وكذلك ما نفاه من الاتحاد، ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد، فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما، ولا ببقاء أحدهما، وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن، والماء والخمر واتحاد النار والحديد.
فقوله: (هذا ليس باتحاد) نزاع لفظي، فهم يسمون هذا اتحاداً، فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الحلول والاتحاد، وإلا كان الدليل منصوباً في غير محل النزاع.
أما الأئمة الذين ردوا على الحلولية، فأبطلوا نفس ما ادعوه، وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول، كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل، فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء، والتعطيل شر من الحلول.
ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان، وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا، لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول، وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان، فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول، وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى.(6/154)
ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى، كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء.
وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة، فذكروها في مثالبه، وهو أنه كان له أخت نصرانية، وأنها هجرته لما أسلم، وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم، فرضيت عنه لأجل ذلك.
وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم، لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات، وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى، وهو أشبه بالنصارى، لأنه يلزمهم أن يقولوا: إنه في كل مكان، وهذا أعظم من قول النصارى، أو أن يقولوا ما هو شر من هذا، وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه.
ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره، يردون عليهم بمثل هذا، ويقولون: إذا كان المسلمون كفروا من يقول: إنه(6/155)
حل في المسيح وحده، فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفراً من النصارى بكثير.
وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول، إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات، القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين: إما الحلول، وإما التعطيل، والتعطيل شر من الحلول.
ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات.
وهم وإن قالوا: إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه، فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم، ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله، فيلزمهم: إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية، وإما إبطال قولهم، وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك.
وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد، حيث يقال: إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره، فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا، ويقولون: النصارى كفرهم لأجل التخصيص، وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض، والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي، بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم، وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود(6/156)
الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد، ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعاً، بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله، وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق، كما قد رأيناه وجربناه.
وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد، والتصوف والأخلاق، ودعوى المكاشفات والمخاطبات، ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة، فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه، وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله، الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق، وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم، كما يسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يفهمونه من أقواله، فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول، بمثابة من صدق محمداً رسول الله ومسيلمة الكذاب: صدق كلا منهما في أنه رسول، كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي، مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله، ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة، لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية، أو نفاة العلو وحده، إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات، أعرضوا عن فهم(6/157)
معناها، وإثبات موجبها ومقتضاها، وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها، وآمنوا للرسول إيماناً مجملاً بأنه لا يقول إلا حقاً، ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم، لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله، وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالاً مستقراً إلا بإثبات نقيضه.
فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى، إما مباين للعالم، وإما مداخل له، كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة، بل إما أن يقر بالمداخلة، وإما أن يبقى خالياً من اعتقاد المتقابلين المتناقضين، ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده، ولا ينكره ولا يرده، بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمداً قال: إنه رسول الله، وأن مسيلمة قال: إنه رسول الله، وهو لم يصدق واحداً منهما، ولم يكذب واحداً منهما، فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه.
فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق، لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد، بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات، فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به، ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون، من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو.(6/158)
وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعاً، لما كان في حقيقة الأمر نفياً للمتقابلين المتناقضين، بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون: لا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة، فإن كلاهما مبطل، لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين، أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين، فلهذا لا تكاد تجد أحداً من نفاة المباينة والمداخلة جميعاً، أو من الواقفة في المباينة، يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم، بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها، وكانت حجتهم أقوى من حجته.
فإذا قال لهم: لا يعقل الحلول إلا حلول العرض، فيكون الحال مفتقراً إلى المحل، أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم: لو كان حالاً لم يخل من المباينة والمماسة، فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة: هذا إنما يكون إذا كان الحال متخيراً أو قائماً بمتحيز، أو قالوا: هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها، فأما إذا قدرنا موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا متحيز، لم يمتنع أن يكون حالاً بلا افتقار إلى المحل، ولا مماسة ولا مباينة.(6/159)
فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة: هذا لا يعقل.
قالوا لهم: إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، ولا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه، وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم: قائم بنفسه، لا مماس له ولا مباين له، وليس بجسم ولا متحيز، أو وجود موجود مباين له، وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل.
وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه، ولا يكون محيزاً: لا جسماً ولا جوهراً: إما أن يكون ممكناً، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قول من يثبت موجوداً، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، وكان حينئذ قول من أثبت موجوداً خارج العالم أو داخله، وقال: إنه لا يشار إليه - أقل فساداً في العقل من هذا، وإن كان وجود موجود لا يشار إليه، وولا يكون جسماً ولا متحيزاً، ممكناً في العقل، فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك: إنه خارج العالم، لم يجب أن يشار إليه، ولا يكون جسماً منقسماً ولا مطابقاً موازياً محاذياً للعرش، لا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً.
وإن قيل مع ذلك: إنه حال في العالم، لم يجز أن يقال: إنه مماس أو مباين، لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه، فما(6/160)
لا يكون جسماً لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، وإذا كان قائماً بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال: هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل، بل إثبات ما لا يشار إليه، وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه.
ومما يقرر هذه الحجج: أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن نفي ذلك ليس معلوماً بضرورة العقل - احتجوا على ذلك بإثبات الكليات، واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا توصف بحركة ولا سكون، ولا مباينة لغيرها، ولا حلول فيه.
قالوا: وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة، والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم، بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم.
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء: إذا جوزتم إثبات الكليات لا(6/161)
داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بمعينات، بل جعلتموها جزءاً من المعينات، حيث قلتم: المطلق جزء من المعين، وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية، لا داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف، وجوزتم أيضاً وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم، فما المانع أن يكون واجب الوجود، مع تدبيره وتصريفه للعالم، متعلقاً به تعلق النفوس بالأبدان، وتعلق الكليات بالأعيان.
والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا: إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن، بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن، فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه، مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى، أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقاً بالأبدان، بل الموجودات كلها كذلك، وكان قول الجهمية الذين يقولون: إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول: إن المجردات في الأبدان والأعيان.
ومما يزيد الأمر وضوحاً أن هؤلاء الفلاسفة المشائين، ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمس أنواع من الجواهر: واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه، وهو الجسم في اصطلاحهم، وأربعة: هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها، وهي: العقل،(6/162)
والنفس، والمادة والصورة، مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة، وهما جوهران عقليان، كما يقولون: إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها.
فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة، معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال، ويجعلون هذا حالاً وهذا محلاً - لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالاً أو محلاً لهذه المحسوسات.
وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم، كابن سبعين وأمثاله، فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن - كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، أو ما يشبه ذلك - يجعلون الوجود الواجب جزءاً من الممكن، كما أن المطلق جزء من المعين، حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات، الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به، مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطاً بوجود المشروط، فيكون كل منهما شرطاً في وجود الآخر.
كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن
وهذه حقيقة قولهم: يجعلون الواجب مع الممكن، كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به، كالمادة والصورة.
فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم، والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها، ولا تتحقق ماهيتها إلا به، وبنى قوله على أصلين فاسدين.(6/163)
أحدهما: أن الوجود واحد، ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه، والآخر بغيره.
والثاني: أن وجود كل شيء زائد عن حقيقته وماهيته، وأن المعدوم شيء، موافقة لمن هذا وهذا: من المعتزلة والفلاسفة، ومن وافقهم من متأخري الأشعرية، فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فكان كل منهما مفتقراً إلى الآخر، ولهذا يقول: إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائص والعيوب، وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال، كما قال: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق، فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما أن صفات المحدثات حق للحق) .
ولهذا قال: (فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة:
{فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 102] ،(6/164)
فالولد عين أبيه، فما رأى يذبح غير نفسه {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات 107] ، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان، بل بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} [النساء: 1] ، فما نكح سوى نفسه) .
وقال: (فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده) .
وقال: (ولما كان فرعون في مرتبة الحكم، قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] أي، وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه، وأقروا(6/165)
بذلك، وقالوا: {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ، {فاقض ما أنت قاض} [طه: 72] فالدولة لك، فصح قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وإن كان عين الحق) .
وقال: (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتاب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء) .
وقال في قصة قوم نوح: {ومكروا مكرا كبارا} [نوح: 22] ، لأن الدعوة إلى مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية) .(6/166)
وقوله: (ادعوا إلى الله عين المكر، فأجابوه مكراً، كما دعاهم مكراً) ، فقالوا في مكرهم: {لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} [نوح: 23] ، فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] : أي حكم الله.
وفسر قوله: قضى، بمعنى قدر لا بمعنى أمر.
قال: (وما حكم الله بشيء إلا وقع) .
(والعارف يعرف من عبد.
وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود) .(6/167)
وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله، كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقاً لم يسبق إليه، وكان آخر قوله: (وأن الله في النار نار، وفي الماء ماء، وفي الحلو حلو، وفي المر مر، وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء) .
كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه.
وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة(6/168)
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلي رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي علي استدلال
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدث(6/169)
فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه، فهو المرسل والمرسل إليه والرسول،.
ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره: (الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله) .
ويقول أيضاً (نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه) .
ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وعنده أن غاية هذا التحقيق والعرفان.
ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو: يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم، ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه، ويرقي بها المرضي، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب.(6/170)
ويقول من هو من شعرائهم العارفين:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويشهد هذا السر من هو ذائق
ويقول:
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم
وأمثال هذا كثير.
والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم، ومن وافقهم يقال له: أين ذاك النفي - لا داخل ولا خارج - من هذا الإثبات؟ وهو أنه وجود كل موجود.
فيقول: هذا حكم عقلي، وهذا حكم ذوقي.
أو يرجع عن ذلك النفي، ويقول: المطلق جزء من المعينات، والوجود الواجب للموجودات،: مثل الكلي الطبيعي للأعيان، كالجنس لأنواعه، والنوع لأشخاصه، كالحيوانية في الحيوانات، والإنسانية في الأناسي، وهذا غايته أن يجعله شرطاً في وجود الممكنات، لا مبدعاً فاعلاً لها، فإن الكليات لا تبدع أعيانها، بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطاً في وجودها، بل جزءاً منها.
ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم، أو يقولون: نحن لا نفهم هذا، أو يقولون: هذا ظاهره كفر، لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها.(6/171)
ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان، المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين.
فإن قول المشركين الذين يقولون: إنما نعبدهم: {ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقاً ومخلوقاً غيره يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق.
وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله.
ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوبهم، فجاء من كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقول لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره.
وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، كان من أعيان شيوخهم ومحققيهم(6/172)
وممن لا أتباع ومريدون، وله ولأصحابه سلطان ودولة، ومعرفة ولسان وبيان، حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة، ما كان دخولهم في ذلك سبباً لانتقاص الإسلام، ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين، لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم، وبيان فساد أقاويلهم، وإقامة الحجة عليهم، وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس، الذي باطنه كفر وإلحاد، لا يفهمه إلا خواص العباد.
والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعاً - من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية، كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم - أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم، بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية رداً مستقيماً، بل إن لم يكن موافقاً لهم كان معهم بمنزلة المخنث، كالرافضي مع الناصبي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علناً أو يفسقه، فإنه إذا قال للرافضي: بماذا علمت أن علياً مؤمن ولي الله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته، وهذا إنما يعلم بالنقل، والنقل إما متواتر وإما آحاد.
فإن قال له الرافضي: بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته.(6/173)
قال له: وهذا أيضاً متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة، وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم.
وقال له أيضاً: أنت تقول: إن علياً كان يستجيز التقية، وأن يظهر خلاف ما يبطن، ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن.
فإن قال الرافضي للناصبي: علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته له بالإيمان والجنة، كقوله: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، وقوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ، ونحو ذلك.
قال له الناصبي: قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان، وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول: إنهم ارتدوا بعد موته، فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحاً أن يكون علي ذلك؟ .(6/174)
وأيضاً فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم، والكافر والفاسق لا تقبل روايته.
فإن قال: هذه نقلها الشيعة.
قال له الناصبي: الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفراً قليلاً: إما عشرة أو أقل، أو أكثر.
ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب.
فإن قال: أنا أثبت إيمانه بالقرآن، كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100] وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] .
وقال: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] .
وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] .
قال له الناصبي: هذه الآيات تتناول أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول علياً، ليس في ظاهرها ما يخص علياً.
فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها، أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة، أمكن الخوارج الذين يكفرون علياً أن يقولوا مثل ذلك.
والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على(6/175)
الخوارج، وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة، الذين يقرون بعموم هذه الآيات، وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم، ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة، وأنهم كانوا صادقين في روايتهم، فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة على التناقض.
وهكذا الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم، فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية، ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله، بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين، أو ما هما في معنى النقيضين، ورفع النقيضين أشد بطلاناً من المناقض الباطل، فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل، وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما، فمن رفع النقيضين، أو ما في معناهما، لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما، وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين، إلا ويمكن ممن أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها.
ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية، لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات، كان اعظم بطلاناً وفساداً من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود.
ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب(6/176)
كمالاً للموصوف، إلا أن تتضمن أمراً وجودياً، كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته.
وكذلك قال تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ، متضمن كمال قدرته.
وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [سبأ: 3] يقتضي كمال علمه.
وكذلك قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] يقتضي عظمته، بحيث لا تحيط به الأبصار.
وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له، ولك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه، مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم لا يمكن رؤيته بحال، وليس هو مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح، ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله: (سبحان الله) يتضمن مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان التسبيح تعظيم، له مع تبرئته من السوء.
ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته، كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1] ، وأمثال ذلك.
ولما قال: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] ،(6/177)
كان تنزيهه عما وصفوه به متضمناً لعظمته اللازمة لذلك النفي.
وإذا كان كذلك، فنفاة النقيضين، وما هو في معنى النقيضين، لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئاً من الإثبات ولا التعظيم، بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة، فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له.
ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين: إن هؤلاء قصدوا تنزيهه، وهؤلاء قصدوا تعظيمه، فإذا كان التنزيه، إن لم يتضمن تعظيماً لم يكن مدحاً، كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم، من غير أن يكون فيه تعظيم، فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حج هؤلاء المعظمين له، وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض، قالوا لهم: إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك.
فإن قال النفاة: هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولاً يقتضي افتقاره إلى المحل، كالصورة مع المادة، وكالوجود مع الثبوت، ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر، نحن قد بينا: إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجاً إلى المحل، وذلك باطل، لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم، فقد أبطلنا قول هؤلاء.
قيل عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه ليس كل من قال بالحلول يقول افتقاره إلى المحل، بل كثير من القائلين بالحلول يقولون: إنه في كل مكان مع استغنائه عن(6/178)
المحل، وهو قول النجارية وكثير من الجهمية، وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزماً للافتقار، فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه، فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع، هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود، وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود.
وإن قيل: إنها تدل على ذلك، فلم تدل على أنه مغاير للعالم، بل يجوز أن يكون هو العالم.
ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود، فإن طريقتهم المشهورة: أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن، الممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب، ومن قال: كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة، ومن قال: إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت، فقد وفى بموجب هذه الحجة، بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم.
وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديماً أزلياً، ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار.
ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له محدث، وأن الحوادث مشهودة.(6/179)
وهذا حق، لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم، فيلزم ثبوت قديم، لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتاً إلا بذلك التقسيم، إذ كانوا يجوزون على القديم، أن يكون ممكن الوجود، فإذا قالوا: القديم إن كان ممكناً فلا بد له من واجب، لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا ممتنع، وهو أيضاً مستلزم للدور، فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود، ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل، وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم، والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود، فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود، والذي قد يكون قديماً، وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث، وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم، والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود.
وأيضاً فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب، وهي باطلة.
وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول: الواجب هو حال.
وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن، لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث، وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا الممكن لا يمكن إثباته.
وأيضاً فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث، والحادث لا بد له من القديم، والقديم لا يستلزم أن يكون واجباً.(6/180)
وإذا قالوا: القديم إن كان واجباً ثبت الواجب، وإن كان ممكناً ثبت الواجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
قيل: هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب، كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب، وهذا مما لا نزاع فيه، لكنه لا يدل على إثبات صانع، لا على أنه مغاير للأفلاك، ولا على أنه ليس بحال، بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه، وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع، والقائلون بقدم العالم، وأهل الحلول، وغيرهم، فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول.
والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون على من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات، فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى، وقول النفاة لمباينته للعالم ومداخلته له، أبعد عن العقل من قول المثبتين، لأنه قائم بنفسه في كل مكان، مع نفي مماسته ومباينته.
والسلف ردوا هذا وهذا، وكان ذلك تنبيهاً على إبطال الحلول، بمعنى حلول العرض في المحل.
لكن هذا لم يقل به أحد، وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم.
ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه، قديم أزلي لا يجوز عليه العدم، ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه.
فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية: أنه لا مباين للعالم ولا مداخل، ولا فوق ولا تحت، ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء،(6/181)
ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك، بل ويقولون أيضاً: إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به، ولا يمكن الإشارة إليه.
وآخرون منهم يقولون: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات.
وآخرون يقولون: لا يسمى موجوداً حياً عالماً قادراً إلا مجازاً، أو بالاشتراك اللفظي، وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول، ويقولون: إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزاً، والمتحيز مركب، أو كالجوهر الفرد في الصغر، ونحو ذلك، فيفرون من هذه الصفات، لاعتقادهم أن ذلك يقتضي التجسيم، والأجسام عندهم موجودة، لكنها عند بعضهم محدثة، وعند بعضهم ممكنة، فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك، لزم أن يكون عندهم ممكناً أو محدثاً، وذلك ينافي وجوبه وقدمه، ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالنظر.
وأما المثبتون فيقولون: الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعاً، والامتناع ينافي الوجود، فضلاً عن وجوب الوجود، فيقولون: إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده، ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده، فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود.
ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة، فهم يقولون لأولئك: أنتم فررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع، ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم.(6/182)
ويقولون: إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات، فضلاً عن الأجسام الحية الناقصة، فضلاً عن الأجسام الحية الكاملة.
ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل، وبين معدوم أو ممتنع، كان ذلك خيراً من هذا، وإن كانت هذه النتيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها: إنها معلومة بالاضطرار، كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها: أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر، مع اختلافهم في كل مقدمة منها.
فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيماً لما يثبتونه، وأن النفاة أقرب إلى الظن، وأبعد عن التعظيم والإثبات.
يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات: من العلو والمباينة ونحو ذلك، للزم أن يكون جسماً، وكون الواجب القديم جسماً ممتنع.
وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم، وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين.
والعمدة فيها طريقان: طريق الجهمية والمعتزلة، وطريق الفلاسفة.
ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام، من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها: إما للمعتزلة والجهمية، وإما للفلاسفة.
فأما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات،(6/183)
وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلاً للأعراض والحركات، وذلك يقتضي تعاقبها عليه.
وذلك يوجب حدوثه.
وقد عرف أن الفلاسفة - مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام - يطعنون في هذه الطريقة.
وقد صنف الأشعري نفسه كتاباً بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق، كما سيأتي بيان ذلك.
وأما طريق الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفاً بالصفات، لأن ذلك يستلزم التركيب.
وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريقة.
فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي، بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة، مآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر.
وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه، بل ولا اتفق عليه أكثرهم، بل أكثرهم ينكر صدق جميعها، علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية، لأن الضروريات لا ينكرها جمهور العقلاء، الذين لم يتواطأوا عليها، ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة، بل لا بد أن تكون الجميع معلومة، وما لم تكن معلومة بالضرورة، فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية، وليس معهم شيء من ذلك، بل غاية(6/184)
هؤلاء لفظ (التركيب) وأنه لا يكون واجباً، وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك.
وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك، وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين.
وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره من شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحاً بينوا به فسادها، على وجه لم يعترضوا عليه.
وإن كلام الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها.
وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره - قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها.
وذكر الأبهري الدليل المتقدم: دليل الحركة والسكون، وقولهم: لو كان الجسم أزلياً لكان: إما متحركاً أو ساكناً، والقسمان باطلان.
أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل يقتضي عدم المسبوقية، فيلزم الجمع بينهما، ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو من الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإلا لكان الحادث أزلياً.
وهو محال.
ولأنها لو كانت متحركة(6/185)
لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له المحال، والموقوف على المحال محال.
ولأنها لو كانت متحركة، لكان قبل كل حركة حركة أخرى لا إلى أول، وهو محال.
ولأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة، ومن الحركة التي قبل الحركة اليومية إلى الأزل جملة أخرى، فتطبق إحداهما على الأخرى بأن يقابل الجزء الأول من الجملة الثانية، وبالجزء الأول من الجملة الأولى، والثاني بالثاني، فإما يتطابق إلى غير النهاية أو لم يتطابقا، فإن تطابقا كان الزائد مثل الناقص، وإن لم يتطابقا لزم انقطاع الجملة الثانية، وإذا لزم انقطاع الجملة الثانية لزم انقطاع الجملة الأولى أيضاً، لأن الأولى لا تزيد على الثانية إلا بمرتبة واحدة.
ثم تكلم على تقدير السكون، وهذا هو الذي تقدم ذكر الرازي له.
ومن تدبر كتب أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، يف حدوث الأجسام، علم أن هذا عمدة القوم.
كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه
قال الأبهري: (والإعراض على قوله: يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير.
قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم الجمع بينهما، أن لو كان الواحد مسبوقاً بالغير وغير مسبوق بالغير، وليس كذلك، فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة، وغير المسبوق بالغير هو الجسم، فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد) .
قلت: وهذا الاعتراض فيه نظر، ولكن الاعتراض المتقدم: وهو(6/186)
أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها، فكل من أجزائها مسبوقة بالغير، وأما الجنس ففيه النزاع - اعتراض جيد، وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقاً لها، فكيف يقال: إن الحركة مسبوقة بالجسم؟ .
وكان الأبهري لم يفهم مقصود القائل: إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم، وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقاً على بعض.
قال الأبهري: (وأما قوله: لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
قلنا: لا نسلم.
قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزلياً.
قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواحد يصير بعينه أزلياً، وليس كذلك، بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول، فلا يلزم قدم الحادث.
وأما قوله فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له.
قلنا: لا نسلم، بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أول لها.
ولم قلتم بأن ذلك غير جائز، والنزاع ما وقع إلا فيه؟ وأما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة.
قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركة مجتمعة في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع، واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجباً بالذات لزم دوام آثاره، فلا يكون في الوجود حادث.
وإن كان(6/187)
فاعلاً بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزلياً، لأنه يكون قاصداً إلى إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل محال.
وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز أن يكون بعضه حادثاً له فاعل بالاختيار، وبعضه قديم له موجب بالذات، وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجباً بالذات، ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره) .
قلت: وهذا الاعتراض ساقط، لأن ما كان فاعلاً بالاختيار، فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث، فإذا كان مفعولاً لعلة تامة موجبة، امتنع أن يتخلف عنها معلولة، ولا يجوز أن يحدث عنها شيء، ولا عن لازمها، ولا لازم لازمها، وهلم جرا.
وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر، فهذا مع أنه لم يقله أحد، وأدلة التوحيد للصانع تبطله، فهو يبطل حجة القائلين بالقدم، لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله، فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم.
وهذا الدليل الذي احتج به، قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بأنه صدر عن علة موجبة، وأن قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب.
وأما كون الفاعل باختياره يمتنع أن يقارنه فعله، فقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع، ولكن نبين فساد قول الفلاسفة بأن يقال: الفاعل بالاختيار: إما أن يجوز أن يقارنه فعله، وإما أن يجب تأخره، فإن وجب تأخره بطل قولهم بقدم العالم، فإن الفعل إذا لزم تأخره كان تأخر المفعول، أولى إن جعل المفعول غير الفعل، وإن جعل المفعول هو(6/188)
الفعل فقد لزم تأخره، فتأخره لازم على التقديرين، وإن جاز مقارنة فعله له فإما أن يكون التسلسل ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً لزم أن يكون للحوادث أول، وحينئذ فإذا كان الفعل المقارن قديماً، لم يقدح هذا في وجوب حدوث المفعولات.
وهذا يقوله من يقول: إنه أحدث من الحوادث بتخليق قديم أزلي قائم بذاته، كما تقول ذلك طوائف من المسلمين، وإن كان التسلسل ممكناً أمكن أن يكون بعد ذلك الفعل فعل آخر، وبعده فعل آخر، وهلم جرا، وأن تكون هذه الأفلاك حادثة بعد ذلك، كما أخبرت به النصوص، وهو المطلوب.
والأبهري وغيره اعترضوا على هذه المقدمة لما ذكروها في حجة من احتج على حدوث العالم بأنه ممكن، وكل ممكن فهو محدث، لأن المؤثر فيه إما أن تؤثر فيه حالة وجوده، وهو باطل، لأن التأثير حالة الوجود يكون إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل، وهو محال، وإما حال العدم وهو محال، لأن يستلزم الجمع بين الوجود والعدم، فتعين أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم، وهو حال الحدوث.
فاعترض الأبهري وغيره على ذلك بأنه لم لا يجوز أن يكون التأثير حال الوجود؟ (قوله: يكون تحصيلاً للحاصل.
قلنا: لا نسلم لأن التأثير عبارة عن كون المرجح مترجح الوجود على العدم بالمؤثر، وجاز أن يكون الممكن مترجح الوجود على العدم حال الوجود.
فيقول له من يعارضه في دليله مثل ذلك، فإذا قال: لو كان الفعل الذي فعله الفاعل المختار أزلياً، لكان الفاعل قاصداً إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل.(6/189)
قالوا: بل وجود الموجود وحصول الحاصل مقصده واختياره.
فقولك لو كان قاصداً إلى إيجاد الموجود، إن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بدون قصده فهذا ممنوع، وإنما يستقيم هذا إذا ثبت أن الأزلي لا يمكن أن يكون مراداً مقصوداً، وهو أول المسألة، وإن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بقصده، فهذا هو المدعي، فكأنك قلت: لو كان مقصوداً لأزلي موجوداً بقصده لكان موجوداً بقصده، وإذا كان هذا هو المدعي، فلم قلت: إنه محال: ولكن يلزم هؤلاء على هذا التقدير أن لا يكون فرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار، وهم يقولون: إن أريد بالموجب الذات أنه لم يزل فاعلاً، فهذا لا يمنع كونه مختارات على هذا التقدير، وإن أريد به ما يلزمه موجبه ومعلوله، فهذا أيضاً لا يمنع كونه مختاراً أيضاً على هذا التقدير.
وهذا القسم باطل بلا شك، سواء سمي موجباً أو مختاراً، لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث، فإن موجبه إذا كان لازماً له - ولازم اللازم لازم - كانت جميع الموجبات لوازم قديمة، فلا يكون شيء من المحدثات صادراً عنه ولا عن غيره، إذ القول في كل ما يقدر واجباً كالقول فيه، فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل.
ولا ريب أن هذا لازم للفلاسفة الدهرية الإلهيين وغيرهم، كأرسطو والفارابي وابن سينا، لزوماً لا محيد عنه، وأن قولهم يستلزم أن(6/190)
لا يكون للحوادث فاعل، وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل.
وأما القسم الأول، وهو كونه لم يزل فاعلاً، سواء سمي موجباً أو مختاراً، فهذا لا يوجب قدم هذا العالم، لإمكان توقفه على أفعال قبل ذلك، كما تحدث سائر الحوادث الجزئية.
فصل
والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء النفاة للعلو والمباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبينون عليها مطلوبهم، بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر، وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنياً على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي - وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم، ليس فيها مقدمات متفق عليها تبنى عليها النتيجة المذكورة - علم أن ما اشتركوا فيه من النتيجة كان من لوازم مع ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها، لا القضايا الضرورية.
وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقاً على خلاف المعلوم بالضرورة، كما لو كان لرجل مال كثير، وله غرماء كثيرون، فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه حتى استوفى المال كله، وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر، كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذاك الرجل كله، ولا يقال أن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب، فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد، بل كل طائفة(6/191)
أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى، ولزم من مجوع الأخبار أخذ المال، فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال، بل الكذب ممكن عليهم كلهم.
كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم بضرورات العقول، ويمكن أن يقع منهم على هذا الوجه، وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول هؤلاء: هو ساحر، وهؤلاء: هو كاذب، وهؤلاء: هو مجنون، فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون.
وأيضاً فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب، الذين يعلمون أنه كذب، يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم، وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ، فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية، فقد يعتبر عنها بعبارات غيها إجمال واشتباه، يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة، وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها، وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره، فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة، كان هذا جائزاً باتفاق العقلاء، فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمداً، فكيف خطأ؟ .
فإذا تلقى تلك الأقوال، عن أولئك السابقين إليها، عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها، صاروا متواطئين على قبولها، لما فيها الاشتباه والإجمال، مع تضمنها مخالفة الضرورة، وإن كان كثير من القائلين بها - أو أكثرهم - لا يعلمون ذلك، وهذا هو السبب في اتفاق(6/192)
طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل، كمقالات النصارى والرافضة والجهمية.
كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه
ثم إن المتقدمين من النظار يحكون إجماع الخلائق على نقيض قول النفاة، كما ذكره أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الأشعري وأصحابه، ذكره في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في كتاب الصفات في باب القول في الاستواء: (فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعاً به، يجيز السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمين أن الله عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت.(6/193)
كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجب الإيمان به لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به وشاهد له) .
قال: (ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحداً من الناس عنه، عربياً ولا عجمياً، ولا مؤمناً، ولا كافراً، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: (في السماء) إن أفصح، أو أومأ بيده، أو أشار بطرفه، إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحداً داعياً له إلا رافعاً يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحداً غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون: وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلاً معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن) .
فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق، فطري، مغروز في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم، وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل يدعون أنهم أفضل الناس، جهم ونفر قليل معه، وبين أيضاً ابن كلاب أن قول الجهمية هو نظير قول الدهرية، وهو كما قال فإن منتهى كلام الجهمية إلى أنه لا موجود إلا العالم.
قال: (يقال للجهمية: أليست الدهرية كفاراً ملحدين في قولهم:(6/194)
إن الدهر هو واحد، إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه، ولا يباين العالم ولا يباينه، ولا يماس العالم ولا يماسه، ولا يداخل شيئاً من العالم ولا يداخله، لأنه واحد والعالم غير مفارق له؟ فإذا قالوا نعم: قيل لهم: صدقتم، فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر، وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟ وهل تجدون بينكم وبينهم فرقاً أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به؟ وقد قلتم: إنه غير مفارق للعالم ولا العالم مفارق له، ولا هو داخل العالم ولا العالم داخل فيه، ولا مماس للعالم، ولا العالم مماس له.
فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون؟ من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه: نحن أو أنتم؟ ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير، وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحد منفرد بائن؟ فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم مثل مقالة المخالفين الضالين، وخرجتم من توحيد رب العالمين) .
قال: (وكذلك مشاركتكم الثنوية في إلحادهم لما قالوا: إن الأشياء من شيئين لا تنفك منهما ولا ينفكان منها، وإن الأشياء تولدت عنهما ومنهما، وأن النور والظلمة لا نهاية لهما في أنفسهما، وأن أحدهما مازج الآخر فتولدت الأشياء منهما؟ وقلتم لهم: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئاً لا في نفسه؟ وكيف يجيء ما لا نهاية له فيكون في غيره؟ فقيل لكم مثل ذلك: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئاً لا في نفسه ولا بائناً من نفسه؟ ويلزمكم إذا زعمتم أنه لاتفاق النور والظلمة(6/195)
أصل الأشياء، وأن الأشياء تحدث منهما، وأنهما لا ينفكان مما كان بعدهما، ولا ينفك عنهما.
كذلك زعمتم أن الواحد الذي {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]- تعالى عما قلتم - كان لا نهاية له، ثم خلق الأشياء غير منفكة منه، ولا هو منفك منها، ولا يفارقها ولا تفارقه، فأعظمتم معناهم ومنعتم القول والعبارة) .
فيقال: هذا الذي ذكره ابن كلاب من موافقة الجهمية في الحقيقة للدهرية والثنوية يحققه ما فعلته غالية الجهمية من القرامطة الباطنية، فأنهم ركبوا لهم قولاً من قول الفلاسفة الدهرية وقول المجوس الثنوية، وقولهم هو منتهى قول الجهمية.
وكان ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
قالوا: فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء» .(6/196)
وفي الحديث الآخر الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قالوا اليهود والنصارى؟ قال: فمن» .
ومشابهة اليهود والنصارى أيسر من مشابهة فارس والروم، فإن الفرس كانوا مجوساً، والروم إن لم يكونوا نصارى كانوا مشركين صابئة وغير صابئة، فلاسفة وغير فلاسفة، والباطنية ركبوا مذهبهم من قول المجوس ومن دخل فيهم ومن قول المشركين من الروم ومن دخل فيها، كاليونان ونحوهم.
وأما الأشعري وأئمة أصحابه فهم مصرحون بأن الله نفسه فوق العرش، كما ذكر ذلك في كتبه كلها الموجز والإنابة والمقالات وغير ذلك.
كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية
قال: (إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقد قال: {إليه يصعد الكلم(6/197)
الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] ، وقال: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] ، وقال: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] .
وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36-37] كذب موسى في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات.
وقال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] ، فالسماوات فوقها العرش.
فلما كان العرش فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أأمنتم من في السماء} يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى(6/198)
السماوات.
ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: {وجعل القمر فيهن نورا} [نوح: 16] ، ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً.
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض) .
قال: (وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء والأرض، فالله قادر عليها(6/199)
وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عنه أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش، الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها) .
قال: (وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان، فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم) .
وقال: (دليل آخر.
وقال الله عز وجل: {ما كان لبشر(6/200)
أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً، فيرتفع الشك والحيرة، من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحياً أو من وراء حجاب أو أرسل رسولاً، ويترك أجناساً لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم) .
قلت: ومقصود الأشعري من هذا أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم، فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحداً بحجاب منفصل عنه، بل هو محتجب عن جميع الخلق، بمعنى أنه لا يمكن أحد أن يراه، فاحتجابه عن بعضهم دون البعض دل على نقيض قولهم: وذلك أن نفاة المباينة يفسرون بالاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لمانع من الرؤية في العين، ونحو ذلك من الأمور التي لا تنفصل عن المحجوب، بل نسبتها إلى جميع الأشياء واحدة.
قال الأشعري: (دليل آخر.
قال تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} [الأنعام: 62] ، وقال تعالى: {ولو ترى(6/201)
إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30] ، وقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] ، وقال تعالى: {وعرضوا على ربك صفا} [الكهف: 48] ، وكل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي، يريدون بذلك - زعموا - التنزيه ونفي التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل) .
قلت: فقد احتج على عدم مداخلته بقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30] ، وقوله: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} الأنعام: [62] ، وقوله تعالى: {ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] ، وقوله: {وعرضوا على ربك صفا} [الكهف: 48] ، فإنه لو كانت نسبته إلى جميع الأمكنة واحدة لا يختص بالعلو، لكان في المردود كما هو في المردود إليه، وفي(6/202)
الواقف كما هو الموقوف عليه، وفي الناكس كما هو فيمن نكس رأسه عنده، وفي المعروض كما هو في المعروض عليه.
فهذه النصوص تنفي مداخلته للخلق، وتوجب مباينته لهم، فلو أمكن وجود موجود لا مباين ولا محايث، لكان نسبة ذاته إلى جميع المخلوقات نسبة واحدة، وهو مناقض لما ذكر.
وقوله: (مع نفي المداخلة أنه على العرش) ، يبين أنه يثبت المباينة لا ينفيها كما ينفي المداخلة.
قال الأشعري أيضاً: (وروت العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإنه بين كرسيه إلى السماء ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك.
قلت: وهذا الحديث رواه الحاكم أبو محمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث عبد الوهاب الوراق الرجل الصالح: ثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السايب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك.
قال عبد(6/203)
الوهاب الوراق: من زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة.
قال الأشعري: (ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث النزول، كقوله: «ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر) » .
قال الأشعري: دليل آخر قال الله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] ، وقال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] ، وقال: {استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] ، وقال: {ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59] ، وقال: {ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} [السجدة: 4] ، فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء، مستو على عرشه.
والسماء(6/204)
بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أن الله منفرد بوحدانيته مستو على عرشه.
وقال الأشعري: (دليل آخر.
قال عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، وقال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210] ، وقال تعالى: {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى} إلى قوله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 7-18] .
وقال عز وجل لعيسى ابن مريم: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] .
وقال: {وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه} [النساء: 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء) .
قال الأشعري: (ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً، إذا هم(6/205)
رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم، يقولون جميعاً: يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعاً: لا والذي احتجب بسبع سماوات) .
فقد حكى الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش، وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات، وهذا مناقض لقول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هؤلاء يقولون: ليس للعرش به اختصاص، وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئاً.
ومن أثبت الرؤية منهم إنما يفسر رفع الحجاب بخلق إدراك العين، لا أن يكون هناك حجاب منفصل يحجب العبد عن الرؤية.
كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء
وقال: القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابي: الإبانة والتمهيد وغيرهما: (فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه، فقال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] ، وقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} [الملك: 16] .(6/206)
ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله) .
فقد وافق القاضي أبو بكر لأبي الحسن الأشعري، وأنكر أن يكون في كل مكان، وجعل مقابل ذلك أنه على العرش، لم يجعل مقابل ذلك أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن الأقسام أربعة ليس لها خامس: إما أن يكون نفسه مبايناً للعالم، وإما أن يكون مداخلاً له، وإما أن يكون مبايناً ومداخلاً، وإما أن يكون لا مبايناً ولا مداخلاً.
فهؤلاء جعلوا مقابلة المداخلة المباينة، ولم يقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، وهؤلاء أئمة طوائفهم.
كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: (فإذا ثبت أنه على العرش، فالعرش في جهة، وهو على عرشه) .(6/207)
قال: (وقد منعنا في كتابنا هذا، في غير موضع إطلاق الجهة عليه) .
قال: (والصواب جواز القول بذلك، لأن أحمد أثبت هذه الصفة، التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة) .
قال: (والدليل عليه: أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة، ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية) .
قال: (ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: ليس في جهة ولا خارجاً منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده، ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا الذي اختلف فيه قول القاضي، اختلف فيه أصحاب أحمد وغيرهم، فكان طائفة يقولون: العلو من الصفات السمعية الخبرية، كالوجه واليد ونحو ذلك، وهذا قول طوائف من الصفاتية ولهذا نفاه من متأخري الصفاتية من نفى الصفات السمعية الخبرية كأتباع صاحب الإرشاد) .(6/208)
وأما الأشعري وأئمة أصحابه، فإنهم متفقون على إثبات الصفات السمعية، مع تنازعهم في العلو: هل هو من الصفات العقلية أو السمعية.
وأما أئمة الصفاتية كابن كلاب وسائر السلف، فعندهم أن العلو من الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول الجمهور من أصحاب أحمد وغيرهم، وإليه رجع القاضي أبو يعلى آخراً، وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف، وهو قول الكرامية وغيرهم.
وأما الاستواء فهو من الصفات السمعية عند من يجعله من الصفات الفعلية بلا نزاع، فإن ذلك لم يعلم إلا بالسمع.
وهذا الذي ذكره ابن كلاب وغيره من أن المنازع من المسلمين في أن الله فوق العرش كانوا قليلين جداً، يبين خطأ من قال: إن النزاع إنما هو مع الكرامية والحنبلية، بل جماهير الخلق من جميع الطوائف على الإثبات: جمهور أئمة الفقهاء من: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والداوودية، وجمهور أهل التصوف والزهد والعبادة، وجمهور أهل التفسير، وجمهور أهل الحديث، وجمهور أهل الكلام من الكرامية والكلابية والأشعرية والهشامية، وجمهور المرجئة، وجمهور قدماء الشيعة.
وإنما الخلاف في ذلك معروف عن جهم وأتباعه، والمعتزلة ومن(6/209)
وافقهم من الخوارج، ومتأخري الشيعة، وتأخري الأشعرية.
وللمعتزلة والفلاسفة فيها قولان.
بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضاً، كما ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد، وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها، حتى صنف كتاب تهافت التهافت وانتصر فيه لإخوانه الفلاسفة، ورد فيه على أبي حامد في كتابه الذي صنفه في تهافت الفلاسفة، مع أن في كلام أبي حامد من الموافقة للفلاسفة في مواضع كثيرة ما هو معروف، وإن كان يقال: إنه رجع عن ذلك واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث، بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضاً.
فالمقصود أن ابن رشد ينتصر للفلاسفة المشائين - أرسطو وأتباعه - بحسب الإمكان، وقد تكلمنا على كلامه وكلام أبي حامد في غير هذا الموضع، وبينا صواب ما رده أبو حامد من ضلال المتفلسفة، وبينا ما تقوى به المواضع التي استضعفوها من رده بطرق أخرى، لأن الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعباً إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه، وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه، طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة، واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة.
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم، فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي(6/210)
أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم، ووجدت كثيراً من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه، يوافقون خصومهم تارة على الباطل، ويخالفونهم في الحق تارة أخرى، ويستطيلون عليهم بما وافقهم عليه من الباطل، وبما خالفوهم فيه من الحق، كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات - أو لبعضها كالعلو وغيره - لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض، أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة، أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك.
والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين، مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام، بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية، ويسمون المتكلمين أهل الجدل، كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى: برهاني وخطابي، وجدلي، وشعري، وسوفسطائي، زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني، وان غالب مقاييس المتكلمين إما الجدلي وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة، كالفارابي وابن سينا ومحمد بن يوسف العامري،(6/211)
ومبشر بن فاتك، وأبي علي بن الهيثم، والسهروردي المقتول، وابن رشد، وأمثالهم، وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منهما في كلامهم وأشرف، وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل وسوفسطائية، فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف، إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون، بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات، بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة.
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة
والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم، وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين، قال: (والقول في الجهة.
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة، في أول الأمر،(6/212)
يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله.
وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، ومثل قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} [البقرة: 255] ، ومثل قوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5] ، ومثل قوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] ، ومثل قوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} [الملك: 16] ، إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهاً لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من في السماء نزلت الكتب، وإليها(6/213)
كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى) .
قال: (وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.
والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية) .
قال: (ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان.
وذلك أن الجهة هي: إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إن للحيوان فوقاً وسفلاً، ويميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً، وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست.
فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلاً.
وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضاً مكان للهواء.
وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم،(6/214)
لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضاً جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية.
فإذاً سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصلاً، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم، فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم، وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم.
وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء.
وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئاً أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولاً وعرضاً وعمقاً، لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدماً، وإن أنزل الخلاء موجوداً لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم.
وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة.
وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسداً، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن،(6/215)
وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله، وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود، أعني أنه يقال: إنه موجود في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السماوات.
ولشرف هذا الجزء، قال الله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] .
قال: (فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.
فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنه وجه العسر في نفيهم هذا المعنى مع نفي الجسمية، هو(6/216)
أنه ليس في الشاهد مثال له، وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب، متى كان ذلك معلوم الوجوه في الشاهد، مثل العلم في الفاعل، فإنه لما كان في الشاهد شرطاً في وجوده كان شرطاً في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال في الشاهد.
فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد.
والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم، فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع، ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأوله.
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا(6/217)
يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى، وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثرون، وهم الجمهور.
وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة دون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع، وهم الذين ذمهم الله تعالى.
وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه.
فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه.. ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلاً، الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان، أن يكون لأقل الأبدان ضاراً، وهو نافع للأكثر، وكذلك التعلم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما يضر الأقل.
ولهذا الإشارة بقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] .
لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها، وأكثرها شبهاً بها، فيعرض لبعض الناس أن(6/218)
يرى الممثل به هو الممثل نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابهاً في الشرع.
وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء، والغذاء الملائم إنما يوافق أأبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل.
ولذلك قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] ، وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام.
وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإما أتى به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع من قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه، ثم أوله بزعمه، وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه.
وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت(6/219)
وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها، وعلمهم عنها، فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر.
فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعاً: أعني العلم والعمل) .
قال: (ومثال من أول شيئاً من الشرع، وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال ما أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس، أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا لأقل الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم،(6/220)
وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول، فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس، أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير(6/221)
التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول.
ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض، ولا بد في شريعته قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلاً صرحت به للناس) .
قال: (وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة، في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل، تبينت أن هذا المثال صحيح.
فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء(6/222)
الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة، فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم، وبدعهم في مسائل، وأتي فيه بحجج مشككة، وشبه محيرة أضلت كثيراً من الناس عن الحكمة والشريعة جميعاً، ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية، وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بـ مشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله، وقال: إن سائرهم محجوبون، إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية، وهو قد قال في غير ما وضع: إن علومهم الإلهية تخمينات، بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه المنقذ من الضلال فتحامل فيه على(6/223)
الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، فرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهان عليها، وهذا لا يحل ولا يجوز، أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده
البرهان عليها، لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل، ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع، فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعاً، أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس، وحفظ الأمرين أيضاً جميعاً عند آخرين.
أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به، وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضاً بمعان فيها لا(6/224)
يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان، وأما حفظه للأمرين جميعاً، فإن كثيراً من الناس لا يرى بينهما تعارضاً من جهة الجمع الذي استعمل منهما، وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما، وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة، وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات، وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر.
وإن خرق الإجماع في التأويل.
فإذاً ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه، وللحكمة بوجه، ونافع لهما بوجه، وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعاً.
أعني الحكمة والشريعة، وأنه نافع لهما بالعرض.
وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات: إما إبطال الحكمة، وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما.
والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور، فأما قد وقع التصريح، فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة(6/225)
مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها.
وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة، أعني على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي: إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها، وإما رأي خطأ في الحكمة، أعني تأويل خطأ عليها، كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل) .
قال: (ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها.
وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علماً بالحكمة ولا بالشريعة.
ولذلك اضطررنا نحن إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة) .
كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى
قال: (فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: إن(6/226)
الذي بقي علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية، فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما، داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم) يعني جزء التنزيه، فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية، فقال: (فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم، لقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، ولذلك أنكرتها المعتزلة، وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك، مع كثرتها وشهرتها، فشنع المر عليهم، والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه، واعتقدوا وجوب التصريح بهذا لجميع المكلفين، وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، إذ كل مرئي في جهة من الرائي، فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول، وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد.
وأخبار الآحاد لا توجب العلم، مع أن ظاهر القرآن معارض لها، أعني قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] ) .(6/227)
قال: (وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة، وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس، أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة، يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل، ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل، وهو المرائي، وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين، ومنها حجج مرائية، وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة.
والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة، ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم، وأنه ليس يعرض من فرضها محال.
فأما ما عاندوا به قول المعتزلة: إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي، فمنهم من قال: إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب، وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب، وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة، إذ كان جائزاً أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها(6/228)
دون عين، وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة، أعني في مكان.
وأما إدراك البصر، فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة، أعني في مكان، ولا في كل جهة بل في جهة ما مخصوصة.
ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي، بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضاً.
وهي ثلاثة أشياء: حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر، وكون المبصر ذا لون.
والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع، وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة.
وقد قال القوم - أعني الأشعرية - إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط، مثل حكمنا بأن كل عالم حي، لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطاً في وجود العلم قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية، فألحقوا الغائب فيها بالشاهد، على أصلكم) .(6/229)
قال: (وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة، أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي، بأن الإنسان ينظر ذاته في المرآة، وليس ذاته منه في جهة ولا في غير جهة تقابله، وذلك أنه لما كان يبصر ذاته، وكانت ذاته لا تحال في المرآة التي في الجهة المقابلة، فهو يبصر ذاته في غير جهة) .
قال: (وهذه مغالطة، فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط، والخيال هو في جهة، إذ كان الخيال في المرآة، والمرآة في جهة.
وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم، فإن المشهور عندهم من ذلك حجتان: إحداهما - وهي الأشهر عندهم - ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو من أن يرى من جهة أنه متلون، أو من جهة أنه جسم، أو من جهة أنه لون، أو من جهة أنه موجود.
وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه، ثم يقولون: وباطل أن يرى من قبل أنه جسم، إذ لو كان كذلك لما رئي ما(6/230)
هو غير جسم، وباطل أن يرى من قبل أنه ملون، إذ لو كان كذلك لما رئي، وباطل أن يرى لمكان أنه لون، إذ لو كان كذلك لما رئي الجسم.
قالوا: وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب، لم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود) .
قال: (والمغالطة في هذا القول بينة، فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته، ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته.
وهذه هي حال اللون والجسم، فإن اللون مرئي بذاته، والجسم مرئي من قبل اللون، وكذلك ما لم يكن له لون لم يبصر، ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط، لوجب أن يبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس، فكان يكون السمع والبصر وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة، وهذا كله خلاف ما يعقل، وقد اضطر المتكلمون لمكان(6/231)
هذه المسألة - وما أشبهها - إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع، والأصوات ممكنة أن لا تسمع، وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان، فإن من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع، وأن محسوس هذه غير محسوس تلك، وأن آلة هذه غير آلة تلك، وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعاً، كما لا يمكن أن يعود اللون صوتاً، والذين يقولون: إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت، فقد وجب أن يسألوا فيقال لهم: ما هو البصر؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها المرئيات: الألوان وغيرها، ثم يقال لهم: ما هو السمع؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها الأصوات، فإذا وضعوا هذا قيل لهم: فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط، أو سمع فقط؟ فإذا قالوا: سمع فقط، فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان.
وإن قالوا: بصر فقط، فليس يدرك الأصوات، وإذا لم يكن بصراً فقط لأنه يدرك الأصوات، ولا سيما فقط لأنه يدرك الألوان، فهو بصر وسمع معاً، وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئاً واحداً، حتى المتضادات، وهذا شيء - فيما أحسبه - يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا، أو يلزمهم تسليمه - يعني هؤلاء الأشعرية) .(6/232)
قال: (وهو رأي سوفسطائي لأقوام مشهورين بالسفسطة.
وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها.
أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء، وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض، فهي أحوال ليست بذوات، فالحواس لا تدركها، وإنما تدرك الذات، والذات هي نفس الوجود المشتركة لجميع الموجودات، فإذاً الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو هو موجود) .
قلت: هذه الحجة من جنس الأولى، لكن هذه على قول مثبتة الأحوال، وتلك على رأي نفاة الأحوال، لكن ذكرها على هذا الوجه فيه تناقض، حيث جعل الأحوال لا ترى، بل إنما يرى الوجود، والوجود حال عند مثبتة الأحوال، لكن مضمون ذلك أنها تدرك الحال المشتركة وهي الوجود، لا لما اختصت به.
ثم قال ابن رشد: (وهذا كله في غاية الفساد.
ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود، لأن الأشياء لا تفترق بالشيء(6/233)
الذي تشترك فيه، ولكان في الجملة لا يمكن في الحواس: لا في البصر أن يدرك فصول الألوان، ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات، ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات، وللزم أن يكون مدارك المحسوسات بالحس واحداً، فلا يكون فرق بين مدرك السمع ومدرك البصر، وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان، وإنما تدرك الحواس وذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها، فوجه المغالطة في هذا هو أنه ما يدرك ثانياً أخذ أنه يدرك بذاته) .
قال: (ولولا النشأ على هذه الأقاويل، وعلى التعظيم للقائلين بها، لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة) .
قال: (والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة - حتى ألجأت القائلين بنصرتها، في زعمهم، إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة، التي هي ضحكة عند من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية - هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله، وهو التصريح بنفي(6/234)
الجسمية للجمهور.
وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ههنا موجوداً ليس بجسم، وأنه مرئى بالأبصار، لأن مدرك الأبصار هي في الأجسام أو أجسام، وكذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت، وهذا لا يليق أيضاً الإفصاح به للجمهور، فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك عن التخيل، بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم، وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن، والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم، عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى، ووصف لهم نفسه سبحانه بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك، مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه.
ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من ذلك، بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به، إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل.
وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني(6/235)
الموجودات في المعاد، أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة، فإذاً متى أخذ الشرع في أوصاف الله على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها، لأنه إذا قيل: إنه نور، وإن له حجاباً من نور، كما جاء في القرآن والسنن الثابتة، ثم قيل: إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة، كما ترى الشمس لم يعرض في هذا كله شك، ولا شبهة في حق الجمهور، ولا حق العلماء، وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم، لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها، فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل.
وأنت إذا تأملت الشرع وجدته، مع أنه قد ضرب للجمهور في هذا المعنى المثالات التي لم يمكن تصورها إياها دونها، فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور، فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفاً صنفاً من الناس، لئلا يختلط التعليمان كلاهما، فتفسد الحكمة الشرعية النبوية.
ولذلك قال عليه الصلاة(6/236)
والسلام: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم» ، ومن جعل الناس شرعاً واحداً في التعليم فهو كمن جعلهم شرعاً واحداً في عمل من الأعمال، وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول) .
قال: (وقد تبين لك من هذه أن الرؤية معنى ظاهر، وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى، أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها) .
تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
قلت: هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة: الحشوية، والأشعرية، والمعتزلة والباطنية: باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث، ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد(6/237)
ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام، وهو في نفي الصفات أسوأ حالاً من المعتزلة وأمثالهم، بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية، حتى أنه يجعل العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات، يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة، وهو أن ما يشهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفاً لأن ذلك تركيب، ووافق أبا حامد - مع تشنيعه عليه - على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب، المستلزم لنفي الصفات - طريقة فاسدة، واختار طريقة المعتزلة، وهي أن ذلك تركيب، والمركب يفتقر إلى مركب، وهي أيضاً من نمط تلك في الفساد.
وكذلك أيضاً زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم: زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل، واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة، وأنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الله ليس بجسم.
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها، فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسماً أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب، والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك، لكن مما يطمعه، ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس، فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم، وبين أنه لا حجة لهم على ذلك، وغنما الحجة على ذلك طريق(6/238)
المعتزلة: طريقة الأعراض والحوادث.
وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم.
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه، ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين، وإن كانوا قد يقولون: إنه رجع عن ذلك، لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة، ويوافقهم أخرى، فعلماء المسلمين يذمونه بمن وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني، وأبي نصر القشيري، وأبي بكر الطرشوشي، وأبي بكر بن العربي، وأبي(6/239)
عبد الله المازري، وأبي عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، وابن عقيل، وأبي البيان الدمشقي، ويوسف الدمشقي، وابن حمدون القرطبي القاضي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي محمد المقدسي، وأبي عمرو بن الصلاح، وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم.(6/240)
والمتفلسفة، الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم، يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه في الكتاب والسنة، كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا، وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان، وابن سبعين، وابن هود، وأمثالهم.
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة، كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص، وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية، ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه.
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك، والملكوت، والجبروت، وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله، أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله.(6/241)
والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية - لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة - ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة، من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الاخر، وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم، فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة، وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض، وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة والقائلون بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف، وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله، وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية، كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة.
وابن رشد هذا، مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم، يقول: إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي، وابن العباس القلانسي، والأشعري،(6/242)
والقاضي أبي بكر، وأبي الحسن التميمي، وابن الزاغوني، وأمثالهم ممن يقول إن لله فوق العرش وليس بجسم.
وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية: إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية، بل ولا إثبات المكان، وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا قول أرسطو وأتباعه، فهؤلاء يقولون: مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه.
ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئاً، فلا مكان هناك على اصطلاحهم، إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسماً، وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسماً، ولهذا قال: (فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم، لا وجود ما ليس بجسم) .(6/243)
فقرر إن كان ذلك كما قرر إثباته، كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس.
والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له: لا يكمن أن يوجد هناك شيء: لا جسم ولا غيره، أما الجسم فلما ذكره، وأما غيره فلأنه يكون مشاراً إليه بأنه هناك، وما أشير إليه فهو جسم.
وهذا كما يقول المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم أتباعهم، فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة، وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها، إما أن يكون ممكناً وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قولهم، وإن كان ممكناً فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز، لأنه إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارجاً عنه، ولا يشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم، كان إنكار العقل للأول(6/244)
أعظم من إنكاره للثاني، فإن كان الأول مقبولاً وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردوداً وجب رد الأول، فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه.
وما ذكره ابن رشد من أن: هذه الصفة - صفة العلو - لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الشريعة - كلام صحيح، وهو يبين خطأ من يقول: إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية، وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها (الوهميات) مثل أن: كل موجود فلا بد أن يشار إليه، فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح، وهذا مما يرجع أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقا ابن سينا.
ولكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسالة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور، للفلاسفة في ذلك قولان.(6/245)
والرازي إذا قال: (اتفق الفلاسفة) فإنما عنده ما في كتاب ابن سينا وذويه.
وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء.
ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل.
أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام، وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جداً.
وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات، ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين.
وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه، فكلام قليل جداً مع ما فيه من الخطأ، وهم لا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن، وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه، ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى، كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر.
وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، وتلك الأمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره.
وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب، وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض، ولهذا كانوا نوعين: نوعاً نظارين مقسمين للكليات، ونوعاً متأهلين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي والمقتول، وأتباع ابن سبعين، وغيرهم.(6/246)
وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جداً، ولهذا كانوا على قولين: منهم من يثبت موجوداً واجباً مبايناً للأفلاك، ومنهم من ينكر ذلك، وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة، وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك، وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله.
وابن سينا سلك طريقته المعروفة، وهو الاستدلال بالوجود على الواجب، ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضاً طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك، أو نحوها، أو قريبة منها.
وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلاً كثير الخطأ، فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل، ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى، وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك، فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيف موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده، والذي هو أشرف المعارف وأعلاها، فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده، فالفارابي لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون، والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر.
وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل(6/247)
الملل.
فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة، كابن سينا وأمثاله، فكلامه لون، ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركان وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا.
لكن قد يخفى ذلك على من يمعن النظر، ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول، كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام، ومن نظار أهل السنة والجماعة.
ومن المعلوم - بعد كمال النظر واستيفائه - أن كل من كان إلى السنة وإلى طريق الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح، كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تناقض وتعارض.
وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو، وأنا المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي.
ومعلوم أن من الناس من يقول: إن للناس في المكان أقوالاً آخر، منهم من يقول: إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول: إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكناً عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد.
والنزاع في هذا الباب نوعان: أحدهما معنوي، كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم، وأكثر العقلاء ينكرون ذلك.(6/248)
والثاني نزاع لفظي، وهو من يقول المكان من يحيط بغيره، يقول آخر: ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه.
