجبه من الإيجاب أو التحريم، كان هذا علماً كلياً، ولم يكن فيه علم بشيء من أعيان الأدلة الشرعية، ولا بالأحكام المعينة الشرعية.(10/168)
وإذا علمنا أن الإهلال لا يكون إلا في أول الشهر، والإبدار لا يكون إلا في وسطه، وأن كسوف الشمس لا يكون إلا عند الإجتماع قبل الإهلال، وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض في الإبدار -لم يكن في مجرد هذا العلم ما يوجب أن يعلم: هل الهلال طالع في هذا الوقت أم لا؟ وهل هو مبدر أم لا؟ وهل هو خسوف أم كسوف أم لا؟
وكذلك إذا علمنا أن الشمس تدور ما بين رأس السرطان والجدي، لا يصعد هذا غاية صعودها، وهذا غاية هبوطها، وفي صعودها يكون الصيف، وفي هبوطها يكون الشتاء، ونحن لا نعلم هل هذا الوقت صيف أو شتاء، وهل هي صاعدة أو هابطة -لم يكن في هذا العلم الكلي ما يفيد معرفة ما وجد في الخارج من أحوالها، لكن فيه أنها لا تخرج عن هذا القانون الكلي، وهكذا سائر العلوم الكلية.
لكن العلم بجميع حوادث الوجود على الوجه الكلي، أعم من العلم ببعض حوادثه.
ومع ذلك فليس في ذلك علم بشيء من الموجودات الحادثة.
وأيضاً فمجرد هذا العلم الكلي لا يكفي في وجود المعينات، فالمعين لا يوجد إلا بتصور معين وإرادة معينة، وإلا فمن أراد أن يكرم الأبرار، ويعاقب الفجار، ويقبل شهادة العدول، ويرد شهادة أهل الزور، وهو لا يعرف أعيان هؤلاء وهؤلاء -لم يمكنه فعل شيء من ذلك الأمر الكلي الذي عزم.(10/169)
ومن أراد أن يأكل طعاماً، ويلبس ثوباً، وليس له قصد من طعام بعينه، وثوب بعينه، إن لم يحصل له طعام معين، وثوب معين، بحيث تكون له إرادة معينة وتصور معين -امتنع أن يأكل ويلبس، لكن قد يكون قصده للمعين، هو لكونه هو الميسور المقدرور عليه، ولو حصل غيره لقام مقامه، ليس له إرادة في أحدهما دون الآخر، إلا لكونه هو الذي تيسر وقدر عليه، فهنا يكون سبب تعين الإرادة هي القدرة.
وكذلك من قصده أن يعطي الزكاة للأنواع الكلية التي ذكرها الله في كتابه، وليس له غرض في شخص بعينه، فهو يعطي من علم أنه منهم، ومن أمكنه أعطاه.
ومن أراد شخصاً معيناً، فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة، لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة، لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن -فكانت إرادته لمعين.
وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله، فهو يقصد الطهارة بماء، أي ماء كان، وهذه إرادة كلية، ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين، يتصور تصوراً معيناً، ويريد التطهر به إرادة معينة.
وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة، وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو، ومن قصده أن يشتري طعاماً من(10/170)
شخص، وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله، ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق، وأمثال ذلك.
فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمراً مطلقاً كلياً، ليس غرضهم شخصاً بعينه، لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئاً معيناً، وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة، لا يفعلون شيئاً، إذ المطلق لا وجود له في الأعيان، فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كلياً قط، فمن لم يعلم إلا الكليات، لم يمكنه أن يفعل شيئاً قط، ولا يكون عالماً بشيء من الموجودات، فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي.
فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئاً من الموجودات، بل ولا فعل شيئاً من الموجودات.
وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه، كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول.
وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها، لا يصح استثناؤها، فإن تلك أيضاً حادثة على القول الحق، ويلحقها التغير كما يلحق غيرها، فيجب أذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها، وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية، فهي مستلزمة للتغيرات، أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة، وأما المعقول فلا حقيقة لها، وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم.
وقد تقدم أصله: أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها، والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة،(10/171)
فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه.
وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة، لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه.
ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية، مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به، ونهيه عما نهاه الله عنه، إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها، لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه.
وهذا الذي يسمى تحقيق المناط.
إذا تبين هذا، فقول القائل: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع إلى آخره.
يقال له: أتريد أنه أدركها كلية، مثل أن يدرك أن في العالم حاراً وبارداً، وأنهما يلتقيان على وجه كذا؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة؟.
فإن أردت الأول، لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات.
وإن أردت الثاني، فإنه يلزم من العلم بها، العلم بلوازمها، كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها.
وليس في المعينات إلا ما هو معلولها(10/172)
ولوازمها، فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين، ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره، سواء كان من الكل المتصل أو المنفصل.
ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عدداً، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، وهي الموجب، والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه.
وهم يسمونه علة، وهو إنما يوجد شيئاً معيناً، لا يوجد شيئاً كلياً، إذ الخارج ليس فيه شيء كلي، فيجب أن يكون عالماً بكل شيء جزئي، كما انه خالق لكل شيء جزئي.
وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية، فلا منافاة بين هذا وهذا، بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات، فالخالق أولى بذلك.
وقوله: إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل.
فيقال لهم: لا ريب أن الله سميع بصير، يسمع ويرى، سبحانه وتعالى.
وقد روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143] ، ونحو ذلك.
قال: إلا(10/173)
لنرى.
ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية، فإن المعدوم لا يرى، بخلاف الموجود، وإن كانت الرؤية تتضمن علماً آخر.
وقال الطوسي في شرح كلام ابن سينا: قوله: الأشياء الجزئية قد تعقل، كما تعقل الكليات، إشارة إلى إدراكها من حيث هي طبائع مجردة عن المخصصات المذكورة، وقيدها بقوله: من حيث تجب بأسبابها ليكون الإدراك لتلك الأشياء، مع كونه كلياً يقينياً، غير ظني.
ثم قال: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه: أي منسوبة إلى مبدأ، طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك، لا أنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره.
والمراد أن تلك الأشياء إنما تجب بأسبابها، من حيث هي طبائع أيضاً.
ثم قال: تتخصص به أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي، من حيث هو(10/174)
جزئي، لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية، ولا الطبيعة علة له من حيث هو كذلك.
قال: وقوله: إن العاقل لأن بين كون القمر في موضع كذا إلى آخره، معناه: أن من يعقل أن بين كون القمر في أول الحمل مثلاً، وبين كونه في أول الثور يكون كسوف معين في وقت محدود من زمانه كونه في أول الحمل، كالوقت الذي سار فيه القمر من أول الحمل عشر درجات، فإنما يكون تعقل ذلك العاقل لهذه الأمور أمراً ثابتاً قبل وقت الكسوف ومعه وبعده.
فيقال له: هذا الذي تصور هذا الكسوف تصور أنه يكون في عام معين، أو تصوره مطلقاً، كتصوره أنه إذا كان في عشر درجات من الحمل، مع أمور أخرى، يكون كسوف.
فإن كان الأول، فذاك كسوف جزئي معين.
وتصوره يكون قبله ومعه وبعده.
وإن كان الثاني، فهذا يكون محققاً تارة، ومقدراً أخرى.
أما المقدور، فأن يعلم أنه كلما حصل القمر في موضع كذا، والشمس في موضع كذا، حال القمر بين نور الشمس وبين الناس فانكسفت.
ولكن هذا ليس فيه علم بوقوعه لا مطلقاً ولا معيناً.(10/175)
والثاني أن يعلم أنه لا بد أن تقع هذه المحاذاة بين الأرض والقمر والشمس، وإنما تقع إذا كان كذا.
فهذا علم كلي، لا يعلم به شيء من الكسوف الموجود.
ثم يقال: والعلم بهذا ممتنع، إن لم يعلم الكسوفات الجزئية.
وذلك أن أسباب الكسوفات حركات أجسام معينة في أوقات محدودة.
والعلم بمجموع ذلك يوجب العلم بكل كسوف جزئي، والعلم به قبل وقوعه ومع وقوعه وبعد وقوعه، فلا يتصور مع العلم بأسباب الحوادث، أن يعلم علم كلي، إلا وتعلم الجزيئات الواقعة، وإلا فلا يكون العلم بجميع الأسباب حاصلاً.
ولهذا لما كنا لا نعلم عامة الأسباب لم نعلم ما يكون، وإذا علمنا أسباب شيء، علمنا وقوعه قبل وقوعه ومعه وبعده، كمن علم أنه سيبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث إذا كانت أمور، فإذا علم أنها لم تكن، علم أنه لم يبعث، وإن علم أنها كانت، علم أنه بعث.
وكثير مما يتكلم فيه الناس من مقدمة المعرفة، يكونون قد علموا جزء السبب، ولم يعلموا تمام السبب، ولا علموا مانعه، فيصيبون أحياناً، ويكون خطأهم أكثر من صوابهم، لأن ما فاتهم من العلم بتمام السبب والموانع أكثر مما علموه.
وقد تقدم قول ابن سينا: قد تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه من يخصه يتخصص به.
وقد قال في شرحه: أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك(10/176)
المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية.
فيقال: هذا الكلام بين في أنها لا تعقل على هذا الوجه إلا جزئية لا كلية، لأنها إذا عقلت من حيث يجب بسببها المعين الجزئي، لزم أن تعقل جزئية.
وأما إذا عقلت من حيث تجب بسبب كلي عقلت كلية، لكن رب العالمين هو واحد معين، ليس أمراً مطلقاً كلياً، فهو يعلم نفسه علماً معيناً، يمنع من وقوع الشركة فيه، لا يعلمها علماً كلياً، لا يمنع من وقوع الشركة فيه.
وحينئذ فيعلم كل ما صدر عنه على هذا الوجه، وقوله: انحصر نوعه في شخصه دليل على ذلك.
وقول الطوسي: قوله: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه، ذلك لأنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره، إنما تستقيم في طبائع المخلوقات.
وأما الخالق تعالى فلا يجوز أن تكون صفته ثابتة لغيره.
والكلام إنما هو في أن علمه بنفسه يوجب العلم بالمخلوقات، وبه تجب الممكنات، وليس في الأسباب ما يوجب شيئاً من الممكنات، إلا وهو سبحانه وتعالى، وكل ما سواه فإنما يوجب بشركة من غيره، وهو سبحانه لا شريك له.
ثم كيف يتخصص بالمبدأ إن لم يكن مختصاً، كما تقدم؟.
ففي الجملة كل حجة يذكرونها هم أو غيرهم -على علمه بشيء من الأشياء، يدل على علمه بالجزئيات.(10/177)
وقول القائل: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، كلام متناقض، يستلزم أنه لم يخلق شيئاً ولا يعلم شيئاً من الموجودات.
وقوله مع ذلك إنه: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، تلبيس منه، كقولهم: العالم محدث، يريدون به أنه معلول مع قدمه، وإلا فكل ذرة من ذرات المحدثات عازبة عنه عندهم.
وكونها تجب وصف كلي باق أزلاً وأبداً، لا يوجب العلم بها كما ذكروه.
ومضمون كلامه أنه يعلم ولا يعلم، فهو كلام متناقض.
ثم الأدلة الدالة على علمه تستلزم علمه بالجزئيات، وليس لابن سينا ما يبطل ذلك، إلا كون ذلك يفضي إلى تغير العلم، لكونه يعلم أن سيكون الشيء، ثم يعلم أنه قد كان، وهذا إن أبطله من جهة أنه نقص في العلم فهو باطل، فإن هذا هو علم للشيء على ما هو عليه، فإنه علمه معدوماً لما كان موجوداً، وعلم أنه سيوجد، ثم لما وجد علمه موجوداً، ثم إذا عدم بعد ذلك علم أن قد كان ثم عدم.
فهذا هو العلم المطابق للمعلوم، وما سوى ذلك فهو جهل لا علم وإن أنكره من جهة أنه يحدث تحول العلم بتحول المعلوم، وأن ذلك تغير -فقد عرف قول المانعين من هذا الأصل، وأنه في غاية الضعف والفساد، مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، لا سيما ومن منع ذلك، من الجهمية ومن اتبعهم، إنما منعوه لاعتقادهم أن ذلك ينافي القدم.
وابن سينا وإخوانه يجوزون قيام الحوادث بالقديم، فلا حجة لابن سينا وأتباعه في منعه، إلا حجتهم في نفي الصفات.
وإثبات العلم(10/178)
بالمعلومات المفصلة الثابتة بأعيانها، مستلزم لثبوت الصفات كما تقدم بيانه وإقرار أصحابه بذلك، وحينئذ فلا حجة لهم في نفي ذلك أصلاً.
والله تعالى قد أخبر في كتابه بعلمه بما سيكون، كالأمور التي أخبر بها قبل كونها، فعلم أنه يعلم الأشياء قبل وجودها، وأخبر أنه إذا وجدت علمها أيضاً.
كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] .
وفي القرآن من هذا بضعة عشر موضعاً.
وقد روي عن ابن عباس وغيره: إلا لنرى.
وقال طائفة من المفسرين: إلا لنعلمه موجوداً.
رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية
ونحن نذكر كلام أبي حامد عليهم قال: مسألة في إبطال قولهم: إن الله -تعالى عن قولهم- لا يعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون.
قال: وقد اتفقوا على ذلك.
قلت: يعني اتفاق من عرف قوله منهم، وهم الذين ذكرهم ابن سينا، وإلا فأبوا البركات قد حكى عنهم قولين، واختار هو أنه يعلم الجزئيات.
قال أبو حامد: فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه،(10/179)
فلا يخفى هذا من مذهبه.
ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، وهو الذي اختاره ابن سينا، فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.
فلا بد أولاً من فهم مذهبهم، ثم الاشتغال بالاعتراض، ونبين هذا بمثال، وهو أن الشمس مثلاً تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تنجلي، فتحصل له ثلاثة أحوال: أعني للكسوف حال هو فيها معدوم منتظر الوجود، أي سيكون.
وحال هو فيها موجود، أي هو كائن.
وحال ثالثة هو فيها معدوم، ولكنه كان من قبل.
ولنا بإزاء هذه الأحوال ثلاثة علوم مختلفة، فإنا نعلم أولاً: أن الكسوف معدوم وسيكون، وثانياً: أنه كائن، وثالثاً: أنه كان، وليس كائناً الآن.
وهذه العلوم الثلاثة متعددة ومختلفة، وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة، فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كما(10/180)
كان قبل، كان جهلاً لا علماً.
ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جاهلاً، فبعض هذه لا يقوم مقام بعض.
فزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يؤدي إلى التغير، وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة، فإن العلم يتبع المعلوم، فإذا تغير المعلوم تغير العلم، وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة، والتغير على الله محال.
ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف، وجميع صفاته وعوارضه، ولكن علماً يتصف به في الأزل والأبد، لا يختلف.
مثل أن يعلم مثلاً أن الشمس موجودة، وأن القمر موجود، وأنهما حصلا منه بوساطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولاً مجردة، ويعلم أنها تتحرك حركات دورية ويعلم أن بين فلكيهما تقاطعاً على نقطتين: هما الرأس والذنب، وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فتنكسف الشمس، إذ يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين، وتستتر الشمس عن الأعين، وأنه إذا جاوز العقدة مثلاً(10/181)
بمقدار كذا، وهو سنة مثلاً، فإنه تنكسف مثلاً، وأن ذلك الانكساف يكون في جميعها أو ثلثها أو نصفها، وإنه يمكث ساعة أو ساعتين، وهكذا إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه، فلا يعزب عن علمه شيء.
ولكن علمه بهذا قبل الكسوف، وحال الكسوف، وبعد الانجلاء، على وتيرة واحدة، لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته، وكذا علمه بجميع الحوادث، فإنها إنما تحدث بأسباب، وتلك الأسباب لها أسباب أخرى، إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية، وسبب الحركة الدورية نفس السماوات.
وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين، والكل معلوم له، أي ينكشف له انكشافاً واحداً متناسباً، لا يؤثر فيه الزمان.
ومع هذا فحال الكسوف لا يقال: إنه يعلم أن الكسوف موجود الآن، ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن، وكل ما يجب في(10/182)
معرفته الإضافة إلى الزمان، فلا يتصور أن يعلمه، لأنه يوجب التغير.
وهذا فيما ينقسم بالزمان.
وكذا مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان، كأشخاص الناس والحيوانات، فإنهم يقولون: لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد، وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي، ويعلم عوارضه وخواصه، وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركباً من أعضاء: بعضها للبطش، وبعضها للمشي، وبعضها للإدراك، وبعضها زوج، وبعضها فرد، وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه، وهلم جراً، إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه، وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه، حتى لا يعزب عن علمه شيء، ويعلمه كلياً.
فأما شخص زيد، فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل، فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية، والمكان الكلي.
فأما قولنا: هذا وهذا، فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس، بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة، وذلك يستحيل في حقه.(10/183)
قال الغزالي: وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية، إذ مضمونها أن زيداً مثلاً، لو أطاع الله أو عصاه، لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله، لأنه لا يعرف زيداً بعينه، فإنه شخص، وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن، وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله، بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه، وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً كلياً، لا مخصوصاً بالأشخاص، بل يلزم أن يقال: تحدى محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة.
وهو لم يعرف في تلك الحال أنه تحدى بها، وكذلك الحال مع كل نبي معين، وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة، وأن صفة أولئك كذا وكذا.
فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه، فإن ذلك يعرف بالحس، والأحوال الصادرة منه لا يعرفها، لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين، ويوجب إدراكها على اختلافها تغيراً.
قال: فهذا ما أردنا أن نذكر من نقل مذهبهم أولاً، ومن(10/184)
تفهمه ثانياً، ثم نبين ما فيه من القبائح اللازمة عليه ثالثاً.
قلت: قبائح مذهبهم أعظم وأكثر مما ذكره أبو حامد من وجوه كثيرة.
ومضمون حجتهم أن علم الرب بأحوال عباده يستلزم تنوع علمه بهم لتنوع المعلوم، وأن ذلك تغير يمتنع على الله، ولم يقيموا على امتناع مثل هذا المعنى حجة صحيحة: لا شرعية ولا عقلية.
ولفظ التغير فيه إجمال، كما ذكرناه في غير هذا الموضع.
والتغير الممتنع ما يكون فيه استحالة تتضمن نقصاً.
وأما ما ذكره من كون العلم يطابق المعلوم، فيتنوع بتنوع حاله فهو صفة كمال، وإلا كان العلم جهلاً.
وأما إذا سموا هذا تغيراً وادعوا أن ما دخل في هذا الاسم وجب نفيه، فهو كتسميتهم إثبات الصفات تركيباً، ودعواهم أن ما يدخل في ذلك يجب نفيه.
والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ.
والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم.
وليس في كلام الله ورسوله، ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ما ينفي هذا المعنى الذي سموه تركيباً وتغيراً، بل النصوص المتواترة التي جاءت بها الأنبياء عن الله، كلها تدل على إثبات ما نفوه من هذه المعاني، ولو لم يكن إلا إثبات علمه بكل شيء علماً مفصلاً.(10/185)
وهذا القرآن فيه من إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص المعين، وكلامه المعين، وفعله المعين، وثوابه وعقابه المعين، مثل قصة آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، وغيرهم.
ما يبين أنهم من أعظم الناس تكذيباً لرسل الله تعالى.
وكذلك أخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى ببدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، والحديبية، وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالاً وأفعالاً.
وأخباره أنه يعلم السر وأخفى، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى وعنده كتاب حفيظ، وأنه يعلم ما في السموات والأرض، وأن ذلك في كتاب.
وأنه ما: {تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] .
وأنه يعلم ما: {تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار*عالم الغيب والشهادة} [الرعد: 8-9] .
وأنه: {عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} [لقمان: 34] .
وأنه: {قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] .
وأنه: {يعلم ما يسرون وما يعلنون} [النحل: 23] .
وأنه: {أعلم بما يقولون} [طه: 104] .
إلى أمثال ذلك مما يطول ذكره في كتاب الله تعالى.(10/186)
ثم من أعظم الضلال والجهل أن ينفي النافي علم رب العالمين.
بمخلوقه، لكون ذلك يستلزم ما يسمونه تغيراً وحلول حوادث.
ثم نفي هذا المعنى لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، وإنما يوافقهم عليه الجهمية.
ومن تلقاه عن الجهمية من الكلابية ونحوهم، فلا يقر بنفي ذلك إلا من هو من أهل الكلام المبتدع المذموم المحدث في الإسلام، ومن تلقاه عنهم جهلاً بحقيقته ولوازمه.
وإذا كان علم الرب مستلزماً لهذا، كان هذا من أعظم البراهين على ثبوته، وخطأ من نفاه شرعاً وعقلاً، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول إثبات العلم بكل شيء من الأعيان.
فإذا تبين بصريح العقل أن ذلك يستلزم قيام هذه المعاني بالرب، لزم القول بذلك، كيف والقرآن قد دل على أنه يعلم الشيء بعد كونه، مع علمه بأن سيكون، في بعض عشرة آية، وقد ثبت بالدلائل اليقينية أنه يعلم كل ما فعله، وأنه بكل شيء عليم.
وهو مقتضى حجتهم.
وأما زعمهم مع هذا أنه يعلم الكسوف، وجميع صفاته وعوارضه.
فيقال لهم: إن كان لا يعلم إلا كسوفاً كلياً، لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فهو لم يعلم شيئاً من الكسوفات الموجودة.
وإن علم الكسوف الموجود، فكل منها جزئي فلا يتصور أن يعلم الكسوف، إلا مع علمه بالكسوفات الجزئية.
كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول
كلام ابن سينا باطل من وجوه.
الوجه الأول
وهذا الذي قاله باطل من وجوه: من جهة دعواه أنه مع علمه بالعلة التامة لوجود كل موجود، لا يعلم شيئاً من المعلولات الحادثة،(10/187)
وإنما يعلم أمراً كلياً لم يحدث، ولا علة لوجوده، فإن الكليات لا يوجد شيء منها إلا معيناً، فالعلة الموجبة له لا توجب إلا معيناً جزئياً، فمن لم يعلمه معيناً جزئياً، لم يعلم معلول العلة التامة.
الوجه الثاني
من جهة دعواه أنه إذا علم الكسوف على الوجه الكلي، علم جميع صفاته وعوارضه، وعلى هذا فيعلم وجود الإنسان علماً كلياً، مع علمه بجميع صفاته وعوارضه، وهذا باطل.
فإن الصفات والعوارض التي يتصف بها الإنسان وتعرض له، لا يشترك فيها الإنسان، بل ما من إنسان إلا وله صفات وعوارض لا يشركه فيها غيره، كالسحنة والنغمة، فلا يشرك اثنان في سحنة ولا نغمة.
وهذا من دلائل ربوبيته، وأنه بكل شيء عليم، فيمتنع أن يعلم جميع ما يتصف به الإنسان ويعرض له علماً كلياً، وكثير من ذلك، بل أكثره، علم يختص بالواحد من الناس، جزئي لا يشركه فيه غيره، وإن كان الناس يشتركون في أن لهذا رأساً، ولهذا رأساً، ولهذا قلباً وكبداً، ولهذا قلباً وكبداً، ولهذا وجهاً، ولهذا وجهاً، فما من شيئين من ذلك يستويان من كل وجه، بل لكل من ذلك صفة تخصه.