ولا ريب أن لفظ (المكان) يقال على هذا وهذا، ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات: هل يقال: أن الله تعالى في مكان أم لا؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز، لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ (الحيز) أو (المكان) ، وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر.
وسبب ذلك إما إتباع ما ورد، أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر.
وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود، فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن، سواء كان محيطاً به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار، ومن اعتقد أن العرش هو المكان، وأن الله فوقه، مع غناه عنه، فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار.
فمما يجب نفيه بلا ريب وافتقار الله إلى ما سواه، فإنه سبحانه غني عن ما سواه، وكل شيء فقير إليه، فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه.
وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه، فهذا متفق عليه بين أهل الأرض، وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات، فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين، وسلف الأمة وأئمتها، وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم، لكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك.(6/249)
فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة
فهذا ونحوه بعض كلام رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب، يبين خطأ من جعل النزاع في ذلك مع الكرامية والحنبلية، ويبين أن أكثر طوائف العقلاء يقولون بالعلو، وبامتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه.
وأما كلام من نقل مذهب السلف والأئمة فأكثر من أن يمكن سطره.
كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة
قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له: فأئمتنا كسفيان الثوري، مالك، سفيان بن عيينة، حماد بن سلامة، حماد بن زيد، عبد الله بن المبارك، فضيل بن عياض، أحمد بن حنبل، إسحق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئاً من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء.
وأبو نصر هذا كان مقيماً بمكة في أثناء المائة الخامسة.
كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول
وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي، أحد أئمة وقته بالأندلس، في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال: وأجمع(6/250)
المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] ، ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء.
وقال أيضاً: (قال أهل السنة في قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، أن الاستواء من الله على عرشه المجيد في الحقيقة لا على المجاز.
كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة
وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي السيخ المشهور في كتاب الحجة له: (إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم.
فالجواب: أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيته وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم) فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه (أن الله مستو على عرشه بان من خلقه، كما قال في كتابه: {أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12] ، {وأحصى كل شيء عدد} [الجن: 28] .(6/251)
كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته
وقال قبله الحافظ أبي نعيم الأصبهاني المشهور، صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه: (طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه.
فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش، واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه) .
كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته
وقال الشيخ أبو أحمد الكرخي، الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله، وقرأها على (الناس، وجمع الناس عليها، وأقرتها طوائف أهل السنة، وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد أنتشر أمرهم، وكان أهل ابن سينا وأمثالهم(6/252)
من أهل دعوتهم، وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر، وأظهر السنة، وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم، فرجح ذلك، ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الأسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً.
ومن الناس من يقول: إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله، وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم، وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه، وغزا المشركين بالهند، وهذه العقيدة مشهورة وفيها: (كان ربنا وحده ولا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه، فاستوى على استواء استقرار، كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق، وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما، ومن في البر والبحر، لا مدبر غيره، ولا(6/253)
حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم، ويميتهم، والخلق كلهم عاجزون: الملائكة، والنبيون، والمرسلون، وسائر الخلق أجمعين، وهو القادر بقدرة، والعلم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع، والبصير ببصر، تعرف صفتهما من نفسه، لا يبلغ كنهها أحد من خلقه، متكلم بكلام يخرج منه، لا بآلة مخلوق كآلة المخلوقين، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم وكل صفة وصف بها نفسه، أو وصف بها نبيه، فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز) .
كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد
قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول، قال: (هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته ...
وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم.....
وفيه دليل على أن الله في السماء على(6/254)
العرش فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على أن المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان) .
قال: (والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى.....
) وذكر عدة آيات إلى أن قال: (هذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته.
لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم) .
وقال أبو عمر أيضاً: (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] : هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله) .(6/255)
وقال أيضاً (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع: الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئاً على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، بلاشون، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة) .
كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته
قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصبهاني، أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة: (أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين) .
قال(6/256)
فيها: (وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو فيه على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد، الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: هل من داع فأستجب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر) .
قال: (ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال) .
كلام ابن أبي حاتم
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين - وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً، وعراقاً، ومصراً وشاماً، ويمناً فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته) .
إلى أن قال: (وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً) .(6/257)
كلام أبي محمد المقدسي
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي: (إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة والأتقياء، والأئمة من الفقهاء، فتواترت الأخبار بذلك، على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزاً في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون بذلك بألسنتهم، ولا ينكر ذلك إلا مبتدع، غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته) .
قال: (وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ونعلم تواتر الرواية بوجوه منهم يزداد من وقف عليه من المؤمنين إيماناً، وننبه من خفي ذلك عليه حتى يصير كالمشاهد له عياناً) .
كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء
وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي لما ذكر اختلاف الناس في تفسير (الاستواء) .
قال: (وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، والفضلاء الأخيار: أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف بائن من جميع خلقه.
هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات) .(6/258)
وقال أيضاً في كتابه الكبير في التفسير لما تكلم على آية الاستواء، قال: (هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في شرح الأسماء الحسنى.
وذكر فيها أربعة عشر قولاً) وذكر قول النفاة من المتكلمين، فقال: وأنهم يقولون: (إذا وجب تنزيه الرب عن الحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه له تنزيه الرب عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون، ويلزم من ذلك التغير والحدوث) .
وذكر أقوال هؤلاء المتكلمين، وقال: (قد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف(6/259)
الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وإنما جهلوا كيفية الاستواء) .
كلام أبي بكر النقاش
وأما كلام السلف أنفسهم فأكثر من أن يمكن حصره.
قال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة: (حدثنا أبو العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] .
كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة (أنبأ أبو بكر المروذي، ثنا محمد بن الصباح النيسابوري، ثنا سليمان بن داود، أبو داود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تعالى {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش ويعلم كل شيء في أسفل الأرضين السابعة، وفي قعور البحار) .
وفي رواية: (وفي رؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما في السماوات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، وإلا وقد عرف ذلك كله، وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء من معرفة غيره) .(6/260)
كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وعبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علماً وديناً، من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق: أنه ذكر عنده الجهمية، فقال (هم شر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء) .
ورويا أيضاً عن عبد الرحمن بن مهدي، الإمام المشهور، وهو من هذه الطبقة قال: (أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: أن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا) .
وروى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي، من تلك الطبقة قال: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء) .
ورويا عن علي بن عاصم شيخ البخاري وغيره قال: ناظرت جهمياً فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء رباً) .
وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء) .
وروى عبد الله وغيره عن أبيه أحمد بن حنبل: ثنا شريح بن(6/261)
النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ، سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان.
وروى هذا الكلام مالك مكي خطيب قرطبة فيما جمعه من تفسير مالك نفسه، وكل هذه الأسانيد صحيحة.
كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات
وروى أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: (كنا نحن والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق العرش، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته) .
فقد ذكر الأوزاعي، وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين، الذي كان فيه مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم، أئمة أهل الحجاز، والليث بن سعد ونحوه أئمة أهل مصر، والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم، أئمة أهل الكوفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة ونحوهما، أئمة أهل البصرة، وهؤلاء ونحوهم أئمة الإسلام شرقاً وغرباً في ذلك الزمان.
وقد حكى الأوزاعي عن شهرة القول بذلك في زمن التابعين،، وهم أيضاً متطابقون على ما كان عليه التايعون، كما ذكرنا قوا مالك وحماد بن زيد وغيرهما.(6/262)
كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر
وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وعرشه فوق سبع سماوات.
قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل) .
وفي لفظ: قال: (سألت أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض.
قال قد كفر لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وعرشه فوق سبع سماوات.(6/263)
قال: (فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر) .
كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.
ولا نقول كما يقول الجهمية بأنه ههنا في الأرض) .
ومنن ذكر هذا عن ابن المبارك، البخاري في كتاب خلق أفعال العباد.
وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
كلام ابن خزيمة
وقال محمد بن إسحق بن خزيمة - الملقب بإمام الأئمة -: (من لم يقل بأن الله فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة) وهذا معروف عنه، رواه الحاكم في تاريخ نيسابور، وأبو عثمان النيسبوري في رسالته المشهورة.
كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن
وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: (سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق) .
كلام مالك بن أنس
وهذا(6/264)
الكلام مروي عن مالك بن أنس صاحب ربيعة من وجوه متعددة، يقول في بعضها: الاستواء معلوم.
وفي بعضها: غير مجهول، وفي بعضها: استواؤه غير مجهول، فيثبت العلم بالاستواء وينفي العلم بالكيفية.
كلام آخر لبعض الأئمة
وروى ابن أبي حاتم، عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه.
قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد.
وروى أيضاً عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابةً له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم، ويقول: لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى، بائن من خلقه.
وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله.
وجميع الطوائف تنكر هذا، إلا من تلقى ذلك عن الجهمية، كالمعتزلة ونحوهم من الفلاسفة، فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم، وأنهم إذا قيل لهم: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب إليه شيء، ولا يقرب هو من شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو، فإن فطرهم تنكر ذلك، وإذا أنكروا هذا في هذه القضية(6/265)
المعينة التي هي المطلوب، فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ.
وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء، بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات، وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات.
وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون، وأما سائر أئمة المسلمين، مثل مالك والثوري والأوزاعي ووأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم، فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات.
وكذلك شيوخ أهل الدين، مثل الفضيل بن عياض وبشر الحافي، وأحمد بن أبي الحواري وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي والحارث المحاسبي ومحمد بن خفيف الشيرازي، وغير هؤلاء.
وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات، ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة.
فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات، فكيف يقال: ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية؟ .
ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان، فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه.(6/266)
وأيضاً فعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وعامة قدماء الأشعرية يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ويردون على النفاة غاية الرد، وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية.
وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم، ومن وافقهم من الفلاسفة.
وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات، كما نقله ابن رشد الحفيد عنهم، وهو من أعظم الناس انتصاراً لهم، وسلوكاً لطريقتهم، لا سيما لأرسطو وأتباعه، كما أنه يميل إلى القول بقدم العالم أيضاً.
الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني
من أجوبة قوله: (لو كان بديهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره، وهم ما سوى الحنابلة) .
هو أن يقال: لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض، كما اخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض، وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم.
فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم، وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه(6/267)
ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية.
الوجه الثالث
أن يقال: ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره، يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى، يقول جمهور الناس: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة، أزلية الأعيان باقية، وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد: هو الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر به، وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة، يقول جمهور العقلاء إنهم جحدوا العلم الضروري.
والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم، والعاقل هو العقل والمعقول، والعاشق هو العشق والمعشوق، واللذة هي الملتذ، والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.(6/268)
والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة، وأن الصوت يرى، والطعم يسمع، واللون يشم، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل، أو يحدث فناء لا في محل، يقول جمهور العقلاء: أن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأن الإرادة تحدث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأنه حي عليم قدير، من غير حياة ولا علم ولا قدرة، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصاً جلياً أشاعه بين المسلمين، فكتموه ولم يظهروه، يقول جمهور العقلاء: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة.
والقائلون بان للأمة إماماً معصوماً عمره سنتان - أو ثلاث أو أربع - دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة، أو أن علياً لم يمت،(6/269)
وأمثال ذلك، يقول جمهور الناس: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة.
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساده معلوم بالضرورة.
وكذلك من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المنافقين مؤمنين، ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين، وهم مع ذلك مخلدون في النار، مما يعلم جمهور العقلاء المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات، ونقص منه أشياء، مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة.
وقول النصارى: إن الكلمة اتحدث بالمسيح، وإنها ليس هي الآب الجامع للأقانيم، وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق، وهي جوهر، والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب، مما يقول الناس: إنه معلوم الفساد بالضرورة.
ومثل هذا إذا تتبعناه كثير.
فوجده الأقوال التي يقول جمهور الناس: إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب، فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة؟(6/270)
ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت، كما في خبر أهل التواتر.
كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب، الذي يعلمون كلهم أنه كذب، وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله.
وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير، إذا كان هناك شبهة أو هوى، فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم، مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان، فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصوراً في خلقه، أو مفتقراً إلى مخلوق، فيوافقون على هذا المعنى الصحيح، ظانين أنه مفهوم تلك العبارة، فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم، وهو أنه ما فوق السماوات رب، ولا وراء العالم شيء موجود، فهذا لا يوافقهم عليه - بعد - فهمه - أحد بفطرته، وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة، لا سيما إن كان له هوى وغرض.
وإذا كان المتفقون على هذا النفي - بعد فهمه - إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة، أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم، واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك، وإن كان معلوماً بالضرورة، كما(6/271)
وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال، ومع هذا فلا يكاد بوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى، إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث، لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد، كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح ابن مريم.
وعامة هؤلاء إذا أصابت أحداً منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ففطرته وضرورته تقر بالعلو، وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين، وعقيدته التي اعتقدها تقليداً أو عادةً أو شبهةً تناقض فطرته وضرورته.
الوجه الرابع
أن يقال: هذا معارض بما هو أبلغ منه، فإن الجموع الكثيرة يقولون: إنهم يجدون في أنفسهم عند الضرورة معنى يطلب العلو في توجه قلوبهم إلى الله ودعائه، وأنه يمتنع في عقولهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن هذا معلوم لهم بالضرورة، فإن امتنع اتفاق الجمع العظيم على مخالفة البديهة، فتجب الحجة المثبتة، فيبطل نقيضها، وإن لم تمتنع بطلت حجة النفاة، فيثبت بطلانها على التقديرين.
فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثاني فقوله: إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى، وما أوردوه من أن(6/272)
هذا لا وجود له إلا في العقل، وأن النزاع في الموجودات الخارجية.
وجوابه بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدراً، وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية.
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له، وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه، ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج، وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للاخر ولا مباين له.
وأما قوله: المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدراً.
فيقال: بتقدير صحة ذلك، هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس، لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج، فمورد النزاع لا دليل عليه، وما أثبته ليس مورد النزاع.
الوجه الثاني
أن يقال: هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها، كما يطابق اللفظ العام لأفراده.
وأما في نفسها(6/273)
فأعراض معينة، كل منها عرض معين قائم في نفس معينة، كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين، والخط المعين بالورق المعين، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى الذهني، والمعنى يطابق الموجود الخارجي، وكل من تلك الثلاثة قد يقال له: عام، وكلي، ومطلق، باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج، وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص.
وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم، وعرض معين في محل معين.
فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان، كالحب والرضا والبغض، وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية، كما يقوله جمهور الخلق، كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض، كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله.
وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسياً له قدر معين، وحيز معين، فلمحل الصورة الذهنية قدر معين وحيز معين، وله أيضاً جهة.
والكليات ثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها، فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين، والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر، فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي، والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة، لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس والآخر يوجد في الخارج، ويوجد تصوره في النفس.
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي،(6/274)
إما أن يقال: هي ثابتة في الخارج، وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج، فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان، كالقائلين بالمثل الأفلاطونية.
ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات، والمطلق جزء من المعين، ويقولون: المطلق لا بشرط موجود في الخارج، وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجوداً في الخارج، ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي، والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي، وكونه كلياً ومطلقاً هو الكلي المنطقي، إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي، فيقول: الإنسان من حيث هو - مع قطع النظر عن جميع قيوده - هو الطبيعي، وكونه عاماً وكلياً ومطلقاً هو المنطقي، والمؤلف منهما هو العقلي.
وآخرون يقولون: ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلاً، بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص، ولكن ما كان في النفس كلياً يوجد في الخارج، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً.
فإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وأريد به: أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح.
وإذا قيل: إن الطبيعة الكلية، مع كونها كلية، توجد في الخارج، أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين: أحدهما حيوان والآخر ناطق، أو من عرضين: حيوانية وناطقية، أو نحو هذه المقالات، فهذا كله(6/275)
باطل، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن يقال: هذه الكليات: إما أن يقال: إنها ثابتة في الخارج، وإما أن لا يقال.
فإن لم يقل بذلك، لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه.
وإذا قيل بثبوتها في الخارج، فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية، بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني، وهم متناقضون في ذلك، ويقولون القول، ويقولون ما يناقضه، وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك.
وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم، واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم، مغروزة في أنفسهم، وأنهم مضطرون إليها، لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم.
لكن طائفة منهم تقول: إنها مع هذا خطأ، لاعتقادهم أنها - وإن كانت ضرورية في فطرتهم - ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها.
وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية، مبتدأة في النفوس، ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية.
فإذا قال لهم المثبتون: نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتدأة في النفس بالقضايا النظرية، أو قالوا: نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا، كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك، ظهر انقطاع المعارض لهم، وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوى الوهمية الخيالية.(6/276)
فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين
وأما الوجه الثالث: فقوله (إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحصرا لأنفسهما صورة وشكلاً، ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى) .
كلام ابن سينا في الإشارات
فهذه الحجة من جنس حجة ابن سينا على ذلك فإنه قال في إشاراته في الحجة الثانية: (لو كان موجوداً بحيث يدخل في الوهم والحس، لكان الحس والوهم يدخل في الحس والوهم، ولكان العقل - الذي هو الحكم الحق - يدخل في الوهم.
ومن بعد هذه الأصول، فليس شيء من العشق، والخجل، والوجل، والغضب، والشجاعة، والجبن، مما يدخل في الحس والوهم، وهي من علائق الأمور المحسوسة، فما ظنك بموجودات، إن كانت خارجة الذوات عن درجة المحسوسات وعلائقها) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: الوهم والخيال والقوة الباصرة، وغير ذلك من(6/277)
القوى، هي من باب الأعراض الباطنة في الإنسان، وكذلك العشق والخجل، والوجل ونحوهما.
ومن المعلوم أن أحداً لم يقل: إن كل عرض له شكل وصورة، وإنما غاية من يقول ذلك أن يقوله في الجسم القائم بنفسه، لا في العرض بل الأعراض الظاهرة المشهودة، كالألوان والحركات والطعوم والروائح، ليس لها في أنفسها شكل وصورة قائمة بنفسها، فكيف بالأعراض الباطنة.
فإن قال: بل هذه لها صورة وشكل: إما باعتبار محلها وصورتها وشكلها بحسب الجسم الذي قامت به، أو يجعل نفس العرض القائم بالجسم له صورة وشكل.
يقال: وهذا يمكن أن يقال في الأعراض الباطنة القائمة بباطن الإنسان، كحسه الباطن، وحركته الباطنة، وتوهمه، وتخيله القائم بدماغه ونفسه، ونحو ذلك فإن هذه أعراض قائمة ببعض بدن الإنسان، وبروحه التي هي النفس الناطقة، أو بهما، وذلك جسم له شكل وصورة، فلها من الشكل والصورة من جنس ما للطعم واللون والحركات.
الوجه الثاني
أن هذه الأمور: إما أن تكون قائمة بنفسها، وإما أن تكون قائمة بغيرها.
فإن قال: هي قائمة بنفسها، مثل أن يريد(6/278)
بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى، أو جسماً آخر، فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة.
وإن كانت قائمة بهذه الأجسام، فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام.
فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود، لا جسم ولا قائم بجسم، فضلاً عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة، وما لا يمكن الإشارة إليه.
وهكذا القوى في الخجل، والوجل، وسائر الأعراض النفسية.
فإن قال: هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة، وتلك ليست جسماً، ولا قوة في جسم، ولا يمكن الإشارة إليها، وليست داخل السماوات والأرض، ولا خارج السماوات والأرض ولا تصعد ولا تنزل، ولا تتحرك ولا تسكن.
فيقال له: هذا منتف في التخيل والتوهم، ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم.
ثم يقال: إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة، كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، وإن لم يثبت ذلك، لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، وقال لك المنازع: جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها، كما يشار إلى غيرها من الأعراض، ويمكن الإحساس بها، وإن كنت الآن لا أحس بها، كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة.(6/279)
وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج، وجمهور العباد لا يحسون بهم، والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن.
وهذا معلوم بالضرورة.
الوجه الثالث
أن يقال: المثبتون قالوا: إنه لا يمكن وجود موجودين إلا أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، أو قالوا: لا يمكن وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه، أو لا يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك.
فهذه قضية كلية لا تبطل - إن قبلت البطلان - إلا بثبوت نقيضها.
وقول القائل: إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة ولا شكلاً، ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى - كلام أجنبي لا يقدح في مقصودهم سواء كان حقاً أو باطلاً، إلا أن يثبت أن ما لا يمكن الوهم والخيال أن يثبت له صورة وشكلاً لا يمكن الإشارة إليه، بل يكون لا محايثاً لغيره ولا مبايناً له ونحو ذلك.
ومعلوم أن هذا باطل، فإن القوة الباصرة، وغيرها من القوى، قائمة بالجسم، يشار إليها كما يشار إلى كل عرض قائم بالجسم، وهي محايثة لمحلها، كما تحايث الأعراض للجواهر، وتحايث سائر الأرض القائمة لمحلها، كما يحايث العرض العرض، فليست خارجة عن المباينة والمحايثة، فلم يكن في إثبات ذلك ما يناقض دعواهم الكلية، التي قالوا: إنها معلومة بالضرورة.(6/280)
الوجه الرابع
أن يقال: قول القائل: إن الوهم والخيال والقوة الباصرة وغيرها من القوى، والعشق، والخجل، والوجل، والغضب، والشجاعة، لا تدخل في الحس والوهم والخيال: إما أن يعني به أنه لا يمكن الإنسان أن يحس هذه الأمور، أو لا يمكن الإحساس بها بحال.
فإن أراد الأول، لم يكن فيه حجة.
وإن أراد الثاني معه المنازع ذلك، وقال: بل هذا مما يمكن الإحساس به، وطالبه بالدليل على أنه لا يمكن الإحساس به.
الوجه الخامس
أن يقال: حكم الإنسان بأن هذه الأعراض والقوى، أو النفس الحاملة لها، لا يتصور أن تحس بها، أضعف من حكمة بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، وبأن كل موجود قائم بنفسه مشار إليه، ونحو ذلك.
بل يقال بأن العاقل إذا رجع إلى فطرته وقيل له: هل يمكن أن يخلق الله في الإنسان قوة يحس بها - إما بالمشاهدة، وإما باللمس، وإما بغير ذلك - ما في باطن غيره من القوى والأعراض ومحل ذلك، وعرض على فطرته وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه - كان جزمه بامتناع هذا أقوى من جزمه بامتناع الأول.
فإذا كان كذلك لم يمكن أن يجزم بامتناع الأول، ويجعل امتناعه دليلاً على إمكان الثاني.(6/281)
الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول
أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات،: إما أن يكون معيناً أو مطلقاً.
فإن كان إثبات معين ونفيه، كان تصوره تبعاً لذلك المعين، فإذا كان ذلك المعين محايثاً لغيره أو مبايناً، كان تصوره كذلك، فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين، نفى الثالث، وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق، كان هذا من القضايا العامة الكلية، والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني.
الوجه الثاني
أن يقال: لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثاً للآخر، بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن، وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر ولا نعني بالمحايثة إلا هذا.
الوجه الثالث
أن يقال: هو عبر عن قول هؤلاء بعبارة لا يقولونها، فإنهم لا يقولون: إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما سارياً على الآخر أو مبايناً عنه، فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منهما مبايناً للآخر.
ولا يقال: إن العرض سار في العرض، بل يقال: إن الأعراض سارية في المحل.
اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ(6/282)
السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر، فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان، كما تجتمع سائر التصورات، والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان، وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد.
الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج، فإن يقدر أن الشيء: إما موجود وإما معدوم، وإما لا موجود ولا ومعدوم، وأن الموجود: إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون لا واجباً ولا ممكناً، وأنه: إما قديم وإما محدث، وإما قائم بنفسه أو بغيره، أو لا قائم بنفسه ولا بغيره، وأمثال ذلك من التقديرات، ثم لم يكن هذا دليلاً على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج.(6/283)
فكذلك تقديره لأن الشيء: إما محايث، وإما مباين، وإما لا محايث ولا مباين، لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج.
الوجه الثاني
أن يقال: القوم لا يقولون: إما ساري وإما مباين، ولكن يقولون: إما أن يكون مبايناً له، وإما أن يكون محايثاً له - أي بحيث هو، سواء كان سارياً فيه سريان الصفة في الموصوف، وإما أن يكون جميعاً ساريين في موصوف واحد، كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد.
وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث، فإن من يقول: أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين: إما أن يكونا متباينين، وإما أن يكونا متحايثين، يجزم بانتفاء موجود لا يكون مبايناً للموجود الآخر ولا محايثاً له.
الوجه الثالث
أن يقال: القسم الثالث: إما أن يقول: إنه ممكن إمكاناً ذهنياً أو خارجياً، والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج.
وهو قد فسر مراده بالأول، وهو عدم العلم حتى يقوم الدليل.
وحينئذ فيقال: مجرد الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالامتناع - لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به، وإنما غايته أن يقول: إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه.
والمدعي يقول: أنا أعلم امتناعه بالضرورة، وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة، وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم.(6/284)
ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها، فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه.
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام، بل لا يتوقف إلا لعدم التصور، أو لوجود ما يمنع من الحكم، لظن أو هوى، كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب.
ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم، فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم جحدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم.
وقال تعالى عن اليهود: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] .
وقال تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75] .
وقال عن المشركين: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33] ، وقال موسى لفرعون: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} [الإسراء: 102] .
وقد أخبر عن كذب طوائف، وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق، وهذا جحد لما علموه وتيقنوه، علم أن في الطوائف من قد يتفقون على جحد ما يعلمونه، وكل طائفة(6/285)
جاز عليها المواطأة على الكذب، جاز عليها ذلك، ويجوز أيضاً أن يشتبه عليها الحق بالباطل، حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها، وإن كان معلوماً بالضرورة عند غيرها، فإنه إذا جاز تعمد الكذب عليهم، فجواز الخطأ عليهم أولى.
ومعلوم أن الحس قد يغلط، والعقل قد يغلط، فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أو عقلهم، وإذا كانت المعاني دقيقة، وفيها ألفاظ مجملة، وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذا القول باطل وكفر، أمكن أن لا يتصوروه على وجهه، وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك.
الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول
ما أجاب به بعض أصحابهم، حيث قال: هذا لا يرد عليهم، لأن الأعداد أمور ذهنية، والكلام في أمور خارجية.
الوجه الثاني
أن يقال: العدد مع المعدود، والتقدير مع المقدر،(6/286)
كالحد مع المحدود، والاسم مع المسمى، والعلم مع المعلوم، ونحو ذلك.
فالعلم والقول والعدد والحد، الذي هو القول الدال، والتقدير ونحو ذلك، هي قائمة بالعالم، القائل.
العاد، الحاد، المقدر، وإذا العدد هو معنى يقوم بالعاد، كان حكمه حكم سائر ما يقوم بالإنسان من هذه الأمور، وموضع ذلك نفس الإنسان، وأما مقدورها فهو تابع لمحلها، كأمثالها من الأعراض.
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الأعداد هي من جملة الكليات، والقول فيها كالقول في كليات الأنواع.
ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عدداً مجرداً قائماً بنفسه، أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم، وكانوا أضعف قولاً من أصحاب أفلاطون الذي أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها (المثل الأفلاطونية) .
فإذا كان قد تقدم بطلان حجة من احتج بكليات الحقائق، فبطلان حجة من احتج بكليات العدد أولى وأحرى.
فصل تابع كلام الرازي في الأربعين
قال الرازي: (وإذا عرفت ذلك فنقول: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان: أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك.
والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى، فإن كان الباري(6/287)
كذلك كان مماساً للعالم أو محاذياً له قطعاً.
ثم قول أكثر الكرامية: إنه مختص بجهة فوق، مماس للعرش، أو مباين عنه ببعد متناه.
وقالت الهيصمية: هو مباين عنه ببعد غير متناه) .
الرد عليه
فيقال: الناس لهم في هذا المقام أقوال: منهم من يقول: هو نفسه فوق العرش غير مماس، ولا بينه وبين العرش فرجة، وهذا قول ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، والأشعري، وابن الباقلاني، وغير واحد من هؤلاء، وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء، ومن أتباع الأئمة الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم.
وهؤلاء يقولون: إنه بذاته فوق العرش، وليس بجسم، ولا هو محدود ولا متناه.
ومنهم من يقول: هو نفسه فوق العرش، وإن كان موصوفاً بقدر لا يعلمه غيره.
ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش، ومنهم من يجوز ذلك.
وهذا قول أهل الحديث والسنة، وكثير من أهل الفقه، والصوفية والكلام غير الكرامية، فأما أئمة أهل السنة والحديث(6/288)
وأتباعهم، فلا يطلقون لفظ (الجسم) نفياً ولا إثباتاً، وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ (الجسم) ، كهشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما.
وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول
قال الرازي: لما وجوه: الأول: لو كان مشاراً إليه، فإن لم ينقسم كان في الحقارة كالجوهر الفرد، وتعالى عنه وفاقاً، وإن انقسم كان مركباً، وقد سبق بطلانه) .
قال (وعبر أصحابنا عن هذا بأنه لو كان فوق العرش، فإن كان أكبر منه أو مثله كان منقسماً لكون العرش منقسماً، وإن كان أصغر فإن بلغ إلى صغر الجوهر الفرد جاءت الحقارة المنزه عنها وفاقاً، وإلا لزم التركيب.
ثم من قال بأن كل متحيز قابل للقسمة كفاه أن يقول: كل متحيز فإن يمينه غير يساره، وقدامه غير خلفه، ولزم التركيب) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
قول من يقول: هو فوق العرش وليس بمنقسم، ولا متحيز، ولا له يمين ولا يسار يتميز منه بعضه عن بعض، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أهل الحديث والصوفية، الذين يقولون: هو فوق العرش وليس بجسم،(6/289)
كالتميميين، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه كابن الزاغوني، وغير ذلك وكما يقول ذلك من يقول من الفلاسفة، كما حكاه ابن رشد عن الحكماء، كما تقدم بعض ذلك.
وهؤلاء خلق كثيرون فإن هؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا لم ينقسم كان الجوهر الفرد، ويقولون: لا نسلم أنه يلزم أنه يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، فإن هذه الأقسام الثلاثة إنما تلزم إذا كان جسماً متحيزاً محدوداً، فإذا كان فوق العرش وليس بجسم مقدر محدود، لم يلزم لا هذا ولا هذا، مع أنه مشار إليه.
فإن قال النفاة: فساد هذا معلوم بالضرورة، فإنا نعلم بالضرورة أن ما كان فوق غيره، فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو بقدره، ونعلم أنه يتميز منه جانب عن جانب، وهذا هو الانقسام.
قالت لهم المثبتة: تجويز هذا أقرب إلى العقل من تجويز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه، وتجويز وجود موجودين ليس أحدهما محايثاً للآخر ولا مبايناً له، وأنتم تقولون: إن الحكم بكون الشيء أكبر من غيره وأصغر ومساوياً، وأنه مباين له ومحايث له ومشار إليه ونحو ذلك، هو من حكم الوهم التابع للحس، وتقولون: إن حكم الوهم لا يقبل في غير الأمور الحسية، وتزعمون أن الكلام في صفات الرب تعالى من هذا الباب.
فيقال لكم: إن كان مثل هذا الحكم غير مقبول، لم يقبل حكمكم(6/290)
بأنه إما أكبر وإما أصغر وإما مساو، فإن هذا حكم على ذوات المقدار، فإذا قدر ما لا مقدار له وهو فوق غيره، لم يلزمه شيء من الأقسام الثلاثة، وإن كان مثل هذا الحكم مقبولاً، لزم الحكم بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له.
ومن المعلوم بضرورة العقل أنا إذا عرضنا على العقل، أو الوهم، أو الخيال، أو الحس - أو ما شئت فقل - قولين: أحدهما يتضمن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه، والآخر يتضمن إثبات موجود خارج العالم، ليس بجسم ولا منقسم، ولا يكون أكبر من العالم ولا أصغر - كان إنكار العقل - إن أنكر القولين - للأول أعظم، وتجويزه - إن جوز القولين - للثاني أعظم.
فإن ادعى المدعي أن فساد قول من يثبت موجوداً خارج العالم، ولا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً، معلوم بالضرورة.
قيل له: وفساد قول من يثبت موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه، هو معلوم بالضرورة بطريق الأولى.
وقد تقدم بيان قول من يقول: إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة، وإن المنازعون له يقولون: هذا حكم الوهم لا حكم العقل، فهكذا يقول هؤلاء: إن قولكم هذا فاسد، من حكم الوهم لا من حكم العقل.
ولكن هؤلاء النفاة فيهم جهل وظلم، فإنهم يحتجون على منازعيهم بحجة هي لهم ألزم، ويثبتون قولهم بحجة هي على قول منازعيهم أدل، وهذا القول مع أنه أقرب إلى العقل فهو أقرب للسمع، فإن صاحبه لا يحتاج أن يتأول النصوص المثبتة للعلو والفوقية والاستواء،(6/291)
فيكون قوله أقرب إلى اتفاق الشرع والعقل، وأقرب إلى الشرع منفرداً، فيكون أرجح من قولهم على كل تقدير.
وهكذا هو عند أهل الإسلام، فإن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، باتفاق جماهير المسلمين وعوامهم.
الوجه الثاني
أنه يقال له: ما تعني بقولك: إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم؟ أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه؟ أم تعني به أن كل مشار إليه، إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركباً من الجواهر المنفردة؟ أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء، ويرى منه شيء دون شيء، ويتميز منه شيء عن شيء.
فإن أردت الأول لازم التقدير الأول، فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيراً بقدر الجوهر الفرد، فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيراً عظيماً مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه.
بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات: هل تقبل التفريق أو لا تقبله؟ ومن قال: إنها تقبله أثبته بالدليل، لم يقل: إنه معلوم بالضرورة.(6/292)
وكذلك إن عنى به أنه مركب من المادة والصورة، كما يقول بعض الفلاسفة، فأكثر العقلاء ينكرون ذلك.
والصواب قول من ينكر ذلك، كما هو مذكور في غير هذا الموضع، وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم.
وإن أردت به المعنى الثالث: وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء.
فيقال لك: هذا القول لازم لجميع الخلائق.
أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، ومن المعلوم أن هذه المعاني متميزة في أنفسها، ليس كل واحد منها هو الآخر.
وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالماً، وكونه قادراً، وكونه حياً، ونحو ذلك.
والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجوداً، وكونه واجباً، وكونه عاقلاً وعقلاً، وعاشقاً وعشقاً، ولذيذاً وملتذاً، ونحو ذلك، ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق، وهذه مسألة الصفات.
فإذا قال النفاة: عندنا العلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، والوجوب هو الوجود، ونحو ذلك.
كان لهم جوابان: أحدهما أن يقال: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما تقدم.
ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره.
والثاني أن يقال: إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص، كاللون والسواد، وتقولون: إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام، جاز(6/293)
لمنازعكم أن يثبت ذاتاً فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب، وكان هذا أقرب إلى العقل.
فإن جاز أن تقولوا: لا يتميز العلم عن القدرة، ولا الإرادة عن الحياة، جاز أن يقول: لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش.
ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر، فإن كان ذلك مقبولاً كان هذا أولى بالقبول، وإن كان هذا مردوداً كان ذلك أولى بالرد، ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل، ومع نطق الشرع بذلك في غير موضع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها: كالعليم، والقدير، والرحيم، والعزيز، وغير ذلك، وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها، ما شهد به الكتاب العزيز، فقد أثبت تعدد أسمائه وكلماته، وفي ضمن ذلك تعدد صفاته، وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى، المنعوت بصفات العلى، الصادق العدل في كلماته التامات صدقاً وعدلاً، وإذا كانت هذه الحجة مبنية عل نفي الصفات، فقد علم فساد أصلها.
الوجه الثالث
أن يقال: قولك: (وإن انقسم كان مركباً.
وقد سبق بطلانه) قد سبق قولك: أنه ليس بمتحيز، لأن كل متحيز منقسم لذاته، بناء على نفي الجزء، وكل منقسم لذاته ممكن لافتقاره إلى(6/294)
جزئه الذي هو غيره، وكون المفتقر إلى الغير ممكناً بالذات.
ومعلوم أن هذه الحجة قد تبين فسادها بطريق البسط في مواضع متعددة وبين أن مبناها على ألفاظ مجملة مشتبهة، وهي أصل توحيد الفلاسفة.
وقد بين نظار المسلمين فسادها، كما بين ذلك أبو حامد الغزالي وغيره.
جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات
والرازي أجاب الفلاسفة عن حجة التركيب في مسألة الصفات فقال في نهاية العقول: (قوله: يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية، فتكون تلك الحقيقة ممكنة.
قلنا: إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم، لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها، وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة، فذلك مما يلتزمه.
فأين المحال؟ وأيضاً فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج، فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات، وفي الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات) .
وقال أيضاً: (مما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا: إن الله(6/295)
عالم بالكليات، وقالوا: إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم، وقالوا: إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى، حتى ابن سينا قال: إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات، بل كانت م لوازم الذات.. ومن كان هذا مذهباً له كيف يمكنه أن ينكر الصفات؟ وفي الجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة، إلا أن الصفاتية يقولون: إن الصفات قائمة بالذات، والفلاسفة يقولون: إن هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضاً، والذي يسميه الصفاتي قياماً، يسميه الفلسفي قواماً وتقوماً، فلا فرق إلا بالعبارة، وإلا فلا فرق في المعنى) .
الوجه الرابع
أن يقال: (إذا كان لفظ: التحيز والانقسام(6/296)
والجزء والافتقار، والغير ألفاظاً مجملة، فلفظ (المتحيز) يراد به ما حازه غيره من الموجودات، وليس مرادهم بهذا.
ويراد به ما كان منحازاً عن غيره، أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه، وهذا مرادهم بلفظ (المتحيز) ، ولهذا يقولون: العالم متحيز.
ولفظ (الانقسام) يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء، وليس هذا مرادهم، ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب، وهذا مرادهم.
ولفظ (الجزء) يراد به ما كان منفرداً فانضم إليه غيره، أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره، وليس هذا مرادهم.
ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره، وهذا مرادهم.
ولفظ (الافتقار) يراد به أن يكون الشيء مفتقراً إلى فاعل يفعله، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون ملازماً لغيره فلا يوجد أحدهما مع الآخر، وهذا مرادهم، وقد يقال: إنه يراد به كون الشيء مفتقراً إلى أمر منفصل عنه، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه، مما يقال: إنه جزء كالصفة، وهذا مرادهم هنا.
وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لو كان مشاراً إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها، الداخلة في مسمى اسمه.
ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمة لهذه اللازمات، والمتصفة بهذه الصفات، بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية، كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية، يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود، مشبهة(6/297)
بالمعدومات والجمادات، فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال، فلا بد أن تكون له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا فعل، ولا عظمة، ولا رحمة، بل يكون موجوداً مطلقاً أو مجرداً - كان ممتنع الوجود، لا واجب الوجود.
وما لا يكون إلا كاملاً، لا يكون إلا بكماله، وما يجب أن يكون حياً عليماً قديراً، لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه، وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها، موجباً لكونه لا يكون موجوداً بنفسه.
وتسمى المسمى هذا جزءاً وبعضاً ونحو ذلك، غايته أن يقال: لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه، ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل، فيكون الكل موجوداً بالكل، ولا يتضمن ذلك افتقاراً له إلى غيره، فإذا كان قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده، فقوله: هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده.
ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات، فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه، وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه، فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزماً لصفات كمال لازمة له قائمة بنفسه؟ فإن كان استلزامه لغيره افتقاراً إليه، فافتقاره إلى معلوله(6/298)
المنفصل أعظم امتناعاً، وإن لم يكن افتقاراً إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقاراً إليها.
ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة تحقيقاً لقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] .
الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين
قال الرازي: (الوجه لثاني: لو كان مشاراً إليه لكان متناهياً من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد، ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات، تعالى عنه، وإن كان من بعضها، فالجانب المتناهي، إن وافق غير الفصل والوصل، وإن خالفه فيها، وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة، فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس، فصح عليه الوصل والفصل، وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف، تعالى عنه، وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد.(6/299)
فاختصاصه بذلك القدر المخصص، ولأنه لو كان متناهياً من جميع الجوانب، لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه، والخصم ينفيه) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
قول من يقول: هو فوق العرش، ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحداً منهما، وهو قول من تقدم ممن يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدراً، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.
وإذا قال لهم النفاة: هذا ممتنع في بديهة العقل.
قالوا لهم: القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها، ولا بدخول العالم ولا بخروج منه، أظهر فساداً في بديهة العقل، فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه، لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها، ووجود موجود لا داخل العالم لا خارجه، ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه - كان الثاني أظهر فساداً في العقل كما تقدم نظيره.
الوجه الثاني
قول من يقول: هو غير متناه: إما من جانب،(6/300)
وإما من جميع الجوانب، كما قال ذلك طوائف أيضاً من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم، وحكاه الأشعري في المقالات عن طوائف.
فإذا قيل لهم: هذا ممتنع.
قالوا: قول منازعينا أظهر امتناعاً.
وإذا قيل لهم: يلزمكم أن يكون مخالطاً للعالم.
قالوا: منازعونا منهم من يقول: هو بذاته في كل مكان، ومنهم من ينفي ذلك، ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء، وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة، ادعينا مثل ذلك.
الوجه الثالث
قول السلف والأئمة، وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف، الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره.
فإذا قيل لهؤلاء: كل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد، واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل - منعوا هذا كما تقدم ذكره، وقالوا: لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه، ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه - يمكن أن يوجد بخلاف ذلك.(6/301)
وتقدم الكلام على هاتين المقدمتين، واعترف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما.
وأما قوله: (لو كان متناهياً من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية منه) .
فكلام ساقط، لأنه ليس هناك شيء موجود: لا مكان ولا غير مكان، وإنما هناك: إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئاً موجوداً على قول طائفة، وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء.
وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود، بل يقال لمن احتج بهذا: أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود، ولا وراء العالم شيء موجود، مع أنه متناه عندك، فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود؟ .
ثم قال: (أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية، فهب أنه لا يكون فوق جميع الموجودات، فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا.
الوجه الرابع
قول بعض هؤلاء النفاة لبعض: لم قلتم: (إن عدم تناهيه: إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه) ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط؟ فإن قالوا: لأن فرض مشار إليه، غير متناه لا يخالط العالم - ممتنع في صريح العقل.
قيل: وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مبايناً لغيره، ممتنع في صريح العقل.(6/302)
فإن قلتم: هذا في حكم الوهم.
قالوا: وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم.
وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم، منهم من يقول: (إنه جسم، وهو في كل مكان، وفاضل في جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم، لأنه أكبر من كل شيء.
وقال بعضهم: مساحته على قدر مساحة العالم.
وقال بعضهم: هو جسم له مقدار في المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر) .
(ومنهم من يقول: إنه جسم تحل الأشياء فيه، وهو الفضاء، وليس بذي غاية ولا نهاية.
وقال بعضهم: هو الفضاء، وليس بجسم، والأشياء قائمة به) .
(وقال بعضهم: ليس لمساحة البارئ(6/303)
نهاية ولا غاية، وإنه ذاهب في الجهات الست، اليمين، والشمال، والأمام، والخلف، والفوق، والتحت، قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم، ولا طويل ولا عريض، ولا عميق وليس بذي حدود، ولا هيئة ولا قطب) .
حكى هذه الأقوال الأشعرية في المقالات وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول: (إن الله بكل مكان، وإنه مع ذلك مستو على عرشه، وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، بلا كيف) .
وكذلك أبو معاذ التومني.
وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية، كأبي طالب المكي وغيره.
فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال: منهم من يقول: له قدر، ومنهم من يقول: ليس له غاية ولا نهاية، ومنهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: ليس بجسم.
ثم من هؤلاء من(6/304)
يقول: إنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء، وأيضاً فإنهم إذا قالوا: إنه يخالط الأشياء، قالوا: هذا لا يقدح في كماله، كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار.
وقول هؤلاء وإن كان باطلاً، كما قد بين في غير هذا الموضع، فالمقصود أن النفاة الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا بخارجه، لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء.
بل قد يقول القائل: إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة، الذين يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه.
ولهذا قال من قال: (متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء) .
ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة ومنهم من يقول: هذا اعتقادي، وهذا ذوقي ووجدي.
وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة، الذين يقولون: إنه مباين للعالم، فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون.
فإذا قالوا: لا نسلم أنه يجب أن يخالط العلم، أو لا نسلم أن في ذلك محذوراً، بل يمكن عدم المخالطة، أو المخالطة، بلا نقص ولا عيب - كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك، فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل.
فإذا قالوا لأولئك: هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل، كان(6/305)
هذا بمنزلة قول أولئك: إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم، فإنهم قد قالوا: إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس، فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم، وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به، وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو غير جسم عند بعضهم، وجسم عند آخرين منهم - كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطاً للعالم، وأن ذلك ممتنع عليه، حكماً على غير المحسوس بحكم المحسوس، وهم لا يقبلون هذا الحكم.
ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول: إنه مشار إليه، ويقول: إنه متناه، وهو مع ذلك جسم، أو ليس بجسم.
وإذا قال هؤلاء: كل مشار إليه فهو جسم، كان كقولهم: لو كان فوق العرش لكان مشاراً إليه، ولكان جسماً، وقد نازعهم في ذلك طوائف.
وتبين أن قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم، ليس هو أبعد عن العقل، من قول من قال: أنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلاً.
فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك، وكل ما كان أقرب إلى العدم، كان أبعد عن الوجود الواجب.
فهكذا من قال: يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط، أو يخالط ولا نقص في ذلك - فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك، بل نظير قولهم أن يقال: إنه في كل مكان بذاته، ولا يشار إليه، ولا نهاية له، كما قال بعضهم.(6/306)
فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد، فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها، فهذا جواب هؤلاء.
الوجه الخامس
قول من يقول: لا نسلم أنه إذا كان متناهياً من بعض الجهات يلزم ما ذكره من المحذور.
وقوله: (الجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح عليه أن ينقلب غير متناه، وإلا لزم التركيب، فيصح الفصل والوصل، وما كان كذلك احتاج إلى مؤلف يؤلفه) .
قالوا: لا نسلم أنه يجوز عليه الفصل والوصل والحال هذه، لإمكان أن يكون ذلك الاتصال من لوازم الذات، كقيام الصفات اللازمة لموصوفها، وأيضاً الموافقة في الماهية إنما تقتضي جواز انقلابه غير متناه، إن لو لم يكن المقدار المعين من لوازم وجوده.
فإن قال: إن كل مختص بقدر فهو ممكن، فهي المقدمة الثانية، وقد تقدم إبطالها، فلا يمكنه حينئذ تقرير المقدمة الأولى إلا بالثانية، فلا يكون قد أقام دليلاً على أنه إذا كان متناهياً لزم التناهي من جميع الجوانب، إلا لافتقار الاختصاص إلى مخصص، وهذا: إن كان دليلاً صحيحاً فهو كاف سواء قدر التناهي من جميع الجوانب أو بعضها، وإن لم يكن صحيحاً بطل كلامه على بطلان تناهيه من جميع الجوانب، ومن بعضها.(6/307)
الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال: الرازي: الوجه الثالث: (أنه لو كان مشاراً إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثاً لما سبق في مسألة الحدوث، وإلا كان كالزمن المقعد، وهو نقص تعالى عنه) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون، كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة، وأبطل كل ما احتج به النفاة، من غير اعتراض على إبطال ذلك.
وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرهما.
الوجه الثاني
قول من يقول: هو مع كونه مشاراً إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك، كما يقولون هم: إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج، والمباينة والمحايثة، ونحو ذلك من المتقابلات.
فإن قيل لهؤلاء: إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول.
قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه.
وهؤلاء إذا قيل لهم: إما أن يكون مبايناً، وإما أن يكون محايثاً.
قالوا: هذا من عوارض الجسم، فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك، لم يوصف بمباينة ولا محايثة، فيقول لهم هؤلاء: كونه موصوفاً بالحركة(6/308)
والسكون فرع على قبوله لذلك، فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك، لم يوصف بأحدهما.
ومن الناس من يقول: الحركة من خصائص الجسم.
ومنهم من يقول: الحركة يوصف بها ما ليس بجسم كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس، ويقول: إنها غير جسم.
وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب.
الوجه الثالث
أن يقال: اتصاف المتصف بالحركة والسكون: إما أن يكون صفة كمال أو لا.
فإن لم يكن صفة كمال، لم يكن سلب ذلك نقصاً، فلا محذور فيه، وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه.
فإن قيل: هو صفة كمال للجسم دون غيره.
قيل: إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم، أو لا نعلمه، فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه: لا تكن الحركة كمالاً، وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم، فالعلم بذلك ليس بضروري، بل هو نظري، فلا بد له من دليل.
وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم، أو لا يمكن، فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى، ويكون فوق العرش، وليس بجسم.
وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسماً، فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا يكون جسماً.(6/309)
وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك.
فإذا قيل: لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن، لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون، وأن كل مشار إليه جسم.
وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول: يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسماً، أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسماً.
وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء، يمكن صحة قول أولئك، فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه، أمكن وجود موجود قائم بنفسه، فوق عرشه، لا يشار إليه، وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك.
فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزماً لبطلان قول المدعي، لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله.
وإذا بطل قوله، كانت الحجة على صحته باطلة.
فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها، فلا يمكن الاستدلال بها عليه، وهو المطلوب، فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه، وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه، فبطلت الدلالة على التقديرين، وهو المطلوب.
الوجه الرابع
أن يقال: كثير من النظار يقولون: صحة الحركة ليست(6/310)
من خصائص كونه مشاراً إليه، فإن كثيراً من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث، وإن قال: إنه غير مشار إليه، وقد تقدم قول الرازي: (إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك) مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه، كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب، كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية.
ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون: إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن، فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت، ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد، فيقول هؤلاء: يمكن أن تقوم به الحوادث، وهو نوع من الحركة، ولا يكون مشاراً إليه، ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن، فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة، وإن لم يسلموا ذلك لهم: قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول، وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وهو المطلوب.
ومما يوضح هذا أن لفظ الحركة قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز، وقد يعني به ما هو أعم من ذلك، كالحركة في الكيف والكم والوضع، مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة، ومصير الجسم أسود وأحمر، وحلواً وحامضاً.
ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات، ومثل حركة الفلك في حيز واحد، فهذه قد تسمى حركات، وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر.(6/311)
وإذا كان لفظ الحركة من جنس لفظ الحدوث كان البحث عن قيام أحدهما به، كالبحث عن قيام الآخر به.
ومعلوم أن كثيراً من النظار يصفونه بذلك، ولا يقولون: هو جسم.
الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: (الوجه الرابع: المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه: إن كان موجوداً، وهو منقسم، كان جسماً، ولزم قدم الأجسام لذواته، وأيضاً المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقاً، والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز، فكان مفتقراً إلى الحيز، وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى، وإن كان معدوماً استحال حصول الوجود فيه، ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان، لأنه المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به.
وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب، وتعالى عنه) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: لا نسلم الحصر، بل قد يكون الحيز تارة(6/312)
موجوداً وتارة معدوماً، فإنه إذا كان في الأزل وحده، لم يكن معه شيء موجود، فضلاً عن أن يكون في شيء موجود.
ثم لما خلق العالم: فإما أن يكون مداخلاً للعالم، وإما أن يكون مبايناً له، وإذا امتنع أن يكون هو نفسه داخل العالم، أو دخل العالم فيه، وجب أن يكون مبايناً له، وإذا كان مبايناً للعالم، أمكن أن يكون فوق العالم، ويكون ما يسمى حينئذ مكاناً أمراً وجودياً، ولا يلزم أن يكون ملازماً له، فلا يلزم قدم المخلوقات، ولا افتقاره إلى شيء منها، بل كان مستغنياً عنها، وما زال مستغنياً عنها وإن كان عالياً عليها، فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه، فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها، والهواء عال على الأرض وليس مفتقراً إليها، وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها، فإذا كان المخلوق العالي لا يجب أن يكون مفتقراً إلى السافل، فالعلي الأعلى، الخالق لكل شيء والغني عن كل شيء، أولى أن لا يكون مفتقراً إلى المخلوقات مع علوه عليها.
الوجه الثاني
أن قول القائل: (إنه في كل مكان) لفظ فيه إجمال وتلبيس.
والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان، بل منهم كثير لا يطلقون ذلك، بل يمنعون منه، لما فيه من الإجمال.
فإذا قال قائل: إنه لو كان في مكان، لم يخل: إما أن يكون المكان موجوداً، أو معدوماً.
قيل له: إذا قيل: إن الشيء في مكان، وفسر المكان بأنه معدوم،(6/313)
كان حقيقته أنه وحده، ليس معه غيره، إذ لا يقول عاقل: إنه في مكان معدوم، وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به، أو كان هو فوقه، أو غير ذلك، إذ هذا كله من صفات الموجودات.
وإذا كان كذلك فقول القائل.
وإن كان المكان معدوماً استحال حصول الموجود فيه، إنما يلزم لو قدر أن هناك أمراً يكون الواجب فيه، فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده، ليس معه غيره، امتنع أن يقال: إنه في غيره.
الوجه الثالث
أن يقال: إذا كنت أنت - وعامة العقلاء - تقولون: إن الجسم في مكان، ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود، لأنه يستلزم أبعاداً لا تتناهى، ولا في معدوم، لأن العدم لا يكون فيه شيء - فقولهم أولى بالقبول والجواز.
وأما قوله: (إن المعنى من كون الجسم في المكان، كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به) .
فيقال له: وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك.
وأما قولهم: هذا المعنى يوجب التركيب في الباري، فهذا هو الحجة الأولى، وقد تقدم جوابها، فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى، فلا تجعل حجة أخرى، وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها.
الوجه الرابع
أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر(6/314)
وجودي وأمر عدمي، وقد يعني بالمكان أمر وجودي، وبالحيز أمر عدمي.
ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون: إنه فوق سماواته، وعلى عرشه، بائن من خلقه، وإذا قالوا: إنه بائن من جميع المخلوقات، فكل ما يقدر موجوداً من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات، فإذا كان بائناً عنها لم يكن داخلاً فيها، فلا يكون داخلاً في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير، ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير.
وإذا قالوا: إنه فوق العرش، لم يقولوا: إن العرش كان موجوداً معه في الأزل، بل العرش خلق بعد أن لم يكن، وليس هو داخلاً في العرش، ولا هو مفتقر إلى العرش، بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش، فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلاً في العرش أو مفتقراً إليه، وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه، وهذا ليس قول من يقول: إنه بائن عن جميع المخلوقات.
الوجه الخامس
أن يقال: قوله (الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز) لفظ مجمل، فإن قال: إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي، فهذا لم يقله الخصم ولا يعرف أحداً قاله، وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه، ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه، فكيف يقال: إنه مفتقر إلى حيز عدمي، فالعدم ليس بشيء حتى يقال: إن الرب مفتقر إليه، أو ليس بمفتقر إليه.(6/315)
وإذا فسر الحيز بأمر عدمي، لم يجز أن يقال: إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه، فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة، وأن لفظ الحيز لفظ مجمل.
وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود، ويريدون به تارة ما هو معدوم.
وكذلك لفظ المكان، لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم، وبالمكان ما هو موجود، ولهذا يقولون: العالم في حيز وليس في مكان.
وإذا كان كذلك، فمن أثبت متحيزاً في حيز عدمي لم يجعل هناك موجوداً غيره، سواء كان ذلك واجباً أو ممكناً.
وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجوداً معه، فضلاً عن أن يكون مفتقراً إليه.
الوجه السادس
أن يقال: هذه الحجة مبنية على أن كل مشار إليه مركب، وإن ذلك ممتنع في الواجب، فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه، أو أنه يقبل التفريق، ونحو ذلك، لم تسلم الأولى.
وإن عنيت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض، فللناس هنا جوابان:
أحدهما: قول من يقول: هو فوق العالم وليس بمشار إليه، أو هو مشار إليه، وهو لا يتبعض، فيشار إلى بعضه دون البعض، لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض، فإذا قدر مشاراً إليه لا يتبعض، لم يمكن أن يقال هذا فيه.(6/316)
الثاني: قول من يقول: يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض، ويقول: التبعيض المنفي عنه، هو مفارقة بعضه بعض، وأما كونه يرى بعضه دون البعض، فليس هذا منفياً عنه، بل هو من لوازم وجوده، وإذا قال الثاني: هذا تركيب، وهو ممتنع، فقد عرف بطلان هذه الحجة.
الوجه السابع
أن يقال: إذا كان فوق العرش فلا يخلو: إما أن يلزم أن يكون جسماً أو لا يلزم، فإن لم يلزم بطل مذهب النفي، فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسماً، فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور، وإن لزم أن يكون جسماً، فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسماً، وحينئذ فقول القائل: إن كان المكان موجوداً كان جسماً ولزم قدم الأجسام لدوامه - لا يكون محذوراً على هذا التقدير، ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار.
الوجه الثامن
وأما الوجه الثامن: فقوله: (المكان مستغن في وجوده عن المتمكن، لجواز الخلاء وفاقاً، والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز، فكان مفتقراً إلى الحيز) يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنياً عن المتمكن، فإنه لا يقول عاقل إن شيئاً من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود، فإذا جعل ما سمى مكاناً من الممكنات المبدعات لله تعالى، لم يجز أن يقال: هو مستغن عنه.
وأيضاً يقال: إن عنيت بكون المكان مستغنياً عن المتمكن، أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه، فهذا مسلم، لكنه لا يفيدك، إلا إذا(6/317)
قيل: إن المتمكن مفتقر إلى وجود المكان المستغنى عنه، وهذا لم يذكره في التقسيم.
وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع، فهذا ليس بلازم على هذا التقدير، فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع، وإن استغنيت عن متمكن.
وإذا كان وجوده مستلزماً للحيز على هذا التقدير، لم يكن مفتقراً إلى ما هو مستغن عنه، بل كان وجوده مستلزمة لأمور لازمة له مفتقرة إليه، وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنياً عنه، ولا أن يكون مفتقراً إلى ما هو مستغن عنه، كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات، لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية.
هذا عند من يقول بالصفات وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين، ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية، فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات، مع أنها هي المفتقرة إليه، وهو مستغن عنها.
ونكتة الاعتراض أنه فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه، فلا ريب أن هذا باطل بالاتفاق، لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيراً إلى ما هو مستغن عنه، وهذا ينافي وجوب وجوده.
وأما إذا كان ما سمي مكاناً مفتقراً إليه، وهو المبدع الخالق له، لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك.(6/318)
أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك، لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب، فهذا ظاهر.
وإما إذا قدر أن ذلك لازم له، فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوماً له، وهو مفتقر إلى الرب تعالى، وقد عرف كلام الناس في مثل هذا؟.
الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: (الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية، كان حصوله في بعضها بدلاً عن الآخر جائزاً، فافتقر فيه إلى مرجح، وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد، والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة، وهي غير متناهية، فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية، ولا يرتضيه مسلم.
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: الأحياز أمور عدمية كما قد عرف، فإنهم يقولون: العالم في حيز، والحيز عندهم عدمي، ولو قال قائل: إن الحيز قد يكون وجودياً، فالمثبتون يقولون: نحن نقول: أنه فوق العالم وحده، كما كان قبل المخلوقات، وليس هو في حيز وجودي، فإذا(6/319)
سميت ما هناك حيزاً، كان تسميته للعدم حيزاً، وهو اصطلاحهم.
وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة، حتى يقال: إنها متماثلة أو مختلفة.
فإن قيل: من الناس من يقول: الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له.
قيل: هذا القول إن كان صحيحاً ثبت قدم الحيز الوجودي، وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك.
وإن كان باطلاً بطلت الحجة أيضاً كما تقدم، فهي باطلة على تقدير النقيضين، فثبت بطلانها في نفس الأمر.
الوجه الثاني
أن يقال: لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية.
قوله: (حصوله في بعضها بدلاً عن الآخر جائز فيفتقر إلى مرجح) .
يقال له: نعم وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته، كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض، وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض، مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر، وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار، وصفة على صفة، مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى.
الوجه الثالث
أن يقال: ترجح بعض الأحياز على بعض متفق(6/320)
عليه بين العقلاء، سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة، فغن القائلين بالعلة الموجبة يقولون: إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره، وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر، وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقاً عليه بين العقلاء، لم يكن في ذلك محذور.
وإذا قيل: هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن.
قيل: فإذا جاز ذلك في الممكن، فهو في الواجب أولى بالجواز، فإن المرجح إن كان موجباً بالذات، فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره، وإن كان فاعلاً بالاختيار، فاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بظاهره.
وإذا قيل: هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته.
قيل: قد عرف أنهم يعترفون بذلك، وهو لازم لعامة العقلاء.
الوجه الرابع
أن يقال: أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم، لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته، المتعلقة بمشيئته وقدرته، قولان مشهوران:
أحدهما: قول من يقول: لا يجوز ذلك، كما يقول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما، من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وغيرهم، فهؤلاء يقولون: استواؤه مفعول له، فعله في العرش، ويقولون: إنه خلق العالم تحته، من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز، ويقولون: أنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته.(6/321)
والقول الثاني: قول من يقول: إنه يفعل أفعالاً قائمة بنفسه باختياره ومشيئته، كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش، وبالإتيان والمجيء، وطي السماوات بيمينه، وغير ذلك، مما هو قول أئمة أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهؤلاء يقولون: إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته.
فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعاً.
الوجه الخامس
أن يقال: الحيز، إما أن يقال: إنه موجود، وإما أن لا يقال: إنه معدوم.
فإن قيل: هو معدوم، لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود.
وإن قيل: هو موجود، فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان ممتنعاً تعين القسم الأول، وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية، فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء، وحينئذ في فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل: إما بقدرته ومشيئته، على قول المسلمين وجمهور الخلق، وإما بالذات، عند من يجوز نظير ذلك، وإن كان وجوده في الأزل ممكناً، فلا محذور فيه، فبطا انتفاء اللازم.
الوجه السادس
أن يقال: التقسيم المذكور غير حاصر، وذلك لأن الأحياز: إما أن تكون متماثلة، وإما أن تكون مختلفة، وعلى التقديرين: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية فإن كان(6/322)
وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعاً، بطل هذا التقسيم، ولم يلزم بطلان غيره، وكذلك أي قسم بطل، لم يلزم بطلان غيره، وذلك لأن هؤلاء النفاة: منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة: إما بنفسها، وإما بغيرها، كما تقول الطائفة منهم بأن القدماء خمسة: الواجب بنفسه، والحيز الذي هو الخلاء، والدهر والمادة والنفس.
ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وإن لم يقولوا بغير ذلك.
وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها - وإن قيل: أنه باطل - فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة، وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك، فإذا خوطبوا على موجب أصولهم، وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب، كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره.
الوجه السابع
أن يقال: مقدمات هذه الحجة ليست برهانية، فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح، وهذا غير ممتنع.
وأما على التقدير الثاني، فيلزم ثبوت أحياز مختلفة أما كونها غير متناهية فذلك غير لازم.
وحينئذ فيقال: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه، ممكنة بنفسها واجبة به، أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، كما عرف من مذاهب الطوائف.
ويقال على وجه التقسيم: إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني.(6/323)
والمقصود بيان فساد أمثال هذه الكلام بالحجج العقلية المحضة، فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها، المخالفة لدين المرسلين، فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس، كان ذلك خيراً من فعلهم.
الوجه الثامن
أن يقال: الأحياز: إن كانت عدمية، لم يكن في ذلك محذور، سواء كانت متماثلة أو مختلفة، فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور، والمثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه، فإن هذا ليس هو معروفاً من أقوال المثبتين.
وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته، وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكناً، وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدمياً، فعلم أنه لا حجة فيما ذكره.
الوجه التاسع
أن من المسلمين من يقول: قد قامت به في الأزل معاني لا نهاية لها، كعلوم لا نهاية لها، وكلمات لا نهاية لها، وإرادات لا نهاية لها، ونحو ذلك.
ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكناً بدون ثبوت أحياز قديمة، مختلفة غير متناهية، لم يضرهم بطلان هذا اللازم.
وإن قيل: إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجاً إلى دليل، وهو لم يذكر دليلاً على نفيه، وإنما قنع بحجة مسلمة، وهي أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة(6/324)
قائمة بأنفسها غير متناهية، ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون، من أهل الإثبات وغيرهم، لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم، فإذا قدر أنه من لوازم قولهم، احتاج نفيه إلى دليل، ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع، لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا، فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62] و: {رب العالمين} [الفاتحة: 2] .
ونحو ذلك، لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله، وهو ربها، وهذا لا ينازع فيه مسلم، لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين، فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما.
الوجه العاشر
أن يقال: هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده، ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم، بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك، كما يذكر مثل ذلك في كتاب المطالب العالية وغير ذلك من كتبه.
وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه، فلا ينازعون في كثرتها، وظهور دلالتها، ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها، وإنما يدعون أنه عارض العقل.
وإذا كان الأمر كذلك، لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية، ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها.(6/325)
بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب، فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع.
والمقدمة السمعية: إما نص أو إجماع، ولا نص في المسألة، وأما الإجماع فهو يقول: أنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة، ومعلوم أنه ليس عن الصحابة، بل ولا التابعين، ولا الأئمة المشهورين، ما يقرر ما يقرر مطلوبه، بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه.
وأيضاً فالإجماع عنده دليل ظني:
ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة، فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة، بنصوص دونها في الظهور والكثرة.
وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية، فقوله في غاية الضعف كيفما احتج، سواء ادعاها نصية أو إجماعية، مع أن قوله أيضاً في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية، فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: (الوجه السادس في العالم كرة.
فإن الكسوف القمري يرى في البلاد الشرقية في أول الليل، في البلاد الغريبة في(6/326)
آخره، فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر، وأنه باطل) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أحدها: أن يقال: القائلون بأن العالم كرة يقولون: إن المحيط هو الأعلى، وإن المركز الذي هو جوف الأرض هو الأسفل، ويقولون: إن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات، والأرض تحتها من جميع الجهات، ويقولون: إن الجهات قسمان: حقيقية وإضافية، فالحقيقية جهتان: وهما العلو والسفل، فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقاً، وما في جوفها هو السافل مطلقاً.
وأما الإضافية فهي بالنسبة إلى الحيوان، فما حاذى رأسه كان فوقه، وما حاذى رجليه كان تحته، وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه، وما حاذى اليسرى كان عن يساره، وما كان قدامه كان أمامه، وما كان خلفه كان وراءه.
وقالوا هذه الجهات تتبدل، فإن ما كان علواً له قد يصير سفلاً له، كالسقف مثلاً: يكون تارة فوقه، وتارة تحته، وعلي هذا التقدير فإذا علق رجل جعلت رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض، أو مشت نملة تحت سقف: رجلاها إلى السقف، وظهرها إلى الأرض، كان هذا(6/327)
الحيوان باعتبار الجهة الحقيقية، السماء فوقه، والأرض تحته، لم يتغير الحكم، وأما باعتبار الإضافة إلى رأسه ورجليه، فيقال: إن السماء والأرض فوقه.
وإذا كان كذلك، فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب - هم باعتبار الحقيقة كلهم فوق الأرض، وليس بعضهم تحت بعض، ولا هم تحت شيء من الأرض، أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب، وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب، وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى، وإن كان فلك الشمس فوق القمر، وكذلك السحاب وطير الهواء، هو من جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء، ليس شيء منه تحت الأرض، ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب، وكذلك ما على ظهر الأرض من الجبال والنبات والحيوان والأناسي وغيرهم، هم من جميع جوانب الأرض فوقها، وهم تحت السماء، وليس أهل هذه الناحية تحت أهل هذه الناحية، ولا أحد منهم تحت الأرض ولا فوق السماء البتة، فكيف تكون السماء تحت الأرض، أو يكون من هو فوق السماء تحت الأرض؟ ولو كان شيء منهم تحت الأرض، للزم أن يكون كل منهم تحت الأرض وفوقها، ولزم أن تكون كل من الملائكة وطير الهواء وحيتان الماء ودواب الأرض فوق الأرض وتحت الأرض، ويلزم أن يكون كل شيء فوق ما يقابله وتحته، ولزم أن يكون كل من جانبي(6/328)
السماء فوق الآخر وتحت الأرض وأن يكون العرش - إذا كان محيطاً بالعالم - تحت السماء وتحت الأرض، مع أنه فوق السماء وفوق الأرض، ولزم أن تكون الجنة تحت الأرض وتحت جهنم، مع أنها فوق السماوات وفوق الأرض وفوق جهنم، ولزم أن يكون أهل عليين تحت أهل سجين مع أنهم فوقهم.
فإذا كانت هذه اللوازم وأمثالها باطلة، باتفاق أهل العقل والإيمان، علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات أن يكون تحت شيء من المخلوقات، وكان من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له، مع دعواه أنه من البراهين العقلية، فإن كان يتصور حقيقة الأمر فهو معاند جاحد محتج بما يعلم أنه باطل، وإن كان لم يتصور حقيقة الأمر، فهو من اجهل الناس بهذه الأمور العقلية، التي هي موافقة لما أخبرت به الرسل، وهو يزعم أنها تناقض الأدلة السمعية، فهو كما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الوجه الثاني
أن يقال: هب أنا لا نأخذ بما يقوله هؤلاء، أليس من المعلوم عند جميع الناس أن السماوات فوق الأرض، والهواء فوق الأرض والسحاب والطير فوق الأرض، والحيتان والدواب والشجر فوق الأرض، والملائكة الذين في السماوات فوق الأرض وأهل عليين فوق أهل سجين، والعرش أعلى المخلوقات.(6/329)
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: «إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن» .
وهذه الأمور بعضها متفق عليه عند جميع العقلاء، وما لم يعرفه جميع العقلاء فهو معلوم عند من يقول به، ومن يقل أحد من العقلاء: أن هذه الأمور تحت الأرض وسكانها، وعلم العقلاء بذلك أظهر من علمكم بكرية الأفلاك، لو قدر أن ذلك معارض لهذا، فكيف إذا لم يعارضه.
وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم، فالعلي الأعلى - سبحانه - أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه.
الوجه الثالث
أن يقال: هذه الحجة: إما أن تكون سمعية، وإما أن تكون عقلية.
ومن المعلوم أنها ليست سمعية، ولو كانت سمعية لكانت السمعيات التي تدل على علو الله تعالى أنص وأكثر وأظهر على ما لا يخفى على مسلم.
وإن كانت عقلية فلا بد من بيان مقدماتها بالعقل.
وهو لم يذكر إلا قوله: (فإن كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى(6/330)
سكان الوجه الآخر من الأرض، وأنه باطل) .
فذكر مقدمتين لم يدل عليهما: لزوم كونه أسفل بالنسبة إلى بعض المخلوقات، وبطلان هذا اللازم.
والمنازع ينازع في كل من المقدمتين، فلا يسلم لزوم السفول، وإن سلم لزومه فلا بد من دليل عقلي ينفي به ذلك، وهو لم يذكر على ذلك دليلاً.
ولا يجوز أن يقال: هذا يوجب النقص، وهو منزه عنه لوجهين:
أحدهما: أن المثبت لا يسلم أن هذا نقص، ألا ترى أن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر وليس ذلك نقصاً فيها؟ وكذلك كل ما يوصف بالعلو على ما تحته، مثل الهواء والسحاب والطير والحيوان والنبات والجبال والمعدن، ومثل الملائكة والجنة والعرش، وغير ذلك، فإذا كانت المخلوقات العالية أشرف في النفوس من المخلوقات السافلة، ولم يكن ما ذكره من هذا السفول الإضافي مانعاً من هذا الشرف والرتبة، ولا يوجب ذلك نقصاً - علم أن هذا ليس بنقص.
فإن قيل: الناحية الأخرى ليس فيها حيوان ونبات ومعادن وجبال، وإنما فيها ماء، وكذلك السحاب والمطر قد يمنع كونه فيها.
قيل: هذا لا يضرنا، فإنا نعلم أن الكواكب والشمس والقمر فوق الأرض مطلقاً، وعلوها على الأرض ليس بنقص فيها، وإن قدر ما تخيلوه في السفول، وكذلك إذا قدر هناك مثل ما في هذا الوجه، ولو(6/331)
كان ما هناك سافلاً، للزم أن تكون الشمس والقمر والسماوات إذا ظهرت علينا تحت ذلك الجانب من الأرض، وتحت ما هناك، ولزم أنه لا تزال الأفلاك تحت الكواكب، والشمس والقمر تحت الأرض وهذا في غاية الفساد.
ومن العجائب أن هؤلاء النفاة يعتمدون في إبطال كتاب الله، وسنة أنبيائه ورسله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله عليه عباده، وجعلهم مضطرين إليه عند قصده ودعائه، ونصب عليه البراهين العقلية الضرورية، على مثل هذه الحجة التي لا يعتمدون فيها إلا على مجرد خيال ووهم باطل، مع دعواهم أنهم هم الذين يقولون بموجب العقل، ويدفعون موجب الوهم والخيال.
وكل من له معرفة يعلم أن قول القائل: أن الشمس والقمر والكواكب الدائرة في الفلك هي بالليل تحت الأرض، هو من حكم الوهم الفاسد، والخيال الباطل، ليس له حقيقة في الخارج، فيريدون بهذا الوهم والخيال الفاسد أن يبطلوا صريح العقل وصحيح المنقول في أعظم الأصول، ويحولوا بين القلوب وقصد خالقها وعبادته بمثل هذا الوهم والخيال الفاسد، الملتبس على من لا يفهم حقيقة قولهم.
الوجه الثاني: أن يقال: أنتم تقولون: لم يقم دليل عقلي على نفي النقص عن الله تعالى، كما ذكر ذلك الرازي متلقياً له عن أبي المعالي وأمثاله، وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية، وعمدتهم فيه على(6/332)
الإجماع، وهو ظني عنده، والنصوص الدالة عليه دون النصوص الدالة على العلو في الكثرة والقوة.
وإذا كان كذلك، وكان علو الله تعالى على خلقه ثابتاً بالسمع، كان السمع مثبتاً لما نفيتموه، لا نافياً له، ولم يكن في السمع ما ينفي هذا المعنى وإن سميتموه ناقصاً، فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع، فلا إجماع في موارد النزاع، ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب، فإن هذا يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص، وذلك ممتنع في الخبريات وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات، ويقولون: نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ.
الوجه الرابع
أن يقال: إذا قدرنا موجودين أحدهما عظيم كبير، أعظم من السماوات والأرض، بحيث يمكنه أن يحيط بذلك كله ويحتوي عليه، وآخر لا يشار إليه، وليس هو داخل العالم ولا خارجه، كان من المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل وأعظم.
فإذا قال قائل: هذه العظمة تقتضي، إذا كان محيطاً بالعالم، أن يكون تحت شيء منه، كان من المعلوم أن وصف ذاك له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحيط بشيء، ولا يوصف بأنه عظيم كبير في نفسه، ولا أنه(6/333)
ليس بعظيم كبير في نفسه - أعظم نقصاً من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات.
الوجه الخامس
أن يقال: هب أن العالم كري، فلم قلت: إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه، فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات، فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة، فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور، والآخر فوق المدور، ليس محيطاً به، كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة، لك يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور بوجه من الوجوه.
وإذا قيل: المحيط بالمدور، كالفلك التاسع المحيط بالأرض، وهو العالي من كل جانب.
قيل: هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور، وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا، بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقاً، كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها.
ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك، والفلك من كل جانب عال عليه، فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطاً به، ولا مركز العال مركزاً له - امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم، بل هو قطعاً فوق الأفلاك من هذا الجانب، وليس تحتها من ذلك الجانب، فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها.(6/334)
وإذا قال القائل: هذا كما لا يوصف بالسفول، فهو لا يوصف أيضاً بالعلو، فإن العالي المطلق هو المحيط، إذاً ليس إلا المحيط والمركز، وهذا إذا لم يكن محيطاً لم يكن عالياً.
قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه على هذا التقدير إذا كان محيطاً لم يكن سافلاً البتة، بل يكون عالياً، وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطاً بالعالم عالياً عليه مطلقاً، ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكاً ولا مشابهاً للفلك، فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها، وليس شكلها شكل يده، بل ولا شكل يده شكلها.
وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عالياً محيطاً بالعالم ممسكاً له، فقال: بعض مخلوقاته كالباشق مثلاً يقبض بيده حمصة، فيكون فوقها محيطاً بها ممسكاً لها، فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته، فكيف يكون ممتنعاً في حقه.
الثاني: أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط، لم يلزم أن يكون له مركز، ولا أن يكون مركز العالم مركزاً له، وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه، وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه، بل ذلك إنما يلزم في المحيط والمحاط به، فالمركز من المحيط كالنقطة من الدائرة، فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة، لم يكن له مركز كنقطة الدائرة.
ولهذا لو(6/335)
قدر أن السماوات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز، مع تقدير الكرة المستديرة، فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز، وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة - وهو النقطة التي وسطها - مركزاً له، سواء جعل فوق المستدير أو تحته، فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديراً، ولا يكون مع هذا مشاركاً للمستدير في أن النقطة التي هي المحيطة مركزاً له، بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة، وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته - إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس مستدير - نسبة واحدة، بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير، كما قد يمكن أن يكون فوق شيء آخر، فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته، والمحيط فوقه.
وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعاً، ويمتنع أن يقال: إنه ليس فوق المحيط، فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض، والسماء فوق الأرض، وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض، بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو، لا يقول أحد: إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها، ولا إن العلو مشروط بها، فإن الطير فوق الأرض، وليست محيطاً بها، والسحاب فوق الأرض وليس محيطاً بها، وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطاً بها، فتبين أن العلو معنى معقول، مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه.(6/336)
وهؤلاء النفاة حائرون: تارة يجعلون الإحاطة مناقضة للعلو، وتارة يجعلونها شرطاً في العلو لازمة له.
ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا، فلا هي مناقضة له، ولا هي منافية له.
ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض، والسحاب فوق الأرض، قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض.
وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم، وإن لم يعلموا أنه محيط به، وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوق.
فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عالياً أن يعلم أنه محيط، ولو كانت الإحاطة شرطاً في العلم، امتنع العلم بالمشروط دون شرطه، ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة، كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا - محال، فإن قدر أن كل عال فهو محيط، كان العلو والإحاطة متلازمين، وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو.
فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عالياً ليس بمحيط فهو عال، وبتقدير أن يكون عالياً محيطاً فهو عال، فثبت علوه على التقديرين، وهو المطلوب.
وإذا كان هذا معقولاً في مخلوقين، ففي الخالق بطريق الأولى.
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال: فإن قيل: المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقاً وسفلاً، فلا يمكن إذا قدر شيء(6/337)
خارجاً عنه أن يقال: هو فوقه إلا كما يقال: هو سفله، وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه، جمع بين الضدين.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن هذا الكلام إن كان صحيحاً لزم بطلان حجتكم، وإن لم يكن صحيحاً لزم بطلانها، فثبت بطلانها على تقدير النقيضين، فيلزم بطلانها في نفس الأمر، لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين.
بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال: إن بعضه عال وبعضه سافل، وإما أن لا يصح، فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم، بل إذا قدر أنه يحيط به، ولو بقبضته له، لزم أن يكون عالياً عليه مطلقاً، ولم يكن سافلاً تحت شيء من العالم، وإن صح أن يكون بعضه عالياً وبعضه سافلاً، أمكن أن يكون مبايناً للعالم من الجهة العالية، فيكون عالياً عليه.
وإن قيل: بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عالياً، وإذا حاذى أرجلنا كان سافلاً، فلا يزال بعضه عالياً، وبعضه سافلاً.
قيل: فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا، وحينئذ فإذا كان مبايناً للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا، لم يزل عالياً علينا دائماً، وهو المطلوب.
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنه محيط بالعالم وفوقه من(6/338)
جميع الجهات، فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك، فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك، كان تحت بعض العالم من بعض الجهات.
ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطاً به أن يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه.
وقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يوافق ذلك، مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» وفي رواية: «أنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان» وروي ما هو أقل من ذلك.
والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علماً، وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل، وأحاط بها بغير ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها(6/339)
الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها، ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار، لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال.
وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات، كإحاطة الإنسان بما في جوفه، وإحاطة البيت بما فيه، وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب، فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط، وأن ذلك نقص، مع كون المحيط يحيط به غيره، فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء، الذي تكون الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به، ويكون ذلك نقصاً ممتنعاً.
وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل، فقال للسائل: إذا كان باشق كبير، وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكاً لها في حال طيرانه، وهو فوقها ومحيط بها، فإذا كان مثل هذا ممكناً في المخلوق، فكيف يتعذر في الخالق.
بقية كلام الرازي في لباب الأربعين
قال الرازي: (واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة) .(6/340)
قال: (والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها) .
الرد على كلام الرازي
والاعتراض على هذا: أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه، والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنها لم يتواطأوا على الكذب، فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة، فلا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري.
وأيضاً فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم، وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه، وإنما يقولون: إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم.
وقد تقدم بيان فساد ذلك، وأن هذه قضية كلية عقلية، لا خبرية معينة، ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة، فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة، وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل(6/341)
ذلك، يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك، ولو جاز الخطأ في مثل ذلك، لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك، فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس، ولطائفة حصل بينها مواطأة، وتلقي بعضها عن بعض، كالمذاهب الموروثة، وكقول التابعين، لكون هذا معلوماً بالضرورة، فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض.
وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم، أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثاً للآخر ولا مبايناً له، وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم، كسائر العلوم الضرورية، فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين.
وأما قوله: (وبقي القسم الثالث، فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها) .
فليس الأمر كذلك، لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها، كسائر المعارف الضرورية، بل نعلم بالضرورة أن ما عارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة، وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل، كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية.
وإذا قال قائل: لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفي المعارض المبطل لها، ونفسي ذلك لا يكون إلا بثبوتها.(6/342)
كان قوله ممنوعاً غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك، فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها، والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك، بل هم يقولون: إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية، لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض، ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئاً، لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له، فكيف يحتاج إلى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض.
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها، وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم، ومنهم من لا يصدق أن عاقلاً يقول ذلك، لظهور هذه القضية عندهم، واستقرارها في أنفسهم، فينسبون من خالفها إلى الجنون، حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم.
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقدوه من المعارض لها.
فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله.
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت محق، لمن ترفع طرفك(6/343)
ورأسك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول: فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم.
كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين
قال الرازي: (واحتج الخصم أيضاً بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهة إنما كان لكون قائماً بالنفس) يعني: وهذا ثابت لكل قائم بنفسه (وإذا كان في جهة كان في جهة فوق، لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب، ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء) قال:
(والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة، فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى) .
الرد عليه
والاعتراض على ذلك أن يقال: إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما(6/344)
يمتاز به جسم عن جسم، كما يقال: اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكاً، واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء، واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء، فهذا باطل لا يقوله عاقل، فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة، والحكم العام المشترك بينها، لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض، فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها، كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات.
وإذا قيل: إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام، كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية، فهذا صحيح، لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يخص به كل حيوان.
وإذا قيل: إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين، كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا، وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد، وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض، فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب، لكنه نظير، مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب، فليس الملك الثابت بالإرث مساوياً للملك الثابت بالبيع من كل وجه، بل له خصائص يمتاز بها عنه، وكذلك حل الدم الثابت بالردة، ليس مساوياً لحل الدم الثابت بالقتل، بل بينهما فروق معينة.
وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه، وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد.
وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك، فيجب أن يضاف إلى قدر(6/345)
مشترك، والعقل يجزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم، بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزاً ذا جهة، فصار هذا من لوازم القدر المشترك، فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات.
وقوله: (لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى) .
إنما تكون حجة لو قيل: العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى، وليس هذا هو المدعي، بل المدعي أن هذا من لوازم القدر المشترك، سواء قيل: إنه معلول له، أو غير لازم غير معلول له.
وحينئذ فلا يحتاج أن نقول: ثبت لصفة أخرى، بل يمكن أن يكون لازماً لنفس الذات، لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة، فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها، بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام.
فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزاً وذا جهة لازم له، لعموم كونه جسماً، لا لخصوص المعينات، بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم.
وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام، فلفظ (الجسم) مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه، فتسمية مثل هذا جسماً مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات العقلية.
وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر(6/346)
المفردة، أو من المادة والصورة.
وحينئذ فالناس هنا طوائف: منهم من يقول لك: هو فوق العرش وليس بجسم، ومنهم من يقول لك: هو فوق العالم وهو جسم، بمعنى أنه يشار إليه، لا بمعنى أنه مركب.
ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركباً، ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات، بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية، فيقولون لك: القدر مشترك بينهما هو القيام بالنفس، فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة، فهذه أمور متلازمة.
ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم: لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز، كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة، سواء سمي عرضاً أو لم يسم، فإثبات المثبت قائماً بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء، كإثباته قائماً بغيره ليس صفة له.
يوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولي الناس، وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار، مع القيام بالنفس، فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها، فكذلك هما من لوازم القيام بالنفس العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها.
وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة، كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة، فهنا المنازعون لك صنفان: منهم من يقول: هو جسم مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، وهؤلاء - وإن كان قولهم باطلاً - فليس لك حجة تبطل بها قولهم، بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم، فإن كل قول يكون أبعد عن الحق(6/347)
تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه.
وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة، كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم، ولما كان مرض التعطيل أعظم، كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم، وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل، بل يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل، فيثبتون أن الله حي، عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، ودود، إلى غير ذلك من الصفات، ويثبتون مع ذلك أنه لا ند له، ولا مثل له، ولا كفو له، ولا سمي له.
ويقول تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ، ففي قوله: {ليس كمثله شيء} رد على أهل التمثيل، وفي قوله: {وهو السميع البصير} رد على أهل التعطيل.
ولهذا قيل: الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً.
والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذين يصفونه بالنقائص، حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد، وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندماً، ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفراً، ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقلية يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة، فكيف بما هو دونها من الباطل، فكيف بالأقوال الصحيحة.(6/348)
وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل، وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات، ويمسونه التركيب، أو على حدوث الجسم الذي مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص، من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره، مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه، وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص، كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب، أو لعلمه معلم، أو لقدرته مقدور، ونحو ذلك.
وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك: الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس، فيكون كل قائم بنفسه مختصاً بالحيز والجهة لذاته المخصوصة، فقد ظهر بطلان ذلك.
وإن قلت: إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة، لم ينازعوك في ذاك، بل يقولون: الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس، فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس، فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة، فقد تبين أن كونه متحيزاً ذا جهة لازم لعموم كونه جسماً، لا لخصوص جسم معين.
وحينئذ فإن قلت: كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس، فهو مستلزم لكونه جسماً.
قالوا لك: ونحن نقول بذلك.(6/349)
وكذلك إذا قلت لهم: كما لا تعقلون قائماً بنفسه إلا مختصاً بجهة وحيز، فلا تعقلون قائماً بنفسه إلا جسماً.
قالوا لك: ونحن نقوم بذلك.
فإذا شرعت معهم في نفي الجسم، كان لهم طريقان: أحدهما: أن يقولوا: هذا قدح في الضروريات بالنظريات: فلا نقبله، كما تقدم.
والثاني: أن يبينوا بطلان أدلة النافية للتجسيم، وأن تعترف ببطلانها.
فأنت في غير موضع من كتبك، ومن تقدمك، كالغزالي وغيره، تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث، وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله، كما فعلت في المباحث المشرقية والمطالب العالية، بل كما فعل من بعدك الآمدي والآرموي وغيرهما، وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب، وكل مركب فهو مفتقر بذاته، وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب، كما فعل ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما.
وهذه الحجة - وهي الاحتجاج بكون الرب قائماً بنفسه على كونه مشاراً إليه، وأنه فوق العالم - لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها، وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني، فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائماً بنفسه بالمعنى المعقول،(6/350)
وقال: لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل، فجعل قيامه بنفسه وصفاً عدمياً لا ثبوتياً، وهذا لازم لسائرهم.
ومعلوم أن كون الشيء قائماً بنفسه أبلغ من كونه قائماً بغيره، فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدمياً، فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع، وإذا كان المخلوق قائماً بنفسه، فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض، فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية.
بل لا يكون قائماً بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي، فيكون المخلوق مختصاً بصفة موجودة كمالية، والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي، فيكون المخلوق متصفاً بصفة كمال وجودية، والخالق مختصاً بالأمر العدمي، والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمراً وجودياً، فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال، فإن لم يكن القيام بالنفس متضمناً لأمر وجودي، بل لا معنى له إلا العدم المحض، لم يكن صفة كمال، وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي، والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال، والعدم المحض لا يفتقر إلى محل، وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال.
وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، فليس هو بجسم.
وحينئذ فقولك: إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة، قد يكون(6/351)
لذاته المخصوصة، إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب، فهذا المعنى ممنوع عنده، فضلاً عن أن يكون علة لهذا الحكم.
وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونهاً مشاراً إليها، فلا يسلم لك أن في الوجود قائماً بنفسه غير مشار إليه.
بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة
قال الرازي: في حجة خصمه: (وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب) .
قال: (والجواب: قوله: جهة فوق أشرف الجهات، خطابي لا يثبت به العقليات) .
قال: (ولأن العالم كرة، فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة، ولأنه إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية، فكل نقطة فوقها نقطة أخرى، فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل، وإن كان له نهاية كان فوق طرفه الأعلى خلاء أعلى منه، فلم يكن علواً مطلقاً، ولأن الشرف الحاصل بسبب الجهة للجهة بالذات، وللحاصل فيها بالعرض، فكان المكان في هذا الباب أشف منه، تعالى الله عن ذلك) .(6/352)
الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق
قلت: ولقائل أن يقول: تقرير العلو بالأدلة العقلية ثبت من طرق:
الطريق الأول: أن يقال: إذا ثبت بالعقل أنه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري، وإن العلو المطلق فوق الكرة، لزم أن يكون في العلو بالضرورة.
وهذه المقدمات عقلية ليس فيها خطابي، وذلك لأن العالم إذا كان مستديراً فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط، وإذا كان مبايناً للعالم، امتنع أن يكون في السفل داخلاً فيه، فوجب أن يكون في العلو مبايناً له.
وقد تقدم أن النافي قال: (إن العالم كرة) واستدل على ذلك بالكسوف القمري إذا كان يتقدم في الناحية الشرقية على الغربية.
والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين، والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين، بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وابن الجوزي، وغيرهم: أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي، من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.
وقال الله تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33] ، وقال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس: 40] .(7/3)
قال ابن عباس وغيره: في فلكة، مثل فلكة المغزل.
وفي حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، «أن أعرابيا قال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه الصحابة، ثم قال: (ويحك أتدري ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك.
إن الله لا يستشفع به أحد من خلقه، إن عرشه على سماواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة، وأنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه» .
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وإذا كان الخصم قد استدل بذلك، كان ذلك حجة عليه، فإذا كان العالم كرياً - وقد ثبت بالضرورة أنه: إما مداخل له، وإما مباين له وليس بمداخل له وجب أن يكون مبايناً له، وإذا كان مبايناً له، وجب أن يكون فوقه، إذ لا فوق غلا المحيط وما كان وراءه.(7/4)
الطريق الثاني: أن يقال: علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك وتصديقاً، من غير أن يتواطأوا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم.
الطريق الثالث: أن يقال: هم عندنا يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله، وهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلوم إليه لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.
وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو، وتوجههم عند دعاءه إلى العلو، والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك، فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار، وذلك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل متضمن للعلم والتصديق والإقرار.
الطريق الرابع: أن يقال: قوله (جهة فوق أشرف الجهات، خطابي) ليس كذلك، وذلك لأنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة وصف(7/5)
بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل الكلام والبكم وصف بالكلام دون البكم، ولما تقابل السمع والبصر والصمم والعمى، وصف بالسمع والبصر دون الصمم والعمى، ولما تقابل الغنى والفقر وصف بالغنى دون الفقر، ولما تقابل الوجود والعدم وصف بالوجود دون العدم، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتاً له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول.
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلوه القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذياً له، ولا سافلاً عنه، ولما كان العلو صفة كمال، كان ذلك كم لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قط غير عال عليه.
كما ثبت في الصحيح الذي في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر(7/6)
فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» .
ولهذا كان مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش.
لا يكون تحت المخلوقات، ولا تكون المخلوقات محيطة به قط، بل هو العلي الأعلى: العلي في دنوه، القريب في علوه.
ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات.
ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه، ويقولون: إنه في جوف السماء، وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه.
وهؤلاء ضلال جهال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول.
فالحلولية والمعطلة متقابلان.(7/7)
الطريق الخامس: أن يقال: إذا كان مبايناً للعالم: فإما أن يقدر محيطاً به، أو لا يقدر محيطاً به، سواء قدر أنه محيط به دائماً، أو محيط به في بعض الأوقات، كما يقبض يوم القيامة ويطوي السماوات، فإن قدر محيط به كان عالياً علو المحيط على المحاط به.
وقد تقدم قولهم: (إن الفلك كري) فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض، فهي فوقها باتفاق العلماء، فما كان محيطاً بالجميع أولى بالعلو والارتفاع، سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلاً لشيء من المخلوقات ولا مجانساً لأفلاك ولا غيرها.
وإن لم يقدر محيطاً به، فإن كان العالم كرياً، وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو، فإذا كان مبايناً له لزم أن يكون عالياً، كيفما كان الأمر.
وإن قدر أن العالم ليس بكري، أو هو كري ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو، مثل أن تقول: إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام، فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى.
فحينئذ إذا كان مبايناً، وقدر أنه غير محيط، فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها.
ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص، لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة، ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض، وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل، فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما، إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع.(7/8)
وأما قول النافي: (ولأن العالم كرة، فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة) .
فيقال له: هذا خطأ، لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز، وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب، إذا كانت في السماء، فلا تكون إلا فوق الأرض، وكذلك السحاب والطير في الهواء.
وأيضاً فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له، وليس فيه نقص، كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد، والخيال الباطل، وكذلك النملة الماشية تحت السقف.
فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها، لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد.
وأيضاً فإنه مع كونه كرياً لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص، ألا ترى أن الأرض مع قولهم، إنها كرية، فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، أشرف من الجهة التي غمرها الماء؟ وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض، لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى، فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى.
ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك، أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية، كما غمرها(7/9)
من تلك الناحية، لأن الماء بالطبع يعلو على التراب، ومع هذا اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه.
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه» .
وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه، حتى قالوا: هذا سببه عناية الرب، مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقص مذاهبهم.
وإذا كان هذا فيما شوهد، فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه؟ .
تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين
وأما قوله: (إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية، فكل نقطة فوقها أخرى، فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سافل، وإن كان له نهاية كان فوق طرف العلو خلاء أعلى منه، فلم يكن علواً مطلقاً) .
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: العلي الأعلى هو الذي ليس فوقه شيء أصلاً.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: «أنت(7/10)
الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» .
وحينئذ فهذا الخلق المذكور: إما أن يكون شيئاً موجوداً، وإما أن يكون شيئاً موجوداً، فإن كان الأول فهو من العالم والله فوقه إذ هو العلي الأعلى، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وإن لم يكن شيئاً موجوداً، فهذا لا يوصف بأنه فوق غيره ولا تحته، ولا يقال: إن تحته شيء ولا فوقه شيء، إذ هو عدم محض، ونفي صرف، فلا يجوز أن يقال: إن فوق الله شيء، والعدم ليس بشيء، لا سيما العدم الممتنع، فإنه ليس بشيء باتفاق العقلاء، ويمتنع أن يكون فوق الله شيء، فهو عدم ممتنع.
الوجه الثاني
أن يقال غاية الكمال في العلو أن لا يكون فوق العالي شيء موجود، والله موصوف.
وما ذكرته من الخلاء إذا قدر أنه لا بد منه، لم يقدح ذلك في علوه الذي يستحقه، كما أنه سبحانه موصوف على كل شيء قدير، والممتنع بنفسه الذي ليس بشيء ولا يدخل في العموم لا يكون عدم دخوله نقص في قدرته الشاملة.
وكذلك هو سبحانه بكل شيء عليم، فيعلم الأشياء على ما هي عليه، فما لم يكن موجوداً لا يعلمه موجوداً، كما قال تعالى {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] ،(7/11)
ولا يكون نفي هذا العلم نقصاً، بل هو من تمام كماله، لأنه يقتضي أن يعلم الأشياء على ما هو عليه، ونظائر هذا كثيرة.
الوجه الثالث
أن يقول له إخوانه الذين يقولون: أنه لا نهاية له في ذاته: قوله: (إن ما لا يتناهى فكل نقطة منها فوقها نقطة، فكل شيء، منه سفل) - لا يقدح في مطلوبنا، فإن مقصودنا أن لا يكون غيره أعلى منه، بل هو عال على كل موجود، ثم بعد ذلك إذا قدرت أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه، لم يقدح هذا في مقصوده ولا في كماله، فإنه لم يعل على شيء منه إلا ما هو لا من غيره.
وأيضاً فإن مثل هذا لا بد منه، والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان.
وأيضاً فإن مثل هذا كمال في العلو، ولا يقدح في العالي، أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن بعضه عالياً عليه.
وأيضاً فإن الناس متنازعون في صفاته: هل بعضها أفضل من بعض، مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؟ وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع؟
والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض، وبعض صفاته أفضل من بعض، مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها، كما دلت(7/12)
على ذلك نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] .
«وكقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه: إن رحمتي تغلب غضبي» وفي لفظ: «سبقت غضبي» .
وقوله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] .
تعدل ثلث القرآن.
وقوله في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها.
فنفى أن يكون لها مثل.
وقوله عن آية الكرسي أنها أعظم آية في القرآن.(7/13)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .
وقوله: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع» ، فأخبر أن الفضل بيده اليمنى، والقسط بيده الأخرى، مع أن كلا يديه يمين.
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» .
فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها، وبعضها أفضل من بعض، لم يمتنع أن هو العالي علواً مطلقاً، وإن كان منه ما هو أعلى من غيره.(7/14)
كلام آخر للرازي في لباب الأربعين
وأما قوله: (إن الشرف الحاصل بسبب الجهة لها بالذات، وللحاصل فيها بالعرض) .
الرد عليه من وجوه
فجوابه من وجوه:
إن هذا إنما يمكن أن يقال إذا كانت الجهة أمراً وجودياً، فأما إذا كانت أمراً عدمياً - والمراد بذلك أنه فوق العالم مباين له ليس معه هناك موجود غيره - لم يكن هناك شيء موجود غيره يستحق العلو، لا جهة ولا غيرها، فضلاً عن أن يستحق غيره العلو والشرف والذات.
وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان، ويعنون بها تارة أمراً معدوماً، وتارة أمراً موجوداً، ولهذا كان أهل الإثبات، من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف، فمنهم من يطلق لفظ (الجهة) ومنهم من لا يطلقه، وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي.
وكذلك لفظ (المكان) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه.
وأما لفظ (المتحيز) فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه، لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً.
وإذا كان كذلك فيقال: قول القائل (إن الله في جهة أو حيز أو مكان) إن أراد به شيئاً موجوداً غير الله، فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته، فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصوراً أو محاطاً بشيء موجود غيره، سواء سمى مكاناً أو جهة أو حيزاً أو غير ذلك، ويمتنع أيضاً أن يكون محتاجاً إلى(7/15)
شيء من مخلوقاته: لا عرش ولا غيره، بل هو بقدرته الحامل للعرش ولحملته، فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها.
إذا قيل: إنه في السماء، كان المعنى إنه في العلو، وهو مع ذلك فوق كل شيء، ليس في جوف السماوات، فإن السماء هو العلو، وكل ما علا فهو سماء.
يقال: سما، يسمو، سمواً، أي علا، يعلو، علواً.
وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو، لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة.
فإذا قيل: فليمدد بسبب إلى السماء، فقد يراد به السقف، وإذا قيل: نزل المطر من السماء، كان نزوله من السحاب، وإذا قيل: العرش في السماء فالمراد به ما فوق الأفلاك.
وإذا قيل: الله في السماء، فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها، أو يراد: أنه فوق السماء وعليها، فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات، أهل العلم والسنة، ومن قال بذلك فهو جاهل، كمن يقول: إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه، أو يقول: إنه يحصره شيء من مخلوقاته، فهؤلاء ضلال، كما أن أهل النفي ضلال.
وإن أراد بمسمي الجهة والحيز والمكان أمراً معدوماً، فالمعدوم ليس شيئاً، فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزاً وجهة ومكاناً، كان المعنى: أن الله وحده هناك، ليس هناك غيره من الموجودات: لا(7/16)
جهة ولا حيز ولا مكان، بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها، سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني
إن يقال: لو عارضكم معارض، وقال: الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة، وهي مفتقرة إليه، وهو مستغن عنها، فإن العرش مثلاً إذا سمي جهة ومكاناً وحيزاً، فالله تعالى هو ربه وخالقه، والعرش مفتقر إلى الله افتقار المخلوق إلى خالقه، والله غني عنه من كل وجه، فليس في كونه فوق العرش، وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز - وإن كان موجوداً - إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى.
وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعاً لله تعالى.
الوجه الثالث
إنه إذ كان عالياً على ما يسمى جهة ومكاناً، كان هو أعلى منه، فأي شرف وعلو كان لذلك الموجود بالذات أو بالعرض، فعلو، فعلو الله أكمل منه.
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ولغيرها بالعرض، إذ الجهة تابعة لغيرها، سواء كانت موجودة أو معدومة، وعلوها تبع لعلو العالي بها، فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض؟ !
وقولنا: (عال بالجهة) مثل قولنا: عال بالعلو، وعالم بالعلم، وقادر بالقدرة، أو عال علو المكانة، أو عال القهر، فليس في ذلك ما(7/17)
يوجب أن تكون المكانة والقهر والعلو والعلم أكمل من القاهر العالم العالي ذي المكانة العالية، ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدماً فلا شرف له أصلاً، وإما أن يقدر موجوداً: إما صفة لله، وإما مخلوقاً لله، وعلى التقديرين فالموصوف أكمل من الصفة، والخالق أكمل من المخلوق، فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى؟ ! .
الوجه الخامس
أن الجهة قد نعني بها نسبة وإضافة، كاليمين واليسار، والأمام والوراء فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار، كان العالي بالجهة معناه: أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة وإضافة أوجبت أن يكون هذا فوق هذا، فهل يقال: إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة.
الوجه السادس
أن يقال: هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف أو منبر أو عرش أو كرسي أو نحو ذلك، فإن ذلك المكان كان عالياً بنفسه، وهذا صار عالياً لما صار فوقه بسبب علو ذلك.
فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات، ولهذا الذي صعد عليه بالعرض.
فكلامهم يتوجه في مثل هذا، وهذا في حق الله وهم وخيال فاسد، وتمثيل لله بخلقه، وتشبيه له بهم من صفات النقص التي يتعالى عنها.(7/18)
وهؤلاء النفاة كثيراً ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة، ويصفون الله بالنقائص والآفات، ويمثلونه بالمخلوقات، بل بالناقصات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب، وأن يكون له في شيء من صفاته كفوا أو سمي، فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد، أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب، أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات، هو بهم أخلق، وهو بهم أعلق، وهم به أحق، فإنك لا تجد أحداً سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال، إلا وقواه يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات، وتجده قد توهم وتخيل أوهاماً وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال، وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجاً إلى العرش، كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجاً إلى كرسيه.
وهذا عين التشبيه الباطل، والقياس الفاسد، ووصف الله بالعجز والفقر إلى الخلق، وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق، أو لا يعلمون أن الله يجب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات؟ وأنه: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله؟ فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات، وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام، التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام.
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه، وهو خالق كل(7/19)
مخلوق، ولم يصر عالياً على الخلق بشيء من المخلوقات، بل هو سبحانه خلق المخلوقات، وهو بنفسه عال عليها، لا يفتقر إلى علوه عليها إلى شيء منها، كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات، وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.
وفي الأثر: أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله، قالوا: ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى، والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها، فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول، فكيف يكون مفتقراً إلى شيء؟ وأيضاً فالمحمول من العباد بشيء عال، لو سقط ذلك العالي سقط هو، والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك.
وأيضاً فهو سبحانه خلق ذلك المكان العالي والجهة العالية والحيز العالي، إذا قدر شيئاً موجوداً، كما لو جعل ذلك اسماً للعرش، وجعل العرش هو المكان العالي، كما في شعر حسان:
تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما(7/20)
فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه، وبقوته صار عالياً، والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه، ومن فعله وقدرته ومشيئته، فإذا كان هو عالياً على ذلك وهو الخالق له، وذلك مفتقر إليه من كل وجه، وهو مستغن عنه من كل وجه، فكيف يكون قد استفاد العلو منه، ويكون ذلك المكان أشرف منه.
وإنما صار له الشرف به، والله مستحق للعلو والشرف بنفسه، لا بسبب سواه، فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة، التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، والعلوم الضرورية، والقصود الضرورية، والعلوم البرهانية القياسية، والكتب الإلهية، والسنن النبوية، وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية؟ .
تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال الرازي في حجة خصمه: (ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء) .
وأجاب عن ذلك بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض.
الرد عليه من وجوه: الوجه الأول
أن يقال: وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل، بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له، لا طلب وقصد ممن هو في السفل، بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء، فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو.(7/21)
والاستدلال هو بقصدهم القائم بقلوبهم، وما يتبعه من حركات أبدانهم، والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو، والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل، بل الساجد أيضاً يقصد في دعائه العلو، فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد.
الوجه الثاني
أن وضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من تواضعوا له من أهل الأرض والسماء، ولهذا يسجد المشركون للأصنام والشمس والقمر سجود عبادة، وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته سجود تحية لا عبادة، لكون ذلك كان جائزاً في شرعهم، وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم، والسجود لا يختص بمن هو في الأرض، بل لا يكاد يفعل لمن هو في بطنها، بل لمن هو على ظهرها عال عليها، وأما توجيه القلوب والأبصار والأيدي عند الدعاء إلى السماء فيفعلونه إذا كان المدعو في العلو، فإذا دعوا الله فعلوا ذلك، وإن قدر منهم من يدعوا الكواكب ويسألها، أو يدعوا الملائكة، فإنه يفعل ذلك.
فعلم أن قصدهم بذلك التوجه إلى جهة المدعو المسؤول، الذي يسألونه ويدعونه، حتى لو قدر أن أحدهم يدعو صنماً أو غيره مما يكون على الأرض لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه، كما يفعل النصارى في كنائسهم، فإنهم يوجهون قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصور المصورة في الحيطان، وإن كان قصدهم صاحب الصورة، وكذلك من قصد الموتى في قبورهم، فإنه يوجه(7/22)
قصده وعينه إلى من في القبر، فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل، وكذلك عابد الصنم إذا كان فوق المكان الذي فيه الصنم، فإنه يوجه قلبه وطرفه إلى أسفل، لكون معبوده هناك.
فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو، فلما كانوا يوجهون ذلك إلى جهة السماء عند الله، علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء.
الوجه الثالث
أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه بقصد العلو، مع أن وجهه يلي الأرض، بل كلما ازداد وجهه ذلاً وتواضعاً، ازداد قلبه قصداً للعلو، كما قال تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» .
فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض.
وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء.
والقلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو، وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها، تارة تكون في حال السجود إلى جهة الأرض، لكون ذلك غاية الخضوع، وتارة تكون حال القيام مطرقة، لكون ذلك أقرب إلى الخشوع، وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب.(7/23)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء، وقال لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم» .
وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة، ففيه نزاع بين العلماء، وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة.
قال تعالى: {فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر * خشعا أبصارهم} [القمر: 6-7] .
وقال: {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم} [المعارج: 43-44] .
وقال: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] .
ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يصلي وهو يلتفت، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
فخشوع القلب يستلزم خشوع البصر وذله، وذلك ينافي رفعه وفي اعتبار هذا في الدعاء نزاع.
ولهذا يوجد من يخاطب المعظم عنده لا يرفع(7/24)
بصره إليه.
ومعلوم أنه كانت الجهات بالنسبة إلى الله سواء لم نؤمر بهذا.
الوجه الرابع
أن السجود من باب العبادة والخضوع للمسجود له، كالركوع والطواف بالبيت.
وأما السؤل والدعاء ففيه قصد المسؤول المدعو، وتوجيه القلب نحوه، لا سيما عند الضرورة، فإن السائل الداعي يقصد بقلبه جهة المدعو المسؤول بحسب ضرورته واحتياجه إليه.
وإذا كان كذلك، كان رفع رأسه وطرفه ويديه إلى جهة، متضمن لقصده إياه في تلك الجهة، بخلاف الساجد فإنه عابد ذليل خاشع، وذلك يقتضي الذل والخضوع، ليس فيه ما يقتضي توجيه الوجه واليد ونحوه، لكن إن كان داعياً وجه قلبه إليه، وهذا حجة من فرق بين رفع البصر في حال الصلاة وحال الدعاء.
الوجه الخامس
أن يقال: قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة، وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر، كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر.
وحينئذ فالاحتجاج بما في فطر العباد من قصد من في العلو، وهذا لا معارض له.
تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو
قال (واحتج الخصم أيضاً بالآيات الواردة الموهمة للجهة، كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقوله: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] ، وقوله: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 61] .(7/25)
قال: (والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما، لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل، لأن العقل أصل النقل، فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما، فتعين تصديق العقل، وتفويض علم النقل إلى الله، أو الاشتغال بتأويل الظاهر) .
الرد عليه
وجواب هذا أن يقال: القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك، كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والعلم بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما، بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك، فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين، قد يقال إنه يحتمل التأويل، ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك، كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك، وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن، أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة(7/26)
والحوض والميزان، وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس، وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة، وسجود السهو، ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ومنع ميراث القاتل، ونحو ذلك مما يتلقاه عامة الأمة بالقبول.
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين، والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس: إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعاً له من حصول العلم بذلك، كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه، مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري.
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأنه صادق، ويقولون: إنه لم يرسل إليهم، بل إلى الأميين، لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة، التي تبين أنه كان يقول: إن الله أرسله إلى أهل الكتاب، بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل، ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية، مع أن هذا من أعظم الأمور تواتراً لإعراضهم.
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي(7/27)
صلى الله عليه وسلم، وفي الغالية من يقول: إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي، وإنما ولدهما سلمان الفارسي، وكثير من الرافضة لا تعلم أن علياً زوج بنته لعمر، ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر.
وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم.
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين، وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة، ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب، ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة.
بل كثير من الناس، بل من المنسوبين إلى العلم، لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم المواترة المشهورة وترتيبها، وما كان فيه قتال أو لم يكن، فلا يعلمون أيما قبل: بدر أو أحد؟ وأيما قبل: الخندق أو خيبر؟ وأيما قبل: فتح مكة أو حصار الطائف؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم: الذكور والإناث، ولا يعلمون كم صام رمضان، وكم حج واعتمر، ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته؟ ولا أي سنة فرض رمضان؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين، وهل كان يفعل ذلك كثيراً أم قليلاً؟ .
إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم(7/28)
بأحواله، وغيرهم، ليس عنده فيها ظن فضلاً عن علم، بل ربما أنكر ما تواتر عنه؟ .
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم، من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعاً، مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعاً، وليس بإجماع، وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات، وهي جهليات، لا سيما مثل الرازي وأمثاله، الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة.
واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة، مثل أبي الحسين البصيري وأمثاله، ومثل أبي حامد، والرازي، وأمثالهما.
فأبو الحسين البصيري، وأمثاله من المعتزلة، يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد يجمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي، فيها الكذب والضعف، وأضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة، حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع(7/29)
الشمس وقبل غروبها فافعلوا» .
ويقولون: هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم، وكان يبغض علياً، فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث.
وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة، أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواتراً، وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة، والطلاق، والفرائض، وسجود السهو، ومناقب عثمان وعلي، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، والمسح على الخفين، والإجماع، وخبر الواحد، والقياس، وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة.
فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع، وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع.
مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة، ومرورهم على الصراط، وهو في الصحيح أيضاً، من حديث أبي سعيد، ومن حديث جابر.(7/30)
وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة.
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه.
وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة.
وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى، فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية.
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة، وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية، هم من أقل الناس علماً بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين، وفي معاني القرآن، وفيما بلغوه من الحديث، حتى أن كثيراً منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب.(7/31)
ومن كان له علم بهذا الباب، علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية، كمسائل العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك.
أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد، والإخوة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، وتيمم الجنب، ومس المحدث للمصحف، وسجود السهو، ومسائل الإيمان، والنذور والفرائض، وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم.
وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع، مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل، وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم.
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول.
ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة، لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة.
فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث(7/32)
وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقاً لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه.
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي، وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا(7/33)
يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما.
وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأمثالهم.
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأمثالهما.
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف.
وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها.
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم.(7/34)
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار.
وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك.
وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال ابن عقيل وأمثاله.
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع، ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الإشكال، مثل أن يكون رؤيا منام، فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم، وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية، فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية، التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه، والحديث وأقوال الصحابة، ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهباً مركباً من هذا وهذا، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض.(7/35)
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأمثالهما.
ولهذا تجد أفضل هؤلاء، كالأشعري، يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازماً، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها.
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم، ومعرفة فساد أقولهم.
وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون، فمعرفتهم بذلك قاصرة، وإلا فمن كان عالماً بالآثار، وما جاء عن الرسول، وعن الصحابة والتابعين، من غير حسن ظن بما يناقض ذلك، لم يدخل مع هؤلاء: إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعاً، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها، كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن(7/36)
سلام ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن حجاج النيسابوري والدارميين: أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن وعثمان بن سعيد وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأبي داود السجستاني وأبي بكر الأثرم وحرب الكرماني ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام، وورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل.
فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كما تواترت الآثار عنهم، وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك.
الوجه الثاني
أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأول، بالتأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية، وهي باطلة كما قد بين في موضعه، بل معلومة الفساد بالضرورة، كما بين بطلان تأويل كل من تأول (استوى) على غير ما يتضمن علوه على العرش، مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك.
الوجه الثالث
أن يقال: لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلاً.
بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية، التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة، وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلداً لغيره، أو ظاناً في نفسه، وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها، لم يجد فيما يعارض السمعيات برهاناً مؤلفاً من مقدمات يقينية تأليفاً صحيحاً، وجمهور من تجده(7/37)
يعارض بها أو يعتمد عليها، إذا بينت له فسادها، وما فيه من الاشتباه والالتباس، قال: هذه قالها فلان وفلان، وكانوا فضلاء، فكيف خفي عليهم مثل هذا؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وإجماع سلف الذين لا يجتمعون على ضلالة.
ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها، إلى تقليد رجال يقولون: إن هذه القضايا عقلية برهانية، وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم، مثلهم وأكثر منهم، وعامة من تجده من طلبة العلم، المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك، إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي، ودليل عقلي، وقياس مستقيم، وذوق صحيح، ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع، أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين، وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم.
قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165-167] .
وقال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني(7/38)
عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29] .
وقال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] .
وقال تعالى: {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} [غافر: 47-48] .
الوجه الرابع
أن يقال: لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما، بل يمكن ذلك، فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، لم يثبته السمع الصحيح، وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح.
وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح، وإنما يظن تعارضهما من غلط مدلولهما أو مدلول أحدهما، كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم، وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة.(7/39)
وكثيراً ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به، فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك، كالأحول الذي يرى الواحد اثنين، والممرور الذي يجد الحلو مراً، وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم، الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمداً ولا خطأً.
والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتاً أو منتفياً في نفس الأمر، لا بحسب إدراك شخص معين، وما كان ثابتاً أو منتفياً في نفس الأمر.
لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك، بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق.
كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] .
فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم، ما يبين لهم أن القرآن حق.
وقال تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} [سبأ: 6] .
فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق، وأما من كان عنده ما يظنه علماً - وهو جهل - فذلك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه، مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه، وكان في قلبه مرض، فزاده الله مرضاً، وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ومن الصم البكم(7/40)
العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى، أو لم يكونوا يعقلون بحال.
وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] .
وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها.
الوجه الخامس
أن يقال: لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه، وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولاً، يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله: (لأن العقل أصل للنقل، فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما) .
قلنا: لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولاً، ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فتلك الأمور، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها، ليست أصلاً للسمع، ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع، فلا يجوز أن يرد شيئاً منه، فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع، وإن قدر أنها عقليات صحيحة، مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها، فإنها مع كونها(7/41)
عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع، فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم.
بل كل من كان عن الشرائع أبعد، كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر، كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى.
وكلامهم في الإلهيات قليل، وعلمهم بها ضعيف، ومسائلها عندهم يسيرة، وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل.
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق، وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية.
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات، فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة، لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات، فضلاً عن أن يعارض به، ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله، للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله.
فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه، كل منهم يقول: إن ذلك معلوم بالعقل.
والقائلون ببقاء بعض الأعراض، مع القائلين بفنائها، والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها، والقائلون(7/42)
بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها، وأضعاف ذلك.
بل العقليات الصحيحة: ما كان معقولاً للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها.
وهذا القدر لا يزال موجوداً في بني آدم، وإن فسد رأي القوم، لم يلزم فساد رأي آخرين.