فكيف يتصور أن يعلم تلك الخصائص من لا يعلم إلا الكليات المشتركة التي لا اختصاص فيها؟.
الوجه الثالث
أن هذه الجهات الحادثة من لوازم العلل التي يعلمها علماً تاماً.
فكيف يتصور مع علمه بالعلة التامة علماً تاماً، أن لا يعلم لوازمها؟! وكل حادث بعينه هو من لوازمها، فأحد الأمرين لازم:(10/188)
إما أن العلم بالعلة التامة لا يستلزم العلم بالمعلول، وإلا فلا يكون عالماً علماً تاماً بالعلة التامة.
وكلا المقدمتين يسلمون صحتها، فكيف يجوز أن يسلم هاتين المقدمتين، اللتين يقوم عليهما البرهان اليقيني، من ينازع في نتيجتهما اللازمة عنهما بالضرورة؟! وهل هذا إلا جهل بموجب البرهان القياسي في ذلك الذي هم دائماً يقررونه مادة وصورة؟!.
الوجه الرابع
أنهم يقولون: إن جميع الحوادث مستندة إلى حركة النفس الفلكية.
ويقولون: إن النفس الفلكية تعلم جزيئات حركات الفلك.
بل ادعى ابن سينا ومن اتبعه أنها تعلم جميع الحوادث لعلمها بأسبابها، لأن سببها هو الحركة الفلكية، والنفس الفلكية تعلم ذلك، فتعلم المعلولات المسببة عنها.
وزعموا أن هذه النفس هي اللوح المحفوظ، التي أخبرت به الأنبياء، وأن المكاشفات التي تحصل في النوم واليقظة للأنبياء وغيرهم، هي لاتصال نفوسهم بهذه النفس الفلكية.
وأبو حامد ذكر هذا المعنى موافقة لهم في طائفة من كتبه، واتبعه على ذلك طائفة من المتصوفة، وصاروا يدعون الأخذ من اللوح المحفوظ.
ومنهم من يعرف مرادهم باللوح المحفوظ، ومنهم من لا يعرف ذلك، كما وقع ذلك في كلام غير واحد من متأخري الصوفية أتباع أبي حامد والمتفلسفة.
هذا مع أن حركة الفلك ليست هي العلة التامة في حدوث الحوادث، بل يفيض من العقل الفعال ما يفيض من الصور، عند استعداد القوابل بحسب الحركة الفلكية.
فهل ما يقوله هؤلاء في علم الرب وعلم النفس الفلكية التي ادعوا أنها اللوح المحفوظ إلا من أعظم الأقوال(10/189)
تناقضاً؟! حيث جعلوا ما هو بزعمهم جزءاً لسبب للحوادث.
فادعوا أن العلم به يوجب العلم بجميع الحوادث الجزئية، ثم العلة التامة عندهم لكل شيء من حادث وغيره، قالوا: إن العلم التام به لا يوجب العلم بكل حادث، وهم في النفس الفلكية محتاجون بعد إثباتها إلى كون حركة الفلك سبباً لحدوث شيء.
وهذا إذا سلم أو قامت عليه حجة لا يمكن أن يدعى أنه علة تامة باتفاقهم، مع اتفاق أهل الملل.
فكيف يجعلون العلم بما ليس بعلة تامة للحوادث موجباً للعلم بجزئياتها؟ ويقولون: العلم التام بما هو علة لها لا يوجب العلم بها؟.
ثم إذا كانت حركة الفلك صادرة عن الرب بوسط أو بغير وسط، وهو يعلم نفسه ويعلم مفعولاته ولوازمها ولوزام لوازمها، وذلك كله من مفعولاته بوسط أو بغير وسط، فإما أن يعلمها مفصلة معينة، أو لا يعلمها مفصلة.
فإن علمها مفصلة، علم لوازمها، فعلم جميع الحوادث مفصلة معينة.
وإن لم يعلمها مفصلة، فلا ريب أن علمه بحركات الفلك أولى من علم النفس الفلكية بكل ما يحدث في الأرض.
فإن هذه أكثر اختلافاً من حركات الفلك.
فالعلم بتلك أقرب إلى العلم الكلي، وهو سبحانه أكمل في خلقه لها، ولو بواسطة من إحداث النفس الفلكية لحوادث الأرض.
ثم علم النفس الفلكية بالحركات: إما كمال وإما نقص، فإن كان نقصاً فينبغي تنزيه العالم العلوي منه، وإن كان كمالاً فخالقها أحق بذلك منها.
ثم تلك الحركات وتصورات النفس وإرادتها جميعها مفعولة(10/190)
للرب ومعلولة له على اصطلاحهم، وهو الخالق لها.
والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول، فيجب علمه بها، وإذا علمها وهي سبب الحوادث-وجب علمه بالحوادث.
ودعواهم مع عدم علمه بالجزئيات أنه يعلم كل صفة في داخل الآدمي وباطنه، وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه، حتى لا يعزب عن علمه شيء، ويعلمه كلياً-دعوى اثنان في أمر موجود في الخارج، بل ولا يتماثل شيئان من كل وجه، وإن كانا يتشابهان من بعض الوجوه.
فالعلم بما يتشابه فيه الناس علم ببعض صفاتهم الكلية، ليس ذلك علماً بجميع صفات كل واحد منهم، ولا صفة كل واحد وعوارضه تماثل الآخر من كل وجه، حتى يكون العلم بالقدر المشترك علماً كلياً يتناولهما، بل لكل واحد خصائص لا يشاركه فيها غيره.
والعلم بالقدر المشترك لا يتناول شيئاً من تلك الخصائص.
والإنسان الموجود إنما كان هو الإنسان الموجود بخصائصه، لا بالقدر المشترك بينه وبين غيره.
بل ذلك القدر المشترك إنما يكون في العلم، لا يكون في الوجود.
فمن لم يعلم إلا الكلي -وهو القدر المشترك- لم يعلم شيئاً من الموجودات البتة.
وإنما ننتفع نحن بالعلم الكلي في الأمور(10/191)
الموجودة، إذا أدرجنا الموجودات في الأمر الكلي، كما في علم الشرع والطب وغير ذلك.
فعلم الطبيب بأن السقمونيا تستخرج الصفراء، وأن الدم يستخرج بالفصد والحجامة، لا يوجب علماً بما ينتفع به الناس، إن لم يعلم أن هذا به صفراء، وهذا قد زاد به الدم.
فإذا علم المعينات مع الكليات انتفع بعلمه، وأمكن أن يكون له تأثير في الوجود، ويصير علماً فعلياً، أي هو شرط في الفعل.
فأما العلم الكلي بدون العلم بالجزيئات التي يفعلها الفاعل، فلا يكون علماً فعلياً، ولا يؤثر في وجود شيء ولا في فعله.
وبهذا يتبين أن قولهم: إن علم الرب تعالى فعلي، مع إخراج الجزئيات الموجودة عنه تناقض يعرفه من تصور القولين.
وعامة أقوال القوم متناقضة، لكن ضلالهم في مسألة العلم عظيم جداً، وهو من أقبح الكفر وأعظمه منافاة لصريح المعقول، وما فطر الله عليه عباده.
وقوله: إن شخص زيد إنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل، فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي.
فأما قولنا: هذا وهذا، فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس، بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة.(10/192)
فيقال لهم: من الذي فرق في حق الخالق تعالى بين الحس والعقل حتى وصفه بالعقل دون الحس؟ فإن كنتم تحتجون بالمعقولات التي تعرفونها، فهي تبطل هذا الفرق.
وإن كنتم تعتصمون بالشرع، فهو لم يطلق عليه اسم العقل ولا الحس، لكن قال: لفظ العلم والسمع والبصر، وبين أنه بكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، والسمع والبصر هو مما يريدونه بلفظ الحس.
فإن قلتم: أن علمه بالجزئيات المشخصة لا يمكن إلا مع رؤيته لها.
فلا محذور في إثبات رؤيته لكل مخلوق.
وإذا قلتم: هذه المحسوسات في جهة، والإحساس بها يقتضي كونها بجهة من الحاس على قرب أو بعد.
فهذا يناسب قولكم: إن ماليس في مكان ليس له نسبة إلى المكان.
وحينئذ فيقال: أنتم تعلمون أن النفس لها تعلق للشعور والتدبير بالبدن الجزئي.
فإن ذلك يستلزم أن يكون الذي يحس البدن جسماً، فالنفس جسم، وتدبير رب العالمين لمخلوقاته أعظم من تدبير النفس للبدن.
فإن النفس ليست مستقلة بتدبيره، بل لها شركاء في قوى طبيعة وأسباب خارجية.
وأما رب العالمين فلا شريك له في تدبير مخلوقاته، فيكون علمه بهم ورؤيته لهم أعظم من علم النفس ببدنها وإدراكها له، سواء سمي هذا وهذا حساً أو لم يسم.
وما شاركتم فيه الجهمية من النفي لا ينفعكم، وإنما تنفعكم الأدلة(10/193)
الصحيحة أو الشرعية.
وقد قدمنا غير مرة أنه ليس لكم دليل ينفي ما سميتموه تركيباً عن واجب الوجود، ولا ما ينفي الصفات، حتى أن الغزالي، مع نفيه لكون الرب جسماً، بين أنه لا دليل لكم على ذلك.
وأنتم تقولون: لا دليل لنفاة المتكلمين على نفي ذلك، كما قد حكي ذلك عن الفريقين في موضعه، وبين ما ذكر في حجج الفريقين من الفساد العقلي والابتداع الشرعي.
وأيضاً فإذا كان لا يعلم إلا الأمور الكلية الأزلية الأبدية التي لا تقبل التغير، فيجب أن لا يعلم أحداً من الأنبياء والرسل، ولا شيئاً مما أمروا به الناس، فإنه ليس شيء من ذلك أزلياً أبدياً، بل يجب أن لا يعرف وجود بني آدم ولا غيرهم من الحيوانات، إلا إذا ثبت أن وجود لك لازم لوجود الأفلاك.
ومعلوم أنهم ليس لهم دليل على قدم نوع من المركبات، لا الإنسان ولا غيره من الحيوانات، وإن اعتقدوا قدم الأفلاك فإن حدوث الحوادث السفلية هو عن حركات الأفلاك.
والحركات متنوعة، وتحدث فيها أشكال غريبة، فيجوز أن يكون حدوث ما حدث من الأنواع بسبب بعض الأشكال التي حدثت، ولهذا يجوز عندهم تحول المعمور من الربع الشمالي إلى الجنوبي، وغير ذلك من التغيرات العظيمة، ويجب أن لا يكون له علم بالطوفانات العامة، كطوفان نوح وغيره، لأنه من هذا الباب، بل يجب أن لا يكون عالماً بشيء من أحوال الأفلاك وغيرها، ما لم يثبت أن ذلك بعينه قديم أزلي.
وهم لا دليل لهم على قدم شيء من العالم، وإنما حججهم تدل(10/194)
على قدم نوع فعله، لا على قدم شيء بعينه من المفعولات، وقد قامت الأدلة على أن كل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل: إنه لم يزل متكلماً فاعلاً.
وعلى هذا التقدير فلا يكون عالماً بشيء من مخلوقاته، إذ كلها حادثة، وهم لا يعلمون شيئاً من المحدثات، ويجب أن لا يكون عالماً بما يتكلم به وما يفعله، مع قيام الدليل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل ولازم هذا القول أنه لم يفعل شيئاً، فإنه لا يفعل إلا بمشيئته، ولا يشاء إلا مع علمه بما يشاؤه، فإذا قدر أنه لم يعلم الفعل المعين والمفعول المعين، لزم أنه لم يفعل شيئاً، ولزم أن كل من فعل بقدرته ومشيئته كان أكمل منه، لأنه فعل بعلم وقدرة ومشيئة، وهذا في صريح العقل أكمل ممن لا يفعل شيئاً، أو ممن يفعل بلا قدرة ولا مشيئة ولا علم.
وأيضاً فإنما يجوز أن يعلم المفعولات على وجه كلي أزلي أبدي لا يتغير، أن لو كانت المخلوقات مخلوقة على هذا الوجه، ولو كان كذلك لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث، لأن حدوث الحادث بعد أن لم يكن إنما يكون عن حدوث تمام علته، وحدوث تمام العلة لا بد له من سبب حادث، وهو تمام علته التامة، حتى ينتهي الأمر إليه تعالى، فلا بد أن يحدث ما يكون تمام العلة التامة لحدوث الحوادث، فإن قدر أنه لم يعلم إلا الأمر القديم الأزلي الأبدي، امتنع أن يحدث شيئاً(10/195)
لوجهين: أحدهما: أن الحادث لا يحدث عن قديم أزلي أبدي بدون حادث.
وهذا أصلهم الذي يقولون به.
ثم نقول: إن جاز حدوث الحادث عن القديم، جاز أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، ولزم حينئذ علمه بالمحدثات.
وإن لم يجز ذلك امتنع أن يحدث عن العلة القديمة التامة شيء من الحوادث، فلا يحدث في العالم شيء.
وإذا بطل كون العالم مخلوقاً عن علة أزلية لم يحدث عنها، لزم أن الحوادث حدثت عند كمال الموجب لحدوثها، وذلك بحدوث تمام الموجب لحدوثه، وذلك يرجع إلى أمور قائمة به متعلقة بمشيئته وقدرته، وحينئذ فيجب علمه بها، لأنه من لوازم نفسه، ولامتناع وجودها بدون العلم بها.
وأيضاً فلأن الحوادث إنما هي صادرة عنه، سواء صدرت بوسط أو بغير وسط، فإن لم يكن عالماً بها على الوجه الذي حدثت عليه، لم يكن عالماً بعلتها التامة المستلزمة لحدوثها، لأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول، فإذا قدر عدم العلم بالمعلول، لزم عدم العلم بالعلة التامة، وإذا امتنع العلم بالعلة التامة، لزم أن ينتفي العلم بعلة العلة، حتى يلزم عدم علمه التام بنفسه.
وإذا قدر عالماً بنفسه، لزم علمه بكل حادث على الوجه الذي حدث عليه، ولزم علمه بكل جزئي، لأنه هو الفاعل له على هذا الوجه، وإن كان بطريق اللزوم، فإن علمه بالملزوم كفعله للملزوم، والعلم التام بالملزوم يوجب العلم بلوازمه، كما تقدم بيانه.(10/196)
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد: وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها، إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريداً له، وكذلك من شرطه أن يكون قادراً.
فأما أن يقال: إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة، وشيء لا يعقله العلماء، ولا يقنع الجمهور، الذين بلغوا رتبة الجدل، بل ينبغي أن يقال: إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] ، فإنه ليس عند الجمهور شيء يضطرهم إلى أن يقولوا: إنه مريد للمحدثات بإرادة قديمة، إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث.
وقد تبين من قولنا: إن الحوادث التي توجب الحدوث للمحل(10/197)
الذي تقوم به، هي الحوادث التي تغير جوهر الشيء، وأما تحقيق إرادة الإله فمن علم الخواص الخاص بهم، فهؤلاء أرادوا أن يفهموا الناس من الإرادة معنى غير المفهوم من معنى الإرادة المعروفة المفهومة، التي صرح بها الشرع، وهو معنى لا يفهمه الجمهور، ولا تكيفه العقول، وجعلوا ذلك أصلاً من أصول الشريعة، وكفروا من لم يقل به.
وإنما طور العلماء في هذا المقام أن يقوم البرهان عندهم أن هناك إرادة غير مكيفة لا يقال عنها: إنها إرادة قديمة يلزم عنها حادث، ولا إرادة حادثة، مثل التي في الشاهد، بل هي إرادة العقول الإنسانية مقصرة عن تكييفها، كما هي مقصرة عن تكييف سائر الصفات التي وصف بها نفسه، لأنها متى كيفت أشبهت الصفات المكيفة المحدثة، فوجب أن يصدق بجميعها بالدلائل البرهانية بلا كيف.
قلت: أما كونها إرادة ليست مثل إرادة الخلق، فهذا لا بد منه فيها وفي سائر الصفات.
هذا لا يختص بالإرادة، كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء، فصفاته كذاته.
لكن مجرد نفي هذا لا ينازعه فيه أحد، ومضمون كلامه الوقف عن الكلام في قدمها وحدوثها، لا بيان حل الشبهة، كما فعل في مسألة العلم.(10/198)
والفلاسفة الدهرية حائرون في هذا الموضع.
ومن يتكلم فيها تناقض كلامه، لفساد الأصل الذي يبنون عليه، وهو صدور الحوادث عن علة موجبة لمعلولها بوسط أو بغير وسط، فإن هذا ممتنع، بل هو جمع بين النقيضين، لأن العلة التامة لا يتخلف عنها شيء من موجبها، ولا موجب موجبها، والحوادث متأخرة، فلا يكون من موجبها ولا موجب موجبها، فجعلها من موجبها أو موجب موجبها تناقض.
فإذا كانوا حائرين في أصل صدور الحوادث عنه، فكيف في إرادته لها وعلمه بها؟.
وما ذكره من أن نفاة المتكلمين لا دليل عندهم إلا ما ذكر من أن الذي تقوم به الحوادث حادث، وما ذكره من إبطال دليلهم على ذلك، هو له ألزم.
فإن الفلاسفة يقيموا على ذلك دليلاً بحال، إلا ما ينفي الصفات مطلقاً.
وقولهم في ذلك باطل متناقض إلى الغاية، كما قد بين في موضعه.
وكلامه يتضمن إثبات الصفات.
فإذا كان من أصلهم أن القديم قد يقوم به الحادث، مع أنه تقوم الصفات بالواجب القديم، كان ما ألزمه لنفاة المتكلمين له ألزم.
قال: فإن قيل: فصفة الكلام من أين تثبت له؟
قلنا: تثبت له من قيام الصفة العلم به، وصفة القدرة على الاختراع.
فإن الكلام ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل(10/199)
عند المخاطب على العلم الذي في نفسه، ويصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه.
وذلك فعل من جملة أفعال الفاعل.
قلت: الكلام ليس هو من نفس التكليم، فليس كل متكلم مخاطباً لغيره، والنظر أولاً في إثبات كونه متكلماً، ثم في إثبات كونه مكلماً لغيره، وما ذكره إنما هو في إثبات كونه مكلماً لغيره.
ثم إنه لم يذكر إلا مجرد الإعلام والإفهام والدلالة بأي طريق كان.
وما يسمى إعلاماً وإفهاماً.
ويسمى تكليماً مع الإطلاق أو التقييد درجات.
كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، فالتكلم من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال ملك كما أرسل جبريل بالقرآن، أعظم من مجرد الإيحاء.
كما قال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] .
وقال: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] .
ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذي يسمى لسان الحال، وكل ما يسمى دليلاً فيسمى بهذا الإعتبار شاهداً ومعرفاً وقائلاً، كما قال:(10/200)
امتلأ الحوض وقال قطني
قطني رويداً قد ملأت بطني
وقالت: انساع بطنه.
وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟.
ولا يجوز أن يجعل تكليم الله من هذا الباب عند المسلمين، وقد يجعل تكليمه من هذا الباب من يقول: إنه لا يعلم الجزئيات.
والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالماً بالمدلول عليه، لكنه لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التي تدل بالطبع، مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه، مثل الحزن والفرح وكذلك صفرة الوجل وحمرة الخجل تدل على ما يعلمه المرء من فزعه وحيائه، وإن لم يقصد الإعلام بذلك.
ومن هذا الباب قول الشاعر:
تحدثني العينان ما القلب كاتم ... ولا خير في الشحناء والنظر الشزر
وقول الآخر:
والعين تعلم من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
ومن هذا الباب قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] ، فهو يعلم من السيماء(10/201)
ومن لحن القول ما لم يقصدوا الإعلام به.
وتكليم الله عند المسلمين لا يجوز أن يكون من هذا الباب، اللهم إلا عند القدرية، الذين يقولون: إن ما يحدث من علم العبد قد يحدث بدون إرادة الله.
والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال: فمنها: الإعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد، وكإشارة الأخرس، ونحو ذلك.
فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام.
وهذا هو الذي أثبته المذكور.
ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علماً فقد كلمه الله، فإنه قد نصب دليلاً أيعرفه بذلك، والله عالم به، وهو مريد لما وقع.
ولهذا قال: وقد يكون من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه، بما نصبه من الأدلة.
ومن الناس من قد يعرض عن ذلك، ولا ينظر إلا إلى ما دله، وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك مالا يعرف عليه دليلاً معيناً.
ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ، بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن، فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به.(10/202)
كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] .
وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] .
بل إيحاء النحل ليس مقتصراً على هذا، فإن ذاك أيضاً إيحاء بما يريد أن يفعل، وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام.
والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام، وقد يكون طلباً منه لفعل أو لترك: إما لمصلحته، وإما لمجرد إرادة الأمر.
وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول، والأول لا يستلزم هذا، فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء، وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به، وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام، فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم.
وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم.
والذين يقولون: إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره، خير من هؤلاء.
وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم، لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع، وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس، فإذا كان من لم يثبت لله كلاماً إلا كلاماً مخلوقاً في غيره، مع أنه حروف منظومة، من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها، فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام؟!.
وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله(10/203)
تعالى، ولكن يقولون: ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط، بل هذا يحصل لعموم الخلق.
وأما تكليمه من وراء حجاب، أو بإرسال رسول، فهذا مخصوص بالأنبياء.
وهؤلاء المتفلسفة يجعلون النبوة من جنس ما يحصل لعلماء الفلاسفة الكاملين عندهم.
ومن هذا صار كثير من متصوفة الفلاسفة يطمعون في النبوة، أو فيما هو أعلى منها عندهم، كما حدثونا عن السهروردي المقتول أنه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر.
وكذلك ابن سبعين كان يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي.
وابن عربي صاحب الفتوحات المكية كان يتكلم في خاتم الأولياء، ويقول: إنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وإن الأنبياء جميعهم يستفيدون العلم بالله من جهة هذا المسمى بخاتم الأولياء، والعلم بالله عندهم هو القول بوحدة الوجود، كما قد عرف من قول هؤلاء ويقول:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي(10/204)
ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول.
وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية، وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك.
فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي، والولي يأخذ العلم العقلي المجرد.
ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران، لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوف، أي بخطاب كان في نفسه، ليس خارجاً عن نفسه.
ويقول بعضهم كلم من سماء عقله، وأحدهم يكلم بدون هذا الحجاب، وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه.
وصاحب خلع النعلين وأمثاله يسلكون هذا المسلك.
وهؤلاء أخذوا من مشكاة الأنوار التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة، وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم.(10/205)
ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة، كانت غايته فيما أثبته من كلام الله، هو من جنس الإعلام العام، الذي يشترك فيه نوع الإنسان.
ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيماناً بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة، لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة، فيجتمع فيه الضلالان.
واليهود والنصارى آمنوا ببعض ما أنزل الله وكفروا ببعض.
كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا} [النساء: 150-151] .
لكن أولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الأنبياء والكتب، لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده، كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما، ولا يؤمنون بما فوق ذلك.
وكذلك فيما أخبرت به الرسل من الغيب: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وكذلك فيما أمروا به، فهم يؤمنون ببعض نوع الرسالة ويكفرون ببعض.
ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيراً منهم، وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه، ويكونون(10/206)
من هذا الوجه خيراً من اليهود والنصارى.
ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى، وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى.
تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد: وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي -أعني الإنسان- يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر، فإنه بالحري أن يكون ذلك واجباً في الفاعل الحقيقي.
قال: ولهذا الفعل شرط آخر في الشاهد، وهو أن يكون بواسطة، وهو اللفظ.
وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يكون الفعل من الله تعالى، في نفس من اصطفى من عباده، بواسطة ما، إلا أنه ليس يجب أن يكون لفظاً، ولا بد مخلوقاً له، بل قد يكون بواسطة ملك، وقدي كون وحياً، أي يغير لفظ يخلقه، بل يفعل فعلاً في السامع ينكشف له به ذلك المعنى.
وقد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه.
وإلى هذه الأطوار الثلاثة الإشارة بقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من(10/207)
وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] .
فالوحي هو وقوع ذلك المعنى في نفس الموحى إليه بغير واسطة لفظ يخلقه، بل بانكشاف ذلك المعنى له بفعل يفعله في نفس المخاطب.
كما قال تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 9-10] .
وقوله: {من وراء حجاب} هو الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص الله به موسى، ولذلك قال: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] .
وأما قوله: {أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه} [الشورى: 51] ، فهذا هو القسم الثالث، وهو الذي يكون بواسطة الملك.
قال: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء، والذين هم ورثة الأنبياء، بواسطة البراهين.(10/208)
قلت: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم.
وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاماً ولا تكليماً هو أمر ونهي، وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام.
وقوله: ولهذا الفعل شرط في الشاهد -وهو اللفظ- فيجب أن يكون من الله بواسطة، وهو الملك، أو جعل العبد عالماً بذلك، أو لفظ يخلقه في سمع المستمع فهذا شر من قول المعتزلة، الذين يقولون: كلام الله مخلوق.
كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه
وهو متضمن لعدة وجوه من الخطأ: منها: أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه، كما أن البشر أيضاً رسول، ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضاً، فإنه قد يرسل رسولاً، كما يكتب كتاباً، والرسول مبلغ لكلام المرسل، فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول.
والرسول قد يبلغ لفظ المرسل، وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى، وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه، فهذا كله يقع في البشر، كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ، فلا يجعل هذا من الله نوعاً من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر، فإن البشر تجمع بين النوعين: بين اللفظ وبين هذا، فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائماً مقام الإرسال من البشر، لا مقام اللفظ.
وأيضاً فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر.
أما إحداث الفهم في العبد، فهذا مفعول من مفعولات الله(10/209)
كسائر مفعولاته، فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر، ويقدر ويعمل.
ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله، وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان.
قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى* الذي خلق فسوى* والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1-3] .
وقال موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] .
فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله؟
وأيضاً فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه، ولا هذا واسطة في هذا التكليم، بل هذا هو نفس الواسطة.
وهو يثبت أمرين: أحدهما: فعل من الله هو التكليم.
والثاني واسطة أخرى غير الفعل.
وذلك لا يصلح لأمرين: أحدهما: أن الفعل غير المفعول، كما أقر بذلك غير مرة.
وهنا لا يثبت لله فعلاً غير ما حدث في نفس الملهم.
الثاني: أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث، فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده، وهو مفعول الحق.
وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد، وإثبات شروط، وإزالة موانع، فتلك هي شروط العلم، كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك.
وأما قوله: بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه.
فيقال له: هذا اللفظ: إن كان موجوداً في شيء خارج عن المستمع، فهو قول المعتزلة، الذين يقولون: إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.(10/210)
وهو لم يرد هذا، بل قوله وقول أصحابه شر من هذا.
وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه، وهو أنه خلق لفظاً في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج، فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفس من الأصوات، وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم.
ولا ريب أن إحداث المعاني العقلية المجردة في نفس الإنسان أكمل من إحداث هذه في نفسه، فيكون تكليمه لموسى أنقص من إيحائه إلى سائر النبيين، والله قد فضل موسى بالتكليم، وعلم ذلك بالضرورة من دين المسلمين واليهود والنصارى.
قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا* ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 163-164] .
وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} [البقرة: 253] .
وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} إلى قوله: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 143-144] .
وقال: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم: 52] .(10/211)
وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} [القصص: 30] .
وقال: {هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} [النازعات: 15-16] .
وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها: إما يقظة وإما مناماً، يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات، وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر من أن يحصى، فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس، فآحاد الناس شركاؤه في هذا، فكيف بالأنبياء، فكيف بالمرسلين؟!.
ومعلوم أن الله خص موسى بالتكليم تخصيصاً لم يشركه فيه: لا نوح، ولا إبراهيم، ولا عيسى، ولا نحوهم من النبيين.
وقوله: إن ذلك الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص به موسى كلام باطل، فإن هذا ليس بالتكليم الحقيقي الذي خص به موسى، بل ليس هو التكليم الحقيقي عند أحد من الأمم.
ولا يعقل أحد في التكليم هذا، وإنما هذا من جنس المنامات، وغايته أن يكون من جنس الإيحاء.
والإنسان قد يرى في منامه أن الله خاطبه بكلام كثير يسمعه، فإن كان هذا كلام حقيقي لله، فما أكثر(10/212)
الكلام الحقيقي لله، وما أكثر تكليمه بكلام حقيقي لآحاد الناس! كما كلم موسى بن عمران النجي المقرب المخصوص بالتكليم.
وأيضاً قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51] ، يقتضي أن التكليم من وراء حجاب نوع غير الوحي، وأن المكلم بذلك محجوب أن يرى الله، لأن التكليم المسموع قد يكون مع رؤية المستمع للمتكلم، وقد يكون مع كونه محجوباً عنه، بخلاف الوحي، فإنه يقع في قلبه، فلا يحتاج أن يجعل نوعين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» ، فلو كان الكلام المسموع هو شيئاً قائماً بالمستمع، لا وجود له في الخارج، لكان من جنس الوحي الذي لا يحسن أن يقال معه: من وراء حجاب، فإن صاحب هذا لم يسمع شيئاً منفصلاً عنه، يمكن مشاهدة المتكلم به تارة، وحجب المستمع عنه أخرى.
والكلام على هذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على ما تعرف به الأقوال الموافقة للقرآن والمخالفة له، فإن هذا الباب خاض فيه طوائف من الناس.
وأكثر الناس يسمعون كلام هذا وهذا، ولا يعرفون حقائق الأقوال ومراتبها في القرب من الحق والبعد منه.(10/213)
تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه
قال ابن رشد: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الجهة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله.
أعني أن القرآن تضمن براهين عجزت العقول البشرية عنها، فوجب أن يكون فاعلها هو الله.
وفاعل البرهان عند الناظر فيه مقطوع عنده أن فاعل ذلك متكلم.
قلت: هذا بناه على ما تقدم من أن التكليم ليس إلا مجرد الإعلام، فما علمه العالم بالدليل هو من هذا النمط وهذا مما يبين ضلاله، فإنه من المعلوم بالإضرار أن تكليم الله لأنبيائه بالوحي الذي يخصهم أمر لا يحصل للعلماء، ما ذكره في القرآن مضمونه أن القرآن فيه من البراهين ما تعجز عنه العقول، فوجب أن يكون مفعولاً لله على زعمه.
وهو، والمعتزلة، يقولون: إنه مفعول أحدثه في شيء منفصل عن الرسول وعن جبريل، وهؤلاء عندهم لا يكون إحداثه إلا في نفس الرسول أو جبريل، عند من يسلم أن جبريل ملك منفصل عن النبي قائم بنفسه، وهذا لا يقوله إلا من قرب إلى الإسلام منهم، وأئمتهم لا يقولون ذلك، ولا يعرفون جبريل إلا ما في نفس النبي من الخيال أو(10/214)
العقل الفعال.
فقول المعتزلة خير من قول هؤلاء بكثير.
ويقال له: القرآن إذا تضمن براهين عجزت العقول عنها، فمن أين وجب أن يكون مفعولاً لله؟ وما المانع من أن يكون كلاماً يتكلم الله به؟ هذا لا مانع منه إلا ما يقوله نفاة الصفات، وأنتم قولكم في إثباتها ونفيها متناقض، تثبتونها تارة وتنفونها أخرى، ولا دليل لكم على النفي إلا ما قد عرف فساده، والأدلة اليقينية توجب إثباتها، أو ما يقوله من ينفي أفعاله، وما يقوم به من الأمور التي يختارها ويقدر عليها، كالتكليم مثلاً، وأنتم قد بينتم فساد هذه الحجة التي استدل بها نفاة ذلك.
قال: فقد تبين لك أن القرآن -الذي هو كلام الله- قديم، وأن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه وتعالى لا للبشر.
فيقال له: ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن القرآن -الذي هو كلام الله- قديم، فإن غاية ما ذكرته أن يكون القديم هو العلم، والقرآن ليس هو مجرد العلم: لا حروفه ولا معانيه.
أما حروفه، فظاهر.
وأما معانيه، فإن معاني الكلام نوعان: إنشاء وإخبار.
فأما الإنشاء ففيه الأمر والنهي، المتضمن للطلب أو للإرادة، التي بمعنى المحبة.
ونحو ذلك.
وأما الخبر فهل معناه من جنس العلم، أو حقيقة أخرى غير العلم؟ ففيه قولان معروفان.
فإذا لم يكن في كلامك ما يمكن أن يكون قديماً غير العلم، لم يكن(10/215)
معنى القرآن عندك قديماً، ولكن بعض معناه.
ثم الكلام في تعدد هذه المعاني واتحادها، وتعدد العلم والإرادة واتحاد ذلك لم يتكلم هو فيه، وقد ذكر في غير هذا الموضع.
وكذلك يقال له: ليس فيما ذكرته أن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه لا لبشر، فإنك لم تذكر إلا مجرد دعوى: أنه يسمع ألفاظاً في نفسه، ولم تقم دليلاً على ذلك.
ولو قدر أن مثال ذلك يسمى كلام الله، كان قول القائل: إن القرآن من هذا الباب -دعوى تفتقر إلى دليل، وهو لم يذكر دليلاً على ذلك، ولا دليل له إلا ما قد اعترف هو بضعفه، كدليل ابن سينا على نفي الصفات، ودليل المعتزلة والأشعرية على أن ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، أو دليل المعتزلة على نفي الصفات، وهو أضعف من ذلك.
فهذا مجموع ما ذكره، هو وأمثاله في كتبهم، وهي ترجع إلى دليل الحوادث والتعدد والاختصاص، ليس لهم رابع.
ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته، قولك في القرآن باطل، وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى، فإن موسى كلمه الله تكليماً، فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى، كما زعم المعتزلة - الذين هم خير منكم - أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الأجسام فسمعه(10/216)
موسى، وأما القرآن فنزل به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكلم الله به محمداً بلا واسطة.
وإذا كان جبريل نزل به من الله، وأنتم تقولون ليس هنا جبريل منفصل عن النبي، وإنما جبريل ما يتخيل في نفسه من الصور النورانية التي تخاطبه، وحينئذ فيكون من خلق في نفسه هذه الأصوات ابتداءً قد كلمه الله تكليماً، ومن خلقت فيه بواسطة هذه الصورة نزل جبريل بها، فيكون ما يحصل لآحاد الناس من الأصوات التي يسمعها في نفسه أعظم من القرآن، وهي بأن تكون كلام الله أحق من القرآن، وتكون التوراة أعظم من القرآن.
وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن جبريل ملك حي متكلم، كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ليس هو مجرد ما يتخيل في نفسه.
قال تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} إلى قوله: {ولقد رآه بالأفق المبين} [التكوير: 19-23] ، فأخبر أنه رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش، وأنه مطاع هناك أمين.
ومن المعلوم أن ما في نفوس البشر من الصور لا يوصف بهذا وقال تعالى: {علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى *(10/217)
ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 5-18] ، فأخبر أن معلمه معلم شديد القوى، وأنه ذو مرة.
والناس قد تنازعوا في المرئي مرتين، فقال ابن مسعود وعائشة وغيرهما: هو جبريل، رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، كما ثبت ذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس وغيره: رأى ربه بفؤاده مرتين.
ومن المعلوم أنه إذا كان المرئي جبريل، وأنه الذي رآه عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأموى، وأنه استوى وهو بالأفق الأعلى -امتنع أن يكون جبريل ما في نفسه.
وإن كان المرئي هو الله، فهو أعظم.
ومن هؤلاء من يقول: جبريل هو العقل الفعال، ويقول: ليس بضنين: أي ببخيل، لأنه فياض.
وهذا جهل، لأن قراءة الأكثرين: بظنين، أي بمتهم.
وهو المناسب، أي ما هو بمتهم على ما غاب عنا، بل هو أمين في إخباره بالغيب.
وإذا قيل: ضنين، بمعنى بخيل، كان ذلك وصفاً له بأنه لا ينجل بعلم الغيب، بل يبين الحق.
ولهذا قال: على الغيب بظنين.(10/218)
وما يزعمونه من العقل الفعال هو عندهم تفيض منه جميع الأمور المشاهدة، فليس هنا غيب وشهادة.
ثم من المعلوم بالاضرار من دين المسلمين أن جبريل لم يبدع الأرض والجبال، والهواء والسحاب، والحيوان والمعدن والنبات.
وهم يزعمون أن هذا العقل الفعال أبدع كل ما تحت فلك القمر.
وقد بسط الكلام على هذا، وبين أن الملائكة التي وصفها الله في كتابه لا يصح أن تكون هي ما يذكرونه من العقول والنفوس بوجوه كثيرة.
قال: وبهذا باين لفظ القرآن الألفاظ التي ينطق بها في غير القرآن، أعني أن هذه الألفاظ هي فعل لنا بإذن الله.
وألفاظ القرآن هي خلق الله، ومن لم يفهم هذا على هذا الوجه لم يفهم هذه الصورة، ولا فهم كيف يقال في القرآن: إنه كلام الله.
فيقال له: كلا ما يحدثه الله تعالى في نفوس الآدميين من الحروف والأصوات التي يتخيلونها في المنام واليقظة، هي على قولكم بمنزلة القرآن في أنها خلق الله.
ومن المعلوم أن الألفاظ التي يؤلفها الفضلاء خير من أكثر الألفاظ التي يتخيلها أكثر الناس في المنام واليقظة، فأي فضيلة للقرآن بهذا الإعتبار؟!.
قال: ومن نظر إلى اللفظ دون المعنى، قال: إن القرآن(10/219)
مخلوق.
ومن نظر إلى المعنى الذي يدل عليه اللفظ، قال: إنه غير مخلوق.
والحق هو الجمع بينهما.
قال: والأشعرية قد نفوا أن يكون المتكلم فعل الكلام، لأنهم تخيلوا أنهم إذا سلم، هذا الأصل، وجب أن يعترفوا أن الله فاعل لكلامه، ولما اعتقدوا أن المتكلم هو الذي يقوم الكلام بذاته، ظنوا أنه يلزمهم عن هذين الأصلين أن يكون الله فاعلاً للكلام في ذاته، فتكون ذاته محلاً للحوادث، فقالوا: المتكلم ليس فاعلاً للكلام، وإنما هي صفة قديمة لذاته كالعلم وغير ذلك، وهذا يصدق على كلام النفس، ويكذب على الكلام الذي يدل على ما في النفس، وهو اللفظ.
والمعتزلة لما ظنوا أن الكلام هو ما فعله المتكلم، قالوا: إن الكلام هو اللفظ فقط.
ولهذا قال هؤلاء: إن اللفظ مخلوق.
واللفظ عند هؤلاء من حيث هو فعل، فليس من شرطه أن يقوم بفاعله، والأشعرية تتمسك بأن من شرطه أن يقوم بالمتكلم، وهذا صحيح في الشاهد في الكلامين معاً: أعني كلام النفس، واللفظ الدال عليه.
وأما في الخالق فكلام النفس هو الذي قام به، فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه.(10/220)
والأشعرية لما شرطت بإطلاق أن يكون الكلام قائماً بالمتكلم، أنكرت أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام على الإطلاق، والمعتزلة لما شرطت أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام بإطلاق أنكروا كلام النفس.
وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء من الباطل، على ما لاح لك من قولنا.
فيقال له: ليس فيما ذكرته قول الأشعرية ولا قول المعتزلة ولا جمعاً بينهما وبل هو قول المتفلسفة والصابئة، الذين هم شر من اليهود والنصارى.
وذلك أن المعتزلة، وإن قالت: إن الكلام مفعول للرب، فإنها لا تجعلها محدثاً في نفس المتكلم، بل يقولون: إنه مفعول في جسم منفصل عن المستمع، وهو آية من آيات الله التي يخلقها، ومن قال بقولك كفرته المعتزلة.
وأما الأشعرية فهم، وإن قالوا: إنه معنى قائم بنفس المتكلم، فلا يجعلونه مجرد العلم، بل الكلام عندهم صفة ليست هي العلم ولا الإرادة، والكلام يكون خبراً ويكون أمراً.
والناس وإن خالفوهم في هذا المعنى، وقالوا لا يعقل إلا العلم(10/221)
والإرادة، وضايقوهم في جعل المعنى الواحد يكون أمراً وخبراً، حتى احتاج بعضهم إلى أن جعل الكلام كله بمعنى الخبر، والخبر مع المخبر كالعلم مع المعلوم، وقد يضطرون إلى أن يفسروا معنى الخبر بالعلم لعدم الفرق -فهذه لوازم المذهب الذي قد يستدل بها، إن كانت لازمة، على فساده، وليس كل من قال قولاً يلتزم بوازمه.
والناس لهم في الكلام ثلاثة أقوال: هل هو اسم اللفظ والمعنى جميعاً؟ كما هو قول الأكثرين، أم للفظ فقد بشرط دلالته على المعنى؟ كقول المعتزلة وكثير من غيرهم، أو للمعنى المدلول عليه باللفظ، كقول الكلابية؟ ومن متأخريهم من جعله مشتركاً بينهما اشتراكاً لفظياً.
وأما المتكلم ففيه أيضاً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من فعل الكلام، ولو في غيره، كما يقوله المعتزلة.
والثاني: من قام به الكلام، وإن لم يفعله، ولم يكن مقدوراً مراداً له، كما يقوله الكلابيه.
والثالث: من جمع الوصفين، فقام به الكلام وكان قادراً عليه.
ولا ريب أن جمهور الأمم يقولون: لا يكون متكلماً إلا من قام به الكلام، كما لا يكون متحركاً إلا من قامت به الحركة، ولا عالماً إلا من قام به العلم، ونحو ذلك.
لكن الكلابية اعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث، فامتنع لهذا عندهم أن يكون الكلام مقدوراً له مراداً.
قالوا: لأن المقدور المراد حادث لا يكون صفة لازمة له.
وأنت قد بينت فساد هذا الأصل، فكان يلزمك على أصلك أن تجوز قيام ذلك به، فإنه لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفى به سائر(10/222)
الصفات.
وأنت تعترف بأن حدوث الحوادث بدون ذلك مما يتعرى ويتعذر بعقله.
وكذلك ما ذكرته عن المعتزلة من أن اللفظ عندهم فعل، وليس من شرطه أن يقوم بفاعله، وأنت مقر بالفرق بين الفعل والمفعول، وأنه لا يعقل مفعول بدون فعل.
وهذا مما أوردته على أبي حامد في تهافت التهافت، وقلت: إن حدوث العالم بدون إحداث يكون هو فعل والحادث هو المفعول محال.
وقد أبطلت أصل المعتزلة في أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث، فكان يلزمك أن تثبت فعلاً قائماً بالفاعل: إما قديماً، وإما حادثاً، ويكون الكلام قائماً بالمتكلم، وهو فعل له.
فكيف وأنت وأصحابك لم تثبتوا كلاماً لله إلا ما كان في نفوس البشر؟ فالمعتزلة خير منكم.
وإذا قلت: نحن نثبت المعنى أنه قديم بخلاف المعتزلة.
قيل لك: المعتزلة أيضاً تقر بأن الله عليم بكل شيء، أعظم مما تقرون أنتم به.
والمعتزلة لا تنكر هذا المعنى، وهم، وإن كانوا متناقضين في إثبات الصفات ونفيها، فلا ريب أن قولهم أقرب إلى إثبات الصفات من قول أصحابك.
فما جعلته أنت قديماً يمكنهم جعله قديماً.
وأعظم ما شنع الناس به في الصفات على المعتزلة قول رئيسهم أبي الهذيل، قوله: إن الله عالم بعلم هو ذاته.
وليست ذاته علماً.
وأنت تقول: إن العلم هو العالم، بل تقولون: إن العلم والعالم(10/223)
والمعلوم، والعشق والعاشق والمعشوق، والعقل والعاقل والمعقول -شيء واحد.
فقولكم أشد نفياً وتناقضاً من قولهم، وهم إلى إطلاق القول بأن معنى القرآن قديم ولفظه مخلوق أقرب منكم، فما في قولهم من باطل إلا وفي قولكم أفسد منه، ولا في قولكم حق إلا وفي قولهم أكمل منه.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفتي السمع والبصر ورد ابن تيمية
قال ابن رشد: وأما صفة السمع والبصر فإنما أثبتهما الشرع لله تبارك وتعالى من قبل أن السمع والبصر يختصان بمعان مدركة في الموجودات، ليس يدركها العقل.
ولما كان الصانع من شرطه أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع، وجب أن يكون له هذان الإدراكان، فواجب أن يكون عالماً بمدركان البصر، وعالماً بمدركات السمع، إذ هي مصنوعات له، وهذه كلها منبهة على وجودها للخالق سبحانه في الشرع، من جهة تنبيهه على وجوب العلم به.
وبالجملة، فما يدل عليه اسم الإله واسم المعبود يقتضي أن يكون مدركاً لجميع الإدراكات، لأنه من العبث أن يعبد الإنسان ما لا يدرك أنه عابد له.(10/224)
كما قال تعالى: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] .
وقال: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم} [الأنبياء: 66] .
فهذا القدر، مما يوصف الله به ويسمى به، هو القدر الذي قصد الشرع أن يعلمه الجمهور، لا غير ذلك.
قلت: السمع والبصر ليسا مجرد علم بالمسموع والمرئي، وإن استلزما ذلك، على ما هو المعروف من قول أئمة السنة.
والقصد الذي عرفه الشرع أكثر من هذه الصفات.
ولكن لما أراد صاحب هذا الكلام أن يبين الطرق الشرعية لإثبات ما أثبته المتكلمون من الصفات، تبعهم في هذا.
رد ابن رشد على أقوال الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الصفات ورد ابن تيمية
قال: ومن البدع التي حدثت في هذا الباب سؤال في الصفات: هل هي الذات أو زائدة على الذات؟ ثم هل هي صفة نفسية أو صفة معنوية؟.
ويعني بالنفسية التي توصف بها الذات لنفسها، لا لقيام معنى(10/225)
فيها زائد على الذات، مثل قولنا: واحد قديم.