لكن إذا تنازع الناس، وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة، لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته: إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم، وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر، فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه.
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل: إن كل ما يسمى معقولاً يجوز قبوله، فضلاً عن أن يجب، فضلاً عن أن يعارض به معقول آخر، فضلاً عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله.
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولاً رد لسائرها، فإذا رد مما يسمى معقولاً ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع، وهو المطلوب.
وإذا كان كذلك، فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه، وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه، فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه،(7/43)
ومقدمات ذلك مستلزمه له، لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك، فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التابعين لهم بإحسان، أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه، والصدق ما أخبر به، وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه، يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك، ولو مناظرين به أحداً، ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلاً عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه، وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه، ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله.
ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله، لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو، وأن الله ليس مبايناً للعالم ولا هو فوق السماوات، ولا يمكن الإشارة إليه، ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد، إليه نفسه، ولا نزل من عنده نفسه شيء: لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم، كما حصلت على أنفس غيرهم، ولا سيما مع كثرة الخلق، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم، لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها، فضلاً عن أن يتكلموا بنقيضها، ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع، لكانوا يسألونه ويقولون: ما دلت(7/44)
عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه، فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة، وبين الإخبار بهذه الأمور، بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار، فكيف نصنع؟ هل لها تأويل يوافق ما به علماً أنك صادق؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا، ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه؟ .
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول، وفساد عظيم في القلوب، إذا كان الرجل مأموراً أن يقرأ في الليل والنهار كلاماً، يقرأ به في صلاته وغير صلاته، ويجزم بأنه صدق لا كذب، وأن من كفر بحرف منه فهو كافر، وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام، بل هو باطل وضلال وكفر، فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب، ويمرض قلبه أعظم مرض، ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه، أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله، فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق، فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه، دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره، أبطل شاهد صدقه.
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولاً لهم، غير ما به علموا صدقه، لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله، فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه؟ .(7/45)
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره، مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين، وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام، ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمناً مهاجراً، ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتداً، وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح: (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتبوا: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، وأمثال ذلك.
والمقصود أن كثيراً من الصحابة اشتد عليهم ذلك، وأجلهم عمر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق، وعدونا على باطل؟ قال: بلى.
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.
فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ فقال بلى، أقلت لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به) .
ثم ذهب عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم.(7/46)
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء.
فهذا عمر، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» أخرجاه في الصحيحين.
وقال: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» .
وقال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» رواه الترمذي.
إلى غير ذلك من فضائله، وقد اشتبه عليه معنى نص، وليس ظاهره ينافي الواقع، فإن الله تعالى قال: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27] .(7/47)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبراً مطلقاً، من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا، ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر، فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به.
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر، أن ظاهره يقتضي التعجيل، أورده على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على صديقه، وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل، وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه.
فالغلط منه، لا لنقص في دلالة الخطاب.
وأيضاً ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب.
قالت عائشة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول في كتابه: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8] ، فقلت: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب» .
ومعلوم أن قوله: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8] ، لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش، بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة، ومع هذا فلما قال: من نوقش عذب، فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه، وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت.(7/48)
وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة.
قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] .
فقال: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 72] » .
وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط، ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار، لم يكن قوله لهم: فلان لا يدخل النار منافياً لهذا العبور، ولهذا قال لها: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا} فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به، فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار.
ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار: أنه دخلها ووردها، وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها: إنه لم يدخلها.
فإن قيل: فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه، وقيل فلان: لم يدخله الله إياه، كان كلا الخبرين صدقاً لا منافاة بينهما.
وقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما(7/49)
مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 71-72] ، بيان فيه نعمة الله على المتقين: أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها، والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم.
ولهذا قال تعالى: {ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} [الأنبياء: 76] .
ومعلوم أن نوحاً لم يغرق ثم خلص.
بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره.
كما قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنكبوت: 15] .
وكذلك قوله عن لوط: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74] .
ومعلوم أن لوطاً لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار.
وكذلك قوله: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} [هود: 58] ، وقوله: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ} [هود: 66] .(7/50)
وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم، وكانوا معرضين له، لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك.
فلفظ (النجاة من الشر) يقتضي انعقاد سبب الشر، لا نفس حصوله في المنجى.
فقوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} [مريم: 72] ، لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا، لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه، وهذا هو الورود.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، لا ينافي هذا الورود، فإن مجرد الورود ليس بعذاب، بل هو تعريض للعذاب، وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب، لم ينف التقريب من العذاب، ولا انعقاد سببه، ولا الدخول على سطح مكان العذاب.
ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته، سألته عن ذلك، وذكرت ما يعارض خبره في فهمها، ولم تسكت، وقد كان يفعل الأمر فيسألونه: هل هو بوحي فيجب طاعته؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر، فيقبل منهم ويوافقهم، كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته: أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي(7/51)
والحرب والمكيدة؟ فقال: (بل هو الرأي والحرب والكيدة.
) فقال: ليس هذا بمنزل قتال.
ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب: من قريش وحلفائها، وأهل نجد وجموعهم، وبني قريظة اليهود جيران المدينة، وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة، وفيها أنزل الله سورة الأحزاب، فلما صالحهم على نصف ثمرها.
قال له سعد ما مضمونه: إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا، وإن كان رأياً منك أردت به مصلحتنا، فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرىً أو قرىً، فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا؟ أو كما قال: فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: ( «إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم، فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر، فإذا كنتم ثابتين صابرين، فلا حاجة إلى هذا) » .
وفي الصحيح «أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم، فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك، وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها(7/52)
بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم، ففعل ذلك» .
وكذلك في الصحيح «أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة، فلقيه عمر فرده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا، فترك ذلك) » .
بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته، فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة، فيجيبهم.
(فإن في الصحيح «أنه نهاهم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني) » .
ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة، لو أوردها بعض طلبة الفقهاء، أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه، وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه، وإن كان بعض الناس(7/53)
ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته، ولا أنه إذا صرح ابتداءً بالإيجاب تجب طاعته.
ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده، لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب، فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به.
والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة، وأما فعله فقد يكون مختصاً به باتفاق الأمة.
بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره، على ما هو معروف، فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمراً ونهياً علموا به مراده، لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء، وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل، إذا لم يعلموا مراده بالقول، كما تكلموا في «نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول» ، «مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى» .
فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاماً بل خاص إذا لم يكن حائل، ويوفق بين القول والفعل، ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار، ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض،(7/54)
ويظن بعضهم أن الفعل خاص له، فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم.
وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ، كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله.
فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله: إنك تواصل، كانت معارضته خطأ، باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق، وقال: «إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» .
«بل لما غير عادته يوم الفتح، فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله.
فقال: عمداً فعلته» .
هذا وأمثاله كثير.
هذا من المؤمنين به المحبين له، فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة.
مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] ، فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا: قد عبد المسيح، فآلهتنا خير أم هو؟ .
فأنزل الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} [الزخرف: 57] : إي يضجون.
{وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم(7/55)
خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 58-59] .
وأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101-102] .
وقد ظن طائفة من الناس أن قوله {وما تعبدون} [الأنبياء: 98] ، لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة، فيتناول المسيح وغيره، وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة، مثل (من) و (ما) و (الذي) .
واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
قالوا: لأن اللفظ عام، وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] .
وهذا خطأ، ولو كان قول هؤلاء صحيحاً، لكانت معارضته المشركين صحيحة.
فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص، فأورد على المتكلم، كان إراده مستقيماً.
وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين.
ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردوداً بآرائهم، كما رده المشركون بالمسيح، فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار، كلام صحيح، أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله.(7/56)
فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي باطلة قبل نزول القرآن، وقبل رد الله عليهم، وما نزل من القرآن كان مبيناً لبطلانها، الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل، فإن الله إنما خاطب بقوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] ، المشركين الذين يعبدون الأوثان، لم يخاطب بذلك أهل الكتاب.
بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقاً، وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين، ففي السور المدنية.
والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع، كقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] .
وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] .
وقوله لهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] .
الوجه الخامس
بمنزلة قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156] .(7/57)
وبمنزلة قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا} [فاطر: 42] .
وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب، وهو متناول لأولئك المشركين، لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين.
فلما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} [الأنبياء: 98-99] ، دليل على انتفاء الإلهية، فإن الإله لا يدخل النار، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلهاً، فمن ورد النار لم يكن إلهاً، وليس كل من لا يردها إله.
لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار، أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين، وجب أن يكون كل معبود يدخل النار، والمسيح معبود فيجب أن يدخلها، فعارضوه بالقياس، والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد، فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله، لا يصلح(7/58)
أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان، فإنها حجارة، فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة، وانتقاماً ممن عبدها، كان ذلك مصلحة، ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب.
ولهذا قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا} [الزخرف: 57] ، أي جعلوه مثلاً لآلهتهم فقاسوها به، فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد، وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة، فيقولون: لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستوياً على عرشه، للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستوياً على العرش، ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث، وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه.
فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري، حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله، بل بينهما فرق، والفرق بين الله وبين مخلوقاته، أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان، فإن كلاهما مخلوق لله تعالى.
وأما قياس الخالق بالمخلوق، وقول القائل: لو كان متصفاً بالصفات والأفعال القائمة به، لكان مماثلاً للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد، فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء، فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوماً وهذا كان معدوماً، وهذا محدث ممكن، وهذا محدث ممكن، وهذا مفتقر إلى(7/59)
غيره وهذا مفتقر إلى غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها، لم يصح قياس أحدهما بالآخر، ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له، وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور.
فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم، هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه، لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات، إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء، لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك، وهذا كله خطأ فاحش، وبعضه أفحش من بعض، فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه، فلا يجب اشتراكهما فيه.
فكون المعبود من حصب جهنم، ليس من لوازم كونه معبوداً، بل من لوازم كونه معبوداً يصلح دخوله النار، والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار.
وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول، ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق، ليس من لوازمها(7/60)
الإمكان والحدوث والآفات والنقائص، فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجباً بنفسه، والحدوث من لوازم المعدوم، وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك.
وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات، بل قد تكون منافية للآفات والنقائص، والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه، بل هو مناقض للوازمه، فكيف يجعل المنافي كالملازم؟
والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضاً لقوله، وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض: لا معقولاً ولا منقولاً، فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول، لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده، كان معارضته بذلك أولى الأشياء.
وكذلك أيضاً لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم، وزعموا أن العقل ينافي ذلك.
وأنزل الله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن} [الإسراء: 60] .
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به» .(7/61)
قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1] .
وقال: {أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 12-16] .
وقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم} [التكوير: 22-25] .
فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها، واستبعدوا ذلك بعقولهم، مع أن ذلك ليس ممتنعاً في العقل، فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل.
وكذلك أيضاً أنكروا أن يبعث الله بشراً رسولاً، وجعلوا ذلك منكراً ممتنعاً في عقولهم.
كما قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} [الإسراء: 24] .
وقال: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] .(7/62)
وقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41] .
وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] .
وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] .
وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار، كقول قوم فرعون: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين} [المؤمنون: 47-48] .
وقول قوم نوح: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27] .
وقالت أصناف الأمم لرسلهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} [إبراهيم: 10] .
حتى قالت الرسل: {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} [إبراهيم: 11] .
وأمثال هذا.
فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر، ودفعوا ذلك بعقولهم.(7/63)
وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم، ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل.
ولهذا قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] .
وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] .
وقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} [الأحقاف: 9] .
وأمثال ذلك.
وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم، وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن.
كقوله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} [يس: 78-81] .
وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعاً في قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا(7/64)
شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 1-4] .
ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] .
وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام، فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد، وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح، وكل ذلك ثابت في الصحيح.
قال تعالى: {وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} [الإسراء: 49-52] .
وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل، كقولهم عن رسولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا(7/65)
نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 35-38] .
وقال تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24] .
وأمثال هذا في القرآن كثير.
وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له، كقولهم: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور} [الفرقان: 7-8] .
قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 9] .
وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} [الزخرف: 52-53] .
وقالوا لشعيب: {إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91] .
والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من(7/66)
المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه.
ولم تكن إلا من جهل المعارض، ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول، بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة، فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله، من أسمائه وصفاته ونحو ذلك، ما يخالف ظاهره صريح المعقول، لكان هذا أحق بالمعارضة، وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد: لا معارضة دافع طاعن، ولا معارضة مستشكل مسترشد، فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته، وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين.
أما الكفار فيقولون له: نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أموراً تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به، فالمصدق لك يكون متناقضاً متلاعباً، لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها، وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائماً، بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى، أو يصيب تارة ويخطئ أخرى.
وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون، وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين، وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب، مثل أبي عام الفاسق، الذي كان يقال له أبو عامر الراهب، الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار.(7/67)
وأيضاً فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة، ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة، ويخاطبون بذلك من أسلم، كما قالوا للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرأون في كتابكم: {يا أخت هارون} [مريم: 28] ، وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة، فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى، وهذا من فرط جهلهم، فإن عاقلاً لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة، وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون، ولا هو المسيح ابن أخت موسى، وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه، فكيف بمن هو أعظم الناس عقلاً وعلماً ومعرفة، غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم، حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقاً لخبره، مطيعاً لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له، وظهر به من العلم والبيان، والهدى والإيمان، ما قد ملأ الآفاق، وأشرق به الوجود غاية الإشراق.
فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران، ولا يتكلم بمثل ذلك، ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون، فكان يقال لها: يا أخت موسى، لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران، وذانك(7/68)
موسى وهارون ابنا عمران، فكان لفظ عمران فيه اشترك، والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة، حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟ إن هارون هذا كان رجلاً في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي» .
فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة، كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به، والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفاً لصريح العقل، بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله؟ وهلاً كان أهل الكتاب يقولون له: ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك، فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل، وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء؟
واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه، حصل لهم أمور جليلة:
بطلان قول من يقول: العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله.
بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضاً لأخباره.(7/69)
بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل، سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له.
وذلك من وجوه:
أحدها: أن إيمان المؤمنين به، العالمين بصدقه، حصل بدون هذه القضايا.
الثاني: أن أحداً منهم لم يورد هذه المعارضة، ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء.
الثالث: أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا.
الرابع: أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا.
الخامس: أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا.
السادس: أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها، ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها، ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها، ولا بتفويضها وقولهم: لا نعلم معناها.
السابع: أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك.
الثامن: أن التابعين لم يوردوا على الصحابة، ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض، ولا سئل بعضهم بعضاً: كيف نصنع؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة،(7/70)
وتناول النصوص؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها، ونقول: لا ندري ما معناها؟
فإن قيل: فهذا الذي ذكرته ظاهراً لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت، وكيف ظهر الإسلام، ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب، فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع؟
قيل: المقصود هنا فساد قول من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به، وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة، وأتباعهم من الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام، وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقاً أو الحركات، وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره، بل نفي صفاته، وأن يكون القرآن مخلوقاً، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكون فوق العالم.
فمن قال: إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق، كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا قال الأشعري وغيره: إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء، بل محرمة غير(7/71)
مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيراً من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام.
وأما عقول الكفار فلا ريب، وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيراً من عقولهم، لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع.
ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس، ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان.
يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه، مقرة بالقدر، وكانت عقولهم من هذا الوجه خيراً من عقل من جعل كثيراً من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده، وكانت العرب أيضاً تقر بان الله فاعل مختار، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكانت عقولهم خيراً من عقول الدهرية والفلاسفة، الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له، كما يقول الدهرية والإلهيون.
ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته، فعقله أفسد من عقل هؤلاء.
والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله، ولكن لم يكن هذا القول ظاهراً فيهم، بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته.
وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة(7/72)
الأمم المنكرين للصانع، وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلاً، فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه، وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة، كالذي حاج إبراهيم في ربه.
ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين، والعرب، وإن كانوا مشركين، لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع، وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له، كما في تضاعيف كل أمة، حتى في المصلين من هو من هؤلاء، إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم.
وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية، المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود.
وأما من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث، من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها، كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق: طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها، كما يقول الأشعري نفسه، وكثير من أصحابه، والرازي وأمثاله، وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي، وأبي حاتم البستي، والخطابي، وأبي الحسن التميمي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه(7/73)
يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام.
لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا: إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها.
ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما.
الوجه الخامس
وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام.
وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي، وأبي سليمان الخطابي، والتميميين: كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وأبي بكر البيهقي، وابن الزاغوني، وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية.
ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله، كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض، كالمعتزلة، وأبي المعالي وأتباعه.
فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث، سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك، كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي.
وجمهور المسلمين على(7/74)
أن تصديق الرسول ليس موقوفاً عليها.
وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع، وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين، معلوم بالاضطرار من العادة، وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه، لم يكن علمهم موقوفاً على هذه القضايا.
ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال: أهل العقول الذين سمعوا القرآن، والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة، لم يكن منهم من طعن فيه، أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول، فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتاً في عقول بني آدم، لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر، وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره، ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك: لا على وجه الطعن، ولا على وجه الاستشكال، مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب، والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفياً وإثباتاً.
فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقاً صحيحة تعلم بالعقل، لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها، فإنه مع كمال القدرة(7/75)
والداعي يجب وجود المقدور، فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلاً وديناً.
فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها، وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها، كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية، والرافضة الغالية، وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل.
ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له، بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى، لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده، بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته، فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة، مع كثرة أهلها وفضلهم عقلاً وديناً، لم يعلموها ولم يقولوها.
فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل، بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة، كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم.
ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيباً بالحق وتصديقاً بالباطل، من القرامطة الباطنية، والحلولية والاتحادية وأمثالهم.
ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا، ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب، ففيها داع إلى الإظهار والبيان، فكذلك ها هنا.
كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو(7/76)
حس، لم تتفق على الكذب ولا الخطأ، فكذلك أيضاً العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده، لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه.
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك، فيتكلم بذلك مع من يثق به، وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض.
ولهذا تجد خلقاً من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم، ويتكلمون بذلك مع من يثقون به.
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى، وكذلك بين اليهود.
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر، وهم طوائف متباينة، فما يمكن أحداً أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات، أو بعض الصفات، لا من المؤمنين، ولا من أهل الكتاب، ولا من سائر الكافرين.
ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقراً في صريح المعقول، فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط، وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به، وإذا تكلم به فلا بد مع(7/77)
توفر الهمم والدواعي أن ينقل.
إلا ترى أنه لما تكلم به واحد، وهو الجعد بن درهم، نقل الناس ذلك؟ ثم الجهم بعده كذلك، ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد، فإن هذا لا يمكن نفيه، ولم ينقل أن أحداً من هؤلاء لم يناج به بعض الناس، فإن هذا لا يمكن نفيه، بل قلنا: إنه لم يظهر، وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه: إن كان حقاً يوجب أنه ليس حقاً، فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً أعظم المطالب.
ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له، فإذا كان الحق هو قول النفاة، وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله، وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب، امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق، وإذا تفطن له، مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز، كانوا يظهرونه ويبينونه، وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقاً.
وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره، لو كان حقاً، لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته، ولما فيه من معرفة الحق.
واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا، فإنه يقال في بني إسرائيل، فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيهاً وتجسيماً.
ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله، وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود، فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل، لكان ذلك من أعظم ما كان(7/78)
ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى، فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل، قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون، ودس عليه قارون بغياً لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} [الأحزاب: 69] ، ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل، فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل، لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له.
وقد قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة: 47] .
وقال: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة: 20] .
وقال: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية: 16] .
وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس، وهم أئمة الفلاسفة، والصابئين والمشركين من جميع الأصناف.
وقد ذكروا أن(7/79)
أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان، فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضاً لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه، لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها؟
بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة، خاضعين له، فهل يكون كتاباً مملوءاً مما ظاهره كذب وفرية على الله، ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه، ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته؟
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتاباً في طب وحساب أو نحو أو فقه، أو ينشأ خطبة أو رسالة، أو ينظم قصيدة أو أرجوزة، فيلحن فيه لحنة، أو يغلط في المعنى غلطة، فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل، وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه، ويذم من يخالفه - فضلاً عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن، ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه، وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء: دق ولا جل، ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه، ويعظم مطيعيه، ويعدهم بكل خير، ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم، فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها، وهم الرسل الصادقون، أو أكذب الناس وأبعدهم عنها، كالمتنبئين الكاذبين.(7/80)
ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة، تعاديه النفوس وتحسده، «كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بما جاءه، فقال: (إن قومك سيخرجوك.
قال: أو مخرجيهم؟ قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا) » .
ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا، إذا كان المفهوم من كلامه، والظاهر من خطابه هو كذب على الله، ووصفه بذلك كان قائلاً من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل، بل يكون صاحبه كافراً كذاباً مفترياً على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به، والطعن في ذلك والقدح في نبوته به.
وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل، كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى، وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه.
فإن قيل: أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا.(7/81)
قلنا: نعم، وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين، وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية، والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة، وركبوا منهم قولاً ثالثاً شراً منهما، ونحن لم نقل: إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين، ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد، وعارضوهم بعقولهم، ولم يعارضوهم معارضة صحيحة، بل كان ما عارضوا به فاسداً في العقل.
فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالاً من أولئك المعارضين، فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب، وشر من اليهود والنصارى، فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب، فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق.
ولكن قلنا: إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفاً لصريح العقل، امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به، ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان، وتفرق الأمة، فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد، فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح، وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه، فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل؟
فقلنا: عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقاً - دليل على أنها باطل، كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجوداً - دليل على انه كذب، بخلاف وجود الطعن والمعارضة، فانه ليس دليلاً على صحة ما(7/82)
عارض به وطعن، كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلاً على صحة ما نقل.
فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلاً، وأعظمهم جهلاً، وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان، كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما.
ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كان أكمل عقلاً وسمعاً، وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كما أنقص عقلاً وسمعاً.
ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد، ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد، ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة، لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضاً، وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها، من الأدلة العقلية والسمعية، لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي، ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض، وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية، إذ كانت أدلة الحق شهوداً صادقين، وحكماً لا يثبت عندهم إلا الحق المبين.
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد، لا تناقض ولا تعارض، وإن قدر أن(7/83)
أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحياناً، فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه، وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية، لا يعرف أن أحداً منهم غلط أو كذب، إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه.
وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم، إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم.
والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية، ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية، فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل، بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل.
قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 112-115] .
فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول، بل يوافقها، وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان(7/84)
لمدلول القرآن قول باطل، فلا تعجب من كثرة أدلة الحق، وخفاء ذلك على كثيرين، فإن دلائل الحق كثيرة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول، في مثل هذه الأصول: كادها باريها، واتل قوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الأحقاف: 26] .
ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال: من المعلوم أن موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما، كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلاً باتفاق من آمن بهم ومن كفر، فإن الكافر بهم يقول: كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور، وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد، والأسباب التي تطلب بها المرادات، فسعوا فيما يصدقهم به الناس، ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء.
وأما المؤمن بهم فيقول: إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين، بما لم يشركهم أحد من العالمين.
وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه وسلم بعقل أهل الأرض لرجح.
وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه، يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه(7/85)
ومعصيته، والقدح فيما جاء به ومعارضته، فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضاً لصريح العقل.
وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل، فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده، بما أجمع الناس على فساده، وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل، وأظهروه ولم يبينوه، ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل، فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب، ويرتاب المصدق، ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم، فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب، وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب، وحزبوا عليه الأحزاب، وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه، ومنع الناس من استماعه، ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلاً.
وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة، بل أكمل الناس عقلاً ومعرفة، تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه، لم يكن عنهم مناقضاً لصريح المعقول، ولا منافياً لحق مقبول، بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول.
ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم، وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم، تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب،(7/86)
كقوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} [آل عمران: 181] .
وقوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64-65] ، وقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] .
ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء، المنافي لكمال الرحمة والإحسان، وكمال القدرة والرحمة.
والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال، فإن الفاعل إذا كان عاجزاً لم يفعل، وإذا كان قادراً ولم يرد فعل الخير لم يفعله، فإذا كان قادراً مريداً له فعل الخير، ثم إن كان محتاجاً إلى غيره، كان معاوضاً لا محسناً متفضلاً، وكان فيه نقص من وجه آخر، فإذا كان مع(7/87)
هذا غني عن الغير، لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة، وهذا غاية الكمال.
وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه} [النساء: 171] .
وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17] .
وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} [المائدة: 73-74] .
ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] .
ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول: إن عزير ابن الله، وإنما قالت طائفة منهم، كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن(7/88)
عازورا، أو هو وغيره.
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل، ولكن الخبر عن الجنس.
كما قال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] ، فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به، فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم، فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً، بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت، وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور.
فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته، كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة، وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة.
وموسى لم يواطئ محمداً، ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب.
فدل(7/89)
ذلك على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين.
وقلنا: إن هذا لو كان مخالفاً لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين، اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلاً، من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق، ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب، ويقولان: إن إقرار محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على ذلك، من غير أن يبين كذبهم فيه، دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة، فإن هذا في التوراة كثير جداً، وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم، بما يقدح فيه، وتبين فساد أقواله، ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذباً يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم، والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئاً منها، كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن، فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة، مع علمهم بأنه يقدح في موسى، كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح.(7/90)
وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ، لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته، فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب، ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه، ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه، فضلاً عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه، وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه، مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم، لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به، وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم، وانهتك سترهم.
وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمناً للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك، كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة، وأمثالهم من جهال الطوائف، الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقاً، وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي، فصدقوا ذلك الناقل، لا لثبوت صدقه عندهم، لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه.
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم، وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة: إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه، فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه، وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل، لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور.
فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح.(7/91)
فإن قيل: إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها، أو كان غرضه إضلالهم، كما أن كثيراً من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله، فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده، كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام، وبعض المتفقهة والمتزهدة، مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم، ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق، ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب، وقالوا: نحن كذبنا له ما كذبنا عليه، ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك، وغير ذلك، لظنهم أن موجب ذلك حق، أو لغرض آخر.
وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق، فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور(7/92)
كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء، ليقول: أن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه.
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان، وحديث رؤيته لربه في الطواف، أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع، بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عياناً، فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة، باتفاق أهل المعرفة بأحاديث، لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة، فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال، ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقاً، وأنهم إذا وضعوه قووا الحق، كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة: أبي بكر وعمر وعثمان، لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب، فإنه لا يكاد يحصى، مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل، ومثل ما وضعوه في مثالبهم، لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم، فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله.
والمقصود أن المعترض يقول: يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في(7/93)
التوراة من الصفات على موسى، كانوا يعتقدونها فكذبوها، أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم.
قيل: هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة، ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود، مع معرفتهم واختلافهم، فلا بد إذا كان معلوماً فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله، ويقول: إن مثل هذا يقدح في موسى، فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل.
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك، لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة، ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيراً من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى، ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط(7/94)
المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7] .
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال، واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص.
ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك، فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك، من جنس إنكار النفاة.
فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف، والله منزه عن ذلك، فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم.
ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد، فلو كان هذا وتجسيماً وتجسيداً يجب إنكاره، لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق.
وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص، ومماثلة الخالق لخلقه، هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم، كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم، كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام، فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون، بحرف من ذلك بل كان ما نطق به(7/95)
موافقاً مصدقاً لذلك، وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها.
كما في الصحيحين عن «عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع.
والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرا قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] » .
وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بما يوافق ذلك غيره مرة، كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا المتعال ينجد نفسه.
قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرددها، حتى رجف به المنبر، حتى ظننا انه سيخر به» .
فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال: أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول، فاعلم(7/96)
بطلان قول القائل: إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله، حيث تبين أن ذلك ليس قدحاً في أصله.
وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم، وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة، الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع.
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات.
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة، كالحارث المحاسبي، وأبي علي الثقفي، وأبي بكر بن إسحاق الصبغي، مع أنه قد قيل: إن(7/97)
الحارث رجع عن ذلك، وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك، وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا.
وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه، ومنهم من اشتبه عليه ذلك، كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين، والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة، بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك.
والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة، من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة، بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة، فضلاً عن أن يقال: إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة، وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد، وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد.
وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة، كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع، وقصد بعض(7/98)
الناس إدخال الأشعري فيهم.
وقد ذكر الرسالة أبو قاسم بن عساكر في تبين كذب المفتري.
رسالة البيهقي في فضائل الأشعري
قال البيهقي في أثناء الرسالة: (فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه) .
ثم ذكر من فضائل أبي موسى الأشعريين، وذرية أبي موسى أموراً معروفة، إلى قال: (إلى أن بلغت النوبة إلى أن شيخنا أبي حسن الأشعري، فلم يحدث في دين الله حدثاً، ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة، في أصول الدين، فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول، خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء، فكان في بيانه(7/99)
تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة، ونصرت أقاويل من مضى من الأئمة، كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين، ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز، وغيرها من سائر البلاد، كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث، والليث بن سعد وغيره، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار، وذلك من دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة، وصار رأساً في العلم أهل السنة، في قديم الدهر وحديثه.
إلى أن قال: (وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة، وتركوا ظاهر الكتاب والسنة، وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى، نحوه: الحياة والقدرة والعلم، والمشيئة، والسمع، والبصر، والكلام، وجحدوا ما دل عليه من المعراج وعذاب القبر، والميزان، وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران، وما لنبينا صلى الله عليه وسلم من الحوض والشفاعة، وأن الخلفاء الأربعة(7/100)
كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية، وزعموا أن شيئاً من ذلك لا يستقيم على العقل، ولا يصح في الرأي - أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماماً قام بنصرة دين الله، وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله، وزاد في التبيين لأهل اليقين، أن ما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، مستقيم على العقول الصحيحة والآراء.
ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة.
قال أبو القاسم بن عساكر: (وإنما كان انتشار ما ذكر أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه - في رسالته -من الفتنة، ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري، في دولة السلطان طغرلبك، ووزارة أبي نصر الكندري، وكان السلطان حنيفاً سنياً، وكان وزيره معتزلياً رافضياً، فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، قرن الكندري - للتسلي والتشفي - اسم الأشعرية(7/101)
بأسماء أرباب البدع، وامتحن الأئمة الأفاضل، وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطبة نيسابور، وفوضها إلى بعض الحنيفة، فأم الجمهور، وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عند البلد) .
ثم ذكره زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام.
وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة الصحابة، وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي - وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب - سأل عنه فكان في جوابه: (واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر - يعني الكلام - إلا ما أراد به إيضاح السنن - والتثبيت عليها - ودفع الشبه عنها) .
وقال أبو بكر بن فورك: (انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري(7/102)
من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب) .
وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته.
كلام الأشعري في الإبانة
وقوله: (فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم الني بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي به تقول: وديانتنا التي بها ندين، التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثبوبته - قائلون: ولمن خالف(7/103)
قوله مجانبون، لأن الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وأن له وجه، كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [طه: 27] ، وان له يدين كما قال: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] ، كما قال {لما خلقت(7/104)
بيدي} [ص 75] ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تجري بأعيننا} [القمر: 15] ، إلى أن قال
(ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] ، وكما قال: {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم: 8-9] .
تعليق ابن تيمية
فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابه: يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتب والسنة والإجماع، وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة، لما أظهر من السنة بسبب ما وقع له من المحنة.
فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقاً إلى معرفة صفات الله، وأمثال ذلك من مسائل الأصول؟ فضلاً عمن يدعي تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأئمة، ومن يقول: إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن.(7/105)
ولهذا كان الأشعري وأئمة الصحابة من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم، كما كان ذلك مذهب ابن كلاب، والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي، وأبي بكر الصبغي، وأبي علي الثقفي وأمثالهم.
لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التهجم والاعتزال، كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام، احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال، فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية، ويقدم عقله على النصوص الإلهية، ويخالف سلفه والأئمة الأشعرية، وصار ما مدح به الأشعري وأئمة الصحابة من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية، كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة، وردوا على الكفار بحجج عقلية، لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول، ورد أخباره ونصوصه، لكن احتجوا بحجج عقلية: إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام، فاحتجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها وتسلم عن النقص والفساد، فوقعوا في أنواع من رد المعاني الأخبار الإلهية، وتكذيب الأحاديث النبوية.
وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال، والقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، والعلو لله على خلقه - هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وعنها لومهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام، مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل(7/106)
النقيض، فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه، وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح، أو بموجب النقل الصحيح.
وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة، فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا.
اعتراض يذكر نفاة الصفات
فإن قيل: إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوماً عرباً فصحاء يفهمون ما أريد بها، ولم يكونا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش، ولا ما يشبه ذلك من الأمر المستلزمة للتجسيم، فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات، لم يكن المفهوم منها عندهم معارضاً لشيء من الأدلة العقلية، وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم، صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية.
فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة.
بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول
فيقال: هذا باطل من وجوه متعددة: الوجه الأول
أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات، ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد، ولا أن قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية، فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات: لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه إثبات.(7/107)
ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة، حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان، فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات.
ولكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه، وإنما أراد التخييل، وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية.
وفساد هذا المعلوم من وجوه اكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة.
ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة
الوجه الثاني
أن يقال: التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة، ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنفة في السنة من: كتاب السنة والرد على الجهمية، للأثرم،، ولعبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، وعبد الله بن محمد الجعفي، والحكم بن معبد الخزاعي، وحشيش بن أصرم النسائي، وحرب بن قاسم الكرماني، وأبي بكر الخلال، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسال، وأبي(7/108)
نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي حفص بن شاهين، ومحمد بن إسحاق بن منده، وأبي عبد الله بن بطه، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي ذر الهروي، وأبي محمد الخلال، والبيهقي، وأبي عثمان الصابوني، وأبي نصر السجزي، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التيمي، وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يعلم منه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه.
وهذا يصير دليلاً من وجهين: أحدهما من جهة إجماع السلف، فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على الخطأ، فكيف في الأصول.
الثاني: من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك.
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولاً بالإثبات وإنكاراً لقول النفاة، كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال: إن الله على العرش استوى، خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي.
وقال الأوزاعي كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
الوجه الثالث
أن من له عناية بآثار السلف بعلم علماً أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية، وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد(7/109)
بن درهم، والجهم بن صفوان، وقد قتلهما المسلمون.
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا، حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة.
وقال يوسف بن أسباط وعبد الله ابن المبارك: أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع: الخوارج والشيعة، والمرجئة والقدرية،.
فقيل لابن المبارك: فالجهمية: فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولأصحاب أحمد في الجهمية: هل هم من الثنتين وسبعين فرقة، أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة؟ - قولان.
والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم، ولا يرى، ولا تقوم به صفة ولا فعل.
وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة، ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به، وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته، فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات.
وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال: إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه.
الوجه الرابع
أن يقال: القرآن: إما أن يقال: إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات.
وإما أن يقال: أنه ينفي ذلك، وإما أن يقال: إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات.
فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو(7/110)
الإثبات، وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضاً لذلك.
وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار، فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات، وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] ، ونحو ذلك، وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين، لا تنفي ثبوت الصفات.
ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات، فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات، فهذا من أعظم البهتان، الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل.
ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} ، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} ، وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن، بل هو على نقيض مقصودهم أدل، فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال، لا مماثل له في ذلك، وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة، بعد أن افتروا على العقل، فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة، فيقول أحدهم: لو كان موصوفاً بالعلو لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مماثلاً لسائر الأجسام، والله قد نفى عنه المثل، فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع.
وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة.
منها أن يقال: هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس: أحدها: كون كل(7/111)
عال جسماً.
والثاني: كون الأجسام متماثلة.
والثالث: كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ (الجسم) ولفظ (المثل) .
فيقال: الجسم في لغة العرب هو البدن، وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه، فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسماً في لغة العرب، وهو في اصطلاحكم جسم.
وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم، وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة، ولا الخبز مثل التراب، ولا الدم كالذهب، فما يسمى في لغة العرب (جسداً) و (جسماً) ونحو ذلك، هو مما يعلم أنه ليس متماثلاً بصريح العقل والحس، فكيف بما هو أعم من ذلك، مثل كونه يشار إليه، أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة، فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة، كالعدسة والسمسمة، بل الذرة التي قال الله فيها: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] ، هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة.
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان: هذا طويل، وهذا قصير.
وكذلك أعضاء الإنسان كيده(7/112)
ورجله وعنقه، يقولون: هذا طويل وهذا قصير، ويقولون: هذا عريض، وهذا دقيق ورقيق، لعنقه ويده.
وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها، لا يقولون لفم الإنسان: إنه عميق، ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك، فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة.
فإذا قالوا عن الشيء: إنه طويل عريض عميق، لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة، وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق، بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق، ثم يقولون مع هذا: إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة، فإنه يجب أن يكون مماثلاً مستوياً في الحد والحقيقة، لا يختلف إلا باختلاف أعراضه.
فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم.
ثم بتقدير أن يكون كذلك، فلا يتمارى عاقلان أن لفظ (المثل) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا، وأنه إذا قيل له: إن كذا مثل كذا، أو ليس مثله، وهذا ليس له مثل، فإنه ليس المفهوم من (المثل) كون هذا بحيث يشار إليه، وكون هذا بحيث يشار إليه، أو كون كل منهما له قدر، أو له طول وعرض وعمق، لا بالمعنى اللغوي، ولا بما هو أقرب إليه، فضلاً عن اصطلاحهم.
ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون: الجبل مثل النار، ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر، ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة، مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على(7/113)
مطلق المقدار، بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسماً، بل حيواناً، بل إنساناً.
كما يف قوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] .
وقال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} [الواقعة: 58-61] .
وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم:
ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل
وقال الآخر:
ما إن كمثلهم في الناس واحد
فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله: {ليس كمثله شيء} ، أو قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} على أنه لا صفة له، أو لا يرى في الآخرة، أو ليس فوق العرش - بناءً على تلك المقدمات، وهو أنه لو كان كذلك لكان جسماً، والأجسام متماثلة، والله قد نفى المثل؟
ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون: لو كان متصفاً بذلك لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان منقسماً، والمنقسم ليس بواحد، والله قد أخبر أنه واحد.
مع أنه لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم(7/114)
من الأمم، استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسماً ومنقسماً، كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] .
وقوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] .
وقوله: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} إلى قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره} [32-37] .
وقوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266] .
وقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] .
وقوله: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26] .
وقوله: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] .
وقوله: {ولا تستفت فيهم منهم أحدا} [الكهف: 23] .
وقوله: {قل إني لن يجيرني من الله أحد} [الجن: 22] .
وقوله: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18] .
وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] .(7/115)
وقوله: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] .
إلى قوله: {أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} [يوسف: 41] .
وقوله: {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] .
إلى قوله: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} [القصص: 27] .
وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] .
والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد، وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد، ورأس واحد، وذكر واحد، وأمير واحد، وملك واحد، ومسكن واحد، وسيد واحد، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.
فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسماً منقسماً، لأن ما لا يسمونه هم جسماً منقسماً ليس هو شيئاً يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه، بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه، فلو قدر وجود هذا في الخارج، أو إمكان وجوده، لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ (الواحد) في لغة العرب يعبرون بها عنه، إذ ليس كل ما وجد، أو أمكن وجوده، يجب أن يتصوره أهل اللغة، ويكون داخلاً فيما عبروا عنه من لغتهم.(7/116)
وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ (الواحد) و (الأحد) في لغتهم عن هذا، لم يجز أن يقال: إن لفظ (الواحد) في لغتهم لا يقع إلا عليه، لما ذكرناه أن لفظ (الواحد) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسماً منقسماً، وذلك ليس بواحد عندهم، فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة، وإن قدر وجوده لكان نادراً في اللغة.
والغالب المشهور في اللغة أن اسم (الواحد) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] ، وقوله: {قل هو الله أحد} ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، واخبرنا فيه انه أحد، وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحداً مما ليس معروفاً في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديماً بنفسه، متصفاً بالصفات مبايناً لغيره، مشاراً إليه.
وما لم يكن مشاراً إليه أصلاً، ولا مبايناً لغيره، ولا مداخلاً له، فالعرب لا تسميه واحداً ولا أحداً، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم.(7/117)
يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعاً بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها، وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركاً.
وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركاً، فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلاً عن أن يعلموا أن لفظ (الحركة) موضوع له.
ولفظ (الحركة) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة، فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به.
وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيداً، فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه، وهو أنه لا يشار إليه، ولا يتميز منه شيء عن شيء، ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس، بل قليل منهم، والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج، فمنهم من قال: وجود هذا في الخارج ممتنع، وإن كان كذلك، ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ (الحركة) ، فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس، وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج، وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ (الواحد) و (الأحد) ، لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا.(7/118)
ولو قيل: إنه يجوز استعمال لفظ (الواحد) في لغتهم في هذا المعنى: إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ.
قيل: هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى، وبتقدير أن يكون مستعملاً في هذا وهذا، فإنه يكون دالاً على ما به الاشتراك، فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر، فلا يدل على محل النزاع، ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما: مجاز في الآخر، لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق، وهو المعروف.
ولو قدر أنه مشتركاً اشتراكاً لفظياً لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه، والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم، لا على عين قولهم، فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه، فضلاً عن أن يكون الله موصوفاً به.
وهذا (الواحد) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك، ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول: المعدوم شيء، ومن جنس الكليات والمجردات، كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة، فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج، لكن مثبتة الأحوال اعقل، ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات، فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث قالوا: لا موجودة ولا معدومة، فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة، الذين يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت.
ومن قال: المعدوم شيء، وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا(7/119)
الكليات المجردات أموراً موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت.
والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج، وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس، فضلاً عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها.
ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة، ثم في مدلول الألفاظ المسموعة.
فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع، وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه، لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز.
فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد، كان هنا طرق:
أحدها: أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه.
الثاني: أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج، وحينئذ فلا يكون كلام دالاً على وجود ما ليس بموجود.
الثالث: أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس: لا العرب ولا غيرهم، فلا يكون اللفظ موضوعاً له ودالاً عليه، وإن كان له وجود.
ولا يقال: هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد، لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة.
الطريق الرابع: أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه، فلا ريب أن شموله لما(7/120)
نفوه أظهر، إذ لم يعرف استعماله في ذلك، فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه.
الخامس: أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئاً إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه.
السادس: أنه بتقدير كون أحدهما مجازاً، فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه، لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين.
السابع: أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة، ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما.
الثامن: أن من يستدل به على ما نفوه، لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه، لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة، وأفعالاً متعددة، وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه.
التاسع: أن يقال: أسم (الأحد) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كقوله: {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] ، وقال: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] ، وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد، ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} وأمثاله، لا يعرف استعمال (الأحد) فيما ادعوه، لا في النفي والإثبات، فكيف اسم الواحد؟(7/121)
العاشر: أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 62] ، وقوله: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51] ، وقوله حكاية عن المشركين: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] .
وأمثال ذلك.
وأما كون القديم واحداً، أو الواجب واحداً، فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة، فإنهم قالوا: القديم واحد، وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد، وهذا حق، ويراد به أن مسمى القديم واحد، ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد.
وقالت جهمية الفلاسفة: الواجب واحد، وهو مجمل: يراد به الإله الواجب بذاته، وهذا حق.
ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب.
ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا، وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة، واتفق عليه الأئمة، فتبين أن لفظ (التوحيد) و (الواحد) و (الأحد) في وضعهم واصطلاحهم، غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن.
وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي(7/122)
لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] ، بل لفظ (التوحيد) و (الأحد) و (الواحد) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم، وأنه موصوف بالصفات الثبوتية، كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك، ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية، وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع.
فلو قدر أن لفظ (الواحد) فيه اشتراك وإجمال، لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعاً للإجمال والاشتراك، موافقاً لقول أهل الإثبات دون النفاة.
وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعاً أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول، هم في جانب، والرسل في جانب، كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم، وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم، من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء.
ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق، بل أصدق الكلام كلام الله.
والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه، لا على خلاف ما هي عليه، بخلاف الكلام الذي هو كذب، سواء كان(7/123)
صاحبه يعلم أنه كذب، أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك، كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات، فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج، فيمتنع أن يكون كلام الله مخبراً عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة: كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلاً، فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها، كما يجعلون العالم عين العلم، والقادر عين القدرة.
ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، كما يجعلون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين، بحيث تكون هذه العين هي تلك العين، كما يقولون: الوجود واحد، والموجود الواجب، وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، الذي لا يختص بوجه من الوجوه، أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه، فلا يختص بكونه واجباً أو عالماً أو قادراً أو حياً، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود.
وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه، والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيراً إليه.
ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر، وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو(7/124)
خبر، وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة، هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام، وعين الكلام الذي هو خبر عن الله، هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب، فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن، هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج، ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين.
كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود، الذين قالوا الوجود واحد، وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات، الذين قالوا: الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة.
فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا، مثل جعل الذرات هي الصفات، أو جعل كل صفة هي الأخرى، أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج، وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمراً موجوداً في الخارج يجب وجوده في الخارج، وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج، فلا يكون إلا في الذهن.
ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين: أحدهما: الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام، مع أن(7/125)
جمهور العقلاء ينكرونه، مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى.
الثاني: الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة، مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين، مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان.
وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع، كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه، ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم، ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة، فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة، وإنما هي أمور متصورة في الأذهان، لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان، ثم يدعون تركيب الأنواع منها، كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة.
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر، وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان.
ومن تصور أن هذا حق التصور، تبين لهم من غلط هؤلاء(7/126)
وضلالهم ما يطور وصفه، وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات، وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] .
وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيداً - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق، وتعدد أسمائه وكلامه، مع ذلك لا محذور فيه، بل هو الحق الذي لا يمكن جحده.
ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول، وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضاً أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج، وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلاً وقابلاً، وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان، لا حقيقة له في الخارج.
الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه
وإن قيل: إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات، كان هذا أيضاً باطلاً ومعلوم الباطلان من وجوه:
الوجه الأول
أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري، فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرن من خلق السماوات والأرض، ومن نعيم الجنة والنار.
ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض(7/127)
وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير، وأعظم من دلالته على أن محمد خاتم النبيين، وأنه أفضل الخلق، وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة، وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص.
وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات، أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك.
الوجه الثاني
أن يقال: جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات.
ولهذا كان المخلوقون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره، وإما بالتفويض مع قولهم: ظاهر ذلك غير مراد، فلو كان ظاهرها دالاً على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا، ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة، كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك.
الوجه الثالث
أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالان عما يظنوه مشكلاً من القرآن، كما تقدم تمثيلاً.
وإذا كان كذلك، ولم يسألوا عن ذلك، علم قطعاً أنه لم يكن منافياً لما يعلمونه بعقولهم.(7/128)
الوجه الرابع
أن يقال: فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع، إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل.
وهذا هو كان صلب الكلام، وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل، لنهم يذكرون ذلك فيها.
فيقال: ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب.
الوجه الخامس
أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل، وهي من أجل علوم الدين، ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب.
وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بالنفي ولا إثبات.
الوجه السادس
أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين، وإما أن لا يكون.
فإن قيل: ليس ذلك من الدين، بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها، وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين، فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض، أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم.
ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله، والثناء عليه، وتعظيمه وتقديسه، وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله.
سواء قيل: إن ذلك واجب أو مستحب، فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله، فيكون ذلك من الدين.
وقد قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] .(7/129)
وقال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة: 16] .
وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] .
وقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] .
وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول، ونزل به هذا الكتاب، وعلمته هذه الأمة، وتضمنه هذا الدين، فلا يمكن أن يقال: إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه، فلم يكن لهم به علم، ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات.
الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم
وفيه الرد على كلام الرازي المتقدم: عن أصل الحجة أن يقال: لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص، بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة، كما تقدم التنبيه على فسادها، فضلاً عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع، فإن غاية هذه المعقولات أن يقال: لو كان فوق العالم لكان جسماً وذلك منتف، قد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة، فإن منهم من منع المقدمة الأولى، مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة، وغيرهما من أصحاب كلاب والأشعري، وأهل الفقه والحديث والتصوف، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، والفلاسفة كما ذكر ابن رشد ونحوه.
ومنهم من منع الثانية، كالهشامية والكرامية وغيرهما، ومنهم من فصل عن المعنى الجسم.(7/130)
فإن قيل: إن معناه ما ليس بلازم للعلو، مثل كونه مماثلاً للمخلوقات - منع الأولى.
فإن قيل: إن معناه لزم للعلو، مثل كونه مستشارا إليه - منع الثانية.
فهو يقول: أنه فوق العالم قطعاً، كما علم ذلك بالعقل والسمع.
فإذا قيل: لو كان فوقه لكان جسماً، فالمراد بمعنى الجسم: إما أن يكون لازماً للعلو، وإما أن لا يكون لازماً.
فإذا كان لازماً لا محال، منعت المقدمة الثانية، وهي انتفاء اللازم.
وإن لم يكن لازماً، منعت المقدمة الأولى وهي التلازم.
وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ (المتحيز) و (المركب) ونحو ذلك يستفصل عن معناه، كما يستفصل عن معنى لفظ (الجسم) ، فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول، مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات، أو ما يتميز منه شيء عن شيء، ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك، بل نقول: هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح، كما دل عليه النقل الصحيح.
الوجه السابع
أن يقال: بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له.
والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم، وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات، كما هو طريق السلف والأئمة: يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل.
وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه، كأبي عباس القلانسي، والحارث المحاسبي وأشباههما(7/131)
من أئمة الأشعرية، وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه، وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف، وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله.
ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية، ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم، يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك، وانهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط، ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك من نصوص الوجه واليد.
ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي قال: أنها نافية لهذه الصفة، كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين، ويبين أنه لا محذور في إثباتها، كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد، ونحو ذلك من الصفات الخبرية.
وهؤلاء كلامهم امتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلاً وعقلاً، وإذا قيل: إن في كلامهم تناقضاً، أو أنهم يقولون ما لا يعقل، ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم، فهم بالنسبة إلى النفاة اكمل علماً بالمعقول والمنقول، وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات، فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل وما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم، وتنسب به معارضة النفاة لهم.
ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق: منها: أنهم يقولون: العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم.(7/132)
ومنها: أنهم يقولون: قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضاً ضروري، وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضاً ضروري، فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو، وعلى انهم محتاجون غليه يسألونه عن الضرورات، وعلى انهم يقصدونه في العلو ولا في السفل، وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو، اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته، ويظل عنه ما كان يفتريه.
ومنها أنهم يقولون: إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير موطأة من بعضهم البعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة، ويمتنع أيضاً غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية، فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة، وأن يثق الإنسان بشيء من علومه.
ومتى قدح في مثل هذا، كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير، فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض، فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب، ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض، مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم.
ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية: كقولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مبايناً للآخر، وإما أن يكون مداخلاً له، ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم، فمعهم من العلم الضروري، والقصد الضروري، واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات(7/133)
النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه، وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها، ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملاً، فإنها مخالفة للمعارف الضرورية، ولما أجمعت عليه فطر البرية، مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم، مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها، ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف.
الوجه الثامن
أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص: إذا احتججت على من ينفي، ما تثبته بالنصوص: كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له، أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، إن كنت من المثبتين له، وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع، إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها، فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك.
فإن قلت: ما أثبته معلوم معلوم بالاضطرار من الدين.
قال لك أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين.
فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم.
قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة.(7/134)
فإن قلت: لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري.
قالوا لك: لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا.
فإن قلت: أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه.
قيل لك: وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك، كما تقوله لمنازعك أيضاً، لكن أنت لا توفي بهذا، بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم، بل قد تعاديهم أو تكفرهم، فإن كان ما فعلته سائغاً لك، ساع لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك، كما فعلت هذا بأهل الإثبات، وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته، فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته.
وإن قلت: أنا لا أثق بصدقهم: أنهم يعلمون ذلك اضطراراً، أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري.
قيل لك: ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضاً.
فإن قلت: هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي.
قيل لك: وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم، ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم.
وإن قلت: أنا بين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته.
قيل لك: والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها.(7/135)
وإن قلت: أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء.
قيل لك: والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته.
وأعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق، حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة، فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئاً من السمعيات بوجه من الوجوه، إذ لا يمكن أحداً من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية.
وإذا قال: أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل، لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضاً، وأمكن أن يجاب بجواب آخر، وهو: أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه، فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم، ولو أنه من الأمور العلمية السياسية، فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع: إما في الظاهر، وإما للجمهور، وإما أوائل سلوكهم.
وإن كان ممكن لا يثبت النبوات بوجه، فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء، كالملوك والفلاسفة ونحوهم.
بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه، إذ الإنسان مدني بالطبع، لا يستقل بتحصيل مصالحه، فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح، ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره.(7/136)
وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات، فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير، فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضاً له من عقلياته، فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب، فما كان جواباً له، كان نظير جواباً لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
الجواب التاسع
أن يقال: نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة.
وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلاً وسمعاً، فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها، كما تفعلونه في مسالة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك، إذ أنتم كثيراً ما تثبتون الشيء بدون لوازمه، أو مع وجود منافيه.
ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة، ونحوهم من النفاة، وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر، يظهر قصوره لمن كان خبيراً بالعقليات.
وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم، حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها، فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل، وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم، وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم.(7/137)
ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه، بما به ناظرهم أولئك، ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين، كما تسلط عليهم أولئك، فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم، فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين، كما قاتلهم أولئك الكفار، حتى ظهر الباطل والكفر والضلال، بتفريطهم أولاً في جهاد من يليهم من الكفار، وعداوتهم ثانياً على من يليهم من المسلمين.
وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] ، {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54] ، فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين.
كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج حيث قال: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» .
وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج، فإن الخوارج كانوا(7/138)
يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار، وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار، فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم، معادين للمؤمنين أعزاء عليهم، كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية.
ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبراً، وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} [النساء: 51-52] .
ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان، وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم، بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم، ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم، وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم، كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه، فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته، كما أن هؤلاء يلحقهم أيضاً الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه حرماته.
وقد قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] .
والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات: نحن لا نرضى أن نجيبكم بنا تجيبون به أنتم نفاة الصفات(7/139)
وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نجيبكم وأولئك جميعاً ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليداً لأسلافكم، فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول، كما علم فسادها بصحيح المنقول، وتبين أيضاً أن حجة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على من بلغه ما جاء به، ليس لأحد أن يعارض شيئاً من كلامه برأيه وهواه، بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] .
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة، كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام، ونمنعهم المقدمات التي جعلوا علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام.(7/140)
الوجه الرابع والأربعون
أن يقال: العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فامتنع أن تكون أصلاً له، بل هي أيضاً باطلة.
وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر، من أهل الكلام والفلسفة، فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة:
طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون.
وطريقة التركيب والاستدلال بها أن الموصوف بها ممكن أو محدث.
فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب.
والثالثة: الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه.
قد يقال: إنها طريقة أخرى، وقد تدخل في الأولى.
والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها - على رأي من يقول: إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة - يدخل في الأولى والثانية.
أما دخولها في الأولى فبناءً على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق، كما لا يخلو الجسم - بل الجوهر - من الحركة والسكون.(7/141)
وأما دخولها في الثانية فبناءً على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وحينئذ فيكون: إما ممكناً عند من يستدل بذلك على الإمكان، وإما محدثاً عند من يستدل بذلك على الحدوث.
ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم، وهي الجواهر المنفردة، أو من الجواهر العقلية، وهي المادة والصورة، وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء، بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض، فلا يخالف فيه إلا شذوذ.
ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث، والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكناً أو حادثاً، والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه.
وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء، وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال، ويسلكه أيضاً نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات.
وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات، فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب، بناءً على أن الموصوف مركب، وإذا استدلوا(7/142)
بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن، ويسندون ذلك إلى التركيب، فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم، بل هذا نقيض قولهم.
وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها.
ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات، وأن نفاة الصفات القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك، ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب، كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعداً عن دين المسلمين.
فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل، وبينوا أنها فاسدة في العقل، محرمة في الشرع - كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فساداً في العقل، وتحريماً في الشرع.
وما زال أئمة العلم على ذلك، حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة، فالاستدلال بالحكة والسكون على حدوث المتحرك الساكن، بل الاستدلال بالأعراض مطبقاً على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام، والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات، والاستدلال بتركيب الأجسام من الجواهر، ونحو ذلك، وجعل ذلك طريقاً إلى العلم بحدوث العالم، وإلى العلم(7/143)
بإثبات الصانع تعالى، هو طريق الجهمية والمعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام المذموم - عند السلف المحدث في الإسلام، وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة، والاستدلال بها - والتزام لوازمها، والتفريع عليها، وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين، أو سبقوهم إلى ذلك، سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم.
والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين، وهذه هي من أعظم أصول هؤلاء المتكلمين.
وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه، وتجهيل أصحابه وتضليلهم، حيث سلكوا في الاستدلال طرقاً ليست مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم.
وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام، وما من أحد قد شدا طرفاً من العلم إلا وقد بلغه من(7/144)
ذلك بعضه، لكن كثير من الناس لم يحيطوا علماً بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها، وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة، مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي.
ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه ذم الكلام وأهله، ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله.
كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام
وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك الغزالي في أجل كتبه، الذي سماه إحياء علوم الدين قال: (فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم، أو هو مباح، أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف.
فمن قائل: إنه بدعة وحرام، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب - سوى الشرك - خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه واجب فرض: إما على كفاية، أو على الأعيان، وإنه أجل الأعمال، وأعلى القربات،(7/145)
وإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال على دين الله) .
قال: (وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف، قال ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظر حفصاً الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام، وإني سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه.
وقال أيضاً: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام) .
(وقال أيضاً: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد) .(7/146)
(وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) .
وقال (وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) .
قال: (وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة، وقال: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة، والتفكر في تلك الشبهات، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد، وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب، الذي وافق المعتزلة(7/147)
على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقاً، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق، عال على العالم، موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل، وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن.
وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد، من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة، ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور - كتاب في قصص من هجره أحمد سال فيه لأبي بكر المروذي عن ذلك، فأجابه عن قصصهم واحداً واحداً.
وقد ذكر ذلك أيضاً أبو بكر الخلال في كتاب السنة، وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور، وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث.
ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك، كما ذكره معمر بن زياد في أخبار(7/148)
شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي، أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت، وهذا يناقض قول ابن كلاب.
وأبو حامد ليس له من الخبرة والآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يتميزون بين صحيحه وسقيمه.
ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها.
وأحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية، وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره.
بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء، ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل.
وقد نقل أبو حامد في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض الحنابلة، وهو(7/149)
أن أحمد لم يتأول إلا ثلاث أحاديث، وهذا غلط على أحمد، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطأ نقلاً وتوجيهاً.
ولو اقتصر أبو حامد على ما نقله من كتاب ابن عبد البر عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطأ، فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء، ولكن لعله نقل ذلك من كلام أب طالب أو غيره.
ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى بالبرهان لما ذكر مذهب الناس في القياس العقلي والشرعي،(7/150)
فقال: (القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي، ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب، فذهب بعضهم إلى رد القياسين، وقال القائلون: هذا مذهب منكري النظر.
وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي، وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين، من الفقهاء.
وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي، وجحد القياس الشرعي.
وهذا مذهب النظام وطوائف من الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات.
وصار صائرون إلى النهي عن القياس النظري، والأمر بالقياس الشرعي.(7/151)
وقال (وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه، وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم، ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به) .
كلام الجويني في البرهان
قال: (وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي) .
قال أبو المعالي: أطلق النقلة القياس العقلي، فإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة، مفض إلى العلم مأمور به شرعاً، والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به، وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء، ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد، فهذا باطل عندي لا أصل له، فليس في المعقولات قياس، وقد فهم عنا ذلك طلبة المعقولات.(7/152)
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين، كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي، قال: قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات.
والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن، وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن، فإن مما يجعل في قياس الشمول حداً أوسط يجعل في قياس التمثل مناط الحكم، ويسمى العلة والوصف والمشترك.
فإذا قيل: النبيذ المسكر حرام، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام - فهذا قياس شمول، ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة: كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل: قال: إنه مسكر فكان حراماً، قياساً على عصير العنب المسكر.
ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر، فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل، هو الدال على صحة المقدمة الكبرى، والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم، وهو مناطه، وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم، والسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول، الذي هو محمول في المقدمة الصغرى، موضوع في الكبرى.
وأما ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد، حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان: (هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد) .
وهو كما قال، فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية(7/153)
على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه.
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة، وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة، والكلام في الله ودينه بغيره علم.
واستدل أحمد بقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] .
وأحمد أشهر وأكثر كلاماً في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك.
والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه.
والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك، كان هذا من باب قياس الأولى.
وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك.
وكذلك أحمد سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالماً بجميع المخلوقات، مع كونه بائناً عن العالم فوق(7/154)
العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قد صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يده، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وأحاطته به مع مباينته له.
والقياس الثاني من بنى داراً وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها.
فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالاً في المخلوقات.
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم، والكلام المبتدع في الدين، كقوله في رسالته إلى المتوكل: (لا احب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) .
وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة في هذا، أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - غلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين.(7/155)
ولهذا كره الكلام في (الجسم) وفي (الحيز) ، وفي اللفظ بالقرآن نفياً وإثباتاً، لما في كل من النفي والإثبات من باطل، وكلامه في هذه الأمور مبسوطة في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه.
والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعد ما تبين.
فأما المجادلة الشرعية، كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} [هود: 32] .
وقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] ، وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] .
وقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] .
وأمثال ذلك، فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع.
وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف، في ذم أهل الكلام، لو أنه معروف عنهم، في كتب يعتمد عليها، لم يذكره هنا.(7/156)
وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر، الذي سماه فضل العلم وأهله، وما يلزمهم في تأديته وحمله وأبو عمر من اعلم الناس بالآثار والتميز بين صحيحيها وسقيمها.
كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه
ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضاً عن أحمد أنه قال (علماء الكلام زنادقة) .
قال: (وقال مالك: أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم بدين جديد؟) .
قال: (يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم) .
وقال: (وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع.
فقال بعض أصحابه في تأويله: انه أراد بأهل الأهواء: أهل الكلام على أي مذهب كانوا) .
قلت: هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منداد(7/157)
البصري الإمام المالكي، وقد قال: (إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه، الذين ترد شهادتهم، هم أهل الكلام) .
قال: (فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه.
وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء: أشعري كان أو غير أشعري) هكذا ذكره عنه ابن عبد البر، ومنه نقل ذلك أبو حامد، لكان كنى عن التصريح بذلك.
قال أبو حامد: (وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق) .(7/158)
وقال: (وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التجديدات فيه.
وقالوا: ما سكت عن الصحابة، مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم، إلا لعلمهم بما يتولد منه.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» ، أي المتعمقون في البحث والاستقصاء) .
قال: واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين، لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه، ويثني على أربابه، فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلا حفظ الفرائض(7/159)
وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر، وعلى هذا استر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم، وهم الأستاذون والقدوة، ونحن الأتباع والتلامذة) .
قال: (وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بان المحذور من الكلام: إن كان هو من أجل لفظ (الجوهر) و (العرض) وهذه الاصطلاحات الغريبة لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه، ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسب، والتعدية، والتركيب، وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه، وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح، كإحداث آنية على(7/160)
هيئة جديدة لاستعمالها في مباح.
وإذا كان المحذور هو المعنى، فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم، ووحدانية الخالق تعالى وصفاته، كما جاء به الشرع، فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل؟ وإن كان المحذور هو الشغب، والتعصب، والعداوة، والبغض وما يفضي إليه الكلام، فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه، كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه على الحديث والتفسير والفقه، وهو محرم يجب الاحتراز منه، ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه أليه.
وكيف يكون ذلك الحجة المطالبة، والبحث عن محظوراً، وقد قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم} [النمل: 64] ، وقال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] .(7/161)
وقال تعالى: {إن عندكم من سلطان} [يونس: 68] أي من حجة وبرهان.
وقال تعالى {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] .
وقال تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} إلى قوله {فبهت الذي كفر} [البقرة: 158] ، وذكر إبراهيم مجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه.
وقال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] .
وذكر كلاماً طويلاً ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاماً مبسوطاً في غير هذا الموضع، إلى أن قال: (فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين) .
ثم ذكر تفصيلاً اختاره، مضمونه: أن فيه مضرة من آثار الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث(7/162)
دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل) .
قلت: المضرة التي ذكرها: نوعان: أحدهما: يتعلق بالعلم، وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق، وتفضي إلى الباطل.
والثاني: يتعلق بالقصد، وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل، لئلا يغلب الشيطان.
قال: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا.
فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود) .
قال (ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف(7/163)
وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور، وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام) .
قال: (بل منفعته شيء واحد، وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً، ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة، والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها، إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم، اجتماع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة) .
قال: (وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون(7/164)
كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر، إذ لا يضعه إلا في موضعه، وذلك في وقت الحاجة، وعلى قدر الحاجة) .
قلت فهذا كلام أبي حامد، مع معرفته بالكلام والفلسفة، وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام، ويذكر خلاف من نازعهم، ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد، امتنع أن يكون معارضاً لها، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضاً للكتاب والسنة، وما كان من ذلك مناقضاً للكتاب والسنة، وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين: لا من السلف والأئمة، ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة، وما يقبل من ذلك وما يرد، وما يحمد وما يذم، وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء.
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، فكيف من قابل السنة بالبدعة، وعارض الحق بالباطل، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق.(7/165)
ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه، وما ذكره من أنه هو وطريق الفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها، مع خبرته بذلك.
وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف، وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم، ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة، فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره، وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم، وإثارة التعصب في الإرادة، إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقاً، بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة، بل معلومة.
فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبهاً وعداوة قيل فيه ذلك: والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك، ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله، بل كانوا أعلم الناس بذلك، وأعرفهم بأدلة ذلك، ولا حرموا نظراً صحيحاً في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع، ولا مناظرة في ذلك نافعة: إما لهدى مسترشد، وإما لإعانة مستنجد، وإما لقطع مبطل متلدد، بل هم أكمل الناس نظراً واستدلالاً واعتباراً، وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها، فإن الناظر(7/166)
الطالب للعلم: إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق، وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة، التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم، كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك: إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن، وإما أن ينظر فيما من شأنه أنه يخبر عنه كالأبدان واللغات.
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله، وأصدقه وأدله على الحق، وهو كلام الله تعالى، وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم، فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق.
قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] .
والمناظرة المحمودة نوعان: والمذمومة نوعان، وذلك لأن المناظر: إما أن يكون عالماً بالحق، وإما أن يكون طالباً له، وإما أن لا يكون عالماً به ولا طالباً له.
فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب، وأما الأولان: فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق إذا تبين له، أو يقطعه ويكف عداوته إن كان معانداً غير متبع للحق إذا تبين له، ويوقفه ويسلكه ويبعثه على الناظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق.
وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة: إما أن(7/167)
يكون ممن يفهم الحق ويقبله، فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الرد له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته، وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره، وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها.
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك: إما معرفة الحق، وإما شكاً وتوقفاً في اعتقاد الباطل، أو في اعتقاد صحة الدليل الذي استدل به عليه، وبعث همته على النظر في الحق وطلبه، إن كان له رغبة في ذلك، فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى النفس الحق بقسم المعاندين كما تقدم.
وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق، فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره.
ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض، فإذا أراد علواً في الأرض أو فساداً كان مذموماً على إرادته(7/168)
ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ، فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده، فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله، لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم، فيجره إلى أمور أخرى.
وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء.
وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق، بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة، أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج، أو الجواب عن بعض المعارضات، أو الجمع بين دليلين متعارضين، وأمثال ذلك - فهذا إذا ناظر: طالباً لمعرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضها، والجمع بين الأدلة الصحيحة - كان محموداً، وإن ناظر بلا علم، فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات - كان مذموماً.
والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع - كالخوارج وغيرهم - من القسم الأول، وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير: تارة من القسم الأول، وتارة من(7/169)
القسم الثاني، وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز وجل {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] .
وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا.
وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة: ذم أصحاب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين، وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج.
فقال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} [غافر: 5] .
وقال تعالى: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6] .
وقال: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] .
والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب، فإن أصل ذمهم الكلام المخالف للكتاب والسنة، وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلاً، فمن جادل به جادل بالباطل، وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة، فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكون قولاً ومذهباً لطائفة تذب عنه، وإنما يكون باطلاً مشوباً بحق، كما قال تعالى:(7/170)
{لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [آل عمران: 71] .
أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل، وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح، كالذين قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن ومجنون، قالوا: إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه، والكاهن يخبر أحياناً بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه، والمجنون يقول ويفعل خلاف ما في عقول ذوي العقول.
فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك.
لكن ما ينصبه الله من الأدلة، ويهدي إليه عباده من المعرفة، يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به، ولكن ليس كل من عرف الحق - إما بضرورة أو بنظر - أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه، فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع، وما به يعرفه به غيره نوع، وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به، فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه، وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به.(7/171)
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده، لا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها.
والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات.
وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم بالبعض،، وهذا يقوم بالبعض، كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين.
والكلام الذي ذموه نوعان: أحدهما أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل كذب، فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم: من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم.
وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون(7/172)
الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما - كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه.
وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة.
قال الله تعالى: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} [الشورى: 16] .
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنها إذا كان المناظر(7/173)
معانداً يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزاً عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه، وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة: إما بالتعزير وإما بالقتل، وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر.
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.
وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى.
وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها: محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل.
ومنشأ الباطل من نقص العلم، أو سوء القصد.
كما قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم: 23] .
ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له، والله هو الحق المبين، ومحبته أصل كل عبادة، فلهذا كان أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته، وهذا هو ملة إبراهيم خليل الله تعالى، الذي جعله الناس إماماً، وجعله أمة يأتم به الخلق، وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين.(7/174)
ثم ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه: {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} [البقرة: 258] ، ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب.
والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم، قولهم مأخوذ من قول خصمائه، كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام، فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه، وجحد تكليمه لموسى.
وقوم إبراهيم كانوا مشركين، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، وكان فيهم من هو معطل، كما ذكر الله تعالى ذلك.
والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب: فيهم المشرك، وفيهم المعطل.
ونفي الصفات من أقوالهم، فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود رباً أبدعه، كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم، ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته، ومنهم من يثبت له مبدعاً واجباً بنفسه أبدعه، كما هو قول الدهرية الإلهية منهم، ويقولون: إن الواجب ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، وإما إضافة، وإما مركبة منهما.
وكان الجعد بن درهم من أهل حران، وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة - خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام، فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم، موافقة لفرعون والنمرود، بناءً على أصل هؤلاء(7/175)
النفاة، وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا يقوم به محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه.
والمحبة متضمنة للإرادة، ومسألة الكلام والإرادة ضل فيها طوائف، كما ضلوا في إنكار العلو الذي أنكره فرعون على موسى.
كما قد بسط هذا في موضعه.
ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة: كالجوهر، والجسم، والعرض، فإن الاسم المفرد ليس بكلام، ولا يتكلم به أحد، وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان، والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمناً لأمور فيها افتراء على الله ورسوله: إما إثبات ما نفاة الله، وإما نفي ما أثبته الله، ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر.
والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه، وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته، وبطلان ما يعارضه، وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلاً بحقيقة الحق، وبما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم والإيمان، وبما وصل إليه السلف والأئمة، فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه، وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه، وجهله بالثالث يوجب ظنه أن السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية(7/176)
إلى العلم بالله وصفاته خوفاً من الشبهات والأهواء، بل الأصل في ذم السلف لكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة، والمقدمات الفاسدة، المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه.
فهذا هو الكلام المذموم بالذات، وهو الكلام الكاذب الباطل، وأما الكلام الذي هو حق وصدق، فهذا لا يذم بالذات، وإنما يذم المتكلم به أحياناً، لاشتمال ذلك على مضرة عارضة، مثل ما يحرم القذف، وإن كان القاذف صادقاً إذا لم يكن له أربعة شهداء، ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير.
وأما الكلام في الدين فنوعان: أحدهما أمر، والثاني خبر.
والكلام في أصول الدين هو من النوع الثاني.
ولا ريب أن الله تعالى أخبر بإثبات أمور ونفي أمور، وأصدق الكلام كلام الله، فما ناقض ذلك كان كذباً وقولاً على الله غير الحق.
كما قال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 171] .
وقال تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} [الأعراف: 169] .
وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} [الأعراف: 152] .(7/177)
وقال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] ، وأمثال ذلك.
وعامة الكلام الذي ذمه السلف تشتمل مسائله على كذب وفرية، ودلائل مسائله على كذب وفرية، كأقوال الجهمية النفاة لما أثبته الله تعالى له من الأسماء والصفات، وكلام القدرية النافية لما أثبته الله من قدرته ومشيئته.
ودلائل الجهمية والنفاة: هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض، فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وأن المركب مسبوق بجزئه، ومفتقر إلى مركب يركبه، فيكون محدثاً وممكناً، وما قام بها من الصفات والحركات أعراض، والأعراض - أو بعضها - حادثة، وما كان شخصه حادثاً، وجب أن يكون نوعه حادثاً، فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى، قالوا: بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة، وبذلك عرفنا أن الله موجود، فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله، وذلك باطل شرعاً وعقلاً، ولم يكن ما أقاموه دليلاً صحيحاً، فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم، ولا(7/178)
هم نصروا بميزان مستقيم، ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد، فإن أعداد الملة قد يقيمون شبهة على نقيض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كشبهة الدهرية على قدم السماوات، فيقابلون ذلك بفاسد آخر، كاستدلالهم على حدوث ذلك بدليل الأعراض والصفات.
وحفظ مثل هذا الكلام لاعتقاد العوام، كدفع المظلمة عنهم بعقوبات فيها عدوان، ومن ظن أن الخلف أعلم بالحق وأدلته، أو المناظرة فيه من السلف، فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم، وكلا الظنين طريق من لم يعرف حقيقة الدين، ولا حال السلف السابقين.
وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية، الذي يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل، فهؤلاء فيما يحدثون به من الكذب، ويكذبون به من الصدق في المقولات، بمنزلة أهل الكلام الباطل في البحث والنظر، كالجهمية الذين يكذبون بالحق ويصدقون بالباطل في العقليات.
ولهذا كان غير واحد من السلف يقرن بين الجهمية والرافضة، وهما شر أهل الأهواء، وكان الكلام المذموم عند السلف أعظم من الشهادة بالزور وظلم الحق.(7/179)
وذلك لأن الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم، كان معترفاً بذنبه، معتقداً لتحريم ذلك، فترجى له التوبة، ويكون اعتقاده التحريم، وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يرجى أن يمحوا الله بها سيئاته.
وأما إذا كذب في الدين معتقداً أن كذبه صدق، وافترى على الله ظاناً أن فريته حق، فهذا أعظم ضرراً وفساداً.
ولهذا كان السلف يقولون: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، ونهى عن الخروج على أئمة الظلم، وأمر بالصبر عليهم.
«وكان يجلد رجلاً يشرب الخمر فلعنه رجل، فقال: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» .
«وجاءه ذو الخويصرة التميمي وبين عينيه أثر السجود، فقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل.
فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل.
ثم قال: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته(7/180)
مع قراءتهم.
يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» .
فهذا المبتدع الجاهل لما ظن أن ما فعله الرسول ليس بعدل، كان ظنه كاذباً، وكان في إنكاره ظالماً، وهذا حال كل مبتدع نفى ما أثبته الله تعالى، أو أثبت ما نفاه الله، أو اعتقد حسن ما لم يحسنه الله، أو قبح ما لم يكرهه الله، فاعتقادهم خطأ، وكلامهم كذب، وإرادتهم هوى، فهم أهل شبهات في آرائهم، وأهواء في إرادتهم.
فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء، لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق، يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى، وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه، ولكن قد يورث شبهة وهوى.
وقد اعترف أبو حامد بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفتها.(7/181)
وأما حراسة عقيدة العوام.
فيقال: أولاً: لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه، كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه، قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة، قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقد نقيضه - كان مبتدعاً مبطلاً متكلماً بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن ما وافق فيه خبر الرسول، فهو فيه متبع للسنة، محق يتكلم بالحق.
وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة، ورد بعض ما أخبر به الرسول، كالجهمية والمشبهة، والخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة.
ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل، كما تحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطل بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان هذا مما ذمه السلف والأئمة.(7/182)
وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا، وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه، والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام الباطل، والكلام بغير علم.
والأول كثير.
وأما الثاني فقد قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] .
وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] .
وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36] .
وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاث: قاض في الجنة، وقاضيان في النار.
رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار» .(7/183)
وفي السنن: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار» .
فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقاً، لا سيما ما كان في نفسه كذباً باطلاً، وأما جنس النظر والمناظرة، فهذا لم ينه السلف عنه مطلقاً، بل هذا - إذا كان حقاً - يكون مأموراً به تارة ومنهياً عنه أخرى، كغيره من أنواع الكلام الصدق، فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع، أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء، فلا تفيد علماً ولا ديناً.
ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ وأن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضاً، لا ليكذب بعضه بعضاً.
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنه لذلك.
وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من(7/184)
هذا الباب، كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة، والنافين لذلك، والقائلين: إن الله يجبر العباد، والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه، الذي يتضمن حقاً وباطلاً، في جانبي النفي والإثبات.
والكلام بلفظ (الجسم) و (الجوهر) و (العرض) في مسائل الصفات هو من هذا الباب.
قال: أبو عبد الرحمن السلمي - وقد ذكر شيخ الإسلام في ذم الكلام من طريقة: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد السجزي يقول: سمعت أبي يقول: قلت لأبي العباس بن سريج: ما التوحيد؟ قال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكاره ذلك.
والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة، وأما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر، فهذا مذكور في موضع آخر.
تابع كلام الغزالي في الإحياء
قد قال أبو حامد أيضاً لما ذكر أقسام العلوم: (فإن قلت: لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة، وتبين أنهما محمودان أو(7/185)
مذمومان؟ فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنه فهو: إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع، وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق، وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع، وتمجها الأسماء، وبعضها خوض في ما لا يتعلق بالدين، ولم يكن شيء منها مألوفاً في العصر الأول، فكان الخوض فيه بالكلية من البدع.
كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب: (ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عول(7/186)
سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها، واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك، وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها، وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها، وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك، فبادرت - أيدكم الله - بإجاباتكم إلى ما التمسوه، وذكرت لهم جملاً من الأصول، مقرونة بأطراف من الحجاج، تدلكم على صوابكم في ذلك، وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم، وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم، ومفارقتكم بذلك الأدلة الشرعية، وما أتى به الرسول منها ونبه عليها، وموافقتكم بذلك لطرد الفلاسفة الصادين عنها، والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها: اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي(7/187)
مضى عليه سلفنا وأتباعهم من صالح خلفنا: أن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون، وفرق متباينون: منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه، وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي يمكن أن يكون لله رسول، ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال، وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة، ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة، وصاحب صنع يعكف عليه ويزعم أن له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه، لينبههم جميعاً على حدثهم، ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم، ويبين لهم طرق معرفته، بما فيهم من آثار صنعتهم ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل، بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها، ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ويوضح لهم سائر(7/188)
ما تعبدهم الله به من شريعته، وأنه عليه السلام دعا
جماعتهم إلى ذلك، ونبههم على حدثهم، بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات، وغير ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم، بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره، حيث قال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك.
وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 12-14] .
وهذا مما أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان(7/189)
ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديماً، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديماً ينفي تلك الحال، فإذا حصل متغيراً بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها، دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها، إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها، وذلك أن القديم لا يجوز عدمه، وإذا كان هذا على ما قلنا، وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهياً إلى هيئات محدثة، ولم تكن الأجسام قبلها موجودة، بل كانت معها محادثة، ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق، فيتم من غير مرتب له، ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها، دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها، وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها، وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها، لأن سلالة الطين والماء المهين(7/190)
بنفسه، لا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق، لاحتمالها لغيره، فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام، وما فيه الآلات المعدة لمصالحه: كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه، وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها، على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك، حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنع من غذائه، وتحول بينه وبين مرضعته، فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به، ولا يصل منه إلا غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه، والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك، وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر، وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجاز لطاف، قد هيئات لذلك بمقدار ما يقيمها، والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب،(7/191)
والرئة المهيأة
لإخراج بخار الحرارة التي في القلب، وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد، باجتذاب المناخر، وما فيها من الآلات المعدة كخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة، في مجاز ينفذ ذلك منها، وغير لك مما يطول شرحه، مما لا يصح وقوعه بالاتفاق، ولا يستغني في ما هو عليه عن مقوم له يرتبه، إذا كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر، عند كل عاقل متأمل، كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر ينقسم ذلك فيها، ويقصد إلى ترتيبها.
ثم زادهم الله تعالى في ذلك بياناً بقوله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار(7/192)
لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190] ، فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم، التي لا تخفى مواقع انتفاعهم، بها كالليل الذي جعل لسكونهم، ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم، والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم، على القدر الذي يحتملونه في ذلك.
ولو كان دهرهم كله ليلاً لأضر بهم ما فيه من الظلمة، التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم، وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم، وكذلك لو كان دهرهم كله نهاراً، لأضر بهم ذلك ودعاهم إلى ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك، إلى ما لا يطيقونه، فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم، فجعل لهم من النهار قسطاً لتصرفهم، لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه، وجعل لهم من الليل قسطاً لسكونهم، لا يقتصر عن درك حاجتهم، لتعتدل في ذلك(7/193)
أحوالهم، وتكمل مصالحهم، وجعل لهم من الحر والبرد فيهما، بمقدار ما لهم من ثمارهم ولمواشيهم من الصلاح، رفقاً لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوماً لأبصارهم، ولو كان لونها على اختلاف ذلك من الأولون لأفسدها، ودلهم على حدثها، بما ذكرناه من حركتها، واختلاف هيئاتها، كما ذكرنا أنفاً، ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض، وما فيهما من الحكم، ومع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} [فاطر: 41] .
فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره، وأن وقوفهما(7/194)
لا يجوز ان يكون بغير موقف لهما، ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع، وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار، وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز وجل: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ثم قال عز وجل {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الرعد: 4] .
ثم نبه تعالى خلقه على انه واحد باتساق أفعاله وترتيبها، وأنه تعالى لا شريك له فيها، بقوله عز وجل: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .
ووجه الفساد بذلك: لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام، ولا يتم إحكام، وكان لا بد أن يلحقهما العجز، أو يحلقهما، عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك، وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادراً(7/195)
ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل لآخر، أو لا يكون كل واحد منهما قادراً على ذلك، فإن كان كل واحد منهما قادراً على فعل ما يقدر الأخر بدلاً منه، لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر، وإلا بترك الآخر له، وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له، جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك.
ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له، فهو مذموم عاجز، وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلاً منه، وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا رباً.
ثم نبه المنكرين للإعادة، مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم، حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا: من يحي العظام وهي رميم؟ {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل(7/196)
خلق عليم} ثم أوضح لهم ذلك بقوله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 79-80] ، فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت أحدهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما، على جواز إعادته الحياة في العظام والنخرة والجلود المتمزقة.
ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها، بقوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون} ثم قال: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] .
فبين لهم فساد عبادتها، ووجوب عبادته دونها، بأنها إذا كانت لا تصير أصناماً إلا بنحتكم لها، فأنتم أيضاً لن تكونوا على ما أنتم عليه(7/197)
من الصور والهيئات إلا بفعلي، وإني - مع خلقي لكم وما تنحتونه - خالق لنحتكم، إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه.
ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز وجل: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 191] .
وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] .
ثم احتج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته، وتحدي النصارى - لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه - بالمباهلة، عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من(7/198)
العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} آل عمران: 61] .
وقال لليهود لما بهتوه: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة: 94] ، فلم يجسر أحد منهم على ذلك، مع اجتماعهم على تكذيبه، وتناهيهم في عداوته، واجتهادهم في التنفير عنه، لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم، لأقدموا على إجابته، ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره.
ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه، ونبههم عليه، بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث(7/199)
إليهم لما قالوا: إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو سورة من مثله، وقد خاطبهم فيه بلغتهم، فعجزوا عن ذلك، مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله، ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن، وقطع عليه السلام عذرهم به عذر غيرهم، كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم، وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى، وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم، ولا تطمع فيه خواطرهم، وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء، الذين قد برعوا في معرفة العقاقير، وقوى ما في الحشائش، وقدر ما ينتهي إليه علاجهم، وتبلغه حيلهم، بإحياء الموتى بغير علاج، وإبراء الأكمة والأبرص، وغير ذلك مما(7/200)
بهرهم به، وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم، وما يصلون إليه بحيلهم.
وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله، وقطع به عذرهم، لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم، ونظموه في شعرهم، وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته، حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه، ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره، ولو لم يكن ذلك كذلك، لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم، ولا كانت طاعته لازمة لهم، مع خصامهم وشدة عنادهم، ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك، ودفعوه عما يوجب(7/201)
طاعتهم له، وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه، مع طول تحديه لهم، وكثرة تبكيتهم، وطول مقامه فيهم، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، مع حرصهم عليه.
وإذا كان هذا على ما ذكرناه، علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد، وإقامة الحجة على ذلك، وإيضاحه لطرق إليها.
وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته، بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم، كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير، وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير، وهو ينبع من بين أصابعه، حتى رووا ورويت مواشيهم، وكلام الذئب، وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية، وانشقاق القمر، ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها، وإخباره لهم عليه(7/202)
السلام بما تجنه صدورهم، وما يغيبون به عنه من أخبارهم.
ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل، وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم، بقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [التغابن: 12] ، وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك، وما ضمنه له من عصمته منهم، بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ، فعصمه الله منهم، مع كثرتهم وشدة بأسهم، وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له، حتى بلغ رسالة ربه إليهم، مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه، ومعاداة عشيرته، وقصد الجميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما(7/203)
كانوا عليه من تعظيم أصنامهم، وعبادة النيران، وتعظيم الكواكب، وإنكار الربوبية، وغير ذلك مملا كانوا عليه حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه، ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته، وأنه عليه السلام - لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله، لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم.
وأنه جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عن كافتهم.
ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حديثهم ومعرفة المحدث لهم.
وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى، وما هو عليه من صفات نفسه وصفات(7/204)
فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته، مما لا يصلح أن يؤخر عنهم البيان فيه، لأنه - عليه السلام - لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور، وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم، لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، والزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه، لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته.
ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء ما وقف عليه جماعتهم، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج، بل مضوا جميعاً على ذلك، وهم متفقون: لا يختلفون في حدثهم، ولا(7/205)
في توحيد المحدث لهم، وأسمائه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه، والرضى فيها بأقسامه، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم - عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها، وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به، وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها، ونبههم بالإشارة على ما فيها، فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها، والطرق التي اختلفوا فيها، ولم يقلد بعضهم بعضاً في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك، لما كلفوا من الاجتهاد وأمروا به، فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة(7/206)
بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته - فقد تبين لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، واستغنوا على استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك، مقطوعاً بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك، وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه، وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم، ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم، ومن غير أن تحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها، إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد
بأهدى(7/207)
مما أتى به، أو يصل من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام.
وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول المشهورة في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك، وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحية إليه: من المحدثين والفقهاء، يعلم أكابرهم أصاغرهم، ويدرسون صبيانهم في كتاتيبهم، لتقر ذلك عندهم.
، وشهرته فيهم، واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك، بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته.
واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات - بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم - قد أوجب صحة أخباره، ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل.
وإذا ثبت بالآيات صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم(7/208)
عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه، من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره - عليه السلام - عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره - عليه السلام - على ذلك، أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام، من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها، إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر، في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى، والمعرفة باختلاف أجناسها، وأنه لا يصح انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها، ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما(7/209)
يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك، حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا، الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها، لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفاً.
وفي كل رتبة من ما ذكرنا فوق تخالف فيها، ويطول الكلام معهم عليها، وليست يحتاج - أرشدك الله - في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك، لأن آياته والأدلة على صدق محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر، على النظر في صحة ما يدعوا إليه، وتأمل ما استشهد به على صدقه، والمعرفة بأن آياته من قبل الله تعالى تدرك بيسير الفكر فيها، وأنها لا يصح أن(7/210)
تكون من البشر، بوضوح الطرق إلى ذلك، ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم على النظر في آياته، بخرق عوائدهم له، وحلول من يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له، على ما ذكرنا مما كان من ذلك موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم - أرشدكم الله - أن طرق الاستدلال بإخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دعينا إلى معرفته وما لا يدرك بالحواس - أوضح من الاستدلال بالأعراض، إذ كان أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة، ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها، لبعدهم عن الشبهة، كما ذكرناه، وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه، وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد(7/211)
عليه، لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم، وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه، فأخلدنا سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح، بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، في ما دعاهم إليه من العلم بحذفهم، ووجود المحدث لهم، بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة، وطلب الحق في سائر ما ادعوا إلى معرفته منهم، والعدول عن كل ما خالفها، لثبوت نبوته عليه السلام عندهم، وثقتهم بصدقه في ما أخبرهم به عن ربهم، لما وثقته الأدلة لهم فيه، وكشفته لهم العبرة، وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة - ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع - من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العلم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر، لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم، وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز(7/212)
مجيئهم في العقول وغلط من دفع لك، وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم - لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقتهم، إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم، فلما كان هذا واجباً لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتياط في عدالة الرواة لها - واجباً عندهم،
ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين.
لذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصاً على معرفة الحق من وجهه، وطلباً للأدلة الصحيحة فيه، حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه، وتسكن نفوسهم إلى من يتدينون به، ويفارقوا بذلك من ذمه في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك، ولما كلفهم الله عز وجل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم(7/213)
طريقاً إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة، ومنع من تطرق الشبه عليها، حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة قالها، إلا كشف الله تعالى ستره، وأظهر في الأمة أمره، حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي، ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام.
والمبلغين عنه، كما حفظ كتابه، حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه، أو تسكين حرف متحرك، إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه، مع اختلاف لغاتهم، وتباين أوطانهم، لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه، ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان،(7/214)
لانقطاع الرسل بعده، واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم، حتى قد ظهر ذلك بينهم، وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه، وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه، حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته، ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار، وأكمل الله لجميعهم طرق الدين، وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين.
ودل على ذلك بقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] .
وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين، مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم به الدين، وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى(7/215)
ذلك في حجة الوداع، لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته، عند اقتراب أجله، ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم هل بلغت؟
فلو كنا نحتاج مع ما كان منه - عليه السلام - في معرفة ما دعانا إليه، إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال، لما كان مبلغاً، إذ كنا نحتاج إلى المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها، ولو كان هذا كما قالوا، لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز، ولو كان كذلك لعارضه المنافقون، وسائر المرصدين لعداوته في ذلك، ولم يمنعهم مانع، كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات، ومجادلته في سائر الأوقات، ولكنهم لم يجدوا سبيلاً إلى الطعن، لأنه عليه السلام لم يدع شيئاً مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده،(7/216)
أو مثل فعله كذا، إلا وقد بينه لهم.
ويزيد هذا وضوحاً قوله عليه السلام «إني قد تركتكم على مثل الواضحة: ليلها كنهارها» .
وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ، ولا طعن لمبتدع، إذ كان - عليه السلام - قد أقام الدين، بعد أن أرسى أوتاده، وأحكم أطنابه، ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره، ولا لزائغ طعناً عليه، ثم مضى - صلى الله عليه وسلم - محموداً بعد إقامة الحجة، وتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة، حتى لم يحوج أحداً من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته.
بل قد قال - عليه والسلام - في المقام الذي لم ينكتم قوله(7/217)
فيه، لاستحالة كتمانه على من حضره، أو طي شيء منه على من شهده،: إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي، ولعمر إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل، والبرء من كل داء معضل، وإن في حراستهما من الباطل - على ما تقدم ذكرنا له - آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده) .
قال: (وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به، وقوة ما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم، وبالله التوفيق.
وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة لطرق(7/218)
استدلالهم، وصحة معارفهم، فلنذكر الآن ما اجتمعوا عليه من الأصول.
تعليق ابن تيمية
قلت: الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة، ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث.
والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين.
والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة.
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لبا يحتاج إلى دليل، وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة: إما بإخبار يفيد العلم الضروري، أو غير ذلك من العلوم الضرورية.
وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار، وحدوث(7/219)
النبات من الأرض، وأمثال ذلك.
ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الإنسان وغيره.
كما قال تعالى: {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} [مريم: 67] ، {قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم: 9] .
ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة، والطائر من بيضة، والثمر من شجرة، والشجرة من نواة، والسنبلة من حبة.
ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال، فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء، بل استحال.
وقد تنازع الناس في هذا الموضع، فقال طائفة من أهل الكلام: هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال، كالاجتماع بعد الافتراق، والافتراق بعد الاجتماع، وأت تلك الجوهر باقية، ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها.
وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها، ولكن تغيرت صفاتها.
وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة.
وهؤلاء يقولون: إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات، وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها، فلا نعلمه إلا بالاستدلال.(7/220)
والذي ذكر الأشعري أولاً مبني على هذا الأصل، وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم، وهذا من بقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية، بعد رجوعه عن مذهبهم، وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة.
وجمهور العقلاء من أصناف الناس - أهل النظر والفلسفة وغيرهم - يقولون: إن هذا باطل، وإن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض، كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم، وكما يشهد ذلك، وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها، وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة.
والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية، مع جمهور الفلاسفة.
وقالت طائفة من الفلاسفة وغيرهم: بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة: وهي هيولى مشتركة بينها، هي بعينها باقية لم تتبدل، وإنما تبدلت الصورة، وتلك الهيولى جوهر عقلي.(7/221)
وجمهور العقلاء أيضاً ينكرون ذلك.
وذلك أن المني إذا صار حيواناً والماء هواءً والهواء ماءً، ونحو ذلك، فالجسم الثاني له عين وصفات وليس عين الأول ولا صفاته، وإنما يشتركان في النوع.
وهو: أن هذا له قدر، وهذا له قدر، وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال، ولكن ليس عين القدر هذا هو عين قدر هذا، ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال، وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه، وذلك عرض له، والقابل للاجتماع - الذي هو القائم به هو هو، ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر، وهو كالشمع، التي تختلف صورها وهي هي بعينها، وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها، فنفس العين - التي هي الجوهر والجسم - باقية، وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت، لم تتغير الحقيقة.
ولفظ (الصورة) لفظ مشترك: يراد بالصورة الشكل والهيئة، كصورة الخاتم والشمعة، والمادة الحامية لهذه الصورة هي الجسم بعينه.
ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور، وهذا الجسم المتصور(7/222)
ليس له مادة تحمله، فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعاً في الجسم قائماً بنفسه، لكن خلق من مادة، كما خلق الإنسان من المني، وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها، بل تفنى وتعدم شيئاً فشيئاً.
وهذا هو العدم المشهود في الأعيان، فإن الله تعالى كما ينشئ ما يخلقه شيئاً فشيئاً فينفي ما يعدمه شيئاً فشيئاً.
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.
وإذ كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث لله تعالى.
وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم، فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال: (بإثبات الأعراض أولاً، وإثبات حدوثها ثانياً، وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثاً، وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعاً) ، وقد وافقهم عليها اكثر الأشعرية وغيرهم، وهذه هي التي ذمها الأشعري، وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم، وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم.
وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود، وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين(7/223)
مبتدعة، لا حاجة إليها لطول مقدماتها، وغموضها، وما فيها من النزاع.
وهذا هو الذي قصدناه، وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة.
وأما بطلانها، فذاك مقام آخر، ليس في كلامه تعرض لذلك، ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق.
كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام
قال الشهرستاني في مسألة حدوث العالم: (وللمتكلمين طريقان في المسألة: أحدهما: إثبات حدوثه.
والثاني إبطال القول بالقدم.
أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الأعراض) - كما تقدم ذكره - قال: (وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال فقال: لو قدرنا قدم الجوهر لم يخل من أمور: إما أن تكون مجتمعة، أو مفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معاً، أو بعضها مجتمعاً وبعضها مفترقاً، وبالجملة ليس يخلو من اجتماع وافتراق(7/224)
وجواز طريان الاجتماع والافتراق عليها، أو تبدل بعضها ببعض، وهي بذاتها لا تجتمع ولا تفترق، لأن حكم الذات ل يتبدل، فلا بد إذاً من جامع فارق) .
قال: (وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني هذه الطريقة فكساها عبارة أخرى) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذه الطريقة: إنما أراد بها امتناع قدم جميع الجواهر، فهي مبنية على إثبات الجوهر الفرد، حتى يمكن أن يفرض إمكان اجتماع الجواهر وافتراقها، وإلا فإذا قيل: إن من الأجسام ما هو واحد في نفسه، أو كل جسم متشابه فهو واحد في نفسه، أو قيل: إنه مركب من المادة والصورة - لم يلزم الافتراق فيما هو واحد في نفسه، ولا يسلم المنازع إمكان افتراق كل جسم، فيمنع قوله:(7/225)
(لا يخلو من اجتماع وافتراق، وجواز طريان الاجتماع والافتراق) بل ويمكن مع هذا أن يقال: هي مركبة من الجواهر، ويمنع قبول كل منهما للافتراق، لكن يبنيه على أن الجواهر متماثلة، فما جاز على أحدهما جاز على الآخر.
ولا ريب أن تماثل الجواهر والأجسام: إن سلمه المنازع، كان القول بحدوث الأجسام كلها ظاهراً، فإن منها ما هو حادث قطعاً، فيكون جميعها قابلاً للحدوث، وما قبل الحدوث لم يكن بنفسه موجوداً، فلا بد له من صانع، وهو الذي سماه جامعاً فارقاً.
لكن هم يقولون: إن الحادث المعلوم حدوثه هو الأعراض، وحينئذ فلا يكون في الجواهر ما يعلم حدوثه إلا بالدليل، وإن أراد به امتناع قدم بعض الجواهر، فهذا لا ينازعه فيه من يقول: إن الأعيان المحدثة جواهر، وهم اكثر العقلاء، فإنه من المعلوم بالاضطرار حدوث ما يشهد حدوثه من الحيوان والنبات والمعدن، لكن من يقول بأن الأجسام مركبة من جواهر، قد يقول: إن المحدث تأليف وتركيب، وهي أعراض.
وأما جمهور العقلاء فيقولون: إن المحدث المشهود جواهر قائمة بأنفسها.
فالمقصود أن من قال: الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، فهذه الحجة توجب أنه لا بد لذلك التركيب من مركب.
وكلام الأشعري - الذي ذكره الشهرستاني - مبني على هذه الأصل، ومن نازع في ذلك لم يفده شيئاً.(7/226)
وإذا دلت هذه الحجة فإنما تدل على حدوث التركيب الذي هو عرض، لا تدل على حدوث الجواهر إلا بالطريقة الأولى، وهي إثبات حدوث التركيب، وامتناع حوادث غير متناهية.
وهذه الطريقة تسلكها الكرامية ونحوهم، ممن يقول: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلو من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً.
والسكون عندهم أمر عدمي وهو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة.
وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.
بقية كلام الشهرستاني
قال الشهرستاني: (وربما سلك أبو الحسن طريقاً في حدوث الإنسان بكونه من نطفة أمشاج، وتقلبه في أطوار الخلقة، وأكوار الفطرة، وليس يشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل(7/227)
صفاته: لا الأبوان ولا الطبيعة، فتعين احتياجه إلى صانع مدبر قال: وما ثبت من الأحكام لشخص واحد، أو لجسم واحد، ثبت في الكل لاشتراك الكل في الجسمية) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذه الطريقة هي المتقدمة التي ذكرها الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وهي مبنية على أنه أثبت حدوث الإنسان بما فيه من اختلاف الصور والهيئات، ولهذا قال: إنه سلك طريقاً في إثبات حدوث الإنسان فجعل حدوثه هو المدلول، وجعل الدليل اختلاف الصور عليه.
وقد جعل الصورة الحادثة دليلاً على حدوث المتصور، ولا بد في هذه الطريقة من بيان امتناع حوادث لا أول لها، فهذه الطريقة من جنس طريقة الأعراض، لكنها أخص دليلاً ومدلولاً، فإن الهيئات أخص، ومدلولها إنما هو حدوث ما حدثت هيئته.
ودليل أولئك يعم، ولكن الأشعري عدل عن طريقة غامضة إلى طريقة واضحة، وهذه الطريقة هي التي يسميها الرازي وأمثاله: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض القائمة بالأجسام فإنهم يقولون في(7/228)
الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في (نهاية العقول) وغيره.
كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في (الأربعين) .
وقال في النهاية: (اعلم أن الاستدلال على ما يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة، والمعلوم بالضرورة: الأجسام، والأعراض القائمة بها، وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه، فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة) .
وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها، فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية، ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم.(7/229)
وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة، ومن اتبعهم من القدرية، وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين، لم يسلكها السلف الصالح، وذكر أنها خطرة مبتدعة، وأنه لا حاجة إليها.
قال الرازي: والثاني: (الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى) .
قال: (وهذه عمدة الفلاسفة) .
قلت: هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه، ليست طريقة قدماء الفلاسفة.
وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات، الذين بين الناس فساده وتناقضهم فيه، وهو طريقة التركيب الذي يقولون: إن المتصف بالصفات مركب، والمركب مفتقر إلى أجزائه، قد تكلمنا عليها في مواضع.
قال الرازي: (والمسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة، قديمة أو حادثة) .(7/230)
قلت: وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام، وقد بين الناس فساد هذه الحجة، وبين الرازي نفسه فسادها، بل وجمهور العقلاء على فسادها.
وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقي في القلب شبهة.
قال الرازي: (والمسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع، ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء أنساناً، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضاً حادثة، والعبد غير قادر عليها، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا، ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول في حدوث الصفات) .
قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها، أن الأول يقتضي ان لا يكون الفاعل جسماً.
والثاني لا يقتضي ذلك) .
قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح، لكن(7/231)
الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلاً على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لا بد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً.
وابن سينا وأتباعه يوافقن الناس على ذلك، لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع، كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك، وأنه على هذا التقدير لا ينفي لهم دليل على إثبات واجب الوجود.
الوجه الثاني: إنه جعل ذلك استدلالاً بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم، بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد.
وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد، وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم، أو حدوث غير ذلك من الأعراض، فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض.(7/232)
وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله، فجعلوا الصور كلها جواهر، كما جعل أولئك الصور كلها أعراضاً.
وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات: كالخاتم، والدرهم، والسيف، والسرير، والبيت، والثور، ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه، فوجدوها مركبة من مادة كالفضة، ويسمونها أيضاً الهيولى، والهيولى في لغتهم معناه المحل، وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص، كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة، فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل، ومن صورة وهي الشكل الخاص، وهذا نظر صحيح.
ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك، وأن النار والهواء والتراب لها أيضاً مادة هي هيولاها.
ومنهم من قال: جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها، وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب.
صناعية وطباعية وكلية، وتنازعوا: هل تنفرد المادة الكلية عن الصور، فتكون الهيولى مجردة عن الصور؟ على قولين:
وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطون، وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو.(7/233)
والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام، كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك، وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى، وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل، كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل.
والذين قالوا: إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا، والذين قالوا: إن جميع الصور جواهر أخطأوا، بل الصورة قد تكون عرضاً كالشكل، والصور الصناعية من هذا الباب.
وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان، فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه، ليس قائماً بجوهر آخر.
والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها، مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضاً، والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه، وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن.(7/234)
ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان، كما جعله الرازي وغيره.
لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع، فكان دليلاً صحيحاً في نفسه، وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه، ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان.
الثاني: ما ذكره الأشعري، حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض، بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل، فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة، وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها، ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام.
وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء، بل يبينون فسادها بصريح المعقول، فهي من جنس طريقة المعتزلة.
لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة، الكثيرة المقدمات، الغامضة التي يقع فيه نزاع، فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها، وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك، فكانت هذه أقرب وأيسر، فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة، من جنس بحوثه(7/235)
معهم في غير ذلك من أصولهم، فإنه يبين تناقضهم، ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم، ولكن سلم لهم أصولاً وافقهم عليها، مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها،، ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها، وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد، فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية، وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى، فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم، ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم: أن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول.
ولهذا قال من قال: بقيت عليه بقية من الاعتزال، وقالوا: إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل.
كلام أبي نصر السجزي في الإبانة
وهذا ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال: حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي، وكان فقيهاً صالحاً، عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة، عن أستاذ خلف المعلم، كان من فقهاء المالكيين، قال: أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول) .
قال أبو نصر: (وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره) .(7/236)
تعليق ابن تيمية
قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة، فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة، كمسألة الرؤية والقرآن والصفات.
ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة، مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع، فإن هذا أصل أصولهم، كما قد بينا كلام أبي الحسين البصيري وغيره في ذلك، وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامهم في أصول الدين، هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري، لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه، وجاء كثير من أتباع المتأخرين، كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة - حقها من اللوازم، فوافقوا المعتزلة على موجبها، وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه، فنفوا الصفات الخبرية، ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن، الذي قالت به المعتزلة: إنه مخلوق، نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم.
والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية، وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء، يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل، ومكابرتهم للضروريات.(7/237)
وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال، التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام، مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول، من قول المعتزلة، كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة، لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق، لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر، فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة، والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة، فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك، فإنه كما إن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية، فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية.
ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه، فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب، فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد، ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل الكتاب، وهؤلاء أهل أوثان، فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب، على من كان عنه أبعد، وأيضاً فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع(7/238)
البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد، وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقاً.
مثال ذلك: أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية، وقالت لهم المعتزلة: رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل، أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة، كطائفة من أصحاب أحمد وغير هم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة، بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبإجماع السلف من أهل العصر الأول، ويمكن تقريرها أيضاً بالعقل، كما بيناه في غير هذا الموضع.
فلا يخلو من ذلك: إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة، وإما أن لا يمكن، فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة، وإن لم يمكن كانوا بين أمرين: إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو، وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو، المتضمن معنى المقابلة والمواجهة.
وهذا أولى بأتباع الأشعري، لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره، بل وقول الأشعري أيضاً وغيره من قدماء الأصحاب.
فإن قال له المعتزلي: إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزاً، وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن الأشعري أن يقول له: إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا، وإما أن(7/239)
لا يكون.
فإن كان مكناً انقطع المعتزلي، وإن لم يكن ممكناً قال له: أنا وافقتك على نفي التحيز، لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز هو محدث، لما اتفقنا عليه من التحيز لا بد أن يكون مركباً من الجواهر المنفردة، فيصح عليه الاجتماع والافتراق، ويصح عليه الحركة والسكون، وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث، والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء، وما كان مستلزماً لما له انتهاء كان له ابتداء، فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء، كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع.
فيقول الأشعري: هذا الدليل إن كان صحيحاً، ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضاً صحيح، أمكن أن أقول بموجب ذلك، وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز، وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين، فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة، مع موافقتي للكتاب والسنة، أولى من موافقتك على هذه المقدمة، وهي امتناع وجود ما لا يتناهى، فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان، فللفلاسفة فيها قولان، وللمعتزلة فيها قولان، وللأشعرية فيها قولان، ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان.
وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة، ولكن منهم(7/240)
من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي.
والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها.
ويقول له: وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مبنياً عليها، فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفاً عليها، ولا علمي أيضاً بصدق الرسول موقوفاً عليها، ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها.
وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد عليها فإن تلك الطرق صحيحة عقلية، لا يمكن عاقلاً أن ينازع فيها، فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم الحس، وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل، بل العقل الصريح يعلم العقل افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث، كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث، فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج، كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها، إلى سائر نافي هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه، كما قد بسط في موضعه.(7/241)
وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع، وهو المطلوب.
فصل
ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع، التي أحدثها المعتزلة والجهمية، وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية، وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، قد طعن فيها جمهور العقلاء، فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم، وذموا أهل الكلام بها، كذلك طعن في حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها، وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر.
كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام
فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير.
وقد قال أبو القاسم بن عساكر في كتابه المعروف بـ تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الأشعري: فإن قيل: (غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه(7/242)
متكلم، وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم، ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع، لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع، فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين، وذم أهل الكلام، ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى، فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى، وأنتم تنتسبون إلى مذاهبه، فهلا اقتديتم في ذلك به) .
ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي، حدثني بشر ابن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس.
قال البيهقي، وروي هذا أيضا عن مالك بن أنس، وقال: قال البيهقي: وإنما يريد - والله أعلم - بالكلام(7/243)
كلام أهل البدع، فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد) .
قال ابن عساكر: (وأما قول الشافعي: فأخبرنا فلان - وذكر من كتاب مناقب الشافعي لـ عبد الرحمن بن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى، سمعت الشافعي يقول: لأن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه - سوى الشرك - خير له من الكلام، ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك.
قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: ما تردى أحد بالكلام فأفلح.(7/244)
وقال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع، قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام.
فصاح فقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا عنا) .
وروي أيضا (عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد) .
قال ابن عساكر: (فإنما عنى الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي) .
قال: (وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر، ولذلك حكم بالتبديع، ويدل عليه ما أخبرنا فلان) .
وروى بإسناده (عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت يونس بن عبد الأعلى: يقول: جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد، فقال: غبت عنا يا(7/245)
أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله، خير له من أن يبتلى بالكلام) .
قال: (فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله) .
تعليق ابن تيمية
قلت: حفص الفرد لم يكن من القدرية، وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي، وهو من المثبتين للقدر، لكنه من نفاة الصفات، وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية.
كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية
وقد ذكر الأشعري في (المقالات) فقال: (ذكر الضرارية - أصحاب ضرار بن عمرو -: والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله: إن أعمال العباد مخلوقة، وإن فعلا واحدا لفاعلين، أحدهما خلقه، وهو الله، والآخر اكتسبه، وهو العبد، وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهم فاعلون لها في(7/246)
الحقيقة.
وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، وأنها بعض المستطيع، وأن الإنسان أعراض مجتمعة، وكذلك الجسم أعراض مجتمعة.... وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما ...
وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله، كالألم الحادث عن الضربة، وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة، فعل لله - سبحانه - وللإنسان.
وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر: أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه) .
وقال: (وكان يزعم أن الله يخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين، يرون بها ماهيته - أي ماهو -) .
قال: (وقد تابع على ذلك حفص الفرد وغيره) .
فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة، بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها.
وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة، بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة.(7/247)
وأعدل من قول الأشعري، حيث جعل العبد فاعلا حقيقة، وأثبت استطاعتين، ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث، كما هو مذكور في موضعه.
عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن عساكر: (فأما الموافق للكتاب والسنة، الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء) .
وروي عن ابن خزيمة: (سمعت الربيع يقول: لم كلم الشافعي حفصاً الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم) .
وعن الربيع: (قال: حضرت الشافعي - أو حدثني أبو شعيب - ألا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد، وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم، فقال: ما تقول(7/248)
في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، فكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي واحتج عليه، فطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصاً الفرد.
قال الربيع: فلقيت حفصاً في المسجد بعد، فقال: أراد الشافعي قتلى) .
وروي عن الشافعي: (قال: ماناظرت أحداً أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس) .
(قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصاً الفرد وأمثاله من أهل البدع، وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده) .(7/249)
(وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال: دخل حفص الفرد على الشافعي، فقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن) .
قلت: حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر، فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل.
وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم، فإن القرآن كلام، والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال، لا يقوم إلا بجسم، والجسم محدث، فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا، لم تكن مناظرته له في القدر، ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا، فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟.
وأهل المقالات متفقون على أن حفصاً لم يكن من نفاة القدر بل من(7/250)
مثبته.
وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال: (وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء، واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» - الحديث، أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه، وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله، ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى، وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل(7/251)
الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا: نترك القول بالأخبار أصلاً، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم، وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول، وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم.
أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم، كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه، لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما في ترك أنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، وكانوا لا يتسمون بتسميتهم) .
قال: (وإنما يعني - والله أعلم - بقوله: من ارتدى بالكلام لم يفلح، كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم(7/252)
عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها) .
قال: (فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالاً لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل) .
إلى أن قال البيهقي: (وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة، فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم) .
قال: (وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس استاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء) .
وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان، عن ابن وهب: (قال:(7/253)
قال مالك: كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام قليل الفتيا، شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه
قال: وكان بصيرا بالكلام، وكان يرد على أهل الأهواء، وكان من علم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء.
وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا بكر بن عبد الله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضيل البجلي يقول: دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه، فأجاب إلى ما سأله، وكان أول ما قال لي علي تكتب عن المرتدين؟ فقلت: معاذ الله، ما أنت بمرتد.
وقد قال الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن، ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها، فقال: أشدها(7/254)
علينا: أن قال لنا: ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: من عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال: عيسى بن مريم.
قلنا: رسول الله، قال: وكلمته؟ قلنا: نعم.
قال: فما تقولون فيمن قال: ليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين.
قال: فقال لنا: أليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: بلى.
قال: أفمخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: مخلوق.
قال فمن زعم أنه غير مخلوق؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين.
قال: فما تقولون في القرآن؟ قلنا: كلام الله عز وجل.
قال: مخلوق أو غير مخلوق؟ قلنا: غير مخلوق.
قال: فمن زعم أنه مخلوق؟ قلنا: كافر.
قال فمن زعم؟ أن عيسى غير مخلوق.
وهو كلمة الله؟ قلنا: كافر قال: يا سبحان الله: عيسى كلمة الله، ومن نفى الخلق عنه كافر! والقرآن كلمة الله، ومن يثبت الخلق عليه كافر! قال الحسين: فأعلمته ما يجب من القول، وقلت له: قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم: إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون.
فتعلموا ذلك مني، فتحملكم الرياسة على ترك ذلك.
ويقول لكم: يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم، فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة، وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة،(7/255)
فتأبون ذلك.
والحجة في هذا الباب كيت وكيت.
فقال: والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون، وأن ثلث روايتي ساقطة عني.
ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه، فقال له: وأنا أقول كما تقول.
فقال لي زهير: فعلم ابني فإنه حدث.
فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك، ثم انصرفت.
قال الحاكم: الحسين بن الفضل البجلي، صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام.
هـ) .
قلت: هذه الحكاية وقع فيها تغيير، أن كان أصلها صحيحاً، فإن زهير بن حرب ويحيى بن معين ونحوهما، ممن امتحن في زمن المحنة، لم يجتمعوا بالمأمون، ولا ناظرهم، بل ذهب إلى الثغر بطرسوس، وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن أبراهيم ين مصعب أن يمتحن الناس، فامتنعوا من الإجابة، فكتب إليه كتاباً ثانياً يغلظ فيه، ويأمر بقتل القاضيين: بشر بن الوليد، وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا، ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء، فامتنع من الإجابة سبعة، منهم:(7/256)
زهير بن حرب، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح لم يجيبا، فحملا إليه مقيدين، فمات محمد بن نوح في الطريق، ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه.
وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك، لم يختلفوا في ذلك، فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب، فلعل ذلك كان من غير المأمون، ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم، فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة، وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل، وكان ذلك في خلافة المعتصم، بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين، وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها: من الجهمية والمعتزلة والنجارية: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث، صاحب حسين النجار، وناظرهم ثلاثة أيام، وقطعهم في تلك المناظرات، كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع.
وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب، ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية، وهو في الحبس، قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة، كـ أحمد بن حنبل وأمثاله.
كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن
قال أحمد فيما كتبه: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر، فقال:(7/257)
أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق.
فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله عز وجل: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم} ، وعيسى مخلوق.
فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن: إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنه يسمى مولوداً رضيعاً وطفلاً وغلاماً، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته(7/258)
ألقاها إلى مريم} فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له (كن) فكان عيسى صلى الله عليه وسلم بكن، فعيسى ليس هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقا.
وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته.
إلا أن كلمته مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة، وأما قول الله تعالى: {روح منه} ، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} ، يقول: من أمره، وتفسيره(7/259)
روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله) .
فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة، والنصارى الحلولية، ضلوا في هذا الموضع، فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص، كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص، وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا: هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك من نفيهم.
والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق، فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله، كما فعلت النصارى في المسيح.
ومن جمع بين النفي والحلول، كحلولية الجهمية: مثل صاحب الفصوص وغيره، قالوا: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له.
كما أن صفات المخلوق حق الله) .
فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق، ويصفون(7/260)
الخالق بكل ما يوصف به المخلوق، فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك.
ولفظ (الكلام) مثل لفظ: الرحمة، والأمر، والقدرة، ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر، ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيراً، كما يقولون: درهم ضرب الأمير.
ومنه قوله تعالى: {هذا خلق الله} : أي مخلوقه؟.
فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر، كقوله: {أفعصيت أمري} ، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ، {ذلك أمر الله أنزله إليكم} .
ويراد به المأمور به، كقوله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} ، {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} ، فالأول هو كلام الله وصفاته، والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه.
وكذلك لفظ (الرحمة) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه: الرحمن، الرحيم، كقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} ، ويراد بها ما يرحم به عباده من(7/261)
المخلوقات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة» .
وقوله «عن الله تعالى: يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي» .
وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة، كقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} ، وقوله: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} .
ويراد به ما فعل بالكلمة، كالمسيح الذي قال له (كن) فكان، فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في(7/262)
الآدميين، فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين، كما خلق آدم وحواء أيضاً على غير الوجه المعتاد، فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين.
وفي هذا الباب، باب المضافات إلى الله تعالى، ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك، كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما، إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك، وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى بـ نفي التشبيه وإثبات التنزيه، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة.
وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة، ويقولون بقدم الروح، فمنهم من يقول بقدم روح العبد، لقوله:(7/263)
{ونفخت فيه من روحي} ، وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى.
ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث، إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، كطائفة من أهل طبرستان وجيلان، وأتباع الشيخ عدي وغيره.
وطائفة ثالثة تقف في روح العبد: هل هي مخلوقة أم لا؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية، كالوجه واليد والروح.
وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره.
وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين، وهؤلاء الطائفتان أيضاً يضلون في المضاف بمن، فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف، كقوله تعالى: {ولكن حق القول مني} ، وقوله تعالى: {وروح منه} ، فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه، ثم يقةل النفاة: والروح مخلوقة بائنة عنه، فالقول مخلوق بائن عنه، ويقول الحلولية: القول صفة له ليس لمخلوق، فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة.(7/264)
والفرق بين البابين: أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم، امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.
فقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} ، وقوله في عيسى: {وروح منه} ، وقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} ، يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى.
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله.
ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله، وجميع المال مال الله، وجميع البيوت والنوق لله.
والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به، كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره، وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات، وأن(7/265)
تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلاً عن المكروهات.
وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله.
ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره.
فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه، وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته.
وكذلك كلماته نوعان: كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن.
وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات.
وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر» ، فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها، كما عصاها إبليس ومن اتبعه.
والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئاً إضافة تخصيص إلا(7/266)
لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة، وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة.
ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ، من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به، كقولهم: بقدرته، أو بنعمته، أو أن المعنى: خلقته أنا، أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص، فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم، فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء.
وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله، فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك، لوجهين: أحدهما: أنه صفة، والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق.
الثاني: أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام، فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاماً له، ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، كما فعل ذلك حلولية الجهمية، كابن عربي وغيره حيث قالوا:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه(7/267)
ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه، كما أضاف إليه البيت والناقة، بقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين} ، وقوله: {ناقة الله وسقياها} ، لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه، فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله، ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله، ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدث بكلام الله تعالى.
والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» .
هل المراد بها: الكلمة التي شرعها الله، وهي عقد النكاح؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها، وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك؟
والصواب أن المراد بقوله: كلمة الله، كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه، لا العقد الذي هو كلام العباد.
ومن قال(7/268)
إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة، قد بسطناها في غير هذا الموضع، وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة، ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به، ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به، وقدر أنه حصل نزاع في قوله: {وكلمة الله هي العليا} هل المراد: الكلمة التي يحبها ويأمر بها؟ أو الكلمة التي تكلم بها، وهي نفس أمره وخبره؟
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» .
فمن قال: المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله، ولو قدر أن قائلا قال: أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه، وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن(7/269)
كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق، إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به، فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله، ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب، ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده.
ثم قول القائل: الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به، أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامراً غير المأمور به، وكلاماً هو نهي غير المنهي عنه، وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه، فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه.
وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع، وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه وسلم: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله،» أنها كلمته التي تكلم بها.
وكذلك قوله تعالى: {وكلمة الله هي العليا} .(7/270)
هي كلمته التي تكلم بها، وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق، كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل، وقد تمت كلماته صدقا وعدلا.
فالكلام له نسبة إلى المتكلم به، وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه، وهو المأمور به والمخبر عنه، فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به.
ثم ما أخبر به عن نفسه، مثل قوله تعالى: {قل هو الله أحد} ، وآية الكرسي، وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه، وذكر فيه أحوالهم، كقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} ، وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم،
وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين، فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه، بناء على أنه قديم، والقديم لا يتفاضل.
ويتأولون قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو(7/271)
مثلها} ، أي خير لكم وأنفع.
والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة: إن بعض كلام الله أفضل من بعض، كما دل على ذلك الشرع والعقل.
ففي الحديث الثابت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى: لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ، ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن لها مثل، فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله.
وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم: فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ، فضرب بيده في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات.(7/272)
وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق.
فثلثه قصص.
وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار.
وأيضاً فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع.
فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد.
وأيضاً فإذا كان بعض الكلام خيراً للعباد وأنفع، لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة، فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه، وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه، لا يكون ثواب أحدهما أكثر، ولا نفعه أعظم.
والمقصود هنا شيئان: أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي، وابن عساكر، وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام، ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع، وقالوا: إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع،(7/273)
وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله، وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها، وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، قام جماعة من أئمتنا، وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول، وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، فكانوا لا يسمون تسميتهم، وإنما يعني بقوله (من ارتدى بالكلام لم يفلح) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها، فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل، إبطالاً لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل.
قلت: وهذا اتفاق من علماء الأشعرية، مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف، على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض(7/274)
الكتاب والسنة بعقله؟! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك.
وأما الرازي وأمثاله، فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون: إنها تفيد اليقين، ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء.
الثاني: أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن.
والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به، فإن المعتزلة يقولون: الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال، وهي حادثة، فكان يكون محلا للحوادث، وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم.
وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر، فإن حفصاً لا ينكره، وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال، المبني على دليل الأعراض.
وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام، كان متناولاً لكلام الجهمية.
وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم، فإن مناظرته للجهمية، ورده عليهم، أشهر وأكثر من أن(7/275)
يذكر هنا، وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وهو على قول حسين النجار - والنجار من المثبتة للقدر - وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر، فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر، بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية.
كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية
قال الأشعري في المقالات: (ذكر قول الحسين بن محمد النجار: كان هو وأصحابه يقولون: إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها، وإنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريده، وأن الله لم يزل مريداً أن يكون في وقته ماعلم أنه يكون في وقته، مريداً أن لا يكون ما علم أنه لا يكون، وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل، وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة، فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان، وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث، وإن الاستطاعة لا تبقى، وأن في وجودها وجود الفعل، وفي عدمها عدم الفعل) .
وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه(7/276)
(وأن الإنسان لا يفعل في غيره، وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه، كنحو الحركات والسكون، والإرادات والعلوم، والكفر والإيمان، وإن الإنسان لا يفعل ألماً ولا إدراكاً ولا رؤية، ولا يفعل شيئاً على طريق التولد) .
قال: (وكان برغوث يميل إلى قوله) .
قال: (وكان يزعم أن الله لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، ولم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأنه كلام الله محدث مخلوق، وكان يقول في التوحيد يقول المعتزلة، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء.
وكان يزعم أن جائز أن يحول الله العين إلى القلب، ويجعل في العين قوة القلب، فيرى الله الإنسان بعينه: أي يعلمه بها، وكان ينكر الرؤية لله بالأبصار على غير هذا الوجه) .(7/277)
قلت: فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص، وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، ليس فيه إنكار للقدر، بل فيه إثبات له، وإنما ذمومهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه، مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة، وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم، وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة، ليس لهم غيرها، وهي دليل الأعراض، والتركيب، والأختصاص.
كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله
ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها: (وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها، واغترارهم بها،(7/278)
واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها، يذب به عنها، ويزداد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك: أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد المقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور، وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها، ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها، فرأيت إسعافك لازماً في حق الدين، وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، فإن الدين النصيحة) .(7/279)
«واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصحية، الدين النصيحة، الدين النصيحة.
قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
قال: (واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت، وشاعت في البلاد واستفاضت، فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» .
قال: ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب(7/280)
فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم، وفضل ذكاء وذهن، ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة للعامة، وعد واحداً من الجمهور والكافة، وأنه قد ضل فهمه، واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا(7/281)
عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوا بيقين علم) .
قال: (ولما رأوا كتاب الله ينطق يخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها، وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سكلوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما أنتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة،(7/282)
وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) .
تعليق ابن تيمية
فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام، الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم، فيتأولون الكتاب على غير تأويله، ويردون الحديث بما يمكنهم، مثل زعمهم أنه خبر واحد، وأن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول، ومثل غير ذلك من وجوه الرد، لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة، كطريقة الأعرض والتركيب والاختصاص، ونحو ذلك مما تقدم.
وهم فيها خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلاً ذكياً قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولاً ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن(7/283)
الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة.
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيراً بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض.
قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} .
فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم: {كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} : نور الإيمان، ونور القرآن، نور صريح المعقول، ونور صحيح المنقول.
كما قال بعض السلف: يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا جاء الأثر كان نوراً على نور.(7/284)
وقال لغير واحد من الصحابة - كجندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: - تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا.
قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}
وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم: إما في الجهل البسيط، وإما في الجهل المركب، كالكفار، فالأولون: {كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .
والآخرون: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} .
فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه، وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا، والذي معهم ليس لعلم بل جهل.(7/285)
عود لكلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان الخطابي: (واعلم أن الأئمة الماضين، والسلف المتقدمين، لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر، عجزاً عنه، ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة، وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم، لما هاهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها، غناء ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله، وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يقووا(7/286)
بهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولاً، وأكثر فهموماً، وأحد أذهاناً، وألطف إدراكاً، كما قال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن: «خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان، فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة، ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزاً عنها، بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز: على كشف الأمور أقوى، وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى.(7/287)
وقول الخطابي: (تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها، لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة، فأضربوا عنها، كما يضرب عن الكذب والقول الباطل، وإن كان مزخرفاً مزيناً، ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد، ويردوا البدعة بالبدعة.
وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب، فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه، فهذا قد يعرض عنه خوفاً أن يكون باطلاً وكذباً.
فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال.
ولا ريب أن كثيراً من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل، فينهى عن القول بما لا يعلم، وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل، خوفاً من أن يزل ذهنه فيضل، ولا يمكن هداه، فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله، أو لا يعلم حال سالكه، وإن كان حقاً.
وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل، فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك.
وقوله: (وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته) .(7/288)
فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين، لا أهل جهل وتقليد، وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية، بهدى الله لهم، وشرح صدورهم، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام، فضلاً عن الكلام المخالف للنصوص.
وقوله: (ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنىً ومندوحة عما سواهما)
فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق، وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس برهانية، ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين، مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة.
وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبراً، كما يظنه بعضهم، بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل، من الأدلة والبراهين، وأسباب العلم واليقين، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان، وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين(7/289)
بالكلام المبتدع، المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال.
وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك، بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن، ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور، والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل، وما دل عليه من التأويل، وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم، إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله، وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله.
فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم، التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم، فيما خالفوا فيه المسلمين، رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل، لا قطعوا بها عدوا الدين، ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين، كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص.
وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم، فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، بنوا كثيراً من الرد عليهم على أصول فاسدة: إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك، كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما، وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل، كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد، ومسائل الأسماء والأحكام، فإن أولئك كذبوا بالقدر، وأوجبوا إنفاذ الوعيد، وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح، وهؤلاء ابطلوا حكمة الله(7/290)
تعالى، وحقيقة رحمته وعدله، وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتوقفوا في بعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته، وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته، وببعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، كما قد بسط في موضعه.
فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها، أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها، ضلة من الرأي، وغبناً فيه، وخدعة من الشيطان، بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل، ولا يقابل باطلهم بباطل.
وهذا كما أصاب كثيراً من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر، أعرضوا عن السماع الشرعي، والزهد الشرعي، والسلوك الشرعي، فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي، وزهد بدعي، وسلوك بدعي، يوافق فيه بعضهم بعضاً في باطل، أو يقابل باطلهم بباطل آخر، وكما أصاب كثيراً من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم، فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم، فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم(7/291)
ويقاتلونهم بالسيف، وهو قتال الفتنة، فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم، مثل ما كان بعض أهل الشام، ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان، ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج، ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم، وتارة يدفع الظلم بالظلم، مثل حال كثير من أهل العراق.
وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة: إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة، وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة، وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا، وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلاً، ولا يدفع بباطل أصلاً فيلزم المؤمن الحق، وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه: لا موافقة لمن قاله، ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلاً.
وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك، وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي.
بقية كلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان: (فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام(7/292)
ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟) .
قال أبو سليمان: (قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بياناً، وأصح برهاناً، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه.
وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور، ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها،(7/293)
والإيداع والانقطاع على سالكها) .
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم، الذي ذمه السلف والأئمة، وأعرضوا عنه، كما ذكر ذلك الأشعري وغيره، وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية، فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية، بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة.
والخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة، فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك.
وهذا كما ذكره الأشعري وغيره، ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة، وإنما ذموها لكونها بدعة، أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها، أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها.
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى، ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها، قد يقول ببعض موجباتها.
كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله، ما يوافق موجبها، وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.(7/294)
وأما قوله: (إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة) كما ذكر ذلك الأشعري.
فيقال: كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة، كأرسطو وأتباعه، فلم يوجد عنهم، ومن الفلاسفة من يقول بها، والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة، بل قد تتشابه القلوب.
كما قال تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} .
وقال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} .
وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم، بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والألهيات.
تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي: (وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه، ومن الطريقة التي يسلكونها، ويزعمون أن من لم يتوصل(7/295)
إليه من تلك الوجوه كان مقلداً غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته، بعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وقال له: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} .
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه: «ألا هل بلغت» .
وكان الذي أنزل عليه من الوحي، وأمر بتبليغه، هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} ، فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين: قواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله - إلا بينه، وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال.
ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبداً في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعاً بما لا سبيل(7/296)
للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز، وإذا كان الأمر على ما قلناه، وقد علم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها، إذ لا يمكن واحداً من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم، ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل، لعدوا من جملة المتكلمين، ولنقل إلينا أسماء متكلميهم، كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم، فلما لم يظهر ذلك، دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل) .
قال الخطابي: (وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه:
أحدهما: ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره، وأعجزهم شأنه، وقد تحداهم به وبسورة من مثله،(7/297)
وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه: إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه.
وبديع نظمه، وحسن معانيه، وإما أن يكون ذلك في وسعهم، وتحت قدرهم، طبعاً وتركيباً، ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته، وحجة عليهم في وجود تصديقه، وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان، والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون، وعلى الوجوه كلها، فالعجز موجود، والانقطاع حاصل، هذا إلى ما شاهدوه من آياته، وسائر معجزاته المشهودة عنه، الخارجة عن سوم الطباع، الناقضة للعادات، كتسبيح الحصا في كفه، وحنين الجذع لمفارقته، ورجف الجبل تحته، وسكونه لما ضربه برجله، وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه، وسجود البعير له، ونبوع(7/298)
الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير، وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم، وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة، وأمور كثيرة سواها، يكثر تعدادها هي مشهورة، ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن) .
قال الخطابي: (فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز وجل وأمر صفاته، وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة، الشاهدة على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً، خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة، وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة، ولطيف الحكمة، الدالين على جود الصانع(7/299)
الحكيم، لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك، والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط، والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها، كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع، وحاجتهم إلى الغذاء، فيقع بها الطحن له، وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء، والكبد التي يسلك إليها صفاوته، وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن، وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن.
وكقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} .
وكقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} .
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج، التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما(7/300)
يطول تتبعه واستقراؤه، فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته، بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها، وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب المنزل، الذي بان حقه، وعن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد ظهر صدقه، ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم، كافة عن كافة، قرناً بعد قرن، فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواتراً واستفاضة، على الوجه الذي تقوم به الحجة، وينقطع فيها العذر، ثم كذلك من بعدهم عصراً بعد عصر، إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة، وتقوم عليه بها الحجة، فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين، وفي التوصل إلى المقصود به أقرب، إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس، وبمقدمات من العلم مركبة(7/301)
عليها، لا يقع الخلف في دلالتها) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته: طريقاً سمعية.
وطريقاً عقلية، وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن.
أما الأولى: فهو أن تعلم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك، ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات، وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري، أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلق.
ثم معرفة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول.
وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره، وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام، بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته، وما به يعرف صدقه، فبين ما جاء به من أصول(7/302)
الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل، وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم.
ولهذا قال الخطابي: (وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أنه لها صانعاً حكيماً عالماً خبيراً تام القدرة بالغ الحكمة) .
قال: (وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} .
إلى قوله: (وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج، التي يذكرها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما يطول تتبعه واستقراؤه، فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته، بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها، وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب.... إلى آخر كلامه) .
كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة
وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف: من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم، كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله(7/303)
الذي من على عباده بإرسال رسله، وختمم بسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل، وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره، وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه، وجعله في عقول العقلاء، فينبغي أن يراعيه، ويديم النظر فيه، ويواصل الفكر في آيات الله، ويعتبر بالنقل والاعتبار، تنال المعرفة) .
وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى.
كما قد حكينا كلامه، وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه، وأن كلامه أجود، مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناءً على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب، وهو المراد بالخلق، بناءً على ثبوت الجوهر الفرد.
وهذا وإن كان ضعيفاً، وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا.
كلام الباقلاني شرح اللمع
فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق.
قال القاضي أبو بكر: (ثم قال أبو الحسن مؤيداً لما ذكره من حدوث الإنسان، وحدوث تصويره(7/304)
وتعلقه بخالق خلقه، ومدبر دبره: وقد قال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد، فلا يكون، ومع كراهتهم له يكون قال: وقال تنبيهاً لخلقه على وحدانيته: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) .
قال القاضي أبو بكر: (واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه، وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع، ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه، وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه، وأن يجمع لأهل التوحيد المقربن بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها، وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقاً إلى العلم بصانعها المدبر بها والخالق لأعيانها) .
قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم(7/305)
تخلقونه أم نحن الخالقون} ، فهو أن من سبيل الخالق المنشىء، أن يكون ماخلقه واقعاً بقصده وإرادته، وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إجاد عينه، إن كان مخترعاً له، أو على تصويره وتخطيطه، إن كان الخلق تصويراً وتقديراً) .
قال: (وإذا ثبتت هذه الجملة، وعلمنا أن وجود الولد بنيته وهيئته، وليس بمقصور على إرادة الوالد، ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة، ولا على جهة التولد عن حركاته) .
قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم، وتنقلهم من حال إلى حال، ومن تركيب إلى تركيب، وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف، وخلق الحواس ومواضعها، وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه: من اليد للبطش، والرجل للمشي، وغير ذلك من جوارحهم، ومايتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن، ويزول عنهم من الأمور الني يؤثرون استدامتها، مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور، وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف، وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله، ومغير غيره، وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره، وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب، وحال إلى(7/306)
حال: أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه، وأجدر أن يتحقق علم ما فيه، وإن كان لو أفرد بعقله، وأحيل على صحيح نظره، لقال بما نبه السمع على مواضعه، وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق) .
قال: (فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل) .
وذكر في التوحيد والمعاد نحواً من ذلك، بخلاف نفي التشبيه، فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر.
وأما ما ذكره هو وغيره: من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداءً، فهذا يكون على وجهين:
أحدهما: أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة، ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات.
الثاني: أن يقال: نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله، كما كان إظهار موسى للآيات: مثل العصا، واليد، دليلاً على الصانع وعلى صدق الرسول.
ولهذا لما قال له فرعون: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} .
قال له موسى: {قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} .
فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات(7/307)
العلم بالصانع، ولصدق الرسول.
والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرةً مبسوطةً في غير هذا الموضع.
وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه، وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية.
فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع، وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار، وقالوا: إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية، مع أن الخطابي أردا - والله أعلم - بعلم التوحيد: علم صفات الرب سبحانه وأسمائه، فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد، وذلك مما يمكن معرفته بالشرع، فإنه يعلم بالفطرة، وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال، وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع.
وأيضاً فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودةً عند الأنبياء عليهم السلام، فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك، وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول، وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا(7/308)
المطلوب.
كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء، والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين، وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين.
فإذا عرف أن هذا طبيب، أو مفت، أو مقوم، رجع إليه في ذلك.
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم له طرق متعددة، فمن ادعى من المتكلمين: المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقة إلا بعد العلم بحدوث الأجسام، وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض، فقوله خطأ مبتدع، وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق.
وأما الطريق العقلية التي ذكرها، فهي طريق دل عليها القرآن، وأرشد إليها، ونبه عليها، وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعاً حكماً عالماً خبيراً.
إلى قوله: (فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما(7/309)
شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها) .
وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين، ولا يكون إلا عن عالم قادر، كما بين في غير هذا الموضع.
عود لكلام الخطابي في الغنية
فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل.
قال: (ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب المنزل) .
وهذا كالصفات الخبرية: مثل الوجه، واليدين، والاستواء على العرش، ونحو ذلك.
قال الخطابي: (فأما الأعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذراً، وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسراً متعذراً.
وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها، فمن قائل: لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلاً، وقائل: إنما هي قائمة بأنفسها، لا تخالف الجواهر في هذه الصفة، إلى غير ذلك من الاختلاف فيها.
وأوردوا في نفيها شبهاً قوية، فالاستدلال بها، والتعلق بأدلتها، لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه، والانفكاك عنها.
والطريقة التي(7/310)
سلكناها سليمة من هذه الآفات، برية من هذه العيوب، فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال، فإنه غير موحد في الحقيقة، لكنه مستسلم مقلد، وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعاً للآباء في الإسلام، وثبت أن قائل هذا القول مخطىء، وبين يدي الله ورسوله متقدم، وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر، وعن طريق السنة عادل، وعن نهجها ناكب) .
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر، بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها، موصلة إلى العلم، فإن سلوكها - والحال هذه - إما غرر وخطر، وإما مشق صعب، بل معجوز عنه، فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها، وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها، فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة، يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة، ويمكن أن(7/311)
ينقطع، فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها، وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة، إذا لم يكن فيها مخوف، وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصول.
ومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق، وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوماً جهولاً.
وأما بتقدير أن تكون طريقاً فاسدة، كما يعرفه من عرف حقيقتها، فإنها: إما أن لا توصل إلى مطلوب، لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة، بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل، وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها.
وإما أن توصل إلى نقيض الحق، إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة، وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها، وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول.
وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية، ومن وافقهم على مقتضاها، فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، فالأولون يبقون في الجهل البسيط، وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب.(7/312)
تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي: (فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف، فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه، فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل، على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعاً، وجعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يبين به حق، ولا تقوم به حجة.
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثلاثة غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن(7/313)
كان مفسداً له قول خصمه، لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيه، كقول الشاعر فيهم:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحداً من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب.
قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} .
فأخبر سبحانه ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده.
وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه.(7/314)
ثم قال سبحانه في الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} .
قال الخطابي: (فإن قيل: دلائل النبوة، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم - ما عدا القرآن - إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر، والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر، لجواز وقوع الغلط فيها، واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها، قيل: هذه الأخبار، وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة، فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر، ومتعلقة به جنساً، لأن بعضها يوافق بعضاً ويجانسه.
إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز، والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات) .
قال: (ومثال ذلك أن يروي قوم ان حاتم طي وهب لرجل مائة(7/315)
من الأبل، ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفاً من الغنم، ويروي آخرون أنه وهب آخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه، فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعاً نوعاً، فقد ثبت التواتر في جنسها، وحصل من جملتها العلم بأن حاتماً سخي، كذلك هذه الأمور وأن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر، فقد ثبت برواية الجم الغفير، الذي لا يحصى عددهم، ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم، أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم، فصح بذلك أمر نبوته) .
كلام الخطابي في كتاب شعار الدين
وقال الخطابي أيضاً فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين (الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه، هو التجرد(7/316)
في مذهب الكلام، والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب المتكلمون.
وذلك أنهم أدعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول، وزعموا أن شيئاً من المعلومات لا يذهب عليهم علمه، ولا يعجزهم إدراكه، على سبيل التحديد والتحقيق) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم، إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط، وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع.
ولهذا قول الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: (ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول) ، فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له، ولا يدركه كل أحد بقياس، ولا يحتاج أن يثبته بقياس، بل هو ثابت بنفسه، وليس كل ما ثبت يكون له نظير، وما لا نظير له لا قياس فيه، فلا يحتاج المنصوص خبراً وأمراً إلى قياس، بخلاف من أردا أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله، ويتلقاه من طريق القياس،(7/317)
كالقياس العقلي المنطقي، وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك، فإن كلاً من هذا وهذ يسمى قياساً.
وقد تنازع الناس في اسم القياس: هل هو حقيقة في قياس التمثيل، مجاز في قياس الشمول؟ كما يقوله أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرها، أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل؟ كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره، أو القياس حقيقة فيهما؟ كما يقوله الجمهور.
على ثلاثة أقوال.
وأيضاً فهم متنازعون في الجنسين: أيهما هو الذي يوصل إلى العلم؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل، وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل، ويقول: إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها.
وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان، فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل، وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول، فأن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك، فإذا قال: النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر، فكان حراماً كخمر العنب، فقد علق(7/318)
التحريم بالسكر، ولا بد له من دليل بدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك: إما بنص، أو إجماع، أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع، وهو الذي يسمى جواب المطالبة، فإن القايس إذا قاس توحه عليه منوع، أحدها: منع الحكم في الأصل.
والثاني: منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل.
والثالث: منع وجوده في الفرع.
وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها، والرابع: منع علة الوصف، وهو منع كون الحكم متعلقاً به، وهذا أعظم الأسولة.
وذلك الوصف الذي علق به الحكم، يسمونه: علة، وسبباً، وداعياً، وموجباً، ومناطاً، وباعثاً، وأمارةً، وعلامة، ومشتركاً، وأمثال ذلك.
ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول، قال: النبيذ مسكر، كل مسكر حرام، ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى، وهو قوله: كل مسكر حرام، كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم، والذي جعله الأول مناط الحكم، جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين، ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك، وكل من القياسين يتضمن حكماً عاماً كلياً، ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من قضية كلية،(7/319)
واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع، والمشترك هو الكلي، لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعنية، بل يقول الرجل: السواد والبياص لا يجتمعان، وإن لم يعين سواداً أو بياضاً معينين، ويقول: الكل أعظم من الجزء، ولا يعين شيئاً.
وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به، فيقال: هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان، فكذلك سائر السواد والبياض.
وهذا الكل أعظم من هذا الجزء، وهلم جراً.
ويقول أهل التمثيل: هذا أنفع لأن الكليات لاوجود لها في الأعيان، إنما وجودها في الأذهان، فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين، بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج.
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج، فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة، بل عديمها، وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط، وإما أن يجتمع فيه الأمران.
ويقولون أيضاً: إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين(7/320)
الآخر، فإنا إذا قلنا: الكل أعظم من الجزء، كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء، كعلمنا بذلك في الكل الآخر، فلم نستفد بالقضية الكلية علماً بمعين، إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية، ففيه تطويل بلا فائدة.
ويقول أهل قياس الشمول: بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك، وهو الحد الأوسط، فلا بد فيه من قضية كلية أيضاً، لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل، ولا يقيم دليلاً على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط، وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم، كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك، ففي كل من القياسين قضية كلية، لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها.
قال أصحاب التمثيل: بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل، وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم، لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول: هذا الكل أعظم من هذا(7/321)
الجزء، وإذا قيل: بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاءً عاماً.
قيل: إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات، فيعود إلى التمثيل.
ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة، لأنهم يدعون فيها العموم، بناءً على ما عرفوه من التجارب والعادات، وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع، فإن من قال: كل نار فإنها تحرق ما لاقته، إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي، وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمراً كلياً مطلقاً بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج، ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنياً عن ذينك القياسين، والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس، وقد تكون الكلية منتقضة، فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات، وقد لا يحصل العلم به مطلقاً، وقد يكون كثير الانتقاض، بخلاف النصوص النبوية، فإنها لا تكون إلا حقاً، وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه.
وأعظم المطالب العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل، فإن الله تعالى لامثل له فيقاس به، ولا يدخل هو(7/322)
وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى، فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية، مثل أن يقال: القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً، أو قيل: كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات، فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه، وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود.
وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالوجود الواجب أحق بتنزيه عنه، وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود.
وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلاً لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم، لأن العدم لا يكون سبباً للوجود، وكان كل(7/323)
ما كان أكمل وجوداً كان أحق بأن يرى، كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود، وإذا كان تعذر الرؤية أحياناً قد يكون لضعف الأبصار، وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحياناً رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا، كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى.
وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل، ولكن المقصود بيان مسمى القياس، وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة، فإنه لا يحصل به كل مطلوب، ولا يطرد في كل شيء.
فطرق العلم ثلاث: أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها.
والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس، وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس، فما إفاده الحس معيناً يفيده العقل والقياس كلياً مطلقاً، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين، لكن يجعل الخاص عاماً، والمعين مطلقاً، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.
والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم أكمل.(7/324)
وقد تنازع الناس في السمع والبصر إيهما أكمل؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل، لعموم ما يعلم به وشموله.
وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل، فليس المخبر كالمعاين، وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه، وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان، وإن كان الخبر لا ريب في صدقه، لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عن العيان.
والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل، والسماع أعم وأشمل، فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافاً مضاعفة، ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر، ثم يصير المغيب شهادة، والمخبر عنه معايناً، وعلم اليقين عين اليقين.
والمقصود هنا أن الخبر أيضاً لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن المخبر عنه، إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس، فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا(7/325)
وهذا، وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس، إما لعدم النظير له من كل وجه، وإما لغير ذلك.
ثم إذا كان الخبر صادقاً لا كذب فيه، أمن معه من الانتفاض والفساد، بخلاف القياس، فإن كثيراً مما يبني فيه على قضايا كلية تكون منتقضة، وإن كان فيه ما ليس منتقضاً.
والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس، ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس، فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس.
وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة، فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح.
أما قولهم: لا تدرك بالعقول، فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور، لا سيما الغائبات، فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلاً، لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية.
وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام.
وهؤلاء هم الذين يذكر أبوحامد الغزالي وغيره تهافتهم(7/326)
وتناقضهم، وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل، وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور، قيل أنه رجع عنها.
ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته، ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه، فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها، فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله، كان شبيهاً بمن قال الله تعالى فيه: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته} ، وقال: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} .
كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية
قال الخطابي: (وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي، وجعلوا المعلومات قسمين: قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة، وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته، وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب، وقوله سبحانه: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} ، يجعلون(7/327)
الوقف عند قوله: {إلا الله} ويستأنفون الكلام فيما بعده، وهو مذهب الصحابة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعائشة، وابن عباس، قالوا: وقد حجب عنا أنواع من العلم، كعلم قيام الساعة، وكعلم الروح، حين يقول: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ، وقال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ، وقال: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} .
قلت: قد ذكرنا معنى لفظ (التأويل) في غير هذا الموضع، وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به: حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله، كما قال مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) .
ويراد به التفسير، وهو كقوله: (الاستواء معلوم) فإنه تفسيره ومعناه معلوم) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلات الجهمية، مثل تأويل من تأول: استوى بمعنى استولى.
وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه.
ومثل هذا لا يقال فيه: لا يعلمه إلا الله، بل يقال: إنه باطل وتحريف وكذب، ولكن في القسم الأول يقال: لا يعلمه إلا الله، وأما القسم الثاني فيعلمه الله، وقد يعلمه الراسخون في العلم.(7/328)
قال الخطابي: (فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر، والتعديل والتجويز، وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما، وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم.
شيئاً.
كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها، ولا فائدة فيها، فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور، وخافوا فتنتها، والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه: من الأقوال الشنعة، والمذاهب الفاسدة، ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين، وتوقيف الشريعة) .
قلت: فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله، وما لا فائدة فيه.
وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم، والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه، وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده، ومن باب العلم الذي لا ينفع، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية، فيقول: (هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم.
فالأول كالعلم بدقائق الهيئة، وحركات الكواكب، وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان، وتعذيب الحيوان.(7/329)
والثاني كالعلم بأحكام النجوم، التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئاً، والخطأ فيها أكثر من الصواب، والكذب فيها أكثر من الصدق) .
وهذان النوعان غير ما ذكر أولاً، ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز.
وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل، فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه، فما كان كذباً غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه، بخلاف ما فيه عسر وهو حق، فإن هذا، وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر، بخلاف ما لا يدركه الإنسان، أو ما لا فائدة فيه، فإن هذا قد يقال: إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع، أو من جنس البطالة وتضييع الزمان، لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقاً، والكذب صدقاً، كان من القسم المذموم بنفسه.
وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه، وهو باطل قطعاً.
وأما قوله: (وتكلموا في الروح، والقدر، والتعديل والتجوير، والعقل والنفس) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقاً، وليس كذلك.
بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم، وإنما يذم الكلام الباطل، والكلام بلا علم، والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته.
كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون،(7/330)
ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم.
قال الخطابي: (ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصاً وتسمية، فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص، من طريق المعاني والمعقول من النصوص، فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس، ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة، ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه، وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين) .
قال: (وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة، وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام، وعابه من مذاهب المتكلمين.
وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال، فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به، وتبينا أن له في الأصول مذهباً ثالثاً، ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام، والخائضين في أوديته، وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول(7/331)
الدين، التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها، والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها) .
قال: (ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة، وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له، وهو مذهب الغلو والأفراط، وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد، ولا يقول بحجج العقول، فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط.
والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال، وهو ما نختاره ونذهب إليه) .
قال: (وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس، فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع، فلا يكون ذلك منا مناقضة، وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع، وكراهته في موضع آخر.
والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسب، وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب، ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون(7/332)
النبوة.
وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر، وهو جماعة المسلمين، وهو قول عمائنا وبه نقول) .
قلت: تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع، فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول، بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوساً.
وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل.
والفلاسفة أيضاً لا تنكر جنس الخبر، بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها.
ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء، وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم، ويأمرون بقتل من يخرج عنها، لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء.
وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك، فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم، ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور.
وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقاً إلى العلم، وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد، من المنتسبين إلى المسلمين، ما تبين به هذا الأصل، وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه.(7/333)
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية، قائمة في الذهن، لا حقيقة لها في الخارج.
وما يثبتونه من المجردات العقليات، بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك، يعود إلى هذا.
ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية، فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات، ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج، وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه، والفريقان جميعاً كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً، فأولئك هم سعداء في الآخرة.
كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
وأما الصابئة المشركون، الذين يعبدون الكواكب والأوثان، ونحوهم من الفلاسفة المشركين، فهؤلاء كفار كسائر المشركين.
والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة، فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان، وفي مقالاتهم حق وباطل، كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين، وهذا مبسوط في موضعه.(7/334)
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية.
وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصاً.
فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي، وهو مبسوط في موضعه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري.
فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس.
وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل، حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط، ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب، والعلة المنصوصة، ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال.
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئاً، أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله.
وكثيراً ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى.
بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه،(7/335)
أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب، فضلاً عن أن يكون من كلام المعصوم.
وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم، ولا تكون داله على ما فهموه.
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها، ويفرق بين المتماثلين تفريقاً لا يأتى به عاقل، فضلاً عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها، وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان، ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل، والرجل العاقل.
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة.
وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، المثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع(7/336)
من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع، وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه.
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروري في كل شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية، ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان.
وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس، وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة، وجزاء الصيد، وعدل الشخص، ونحو ذلك.
وهذا لا حجة فيه، فإن مثل هذا لا نزاع فيه، وهو ضروري لا بد منه، ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا.
ونفاة القياس لا يسمونه قياساً، وإن سماه المسمي قياساً كان نزاعاً لفظياً.
والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب، هو من قياس الشمول، وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض، هو من قياس التمثيل، لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل.(7/337)
ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم، وإن سماه الممي قياساً كلياً، بل هو عمدتهم وعصمتهم، هو واستصحاب الحال.
فهذا نوع.
ومن نازع في القياس والعموم جميعاً - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم.
ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط، وهي داخلة فيه.
وليس كذلك، فإن هذه فيها نزاع.
وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة، وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها، بل يتناولها وغيرها، فيحتاج أن ينقح مناط الحكم، أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم، بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه.
وهذا كأمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة، ثم لما أتى العرق، قال: أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن.
وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بخلوق، أن ينزع عنه الجبة، ويغسل الخلوق، ويصنع في(7/338)
عمرته ما كان صانعاً في حجته.
وأمره لمن ابتاع صاعاً جيداً من التمر بصاعين من الرديء، أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيداً.
ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار.
ومثل رجمه لماعز والغامدية، وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما، وأمثال ذلك.
فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصاً بتلك الأعيان، بل يتناول ما كان مثلها، لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم.
وهذا قد يكون ظاهراً، وقد يكون خفياً.
فالظاهر: مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن، وسبب القطع هو السرقة.
والخفي: مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع، أو لعموم الإفطار.
وهل وجبت لنوع من الإفطار، أو لجنسه؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان، أو لوقاع في صوم واجب في رمضان؟ سواء كان صحيحاً أو فاسداً؟ كما يجب في الإحرام الواجب، سواء كان صحيحاً أو فاسداً فهذه مما تنازع فيه الفقهاء.
وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن، فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصاً بتلك الفأرة والسمن، ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان، فلا بد من إثبات حكم عام.
وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس، أو أكثرهم.
وكثير من الفقهاء لا يسميه قياساً، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه(7/339)
هنا قد علم يقيناً أن الحكم ليس مخصوصاً بمورد النص، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق، كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط، فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها، إلا بدليل يدل على ذلك.
ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن، دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات، ظهر خطاؤهم يقيناً، فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن، ولكن السائل سأله عن ذلك، والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة، أو نوع باسمه، لم يجب أن يكون الحكم معلقاً مختصاً بما سأل عنه السائل، بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلاً في حكم عام، كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصاً بتلك العين، ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع، فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال، فهذا من أعظم الغلط.
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم، فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة، دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقاً بمجرد الميتة، بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، فإن الميتة، وإن(7/340)
شاركت الخنزير والدم في التحريم، فقد شمل الجميع اسم الخبيث، فالتحريم متناول للوصف العام، ليس مخصوصاً بنوع من الأنواع، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع، لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة، سواء كان دماً أو ميتة متجسدة، ونحو ذلك.
ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك، بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك، ثم يبقى النظر: هل يفرق بين الماء وسائر المائعات؟ أو يسوي بينهما؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما؟ وهل يفرق بين القليل والكثير، أو يسوى بينهما؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء.
والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس.
وكذلك العلة المنصوصة، وكذلك القياس في معنى الأصل، وقياس الأولى.
وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة، فهذا محل اجتهاد.
ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك، فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة، ومنهم من يقول بالمؤثر،(7/341)
وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم، كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال، فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتاً لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر.
وأما إذا لم يكن مؤثراً، فهو الذي يسمونه المناسب الغريب، وفيه قولان مشهوران، فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة.
ومن تدبر الأدلة الشرعية: منصوصها ومستنبطها، تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله، وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالعدل، فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية، ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق، ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس، كان أحد الأمرين لازماً: إما أن القياس فاسد، وإما أن النص لا دلالة له.
ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة، لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب، لإدخال كل معين تحت نوع، وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.(7/342)
وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع، وتناولها الاعتبار الصحيح.
وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط، وهو في معنى قياس الشمول البرهاني.
والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل، الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين.
والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر، وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه، وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما، فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما.
وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم، ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة.
وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول، وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد، وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي، وارتباطها بمسألة المناسبات، ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم، وإن هذا يرجع إلى الحق النافع، وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع، وهذا يرجع إلى الحق(7/343)
الموجود، وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضاً تناسب جميع العلوم الصحيحة، والموجودات المعتدلة، والشرائع الإلهية، وأعطى كل ذي حق حقه: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .
وإذا أحسن الاعتبار، تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان، لت سيما في مواد القياس والبرهان، وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين، والتسوية بين المختلفين، مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية، وليس الأمر كذلك، وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات، مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية، كما قد ذكر في غير هذا الموضع، فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها.(7/344)
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب، فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد: (قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة، كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه: إما مبتدع، وإما كافر مستباح الدم والمال، وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعة.
وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية.
وكل هذا الطوئف قد اعتقدت في(7/345)
الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيراً من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات، وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو: إما كافر، وإما مبتدع.
وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة، وتأويلات مبتدعة.
وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع، الذي لا يتم الإيمان إلا به، وأتحرى في ذلك مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، دون ما جعل أصلاً في الشرع، وعقيدة من عقائده، من قبل التأويل الذي ليس بصحيح، وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى، والطرق التي سلك بهم في ذلك، وذلك في الكتاب العزيز.
ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع، إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف، وقبل ذلك فينبغي أن(7/346)
نذكر آراء تلك الفرق المشهورة، فنقول: أما الفرقة التي تدعى بالحشوية، فإنهم قالوا: إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل، أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به، يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيماناً، كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه) .
قال: (وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع، مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ليس المقصود هنا الكلام علىكل ما يقوله هذا الرجل، فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه، إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف، فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين، والأشعرية جاءوا بعدهم، وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة، وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث، كأقوال المعتزلة وغيرهم.(7/347)
وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء.
وأما الذي سماهم بالحشوية، فهذا الذي ذكره عنهم، إن يريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد، فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول، فضلاً عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول، أو قول سلف الأمة وأئمتها، ولكن غاية ما قد يقال: إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الأيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك.
وقد تنازع الناس في الجزم: هل يمكن أن يكون يغير علم أم لا؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا؟
وتنازعوا في العلم به: هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسباً؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها.
وكذلك العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من المخبرين، له طرق متنوعة ليس هذا موضعها.
فغير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يعلم صدقه كذلك.
وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص.
فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم.(7/348)
فهؤلاء قد يقولون: العلم بوجود الرب هو فطري ضروري، لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضاً بالضرورة.
وإذ حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية، أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول.
ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان عامتهم مقرين بالصانع، وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل.
وأيضاً فقد يقال: إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية، ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العلموم كما قد يسلكه أبو حامد، وهذا الرجل، وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي، كما نعلم أن هذا الطبيب، وأن هذا شاهد عدل، وأن هذا أمين، وسائر الصناعات،(7/349)
فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة.
فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية.
وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع.
فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولاً، ثم يعلمون بخبره ما أخبر به.
ولعلم بصدق النبي ليس موقوفاً على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام، كالمعتزلة ومن تبعهم، لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام، بما ادعوه من التركيب، وبما اتصفت به من الاختصاص، وبما قام بها من الأعراض والحوادث، وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق، أو قال ما يناقض مقدماتها.
وقد عرف بطلان طريقهم شرعاً وعقلاً، ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة.(7/350)
وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة بهذا الموضع.
ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسملين، فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام، كالمعتزلة ونحوهم.
ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم، ويسمونهم حشوية.
فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المتعتزلة ونحوهم، رووا عن عمر بن عبيد أنه قال: عبد الله بن عمر حشوياً وهم يسمون العامة الحشو، كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور، ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو.
فما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع، وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا بطريق الإلزام، فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده، وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع، فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع لها في هذا الباب.
وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون: لا تعرف إلا بالعقل، بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل، كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك.
فإن(7/351)
الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحياناً بخبر مجرد، كما يأمر أحياناً بأمر مجرد، فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد، ما يبين الطرق التي يعلم لها ثبوت ذلك، وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك، ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية، ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه، فضلاً عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه.
ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقاً عقلياً يعرف به وجود الصانع، أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع، بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء.
تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل
مما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله: هل تحصل ضرورة في قلب العبد؟ أو لا تحصل إلا بالنظر؟ أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة؟..
القائلون بأنها لا تحصل بالنظر
فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الطوائف، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة(7/352)
وغيرهم، إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر، وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد: هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم.
والنزاع لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الوجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد.
فإول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة.
ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر.
وهو أيضاً نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقاً مشروط بالإرادة، وحكى عن أبي هاشم أنه قال: أول الواجبات الشك.
وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم: إن المعرفة يبتديها الله اختراعاً في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم، وغير نظر وبحث، وأنها تقع ضرورة.
ويذكر ذلك عن صالح قبة وفضل الرقاشي وغيرهما(7/353)
وعن الجاحظ أنه قال: معرفة الله ضرورية، وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال، وأن العبد غير مأمون بها.
ويذكر نحو ذلم عن ثمامة بن أشر.
وذكروا عن الجهم أنه قال: معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد، لأن العبد لا يفعل شيئاً.
وقال جمهور طوائف المسلمين: يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر.
بل قال كثير من هؤلاء: إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة، فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره.
وتنازع نظارهم: هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد؟ على قولين.
ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد والرازي والآمدي وغيرهم.
ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر: أن المعرفة قد(7/354)
تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس، وأنها طريق الصوفية، وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر، فإنه قد لا يحصل لهم هذا الجزم.
وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقاً إلى تحصيل معرفة الله، فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى.
كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية
فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب: العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية، وإما أن لا تكون.
فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها، فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية، وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية، أو يلزم، فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية، ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك، وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية، فلا عبرة حينئذ بذلك، فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية) .(7/355)
كلام الآمدي في الأبكار
وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع: (إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال، بل أمكن حصولها بطريق آخر، إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة، وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه، كالمؤيد بالمعجزات الصادقة، وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها، حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية، مطلعة على ما ظهر وبطن، من غير احتياج إلى تعليم وتعلم) .
وقال في الجواب: (قولهم: لا نسلم توقف المعرفة على النظر.
قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله(7/356)
بغير النظر، وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب) .
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم، ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة، وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون: بإيمان العامة: إما لحصول المعرفة لهم ضرورة، وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة، وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة، ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم.
كلام أبي الحسن الطبري الكيّا
كلام أبي الحسن الطبري الكيا
وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام، أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي، قال: (فإن قيل: إذا قلتم: إن النظر واجب والمعرفة واجبة، فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون؟ أهم مؤمنون أم كافرون؟ قلنا: اختلف في هذا علماء الأصول.
أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا، وقال: من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن، وقال: المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة، والنكرة كفر، وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون: إنهم(7/357)
مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين؟ فإن قلتم: إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر، والتجسيم والتشبيه، وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد.
وإن قلتم: لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب، فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل، وذلك هو العلم والنظر) .
قال: (وأما علمائنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون، وأنهم حشو الجنة، إلا أنهم اختلفوا في ذلك، فقال قائلون: إنهم عالمون بالله تعالى، عارفون بالأدلة، إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها، وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم، وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول: سبحان الله وما هذا نظر منه.
وقالوا: لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه، وهذا موجود في حق العامة.
ثم أنهم قالوا في العلوم النظرية: ما قولكم فيها؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجوزوا ذلك فقد أبعدتم، وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم(7/358)
قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتكون المعارف ضرورية) .
قال: (وقال قائلون من علمائنا: هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة، فإن وجدت حكمنا بإنهم عالمون، وإلا فلا.
والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه، وإذا طرأت علية شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك.
وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم، ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به، إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة، أذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه، لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه، وهذا لا يحصل به العلم، وإذا قال: إن العم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد، فهذا عالم حقيقة، كسادات الصوفية، فإن المعارف في حقهم ضرورة) .
قال: (وأما قوله بأن العامة ينظرون.
قلنا: لعمري ذاك كله مبادىء النظر، وما وصلوا إلى غاية النظر، وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء، لأنهم يقولون: العالم حادث، ويجوز أن يكون(7/359)
حادثاً، ويجوز أن يكون قديماً مثلاً، فيعتقد حدوثه لا ينظر إلى الجانب الآخر.
والعالم يستعرض المسالك، ويشرحها بالمدارك، وينهي النظر إلى الغاية القصوى) .
قال: (فإن قيل: كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين؟ قلنا: لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر، ولم يوجب عليهم العلم.
وهذا معلوم بضرورة العقل، مستنداً إلى السمع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق، مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة، بل يجب عليهم نفي الشك عنهم، فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم، وعقائدهم مستقرة، فهم مؤمنون.
ولا نقول: يجب العلم، بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهراً، أو قول بعض المشايخ، أو منام هائل في حق الخصوم، ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم، صح ذلك.
فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم، فعند ذلك لا بد منه) .
قال: (وفي القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي له، كقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} ، وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء.
وكذلك قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} ، {ألكم الذكر وله الأنثى} ، وليس هذا يدل على نفي الولد قطعاً، فمبادىء النظر كافية لهم.
فإن قيل: فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس، فهل يجب على الآحاد؟ قلنا: أجل، يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس، وهو فرض من فروض الكفايات، كالجهاد وتعلم القرآن(7/360)
وغير ذلك من فروض الكفايات.
فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم، بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا: إن العامة عليهم العلم، قالوا: إنه قد يحصل لهم ضرورة، وقد يحصل بالنظر.
والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد، اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة، كسادات الصوفيه.
وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل، وما بعث به الرسول، حتى قد يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن، كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية، أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية.
وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول، مع مخالفتهم لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.(7/361)
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية، مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني، لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل، وذلك أن الله تعالى ليس مماثلاً لشيء من الموجودات، فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم، كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، فإنه سبحانه لا مثل له، وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى، مثل أن يقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات، فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه واجب الوجود، فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه، ولأنه مبدع الممكنات وخالقها، فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه، والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال، كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة.
وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} ، وهم مع هذا يجعلون البنات نقصاً وعيباً، ويرون الذكر كمالاً، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليه بطريق(7/362)
الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات ولهم البنين، لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقاً كما يقول من يفتري على القرآن.
قال تعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون} ، {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} إلى قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} .
فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم، ويجعلون له ما يكرهون، ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى، وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجه مسوداً يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون.
فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سىء.
كما قال تعالى في الآية الأخرى: {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى} ، أي قسمة جائرة.
وقال في(7/363)
الآية الأخرى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} ، فقال تعالى مقيماً للحجة مخاطباً باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه، وأن ذلك مستقر في الفطر: {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} ، فإنه لوقدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولداً، أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين؟! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين، بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين، وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص؟!
ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا} ، وهن الإناث، كما ذكر ذلك في سورة النحل، أي بالذي جعله مثلاً للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلاً أي جعله له مثلاً حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله، فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن، فضرب للرحمن - أي(7/364)
جعل له - مثلاً، يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسوداً وهو كظيم.
ثم بين نقص النساء فقال: {أو من ينشأ في الحلية} ، وهن النساء تربين في الحلية: {وهو في الخصام غير مبين} ، وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها، فبين أنهم من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال، وهي لا تبين في الخصام.
وعدم البيان صفة نقص، فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان، الذي فضله به على سائر الحيوان، كما قال تعالى {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان} ، وقال: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} .
وأهل المنطق يقولون: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} ، وقد قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} ، وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز، فإنه كانت(7/365)
اللات لأهل المدينة، والعزى لأهل مكة، ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف.
وهذه كلها مؤنثة، كما قال في الآية الأخرى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} .
وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه، وسموها بأسمائه مع التأنيث، كما قيل: إن اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من مني يمنى إذا قدر، وكانوا يسمونها الربة، وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، أي من كتاب وحجة، فإن الله تعالى لم يأمر أحداً بإن يعبد أحداً غيره، ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته.
كما قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} .(7/366)
وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد، كما ذكره في سورة النحل، حيث قال: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} الآية، وما بعدها.
وقال: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} .
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك} .
وقال تعالى: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد} .
وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} .
وقالت الجن: {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} .
وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقاً لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج، وظن هو(7/367)
وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن، وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين.
بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} .
وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} .
والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع، وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب، وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب، وما يقوله النصارى، وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم، الذين يقولون بتولد العقول، أو العقول والنفوس عنه.
ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة، ويقول: العقل كالذكر، والنفس كالأنثى.
فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم.(7/368)
ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض، والإبداع خلق الشيء على غير مثال، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما.
والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته، مع استقلال الخالق له وعدم شريك له، والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته، ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه.
تعليق ابن تيمية
وقال تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} ، فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله: {ولم تكن له صاحبة} ، فإن التولد لا يكون إلا من أصلين، وليس في الموجودات ما يكون وحده مولداً لشيء، بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين، وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون: لا يصدر عن الواحد إلا واحد، حتى قالوا: إن الواجب لم يصدر عنه أولاً إلا العقل، ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك.(7/369)
وهذا الكلام، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه، وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات، بل هذا الواحد لا حقيقة له.
وأيضاً فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء، وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين، والماء لا يصدر عنه إلا التبريد، والشمس يصدر عنها الشعاع، ونحو ذلك كلها حجج عليهم، فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها، بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين: أحدهما: النار أو الشعاع أو الحركة، فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة.
والثاني: محل قابل لذلك، كبدن الحيوان والنبات، ونحو ذلك، وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار.
وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه، وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع.
وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الأول الواجب الوجود، الذي(7/370)
يسمونه العلة، هو ذات بسيطة، ليس له نعت من النعوت، وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضاً لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك، وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد، فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة، وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له، ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك، كاشتراك الشمس والمطارح القابلة، واشتراك النار والموارد القابلة.
فقوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} ، بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد.
وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولداً ونتاجاً إنما يكون عن أصلين، فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين: فعل العبد، والأسباب الأخر المعاونة له.
وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من(7/371)
الحيوان، لأن هذين أصلان في التوليد، وهذين أصلان في التولد.
ثم قال تعالى: {وخلق كل شيء} ، وذلك بيان لأنه إذا كان خالقاً لجميع الأشياء، فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع، كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد.
كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا} .
وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ، حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه، فلا يكون عبده من هذه الآية، لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد.(7/372)
وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى، كما في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال: لعل صاحبها يلم بها؟ قالوا: أجل قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟»
فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره، فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين، يصير شريكاً له في التولد، وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده، ولا أن يجعله موروثاً عنه، كما يورث ماله، فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره، فكيف بالولد الذي انعقد منه؟
وكذلك قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} كما، قال في الآية الأخرى: {لقد أحصاهم وعدهم عدا} ، فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه، لا ينفردون عنه بشيء، كما ينفرد الولد عن والده، والشريك عن شريكه.(7/373)
وقوله في الآية الأخرى: {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} ، بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته، وأنها منقادة له، فإذا قال له: كن، كانت.
وهذا مناف للتوليد، بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة (كن) .
وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء، فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له: كن فيكون؟
وأما ما ذكره من قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} ، وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول.
فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن، كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان.
وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق.(7/374)
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، والأول أعظم الطريقين، فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده.
فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع.
كما قال تعالى في سورة البقرة: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} ، فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية.
وقال في قصة البقرة: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} .
وقال في الذين خرجوا من ديارهم: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس} ، الآية - وهي قصة معروفة.
وقال تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم(7/375)
لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} ، فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام، وموت حماره، ومعه طعامه وشرابه، ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد، وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة، وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم، وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات.
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} ، فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلاً مضروباً لاختلاط الأخلاط الأربعة، ثم أحيى الأطيار، وميز بين هذا وهذا، وجعلهن يأتين سعياً إجابة(7/376)
لدعوة الداعي، فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل.
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين، وقصة في إحياء البهائم، وقصة في إبقاء الطعام والشراب، وقصة في إحياء الطير.
وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح صلى الله عليه وسلم للموتى، وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياماً لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا.
وقال في القصة: {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} .
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى.
وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول، ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول، وإخبارهم بها من أعلام نبوته، كما قد بسط في موضع آخر.(7/377)
وأما الصنف الثاني، وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى، فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارةً بخلق النبات، ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات.
وتارةً يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه، وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى.
وتارةً يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض، كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} .
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان.
وقال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} .(7/378)
فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم.
وقال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} .
وقال تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور}
وقال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} .
وقال تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} .
وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} .
وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} .(7/379)
وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد، والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه، كما في قوله: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} .
إلى آخر الآيات، وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه.
فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم، وهي قوله: {أفعيينا بالخلق الأول} .
فإن العرب تقول: عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه، ويقول الرجل: عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو.
وقال الشاعر:
عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامة
فالعيي بالأمر يكون عاجزاً عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه.
فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه، وأن ذلك معلوم عند المخاطب: {أفعيينا بالخلق الأول} ، فلم نكن عالمين بما نصنع فيه، ولا قادرين عليه؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا، وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا؟
وهذا نظير قوله: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات(7/380)
والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} .