والمعنوية التي توصف بها الذات لقيام معنى فيها، فإن الأشعرية يقولون: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات، فيقولون: إنه عالم بعلم زائد على ذاته، وحي بحياة زائدة على ذاته، كالحال في الشاهد.
ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم.
وذلك أن الذات لا بد أن يقولوا: إنها قائمة بذاتها، والصفات قائمة بها، أو يقولوا: إن كل واحد منها قائم بنفسه، أو يقولوا: إن الذات تقوم بالصفات، فإن قالوا: إن كل واحد منهما قائم بنفسه، فالآلهة كثيرة.
وهذا قول النصارى الذين زعموا أن الأقاليم ثلاثة: أقنوم الوجود والحياة والعلم.
وقد قال تعالى في هؤلاء: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72] ، وإن قالوا: أحدهما قائم بنفسه، والآخر قائم(10/226)
به، فقد أوجبوا أن يكون جوهراً وعرضاً، لأن الجوهر هو القائم بذاته، والعرض هو القائم بغيره، والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة.
وكذلك قول المعتزلة في هذا الجواب.
أن الذات والصفات شيء واحد هو أمر بعيد من المعارف الأول، بل يظن أنه مضاد لها، وذلك أنه يظن أن من المعارف الأول أن العلم يجب أن يكون غير العالم، وأنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم، إلا لو جاز أن يكون أحد المتضايفين، مثل أن يكون الأب والابن معاً واحداً بعينه، فهذا تعليم بعيد عن أفهام الجمهور، والتصريح به بدعة، وهو أن يضلل الجمهور أحرى منه أن يرشدهم.
وليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول سبحانه، إذ ليس عندهم برهان، ولا عند المتكلمين على الجسمية أو نفي الجسمية عنه برهان، فإن نفي الجسمية عنه انبنى على وجوب الحدوث للجسم بما هو جسم.(10/227)
وقال: وقد بينا في صدر هذا الكتاب أنه ليس عندهم برهان على ذلك، وأن الذين عندهم برهان على ذلك هم العلماء.
ومن هذا الموضع زل النصارى، وذلك أنهم اعتقدوا كثرة الأوصاف، واعتقدوا أنها جواهر لا قائمة بغيرها، بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الحال هما صفتان: العلم، والحياة.
قالوا: فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وواحد من جهة أن مجموعها شيء واحد.
فهنا ثلاثة مذاهب: مذهب من رأى أنه نفس الذات ولا كثرة هنالك.
مذهب من رأى الكثرة، وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرةً قائمةً بذاتها.
ومنهم من جعلها كثرةً قائمةً بغيرها.
وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع.
وإذا كان هذا هكذا، فالذي ينبغي أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها دون(10/228)
تفصيل الأمر فيها، فإنه ليس يمكن عند الجمهور أن يحصل في هذا يقين أصلاً.
وأعني هنا بالجمهور كل من لم يعن بالصنائع البرهانية.
وسواء كان قد حصلت له صناعة الكلام أو لم تحصل له، فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة، إذ أعلى مراتب صناعة الكلام أن يكون حكمة جدلية لا برهانية، وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا.
فقد تبين من هذا القول القدر الذي صرح به للجمهور من المعرفة في هذا، والطرق التي سلكت بهم في ذلك، وأن الطرق التي سلكوا بالناس في هذه الأشياء، وزعموا أنها من أصل الشرع، ليست من أصل الشرع، بل هي مسكوت عنها في الشرع.
قلت: مقصود بهذا الكلام يبين أن طرق إخوانه الفلاسفة في نفي الصفات هي البرهانية، دون طرق غيرهم.
وليس الأمر كما زعمه، بل ما سلكه إخونه في نفي الصفات أضعف بكثير مما سلكه المعتزلة، مع أن(10/229)
كليهما فاسد، كما قد بين في موضعه.
وقول القائل: إن الشرع لم يصرح بإثبات الصفات من أبين الخطأ، فإن الله تعالى قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] .
وقال: {أنزله بعلمه} [النساء: 166] .
وقال: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] .
وقال: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11] ، [فصلت: 47] في موضعين.
وقال: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58] .
وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15] .
وقال: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] .
وفي الحديث الصحيح: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» .
وقال تعالى عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [غافر: 7] .(10/230)
وقال: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] .
وقال: {وسع كل شيء علما} [طه: 98] ، وقال: {ولتصنع على عيني} [طه: 39] ، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثير.
ومن المعلوم بالضرورة أن العلم ليس هو نفس العالم، والمضاف هنا ليس هو المضاف إليه، وأن أسماء الله الحسنى، مثل: العليم، والحي، والقدير، والرحيم، ونحو ذلك- هي، وإن كانت أسماء لله تدل على نفسه المقدسة، فليس ما دل عليه الحي من الحيوة، هو ما دل عليه عليم من العلم، وما دل عليه قدير من القدرة، وما دل عليه رحيم من الرحة.
فمن قال: إن هذه الأسماء الحسنى لا تدل على هذه المعاني، فهو مكابر للغة التي نزل بها القرآن، فإن الأسماء التي تسميها النحاة: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المعدولة عنها كفعيل وغيره -هي أسماء مشتقة تتضمن المصادر، بخلاف: رجل، وفرس.
ومن جعل العالم لا يدل على علم، والقادر لا يدل على القدرة، فهو بمنزلة من قال: المصلي لا يدل على الصلاة، والقائم لا يدل على القيام، والصائم لا يدل على الصيام، وأمثال ذلك.
وأما سؤال السائل: إن هذه الصفات: هل هي الذات أو غيرها؟ وهل هي الذات أو زائدة عليها؟.(10/231)
فالجواب المرضي عند الأئمة: أن لا يطلق القول بأنها هي الذات ولا بأنها غيرها، ولا بأنها الذات ولا بأنها زائدة عليها، ولا ينفي الأمران، فيقال: لا هي الذات ولا غيرها، حتى يكون قسماً ثالثاً، ليست هي الذات ولا هي غيرها.
فإن هذا يقوله طائفة من متكلمة الصفاتية، من أصحاب أحمد وغيره، كما يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري.
والصوب المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة: أنه لا يطلق لا هذا ولا هذا، لأن لفظ الغير فيه إجمال واشتراك.
فقد يراد بالغيرين ما جاز مفارقة أحدهما أحأالآخر، أو مباينته له، فلا تكون الصفة اللازمة للموصوف غيراً له.
وقد يراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، فيكون غيراً له.
وكذلك لفظ: الزيادة على الذات، فإن الذات يراد بها الذات المجردة عن الصفات، فالصفات زائدة على هذا الذات.
لكن هذه الذات عند أهل الإثبات لا حقيقة لها في الخارج، وإنما تقدر في الذهن تقديراً، وإنما يعتقد ثبوتها في الخارج نفاة الصفات.
فالمثبتون إذا قالوا: الصفات زائدة على الذات، لم يقولوا: إن في الخارج ذاتاً مجردة تزاد عليها الصفات، بل أثبتوا الصفات زائدة على ما أثبته النفاة، فزادوا عليها في الإثبات.(10/232)
وقد يراد بالذات نفس الله سبحانه، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه، ليست زائدة على مسمى أسمائه الحسنى.
ولا يمكن وجود ذات غيره مجردة عن الصفات، حتى يقال: إن صفاته زائدة عليها، فضلاً عن وجوده سبحانه مجرداً عن صفات الكمال كلها.
وصفاته اللازمة له كلها نفسية، بمعنى أنها داخلة في مسمى أسمائه، لا يفتقر إلى أمور مباينة له، وهي لازمة لنفسه لا يوجد بدونها، ولا يمكن وجوده منفكاً عنها.
وإذا قيل: هو عالم بعلم، قادر بقدرة، فليس هناك حقيقة قائمة بنفسها يمكن وجودها بدون العلم والقدرة، بل لا يمكن أن تكون إلا عالمةً قادرة، وإن كنا نحن قد نعلم وجودها قبل أن نعلم أنها عالمة.
وما ذكره من التمثيل بالواحد والقديم فيه نزاع، فإن الصفاتية متنازعون في القديم والباقي: هل هو قديم باق ببقاء، كما يقوله ابن كلاب؟ أو قديم بنفسه باق ببقاء، كما يقوله الأشعري، ومن وافقه كأبي علي بن أبي موسى؟ أو قديم بنفسه باق بنفسه، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن وافقه، كالقاضي أبي يعلى؟.
وأما أن الأشعرية يقولون في العلم ونحوه: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات.
فيقال: مقصودهم في الأصل إثبات هذه الصفات، وإبطال قول: من قال عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة.
أو قال: إن ذاته علم وقدرة.(10/233)
والأشعرية هم في إثبات هذه الصفات، مع سائر أهل السنة، والجماعة، لم ينازعهم في إثبات الصفات إلا من هو -عند السلف والأئمة- من أعظم الناس ضلالاً، كالجهمية والمعتزلة.
وإذا قالوا: هو عالم بالعلم، وقادر بالقدرة، لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتاً منفصلة عنه، صار بها عالماً قادراً، كما يظنه بعض الغالطين عليهم، فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم، ولكن بعضهم، وهم مثبتة الحال، كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالماً، وكونه عالماً حال معللة بالعلم.
وأما جمهورهم، وهم نفاة الحال، فيقولون: علمه هو كونه عالماً، وقدرته هو كونه قادراً، ليس هناك أمران، ولا علة ولا معلول.
وهذا قول الأكثرين: الأشعري وغيره.
والمنازع لهم من المعتزلة والفلاسفة يقر بما يوجب موافقتهم، فإنهم يقرون بأن كونه عالماً ليس هو كونه قادراً.
وهذا معنى العلم والقدرة عند أولئك، كما قد بسط في موضعه.
فالنفاة للصفات، من المعتزلة وغيرهم، يقولون: إنه عالم وإنه قادر.
ومنهم من يثبت العالمية والقادرية، ويسمي ذلك حالاً.
وهذا يستلزم عند التحقيق قول مثبتة الصفات.
وكذلك الفلاسفة قولهم يستلزم قول مثبتة الصفات، وإن نفوها تناقضوا.
وأما إطلاق المطلق لفظ الزيادة على الذات، فقد تقدم أن هذا الإطلاق كإطلاق المطلق: أن الصفات لا هي الذات ولا هي غيرها.
وهذا يطلقه هؤلاء وغيرهم.(10/234)
وأئمة السلف، وابن كلاب، وأمثاله من أئمة الأشعرية، لا يطلقون لا هذا ولا هذا.
وكانوا إذا قالا للسلف: القرآن هو الله أو غير الله؟ لم يطلق الأئمة لا هذا ولا هذا، لما في إطلاق كل منهما من إبهام معنى فاسد، وليس ذلك إثباتاً لقسم ثالث، ليس هو الموصوف ولا غيره، بل يفصل اللفظ المجمل، كما فعل السلف نظير ذلك في لفظ الحيز وأمثاله.
وأما قولهم: يلزم الأشعرية على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول.
فيقال له: وهكذا يلزم من قال: إنها عالم قادر.
ومن قال: إنه يعلم ويقدر.
فمن أثبت لله الأسماء الحسنى وأحكامها، لزمه ما يلزم من أثبت الصفات.
فالاسم المشتق يدل على المصدر وعلى الفعل، وخبر المخبر بذلك وحكمه يقتضي ثبوت ذلك في نفس الأمر.
ويقال له: كل ما تلزم به الأشعرية وأمثالهم في إثبات الصفات، يلزمونك إياها في كل ما نفيته.
فإذا قلت: الموصوف بالصفة لا يكون إلا جسماً.
قالوا: والمسمى بالحي العالم القادر لا يكون إلا جسماً، والمخبر عنه بأنه يعلم ويقدر لا يكون إلا جسماً، والموصوف يقول القائل: هو عالم قادر لا يكون إلا جسماً.
فإن أمكنك أن تثبت هذا لغير جسم، أمكنهم ذلك.
وإن لم يمكنهم لم يمكنك.
فهذا السؤال لازم لجميع الناس كما يلزم الأشعرية وغيرهم.(10/235)
وأيضاً فهذا إلزام جدلي لا علمي.
وذلك أن نفاة الجسم من أهل الكلام، كالمعتزلة والأشعرية، يقولون: إنما نفيناه للدليل الدال على حدوث الجسم، وأنت قد بينت أنه دليل باطل، ونحن أثبتنا الصفات مع ذلك.
فإذا قلت: الجمع بينهما خطأ، فإن إثبات الصفات يستلزم التجسيم.
قالوا لك: ليس خطؤنا في إثبات الصفات بأولى من خطأنا في نفي التجسيم.
بل أنت تقول: إنا مخطئون في نفي التجسيم.
ولم تقم دليلاً على خطأنا في نفي الصفات.
فإن كنا مخطئين في نفي التجسيم عيناً، لزم إثبات الصفات بلا محذور.
وإن قدر الخطأ في أحدهما بغير تعيين، لم يتعين الخطأ في نفي الصفات إلا بدليل.
وأيضاً فأنت تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم، وإن التصريح به بدعة.
والشرع قد صرح بإثبات الصفات، فكيف تعيبنا بإثبات ما أثبته الشرع، لكونه مستلزماً لإثبات ما لم ينفه الشرع؟.
ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئاً له لوازم، لم يكن إثبات ذلك بدعة.
وتلك اللوازم، إن كانت ثابتة في نفس الأمر، فلازم الحق حق.
وإن لم تكن لازمة، فلا محذور.
فإن قيل: أنا أقيم دليلاً عقلياً على نفي الجسم غير دليلكم.
كان لهم عن ذلك أجوبة: أحدها: أن يقولوا: فأنت قد أثبت أنه عالم قادر، فإن أمكنك مع ذلك أن تقول: إنه ليس بجسم، أمكنا أن(10/236)
نقول: عالم بعلم، قادر بقدرة، وليس بجسم.
وإن لم يمكنك هذا استوينا نحن وأنت.
ففي الجملة ورود هذا السؤال علينا ورود واحد.
الثاني: أن يقولوا: دليلنا على نفي الجسم أقوى من دليلك، كما بين ذلك الغزالي وغيره، وبينوا أن الفلاسفة عاجزون على إقامة الدليل على أنه ليس بجسم.
الثالث: أن يقولوا: أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم، فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت، خوفاً من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك، فكيف إذا كانت أدلة النفي باطلة، وأدلة الإثبات للصفات ولوازمها حق لا محيد عنه؟.
وأما التقسيم الذي ذكرته، فلا ريب أن أهل الإثبات لا يقولون: إن الصفات قائمة بنفسها، بل هي قائمة بالموصوف.
وأما ما ذكره عن النصارى، فليس هذا موضع بسطه، فإن قول النصارى مضطرب متناقض، فإنهم لا يثبتون ثلاثة جواهر قائمة بأنفسها، ولا يجعلون الأقانيم كالصفة من كل وجه، فإنهم يقولون: المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن جعلوا الكلمة هي الذات الموصوفة، لزم أن يكون المسيح هو الأب، وهم ينكرون ذلك.
وإن جعلوه صفة الذات لزمهم أن لا يكون المسيح إلهاً خالقاً رازقاً، لأن الصفة ليست إلهاً خالقاً رازقاً.
وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف.
وهم يقولون: المسيح إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه.(10/237)
وأما استدلاله بقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72] ، فهذا يسلكه طائفة من الناس، ويقولون قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ، إشارة إلى أحد أقوالهم الثلاثة، وهو قول اليعاقبة القائلين بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهراً واحداً، كالماء واللبن.
وقوله: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ، إشارة إلى قول الملكية.
وقوله: {ثالث ثلاثة} إشارة إلى قول النسطورية الذين يقولون بالحلول، وهو قولهم بالأقانيم الثلاثة.
وليس الأمر كما قال هؤلاء، بل ما ذكره الله تعالى هو قول النصارى جملة.
فإنهم يقولون: إنه الله باعتبار، وإنه ابن الله باعتبار آخر.
وقوله: {إن الله ثالث ثلاثة} بدليل: المراد به قوله: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] ، فعبدوا معه المسيح وأمه، فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار.
وأما قوله عن الأشعرية: إذا قالوا الموصوف قائم بنفسه، والصفة قائمة به، فقد أوجبوا جوهراً وعرضاً -فهذا من جنس إلزامه لهم أن يكون جسماً.
فيقولون له: هذا يلزمك إذا قلت: هو حي عالم قادر، فإن الحي العالم القادر قائم بذاته، فإن كان كل قائم بذاته جوهراً، فهو جوهر، وإلا بطل إلزامك.(10/238)
وإيضاً فلو لو يوصف بذلك، لكان في نفس الأمر إما قائماً بنفسه، وإما قائماً بغيره، إذ فرض موجود ليس قائماً بنفسه ولا بغيره ممتنع.
فإن كان كل قائم بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه هو جوهر، لزمك أن يكون جوهراً.
ثم يقال: من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات.
منهم من يسمى كل قائم بنفسه جوهراً، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة.
وهؤلاء يسمونه جوهراً.
ومنهم من لا يطلق الجوهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهراً، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة.
ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده.
وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي، ليس هو معنى عقلياً.
والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر، حتى يحتاج أن ينظر في معناه.
والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي.
وهذا لم يذكر دليلاً عقلياً على نفي الجوهر، فصار قد ألزمهم لوازم، ولم يذكر دليلاً على بطلانها.
فيجيبونه بالجواب المركب، وهو أن هذا إما أن يكون لازماً لإثبات(10/239)
الصفات، أو ليس بلازم.
فإن لم يكن لازماً، بطلت المقدمة الأولى.
وإن كان لازماً، منعت المقدمة الثانية، فإن لازم الحق حق..
وليس التزام مسمى هذا الاسم أبعد في الشرع والعقل من نفي الصفات، بل نفي الصفات أبعد في الشرع والنقل من إثبات مسمى هذا الاسم، فلا يجوز التزام نفي الصفات، الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية، حذراً من التزام مسمى هذا الاسم، الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات، مع أنه لم يذكر على ذلك دليلاً أصلاً، وهو قد بين فساد أدلة النفاة لذلك من أهل الكلام.
وأما قول القائل: الذات والصفات شيء واحد فإن أراد به أن الصفات ليست مباينة للموصوف، فصحيح.
وإن أراد أن نفس الذات هي نفس الصفات، فهذه مكابرة.
وهذا القائل.
وإخوانه، يقولون بذلك، وقد صرح هو بأن العلم نفس العالم، وهذا غاية المناقضة لصريح المعقول.
وقوله: إنه بعيد من المعارف الأول، أنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم فهذا قاله بناءً على ما يراه أن هذا حق في نفس الأمر.(10/240)
والصواب أن هذا ممتنع في صريح العقل، معلوم علماً يقينياً أن العلم ليس هو نفس العالم، ومن قال هذا فقد أتى بغاية السفسطة، وجحد العلم الضروري.
وأما قوله: ليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول -وهو أن تكون الذات والصفات شيئاً واحداً- ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، وإنما برهان ذلك عند العلماء الذين هم الفلاسفة عنده.
فيقال: لا ريب عند كل من له عقل أن ما يذكره الفلاسفة في نفي ذلك أفسد في العقل الصريح مما يذكره المتكلمون.
وأنت قد أفسدت طريقة ابن سينا، ولم تعتمد في ذلك إلا على إثبات النفس، وهو أنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الباري كذلك.
ومن المعلوم أن الأدلة النافية لهذا عن النفس: إن كانت صحيحة، فهي على نفي ذلك عن الرب أولى، وإن لم تكن صحيحة بطل قولك.
ومن المعلوم أن أدلة نفي الجسم عن النفس أضعف بكثير من نفي ذلك عن واجب الوجود.
فكيف يكون الأضعف حجة على الأقوى؟!.
وقد تكلم على فساد.
ما ذكروه في النفس في غير هذا الموضع.
وأما ما ذكره من أنه لا يمكن أن يكون بهذا النفي يقين إلا عند من عني بالصناعة البرهانية -يعني طريقته الفلسفية- وقوله: إن صناعة الكلام جدلية لا برهانية.(10/241)
فهذا كما يقال في المثل السائر: رمتني بدائها وانسلت، ولا يستريب عاقل نظر في كلام الفلاسفة في الإلهيات، ونظر في كلام أي صنف قدر من أصناف اليهود والنصارى فضلاً عن أصناف المتكلمين من المسلمين، أن ما يقوله هؤلاء في الإلهيات أكمل وأصح في العقل مما يقوله المتفلسفة، وأن ما يقولونه في الإلهيات قليل جداً، وهو مع قلته فأدلة المتكلمين خير من أدلتهم بكثير.
وهذه طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وصفاته، لا تفيده إلا ما لا نزاع فيه، وهو وجود واجب الوجود.
وأما كونه مغايراً للأفلاك، فإنما بناه على نفي الصفات، وهو مع فساده فدليلهم على نفيه أضعف من دليل المعتزلة.
فهم مع مشاركتهم للمعتزلة في النفي، لا يستدلون إلا بما هو أضعف من دليلهم.
وأما هذا الرجل فإنه تارة يأخذ طريقة متلقاة من الشرع، وتارة طريقة متلقاة عن المتكلمين، وتارة يقول ما يظن أنه قول الفلاسفة، لم يحك عن الفلاسفة في الإلهيات طريقة إقناعية، فضلاً عن طريقة برهانية.
وإذا قدر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده.
والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية، وإلا فصورته أمر سهل بقدر عليه عامة الناس.
وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة.
وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه،(10/242)
أعني من هذا.
هذا بتقدير أن يكون ما ذكروه في المنطق صحيحاً، فكيف وفيه من الفساد والتناقض ما هو مذكور في موضعه؟.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن التنزيه ورد ابن تيمية عليه
قال: الفصل الرابع: في معرفة التنزيه.
قال: وإذ قد تقرر من هذه المناهج التي سلكها الشرع في تعليم الناس: أولاً: وجود الباري سبحانه، والطرق التي سلكها في نفي الشريك عنه ثانياً، والتي سلكها ثالثاً في معرفة صفاته، والقدر الذي صرح به من ذلك في جنس جنس من هذه الأجناس، وهو القدر الذي إذا زيد فيه أو نقص أو حرف أو أول، لم تحصل به السعادة المشتركة للجميع، فقد بقي علينا أن نعرف أية الطرق التي سلكها بالناس في تنزيه الخالق سبحانه عن النقائص، ومقدار ما صرح به من ذلك، والسبب الذي من قبله اقتصر بهم على ذلك المقدار.
ثم نذكر بعد ذلك الطرق التي سلك بالناس في معرفة(10/243)
أفعاله، والقدر الذي سلك بهم من ذلك، فإذا تم لنا ذلك فقد استوفينا غرضنا الذي قصدناه.
قال: فنقول: أما معرفة هذا الجنس الذي هو التنزيه والتقديس، فقد صرح به أيضاً في غير ما آية من الكتاب العزيز، فأبينها في ذلك وأتمها قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ، وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] .