تعليق ابن تيمية
ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل، أفلا يكون ذلك دالاً على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى؟
ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية، فظن أن قوله: {ولم يعي بخلقهن} ، وهو من الإعياء: الذي هو النصب اللغوب، وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول، فكيف نتعب في الثاني؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية، كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن، ولا يفرقون بين عيي وأعياء، فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع.
وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول، ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من(7/381)
جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبينوا أنه الجامع لكل خير.
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص، فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم.
ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض، وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب.
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب، فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب.
والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث، فجعلوا القديم الأزلي داخلاً في مسمى الممكن، وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم، مع تناقضهم في ذلك.
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلاً على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل.
وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه، ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح، كما قد بسط في موضعه.
ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات، ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات.
ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات، فكثير(7/382)
من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود، وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول: إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات.
ومآل القولين واحد، وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين، فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود، فمن جعله هو الوجود الواجب، أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك، كان منكراً للصانع.
ثم إذا كان هذا الوجود الواجب، كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه، كما بينا ذلك في غير هذا الموضع.
فمن جعله وجود كل موجود، كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب، ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره، ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل، ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها، ويوقعهم في شر مما منه فروا.
والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال: {أفعيينا بالخلق الأول} ، لم يرد الإعياء الذي هو التعب، وإيما أراد العي، كما تقول العرب: عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه.
وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه.
ومن كان خالقاً لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى.(7/383)
والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته.
ونفي العي يثبت هذه الصفات، فتنتفي أصول شبههم.
فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم، وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات، لا يختلف فعلها، فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك.
وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقاً للمحدثات.
وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات، وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة، دل على الخالق العليم القدير الحكيم، علم فساد قول هؤلاء، فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث، لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولاً لها، فلا يكون مفعولاً لها، ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها، لأن القول في تلك(7/384)
العلة كالقول في هذه، ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له، لأن الممكن لا يكون موجوداً بنفسه، بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه، لأن كون ذلك الممكن محدثاً لها أمر ممكن محدث.
فلا بد له من محدث، فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة، فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له، وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه، لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل.
ووجه الحصر أن يقال: محدث الحوادث: إما أن يكون هو الواجب بنفسه، بوسط أو بغير وسط، أو غير الواجب بنفسه.
وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن.
والممكن إما أن يكون له موجد، وإما أن لا يكون.
والثاني ممتنع.
والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن، فلا بد له من موجد.
فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث، يكون واجباً بنفيه، ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها، وهذا يبطل أصل قولهم.
وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون: إنه صدر عن موجب بالذات.
ويحكى هذا القول عن برقلس.
وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئاً ولا يفعل شيئاً، بل(7/385)
الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى: {ولم يعي بخلقهن} ، فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال، وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى، وبسط ذلك يطول.
ومما يبين خذلان الله لأهل البدع، والمخالفين للكتاب والسنة، أن هذين الأصلين: أمر الولادة، وأمر المعاد، هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم، الذين يقولون: إن العقول تولدت عن الله، وينكرون إحياء الله الموتى.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك.
فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد.
وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» .
وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة، وابن عباس.(7/386)
وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه، وكذبوه بقولهم: لن يعيدنا كما بدأنا، وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب.
قال تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} إلى قوله: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} إلى قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} .
فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد، وعلى من قال: إنه اتخذ ولداً، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الحديث.(7/387)
وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله.
ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى، لا على البرهان الذي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله.
قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} ، بعد قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} .
وقال تعالى في الآية الأخرى: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن} ، أي بما ضربوه للرحمن مثلاً، والمثل الذي ضربوه له هو البنات، وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب.
فقال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} ، ومن قال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة، فله مثل السوء.
والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذا لا كفو ولا ند، فضلاً عن أن يضرب له المثل الناقص، ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي، بل له المثل الأعلى، إذ هو الأعلى سبحانه، والعلم به أعلى العلوم، وذكره أعلى الأذكار، وحبه أعلى الحب.(7/388)
والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، وقال تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} .
ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ، يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك، كما يخاف السادة بعضهم بعضاً، فكيف تجعلون لي شريكاً هو مملوكي، وتجعلونه شريكاً فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني؟.
ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضاً ملك ناقص، فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه، لا يملك عينه، وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته، وملك المستأجر بعض منافع أجيره.
ولهذا(7/389)
يشبه النكاح بملك اليمين، كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.
وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} ، فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكاً للمالك، فكيف بالملك الحق التام لكل شيء؟ ملك المالك للأعيان والصفات، والمنافع والأفعال، الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه، ولا لغيره ملك مفرد، ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه، كيف يسوغ في مثل هذا، أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه؟.
والشرك نوعان: أحدهما: شرك في الربوبية، والثاني شرك في الإلهية.
فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول، أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الإحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل، فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه، وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به(7/390)
وجوده، وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن.
وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما كان من النوع الثاني، فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس.
والثاني الشرك في الإلهية، وضده هو التوحيد في الإلهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء، كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها المضمار، ويتخذونها وسائل تقربهم إليه، وشفعاء يستشفعون بها إليه.
وهؤلاء خلق من خلقه، لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه، وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل.
بل قد قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} .
قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} .
وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في(7/391)
السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} .
وهذا المعنى كثير في القرآن: يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا إذن في ذلك، بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره رباً فاعلاً، يمتنع أن يكون إلهاً معبوداً.
وإذا كان جعل المملوك شريكاً في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعاً يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكاً لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد.
وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره، فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه، كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف.
وكذلك الذي يرجوه، إذا كان إنما يرجو نفعه، وهو لا ينفعه إلا بإذن الله، كان الله هو الذي يجب أن يرجى، إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، بخلاف مملوك البشر، فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده، ولا يمنع من أذن له(7/392)
سيده - فقد يمكنه معصية سيده، وإن كان في معصيته نوع من الفساد.
والخالق تعالى لا يمكن أحداً أن يفعل شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه، فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه، من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده، ومعصية المخلوق لأمره، الذي أرسل به رسله، أعظم فساداً من معصية المملوك لأمر سيده.
قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه وسلم ومناظرته لقومه: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} .(7/393)
قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .
وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} .
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا.
كما قال أهل النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} .
وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .
ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي، ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات(7/394)
ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} ، فطالبهم أولاً بالطريق العقلي، وثانياً بالطريق السمعي.
ونظيره قوله: {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} ، وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك، إذ كان هذا فصلاً معترضاً في هذا المقام.
فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة، كما هو قول الكلابية والأشعرية، وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم، وهو قول طوائف أهل السنة، من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، مع أنهم متنازعون في ذلك، بل كثير من أهل الكلام، بل(7/395)
وجمهور العلماء، يقولون: إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة.
ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى
كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال: (قد قيل: إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى: منها: تعطيل الصنع عن الصانع.
ومنها: تعطيل الصانع عن الصنع.
ومنها: تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته.
ومنها: تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلاً.
ومنها: تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها) .
ثم قال.
أما تعطيل العالم عن الصانع العليم، القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية: أنهم قالوا: كان(7/396)
العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقاً، فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه، ودارت الأكوار وكرت الأدوار، وحدثت المركبات) .
قال: (ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو معترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق، احترازاً عن التعطيل، فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها - على صانع حكيم، قادر عليم: أفي الله شك، {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن(7/397)
الله} ، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} .
قال: وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء، فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء: {دعوا الله مخلصين له الدين} ، {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} .
ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا} ، {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} {وإذا ذكرت ربك في القرآن(7/398)
وحده ولوا على أدبارهم نفورا} .
قال: (وقد سلك المتكلمون طريقاً في إثبات الصانع، وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع، وسلك الأوائل طريقاً آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان، ويدعي كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة) .
قال: (وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه بعد تقديم المقدمات، ودون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتجاج ذاته إلى مدبر، هو منتهى مطلب الحاجات، فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغنى به ولا يستغنى عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويفزع إليه في الشدائد والمهمات، فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب،(7/399)
والحادث إلى المحدث، وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج.
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه} .
{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} ، {ومن يرزقكم من السماء والأرض} ، {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} .
قال: (وعن هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله العباد على معرفته، فاجتالتهم الشياطين عنها» ، فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج، وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة، والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين(7/400)
فإنهم الباقون على أصل الفطرة، وما كان له عليهم من سلطان: {فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى} ، {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} .
ومن رحل إلى الله قربت مسافته، حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع، فيعرف احتياجه إليه في تكوينه، وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه، ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، ثم استشهد به على الملكوت، لا بالملكوت عليه: {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} ، عرفت الأشياء بربي، وما عرفت ربي بالأشياء، ومن غرق في بحر المعرفة، لم يطمع في شط، ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم، العالم القدير، تعالى وتقدس) .
وقال أيضاً في أول كتابه: (قد أشار إلي من إشارته(7/401)
غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم.
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم
فلكل عقل مسرى ومسرح، هو سدرته المنتهى، ولكل قدم محط ومجال، هو غايته القصوى، إذا وصل إليها ووقف دونها، فيظن الناظر أولاً، أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر، ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر، ويتيقن آخراً أن مطار الأفكار، إنما يتعلق بذوات المقدار، وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) .(7/402)
إلى أن قال: (وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال، ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة، فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد، كان اليقين أوفر وآكد: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} ، لا جرم: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} .
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار، أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي نتائج الأفكار، في حال الاختيار) .
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا كله كلام الشهرستاني، وهو من أئمة المتأخرين من النظار، وأخبرهم بالمقالات، وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان، وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم، إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية، دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية، من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر.
وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة.
فإنه، وإن لم يكن مذهباً مشهوراً، عليه أمة من(7/403)
الأمم المعروفة، لكنه مما يعرض لكثير من الناس، ويقوله بعض الناس: إما ظاهراً دون الباطن - كحال فرعون ونحوه - وإما باطناً وظاهراً، كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه، ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون.
لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة، ثابتةبالضرورة، فإن هذا نوع من السفسطة حال يعرف لكثير من الناس: إما عمداً، وإما خطأ.
وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية، والمعارف الفطرية، في الحسيات والحسابيات، وكذلك في الإلهيات.
ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس، في العلوم الطبيعية والحسابية، رأى عجائب وغرائب.
وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات، فإنهم جنس عظيم التفاوت، ليس في المخلوقات أعظم تفاضلاً منه، خيارهم خير المخلوقات عند طائفة، أو من خيرها عند طائفة، وشرهم شر المخلوقات، أو من شرها.(7/404)
قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} .
وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} .
وقال تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} .
وقال تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} .
ونظير هذا كثير.
وكما تنازع النظار في المعرفة: هل تحصل ضرورة، أو نظراً، أو تحصل بهذا وهذا، على ثلاثة أقوال، فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال.
فقالت طائفة من الناس: إنه يجب على كل أحد.
وقالت طائفة: لا يجب على أحد.
وقال الجمهور: إنه يجب على بعض الناس دون بعض.
فمن حصلت له المعرفة او الإيمان عند من يقول: إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه.(7/405)
كلام ابن حزم في الفصل
وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين، كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف بـ الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة: (هل يكون مؤمناً من اعتقد الإسلام دون استدلال، أم لا يكون مسلماً إلا من استدل؟) .
قال: (وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل، وإلا فليس مسلماً) .
قال: (وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال: وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك) .
قال: (وقالت الأشعرية: لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا(7/406)
بعد البلوغ) قال: وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه، وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وبرىء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مسلم مؤمن، ليس عليه غير ذلك.
تعليق ابن تيمية
قلت: القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة، وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر، لا سيما القدرية منهم، فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم، بل هم متنازعون في ذلك.
كلام الأشعري
فقال الأشعري في بعض كتبه: (قال بعض أصحابنا: أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام.
وقال أيضاً: لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف، ماذا يلزمه؟ فقال: عنه جوابان: أحدهما: أن يلزمه(7/407)
النظر ليعرف الحق فيتبعه.
والثاني: يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام، ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه) .
وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان، أو من فروض الكفايات؟ والذين لا يجعلونه فرضاً على الأعيان، منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم.
ومنهم من يقول: بل الواجب العلم، وهو يحصل بدونه.
كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم، كـ الرازي والآمدي وغيرهما.
والذين يجعلونه فرضاً على الأعيان، متنازعون: هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم، أم لا يصح؟ على قولين.
والذين جعلوه شرطاً في الإيمان، أو أوجبوه، ولم يجعلوه شرطاً اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان، ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام.
ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث، كطريق الأعراض والأجسام.
لكن هل يقال: مجرد الاعتقاد الجازم كان كافياً لهم؟ أم لا بد من علم يحصل بالنظر؟ أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية؟ فهذا مما تنوزع فيه.(7/408)
رد ابن حزم
قال ابن حزم: (فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم، وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد) .
(قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس، لا يعلم إلا بالاستدلال، ومن لم يحصل له العلم فهو شاك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه من المسؤول في قبره.
قال: «فأما المؤمن - أو الموقن - فيقول: هو عبد الله ورسوله، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» .
وقال في الجواب: (التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله، بل حرم علينا ذلك.
وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي(7/409)
فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليداً، بل إيمان وتصديق، واتباع للحق، وطاعة الله ورسوله) .
قال: (فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد، الذي هو باطل.
والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل، وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه، لم يذم من اتبعهم أصلاً) .
قال: (وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل، وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما، فإن هذا ينقسم قسمين.
فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يسمع الدلائل، فهذا فرض عليه طلب الدليل، إلا أنه مات شاكاً أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه، فقد مات كافراً، وهو مخلد في النار، بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات، فهذا أيضاً لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان، لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر.
والقسم الثاني: من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه(7/410)
وسلم، وسكن قلبه إلى الإيمان، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل، توفيقاً من الله له، وتيسيراً له لما خلق له من الخير والحسنى، فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان، ولا إلى تكليف استدلال.
وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد، وأصحاب الحديث الأئمة، الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين) .
قال: (وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} .
وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} .
قال: (فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم، وكره إليهم المعاصي، فضلاً منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداءً، وعلى ألسنتهم،(7/411)
ولم يذكر الله في ذلك استدلالاً أصلاً.
وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم، محققون في قلوبهم، أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم، بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة، ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام) .
قال: (وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً، وشاهدناه في ذواتنا يقيناً، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه، ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وفي غاية سكون النفس إليه، وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك، وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان، فنكاد(7/412)
لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لها، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك، فقيل له: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان، وأخبر أنه وسوسة الشيطان، ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقيناً على ما كنا، بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق، وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعاً ولم يره، ثم رآه، فلم يزدد يقيناً بصحة إنيته أصلاً، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط) .
قال: وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا، إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد، فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه، وقاله(7/413)
بلسانه، فهم مؤمنون محققون.
ليسوا مقلدين أصلاً، وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط، ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم، لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمروه باتباعه) .
قال: (وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص الآية، ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان، ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان.
والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلاً، فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً، وإن كانوا صادقين - وليسوا(7/414)
صادقين - فلا برهان لهم، وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته، ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه، فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم، حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به، ولا برهان على سواه، فهو محق مصيب) .
قال: (وأما قولهم: ما لم يكن علماً فهو شك وظن، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال.
قالوا: والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل، فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال، فإن لم يستدل المرء فليس عالماً، وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان، وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال: فهذا ليس كما قالوا، لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال، وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال.
هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها، ولا جاء بتصحيحها قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا لغة، ولا طبيعة،(7/415)
ولا قول صاحب.
وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به، وسواء كان عن ضرورة حسً، أو عن بديهة عقل، أو عن برهان استدلال، أو عن تيسير الله عز وجل له، وخلقه لذلك المعتقد في قلبه، ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء، كما هو ذلك الشيء، وهو غير عالم به، وهذا تناقض وفساد وتعارض) .
قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه: «فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، ولم يقل: فأما المستدل.
فحسبنا نور المؤمن الموقن، كيف كان إيمانه ويقينه.
و «قال صلى الله عليه وسلم: وأما المنافق أو المرتاب» - ولم يقل: غير المستدل - فيقول: «سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» ، فنعم هذا هو قولنا، لأن(7/416)
المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين، وهذا مقلد للناس لا محقق، فالخبر حجة عليهم كافية.
وأما قولهم: إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به، والعلم به لا يكون إلا عن استدلال، فهذا أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم: وأمر به.
فهذا لا يجدونه أبداً، ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه، ونحن لا ننكر الاستدلال، بل هو فعل حسن مندوب إليه، محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه مزيد من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق، وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه، فهذا هو الباطل المحض.
وأما قولهم: إن الله أوجب العلم به، فنعم.
وأما قولهم: والعلم لا يكون إلا عن استدلال، فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً.
وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان) .
قال: (فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان، وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع.
ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم.
يقال لمن قال: لا يكون مسلماً إلا من(7/417)
استدل أخبرنا: متى يجب عليه فرض الاستدلال؟ أقبل البلوغ أو بعده؟ فأما الطبري.
فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ.
قال ابن حزم: وهذا خطأ، لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً) .
قال: وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم، وتقشعر منها جلود أهل الاسلام، وتصطك منه المسامع، ويقطع ما بين قائلها وبين الله، وهو أنهم قالوا: لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ.
ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة، وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم، فقالوا غير مساترين: لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق.
قال: وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم: إنه لا يكون أحد مسلماً حتى يشك في الله عز وجل، وفي صحة النبوة، وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أو كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس(7/418)
والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء: إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر، ولا يصح التصديق إلا بالجحد، ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه، وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو، وأن محمد رسول الله، وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك، نعوذ بالله من الخذلان.
فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة، وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك، وجعلوه أول الواجبات.
ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول، قال إنه لابد من حصوله، وإن لم يؤمر به.
وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم.
والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالماً.
وكلا الأصلين باطل.
أما الأول، فقد عرف الكلام فيه.
وأما الثاني، فإن النظر نوعان: أحدهما: النظر المتضمن طلب الدليل،(7/419)
وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه، كالنظر في مدعي النبوة: هل هو صادق أو كاذب؟ والنطر في رؤية الله تعالى: هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية؟ والنظر في النبيذ المسكر: أحلال هو أم حرام؟
فهذا الناظر طالب، وهو في حال طلبه شاك.
وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم، فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم، وهو النظر في الدليل، كالنظر في الآية والحديث، أو القياس الذي يستدل به، فهذا النظر مقتض للعلم، مستلزم له.
وذلك النظر مضاد للعلم مناف له.
ولما كان في لفظ (النظر) إجمال، كثر اضطراب الناس في هذا المقام، وتناقض من تناقض منهم، فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم، ثم يقولون: النظر يضاد العلم.
فكيف يكون ما يتضمن العلم مضاداً له لا يجتمعان.
فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق.
والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون في القلب ذاهلاً عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم(7/420)
يتقدم ذلك شك وطلب.
وقد يكون عالماً به، ومع هذا ينظر في دليل آخر، لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالباً للعلم، فيلزم أن يكون شاكاً، فصاروا يوجبون على كل مسلم: أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا: هو من لوازم الواجب.
ومن غلطهم أيضاً.
أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ، بل النظر قبل ذلك ممكن، بل واقع، فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر، وإن لم يكن واجباً كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ، فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ، والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل، فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود.
ونظير ذلك: إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ، والبالغ قبل دخول وقت الصلاة، فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت.
والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة، وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل: منها: أن(7/421)
الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال: هل يمكن أم لا؟ وإذا أمكن: فهل يسمى علماً أم لا؟
ومنها: أن لفظ (الضرورة) فيه إجمال.
فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس.
وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه.
وقد يراد به ما لا يقبل الشك.
وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوماً لا يمكن الانفكاك عنه.
ومنها: أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولاً ضرورياً، مع توهمه أنه لم يحصل له، كما يقع مثل ذلك في القصد والنية، فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد، والإرادة محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس، كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه.
ثم إن كثيراً من الناس اشتبه عليهم أمر النية، حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده، ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة، لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة، فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين، حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل، أو جهل بالشرع.
وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها، مع خروجهم عن الفطرة السليمة، التي فطر الله عليها عباده.
ومن المعلوم أن كل من علم(7/422)
ما يريد أن يفعله، فلا بد ان ينويه ويقصده، فيمتنع أن يفعل العبد فعلاً باختياره، مع علمه به وهو لا يريده، فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة، امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها.
وكذلك الصائم إذا علم أن غداً من رمضان وهوممن يصومه، أمتنع أن لا ينويه.
وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة، أمتنع أن لا يريدها.
وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول، أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به، مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج، فيصوم ويصلي ظاناً أن ذلك قضاء بعد الوقت، فهذا نوى القضاء، فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت، إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع.
وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ، أو لتعليم الغير، فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها.
ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة، وأمثال ذلك.
ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقاً بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه، وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه.
ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيماً أو مسافراً يريد الصيام، وبين ما إذا كان مسافراً لا يريد الصيام.(7/423)
فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان، وقد يشك في وجودها، أولا يحسن أن يعبر عن وجودها، أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره، قد يكون حاصلاً في نفس الإنسان، وهو يشك في وجوده، أو يطلب وجوده، أو لا يحسن أن يعبر عنه، لأن وجود الشيء في النفس شيء، والعلم بوجوده في النفس شيء آخر، فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر.
فهكذا عامة المؤمنين: إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب، التي توجب معرفته بالله وبرسوله، ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي، كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله، ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه، كما أن كثيراً من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه.
والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه، ومنه ما يحصل دفعة، كالعلم بما أحسه.
ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها.
وكذلك حصول الإرادة، فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس، كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها، كإرادة دفع(7/424)
الأمور الضارة له، وكإرادة الجائع الشديد الجوع، والعطشان الشديد العطش، لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب.
ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل، فإن هذا قد تحصل إرادته شيئاً بعد شيء.
وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجاً إليه، أو كونه نافعاً له، فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم، وقد تضعف بضعفه، وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته.
ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية، وعلوم فطرية، وأن كثيراً من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها، فيسعون في حصولها، وتحصيل الحاصل ممتنع، فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود، ثم يسعون في وجوده، ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه.
وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب، فيحصل لها معرفته ومحبته.(7/425)
والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته، وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» .
وقد قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع.
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان، فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها.
وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس، فلو كلف بقية الناس بمعرفته، كلفوا ما لا يطيقون، ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها، وإن كان هذا فرضاً على الكفاية.(7/426)
ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا.
والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات، كما قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك، وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسول؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعها منه، وعلم أنه قالها، يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها، وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به.
وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال، وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها.
والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له.
قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها(7/427)
فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} .
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك، شبه الإيمان بالماء النازل، والقلوب بالأودية، فمنها كبار ومنهاصغار، وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض، كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان، وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاءً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك الشبهات تجفوها القلوب، وما ينفع يمكث فيها.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في(7/428)
دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .
وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر، ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظياً.
وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس، وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره.
وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه، سواء كان ذلك التصور ضرورياً أو لم يكن، بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها، فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري، يضطر إليه الإنسان، وهذا اختيار أبي المعالي وغيره.
وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة، من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعاً معنوياً، وليس كذلك.
كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري، والكسبي هو النظري.
ومنهم من يفرق بينهما، فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه، لا في(7/429)
تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه، وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه، فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم.
وقد يختار اكتساب أسبابه.
وهذا في الحسيات وغيرها، كمن يفجأه ما يراه ويسمعه، من غير قصد إلى رؤيته وسمعه، ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه.
والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي.
والثاني يدخل تحت الأمر والنهي.
وأيضاً فمن الناس من يقول: العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء، ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم.
ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضرورياً وبديهياً، وإن كان ذلك مختصاً بنوع من الناس، كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام.
وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه، وجعله له في قلب العبد بدون استدلال، يسميه هؤلاء علماً ضرورياً.
وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضرورياً، فهذا نزاع لفظي.
ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه، جعل هذا كله ضرورياً.
وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر: إن علمنا ضروري، كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي(7/430)
ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى، قال: دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين.
فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين.
فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت بجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين.
فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين.
فقلت: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها.
فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولون: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها.
وتعجبا من هذا الجواب، لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوماً لا يمكنه مع ذلك دفعها.
قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع.
وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات، فإن الشبهات قد أحرقت قلبي.
فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات.(7/431)
والمعتزلة ينفون العلو والصفات، ويسمون من أثبت مجسماً حشوياً، فلما فتح الله تعالى عليه بذلك، قال: والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة، أو كما قال، فإن عهدي بالحكاية من زمان، وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له: من قال: {الرحمن على العرش استوى} فهو مجسم، يقول: فخذ إني حنيئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده، بلاد جرجان وخوارزم.
تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد بن حزم: (ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس، الجم الغفير، إلى الإيمان بالله تعالى، وبه، وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم، وسسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية(7/432)
وإصغاره، ويقبل من آمن به، ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم الإسلام، ومنهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والغلام الصحراوي، والوحشي، والزنجي، والمسبي، والزنجية المجلوبة، والرومي والرومية، والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه، فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك، ولايصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه.
قال: ولسنا نقول: إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد، بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعاً كقطعنا على ما شاهدنا: أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد، ولا رد إسلام أحد حتى يستدل، ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة، أولهم عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر.
ومن المحال(7/433)
الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به، ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام، ويبينه هؤلاء الأشقياء، ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف.
فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع، وخلاف لله ولرسوله، ولجميع أهل الإسلام قاطبة) .
تعليق ابن تيمية
قلت: قبول الإسلام الظاهر يجري على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة: مثل عصمة الدم، والمال، والمناكحة، والموروثة، ونحو ذلك.
وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
وقال: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم» .(7/434)
ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطي الجزية، فيكون مكرهاً على أحد الأمرين.
ومن قال: لا تؤخذ الجزية من وثني قال: إنه يقاتل حتى يسلم.
وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة، فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقاً، وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير هذا موضع، وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع.
كما في قوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} .
وقال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم(7/435)
من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} .
وهؤلاء قد قالت طائفة: إنهم أسلموا ظاهراً مع كونهم منافقين.
وقال الأكثرون: بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلا حقيقة الإيمان، فإنه قد قال فيهم: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم} .
والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع، فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات، ووجوب النظر، بالفاسق الملي، وتكفير أهل البدع، وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس.(7/436)
وبهذا أجابوا عن هذه الحجة، فإنه لما قيل لهم: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين.
قالوا: إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء الإسلام عليه.
فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام.
ولو كان ذلك إيماناً حقيقياً لما قال في حق النسوة المهاجرات: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} ثم يقول: من ترك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا، فلا بد له من حامل يحمله عليه، فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته، وصحة دين الإسلام، فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة، وإن كان الذي يحمله رهبةً منا، أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد: (فإن قالوا: فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات؟ وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه؟ وبدعاء اليهود إلى تمني الموت، ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر؟ قلنا(7/437)
وبالله التوفيق قد قلنا: إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام، ولا دخلها التصديق، فطلبوا منه عليه السلام البراهين، فأراهم المعجزات، فانقسموا قسمين: طائفة آمنت، وطائفة عندت وجاهرت فكفرت، وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولابد، وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام، وخلق في نفوسهم الإيمان، كما قال تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} ، فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية.
وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقاً بلا معرفة باستدلال.
قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل، وقد قال بعضهم: إنهم مستدلون.
قال: وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب، وكل من سمعه يدري(7/438)
أنه فيها كاذب، لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لايدري ما معنى الاستدلال، فكيف يستعمله؟) .
تعليق ابن تيمية
قلت: لفظ الاستدلال فيه إجمال، فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات، فهذا قد يقال: إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل.
وأما الاصطلاح المعين، والترتيب المعين، أو اللفظ المعين، فهذا بمنزلة اللغات، لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة، وليس هذا واجباً بلا ريب.
وإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء، فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه مامنهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك.
وقد قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق، من غير معرفة بقوانين الجدل، فكيف لا يجادل بالحق؟.
وللناس من النظر والمناظرة في صناعتهم وأمور دنياهم، ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم، فكيف في أمور الدين؟
والله سبحانه يقول: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} وقال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} .(7/439)
وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية، فإنهم متنازعون في النظر: هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ وفي الواجب: هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم؟ وهل يسمى ذلك علماً أم لا؟
كلام الجويني في نفي وجوب النظر
وكان أبو المعالي يقول: (لم يكلف الناس العلم، فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام، فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق، وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد، ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علماً، لم يمنع من أطلاقه) .
قال: (وقد كنا ننصر هذه الطريقة زماناً من الدهر، وقلنا: مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة، فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم، ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع) .
قال: (وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن) .
كلام أبي إسحاق الإسفراييني
وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته: (من اعتقد ما يجب(7/440)
اعتقاده هل يكتفي به؟ اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من اكتفى به، ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة) .
تعليق ابن تيمية
قلت: والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان: أحدهما: من يقول: إن أكثر العامة تاركوه، وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون: إن إيمانهم لا يصح.
وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليداً، مع كونهم عصاة بترك النظر.
وهذا قول جمهورهم.
قد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم، كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا: قال أبو حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد، ولكنه عاص بترك الاستدلال.
كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة
وقال الشارح: (هذا يفيد فائدتين: إحداهما: أن الإيمان بالتقليد صحيح، وإن لم يهتد إلى الاستدلال، خلافاً للمعتزلة والأشعرية، فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد، ويقولان بكفر العامة) .(7/441)
وقال: (وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة، لأن من أعطي الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولاً على الكفرة، فلو كان الإسلام لا يصح بالعرض والتقليد، لفات الحكمة في الرسالة، إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة، وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر، كان إيمانه أنور) .
وذكر كلاماً آخر.
تعليق ابن تيمية
قلت: القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه، وهم المؤمنون من العامة وغيرهم، الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة، كطريق الأعراض ونحوها.
وأما كون إيمان العامة تقليداً أو ليس تقليداً؟ وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة؟ فهذا كلام آخر.
وأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف.
والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون: إنه متيسر على العامة، كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما، ممن يقول ذلك.
كلام أبي يعلى في وجوب النظر
قالوا: (فإن قيل: فتقولون بوجوب معرفة الله، ومعرفة نبوة رسله، في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة، وجفاة(7/442)
الأعراب والأكراد، وأهل القصبة والرستاق، ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل؟ قيل: نعم، لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغيير العالم، وما يحدث ويتجدد في أجسامه، من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات، وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال، وإن قصرت عبارته عن أن يقول: إن هذه أمور متجددة طارئة، إنه لا بد للصنعة من صانع، وللكتابة من كاتب.
وقد علم أن انتقال النطفة، إلى أن تصير إنساناً أو بهيمة، أعظم في الأعجوبة، من تحول الفضة خاتماً، والخشبة سريراً وباباً، والغزل ثوباً منسوجاً، وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين، وألفاظ الناظرين، وكما يفرق بين خبر الوحد الذي لا يوجب العلم، وبين خبر التواتر الموجب للعلم، وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد، وبين المشاهدة وعلم اليقين، وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة.
وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث) .
هذه عبارة القاضي أبي يعلي، وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته.
كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
وكذلك قال ابن الزاغوني، وهو من القائلين بوجوب النظر(7/443)
والاستدلال، وحكى ذلك عن عامة العلماء، كما ذكره القاضي أبو يعلي، وابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهم.
قال: (والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين: أحدهما: ما لا يتم الإيمان إلا به، وهو معرفة الله وتوحيده، وأنه صانع الأشياء، وأن الكل عبيده، وأمثال ذلك.
فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي، ونعني بقولنا: العالم، الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة، وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة، وانتصب دافعاً بالحق شبه أهل الاعتراض، على وجه يترجح به الثقة، ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة.
ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في أحراز العلم وكثرة التبحر، وإنما سمي عامياً من جهة قلة العدد في خواص العلماء، بالإضافة إلى من بقي، فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم، والناس غيرهم أعم وجوداً، وأكثر عدداً.
فلهذا سمي من قل علمه عامياً ومن جملة العامة.
ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال.
فإذا ثبت هذا، فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم، غير مقلدين في شيء قدمناه ذكره) .
قال: (وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء، فإما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله) .(7/444)
قال: (والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول: حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس، وسكون القلب إلى معرفة مايعتقد، بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له.
وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة.
وبيان ذلك: أنه لو قيل لأحد من العوام: بم عرفت ربك؟ لقال: بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها، فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر.
وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وإلى السماء كيف رفعت} ، ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها.
وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء، وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببيسط البيان المليح، والتشقيق، والغامض الدقيق.
وفي بيان حكم يدركها العامي فهماً بجنانه، ويقصر عن شرحها بلسانه، فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة، وأحدهما في الكشف أبسط باعاً، وأفصح شرحاً.
وهذا يرجع إلى شيء، وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته، وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع، بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} ، فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به، ولا يوصل إلى ذلك في(7/445)
حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله، فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي، لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه، وهذا خلاف ما نص الله عليه.
دليل آخر: وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد، وما يجب على العامي ترك التقليد فيه، وجدناه سهلاً في مأخذه، قريباً في تناوله، تشتاق النفوس إليه بأنسها، ويستند ذلك إلى شيئين: أحدهما: أن ذلك منوط بالعقل، ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل، والعوام عقلاء.
ويظهر ذلك شرعاً وعقلاً: أما الشرع فلا يكلف إلا عاقلاً، وهو تسليم أموالهم إليهم لرشدهم، ولا رشيد إلا عاقل.
وأما طريق العقل فيما يظهر من ذلك في تدبيرهم، وتدقيق حيلهم، وخفي مكرهم، في تقاسيم أحوال الدنيا.
وقد سطر الناس في ذلك كتباً، وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل، وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله.
والثاني: أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف، حتى تجد النفوس بها مستأنسة، وذلك مثلما يستدل(7/446)
العامي على معرفة أن له خالقاً، فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع، وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه.
أيسرها: أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات، فإذا ثبت ذلك في نفسه، واستقر ذلك في أمثاله من جنسه، واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه، اقتضى ذلك إثبات صانع آخر، يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة، ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية.
وهذا وأمثاله معروف عند العامة، لا يخفى عليهم، وإن عجزوا في بعضه عن الإفصاح بشرحه، والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته، على وجه يزول عنه الشك، ويبعد فيه الريب، ويستضيء به العقل، وتثق به النفس.
وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته، فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة، وهذا جلي واضح.
ولكونه حقاً في نفسه، صحيحاً في معناه، سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي، في احكام ذلك العامة، وهي الخطاب بالأمر والنهي، وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع، وأداء الفرائض(7/447)
واجتناب المحارم، والغسل والتكفين، والصلاة عليهم، والدفن في مقابر المسلمين إلى قبلتهم، والتوارث منهم، وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة) .
قال: (واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء، أو العلم بالمعلوم، وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه، وإذا لم يكن قادراً على بصيرة دليل يكشفه، ولا على دفع شبهة يحلها، لم يكن على يقين فيما علمه، لأنه قد يعترض عليه، فيما عنده شك، ما يوجب نقلته عما كان عليه، أو يعرض له من الشكوك، ما يزيل الثقة بما عنده.
ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة، وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافياً في مقصوده، شافياً في مراده، وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة، فيثبت منها بعض دون بعض.
فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة، فهو غير عارف على الحقيقة، ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك) .
قال: (والجواب أن ما أسلفناه في أول المسألة، هو جواب عما(7/448)
ذكروه، وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد، وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته، لا يعتريه فساد، ولا يدخله نقص، واتفق على ذلك من يساويه في معرفته، ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد، فقد استحكمت ثقته به من وجهين: أحدهما: علمه وتجربته.
والثاني: اتفاق أهل الملة على صحته.
ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة، فإنه قد ثبت عند العامة عموماً، لا يختلف فيه أحد منهم، أن كل جسم مبني مجموع محدث، كان بعد أن لم يكن، ويتوهم نقضه، كما يتحقق بناؤه، وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه، ولا فعله مثله، ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقاً على المفعول، فإذا تساوت الأجسام في هذا، دل على أن الفاعل لها غيرها، وهو من لا يشاركها فيما أوجب بها العجز، وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه، ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به.
وهذا كاف لا يقصر عنه عامي، ولا يقدر على الزيادة فيه عالم، إلا بتحسين العبارة فيه، أو حذف مواد الشبهة عنه.
وهذا أمر زائد على مقدار فهمه، والثقة بصحته، ولهذا كان من فرائض الكفايات) .(7/449)
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: إن جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل، بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به، ولا يعرف أن الهواء يسمى جسماً، بل أكثر الناظرين في العلم، من أهل الفلسفة والكلام، والفقه والحديث والتصوف، لم يعرفوا صحة هذا الدليل، بل قالوا: إن باطل.
والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل، ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحداً إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق، وإنما ابتدعه في الإسلام، من كان مبتدعاً في الإسلام، من الجهمية والمعتزلة ونحوهم.
ولكن الذي يعرفه العامة، والخاصة، إن كل واحد من الآدميين محدث، كان بعد أن لم يكن، وأنه ليس بفاعل نفسه.
ولم يفعله مثله.
ولهذا استدل سبحانه بذلك، في قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} .
وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه، ويعلمون أنواعاً من الادلة غير هذا.
تابع كلام ابن الزاغوني
قال أبو الحسن بن الزاغوني: (وأما قولهم: إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته، ويرفع ثقته، فليس كذلك، من وجهين: أحدهما: أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا، فما يقصر من الشبه(7/450)
فتقصيره يظهر سريعاً.
والنثاني: أنه إذا طرأ على العامي شبهة، فإنه لا يزال يسأل عنها، ويبالغ في التفتيش والتنقير، حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته) .
قال: (وأما قولهم: إن المعرفة ناقصة في حقه، فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة، فهذا محال، لا فهذا مما لا يدخله نقص، وذلك لأن الإنسان: إما عارف بالمسألة، أو غير عارف، ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح، غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية، وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل، وأن الشيء لا يكون معلوماً من وجه، مجهولاً من وجه.
وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة، وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء، من أصحاب أحمد وغيرهم، وقول كثير منهم من أصحاب الأشعري، أو أكثرهم، وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئة.
لكن جمهور الناس على خلاف هذا.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد في روايتين.
وهذا يشبه تنازع الناس في العقل: هل(7/451)
يتفاضل؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل، وهو قول أكثر أصحاب أحمد، وغيرهم من العلماء، كـ التميمي، والقاضي، وأبي الخطاب، وغيرهم من العلماء.
وقالت طائفة: لا يتفاضل.
وهو قول أكثر أصحاب الأشعري، وابن عقيل، وغيرهم.
وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات: هل تكون أوجب من بعض؟ فـ ابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا.
وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا.
والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان، أو يقولون: إن الإيمان لا يصح إلا به، لأن المعرفة واجبة، والمعرفة لا تتم إلا به، فقول جمهورهم: إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب، لا العبارة عنه، ولا يوجبون نظم الدليل بالعبارة، ولا القدرة على جواب المعارض، ويقولون: إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة، وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم، وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة.
وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم، وحب وبغض،(7/452)
ولذة وألم، وغير ذلك، يكون ذلك موجوداً في النفس، يعلم به الإنسان، ولكن وصف ذلك وبيانه، والتعبير عنه، شيء آخر.
وليس كل من علم شيئاً أمكنه أن يصفه، ولهذا يسمى مثل هذا متكلماً.
ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام.
ولهذا يقال: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على عباده.
وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد قيل: إنه من كلام الحسن، وهو أقرب.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه، قليل سائلوه.
وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه، قليل فقهاؤه، قليل معطوه، كثير سائلوه.
فالفقيه الذي تفقه قلبه، غير الخطيب الذي يخطب بلسانه، وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة، ولا يكون صاحبه مخاطباً(7/453)
بذلك لغيره، وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها، وهو عار عن ذلك، فارغ منه.
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة: طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة: طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: طعمها مر ولا ريح لها» .
فبين صلى الله عليه وسلم إن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق، ليس في قلبه إيمان، وآخر يكون مؤمناً قلبه، فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده، ومحبته وخشيته، ما هو من أعظم الأمور، وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى.
ولهذا قال جندب بن عبد الله، وابن عمر، وغيرهما: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيماناً.
وأنتم تتعلمون القرآن، ثم تتعلمون الإيمان.(7/454)
وقد قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} .
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة» .
فأخبر انه أنزل الإيمان في القلوب.
وقد تقدم قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} .
وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن، وشبه القلوب بالأودية، وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي(7/455)
يذهب جفاء، يجفوه القلب ويدفعه، وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع.
وتقدم أيضاً حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .
فقسم صلى الله عليه وسلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم، الذي شبهه بالغيث، إلى ثلاثة أقسام: فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علماً وعملاً.
وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم.
وقسم ثالث لا هذا ولا هذا.
وقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} نظير قوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} .(7/456)
ففي هاتين الايتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل، لا بمجرد العقل الذي كان حاصلاً قبل الوحي.
والناس متنازعون في المعرفة: هل حصلت بالشرع، أو بالعقل؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا؟
والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف، من اصحاب أحمد وغيره.
فإن الناس لهم في العقل: هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها؟ والوجوب والتحريم، قولان مشهوران: أحدهما: أنه لا يعلم به ذلك، وهو قول الأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، والقاضي يعقوب، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما.
والثاني: أنه يعلم به ذلك.
وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم.
وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي الخطاب، وغيرهما من أصحاب أحمد.
وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء، وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، كـ أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأبي نصر السجزي.
وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي، وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة، وذكروه عن أبي حنيفة نفسه.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة، وما فيها من التفصيل، في غير هذا الموضع.
وكذلك المعرفة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟.
فيها(7/457)
نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء.
وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع.
فالإقرار الفطري: كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحصل بالعقل، كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} .
وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} فلا يحصل إلا بالوحي، كما في قوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} .
ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان، كقوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} .
وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} ، وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} .
وقوله: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} إلى قوله: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .(7/458)
وقوله: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} .
وقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وقوله: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} .
وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور الإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته.
وهذا يتعلق بمسألة القدر.
ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقاً لأفعال العباد، ويقولون: إن ما يحصل للعبد من الإيمان، لم يحصل من الله تعالى، بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن، وليس له نعمة على المؤمن، أعظم من نعمته على الكافر، ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا، وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح، لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح.
وأما من قال منهم بقول أبي الحسين: إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي، وإن الله يخلق الداعي، وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما، فهذا موافق لأهل السنة في المعنى، وإن أظهر نزاعهم.(7/459)
والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك، وصاروا يقولون: إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له، لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد، ولا بإلهام وهداية منه، يختص بها من يشاء من عباده.
ولهذا خالفهم المثبتون للقدر، كـ الأشعري وغيره، وقالوا: يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر، فإن هذا عندهم ليس أمراً لازماً، لكنه بحسب العادة.
والمعتزلة يقولون: إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد، وتفضلاً منه عليه، لم يستحق العبد الثواب.
وأهل السنة يقولون: هو محسن إلى العبد متفضل عليه، بأن أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن جعل له السمع والبصر الفؤاد الذي يعقل به، وأن هداه للإيمان، وأن أماته عليه، فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه، وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقاً عليه نصر المؤمن، وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم، فذاك حق أوجبه بنفسه، بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات، لا أن شيئاً من المخلوقات أوجب عليه شيئاً، أو حرم عليه شيئاً(7/460)
والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.
فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم، كـ الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد ومالك والشافعي، يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر، وأن الإيمان لا يحصل إلا به، قال أبو جعفر السمناني، أحد أئمة الأشعرية: (هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الأعتزال لمن اعتقدها، وذلك لكون الأشعري كان معتزلاً تلميذاً لأبي علي الجبائي، ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر، والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون، ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة.
وأصل الكلام المحدث، المخالف للكتاب والسنة، المذموم عند السلف والأئمة، كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم، والمعتزلة قدرية جهمية، وجهم وأتباعه جهمية مجبرة، ثم الأشعري كان منهم، ولما فارقهم وكشف فضائحهم، وبين تناقضهم، وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله، ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام، كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم.(7/461)
وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية، حتى مال إلى قول جهم في ذلك، لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة، كـ الإمام أحمد وغيره.
ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء، ما ليس عن أولئك الطوائف.
ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث، وكانوا هم خير هذه الطوائف، وأقربها إلى الكتاب والسنة، ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة، وخبرته بالكلام كانت مفصلة، فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة، ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث، من أتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة، ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه.
ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف، الموافق للكتاب والسنة، ولصريح المعقول، ويسلكون في الرد على بعض الكفار، أو بعض أهل البدع، مسلكاً سلكته المعتزلة ونحوهم، وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة، فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي، وإلى القول(7/462)
بموجب نصوص الكتاب والسنة، والمعقول الموافق لذلك، فيحصل التعارض والتناقض.
وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار رداً بطرق سلكوها، متى التزموا لوازمها عارضت حقاً آخر معلوماً بالشرع أو العقل.
ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب، وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض، إلا ما جاء من عند الله.
كما قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} .
وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر من تناقض أقوال غيره، ومخالفتها للنصوص والمعقول، ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال، أو أضعف منها، أو أقوى منها.
والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم.
كما قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} .(7/463)
وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» .
رواه أهل السنن.
ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم.
وقد قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} .(7/464)
وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألواناً لا يسعها هذا الموضع، وكثير من نزاع الناس يكون نزاعاً لفظياً، أو نزاع تنوع، لا نزاع تناقض.
فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا، هو معنى اللفظ الذي لا يقوله هذا، وإن اختلف اللفظان، فيتنازعان، لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما، غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر، وهذا كثير.
والثاني أن يكون هذا يقول نوعاً من العلم والدليل صحيحاً، ويقول الآخر نوعاً صحيحاً.
وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب، وكثير منه نزاع في المعنى، والنزاع المعنوي: إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه، وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه.
فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي، وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان، أو توقف صحة الإيمان عليه، ونحو ذلك.
ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة، مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟ صار كثير من المنتسبين إلى(8/3)
السنة، المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم، يوافقونهم على ذلك.
ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم، كـ مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وصنف كتاباً في هذا الباب يقول فيه: (قال أصحابنا) و (اختلف أصحابنا) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام، إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص، فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس، وقد يجتمع فيه الوصفان.
وهذا موجود كثيراً في أتباع جميع الأئمة، فتجد الواحد، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقول: اختلف أصحابنا في أول الواجبات، ونحو ذلك، ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه.
كلام أبي الفرج المقدسي
كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبرصته فإنه قال:(8/4)
(فصل) : في أول ما أوجب الله على العبد المكلف، وفي ذلك وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته، والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال، المؤديان إلى معرفة الله تعالى) .
قال: (وقال قوم: أول ما أو جب الله على العبد الطهارة والصلاة وغير ذلك) .
ثم قال: (دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته، لأنه لا يجوز للمكلف ان يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا، وجب تقدم المعرفة على العبادة) .
قال: (وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} .
قال: (ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته) .
قال: (دليل ثان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد، ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفى الإليهة عما سواه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس(8/5)
حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض، فدل على ما قلناه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول، ولا هذا القول، وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداءً، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه.
كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» .(8/6)
وكذلك سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقه لهذا، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .
وفي حديث ابن عمر: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» .
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلاً، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلماً بدون ذلك.
كما قال أبو بكر بن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد.
لكن تنازعوا فيما إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله: هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن؟ أو يفرق بين من يكون(8/7)
مقراً بالتوحيد ومن لا يكون مقراً، على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب أحمد وغيره من الفقهاء.
ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات، كالشيخ عبد القادر وغيره: أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان.
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلماً، لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين.
والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به.
وهذا أصح الأقوال.
فقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} وهذا بعد قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} .(8/8)
ثم قال تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون.
وقوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} .
فهذا مذكور بعد قوله: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين} .
ثم قال: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم} ، فالضمير عائد إلى المكذبين، فإنه قال تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} ثم قال تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} فقول هؤلاء، كأبي المعالي وغيره: (أول ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم) هو في الأصل من(8/9)
كلام المعتزلة، وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين، ولما تواتر عن سيد المرسلين، بل لما علم بالاضطرار من دينه.
وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر، أو المعرفة، أو الشهادتان، أو ماقيل، فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ، إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ، فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية، لا سيما إذا كان النظر مستلزماً للشك، المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان، فيكون التقدير: اكفر ثم آمن، واجهل ثم أعرف، وهذا كما أنه محرم في الشرع، فهوممتنع في العقل، فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً، فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكناً، أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً، كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه، فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة، لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة، من نظر ينافي المعرفة، أو شك أو نحو ذلك، بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله، مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها، بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية.(8/10)
وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال، فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه، ولهذا يقال: الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع.
وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ، وكذلك لوكان عليه ديون فقضاها، أو قضاها وليه، لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ، بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ، ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء، ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة، وهو قول في مذهب أحمد.
ومن الناس من يضعف هذا القول، ولعله أقوى من غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً من الصبيان بإعادة الصلاة، مع العلم بأن كثيراً منهم يحتلم بالليل.
وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها.
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ.
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمناً بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً(8/11)
بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله، ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر، أو يمكن حصوله بدونه؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة؟ والنظر المحصل لها: هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين؟ هذه مسائل أخر.
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي، وبعضه معنوي.
فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة، التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم.
كان النزاع معه معنوياً.
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بهذه الطرق، ولا علق إيمانه، ومعرفته بالله بهذه الطرق، بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق.
ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة.
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر، لا يمشي على(8/12)
قول من يقول: لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور، وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع، لا وجوب على من لم يبلغ ذلك.
وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين، وإن كان لم يتكلم بهما، وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة.
وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة.
فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا، أو إذا ميزوا.
كما «قال صلى الله عليه وسلم: مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» .
ولهذا قال الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما: يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع.
ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين، ولا نظر ولا استدلال، ونحو ذلك.
ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوب ذلك، يسبق وجوب الصلاة، لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك: إما بلفظه وإما بمعناه، فإن نفس الإسلام والدخول فيه إلتزام لذلك.(8/13)
وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها، فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام.
فإن قال هؤلاء: يعني بكونه أول الواجبات: أنه أول العبد من الواجبات؟ قيل: قد يؤدي قبل ذلك واجبات: من قضاء الديون، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، والعدل وغير ذلك.
فإن قيل: لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة، بخلاف ما أدي بدونه، فإنه لا ثواب فيه في الآخرة؟.
قيل: مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع، فلا يثاب لا على هذا وعلى هذا قبل مجيء الشرع، ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع، وإذا خاطبه الشارع الناس، فإنما يأمر العبد ابتداءً لما لم يؤده من الواجبات دون ما أداه.
فلم يخاطب المشركين ابتداءً بالمعرفة إذ كانوا مقرين بالصانع، وإنما أمرهم بالشهادتين، ولو لم يكونوا مقرين بالصانع، فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين، بل أمرهم بالشهادتين ابتداءً.
والشهادتان تتضمن المعرفة،(8/14)
فلو أقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم، ولم يخرجوا بذلك من الكفر، ولم يرتب خطابهم بذلك شيئاً بعد شيء، بل خاطبهم بالجميع ابتداءً.
وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر، فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة، ومن تبعهم على هذه الطريقة، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما.
وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقاً.
أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية، إن كانوا من أهلها، فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله.
فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل.
وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث.
وأما من له عهد، فذلك لا يكره على الإسلام، فهو في مهلة النظر دائماً.
ولوطلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدةً، ورجا بذلك إسلامهم، ولم يخف مفسدة راجحةً، أمهلهم.
والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن، وينظر في دلائل الإسلام، أمناه.
كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} .
وأما من قال بالوجوب العقلي، كما هو قول المعتزلة والكرامية، ومن(8/15)
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء: أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها.
لكن أخد كلامهم من أراد أن يبنية على أصوله من الأشعرية ونحوهم، فتناقض كلامه.
ومن قال بالوجوب العقلي إذا قال: أول الواجبات المعرفة كان ذلك أقرب، ثم له أن يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع، وجعل أحدهما شرطاً في الآخر، فلا يقبل لأحدهما دون الآخر، ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده.
وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم.
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يجب على هذا ابتداءً ما لا يجب على هذا ابتداءً، فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين، وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها.
وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهراً، وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها.
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحداً بعد واحد، ليس هو أمراً يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد(8/16)
يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا.
فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة، فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداءً من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة، ونحو ذلك من واجباتها، أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة، هو أول ما يؤمر به هذا.
وهكذا الواجبات العقلية: إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها.
فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون، وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع، وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته، وأمثال ذلك.
وكما أنهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علماً وعملاً.
كلام أبي الحسين البصري عن العلم
وقد سلك طائفة من أهل الكلام، من المعتزلة ومن وافقهم، ترتيباً معيناً في العلم الواجب على كل مكلف، وزعموا أنه لايمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص، كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وأمثاله، حيث قالوا: (ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم، ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم، وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح، لكي يؤمن أن يصدق الكذابين، وليس يعلم أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه،(8/17)
عالم باستغنائه عنه، ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم، ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم، ولا يعلم أنه قديم، ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء، ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته، ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي، ولا نعرف موصوفاً بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته، وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة، ولا معروفة باضطرار، ولا طريق إليها إلا أفعاله) .
قال: (فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل) .
ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام، وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول، استحال أن لا يكون له أول، لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سوداً.
تعليق ابن تيمية
فقد جعل الدين كله مبنياً على هذا الترتيب، المبني على هذه المقدمة، التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم.
وهذا هي أصول الدين عندهم، وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين، بل جمهور عقلاء العالمين، بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن(8/18)
الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها، ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفاً عليها.
وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع.
فقوله: لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون، بل أكثر الناس.
وقوله: (لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون.
وقوله: (لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون.
وكذلك ما ذكره من قوله: (ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته) ومراده نفي الصفات، والقول: بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون.
وقوله: (إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار) ينازعه فيه طوائف آخرون.
فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله.
ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر، وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء.(8/19)
ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام، وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها، تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها، لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها.
فهذا يذكر عدداً من المنازل والمقامات وترتيباً.
وهذا يذكر عدداً آخر وترتيباً.
ويقول هذا: إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا، حتى يحصل له كذا، وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا، ويقول هذا: عدد المنازل مائة، ويقول الآخر عددها أكثر، وأقل.
ثم هذا يقسم المنازل أقساماً يجعلها الآخر كلها قسماً.
ويذكر هذا أسماء وأحوالاً لا يذكرها الآخر.
وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم، فإذا كان ما قالوه حقاً، فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة.
أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب، وهذه الانتقالات، فهذا باطل.
وكذلك أيضاً نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله، وما يذكرونه، من الحدود والأقيسة، والانتقالات الذهنية، فغاية كلامهم - إذ كان صحيحاً - أن يكون ذلك وصفاً لما تسلكه طائفة معينة.
أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة، فهذا كلام(8/20)
باطل.
فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين، وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين، وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين، كل هذا مع كونه في نفسه مشتملاً على حق وباطل، فالحق منه لا يوجب الحصر، ولكن هو وصف قوم معينين، وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق.
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع.
وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس، يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر.
فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي.
إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك، وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك، بل يظنه صدقاً، ما لا يحصيه إلا الله.
وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات، ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات، لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملاً لجميعهم، وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه: يصف أحدهم طريق طائفة، ثم يجعله عاماً كلياً، ومن لم يسلكه كان ضالاً عنده، ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن(8/21)
يكون صواباً.
ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق، فيجيء من سلك غير ذلك الطريق: يبطله بالكلية، ويرد ما فيه من الصواب.
وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع، وفصلنا القول فيها.
وبينا منشأ الغلط، فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل.
والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به، والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به.
وهذا الذي اتفقوا عليه حق، لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك.
لكن الشارع عرف بالموجود، وأثبت المفقود.
فتحسينه: إما كشف وبيان، وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان.
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب، والقبح ما حصل به الذم والعقاب، ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان، والذم والعقاب مناف للإنسان.
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع، لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة، والمحبة،(8/22)
والرضا، بل جعلوا كل مراد محبوباً مرضياً.
ثم قال هؤلاء: الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوباً باتفاق المسلمين، فلا يكون مراداً، فيكون وقوع ذلك بدون إرادته، فيكون في ملكه ما لا يريده، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون.
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
والكفر والفسوق والعصيان.
مراد له فيكون محبوباً مرضياً، فيكون محباً راضياً، فيكون محباً راضياً بالكفر والفسوق والعصيان، فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وإن لم يلتزموه.
وأولئك قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، فلزمهم أن يكون عاجزاً مغلوباً، وإن كانوا لا يكرمون عجزه.
فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك، وأولئك لم يجعلوا الحمد، والله تعالى له الملك وله الحمد.
هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته، وأنه معبود محمود حكيم عادل، فقصروا في ذلك، ونقصوه موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته.
وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته، لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته، ورحمته وحمده.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.(8/23)
والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب، كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب.
وأما الحصول فكثير من الناس يقول: المعرفة لا تحصل إلا بالعقل، وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً إلا بالعقل.
وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى، لا إثباتاً ولا نفياً.
كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية، ويجعلون أصول الدين هي: العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع.
ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلاً وشرعاً كطريقة الأعراض، وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص.
وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة.
ويقابلهم آخرون فيقولون: المعرفة لا تحصل إلا بالسمع، ولا تحصل بالعقل.
وربما قالوا: إنه لا يمكن حصولها بالعقل.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهم مستلزم صحة الآخر.
فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله، وتوحيده، وصفاته، وصدق أنبيائه.
ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي.
والعقليات(8/24)
لا تتضمن السمعي.
ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات، وطعن في العقليات، ومنهم من عكس.
وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية.
ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين
وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظياً.
وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد سلكوا الطريقة الأولى، ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة، حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد، وهو أبو الفرج صدقة ابن الحسين البغدادي صنف مصنفاً سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة، مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم، فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل؟ ومن أي طريق تجب؟ وأن يبين اختلاف الناس في ذلك.
وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل، هل هو النظر أو المعرفة؟ وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة، واختلفوا في طريقه.
قال: (فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة: طريق الوجوب هو العقل) .(8/25)
ثم قال: (وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة.
لأنهم إذا سئلوا مطلقاً عن معرفة الله، وقيل لهم: بم يعرف الله؟ قالوا: بالشرع، من غير فصل بين الوجوب والحصول) .