والآية الأولى هي نتيجة هذه والثانية برهان، أعني أن قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] ، هو برهان قوله: {ليس كمثله شيء} وذلك أنه من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون: إما على غير صفة الذي لا يخلق شيئاً، أو على صفة غير شبيهة بصفة الذي لا يخلق شيئاً، وإلا كان من يخلق ليس(10/244)
بخالق فإذا أضيف إلى هذا الأصل أن المخلوق ليس بخالق يلزم من ذلك أن تكون صفات المخلوق: إما منتفية عن الخالق، أو موجودة فيه على غير الجهة التي هي عليها في المخلوق.
قلت: صفات النقص يجب تنزيهه عنها مطلقاً، وصفات الكمال تثبت له على وجه لا يماثله فيها مخلوق.
قال: وإنما قلنا على غير الجهة، لأن من الصفات التي في الخالق صفات استدللنا على وجودها بالصفات التي هي لأشرف المخلوقات هنا، وهو الإنسان، مثل إثبات العلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام وغير ذلك.
قال: وهذا معنى قوله عليه السلام: إن الله خلق آدم على صورته.
قال: وإذا تقرر أن الشرع قد صرح بنفس المماثلة بين الخالق والمخلوق، وصرح بالبرهان الموجب لذلك، وكان نفي المماثلة يفهم منه(10/245)
شيئان: أحدهما: أن يعدم الخالق كثيراً من صفات المخلوق، والثاني: أن توجد فيه صفات المخلوق على وجه أتم وأفضل بما لا يتناهى في العقل، فلينظر ما صرح به الشرع من هذين الصنفين، وما سكت عنه، وما السبب الحكمي في سكوته.
قلت: ونفي المماثلة قد يتضمن إثبات صفات الكمال للخالق، لا يثبت للمخلوق منها شيء، فكما أن في صفات المخلوق ما لا يثبت للخالق، فكذلك في صفات الخالق ما لا يثبت للمخلوق.
لكن هذا الضرب لا يمكن الناس معرفته في الدنيا، فلهذا لم يذكر.
قال: فنقول: أما ما صرح به الشرع من نفي صفات المخلوق عنه، فما كان ظاهراً من أمره أنه من صفات النقائص، فمنها الموت، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] .
ومنها النوم وما دونه مما يقتضي الغفلة والسهو عن الإدراكات والحفظ للموجودات، وذلك مصرح به في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] .
ومنها النسيان والخطأ، كما قال تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] .(10/246)
والوقوف على انتقاء هذه النقائض هو قريب من العلم الضروري.
وذلك أن ما كان قريباً من هذه من العلم الضروري، فهو الذي صرح الشرع بنفيه عنه سبحانه وتعالى، وأما ما كان بعيداً من المعارف الأولى الضرورية، فإنما نبه عليه بأن عرف أنه من علم الأقل من الناس، كما قال في غير ما آية من الكتاب العزيز: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30] : مثل قوله: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] .
ومثل قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30] .
قال: فإن قيل: فما الدليل على انتفاء هذه النقائض عنه، أعني: الدليل الشرعي؟ قلنا: الدليل عليه ما يظهر من أن(10/247)
الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد، ولو كان الخالق يدركه خطأ أو غفلة، أو سهو أو نسيان لاختلت الموجودات.
وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في غير ما آية من كتابه.
فقال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41] ، قال تعالى: {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] .
قال: فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية: هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق تعالى؟ أم هي من المسكوت عنها؟ أو أنه لم يصرح بنفيها ولا إثباتها، ولكن صرح بأمور تلزم -يعني الجسمية في بادي الرأي منها- فنقول: إنه من البين من أمر هذه الصفة أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع(10/248)
قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من كتابه، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجوداً.
ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.
وهؤلاء أيضاً قد ضلوا إذ صرحوا بما ليس حقاً في نفسه، وما يوهم أيضاً التشابه بين الخالق والمخلوق.
وإنما صرح الشرع بأشياء توهمها لا يصر، فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجوداً ليس بجسم، ولا أيضاً إذا سمع تلك الأشياء خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية.
وهذه هي حال جمهور الناس، لأن الذين يتطرق لهم من ذلك إثبات الجسمية هم قليل من الناس، وهؤلاء ففرضهم الوقوف على الدلائل التي توجب نفي الجسمية.(10/249)
قلت: ولقائل أن يقول: أما قوله: صار كثير من أهل الإسلام يقولون: إنه جسم لا يشبه الأجسام فهذا صحيح.
وأما قوله: وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن اتبعهم.
فيقال له: ليس في الحنابلة من أطلق لفظ الجسم، لكن نفاة الصفاة يسمون كل من أثبتها مجسماً بطريق اللزوم، إذا كانوا يقولون: إن الصفة لا تقوم إلا بجسم، وذلك لأنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهؤلاء يسمون كل ما يشار إليه جسماً، فلزم -على قولهم- أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة، وما فطر الله عليه عباده، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيماً.
وهذا لا يختص طائفة: لا الحنابلة ولا غيرهم، بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم، حتى يقولوا في كتبهم: ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى مالك بن أنس، ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى الشافعي.
لكن لما جرت محنة الجهمية نفاة الصفات وسموا من أثبتها مجسماً في عهد الإمام أحمد، وقالوا: إن القرآن مخلوق، وحقيقة ذلك أن الله لم يتكلم بشيء، وقالوا: إنه لا يرى، ونحو ذلك -قام أحمد بن حنبل من إظهار السنة والصفات، وإثبات ما جاء في الكتاب والسنة من هذا الباب بما لم يحتج إليه غيره من الأئمة، وظهر ذلك في جميع أهل السنة(10/250)
والحديث من جميع الطوائف، وصاروا متفقين على تعظيم أحمد وجعله إماماً للسنة، فصار يظهر في أصحابه من الإثبات ما لا يظهر في غيرهم، بسبب كثرة نصوصهم في هذا الباب.
والنفاة يسمون المثبتة مجسمة ومشبهة.
وصاحب هذا الكتاب يجعل مثبتة الصفات -من الأشعرية ونحوهم- مشبهة، وأنه يلزمهم التركيب، والتركيب أصل للتجسيم.
كلام ابن رشد في تهافت التهافت في نفي الصفات ورد ابن تيمية عليه
مثل قوله في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإنه قال: وأيضاً فالذي يلزم الأشعرية للتجسيم من المحال أكثر من الذي يلزم مقدماتهم، التي منها صاروا إلى التجسيم، وذلك أنه إن كان مبدأ الموجودات ذاتاً ذات حياة وعلم وقدرة وإرادة، وكانت هذه الصفات زائدة على الذات، وتلك الذات غير جسمانية، فليس بين النفس وهذا الموجود فرق، إلا أن النفس هي في جسم، وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم، وما كان بهذه الصفة فهو ضرورة مركب من ذات وصفات، وكل مركب فهو محتاج ضرورة إلى مركب، إذ ليس يمكن أن يوجد شيء مركب في ذاته، كما أنه ليس يمكن أن يوجد متكون من ذاته، لأن التكوين -الذي هو فعل المكون- ليس هو شيئاً غير تركيب المتكون، والمكون ليس شيئاً غير المركب.(10/251)
وبالجملة فكما أن لكل مفعول فاعلاً، كذلك لكل مركب مركباً فاعلاً، لأن التركيب شرط في وجود المركب ولا يمكن أن يكون الشيء هو علة في شرط وجوده، لأنه كان يلزم أن يكون الشيء علة نفسه.
ولذلك كانت المعتزلة في وضعهم هذه الصفات في المبدأ الأول -راجعة إلى الذات، لا زائدة عليها، على نحو ما يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات، مثل كون الشيء موجوداً وواحداً وألياً وغير ذلك- أقرب إلى الحق من الأشعرية.
قال: ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول هو قريب من مذهب المعتزلة.
فيقال له: قولك: ليس بين النفس وبين هذا الموجود فرق، إلا من جهة أنها في جسم خطأ محض.
وذلك أن اتفاق الشيئين في بعض الصفات لا يوجب تماثلهما في الحقيقة، إذ لو كان كذلك لكانت المختلفات متماثلات، فإن السواد مخالف للبياض، وهو يشاركه في كون كل منهما لوناً وعرضاً وقائماً بغيره.
وأيضاً فمحققو الفلاسفة توافق على أن الأجسام ليست متماثلة، مع اشتراكها في التحيز، وقبول الأعراض، وغير ذلك من الأحكام.
والحيوان الصغير الحي، مثل البعوض والبق والذباب، ليس مثلاً للإنسان ولا للملك ولا للجني، وإن كان كل منهما حياً قادراً شاعراً متحركاً بالإرادة.(10/252)
والفلك عندهم حي ناطق، وليس مثل بدن الإنسان، الذي هو حي ناطق.
وقوله: هذا على الضرورة مركب من ذات وصفات.
إن أراد به أن ذات موصوفة بصفات لازمة لها، فهذا حق، وهم لا يسمون هذا تركيباً، فإذا سماه تركيباً لم تكن هذه التسمية حجة له على ما نفاه، لأن الذي نفاه بالدليل هو ما كان مركباً، وهو الذي جعله غيره مركباً، أو ما كان متركباً بنفسه، أي كانت أجزاؤه متفرقة فتركبت، بحيث يصير مركباً بعد أن لم يكن.
ومعلوم أن ما تركب بعد افتراقه، لم يكن تركبه بنفسه، كما ذكره في المتكون، فإن ما تكون بعد أن لم يكن متكوناً، لم يكن تكونه بنفسه.
وكما قال: كما أن لكل مفعول فعلاً، فإن لكل مركب مركباً فهذا إنما يعقل فيما ركبه غيره، أو ما كان مفرقاً فركب، كما أن المفعول لا يعقل أن له فاعلاً، إلا إذا فعله غيره، أو كان حادثاً، فلا بد للحادث من محدث.
أما ما كان واجباً بنفسه قديماً أزلياً مستلزماً لصفات لازمة له، فهذا لم يركبه أحد، ولا كان مفترقاً فتركب.
فمن أين يجب أن يحتاج هذا إلى مركب؟ وكيف يصح تمثيل هذا بالمتكون والمفعول اللذين كل منهما محتاج إلى غيره، بل هو حادث يفتقر إلى محدث؟.
وليس المعنى الذي سماه مركباً إلا موصوفاً بصفة لازمة له، فلو قال: كل متصف فلا بد له من واصف، أي ممن يجعل الصفة قائمة(10/253)
بمحلها، ما كان مبطلاً، فإن المتصف بالصفة إذا كان قديماً أزلياً واجباً بنفسه، كيف يجب هذا فيه؟
ثم هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية.
وهذا الرجل لا يسميها مركبة، ويبطل قول من يقول: هي مركبة من الهيولى والصورة، وقول من يقول: هي ممكنة، ومع هذا فهي جسم قائم به صفات وحركات.
فإذا كانت هذه لم تحتج عنده إلى ما يحتاج إليه المتكون، فكيف يحتاج إلى ذلك ما هو واجب بنفسه؟.
وقوله: لأن التركيب شرط في وجود المركب معناه أن لزوم الصفة للموصوف، أو أن التلازم الذي بين الأمور المتعددة في الواجب، شرط في وجودها، وهذا صحيح.
لكن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط، بل تجوز مقارنته له، وإذا كان الواجب الوجود واجباً بنفسه المتضمنة لصفاته، وكل من صفاته لا يوجد إلا مع الأخرى، ولا توجد الذات إلا بالصفات، ولا الصفات إلا بالذات كان هذا هو حقيقة الاشتراط، ولم يلزم من ذلك أن يكون المتصف بهذه الصفات هو علة فاعلة لما هو من لوازم وجوده، ولما لا يوجد إلا معه، وهو الشرط في وجوده.
وإن عنى بالعلة أعم من ذلك، حتى جعل الشرط علة، كان حقيقة قوله: لا يكون الشيء شرطاً في شرط وجوده.
وهذا ليس بصحيح، بل يجوز أن يكون كل من الشيئين شرطاً في وجود الآخر،(10/254)
وإن لم يكن علة فاعلة للآخر.
وهذا هو الدور المعي الاقتراني، وهو جائز، بخلاف الدور المعي القبلي، فإنه ممتنع.
وهذا موجود في عامة الأمور، فالأمور المتلازمة كل منها شرط في الآخر، فكل من الشرطين شرط في وجوده.
وغاية ذلك أن يكون الشيء شرطاً في وجود نفسه، أي لا توجد نفسه إلا إذا وجدت نفسه.
وهذا كلام صحيح، بخلاف ما إذا كانت نفسه فاعلة لنفسه.
فإن هذا ممتنع، فكل واحد من الأبوة والبنوة شرط في وجود الآخر.
وكل واحد من العلو والسفل شرط في وجود الآخر.
وكل واحد من التحيز والمتحيز شرط في الآخر.
وكل واحد من الماء والنار وطبيعته الخاصة به شرط في الآخر، ونظائر هذا كثيرة.
فكون إحدى الصفتين مشروطة بالأخرى، والذات مشروطة بصفاتها اللازمة، والصفات مشروطة بالذات، بحيث يمتنع تحقق شيء من ذلك إلا مع تحقق الآخر، وبحيث يلزم من ثبوت كل من ذلك ثبوت الآخر، هو معنى كون كل من ذلك شرطاً في الآخر، وهو شرط في شرط نفسه ووجوده.
وهؤلاء من أصول ضلالهم ما في لفظ العلة من الإجمال، فإن لفظ العلة كثيراً ما يريدون به ما لا يكون الشيء إلا به، فتدخل في ذلك العلة الفاعلة، والقابلة، والمادة، والصورة.
وكثيراً ما يريدون بذلك الفاعل فقط.
وهو المفهوم من لفظ(10/255)
العلة.
وبحوثهم في مسألة واجب الوجود عامتها مبنية على هذا التلبيس، فإن الممكن الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده، لا بد له من واجب يكون موجوداً بنفسه، لا بموجد أوجده.
فهذا هو معنى واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات، وهم يريدون أن يجعلوه وجوداً مطلقاً ليس له نعت ولا صفة ولا حقيقة غير الوجود المطلق، لأن الوجود الواجب يكون معلولاً لتلك الحقيقة، فلا يكون واجباً.
ولفظ المعلول مجمل، فإنهم يوهمون أنه يكون مفعولاً لها، وهي علة فاعلة له.
ومعلوم أن هذا ممتنع في الوجود الواجب، لكن الحقيقة الواجبة إذا قدر أن لها وجوداً يقوم بها، لم يلزم في ذلك الوجود إلا أن يكون له محل، وهو الحقيقة التي يقوم بها الوجود، وذلك الذي يسمونه العلة القابلة.
ومعلوم أن الدليل إنما أثبت موجوداً ليس له موجد، لم يثبت دليلهم موجوداً لا يكون وجوده قائماً بحقيقة، إن كان من الوجود ما هو قائم بحقيقة.
وهذا على قول من يقول: وجود كل شيء زائد على حقيقته، كما يقول ذلك طائفة من متكلمي المعتزلة وغيرهم، وإلا فالصواب عند أهل السنة والجماعة أن وجود كل شيء -وهو الوجود الذي في الخارج- هو عين حقيقته الموجودة في الخارج، فكل موجود فله حقيقة مختصة به في الخارج عن الذهن، والوجود الذي يشار إليه في الخارج هو تلك الحقيقة نفسها، لا وجود آخر قائم بها.(10/256)
فإذا قال أهل السنة: إن وجود الخالق عين حقيقته، أرادوا به إبطال قول أبي هاشم ومن وافقه من المعتزلة، ولم يريدوا بذلك قول ابن سينا وإخوانه من الفلاسفة: إن الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق، أو مطلق لا بشرط، فإن هذا القول أعظم فساداً من قول أبي هاشم بكثير.
بل هذا القول يعلم من تصوره بصريح العقل أن ما ذكروه يكون في الأذهان لا في الأعيان.
والمطلق بشرط الإطلاق قد سلموا في منطقهم أنه لا يكون إلا في الأذهان، والمطلق لا بشرط يسلمون أنه لا يوجد في الخارج مجرداً عن الأعيان.
وقد تقدم ما ذكره هو من أنه ألزم الأشعرية أن يكونوا مجسمة، والحنابلة فيهم ما في بقية الطوائف، منهم من هو على طريقة الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة، لا يطلقون هذا اللفظ على الله لا نفياً ولا إثباتاً، بل يقولون: إن إثباته بدعة، كما أن نفيه بدعة.
ومما أنكر أحمد وغيره على الجهمية نفي هذا اللفظ، وامتنع من الموافقة على نفيه، كما هو ممتنع عن إطلاق إثباته.
كذلك جرى في مناظرته لأبي عيسى برغوث وغيره من نفاة الصفات في مسألة القرآن، في محنته المشهورة، لما ألزمه بأن القول بأن(10/257)
القرآن غير مخلوق مستلزم أن يكون الله جسماً، فأجابه أحمد بأنه لا يدري ما يريد القائل بهذا القول فلا يوافقه عليه، بل يعلم أنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
وذلك أن أهل الكلام الذين تنازعوا في إثبات الجسم ونفيه، كالهشامية والكرامية ونحوهم ممن أثبته، وكالجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن نفاه، قد يدخل كل منهم في ذلك ما يخالف النصوص، فمن المثبتة من يدخل في ذلك ما يجب تنزيه الله عنه من صفات النقص ومن مماثلته بالمخلوقات.
والنفاة يدخلون في ذلك ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال.
ومن الحنابلة من يصرح بنفيه، كـ أبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، وغيرهم ممن سلك مسلك ابن كلاب والأشعري في ذلك.
ومنهم من يسلك مسلك المعتزلة كانتـ ابن عقيل، وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي، وغيرهم.
والذين لا يثبتونه أو ينفونه يصرح كثير منهم بتكفير المجسمة، فمنهم من يقول: من قال: هو جسم فقد كفر، ومن قال: ليس بجسم فقد ابتدع.
ومنهم من يصوب من قال: ليس بجسم، ويكفر من يقول بالتجسيم.
وقد حكى الأشعري في المقالات النفي عن أهل السنة والحديث، كما حكي عنهم أشياء بموجب ما اعتقده هو من مذهبهم.
والسلف والأئمة وأهل الحديث والسنة المحضة من جميع الطوائف لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله.
والألفاظ(10/258)
المجملة المبتدعة لا يثبتونها ولا ينفونها إلا بتبيان معانيها، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفاً لذلك نفوه، فلا يطلقون: هو جسم ولا جوهر، ولا يقولون: ليس بجسم ولا جوهر، كما لا يطلقون إثبات لفظ الحيز ولا ينفونه.
وأما قول هذا القائل: فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجوداً ليس بجسم، ولا أيضاً خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية، وهذه هي حال جمهور الناس.
فهذا كلام متناقض، فإنه إذا كان أكثر الناس لا يقدرون أن يتصوروا موجوداً ليس بجسم، فإنهم قطعاً تتطرق أذهانهم - عند سماع هذه الأمور- إلى إثبات الجسمية.
فقوله بعد ذلك: إن الذين يتطرق إلى أذهانهم من ذلك إثبات الجسمية قليل من الناس يناقض ما تقدم.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية
قال: وقد كان الواجب عندي في هذه الصفة قبل أن تصرح الفرق الضالة بإثباتها يجرى فيها على منهاج الشرع، ولا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .(10/259)
وينهى عن هذا السؤال.
وذلك لثلاثة معان: أحدها: أن إدراك هذا المعنى -أعني أنه ليس بجسم الذي هو الحق، ليس قريباً من المعروف بنفسه برتبة واحدة، ولا رتبتين، ولا ثلاث.
وأنت تتبين ذلك من الطرق التي سلكها المتكلمون في ذلك، فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم: أنه قد تبين أن كل جسم محدث، وإذا سئلوا عن الطريق التي يوقف منها على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرنا من حدوث الأعراض، وأنا ما لا يعرى عن الحوادث حادث، وقد تبين لك من قولنا أن هذه الطريقة ليس برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها، فإن ما يضعه هؤلاء القوم من أنه سبحانه ذات وصفات زائدة على الذات، يوجبون بذلك أنه جسم، أكثر مما ينفون عنه الجسمية بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا(10/260)
هو السبب الأول في أن لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم بين.
قال: فلذلك أضرب الإمام المهدي عن هذا الدليل، إذ كان لا يرضى الخواص ولا يقنع الجمهور، وسلك طريقاً عجيباً مشتركاً للصنفين جميعاً.
وهذا من خواصه في العلم، لا يعلم أحد ممن سلكه قبل ذلك، وهو طريق إثبات المثلية بين الأجسام، التي هي المساواة في جميع الخواص، فخاصة في تماثل قوتها في التناهي، أعني كل جسم قوته متناهية، وفي تماثلها في التركيب، وذلك أن من هاتين الجهتين افتقرت الأجسام إلى الفاعل.
أما افتقارها من جهة التركيب، فلأن كل مركب جائز، وكل جائز مفتقر إلى الفاعل.
وأما افتقارها إلى الفاعل من جهة تناهي قوتها، فلأن كل متناهي القوة، إن لم يقدر الفاعل الموت له تناهت قوته وفسد، ولم يمكن فيه أن يبقى طرفة عين.
وهو معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، فأنى بهذا الترياق الأعظم لهذا الداء العضال!.
قلت: ولقائل أن يقول: إن كان هذا المعلوم حقاً، فيمتنع أنه لم يعلمه أحد قبل ابن التومرت ممن هو أعلم بالله وأفضل منه.
وإذا كانت تلك الطريق باطلة، وهذا هو الطريق ولم يسلكه غيره، فلا يعلمه أحد قبله.
وهكذا كل من سلك طريقاً في النفي زعم أنه لم يسلكه غيره، فإنه يوجب أن ذلك لم يعلم قبله، فلا يكون من تقدم من خيار هذه الأمة(10/261)
معتقدين لهذا النفي، ولو كان حقاً لاعتقدوه، فما ذكره من المدح يعود بنقيض مقصوده.
وأيضاً فيقال: القول بتماثل الأجسام والاستدلال بذلك طريق معروفة سلكها المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.
والأشعري في كتاب الإبانة يقتضي كلامه أنه خالفهم فيها، فليست طريقاً غريبة.
وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تماثلها أصلاً.
وأما ما ذكره من التركيب وتناهي القوة، فإن صح كان دليلاً بنفسه.
فإنه سبحانه غني عن كل ما سواه، فلا يجوز أن يفتقر إلى فاعل بالضرورة باتفاق العقلاء.
وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تركيب الجسم وتناهي قوته.
والمنازع ينفي كلاً من الأمرين، كما قد ذكر في موضعه.
وأعجب من ذلك تفسير قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، بهذا المعنى، فإن فساد هذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
قال: وأما السبب الثاني، فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم.
فإذا قيل لهم: إن ها هنا موجوداً ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل، فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل.
ولهذا اعتقدت الطائفة التي(10/262)
أثبتت الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنه ملشية واعتقدت التي نفتها في المثبتة أنها مكثرة.
قال: وأما السبب الثالث فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت من الشرع شكوك كثيرة مما يقال في المعاد وغير ذلك.
فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها -أعني الجسمية- فرقتان: المعتزلة والأشعرية.
فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى نفي الرؤية.
وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية سنرشد إلى الوهن الذي فيها عند الكلام في الرؤية.
ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة في بادي الرأي عن الخالق سبحانه أنه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة.
وذلك أن بعث الأنبياء انبنى على(10/263)
أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه، أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء.
كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء.
وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] ، وقال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] .
وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة، على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة.
ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة، وإذا صرح بنفي هذا عسر تصور ما جاء في صفة الحشر من أن الباري سبحانه يطلع إلى أهل الحشر، وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تبارك وتعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] .(10/264)
وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل أقرب إليه منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع.
فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها.
وأما إذا أولت، فإنه يعود الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة، فتموت الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها.
وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، فيعود الشرع كله من المتشابه، مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء كلها تجدها غير برهانية، بل الظواهر الشرعية أقنع منها، أعني أن التصديق بها أكثر.
وأنت تتبين ذلك من قولنا في البرهان الله تعالى بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك تتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة، على ما سنقوله بعد.(10/265)
قال: وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور، أنه لمكان انتفاء هذه الصفة عن النفس، أعني الجسمية، لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس، فقال في الكتاب العزيز: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85] ، وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل في محاجة الكافر حين قال له: {ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] الآية، لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم، والله تعالى ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول الأشعرية.
وكذلك كان يكتفي بذلك موسى عليه السلام عند محاجة فرعون في دعوى الإلهية.
وكذلك كان يكتفي المصطفى صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه من الربوبية من(10/266)
أنه جسم والله تعالى ليس بجسم.
بل قال عليه السلام: إن ربكم ليس بأعور، واكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة.
التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه.
وكذلك كان يكتفي بنفي الجسمية في عجل بني إسرائيل.
فهذه كلها -كما تراه- بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأ المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه ستفترق أمته إليها.
فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا في جواب ما هو؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه.
ولذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به: لا ماهية له، لأن ما لا ماهية له لا ذات له.
قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم:(10/267)
إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} الآية [النور: 35] ، وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه فإذا جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه.
وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره من النظر إليها أو إليه.(10/268)
وفي كتاب مسلم: إن لله حجاباً من نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره.
قال: وفي بعض روايات الحديث: سبعين حجاباً من نور.
فينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الإفهام، مع أنه ليس بجسم، والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير المحسوس.
والنور لما كان هو أشرف المحسوسات، وجب أن يمثل لهم به أشرف الموجودات.(10/269)
فيقال: هذا الرجل يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية، الذين يقولون: إن الرسل أظهرت للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك، إذ كانت الحقيقة لو أظهرت لهم لما فهم منها إلا التعطيل، فخيلوا ومثلوا لهم ما يناسب الحقيقة نوع مناسبة، على وجه ينتفعون به.
وأبو حامد في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها، مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علماً ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المورث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية والدهرية، ونحوهم من حزب التعطيل والجحود.
وما ذكره هذا في النور أخذه من مشكاة أبي حامد وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد.
وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف.
ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام، وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر.
وقوله في النور: إنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك(10/270)
الأفهام، مع أنه ليس بجسم تناقض من وجهين: أحدهما: أن المحسوس الذي يحسه الناس ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم.
والثاني: أن النور الذي يعرفونه ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم، وذلك كنور المصابيح ونحوها.
فإنه إما أن يراد به نفس النور الخارج من ذبالة المصباح فذلك نار، والنار جسم.
وإما أن يراد به ما يصير على ما يلاقيه من الأرض والجدران والهواء من الضوء، فذلك عرض قائم بغيره.
وكذلك الشمس والقمر، إن أريد بالنور نفس ذات واحد منهما، كقوله: {جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [يونس: 5] ، فالقمر جسم.
وإن أريد بالنور ما على الأرض والهواء من ضوء ذلك، فذلك عرض، فلا يعرف الناس نوراً إلا هذا وهذا.
وأيضاً فإذا كان السؤال بما هو طبيعي للإنسان لا يقدر أن ينفك عنه، ولا يقنع الإقناع في جواب هذا السؤال بعد الاعتراف بوجود المسؤول عنه، بأن يقال: لا ماهية له لأن ما لا ماهية له لا ذات له، فلا يقع الإقناع بجواب ليس مطابقاً للحقيقة.
وبتقدير أن لا يكون هو في نفسه نوراً، يكون الجواب غير مطابق للحقيقة.
وحينئذ فالجواب المطابق للحق، مع الإعراض عن ذكر الحقيقة، أحسن من هذا، كما تقوله طائفة من الناس في جواب موسى لفرعون لما سأله بقوله: {وما رب العالمين * قال رب السماوات(10/271)
والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء 23-24] .
قالوا: لما سأله عن الماهية، والمسؤول عنه لا ماهية له، عدل إلى ما يصلح الجواب به.
فقول هؤلاء، مع أنه خطأ، أقرب من أن يجاب عن الماهية بما ليس مطابقاً للحق.
وإنما كان قول هؤلاء خطأ، لأن فرعون لم يسأل موسى سؤال مستفهم طالب للعلم بماهية المسؤول عنه، حتى يجاب جواب المستفهم السائل، كما ذكره الناس في جواب السؤال بما هو.
ولكن هذا استفهام إنكار ونفي وجحود للمسؤول عنه، فإن فرعون كان مظهراً لجحد الصانع.
ولهذا قال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] ، وقال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وقال: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36-37] ، تكلم بما هو جحد ونفي وإنكار لمسمى رب العالمين.
فقال: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] .
كما لو ادعى على أحد مدع أن هذا ولدك أو شريكك في المال، أو أعطاك هذا المال، ونحو ذلك.
فقال: من هو ولدي؟ ومن هو شريكي؟ ومن هو الذي أعطاني؟ فإنه يقول ذلك على سبيل الإنكار والجحد، لا على سبيل الاستعلام والاستفهام.
فإذا كان منكراً للحق أجيب بما يقيم الحجة عليه، فيقال له: هذا الذي ولدته امرأتك فلانة، أو الذي اشتريت أنت وهو المال الفلاني، أو هو(10/272)
الذي أقررت له بذلك، وأشهدت به عليك فلاناً وفلاناً، ونحو ذلك.
ولهذا أجابه موسى بما فيه تقرير لما أنكره وتثبيت له، فقال: {رب السماوات والأرض وما بينهما} [الشعراء: 24] ، وقال {ربكم ورب آبائكم الأولين} [الشعراء: 26] ، وذلك لأن العلم بثبوت هذا الرب أمر مستقر في الفطر، مغروز في القلوب.
يبين هذا أن السؤال عن ماهية الشيء الثابتة في الخارج يكون بعد الاعتراف بوجوده.
أما ما يكون مجحوداً منتفياً في نفس الأمر، فلا ماهية له في الخارج حتى يسأل عنها، ولكن قد يسأل المسؤول عن تصوير ما يقوله، وإن لم تكن له حقيقته في الخارج.
أما إذا ادعى شيئاً في الخارج، والمدعي ينكر وجوده، فإنه لا يطلب منه أن يعرفه ماهية ما لا حقيقة له، بل يسأله على طريق إنكار ذلك، لا على طريق الاستعلام عن ذلك.
وإذا كان المسؤول عنه مما لا وجود له طولب بتمييزه وتعريفه، حتى يبين له أنه لا وجود له، وأنك تدعي ثبوت ما ليس بثابت، كما يقال لمن يدعي أن هنا جبلاً من ياقوت أو بحراً من زئبق، أين هو؟ وكيف هو؟ وكما يقال لمن يدعي وجود المنتظر المعصوم الداخل إلى سرداب سامراً: بماذا يعرف؟ وكم كان عمره حين دخل؟ وماذا الذي يمنعه من الظهور؟ ونحو ذلك من المسائل التي يبين بها عدم المسؤول عنه، أو عدم ما أثبته المسؤول له.(10/273)
وهذا في القرآن كثير، كقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} [الأعراف: 195] .
وقوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] .
وقوله: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 19-21]
ومنه قولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41] .
وقول الكفار: {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون} [الصافات: 16-17] .
وإذا كان المسؤول عنه موجوداً، كان الجواب بما يدل على وجوده.
فلهذا أجاب موسى للمنكرين بما يدل على إثبات الصانع سبحانه، فإن افتقار السماوات والأرض وما بينهما، والمشرق والمغرب، والموجودين وآثارهم، إلى الصانع، واستقرار ذلك في فطرهم -أمر لا يمكن إنكاره إلا عناداً.
كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14] .
وذكر موسى عليه السلام السماوات والأرض، والليل والنهار، والأولين والآخرين، فذكر الأعلى والأسفل، والمتيامن والمتياسر، والمتقدم والمتأخر.
وهذه هي الجهات الست للإنسان، وذكر التقدم(10/274)
والتأخر بالزمان، بعد أن ذكر التقدم والتأخر بالمكان، فإن المكان دخل في السماوات والأرض، والمشرق والمغرب.
وذكر موسى خلق الإنسان، بعد أن ذكر الخلق العام.
كما في قوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق} [العلق: 1-2] .
وكما في قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] .
فإذا كان المسؤول عنه بما هو، لا بد أن تكون له ذات هي ماهيته، كان الجواب عنها بما يمكن من التعريف، فإن أمكن أن يعرف بعينه قيل: هذا هو، أو هو فلان ابن فلان، ونحو ذلك مما يميزه عند السائل، ويوجب معرفته بعينه بالإحساس، لكن معرفة عينه لم تحصل هنا بمجرد كلام المتكلم، بل بالإحساس به، وإن لم يمكن معرفته بعينه عرف بنظيره، ولا يكون له نظير من كل وجه، فإنه لو كان نظير من كل وجه، لم يكن المجهول إلا عينه.
وإذا كان المطلوب معرفة عينه لم يحصل الجواب بالنظير، وإنما يعرف بالنظير نوعه، فلا يجاب بالنظير، إلا إذا كان السؤال عن معرفة نوعه.
وحينئذ فتحصل المعرفة به بحسب مماثلة ذلك النظير له، لأجل القدر المشترك الذي بين المتماثلين.
كمن سئل عن الخمر، فقال: شراب مسكر فلا بد أن يكون السائل يعرف الشرب ويعرف السكر، ولكن لم يعرف نوع سكر الخمر، بل عرف مثلاً سكر الغضب والعشق والحزن، وعرف زوال العقل(10/275)
بالجنون والبنج، فلو سأل عن السكر، قيل له: لذة مع زوال الحزن.
فقولنا: لذة، يخرج سكر الغضب والحزن، فإنه ألم، بخلاف سكر العشق.
ولكن ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن تعريفه ذلك إلا بالقدر المشترك بين هذه اللذة وسائر اللذات، وبالقدر المشترك بين زوال العقل بهذا السبب وغيره من الأسباب.
ثم إذا انضم إلى ذلك أنه شراب يميز المسؤول عنه عن غيره.
ولهذا كان حقيقة الأمر أن الحدود المقولة في جواب ما هو إنما يحصل التمييز بين المحدود وغيره.
وأما نفس تصور حقيقته، فذاك لا يحصل بالقول والكلام، لا على وجه التحديد ولا غيره، بل بإدراك النفس المحدودة.
فالسائل إذ سأل عن الرب ما هو، أمكن أن يجاب بأجوبة تميزه عما سواه سبحانه، بحيث لا يشركه غيره في الجواب، ويمكن أن يذكر من الأمور المشتركة بحسب إدراك السائل ما يحصل به من المعرفة ما يشاء الله.
وأما معرفة كنه الذات، فذاك لا يمكن بمجرد الكلام، ليس لأنه لا كنه لها، لكن لأن تعريف كنه الأمور لا يمكن بمجرد العبارات.
فإذا قيل: هو نور، لم يمنع هذا أن تكون حقيقته نوراً.
كما إذا قيل: هو حي، أو عالم أو قادر، أو موجود.
لكن ليس هو مثل شيء من الأنوار المخلوقة، كما أنه ليس مثل شيء من الأحياء العالمين المخلوقين، ولا شيء من الموجودات المخلوقة.(10/276)
ولكن لولا القدر المشترك لما كان في الكلام فائدة.
ثم القدر المميز يحصل بالإضافة، فيعلم أنه نور ليس كالأنوار، موجود ليس كالموجودين، حي لا كالأحياء.
وهذا الجواب هو جواب أهل التحقيق من المثبتين الذين ينفون علم العباد بماهيته وكيفيته، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال.
ويقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
ويقولون: حجب الخلق عن معرفة ماهيته، ونحو ذلك.
وأما من نفى ثبوت هذه الأمور في نفس الأمر، فقال: لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال.
كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية، وغيرهم من أصحاب الفقهاء الأربعة- فهؤلاء هم الذين خرجوا عن الجواب الطبيعي، وأرادوا تغيير الفطرة الإنسانية، كما غيروا النصوص الشرعية.
وإنما الكمال بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة.
والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها.
ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يجاب عن سؤال السائل بما هو، بما يجاب إذا سئل عن الأنواع، فإن الله لا مثل له سبحانه.
وإذا كان المخلوق الذي انحصر نوعه في شخصه، كالشمس مثلاً لا يمكن ذلك فيها، فالخالق سبحانه أولى بذلك.
وإذا كان تعريف عين الشيء لا يمكن إلا بمعرفته أو معرفة نظيره،(10/277)
والله لا نظير له، امتنع أن يعرف إلا بما تعرف به الأعيان من المعارف الخاصة بالمعروف باطناً وظاهراً، كما يهدي إليه به عباده المؤمنين من الإيمان به في الدنيا، وكما يتجلى لهم في الدار الآخرة.
وهذه المعرفة تطابق ما سمعوه، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيتطابق الإيمان والقرآن، ويتوافق البرهان والعيان.
والله سبحانه فطر عباده على الإقرار به فطرة تختص به، ليست كلية مشتركة بينه وبين غيره، كما جعل في الإبصار قوة ترى بها الشمس بخصوصها، لا تعرف الشمس معرفة مشتركة.
كما يقال في حدها: كوكب يطلع نهاراً.
بل معرفة الناس للشمس أعظم من معرفتهم لغيرها من أعيان الكواكب ولنوع الكواكب، لو كانت الشمس من نوع الكواكب، فكيف إذا لم تكن من نوعها؟.
ولهذا كانت الدلائل على الخالق آيات له.
والآية تختص بما في آية عليه، ليست قياساً كلياً يدل على معنى مشترك عام، بل تدل على معين موجود متميز عن غيره.
والأدلة القياسية الكلية التي يخصها باسم البرهان أهل المنطق ونحوهم، لا تدل إلا على أمر كلي.
كقولنا: الإنسان محدث، وكل محدث فله محدث: ينتظم قضيتين كليتين.
فقول القائل: الإنسان محدث، يعم كل إنسان، وعلمه بحدوث الإنسان المعين كعلمه بحدوث الإنسان الآخر، ليس علمه بهذه القضية الكلية أكمل من علمه بالواحد المعين، إلا أنه قد يجهل الإنسان حكم المعين، فيستدل عليه بنظيره.(10/278)
وكذلك قول القائل: كل محدث فله محدث، فما من محدث يعلم حدوثه إلا وهو يعلم أنه له محدثاً، كما أنه يعلم أن المحدث الآخر محدثاً، ثم إذا علم أن للمحدث محدثاً، فهذا علم مطلق كلي، ليس فيه معرفة بمعين، وليس هذا معرفة بالله تعالى.
وأما الآية فهي مختصة به، لا يشركه فيها غيره، فالإنسان، وغيره من الآيات تدل على عينه نفسه، لا تدل على نوع مطلق، إذ الدليل مستلزم للمدلول، وهذه الأدلة مستلزمة لعينه لافتقارها إليه، ليست مستلزمة لأمر مطلق كلي، إذا المطلق الكلي لا وجود له في الخارج.
لكن المستدل قد لا يعلم ابتداء استلزامها لنفسه، بل يعرف المشترك أولاً، ثم المختص ثانياً، كمن يرى شخصاً من بعيد، فيعلم أنه جسم، ثم يراه متحركاً إليه، فيعلم أنه حيوان، ثم يراه منتصباً، فيعلم أنه إنسان، ثم يراه فيعلم أنه زيد مثلاً، فكان علمه بعينه بحسب أدلته.
والرب تعالى متميز عن غيره بجميع خصائصه.
والناس تكلموا في أخص وصفه.
فقال من قال من المعتزلة: هو القدم.
وقال الأشعري وغيره: هو القدرة على الاختراع.
وقال من قال من الفلاسفة: هو وجوب الوجود.
والتحقيق أن كل وصف من هذه الأوصاف فهو من خواصه.
ومن خواصه أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم.
وكل اسم لا يسمى به غيره: كالله، والقديم الأزلي، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، ونحو ذلك -فمعناه من خصائصه.(10/279)
والاسم الذي يسمى به غيره، وهو عند الإطلاق ينصرف إليه: كالملك، والعزيز، والحليم- يختص بكماله وإطلاقه، فلا يشركه في ذلك غيره.
والاسم الذي يسمى به غيره ولا ينصرف إطلاقه إليه: كالموجود، والمتكلم، والمريد - يختص أيضاً بكماله، وإن لم يختص بإطلاقه.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية
ومن المعلوم أن الأسماء التي يختص بها بكل حال، أو عند الإطلاق، أو تنصرف إليه بالنية يجب أن يعلم المتكلم بها اختصاصه بها، وإلا لم يخصه بها، وتخصيصه بها مستلزم لمعرفة ما يختص به ويمتاز به غيره، فلا بد أن يكون في القلوب من المعرفة ما تختص به، ويمتاز به عن غيره.
وهذه المعرفة لا تكون بقياس كلي مدلوله معنى كلي، إذ الكلي لا تخصيص فيه، بل قد يحصل عن قياسين، مثل أن يعلم أن كل محدث له محدث، وأن المحدث للمحدثات ليس هو شيئاً من هذا العالم، ولا يكون اثنين، فيعلم أنه واحد خارج عن العالم، ومع هذا فإشارة القلوب إلى عينه خارجة عن موجب قياس الكلي.
وهكذا سائر المعلومات لا يمكن أن تعلم بمجرد القياس الكلي غير معينة في الخارج، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
ولهذا إذا ذكر الله توجهت القلوب إليه سبحانه، لما في الفطرة من معرفته أبلغ مما توجه إلى معين غيره إذا ذكر.
فإذا قيل: الشمس -أو(10/280)
الهلال- توجهت القلوب إلى ما عرفته من ذلك.
وتوجهها إلى ما عرفته من الخالق أكمل.
وهذا أمر مغروز فيها، وقد فطرت عليه.
وآياته دوال وشواهد، وهي كما قال تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} [ق: 7] ، فهي تبصر الجاهل، وتذكر الغافل.
قال ابن رشد: وههنا سبب آخر وجب أن يسمى به نوراً.
وذلك أن حال وجوده من عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل هي حال الإبصار عند النظر إلى الشمس، بل حال عيون الخفافيش، فكان هذا الصنف لائقاً عند الصنفين من الناس.
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام يناسب حال أهل الحيرة والضلال، الذين حارت عقولهم فيه فلم تعرفه، كما يحار البصر في الشمس فلا يراها، فقد مثله بالنور عند الجمهور، لكونه هو الذي يرى، وعند العلماء لكونه لا يرى، فاقتضى هذا أن الجمهور لهم به معرفة، وأن العلماء لا يعرفونه.
وهذا حقيقة كلام هؤلاء، فإنهم يجعلون ما أظهره الله من أسمائه وصفاته لتعريف الجمهور، إذ لا يمكن إلا ذلك.
وهو عندهم في(10/281)
الباطن ليس كذلك، بل موصوف بالسلوب التي لا يحصل منها إلا الجهل والحيرة والضلالة.
ومنتهاهم أن يثبتوا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الذهن لا في الخارج.
وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المتصوفة: أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد.
وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يثبتوا وجوداً للرب مبايناً للمخلوقات، متميزاً عنها، بل اعتقدوا أن هذا منتف، لكونه يقتضي ما هو منتف عندهم من التحيز والجهة.
قال: وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى، لما كان سبب الموجودات وسبب إدراكنا لها، وكان النور مع الألوان هذه صفته، أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل وسبب رؤيتنا لها، فبالحق ما سمى الله نفسه نوراً.
وإذا قيل: إنه نور، لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد.
قلت: هذا الرجل سلك مسلك صاحب مشكاة الأنوار، فإن ذلك الكتاب موضوع على قواعد هؤلاء المتفلسفة.
وابن رشد هذا يمدح(10/282)
كلامه في مشكاة الأنوار وما كان مثله مما وافق فيه الفلاسفة.
والمسلمون يقدحون في كلامه الذي وافق فيه الفلاسفة، ويمدحون من كلامه ما وافق فيه المسلمين وناقض به الفلاسفة، فما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هذا وأمثاله، وينشد:
يوماً يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدنان
وما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هؤلاء، وقد ذكر في مشكاة الأنوار ما يناسب ما ذكره هذا في النور.
ومن هنا دخل الملحدون من الاتحادية، الذين قالوا بوحدة الوجود، وقالوا: إن الخلق مجال ومظاهر، لأن وجود الحق ظهر فيها وتجلى، فجعلوا نفس وجوده هو نفس ظهوره وتجليه.
ومن المعلوم أن الشيء يكون موجوداً في نفسه ثم يظهر ويتجلى تارة، ويحتجب أخرى، سواء كان تجليه لوجود سبب الرؤية في الرائي، كالأعمى إذا صار بصيراً، أو لزوال المانع في الظاهر، كالحجب المانعة.
أو لهما جميعاً.
وهؤلاء جعلوا وجود الحق في المخلوقات، هو نفس ظهوره وتجليه فيها.
وسموها مجالي ومظاهر، وذلك أن حقيقة قولهم: إنه ليس موجوداً في الخارج، ولكنهم يظنون أنهم يعتقدونه موجوداً في الخارج،(10/283)
فإذا شاهدوا الوجود الساري في الكائنات، ظهر لهم هذا الوجود وهم يظنونه الله، فسموها مظاهر ومجالي، لأنها أظهرت لهم ما ظنوا أنه الله.
ولو أنهم جعلوها آيات أظهرت لهم وبينت ما دلت عليه من وجوه، وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، مع علمهم بأن وجوده مباين لوجودها -لكانوا مهتدين.
وما ذكره هذا الرجل موافقاً فيه لصاحب المشكاة أن النور سبب وجود الألوان، وسبب إدراكنا لها، كما أن الله سبب وجود الموجودات، وسبب معرفتنا بها -ليس بمستقيم، فإن الألوان موجودة في نفسها، سواء أدركناها أو لم ندركها، وهي في نفسها مستغنية عن النور، ولكن النور شرط في إدراكنا لها، لا في وجودها.
وليس المخلوق مع الخالق كذلك، بل الخالق هو المبدع لأعيان الموجودات، وليس هو معها كالشرط مع المشروط، ونحو ذلك مما يقتضيه كلام هذا الرجل في تهافت التهافت وكلام أمثاله من هؤلاء المتفلسفة الاتحادية وغيرهم، الذين يجعلونه مع الموجودات كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، كالكلي مع الجزئي، كالجنس مع النوع، أو النوع مع الشخص، ونحو ذلك من التمثلات التي يقتضي أنه مفتقر إليها، وهي مفتقرة إليه، وكل منهما مع الآخر، كالشرط مع المشروط، كما قد صرح بذلك صاحب الفصوص وغيره.
بل هو سبحانه الغني بنفسه عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما(10/284)
سواه مفتقر إليه من كل وجه، وليس شيء أفقر إلى شيء من المخلوق إلى الخالق، ولا شيء أغنى عن شيء من الخالق عن المخلوق، ولا يشبه فقر الخلق إليه وغناه عنهم شيء من أنواع الفقر والغنى.
وإذا قلنا: كالمفعول مع الفاعل، والمصنوع مع الصانع، والمبدع مع المبدع، أو كالمعلول مع العلة، والموجب مع الموجب، ونحو ذلك -فكل ذلك تقريب فيه قصور وتقصير منا، إذ ليس في الموجودات ما هو مع غيره كالمخلوق مع الخالق، ولا في الوجود مفعول له فاعل واحد له يستغني به، ولا معلول له علة واحدة تستغني به في الوجود.
بل كل ما في الوجود مما يظن أنه مفعول أو معلول لشيء من المخلوقات، فإن غايته إذا كان فاعلاً وعلةً، أن يكون محتاجاً إليه من وجه دون وجه.
وهو محتاج إلى غيره من وجه آخر، وهو فاعل وعلة له من وجه دون وجه.
وأما أن يكون في الموجودات ما هو مفتقر إلى فاعل أو علة، كافتقار المخلوقات إلى الخالق فلا.
وهذا من أسباب ضلال هؤلاء، فإنهم ضلوا في قياسهم الخالق، الذي ليس كمثله شيء، على المخلوقات، فيجعلون حال المخلوقات معه، كحال مفعولات العباد معهم، لا سيما وفيهم من يكون قوله شراً من ذلك.
ومن هذا الباب قول من جعل المعدوم شيئاً ثابتاً في الخارج،(10/285)
مستغنياً عن الخالق، ومن جعل الماهيات غير الأعيان الموجودة، فإذا ضم إلى أحد هذين القولين أن يجعل الوجود واحداً، والوجود الواجب هو الممكن -لزم أن يكون كل من وجود الأعيان وثبوتها مفتقراً إلى الآخر، وأن يكون الوجود الواجب مفتقراً إلى الذوات المستغنية عنه، كما يقوله صاحب الفصوص.
أو أن يكون وجود الأعيان، الذي هو الوجود الواجب عند هؤلاء، مفتقراً إلى الماهيات المستغنية عنه، كما يقوله آخرون منهم.
ويقول ابن سبعين وأمثاله: هو في كل شيء بصورة ذلك الشيء، فهو في الماء ماء، وفي النار نور، وفي الحلو حلو، وفي المر مر.
وقد وقع نوع من الحلول والاتحاد في كلام غير واحد من شيوخ الصوفية.
ولهذا كان الأئمة منهم، ك الجنيد وأمثاله، يتكلمون بالمباينة، كقول الجنيد: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم.
وفي كلام الشاذلي، والحرالي، بل وابن برجان، بل وأبي طالب وغيرهم من(10/286)
ذلك ما يعرفه من فهم حقيقة الحق، وفهم مقاصد الخلق.
ولهذا كان الناس يصفون السالمية بالحلول، فإن أبا طالب من أصحاب أبي الحسن ابن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التستري.
والناس في هذه المسألة على أربعة أقوال:
منهم من يقول بالحلول والاتحاد فقط، كقول صاحب الفصوص وأمثاله.
ومنهم من يثبت العلو ونوعاً من الحلول، وهو الذي يضاف إلى السالمية، أو بعضهم.
وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال: إنه يدل على ذلك.
ومنهم من لا يثبت لا مباينة ولا حلولاً ولا اتحاداً، كقول المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.
والقول الرابع إثبات مباينة الخلق للمخلوق بلا حلول.
وهذا قول سلف الأمة وأئمتها.
وكل من وقع بنوع من الحلول لزم افتقار الخالق إلى غيره واستغناء غيره عنه، فإن الحال في غيره إن لم يكن محتاجاً إليه بوجه من الوجوه امتنع الحلول، سواء قيل: إن الحال قائم بنفسه أو بغيره.
فإن قال الحلولي: أنا أثبت حلولاً لا كحلول الأجسام ولا الأعراض، وحينئذ فلا يلزم افتقاره فيه إلى غيره.(10/287)
قيل: هذا لا حقيقة له، وهو كقول من قال: أثبت قيامه بغيره من غير احتياج إلى ذلك المحل الذي من شأنه أن يقوم ما قام فيه، لأن قيامه بالغير ليس كقيام الأجسام والأعراض، وأثبته في غيره لا مماساً له ولا مبايناً له.
لكن هذا الجواب يصح من أهل السنة الذين ينكرون وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه.
وأما من أثبت هذا، فإنه لا يمكنه إبطال قول الحلولية، فإنهم يقولون: كما أثبت موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه فأثبته حالاً في الموجودات من غير أن يكون مفتقراً إليها.
فإذا قال: هذا لا يعقل.
قيل: وذاك لا يعقل، بلا تصديق العقل بوجود موجود في العالم غير مفتقر إليه، أقرب من تصديقه بوجود موجود لا داخل العالم ولا مباين له.
ولهذا كان انقياد القلوب إلى قول الحلولية أقرب من انقيادهم إلى قول نفاة الأمرين.
وجمهور الجهمية وعبادهم وصوفيتهم إنما يتكلمون بالحلول.
وإلا فالنفي العام لا تقبله غالب العقول، وإنما يقوله من يقوله من متكلمتهم.
وهؤلاء يخضعون لأرباب الأحوال والعبادات والمعارف من الجهمية الحلولية، ولا يمكنهم الإنكار عليهم بحجة ظاهرة، ويد مبسوطة، بل إما أن يكونوا مقصرين معهم في الحجة، وإما أن يكونوا مقهورين معهم بالحال والعبادة والمعرفة، لأن أولئك في قلوبهم تأله ووجد(10/288)
وذوق، وهؤلاء بطالون قساة القلوب، لأن القلب لا يتوجه بالقصد والعبادة إلى العدم والنفي، وإنما يتوجه إلى أمر موجود.
ولهذا كانت الجهمية النفاة داخلين في نوع من الشرك، إذ كل معطل مشرك، وليس كل مشرك معطلاً.
والجهمية قولهم مستلزم للتعطيل، ففيهم شرك.
وقد يكون الشرك فيمن ليس منهم، إذ إخلاص الدين لله مستلزم لإثباته، وليس إثباته مستلزماً للإخلاص، فمن أثبت شيئاً من الحقائق مستغنياً عن الله كاستغناء الألوان في أنفسها عن النور، أمكنه أن يقول: هو بالنسبة إلى تلك الأمور كالنور بالنسبة إلى اللون، إذ قد تظهر به تلك الأمور، كما ظهر اللون لنا بالنور.
قال ابن رشد: فقد تبين لك من هذا القول الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة، في هذه الصفة، يعني الجسمية، وما حدث في ذلك من البدعة.
قال: وإنما سكت الشرع عن هذه الصفة لأنه لا يعترف بموجود في الغائب أنه ليس بجسم إلا من أدرك برهاناً: أن في الشاهد موجوداً بهذه الصفة، وهي النفس.
ولما كان الوقوف على معرفة هذا(10/289)
المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم.
فلما حجبوا عن معرفة النفس، علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري تعالى.
قلت: ولقائل أن يقول: هو قد بين فساد طرق نفاة الجسم من المتكلمين، وكذلك بين فساد طريقة ابن سينا وغيره من الفلاسفة، وذكر أنه لا يمكن الاعتراف بوجود موجود في الغائب ليس بجسم، إلا من علم بالبرهان أن النفس ليست بجسم.
وحينئذ فيقال له: هذا أضعف من كلام المتكلمين ومن كلام الفلاسفة من وجهين: أحدهما: أن الأدلة الدالة على كون النفس ليست الجسم الإصطلاحي، وهو ما يمكن الإشارة إليه، وكونها لا توصف بحركة ولا سكون، ولا تقرب من شيء ولا تبعد عنه، ولا تصعد ولا تعرج ولا تهبط، ونحو ذلك مما يقوله فيها هؤلاء الفلاسفة -أضعف من أدلة نفي ذلك عن الباري، فإذا كانت تلك فاسدة فهذه أولى.
والثاني: أن يقال: هب أنه يثبت أن النفس لا يمكن الإشارة إليها، أو أن المخلوقات ما لا يمكن الإشارة إليها، فمن أين يجب أن يكون الخالق كذلك؟ غاية ما يثبت به: أن العقل لا يحيل ذلك، لكن عدم استحالته في العقل لا يقتضي ثبوته في نفس الأمر، بل ولا إمكانه في نفس الأمر.(10/290)
فإذا لم يكن ثم دليل عقلي ينفي الجسمية عن الباري، كما قد بينته، لم يكن في نفي ذلك عن النفس دليل على أن الباري كذلك، اللهم إلا أن يثبت أن هذا الجنس أشرف من غيره.
فيقال: الباري أحق بصفة الكمال من النفس، لكن كون الشيء لا يشار إليه أمر سلبي، والسلب المحض ليس صفة مدح ولا كمال، إلا أن يتضمن أمراً وجودياً.
وليس في كون الشيء لا يشار إليه ما يستلزم أمراً وجودياً، كما أنه ليس في كونه لا يرى ما يستلزم أمراً وجودياً، كما أن نفي الرؤية عن بعض المخلوقات لا يستلزم نفيها عن الباري تعالى.
وأيضاً فيقال: من المعلوم أن اتصاف الموصوف بكونه حياً عليماً قديراً، أكمل من اتصافه بكونه لا يشار إليه.
ثم أنتم تفرون من إثبات صفات الكمال للرب في نفس الأمر، لما في ذلك من التشبيه، فإذا شبهتموه بالمخلوق فيما دون صفات الكمال من الصفات السلبية، كان هذا أقرب إلى التشبيه الباطل ووصفه بالنقائص، ولكن هذه سنة معلومة للجهمية: يسلبون عن ربهم صفات الكمال فراراً من التشبيه بالكامل من الموجودات، ويصفون بالسلوب المتضمنة صفات النقص التي يشبهونه فيها بالجمادات والمعدومات والممتنعات، فإن العدم علم لا يشار إليه، كما أنه لا يرى، وكل ما يوصف به العدم المحض لم يكن كمالاً، بل هو إلى النقص أقرب.
وأما ما ذكره من سكوت الشريعة عن النفس.(10/291)
فيقال له: الكتاب -والسنة- مملوء بإثبات صفات النفس الدالة على أنه يشار إليها، وأنها بحكم اصطلاحهم -جسم، فإنه أخبر بقبضها ورجوعها وصعودها، ودخولها في عباده، ودخولها جنته، ودخولها البدن وخروجها منه، وعروجها إلى السماء، وأنها في حواصل طير خضر، وأمثال ذلك من الصفات التي تقولون أنتم: إنها لا تكون إلا لجسم.
وأما لفظ الجسم فهو في اللغة بمعنى البدن، أو بمعنى غلظه وكثافته.
كما قال: {وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: 247] .
وقال: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} [المنافقون: 4] .
ويقال: لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة.
وهذه المعاني منتفية عن الروح، فلم يصلح أن يعبر عنها في لغة العرب بلفظ الجسم، بل الناس يقولون: الجسم والروح، فيجعلون مسمى الأجسام غير مسمى الأرواح.
وإذا كان من الأعيان القائمة بنفسها الموصوفة بالصعود والعروج، والدخول والخروج، ونحو ذلك مما لا يسمى في اللغة جسماً، لم يجب أن يسمى كل ما قام بنفسه جسماً في لغتهم.
وأما في اصطلاحكم، فالجسم عندكم هو ما أمكن الإشارة إليه.
وما وصف بصعود أو هبوط فهو عندكم جسم، وما قامت به الصفات فهو عندكم جسم.
فعلى اصطلاحكم يجب أن تكون الروح جسماً، وليس في عدم إخبار الشارع بذلك حجة لكم.(10/292)
والناس قد تنازعوا في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] : هل المراد به روح ابن آدم، أو ملك من الملائكة، أو غير ذلك؟ على قولين مشهورين.
وبتقدير أن يكون المراد روح الإنسان، فالنص لم يخبر بكيفيتها، لأن الإخبار بالكيفية إنما يكون فيما له نظير يماثله، وليست الروح من جنس ما نشهده من الأعيان، فلا يمكن تعريفنا بكيفيتها، وإن كانت لها كيفية في نفسها.
ثم يقال لهذا الذي أحال على ما قالوه في النفس: من المعلوم أن أعظم برهان لهم في أن النفس ليست جسماً: قولهم: إن العلم يحل فيها، فلو كانت جسماً لا تقسم الحال فيها بانقسامها، فإن الجسم منقسم، والعلم لا ينقسم ولا بعض له.
وقد يفرضون ذلك في العلم بما لا ينقسم، كالعلم بالكليات والمجردات وواجب الوجود.
والعلم بالمعلوم الواحد لا ينقسم، إذ العلم يتبع المعلوم، فإذا لم يكن المعلوم منقسماً، لم يكن العلم منقسماً، فلم يكن محل العلم منقسماً، فلا يكون جسماً.
هذا أعظم ما عندهم من البراهين.
وقد اضطرب الناس في جوابه، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
لكن نقول هنا: جوابه من وجوه:
أحدها: أن يقال: قيام العلم بالنفس كقيام الحياة والقدرة والإرادة، والحب والبغض، وسائر الأعراض المشروطة بالحياة.
وهم يسلمون أن هذه الصفات تقوم بالجسم، فما كان جواباً عن قيام هذه الصفات بالنفس، كان جواباً عن قيام العلم.(10/293)
الثاني: ما عارضهم به صاحب التهافت وغيره.
وقالوا: هذا باطل عليكم بالقوة الوهمية التي تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس، كإدراك القوة التي في الشاة عداوة الذئب، فإنها في حكم شيء واحد لا يتصور تقسيمه، إذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر إدراك بعضه وزوال بعضه، وقد حصل إدراكها في قوة جسمانية عندكم، فإن نفس البهائم منطبعة في الأجسام لا تبقى بعد الموت، وقد اتفقوا عليه، فإن أمكنهم أن يتكلفوا تقدير الانقسام في المدركات بالحواس الخمس، وبالحس المشترك، وبالقوة الحافظة للصور، فلا يمكنهم تقدير الانقسام في هذه المعاني التي ليس من شرطها أن تكون في مادة.
وأورد على نفسه سؤالاً، فقال: هذه مناقضة في العقليات، إذ العقليات لا تنتقض، فإنه مهما لم يقدروا على الشك في المقدمتين، وهو أن العلم الواحد لا ينقسم، وأن ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم -لم يمكنهم الشك في النتيجة.
وأجاب بأن المقصود بيان تهافتهم وتناقضهم وقد حصل، إذ انتقض أحد الأمرين: إما ما ذكروه في النفس الناطقة، أو ما ذكروه في القوة الوهمية.
الجواب الثالث: أن يقال: ما تعنون بقولكم: العلم لا ينقسم، ومحله إذا كان جسماً ينقسم؟ إن عنيتم بالانقسام إمكان تغريقه، فلم قلتم: إن كل جسم يمكن تغريقه؟ وبتقدير أن يكون ممكناً في نفسه، فلم قلتم: إنه إذا قسم لا تبقى النفس نفساً ولا روحاً، وإن بقيت أجزاؤها متفرقة؟.
وكذلك يقال في العلم والقدرة والحياة وسائر الأعراض القائمة(10/294)
بالنفس: هي لا تبقى بعد تفرق النفس، فقيامها بالنفس مشروط ببقاء النفس.
فإذا قدر أنه فرقت لم تكن باقية، فلا تقوم بها الأعراض، وهذا كقيام الأعراض بالبدن، فإن قيام الحياة والحس والحركة ببعض البدن، قد يكون مشروطاً بقيامه بالبعض الآخر، فإذا قطعت بعض الأوصال فارقت الحياة والقدرة والحس لمحل آخر.
فما المانع من أن يكون قيام العلم وغيره من الأعراض مشروطاً بأن لا تفرق ولا تفسد إن كانت قابلة للتفريق؟.
الجواب الرابع: قولكم: العلم الواحد بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم: ما تعنون بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم؟ إن عنيتم به العقول المجردة، فتلك إثباتها فرع على إثبات النفس.
وكذلك واجب الوجود قد قلتم: إنه لا يمكن نفي ذلك عنه، إلا بعد نفي ذلك عن الجسم، فلو نفي ذلك عن النفس بناء على نفيه عنه، لزم الدور.
وهب أن منكم من لا يقول ذلك، فالمنازع لا يسلم ثبوت شيء من الموجودات على الوجه الذي تدعونه من أنه لا يشار إليه ولا إلى محله.
وأما الكليات فتلك ليس لها في الخارج معلوم ثابت لا ينقسم، وإنما هذا على زعم من يضن أن الكليات موجودة كلية في الخارج، وهو معلوم الفساد بالضرورة، وهو من أصول ضلالهم في المنطق والإلهيات.
وإنما هي في الذهن.
والكلي هو العام، واللفظ العام والمعنى العام يقوم بالجسم، كما يقوم اللفظ العام باللسان، وكما يقوم الشك المطلق والجسم المطلق واللون(10/295)
المطلق في الخيال.
وهذه كليات، وأفرادها موجودة في الخارج وهي تقوم بالجسم عندهم.
الجواب الخامس: أن يقال: سريان العرض في محله بحسب محله.
ومن المحال أن يقبل التفريق وتتفرق أعراضه مع بقائها، كما أن السواد والبياض القائم بالجسم يتفرق بتفرق محله، كالنور إذا قطع.
ومن المحال ما إذا فرق زالت أعراضه.
كالأشكال القائمة بالمشكل، فإذا فرق زال ذلك الشكل، فالاستدارة والتثليث والتربيع القائم بالجسم لا يبقى إذا فرق فأخرج عن ذلك الشكل إلى غيره.
وقد تكون الحياة والحس والحركة الإرادية، والعلم والقدرة، وغير ذلك مشروطاً بالشكل الخاص، أو غير ذلك من الأعراض.
ومن المحال ما لا يعقل تفريقه.
ومن قال: إن النفس جسم لا يلتزم إمكان تفريقها، وأنها مركبة من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، إلا إذا كان من القائلين بذلك.
وقد عرف أن جمهور الناس لا يقولون لا بهذا ولا بهذا، بل كثير من الطوائف النظار - أو أكثرهم - كالهشامية، والنجارية، والضرارية، والكلابية، وطائفة من الكرامية.
وإنما ادعى أنها مركبة من الجواهر المفردة من ادعاء من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الكرامية وغيرهم.
وأما القول بتركبة من المادة والصورة، فقول بعض الفلاسفة.
فهؤلاء إذا قالوا: إن النفس ليست جسماً، فقد أصابوا من وجه(10/296)
وأخطأوا من وجه.
أصابوا من حيث نفوا عنها هذا التركب والتبعيض والانقسام، وأخطأوا من حيث ادعوا ثبوت ذلك في كل ما يشار إليه، وكل ما يمكن الإحساس به ورؤيته.
فإنهم لما زعموا أن كل ما يمكن الإشارة الحسية إليه فهو جسم، وكل جسم فهو مركب بهذا الاعتبار- لزمهم أن تكون النفس بحيث لا يشار إليها إشارة حسية.
ومن المعلوم أن بدنها جسم معين محسوس، وأنها هي التي ترى المعينات وتشمها وتذوقها وتسمعها بتوسط البدن، فإذا كانت يشار إلى المعينات المحسوسة إشارة حسية تميز بها بين محسوس ومحسوس، وتتعلق ببدن معين مخصوص- لم تكن نسبتها إلى جميع الأبدان والأجسام واحدة.
وإذا قيل: هي تتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف.
قيل: المدبر المصرف لغيره: إن كان تدبيره بعينه، فلا بد من إحساسه.
وإما إن كان يدبره تدبيراً مطلقاً كلياً، مثلما يأمر الإنسان أتباعه أو أجناده بأمر عام، من غير قصد شخص معين منهم- فهذا لا يفتقر إلى الإحساس بآحادهم.
أما إذا أمر واحداً بعينه، فلا بد من امتيازه عن غيره.
وتمييز الأعيان بعضها عن بعض إنما هو بالحس الباطن أو الظاهر، ليس بمجرد العقل الكلي.
فإذا كانت تشير إلى المعينات من الأجسام المحسوسة، أشارت إليها الأجسام المعينة، فإن الإشارة الحسية مشتركة، فما أشير إليه إشارة حسية، أمكن أن يشير إشارة حسية، وما لا فلا.(10/297)
يبين هذا أن البدن والنفس يؤثر كل منها في الآخر، والنفس إذا أحبت ورضيت وفرحت وحزنت، أثر ذلك في البدن، والبدن إذا سخن أو برد، أو جاع أو شبع، أثر ذلك في النفس، فالتأثير مشترك.
وإذا كان البدن جسماً معيناً يؤثر فيها دون غيرها من الأنفس، فلا بد أن يشير إليها ويعينها دون غيرها من الأنفس، وإشارة البدن لا تكون إلا إشارة حسية.
والكلام على هذا مبسوط في موضعه.
قال ابن رشد: وأما ما حصله الإمام المهدي يعني محمد بن التومرت الذي ادعى أنه المهدي المبشر به، وأقام الملك المعروف بملك الموحدين، وكان كثير من مصنفي العلم في مملكة أتباعه يراعون ذكره وأقواله، حتى يذكروا اسمه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه دعا الناس إلى أقواله بالسيف، واستحل دماء من خالفه فيما ذكره من التوحيد وإمامته وغير ذلك، وكأصول التوحيد الذي هو توحيد الجهمية نفاة الصفات، وكان يقول بالوجود المطلق، وعلى منواله نسج ابن سبعين وأمثاله في التوحيد.
عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية
قال ابن رشد: وأما ما حصله الإمام المهدي من(10/298)
التصريح بنفي الجسمية، فهو الواجب بحسب زمانه، وذلك أن الناس لما اجترأوا على الشرع، وسألوا عما لم يسأل عنه الصحابة، وهل هو جسم أم ليس بجسم؟ إذ هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع، واشتهر هذا السؤال وفشا في الناس، وكان السبب فيه سؤال من دعي إلى الدخول في الإسلام من سائر الأمم الذين اعتادوا النظر، لم يكن بد لأهل الإسلام من الجواب في ذلك فأجاب بعضهم في ذلك بجواب خطأ، وهو أنه جسم، وأجاب بعضهم بأنه ليس بجسم، وهو الجواب الصواب، وكثر الاختلاف بينهم ووقع الشك والحيرة، وكفر بعضهم بعضا.
قال: ولما كانت خاصة الإمام المهدي رفع الاختلاف بين الناس، أتى مقرراً لنفي الجسمية عنه سبحانه، كفر المثبت(10/299)
للجسمية، وهو شيء جرى من فعله في الشرع في وقته -وبحسب الناس الذين وجد فيهم- مجرى التتميم والتبيين، والله يختص بفضله من يشاء.
قلت: ولقائل أن يقول: في هذا الكلام من المداهنة والمصانعة لأتباع ابن التومرت ما لا يخفى.
والمقصود العلمي أن يقال: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أنه قد أسلم على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأمم، ودعي إلى الإسلام من أصناف الأمم، من لا يوجد بعدهم مثلهم في الحذق والنظر، فإن الصحابة دعوا أكمل الأمم: العرب، والعبرانيين، والروم، والفرس، ومن دخل في هؤلاء من القبط والنبط، وفتحوا أوسط الأرض، وكل من دعي -أو أسلم- بعد هؤلاء، كالترك، والديلم، والبرير، والحبشة، وغيرهم، فإنهم دون هؤلاء في الفضل.
ومن المعلوم أن فلسفة اليونان والهند ونحوهم كانت موجودة إذ ذاك كوجودها اليوم وأكثر، إذ كانت اليونان موجودين قبل مبعث المسيح، وكان أرسطوا وملكه الإسكندر بن فليبس قبل المسيح بنحو(10/300)
ثلاثمائة سنة، وآخر ملوكهم بطليموس، الذي دخل النصارى عليهم.
ثم من نظر في أخبار الأمم الذين لم يكن لهم كتاب كالروم واليونان ونحوهم، علم أن النصارى أكمل منهم في الإلهيات، وأفضل وأعلم منهم وأعقل، وإنما كان يكون حذق تلك الأمم في غير العلوم الإلهية، كالطب والحساب والهيئة ونحو ذلك.
وأعظم اشتغالهم بالهيئة إنما كان لأجل الشرك والسحر ودعوة الكواكب والأوثان من دون الله، فإنهم يقولون: إنهم يستخرجون قوى الأفلاك ويمزجون بين القوة الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية.
ولهذا يوجد في بلادهم من الطلاسم ونحوها ما هو معروف بأرض مصر والشام والجزيرة وغيرها.
فدعوى المدعي أن الناس احتاجوا، فيمن يدعونه إلى الإسلام، إلى تغيير الأصول الشرعية، التي لم يحتج الصحابة إلى تغييرها -دعوى باطلة.
الوجه الثاني: أن يقال: القرآن فيه بيان الوجوب عن هذا السؤال، وسائر ما يسأل عنه، لكن يريد الذي يجيب بما في القرآن والسنة أن يعرف معاني القرآن والسنة، ويعرف معاني كلام السائل، فإن الناس لهم عبارات يعبرون بها عن معانيهم غير العبارات التي في الكتاب والسنة، كما لأمة لسان غير لسان العرب.
فالمجيب بما جاء به الرسول يحتاج إلى أن يعرف معنى العبارتين: العبارة التي خاطب بها الرسول، والعبارة التي وقع بها السؤال.(10/301)
ثم هذه العبارات قد تكون غريبة غير معناها، وقد لا يكون معناها مغيراً، وقد لا تكون غريبة.
فلفظ الهيولى ونحوها من كلام الفلاسفة ليس غريباً في لغتهم، معناه مثل معنى المحل والموضع ونحو ذلك.
ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه عن معناه في لغة العرب، فإنهم يعنون بالعقل جوهراً قائماً بنفسه.
والعقل في لغة العرب عرض هو علم أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك.
والمادة من جنس الهيولى عندهم.
وكذلك لفظ الجسم والجوهر والعرض والتحيز والانقسام والتركيب: معانيها في اصطلاح النظار غير معانيها في لغة العرب.
لكن هذه الألفاظ لم تستعمل في القرآن في الأمور الإلهية.
وكذلك غير طائفة من أهل الكلام والفلسفة لفظ التوحيد والإيمان والسنة والشريعة ونحو ذلك من الألفاظ المستعملة في الأمور الإلهية.
والمقصود هنا أن السائل إذا سأل عن الأمور الدينية بألفاظ ليست مأثورة عن الرسول في ذلك، مثل سؤاله بلفظ: الجهة، والحيز، والجسم، والجوهر، والمركب، والمنقسم، ونحو ذلك- نظرنا إلى معنى لفظه، فأثبتنا المعنى الذي أثبته الله ونفينا المعنى الذي نفاه الله.
ثم إن كان التعبير عن ذلك بعبارته سائغاً في الشرع، وإلا عبر بعبارة تسوغ في الشرع.
وإذا كانت عبارته تحتمل حقاً وباطلاً، منع من إطلاقها نفياً وإثباتاً.(10/302)
ولفظ الجسم والجوهر ونحوهما من هذا الباب.
فإذا قال السائل: هل الله جسم أم ليس بجسم؟ لم نقل: إن جواب هذا السؤال ليس في الكتاب والسنة، مع قول القائل: إن هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع.
والله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] .
وقال: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115] .
وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89] .
وقال: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 111] .
وقال: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] .
وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] .(10/303)
وقال: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] .
وقال: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15-16] .
وقال: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] .
وقال: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51] .
وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157] .
ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل.
وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» .
وكان يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من(10/304)
بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» ، وفي لفظ: «وكل محدثة بدعة» .
وكان يقول: «تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .
وكان يقول: «ما أمركم الله بشيء إلا أمرتكم به، ولا نهاكم الله عن شيء إلا نهيتكم عنه» .
وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً.
ومثل هذا كثير.
فكيف يكون هذا- مع هذا البيان والهدى - ليس فيما جاء به جواب عن هذه المسألة، ولا بيان الحق فيها من الباطل، والهدى من الضلال؟! بل كيف يمكن أن يسكت عن بيان الأمر، ولو لم يسأله الناس؟!.(10/305)
واعتقاد الحق واجب فيها: إما على العامة والخاصة، وإما على الخاصة دون الأمة، لا سيما مع كثرة النصوص المشعرة بأحد قسمي السؤال.
وإنما يقول: إن جواب هذا السؤال وأمثاله ليس في الكتاب والسنة، الذين يعرضون عن طلب الهدى من الكتاب والسنة، ثم يتكلم كل منهم برأيه ما يخالف الكتاب والسنة، ثم يتأول آيات الكتاب على مقتضى رأيه، فيجعل أحدهم ما وضعه برأيه هو أصول الدين الذي يجب اتباعه، ويتأول القرآن والسنة على وفق ذلك، فيتفرقون ويختلفون.
كما قال فيهم الإمام أحمد: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب.
ولو اعتصموا بالكتاب والسنة لاتفقوا، كما اتفق أهل السنة والحديث.
فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم.
ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا قال: إن الله ليس بجسم، بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية، من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات، مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه.
كما قيل: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً.
ومن يعبد إلهاً موجوداً موصوفاً بما يعتقده هو من صفات الكمال، وإن كان مخطئاً في ذلك، خير ممن لا يعبد شيئاً، أو يعبد من لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات.(10/306)
ونفاة الصفات، وإن كانوا لا يعتقدون أن ذلك متضمن لنفي الذات، لكنه لازم لهم لا محالة، لكنهم متناقضون.
ولهذا لا يوجد فيهم إلا من فيه نوع من الشرك، ولا بد من ذلك لنقص توحيدهم الذي به يتخلصون من الشرك.
والمقصود أن يقال: جواب هذا السؤال في الشريعة.
وذلك أن يقال: إن الله قد بين ما هو ثابت له من الصفات وما هو منزه عنه، وأثبت لنفسه صفات الكمال، ونفى عنه صفات النقص.
فيقال لمن سأل بلفظ الجسم: ما تعني بقولك؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ فإن عنيت ذلك فالله تعالى قد بين في كتابه أنه لا مثل له، ولا كفو له، ولا ند له، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] .
فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله: فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات، فالله منزه عن ذلك، وجوابك في القرآن والسنة.
وإذا كان الله ليس من جنس الماء والهواء، ولا الروح المنفوخة فينا، ولا من جنس الملائكة، ولا الأفلاك، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ولحمه وعصبه وعظامه، ويده ورجله ووجهه، وغير ذلك من أعضائه وأبعاضه، أولى وأحرى.
فهذا الضرب ونحوه، مما قد يسمى تشبيهاً وتجسيماً، كله(10/307)
منتف في كتاب الله، وليس في كتاب الله آية واحد تدل، لا نصاً ولا ظاهراً، على إثبات شيء من ذلك لله، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافةً إليه.
كقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] و: {إن الله هو الرزاق ذو القوة} [الذاريات: 58] .
و: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] ، {ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 27] ، {والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ، كما قال: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] .
ومعلوم أن نفس الله، التي هي ذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، ليست مثل نفس أحد من المخلوقين.
وقد ذهب طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الحديث وغيرهم، وفيهم طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، إلى أن النفس صفة من الصفات.
والصواب أنها ليست صفة، بل نفس الله هي ذاته سبحانه، والموصوفة بصفاته سبحانه، وذلك لأنه بإضافته إليه قطع المشاركة.
فكذلك لما أضاف إليه علمه وقوته، ووجهه ويديه، وغير ذلك، قطع بإضافته إليه المشاركة.
فامتنع أن شيئاً من ذلك من جنس صفات المخلوقين، كما امتنع أن تكون ذاته من جنس ذوات المخلوقين.(10/308)
ولهذا اتفق السلف والأئمة على الإنكار على المشبهة، الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي.
وإن عنيت بلفظ الجسم الموصوف بالصفات، القائم بنفسه، المباين لغيره، الذي يمكن أن يشار إليه، وترفع إليه الأيدي -فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم والقوة والرحمة، والوجه واليدان، وغير ذلك، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه: {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الفرقان: 59] ، وأنه: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] .
فالقرآن مملوء من بيان علوه على خلقه، والصعود إليه، والنزول منه، ومن عنده، وإثبات علمه ورحمته، وغير ذلك من صفاته.
وإذا سميت ما هو كذلك جسماً، وسئلت: هل هم جسم؟ كان الجواب أن المعنى الذي سئلت عنه وأردته بهذا اللفظ قد بينه الله وأثبته في كتابه.
وأما إطلاق لفظ الجسم على الله، فهو كإطلاق الفلاسفة لفظ(10/309)
العقل ونحو ذلك.
وهذه العبارات في لغة العرب تتضمن معاني ناقصة ينزه الله عنها.
فالعقل هو المصدر الذي هو عرض، والله سبحانه منزه عن ما هو فوق ذلك، بل نفس تسميته عاقلاً ليس معروفاً في شرع المسلمين.
فقد تبين أن ما يعني بلفظ الجسم من تمثيل الله بخلقه ووصفه بالنقائص، فقد بين الله في كتابه أنه منزه عنه، وما يعني به من إثبات أنه قائم بنفسه، مباين لخلقه، عال عليهم، يرفعون إليه أيديهم عند الدعاء، ويعرج إليه بنبيه ليلة الإسراء -موصوف بصفات الكمال، منزه عما يستلزم العدم والإبطال- فقد بين الله في كتابه إثباته لنفسه، فلا يقال: إنه ليس في القرآن جواب هذا السؤال.
فإذا قال القائل بعد هذا: الجسم هو المؤلف أو المركب، فلا يكون جسماً، ونحو ذلك.
قيل له: لا ريب أن الله سبحانه غني عن كل ما سواه، لا يجوز أن يقال: إنه مفتقر إلى غيره في شيء فضلاً عن أن يقال: ركبه مركب، أو ألفه مؤلف.
والله قد أخبر في القرآن بمعناه.
وكذلك لا يجوز أن نظن أنه كان مفرقاً فاجتمع، أو أنه يتفرق، أو نحو ذلك مما ينافي صمديته وكماله في وقت من الأوقات.
وإذا قال قائل: الجسم هو القائم بنفسه، أو المشار إليه، فيكون جسماً.
قيل له: لا ريب أن الله قائم بنفسه، وأنه ترفع الأيدي إليه،(10/310)
ويشار إليه.
كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة بإصبعه إليه وجعل يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد.
وقال: إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً.
وقال: إشارة الرجل بإصبعه في الصلاة مقمعة للشيطان.
وهو إشارة إلى التوحيد.
ويقال لذلك:
أنت تقول: الجسم هو المركب، وهذا يقول: هو القائم بنفسه، وأنتما متفقان على أن الله تعالى لا يتفرق ولا يركبه أحد، وعلى أنه قائم بنفسه، فإن تنازعتما في كونه فوق العرش، وأن القرآن نزل منه، والملائكة تعرج إليه -فالصواب مع المثبت، وإن تنازعتما في كون استوائه على العرش مثل استواء المخلوق، أو في كونه مفتقراً إلى العرش، ونحو ذلك مما يتضمن وصفه بالنقص أو تمثيله بالخلق- فالصواب مع النافي.
وكذلك إن تنازعتم في إثبات علمه ورحتمه وقوته، فالصواب مع المثبت.
وإن تنازعتم في أنه: هل صفاته ذوات قائمة بنفسها، كما قد يحكى عن النصارى، فالصواب مع النافي.
فإن قال القائل: الأجسام المتماثلة، فإذا قلنا: هو جسم، لزم أن(10/311)
يكون مثلاً لغيره، بخلاف ما إذا قيل: حي وحي، وعليم وعليم، وقدير وقدير، فإذا هذا اتفاق في الصفات لا يقتضي التماثل في الذوات، فمن قال: هو جسم لا كالأجسام -كان مشبهاً، بخلاف من قال: حي لا كالأحياء.
وهذا السؤال يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري، ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
فيقال: إذا كان المخاطب لك ينفي أن يكون مماثلاً لغيره، وينفي التشبيه كما ننفيه، وأنت وهو قد تنازعتم في مسمى اسم من الأسماء: هل هو مماثل لغيره أو لا؟ كان ذلك نزاعاً لفظياً ونزاعاً عقلياً، ليس ذلك نزاعاً في أمر ديني، ولو تركوا الكلام في هذا، لم يضر ذلك الدين شيئاً، ويمكن كلاً منهما أن يعبر مقصوده الديني بما لا نزاع فيه، فيبقى هذا التمثيل بألفاظ ومعان لا نزاع فيها، ويثبت هذا قيام الرب بنفسه، ومباينته لخلقه، وعلوه على عرشه، بألفاظ ومعان لا نزاع فيها، من غير احتياج واحد منهما إلى التكلم بلفظ الجسم نفياً ولا إثباتاً.
فإن قلتم: نزاعنا في شيء آخر، وهو أن يسمى جسماً: هل هو مركب من الجواهر المفردة؟ أو من المادة والصورة؟ أم هو واحد لا تركيب فيه؟ فمن قال بالأول لم يجز أن يسميه جسماً.
ومن قال بالثاني سماه جسماً.
قيل: هذا نزاع لا يتعلق بالدين، فإن اللفظ إنما يكون البحث عن(10/312)
معناه من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع.
فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب، لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه.
فاللفظ الوارد في ذلك إن لم يعرف معناه لم يعرف ما أرادوا، ولهذا كان الواجب أن كل لفظ جاء في كلام المعصوم وجب علينا التصديق به، وإن لم يعرف معناه.
وما جاء في كلام غير المعصوم لم يجب علينا إثباته ولا نفيه حتى يعرف معناه.
فإن كان مما أثبته المعصوم أثبتناه، وإن كان مما نفاه نفيناه.
ولفظ الجسم في حق الله، وفي الأدلة الدالة عليه، لم يرد في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من السلف والأئمة.
فما منهم أحد قال: إن الله جسم، أو جوهر، أو ليس بجسم ولا جوهر.
ولا قال: إنه لا يعرف إلا بطريقة الأجسام والأعراض، بل ولا استدل أحد منهم على معرفة الله بشيء من هذه الطرق: لا طريقة التركيب ولا طريقة الأعراض والحوادث، ولا طريقة الاختصاص.
وإذا كان كذلك، فالمتنازعون في مسمى الجسم، متنازعون في أمر ليس من الدين: لا من أحكامه، ولا دلائله.
وهكذا نزاعهم في مسمى العرض، وأمثال ذلك.
بخلاف نزاعهم في إثبات المعنى المراد بلفظ الجسم ونفيه.
فإن هذا يتعلق بالدين، فما كان من الدين فقد بينه الله في كتابه وسنة رسوله، بخلاف ما لم يكن كذلك.
فإن قيل: فلا بد من فصل النزاع بين كل اثنين في الدين.(10/313)
قيل: فصل النزاع قد يكون بوجهين: أحدهما: نهي كل منهما عن منازعة الآخر بهذا، إذ هو نزاع فيما لا فائدة فيه.
كما لو تنازع اثنان في لون كلب أصحاب الكهف، ومقدار السفينة، والبعض من البقرة الذي أمر الله بالضرب به، إن قدر أنه كان معيناً، مع أن ظاهر القرآن يدل على أنه مطلق لا معين، وفي أمثال ذلك من الأمور التي لا فائدة فيها، وقد لا يكون إلى معرفتها سبيل -فمثل هذا ينهي كل منهم عن منازعة الآخر فيه، بل ينهي عن أن يقول ما لا يعلم.
والثاني أن يفصل النزاع ببيان الخطأ من الصواب.
وحينئذ فإذا فصل النزاع بين المتنازعين في الجسم، قيل: النزاع على وجهين: لفظي، ومعنوي.
فإن كنتم تتنازعون في مسمى الجسم في اللغة، فليس مسماه ما قلته أنت من أن كل قائم بنفسه أو مشار إليه يسمى جسماً، ولا ما قلته أنت من أن الجسم في اللغة هو المركب من أجزاء، فإن الهواء أو نحوه عنده مركب، والعرب لا تسميه جسماً، وهو مشار إليه قائم بنفسه، والعرب لا تسميه جسماً.
فقول كل واحد منكما غير موافق للغة العرب.
وغايته أن يكون اصطلاحاً منكم على معنى، كسائر الألفاظ الاصطلاحية، فيكون نزاعهم كتنازع الفقهاء في لفظ الفرض هل هو مرادف للواجب(10/314)
أو أوكد منه؟ ولفظ السنة هل يدخل فيه الواجب أو لا يدخل؟ ومثل هذه المنازعات اللفظية الكثيرة.
وهذه بمنزلة اللغات والعادات في العبادات، قد تحمد أو تذم بحسب الشرع تارة وبحسب اللغة أخرى، وقد لا تحمد ولا تذم.
وإن كان نزاعكم في معنى عقلي، وهو أن العين التي اتفقتم على تسميتها جسماً بحسب اصطلاحكم، وهي ما يشار إليه بقول أحدكما: إنها مركبة من أجزاء مفردة، أو المادة والصورة، والآخر ينكر ذلك -فهذا يمكن فصل النزاع بينكم، إذا كان النزاع معنوياً، بالأدلة العقلية تارة، وبغيرها أخرى.
ولكن مثل هذه المسائل لا يحتاج إليها الدين، كما لا يحتاج إلى مسائل الهيئة والتشريح، وإن كان العلم بها مما ينتفع به في الدين، كما ينتفع بالحساب والطب، وكما ينتفع بمسائل النحو واللغة، ونحو ذلك.
ومن هذا الباب ما ذكره من تماثل الأجسام، وتناهي قواها، وأنها مركبة مفتقرة إلى مركب -فإن هذه المسائل مما تنازع فيها العقلاء، مع اتفاق المسلمين على أن الله ليس له مثل ولا تنتهي قوته، وأنه غير مفتقر إلى غيره.
فالمعنى الذي يرده النافي بلفظ الجسم يوافقه المثبت عليه.
وإذا تنازعوا بعد هذا لم يكن نزاعهم إلا لفظياً، وليس لإطلاق لفظ واحد منهما أصل في الشرع: لا هذا ولا هذا.
فالشرع لم يسكت عن المعنى الذي يجب نفيه، الذي ينفيه النافي بلفظ الجسم، بل نفاه الشرع(10/315)
فلا يقال: إن الشرع سكت عما يحتاج إلى معرفته من معنى الجسم نفياً وإثباتاً.
ثم إذا كان المعنى الذي يريده النافي يمكنه نفيه بالشرع وبالعقل، بدون إطلاقه لفظ متنازع في أحكام معناه، كان نفي ذلك المعنى بما ينفيه من الأدلة الشرعية والعقلية، التي لا يمكن النزاع فيها، هو المشروع، دون بقية معان متنازع فيها هي طويلة متعبة بلا نزاع، وقد تكون مع ذلك باطلة.
ومن المعلوم أن من ترك سلك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقاً بعيدة لغير مصلحة راجحة، كان تاركاً لما يؤمر به، فاعلاً لما لا فائدة فيه، أو ما ينهى عنه، إذا كانت تلك الطريق موصلة إلى المقصود.
فأما مع الاسترابة في كونها موصلة أو مهلكة، فإنه لا يجوز سلوكها.
وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجاً طويلة، قد تهلك، وقد توصل، إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟!.
ولا ريب أن الذين يعارضون الكتاب والسنة إنما يعارضونها بطرق هؤلاء، فهم يعرضون عن كتاب الله في أول سلوكهم، ويعارضونه في منتهى سلوكهم.
وقال قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا(10/316)
يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123-124] .
فقد بين ان حذاق الفلاسفة أيضاً يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارع لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المحدثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية.
وإنما غايتهم أن يقولوا: إن الطرق الفلسفية تفيد علماً لبعض الناس، ليس مما يجب ولا يستحب لجمهور الناس، وأن ذلك العلم الخاص يخالف بعض الظاهر المعروف عند الجمهور.
ونحن نقبل من كلامهم ما أقاموا عليه الحجة الصحيحة، سواء كانت شرعية أو عقلية.
فأما إذا قالوا ما نعلم بطلانه رددناه.
وقد نبهنا على أن قولهم فيما يدعون الاختصاص به من علم الباطن، أضعف بكثير من قول من بينوا فساد قوله من المعتزلة والأشعرية.
وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات، سواء عارضوا به في الظاهر والباطن، كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها.
وهذا مما ينصر الله به رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فإن الله تعالى إذا أقام لكل طائفة تعارض الرسول من جنسها من يبين فساد قولها المعارض له، ويكشف جهلها وتناقضها -كان بمنزلة أن يقيم لكل طائفة تزيد محاربته من جنسها من يحاربها بالسلاح.
ثم المؤمن المجاهد يمكنه جهاد هؤلاء، كما يمكنه جهاد هؤلاء، ويمكنه أن يستعين بما فعلته(10/317)
كل طائفة بالأخرى، فإذا أغارت طائفة على أخرى وهزمتها، أتاها من الناحية الأخرى ففتح بلادها، وإن كان هو لم يستعن بأولئك ابتداء، لكن الله يسر بما فيه الهدى والنصر لعباده المؤمنين، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وهذا آخر الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
فرغ من نسخه العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير، يوسف بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور المقدسي، يوم السبت، أذان العصر ...
ثامن عشر المحرم، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ببستان الأعز.
رحم الله كاتبه، ولمن قرا فيه، ودعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين، وصلى الله على النبي محمد وآله.
بلغ مقابلة بحسب الإمكان على نسخه قوبلت على أصل المصنف رضي الله عنه، وهي المنقول منها، وتكلمت مقابلة جميع الكتاب بحمد الله وعونه، بعد أذان العصر، يوم السبت ثامن عشر المحرم، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها، في خير وعافية، بمنه وكرمه.
وكان ذلك بالمكان الذي فرغ من نسخه فيه.(10/318)
أنهي جميع هذا الكتاب نظراً من أوله إلى آخره ...
في مجالس عديدة، وأزمان مديدة، مطالعة تحقيق، وبحث وتدقيق، كان آخرها في أواخر شعبان المبارك، من شهور سنة خمسين وسبعمائة.
قال وكتبه عبد العزيز بن يحيى بن عبد المنعم بن محمد بن روح المضوي المدني، نفعه الله بالعلم، وزينه بالتقى والحلم.(10/319)