قال: (وقد نبهتهم على هذا غير مرة، فما هبوا من رقدتهم، ولا انتبهوا من سنتهم) .
ثم ذكر قول الإمامية والباطنية، وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم، دون نظر العقل.
وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه.
وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة، وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم بالسمع، ومنها ما يعلم بهما.
فالذي لا يعلم إلا بالعقل: علمنا بأنه لا بد من موجود قديم، لأن الكل لو كان حادثاً لكان حادثاً بلا سبب.
وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول، فلا حاجة فيها إلى الرسول.
بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقه.
والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة، وما يتعلق بالآخرة من الجنة، والنار، وعذاب القبر، والحساب، والميزان، وغير ذلك.
قال: (فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليفصل الشرع،(8/26)
وليشرح أمر الآخرة.
فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل، فهو متقدم على قول الرسول، فكيف يكون مستفاداً من قول الرسول؟ فمعرفة المرسل إذاً تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه، فكيف يعرف بقول الرسول؟ قال: وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعاً، فهو كرؤية الله تعالى، وكونه خالقاً لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل.
ثم قال: (وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ، وقال في موضع آخر {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، وقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ، فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية، وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم، وقدم الصانع، من غير شرط، على ما نبنيه من بعد) .
قال: (ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب، وبالبناء على الباني، وبالكتابة على الكتاب، من غير سماع خطاب) .(8/27)
قال: (وآثار صنع الباري - عزت قدرته - في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل.
وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله، يقع له العلم بوجود الصانع.
إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع، ولا مخلوق بلا خالق) .
قال: (والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة، لأن إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه.
فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات، والنظر متقدم على المعرفة، لأنه طريق إليها، وطريق الشيء متقدم عليه، فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب، وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه، وإلا فالواجب الأول هو المعرفة.
يعني: الواجب قصداً) .
قال: (والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به.
والدليل على ذلك أن المعرفة إما تكون واقعة مبتدأة، كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة، وإما أن تكون واقعةً عن طريق، كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس، وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه، نحو معرفتنا(8/28)
بمكة من جهة الخبر، وإما أن تكون بالاستدلال، كاستدلالنا بالبناء على الباني) .
قال: (ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بأن العشرة أكثر من الخمسة، لأنه لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه، كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة أكثر من الخمسة.
ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى، ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس، لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا، ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر، لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة، وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة.
ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام، كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة، لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب، قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان، وليس على أحدهما دليل يدل عليه، ولأن من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعي خلافه.
فإنه إذا قال: ألهمت بكذا.
فيقول خصمه: وأنا ألهمت بكذا.
فكان العمل به عملاً بلا دليل.
ألا ترى أن صاحب الشرع أمرنا بالاجتهاد عند(8/29)
فقد النصوص؟ هو عمل بدلالة النصوص، كما روي في حديث معاذ) .
قال: (ولا يلزم على هذا التحري في الأواني وغيرها في الشرع، فإنه عمل بشهادة القلب، لأنه هناك ليس ثم دليل سواه.
وذلك ليس من قبل ما ذكرنا، لأن الإلهام لا يصلح حجة لإلزام الحكم على الغير، وكذلك التحري أيضاً لا يصلح للإلزام على غيره، وإنما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة.
أما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل: إما الكتاب، أو السنة، أو إجماع، أو قياس، فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل.
فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر) .(8/30)
قال: (فإن قيل: بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلاً؟ قيل: بأن تبين في كل مسألة تبييناً عقلياً يفضي النظر فيه إلى العلم.
فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل؟ قيل: الدلالة على ذلك: أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم.
فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه، وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة، لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم، فيجب تقدم العلم بالله وحكمته، وأن هذا الرسول رسوله.
وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله، لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة، فيجب تقدم العلم بالله، فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل) .
قال: (فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى؟ قيل: نفسك وسائر ما تشاهدوه من الأجسام.
فوجه دلالة(8/31)
الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال، فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير.
ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت.
فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب، أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل.
ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره.
وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه.
فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما.
فإن كان من غير جنسه فهو قولنا.
وسنبطل سائر الأقسام، ونثبت هذا الأخير.
أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب، فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب، كالكلام فيمن شكل الإنسان، ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه.
فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة، لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج.
وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان.
ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو(8/32)
الذي غير نفسه من حال إلى حال، لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر.
وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز، ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه، لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما، ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون؟ ويريدانه ذكراً فيكون أنثى، ويريدانه أنثى فيكون ذكراً؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر.
فصح أن للإنسان فاعلاً مخالفاً له، وهو الله تعالى) .
قال: (فإن قيل: فكيف يدل غير على الله؟ قيل: إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.
وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثاً إذ لم يتقدم الحوادث، والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة، وكل محدث يحتاج إلى محدث) .
قال: (وهذا الكلام يشتمل على أصلين: أحدهما: أن الأجسام محدثة، والثاني: أن كل محدث يحتاج إلى محدث.
أما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة، ولا(8/33)
يصح أن تثبت صفة لشيء وتنقى صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة، والصفة التي نثبتها والصفة التي ننفيها.
فيجب أن نذكر ما الجوهر وما الجسم وما القديم وما المحدث.
ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض، الذي هو الحركة والسكون، والكون والاجتماع والافتراق، ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه، وجب أن نبين ما العرض، وما الكون، وما الحركة، وما السكون، وما الاجتماع والافتراق، فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده، ويصح أن تحله الأعراض، ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه، ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو والجسم هو المؤلف، عند قوم: هو الطويل العميق.
والقديم هو: الموجود الذي لم يزل، والذي لا أول لوجوده والمحدث هو، الذي لوجوده أول.
والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام.
وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضاً.
قال الله تعالى: {هذا عارض ممطرنا} وذلك نحو الحركة والسكون.
والحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان، والسكون لبث الجوهر في المكان أكثر من وقت واحد، والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان، والاجتماع كونا جوهرين متماسين، والافتراق كونا جوهرين غير متماسين) .(8/34)
قال: (وإذ قد ذكرنا حدود هذه الأشياء، فلندل على حدوث الأجسام.
فنقول: إن الأجسام لم تسبق الحركة والسكون المحدثين، وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث) .
ثم إنه ساق هذه الحجة إلى آخرها.
كما ساقها من قبله، مثل ابن عقيل ونحوه، وقبلهم أبو الحسين البصري، وأمثاله الذين هم أئمة هذه الحجة، وقد ذكرنا سياق أبي الحسين لها فلا حاجة إلى تكريرها.
وقال: (فإن قيل: فما تقولون فيمن حصلت له هذه المعرفة بمجرد التقليد أو غيره؟ أيكون عارفاً بالله مؤمناً؟ قيل: نعم، إلا أنه يكون مأثوماً بترك ما وجب عليه من النظر) .
تعليق ابن تيمية
قلت: أما هذه الحجة: حجة الأعراض، فقد عرف اعتراض الناس عليه وذمهم لها.
وأما الحجة المتقدمة، وهي الاستدلال بحدوث الإنسان، فإنها حجة صحيحة، وهي من الحجج التي دل عليها القرآن وأرشد إليها.
والمقصود هنا أن هذا وأمثاله ممن يقولون: إن المعرفة لا تحصل إلا بالعقل، ويشنعون على من يقول: إنها تحصل بالسمع، من(8/35)
أصحابهم وغير أصحابهم، إذا تدبر كثير من كلام أصحابهم الذين ينازعهم هؤلاء، تبين أن نزاعهم لهم ليس في نفس ما ثبت معرفته بمجرد العقل، بل في أمر آخر.
والمعنى الذي أراد أولئك أنه يحصل بالسمع، ليس هو المعنى الذي اتفقوا على أنه لا يحصل إلا بالعقل، كما ذكر ذلك الشريف أبو علي بن أبي موسى وغيره.
وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم، فالنزاع بينهم وبين كثير من أصحابهم قد يكون لفظياً، وقد يكون معنوياً، فإن المقدمات التي حصروا بها المعرفة في طريقهم ينازعهم الناس في كل واحدة منها، وإن تنوع المنازعون.
وهذا كله بناء على أن دلالة السمع هي مجرد خبر المخبر الصادق، كما هو اصطلاح هؤلاء.
وأما إذا عرف أن دلالة السمع تتناول الأخبار، وتتناول الإرشاد والتنبيه والبيان للدلائل العقلية، وأن الناس كما يستفيدون من كلام(8/36)
المصنفين والمعلمين الأدلة العقلية التي تبين لهم الحق، فاستفادتهم ذلك من كلام الله أكمل وأفضل.
فتلك الأدلة عقلية باعتبار أن العقل يعلم صحتها إذا نبه عليها، وهي شرعية باعتبار أن الشرع دل عليها وهدى إليها.
فعلى هذا التقدير تكون الدلائل حينئذ شرعية عقلية.
وعلى هذا فقد يقال: الأدلة الشرعية نوعان: عقلي وسمعي.
فالعقلي ما دل الشرع عليه من المعقولات، والسمعي ما دل بمجرد الإخبار.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أئمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية.
وأما على اصطلاح أولئك، فكثيراً ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبري، وهو مجرد خبر الشارع الصادق، فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية، التي زعموا أن المعرفة لا تحصل إلا بها.
فأما المقدمة الأولى، وهي قولهم: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لا بد لها من طريق، فهي من موارد النزاع.
فإذا قيل لهم: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة، لم يكن لها على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء، الذي هو: إما فاسد، وإما ناقص.
وقولهم: إن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال.
يقول لهم المنازعون: لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك، بل جمهور العقلاء(8/37)
مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك.
ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى، وجد نفسه ذاكرةً له مقبلة عليه، كما إذا ذكر له ما هو عنده من المخلوقات.
والمتجاهل الذي يقول: إنه لا يعرفه، هو عند الناس أعظم تجاهلاً ممن يقول: إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك، والمدائن والوقائع، وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة.
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل، وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع.
فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى، إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده، وحاجته معلقة به سبحانه وتعالى، بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له، وخواطر العباد وإرادتهم لا نهاية لها.
وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر، بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات.
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً في الباطن، كما قال له موسى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} .(8/38)
وقال تعالى عنه وعن قومه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} .
ولهذا قال: {وما رب العالمين} على وجه الإنكار له، قال له موسى: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} وقد زعم طائفة أن فرعون استفهم استفهام استعلام، فسأله عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية عجز موسى عن الجواب.
وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام إنكار وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له، طالباً للعلم بماهيته.
فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو، فإن هذا إنما هو سؤال عما يجهل، وهو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطرة أعظم من معرفة كل معروف، وهو سبحانه له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو في السماء إله وفي الأرض، فأهل السماوات والأرض يعرفونه ويعبدونه، وإن كان أكثر أهل الأرض، كما قال(8/39)
تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} .
ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأمهم: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} وهذا استفهام إنكار يتضمن النفي، ويبين أنه ليس في الله شك.
وقول القائل: ليس في هذا شك، يراد به أنه قد بلغ في الظهور والوضوح ولزوم معرفته، إلى حيث لا ينبغي أن يشك فيه، وإلى حيث لا يشك فيه.
وعلى كلا التقديرين يتبين أن الإقرار بالصانع بهذه المثابة.
وأما الطريق الثاني، وهو إدراك الحواس، فلا ريب أنهم لا يقولون إنهم يدركونه بالحس الظاهر، بل يقولون: إن الحس نوعان: ظاهر، وباطن.
والإنسان يحس بباطنه الأمور الباطنة، كالجوع والعطش، والشبع والري، والفرح والحزن، واللذة والألم، ونحو ذلك من أحوال النفس، فهكذا يحسون ما في بطونهم من محبته سبحانه وتعظيمه، والذل له، والافتقار إليه، مما اضطروا إليه وفطروا عليه، ويحسون أيضاً ما يحصل في بواطنهم من المعرفة المتضمنة لمثله الأعلى في قلوبهم.
والإحساس نوعان: نوع بلا واسطة، كالإحساس بنفس الشمس والقمر والكواكب، وإحساس بواسطة: كالإحساس(8/40)
بالشمس والقمر والكواكب في مرآه، أو ماء، أو نحو ذلك.
والقلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها، فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساساً باطناً تجليه فيها.
وأيضاً فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى أمر ممكن، وإن كان ذلك قد يقال: إنه مختص ببعض الخلق، كما قال أبو ذر وابن عباس وغيرهما من السلف: «إن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده» .
وقال ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين.
فهذا النوع إذا كان ممكناً، وقد قيل: إنه واقع، لم يمكن نفيه إلا بدليل.
وأما الرؤية بالعين في الدنيا.
وإن كانت ممكنة عند السلف والأئمة، لكن لم تثبت لأحد، ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم على قول بعضهم.
وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره، لكن هذا باطل، لأنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه.(8/41)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت» .
وقد بسطنا الكلام على مسألة الرؤية في غير هذا الموضع، وبينا أن النصوص عن الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة هو الثابت عن ابن عباس من أنه يقال: رآه بقلبه، أو: رآه بفؤاده.
وأما تقييد الرؤية العين فلم يثبت، لا عن ابن عباس ولا عن أحمد.
والذي في الصحيح «عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه» !.
وقد روى أحمد بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واعتمد أحمد على قول أبي ذر لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة، وأجابه - وهو أعلم بمعنى ما أجابه به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ثبت أنه رآه بفؤاده، دل ذلك على مراده.(8/42)
وأما قولهم: لا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر، لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة، إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة، وليس أحد يخبر بالله عن مشاهدة.
فهذا مما ينازعهم فيه المنازعون، ويقولون: ليس من شرط أهل التواتر أن يخبروا عن مشاهدة، بل إذا أخبروا عن علم ضروري، حصل العلم بمخبر أخبارهم، وإن لم يكن المخبر مشاهداً.
والمعرفة بالله قد تقع ضرورة، وإذا كان كذلك أمكن المعرفة بتصديق أخبار المخبرين عن المعرفة الحاصلة ضرورة، إلى ترى أن ما يخبر به الناس عن أنفسهم من لذة الجماع، وكثير من المطاعم والمشارب، بل ولذه العلم والعبادة والرئاسة، وحال السكر والعشق، وغير ذلك من الأمور الباطنة، تحصل المعرفة بوجودها بالتواتر لمن لم يجدها من نفسه، ولا عرفها بالضرورة في باطنه؟ وليست أمراً مشاهداً، بل إطباق الناس على وصف رجل بالعلم أو العدل أو الشجاعة أو الكرم أو المكر أو الدهاء، أو غير ذلك من الأمور النفسانية التي لا تعلم بمجرد المشاهدة يوجب العلم بذلك لمن تواترت هذه الأخبار عنده، وإن لم يكن المخبرون أخبروا عن مشاهدة، وكذلك الإخبار عن ظلم الظالمين.(8/43)
ولهذا كانت العداله والفسق تثبت بالاستفاضة، ويشهد بها بذلك، كما يشهد المسلمون كلهم أن عمر بن عبد العزيز كان عادلاً، وأن الحجاج كان ظالماً.
والعدل والظلم ليس أمراً مشاهداً بالظاهر، فإن الإنسان أكثر ما يشاهد الأفعال كما يسمع الأقوال، فإذا رأى رجلاً يعطى ويقتل، شاهد الفعل، أما كونه قتل بحق أو بغير حق، أو أعطى عدلاً وإحساناً، أو غير عدل وأحسان، فهذا لا يعلم بمجرد المشاهدة، بل لابد من دخول العقل في هذا العلم.
وكذلك من لا يعرف الطب والنحو: إذا رأى ما تواتر عند أهل الطب والنحاة من علم أبقراط وجالينوس وأمثالهما، والخليل وسيبويه، علم أن هؤلاء علماء بالطب والنحو، وإن لم يعرف هو الطب والنحو وليست معرفة المخبرين بذلك عن المشاهدة.
بل وكذلك إذا تواتر عنده كلام الناس بالإخبار عن علم مالك والشافعي وأحمد ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأمثالهم بالفقه والحديث، علم علمهم بذلك، وإن كان المخبرون لم يخبروا عن مشاهدة لكن من رآى كلام هؤلاء، من أهل الخبرة بالفقه والحديث، علم بالضرورة أنهم علماء بذلك، ثم هؤلاء يخبرون بذلك غيرهم.
فيتواتر ذلك عند هؤلاء.(8/44)
وكذلك القضايا الحسابية، كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك، هو ضروري لمن علمه، فإذا أخبر أهل تواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك، وإن كانوا إنما أخبروا عن علم ضروري.
وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب، يعلمه من باشره وجربه ضرورة، ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر.
ولهذا كان العلم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم، كان صادقاً معروفاً بالصدق لا يكذب متواتراً عند من لم يباشره، لأن الذين جربوه من أعدائه وغيرهم كانوا متفقين على أنه صادق أمين، حتى أن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان حين سأله من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا.
فأخبر أنه - هو وغيره من قريش - لم يكونوا يتهمونه بالكذب، فضلاً عن أن يخبروا عنه بالكذب، وكانوا يسمونه الأمين.
ولما كان أبو سفيان مخبراً بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك، مع قيام المقتضى للتكذيب لو كان قد كذب، استفاد هرقل بهذا أنه لا يكذب.
فقال: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
وهذا وأمثاله باب واسع، فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالماً بالضرورة، سواء كان المخبر مشاهداً أو لم يكن.(8/45)
وأما طريقة الإلهام، فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب، هو عند أهله علم ضروري، لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض، فلا يمكن أن يكون باطلاً.
وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام، فتلك مسألة أخرى، ليس هذا موضعها، والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما، وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان، قد يعنيه هذا بالإلهام.
وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع، فإن هذا باطل، بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها.
وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهاماً، فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل.
فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرفها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفياً عاماً لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل.
نعم، من نفى تلك بحسب علمه، لم ينازع في ذلك.
فإذ قال: لا أعلم طريقاً آخر، أو لم يحصل لي ولمن عرفته طريق آخر، كان نافياً لعلمه ولما علم وجوده، لا نافياً للأمور المحققة في نفس الأمر.(8/46)
كلام العلماء في ذم علم الكلام
فهذا الكلام وأمثاله يرد على النزاع المعنوي، ولهذا كان كثير من الفضلاء، الذين يوجبون هذه الطريقة ويصححونها، قد رجعوا عن ذلك، وتبين لهم ذم هذا الكلام، بل بطلانه، كما يوجد مثل ذلك في كلام غير واحد منهم، مثل أبي المعالي، وابن عقيل، وأبي حامد، والرازي وغيرهم، من الذين يصححون هذه الطريق، بل يوجبونها تارة، ثم إنهم ذموها أو أبطلوها تارة.
قال أبو المعالي في آخر عمره: (خليت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهوا عنه والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز، وإلا فالويل لابن الجويني) .(8/47)
وسأل رجل ابن عقيل فقال له: هل ترى لي أن أقرأ الكلام، فإني أحسن من نفسي بذكاء؟ فقال له: (إن الدين النصيحة، فأنت الآن على مابك مسلم سليم، وإن لم تنظر في الجزء - يعني الجوهر الفرد - وتعرف الطفرة - يعني طفرة النظام - ولم تخطر ببالك الأحوال، ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض، وهل يبقى العرض زمانين، وهل القدرة مع الفعل او قبله، وهل الصفات زوائد على الذات، وهل الاسم المسمى أو غيره، وهل الروح جسم أو عرض، فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه، فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن، وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة، فبئس الاعتقاد والرأي) .
قال: (ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك، وأخرج كثيراً منهم إلى الإلحاد بشم روائح الإلحاد من فلتات(8/48)
كلامهم، وأصل ذلك كله أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه ما علمه هو من حقائق الأمور، وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعات، ولما راموا ما وراءها ردوا إلى مقام غايته التحكيم والتسليم، وهو الذي يزرى به طائفة المتكلمين على أهل النقل والسنة، وتسميهم الحشوية، وإليه ينتهي المتكلمون أيضاً، لكنهم يتحسنون بما ليس لهم، وبما لم يتحصل عندهم، فهم بمثابة من يدعي الصحة بتجلده وهو سقيم، ويتغانى على الفقراء وهو عديم، والعقل، وإن كان للتعليل طالباً، فإنه يذعن بأن فوقه حكمة إلهية، توجب الاستكانة والتحكيم لمن هو بعض خلقه) .
قال: (وإنما دخلت الشبه من ثلاث طرق ترجع إلى طريق واحد، وذلك أن قوماً نظروا إلى أن العقل هو الأصل في النظر(8/49)
والاستدلال، اللذين هما طريقة العلم، فإذا قضى العقل بشيء عولوا عليه، فلما قضى بوجود صانع لهذا العالم المحكم بالقواعد أثبتوه، ثم نظروا في أفعاله، فرأوا هدم الأبنية المحكمة، وشاهدو جزيئات لم تأت على نظام الكليات، ومضمار تعقب منافع، فجحدوا الأول بالآخر، ففسد اعتقادهم في الكل، بما عرض لهم من اختلال الجزء، وقالوا: إن دل الإحكام على حكيم، فقد دل الاختلال على الإهمال، فشكوا.
والقبيل الآخر أثبتوا صانعاً للكليات، وأضافوا الشرور إلى صانع آخر، فثنوا بعد أن وحدوا.
والقبيل الآخر عللوا بما انحرم بعلل لم تشف غليل العقل، فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا، وقالوا: خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد، فسلموا لمن استحق التسليم، وهو الصانع، وهذه طائفة أهل الحديث) .
قال: (وهذا الذي يقال له مذهب العجائز، وإليه كل عالم محق) .
قال: وقد ظن قوم أن مذهب العجائز ليس بشيء، وليس كذلك.
وإنما معناه أن المدققين لما بالغوا في النظر، فلم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات، وقفوا مع هذه الجملة التي هي(8/50)
مراسم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: قول القائل: (إن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا ذلك) فيه تفصيل.
وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد، وطفرة النظام، وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك.
فهذا قد لا يخطر ببال الانبياء والأولياء، من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم، تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع، وصار هذا كالنهي عن المنكر، وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه، ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين الصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات، وبينوا بطلانها لمن سألهم.
والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال، ويسألونه عن(8/51)
أنواع من المسائل، ويوردون عليه أنواعاً من الأسولة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه.
والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طريق المناظرين لهم، والمسائل التي ناظروهم فيها، علم ما كانوا يقولونه، كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسأئل الفقه، مثل مسألة قتل المسلم بالذمي، أو القتل بالمثقل ونحو ذلك، فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل - مما نقل - ما لم ينقل.
وأما الخوض في مسألة الروح: هل هي قائمة بنفسها، أم هي عرض؟ فكلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة في أن الروح: عين بنفسها تخرج من البدن، وتصعد وتعرج، وتنعم وتعذب، وتتكلم وتسأل وتجيب، وأمثال ذلك أكثر من أن يمكن سطره هنا، فكيف يقال: إن الصحابة ماتوا وما عرفوا هل الروح عين قائمة بنفسها، أو صفة من الصفات؟ وإن كانوا هم كانوا لا يتخاطبون بلفظ الجسم والعرض.
وكذلك قول القائل: إن الصحابة لم يعرفوا هل الصفات زوائد على(8/52)
الذات، ليس بسديد.
فإن كلام الصحابة في إثبات الصفات لله تعالى أكثر وأعظم من أن يمكن سطره هنا، بل كلام الصحابة في إثبات الصفات العينية الخبرية التي تسميها نفاة الصفات تجسيماً، أكثر من أن يمكن سطره هنا، وكلامهم وكلام التابعين صريح في أنهم لم يكونوا يثبتون ذاتاً مجردة عن الصفات.
وأما اللفظ: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ فلفظ مجمل، فإن أراد به المريد أن هناك ذاتاً قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا لا يقوله أهل الإثبات، ولا الصحابة.
وإن أراد به أن الصفات زائدة على الذات المجردة التي يعترف بها النفاة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة، فالسلف والأئمة لم يثبتوا ذاتاً مجردة حتى يقولوا: الصفات زائدة عليها، بل الذات التي أثبتوها هي الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها، وهذا المعنى متواتر في كلام الصحابة.
ففي الجملة: المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها، وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات.
والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم، وقد تخطر بباله فيدفعها، أو يسمعها من غيره فيردها، فإن ما يلقيه الشيطان(8/53)
من الوسواس والخطرات الباطلة ليس لها حد محدود، وهو يختلف بحسب أحوال الناس.
وأما ما ذكره ابن عقيل من قوله: (ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ...
إلى آخر كلامه) فهذا كله في العلل الغائية، وحكمة الأفعال وعواقبها، ومسائل القدر والتعديل والتجوير، فإن ابن عقيل كان - لكثرة نظره في كتب المعتزلة وما عارضها - عنده في هذا الأصل أمر عظيم، وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس.
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري، والقاضي أبي بكر، ومن وافقهم في أصل قولهم، وإن كان يختلف كلامه، كالقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وطوائف لا يحصيهم إلا الله، ينكرون التعليل جملة، ولا يثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم.
والمعتزلة يثبتون تعليلاً متناقضاً في أصله وفرعه، فيثبتون للفاعل تعليلاً لا تعود إليه حكمة، ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد(8/54)
أراد به الفاعل كل من هو صالح له أو أصلح، وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك، ويتكلمون في الآلام والتعويضات، والثواب والعقاب، بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى.
وفي ذلك الحكاية المشهورة لأبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي لما سأله عن إخوة ثلاثة: مات أحدهم قبل البلوغ، والآخر بلغ فكفر، والآخر بلغ فآمن وأصلح، فرفع الله درجات هذا في الجنة، والصغير جعله دونه في الجنة، والكافر أدخله النار.
فقال له الصغير: يارب ارفعني إلى درجة أخي.
قال: إنك لا تستحق ذلك، فإن أخاك عمل عملاً صالحاً استحق به ذلك.
فقال: يارب إنك أحييته حتى بلغ، وأنا أمتني، فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل.
فقال له: إنه كان في علمي إنك لو بقيت لكفرت، فاخترتك إحساناً إليك.
قال: فصرخ الكافر من النار: يارب فهلا أمتني قبل البلوغ ما فعلت بهذا؟ قالوا: فما سأله عن ذلك انقطع.
ولهم على الكلام أبي الحسن اجوبة لها موضع آخر.
والمقصود هنا أن ابن عقيل نظر في تعليلات المعتزلة فرآها عليلة، ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة، خلافاً لما كان(8/55)
ينصره شيخه القاضي أبو يعلى: فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة، ويقر بالعجز عن التفصيل.
والقاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها، وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزيئة، كما يشخد ذلك في المخلوقات والمأمورات، وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات، وهو مذهب كثير من النظار، أو أكثرهم، في تعليل المخلوقات، كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
ولم يرد ابن عقيل بقوله: (وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات) .
والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع، وإثبات الصفات له، والمعاد، ونحو ذلك، فإن تلك عند ابن عقيل وامثاله برهانيات يقينيات، فكيف يجعلها عند(8/56)
الأنبياء والسلف إقناعيات؟ ولكن أراد بذلك، الإقناعيات في تعليل أفعاله.
وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم، ومنتهاهم من المعرفة في ذلك.
وأما الأنبياء عليهم السلام، والسلف رضوان الله عليهم، فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وأمثاله، ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية، كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غايتها، لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق، والصحابة بعدهم أفضل الخلق، فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل.
ثم إنهم لما نظروا - مع فرط ذكائهم - ولم يصلوا إلا إلى هذا، ظنوا أنه لا غاية وراءهم، فقالوا ما قالوا.
وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق، فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه، كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء، صاروا إذا رأوا شخصاً ظهر عنه ما يدل على كمال عقله، وعظم علمه وفضله، ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة، يجعلون قوله هو منه ورأينا من كلامه ما يناقض قول الفلاسفة، يقول ذلك الفيلسوف الفاضل: هذا والله قد عرف حقيقة قولنا، ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه، إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه، ثم(8/57)
يبقى حائراً: هل فوق قولهم ما هو أكمل منه، لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم، مع حسن قصده وعدله، قد عدل عنه إلى قول يناقضه؟ أو ليس فوقه ما هو أكمل منه؟ لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه.
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم، وإن كان مظهراً للإنكار عليهم، وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية، يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، مع عدم علمهم بمعانيها.
وإن كانوا من نفاتها قالوا: إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن: ولا يعلمون مدلول النصوص.
ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها، والسلف عندهم أعظم الناس، جعلوا هذا غاية السلف.
وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين: أحداهما: أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه، لا بدليل عقلي ولا سمعي.
الثانية: أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان، فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه، وفي معرفة الأنبياء والسلف به، وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة، فجعلوا ذلك(8/58)
منتهى غيرهم، فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه.
وقد رأينا من ذلك أموراً، حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، والشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام.
فالطوائف المقصرة الضالة تجد حكايتهم للمنقولات، مثل نظرهم في المعقولات، فلا نقل صحيح، ولا عقل صريح.
وكل من كان أبعد عن متابعة الأنبياء، كان أبلغ في هذين الأمرين، حتى ينتهي الأمر إلى القرامطة الباطنية، الذي مبنى أمرهم على السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات.
ثم الشيعة أقرب منهم، فكان عندهم من السفسطة والقرمطة بحسبهم، والمعتزلة خير منهم، فهم أقل سفسطة وقرمطة، ولكن دخل من ذلك عندهم، بحسب ما فيهم من مخالفة الكتاب والسنة، أمور كثيره.
كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام
وابن عقيل لما خبر كلام المعتزلة لم يرض طريقهم، فلهذا ذكر أن(8/59)
الناس ثلاث طوائف: طائفة شكت لما رأت وجود الشر والضرر في العالم.
وطائفة قالت بالأصلين وهم الثنوية.
والطائفة الثالثة عللوا ما انخرم بعلل لم تشف غليل العقل - كما فعلت المعتزلة - فلما لم يستقم لهم التعليل، جنحوا وقالوا: خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد، فسلموا لمن استحق التسليم، وهو الصانع.
قال: (وهذه طائفة أهل الحديث) وهذا بناءً على إثبات الحكمة والغاية والتعليل من حيث الجملة، والاعتراف بجهلة من جهة التفصيل، وذكر أن هذا منتهى كل عالم محق، وهذا مبلغ علم من انتهى إلى هنا.
ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم، كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية، وينكر على من يسميها صفات، ويقول: إنما هي إضافات، موافقة للمعتزلة، كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه، واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه كف التشبيه بكف التنزيه) في كتابه منهاج الوصول، وتارة يثبت(8/60)
الصفات الخبرية، ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات، وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهي عنه، كم فعله في كتاب الأنتصار لأصحاب الحديث، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور.
وكذلك يوجد هذا وهذا في كلام كثير من المشهورين بالعلم، مثل أبي محمد بن حزم، ومثل أبي حامد الغزالي، ومثل أبي عبد الله الرازي وغيرهم.
ولابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف، كما قال في الفنون، ومن خطه نقلت، قال: (فصل: المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول(8/61)
فتفلسفوا، واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا، لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يقلى إليهم من الاطلاع، وجميعاً خوارج على الشرائع، هذا يتجاسر إن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي، فلا على هؤلاء أصبحت، ولا على هؤلاء أمسيت، لا كان مذهب جاء على طريق السفراء والرسل، يريد تعلم بيان الشرايع، وبطلان المذاهب والتوهمات، والطرايق المخترعات: هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرجً، أوتحريم معاملة، أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوي وأحكام؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء: هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف.
وهؤلاء المفتون يفنون عن الأخبار تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، هم الذي سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: الحملة العدول، فقال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين.(8/62)
فالخارج - وإن خفقت بنوده، وكثرت جموعه، وسمي بالملك - يبعد أن يضرب له دينار أو درهم، أو يخطب له على منبر، أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة، بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك، وتخشى من أن يقابله بقتال، أو يصافه بحرب، لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل، وللملك - وإن قل جمعه - صولة الحق، وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم: هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة، فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزاله المرض، ويصبح على أرض أخرى، ومنزل(8/63)
بعيد، وطبه مجازفة، لأنه يأمن الموافقة والمعاينة.
والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة من الأدوية، وإن عجلت سكون الألم، فإنها غير مأمونة الغوائل، ولا سليمة العواقب، لأن ماتعطى الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب، فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه.
لأنهم عن نقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون، فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة، والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون، كتهجم البرخشتي، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات، فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفيه عليهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن في أمتي محدثين ومكلمين، وهو ما يلقي من الفراسات والدرايات، كما نطق به عمر.
قيل لهم: لو نطق(8/64)
عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير، لما التفت إلى واقعته، ولا يبتنى الشرع على فراسته.
ألاتراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ وقال في الكلالة ما قال.
يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه، ويسمع الغناء من أمرد وحرة، ويأكل من الحرام شبعة، ويرقص كما تشمس الخيل، لا يسأل الفقهاء، ولا يبنى أمره على النقل، يقول بواقعة، ويقول أتباعه: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولاً؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين.
هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات، والاجتماع على اللذات، وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يجرئون الشباب والأحداث، وعلى البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات.
وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية، بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل، ولا أحوال المتكلمين: لا التكشف ولا البحث، بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات، وجد وتشهير في الأعمال والطاعات،(8/65)
فنصيحتي لأخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام.
وقد خبرت طريقة الفريقين: غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح.
والمتكلمون عندي خير من المتصوفة، لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص، ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال، والتشبيه هو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال، مما يسقط المشايخ من عيني، وإن نبلوا في أعين الناس أقداراً وانساباً، وعلوماً وأخطاراً، إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع: عدتي كذا وكذا، يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه، تخرج عن سمت الشرع، فذاك مختلق طريقة، وكل مختلق مبتدع، ولو كان في ترك النوافل، لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان.
قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل(8/66)
عن رجل استمر على ترك الوتر: هذا رجل سوء.
أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخاً يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه وسلم، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة، أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة، الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه، كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها.
اصحاب الحديث رسل السفير: الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه، ولا يتم اتباع إلا بمنقول، ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان، وما عداهما تكلف لا يفيد.
وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقلةً وفقهاء، ولا نعرف فيهم ثالثاً.
أصحاب أسواق وصفقات وتجارات، لا ربط ولا مناخ للبطالات، يا أصحاب المخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع.
يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع، ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد، ولا لأبي بكر وعمر، ولا الشيعة عندي من زار المشاهد، وأنشد المراثي والقصايد.(8/67)
السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء، واحتذى الرسم، واتبع الأمر، وكف عن النهي وتنزه عن الشبه، ووقف عند الشك، وتفرغ من كل علم خالف النقل، وإن كانت له طلاوة في السمع، وقبول في القلب، ليس قلبك معياراً على الشرع، مالله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه، وما أحدثوا وعولوا على ما رووا، ولا على ما رأوا، الصبر على الرواية مقام الصديقين.
قال الخضر للسفير: {إنك لن تستطيع معي صبرا} لأن مستحسناً برأيه ومستقبحاً برأيه لا يتبع، لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح، حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ولا ابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع، وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام، وأهل الإرادة والعبادة، كلام كثير من هذا الجنس.
كما قد تقدم تكلم في ذلك طوائف من اهل العلم والدين، لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام،(8/68)
كان ذمه لمنحرفه العباد أكثر من ذمه لمنحرفه أهل الكلام، وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء، لاسيما في العتزلة، وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع، ومن غلب عليه طريقة أهل التصوف.
وهذا يوجد كثيراً في كلام أهل الزهد والعبادة، لا سيما المعظمين لطريق الصوفية، فمثل أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي طالب المكي، وأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وأبي حامد الغزالي، وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون، فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم.
ومثل أبي بكر بن فورك، وأبن عقيل، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي عبد الله المازري، وأبي الفرج بن الجوزي، وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون، فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتاله أعظم.
وقد قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» .
رواه الترمذي وصححه.
وكان طائفة من السلف يقولون: من فسد من الفقهاء ففيه شبه من(8/69)
اليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى.
فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود، واليهود يقرأون كتبهم ويعظمونهم.
ومن كان فيه بدعة، من أهل العبادة والتصوف والزهد، تجدهم يذمون اليهود أكثر مما يذمون النصارى، وتجد النصارى يميلون إليهم، وقد يحصل من مبتدعة الطائفين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم، وهذا موجود كثيراً، كما دل عليه الكتاب والسنة.
وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد، مثل ابن عقيل، وصدقه بن الحسين، وغيرهما، هي التي ذكرها أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى: بـ اللمع في الرد على أصحاب البدع وهو أشهر مختصراته، وقد شرحوه شروحاً كثيرة، ومن أجلها شرح القاضي أبي بكر له.
كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى
وهذه السياقة النتقدمة هي سياقة أبي الحسن في اللمع فإنه قال في أوله: (إن سأل سائل: ما الدليل على أن للخلق صانعاً صنعه، ومدبراً دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الإنسان، الذي(8/70)
هو في غاية الكمال والتمام، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً ودماً، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته، وتمام عقله، ولا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً، ولا أن يخلق لنفسه جارحة، فدل ذلك على أنه قبل تكامله، واجتماع قوته وعقله، كان عن ذلك أعجز، لأن ما عجز عنه في حال الكمال، فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم، لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم، ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك، فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال، وأن له ناقلاً نقله من حال إلى حال، ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر) .
قال: (ومما يبين ذلك أيضاً: أن القطن لا يجوز أن يتحول(8/71)
غزلاً مفتولاً، ولا ثوباً منسوجاً يغير صانع ولا ناسج، ومن اتخذ قطناً فانتظر أن يصي رغزلاً مفتولاً، ثم ثوباً منسوجاً، بغير صانع ولا ناسج، كان عن المعقول خارجاً، وفي الجهل والجاً، وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصراً مبنياً، فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الآجر، وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلاً، فإذا كان تحول النطفة علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم عظماً ودماً، أعظم في الأعجوبة، كأن أولى أن يدل على صانع صنعها، أعني النطفة، ونقلها من حال إلى حال) .
قال: (وقد قال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} ، فما استطاعوا بحجة أن(8/72)
يقولوا إنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون، ومع كراهتهم له فيكون.
وقال تنبيهاً لخلقه على وحدانيته: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الدليل مبني على مقدمتين: على تحول الإنسان من حال إلى حال، وأن ذلك لا بد له من صانع حوله من حال إلى حال، وكلتا المقدمتين ضرورية.
والأولى هي مسألة حدوث صفات الأجسام، كما تقدم بيانه، وأن من أهل الكلام من يقول إن: المشهود هو حدوث الصفات لا حدوث الأعيان، وإن أكثر الناس على خلاف ذلك.
وهذا هو طريقة القرآن، ولكن حدوث الصفات هي أقرب الطرق إلى طريقة القرآن، وأما الثانية فهي ضرورية، ولهذا لم يذكر أبو الحسن عليها دليلاً، لكن كثير من أصحابه يقولون: إنها طريقة، موافقةً منهم لمن قال ذلك من المعتزلة.
كلام الباقلاني شرحاً لكلام الأشعري
ولهذا اعترض من اعترض من المعتزلة على كلام أبي الحسن، فأجابه(8/73)
القاضي أبو بكر على أصله بجواب ذكره.
قال القاضي أبو بكر: (أعلم أنه إنما ضرب المثل بما ذكره من القطن واللبن لظهوره في نفوس العامة والخاصة، واعتقاد جميعهم لجهل من جوز تنضد البنيان، واجتماع الآجر والتراب، وتصوير المصنوعات بغير صانع ولا مدبر، وأنت لو اعترضت كل من سلمت حاسته، وصح عقله، فسألته: هل يجوز وجود ما ذكره من ضروب المحكمات بغير صانع، مع العلم بأنها لم تكن كذلك من قبل؟ لمنع ذلك ولاستجهل قائله، لتقدم الأدلة وتقررها على فساده، في نفوس العامة والخاصة، وإن كانت العامة تقصر عبارتها عن عبارة الخاصة، وألفاظ المتكلمين، وطريق المستنبطين في التعبير، وقولهم: لم تجد كتابة إلا من كاتب، ولا ضرباً إلا من ضارب، ولا بناءً إلا من بان، وإن استحالة وجود ضرب من لا ضارب، وبناء من لا بان، كاستحالة ضارب لا ضرب له، وبان لا بناء له، وقد تقرر هذا المعنى في نفوسهم، وإن قصروا عن تأديته، وصار مقارناً للعلوم الضرورية، وصار المخالف فيه عند سائرهم كالمخالف فيما يدرك من جهة الحواس) .
قال: (وجملة القول في هذا الباب أنا لا ندعي، ولا صاحب(8/74)
الكتاب، أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع، شيء يدرك من جهة الضروريات وتعلم صحته من طريق درك الحواس، لكنه يدرك بالاستنباط، فإذا حصل في نفوس من يجوز أن يشك في هذه المسألة، وفي صانع الأشياء التي غاب عنها، نظير لما يشك فيه، ومثل لما ارتاب فيه، رده إليه، وجعله أصلاً معه في تصحيح ما ينبغي تصحيحه، وكشف ما يرجى له كشفه) .
قال: وقوله: لو أن منتظراً انتظر اجتماع المصنوعات من غير صانع كان متجاهلاً، كلام صحيح، لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع، كما يستحيل في العقول وجود صانعاً لا صنعة له، وكاتب لا كتابة له، فتعلق الصنعة بالصانع، كتعلق الصانع في كونه صانعاً بوجود صنعته، واستحالة أحد الأمرين في المعقول كاستحالة الآخر) .
قال: (وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل، وإنما نذكر ضروباً من ضروب الصنائع تقريباً بذكره، وليس القصد بذكره تخصيص تعليقه بالصانع، وإنما يراد بذلك وجوب تعلق سائر المصنوعات بصانع صنعها، فاعرف ذلك) .
وذكر كلاماً آخر إلى أن قال: (فإن قال قائل: فما الدليل الآن(8/75)
على أنه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها، ومدبر دبرها؟ وكيف وجه تعلق الإنسان وغيره من المصنوعات، بفاعل ومدبر صنعه وقصده، متى لم يكن هو الفاعل لنفسه؟ قيل له: قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك، وقد مضى شرحنا له، حيث قلنا: إن تعلق الفعل بالفاعل، كتعلق الفاعل في كونه فاعلاً بفعله.
ثم نقول في الدليل على ذلك: إنه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا هذه الأمور - التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات - معان محدثات، وإن كان لا يقر بأنها أفعال، كلم في أصل هذه المسألة، وقرر معه القول بوجوب حدوثها، فإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة.
وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال، لأنه إذا قال: ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل؟ فقد أثبتها أفعالاً، فإذا أنكر أن تكون أفعالاً، فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله، ولكن قد يسوغ أن يقول: ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف؟ وإن لم يسلم أنه فعل، لشبهة تدخل عليه.(8/76)
فإذا كان الأمر على ما وصفنا، رجعنا فقلنا: الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل، أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود، ويتأخر بعضها عن بعض، وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه، بدلاً من الوجود، وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلاً من العدم.
فإذا كان هذا وصفها، قلنا: لا يخلو ما تقدم منها: أن يكون متقدماً لنفسه، أو لمعنى يوجد به، أو لا لنفسه ولا لعلة، أولمقدم قدمه، وكذلك حكم القول فيما تأخر منها، فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون إن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه، لأنه قد يتقدم على ما هو جنسه، وتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته، كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات، فلو كان ما تقدم منها متقدماً لنفسه، لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له، ولا كان المتأخر منها بالتأخر أولى منه بالتقدم، إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه، وناب منابه، واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلاً له.
وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض، وتأخر بعضها عن بعض - فإن ما تقدم منها، فالتقدم أولى منه بالتأخر، وما تأخر منها، فالتأخر أولى منه بالتقدم - دليل على أنه لا يجوز أن يكون(8/77)
المتقدم منها متقدماً لنفسه، ولا المتأخر منها متأخراً لنفسه، ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدماً لعلة توجد به، لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة - إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد - أولى من وجودها بغيره.
ووجود سائر ما جانسها، بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية بالتقدم، الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه، حتى تتساوى في الوجود، ولا يتأخر بعضها عن بعض، لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة.
على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدماً لعلة، والمتأخر عنها متأخراً لعلة، لكانت علة التقدم قبل علة التأخر، إذ كانت موجودة مع المتقدم، الذي هو قبل المتأخر.
ولو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون لعلة ايضاً، ما تقدمت إحدى العلتين على الأخرى، لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد، لأنهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود، ولو ثبتا معنى من المعاني.
وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين، على صاحبه لنفسه وجنسه.
ووجود الشيئين في زمانين متغايرين، لا يخرج(8/78)
الوجود عن حقيقته، فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان، كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان، ومن جنسها.
وإذا كان كذلك، وجب أن يكون تقدم إحدى العلتين للأخرى لعلة ثانية، والقول في الثانية وفي وجوب تعليقها بثالثة - إذا كانت متقدمة لعلة - كالقول في الأولى.
وكذلك القول في علة التأخر، وهذا يوجب ما لا نهاية له من الحوادث، وذلك محال.
فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل، أقر أن الفعل يتعلق بالفاعل، وكان حكم المعلول حكم العلة، ففي ذلك ما أردناه.
وإن امتنع من تعلق العلة المقتضية لوجود ما يوجد به الفاعل، دخل عليه ما كلمناه به آنفاً: من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان، بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له) .
قال: (وسنبين بعد هذا أن الجواهر المعدودات، ليست بذوات ولا أعيان ولا جواهر قبل وجود الأعراض، وأنها لم توجد إلا مع وجودها.
وإنما لم نقدم هذا الباب في هذه الدلالة لعدم حاجتنا(8/79)
إليه، وذلك أنا نجعل مكان قولنا: (تقدمت الجواهر بعضها على بعض) ، أن نقول: إن بعضها ينتضد قبل بعض، وبعضها يتفرق قبل بعض، وبعضها يجتمع قبل بعض، وأنه لا يجوز أن يكون ما ينتضد منها منتضداً لنفسه، وما افترق منها مفترقاً لنفسه لقيام الدليل على تماثلها، وأن ما اقتضاه ذوات بعضها من الأحكام اقتضاه ذوات سائرها، وفي العلم بأن منها ما يكون مجتمعاً منتضداً، ومنها ما يكون متفرقاً متبايناً، دليل على أنه ليس الذي اقتضى لها ذلك ذواتها، وإن كانت تلك العلة فعلها فاعل، فصارت بوجودها على صفة ما ذكرناه من الاجتماع والافتراق، فصح أن الأفعال تتعلق بالفاعل، وأن تلك العلة إذا كانت متعلقة بالفاعل من حيث كانت فعلاً محدثاً، وجب أن يكون هذا سبيل الجسم، إذ كان فعلاً لمساواته لما تعلق بالفاعل فيما لو كان متعلقاً به.
وهذا إقرار بتعلق الأفعال بالفاعل) .
قال: (ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدماً لا لنفسه ولا لعلة، لأنه كان يجب أن لا يكون بالتقدم - في وقت تقدمه - أولى منه بالتأخر، ولا بالتأخر أولى منه بالتقدم، ولا كان هو بأن يكون متقدماً لا لنفسه ولا لعلة، أولى من تقدم ما هو مثل له في زمانه، لا لنفسه ولا لعلة، وفي العلم بكون المتقدم أولى منه بالتأخر، والمتأخر(8/80)
أولى منه بالتقدم، وإن وصفه بالتقدم والتأخر يفيد فوائد متغايرة، لا تجري مجرى الألقاب التي لا تفيد - دليل على أنه لا يجوز أن يكون ما تقدم منها متقدماً لا لنفسه ولا لعلة) .
قال: (وفي فساد هذه الأقسام التي لا يخلو الأمر منها في التقدم والتأخر، دليل على أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر) .
قال: (وهذا أحد ما يعول عليه في وجوب تعلق الأفعال بفاعل) .
قلت: مضمون هذا الكلام أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان، والتخصيص لا بد له من مخصص، لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر، وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفساد بالضرورة، ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح، لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر، فلا بد له من مرجح، وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه أبو الحسين، وأبو المعالي، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم: قرروا افتقار المحدث(8/81)
إلى المحدث بأن ذلك تخصيص بأحد الجائزين، والتخصيص بأحد الجائزين لأنه لا بد له من مخصص، وهذا عندهم مختص بالمحدثات، ولا يتصور عندهم ممكن قديم حتى يستدلوا بافتقار الممكن المتساوي الطرفين إلى مرجح لأحدهما، أو مرجح لوجوده.
وذكر القاضي أبو بكر أن ما ذكر من ضرب المثل باللبن إذا صار بناءً، والغزل إذا صار ثوباً، إنما هو لأجل ظهور ذلك في نفوس العامة والخاصة، لا لأن أحداهما مقيس على الآخر.
وذلك أن كثيراً من المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم، يقررون ذلك بالقياس على أفعال العباد، فيقولون: كما أن الكتابة لا بد لها من كاتب، والبناء لا بد له من بان، فكذلك الجسم المحدث لا بد له من فاعل للقدر المشترك، لأن العلة الموجبة افتقار الأصل المقيس عليه إلى الفاعل، هي موجوده في الفرع المقيس، لأن افتقار الأصل إلى الفاعل إنما كان لحدوثه، وهذا موجود في الفرع ...
إلى سائر كلامهم المعروف في مثل هذا.
فذكر القاضي أبو بكر أنه لا حاجة إلى هذا، بل افتقار أحداهما كافتقار الآخر، وقرر الجميع بالطريقة التي ذكرها، وهو قوله: (لأن(8/82)
الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع، كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له، وكاتب لا كتابة له، فتعلق الصنعة بالصانع، كتعلق الصانع في كونه صانعاً بوجود صنعته) .
قال: (وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل) .
تعليق ابن تيمية
قلت: بيان هذا أنه إذا قيل: صنعة، أو فعل، كان هذا اللفظ متضمناً صانعاً فاعلاً، كما إذا قيل: فاعل صانع، كان ذلك متضمناً فعلاً وصنعة.
وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل، كما يستلزم الفاعل المصدر، فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له، فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له.
والقاضي أبو بكر قرر هذا الوجه أيضاً بناءً على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري، وزعم أن الأشعري يقول بذلك، كما تقدم من قوله: (إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع، شيء يدرك من جهة الضرورات) .
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا، ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة، ولا بأن ذلك يتضمن تقديماً وتأخيراً، فيفتقر إلى مقدم ومؤخر.(8/83)
ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر، لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره، إذا لم يكن هناك موجد.
وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة، ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة، فتفتقر أيضاً إلى لعة متقدمة، وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها، وهو محال.
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور، لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة، ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر.
وأيضاً فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر، وهذا فيه نزاع مشهور، لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر.
وإبطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها، وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت، وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها، إنما تقوم بها في حال وجودها، فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حودثها، لأن المعدوم لا يحدث الموجود، ولا يكون المعدوم علة للموجود.
ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول، دون(8/84)
الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع، قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية، إما عناداً منه، وإما لشبهة عرضت له افسدت عقله وفطرته، مثلما يعرض كثيراً لهؤلاء، فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمةً مقدمة، إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره، وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها، لكن هذا يحتاج إليه كثيراً في مخاطبة الخلق، فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم، ويقبل شهادة من هو دونهم: إما لجهله، وإما لظلمه.
وكذلك كم من الخلق من يرد أخباراً متواترة مستفيضة، ويقبل خبر من يحسن به الظن، لاعتقاده أنه لا يكذب، وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رآى مناماً يدل على ثبوته، أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ، لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة، ومثل هذا كثير.
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعاً من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه، لم(8/85)
يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة، وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء، لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها.
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس، أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور.
ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب، والملابس والعادات، لما في النفوس من حب الرياسة.
فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات، أو تلازمات، أو إدراج جزيئات تحت كليات، قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين، وإن كان غير هؤلاء، من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة، لا يحتاج إليها، بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه، ونفر عنها عقله، ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا، فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث، أبين(8/86)
وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص، ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور، لم يمكنه - مع الشك في الأولى - أن يجزم بالثانية، بل قد لا يتصور إحداهما حق التصور.
ألا ترى أنه إذا قيل لمن صدق بالثانية: لم قلت: إن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر؟ رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك، وغايته أن يقول: الأشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح.
فلو قال قائل: لما قلت ذلك؟ ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلاً؟ ويختص بما اختص به لا لمخصص أصلاً؟ لكان إنكاره لقول هذا القائل، دون إنكاره لقول من قال: لم قلت: إن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث؟
وهذا التأليفات والتركيبات الحادثة كانت، بعد أن لم تكن، لا بمؤلف ولا مركب، فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح، هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث، فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث، سوغ ان يحدث أحد المثلين دون الآخر، بلا مخصص لحدوثه.(8/87)
وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت، أو شكل دون شكل، أو وصف دون وصف، إلا نوع من حدوث حادث؟ فإن الصفات والأشكال حوادث، والتقدم والتأخر إضافة للحوادث إلى وقتها، فهو صفة في الحدوث، كإضافة الحادث إلى مكانه، وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة، أنه لا بد له من محدث، مخصص، فاعل، مؤلف، سواه.
ولهذا لم يحتج الأشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلاً، كما فعله القاضي أبو بكر وأتباعه، إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا، ولعله إن فعل ذلك لأجل عناد المناظرين أو جهلهم، فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة، لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة.
ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والأئمة، ولا ذكرت في القرآن، فإنها من باب تضييع الزمان، وإتعاب الحيوان في غير فائدة.
والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها، فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل، كان من يخاطبه(8/88)
من المسلمين، مخاطباً له بحسب ما تقتضيه المصلحة، كما يحتاج إلى الترجمة أحياناً وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل.
ففي الجملة: الطرق التي تختص بطائفة طائفة، مع طولها وثقلها على جمهور الخلق، لا تكون في مثل الكتاب العزيز، الذي جعله الله شفاءً ورحمةً، ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنةً وعياً لا يحتاج إليه، ويرونه من باب إيضاح الواضحات، كما لو ذكر فيه الرد على السوفساطئية ببيان أن الشمس موجودة، والقمر موجود، والبحار موجودة، والجبال موجودة، والكواكب موجودة، وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره، ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء، لأن هذا عندهم أمر معلوم، مستقر في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء، فضلاً عن كتاب منزل من السماء.(8/89)
وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية، كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء، وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق، وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم.
ولو ذكر في القرآن مثل هذا، لم يكن لما يذكر من ذلك غاية، لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط، فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم، ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه، ولا يصلح أمرهم إلا به.
ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق، وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها، يزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل، فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعرضون بها، لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلاً، وما لم يعارض النصوص: فقد يكون حقاً، وقد يكون باطلاً، وماكان حقاً ولم يعارض النصوص، فقد لا يحتاج إليه، بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك، بل تلك الطرق(8/90)
أقوى وأقرب وأنفع، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
وقد قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} ، والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب، بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة، فإنها إما أن لا توصل، وإما أن توصل بعد تعب عظيم، وتضييع مصالح أخر، فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلاً، وإن لم تعارض، فقد تكون باطلاً، وقد تكون حقاً لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة.
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب، كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب.
فـ القاضي أبو بكر، وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من أبي المعالي، وأتباعه، والأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر، وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي أبو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع، كدلالة الصانع على الصنعة، وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم.(8/91)
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعاً، لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل، حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر، فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث، لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة، فضلاً عن أن يعلم أن لها صانعاً فاعلاً وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة، امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعاً فاعلاً.
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع، ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة، بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني، وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعاً الإبصنعة، والفاعل لا يكون فاعلاً إلا بفعل، وهذا صحيح.
ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعاً إلا بصانع، والمفعول لا يكون مفعولاً إلا بفاعل، والفعل لا يكون فعلاً إلا بفاعل، والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع، بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه، وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلاً، ولا يعلمون: هل فعل شيئاً أو لم يفعله؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى، وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفة.
وقد قلنا: إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك.(8/92)
وأما الطريق الثانية التي جعلها القاضي أبو بكر معتمدة، فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة، لكنه أدخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث.
ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا، بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث، لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا، وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما، وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما، فإن تماثيل الأعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر.
وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني، المبني على تناهي الحوادث.
ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله، إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق، جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحداً أو دهرياً أو نحو ذلك، وهذا يذكرونه في مواضع.
منها: أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات(8/93)
الجوهر الفرد، جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين.
وكذلك قد يقولون: إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين، وكذلك قد يقولون: إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين، والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين، ولهذا نظائر.
مع أن الذين يضيفونه إلى المسلمين قد يكون إنما ابتدعه طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، والقول الآخر هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهور الخلق.
وكذلك قد يضيفون إلى السنة ما لا يوجد في كتاب ولا سنة، ولا قول أحد من السلف، بل قد يكون المأثور ضد ذلك، حتى يتناقض أحدهم في النقل.
فيحكي إجماع المسلمين، أو إجماع أهل الملل على شيء، ثم يحكي النزاع عنهم في موضع آخر.
كلام أبي الحسن الطبري إلكيا
كما رأيته قد ذكره بعض فضلاء المتكلمين من أصحاب أبي المعالي، أظنه أبا الحسن الطبري المعروف بإلكيا، أو بعض نظرائه ذكر في(8/94)
كتابه في الكلام لما استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض، المشهور عن المعتزلة وأتباعهم من الأشعرية والكرامية وغيرهم - قال: (فإما الركن الرابع، وفيه المعركة، والتشاجر عنده يحصل، وهو إثبات استحالة حوادث لا أول لها، وقد أطبق المليون وأتباع الأنبياء كلهم على استحالة حوادث لا أول لها - وقال ملحدة الفلاسفة بإثبات حوادث لا أول لها) .
وقال: في مسألة حلول الحوادث بعد أن ذكر قول الكرامية قال: (واعلم أن المشبهة أيضاً يقولون: إن الحوادث تقوم به، وإن لم يصرحوا به، فهم والكرامية في إثبات الجهة وقيام الحوادث بذات القديم، على حد سواء.
وذلك أنهم يجوزون على الله الجيئة والذهاب، والنزول والصعود، والانتقال، فيقولون: هذه الأشياء لم تكن فكانت، وهذا هو الحادث.
ثم أثبتوا له التحيز، وذلك لا يقوم إلا بمتحيز) .
قال: (وقد أثبتوا حوادث لا أول لها) .
قال: ولا تصول الملحدة إلا بهذا، وقد دللنا على بطلانه، وأنه لا يتم القول بحدوث العالم إلا بإبطاله) .
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين، أو(8/95)
إجماع المليين في مواضع كثيرة، يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم، وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب، فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل، وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام، فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام، كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها، وأن صحتها من لوازم صحة الإسلام، أو يكونون لم يعرفوا من المسلمين إلا قولين أو ثلاثة، فيحكون الإجماع على نفي ما سواها، وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل لا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، بل ولا عن العلماء المشهورين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، ولا فيها آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين، التي لا يكون الرجل مؤمناً، أولا يتم دين الإسلام إلا بها، ونحو ذلك.
ومثل هذا الرجل، وأمثاله من أهل الكلام، لما اعتقدوا أن العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول موقوف على هذا الدليل، أخذ يحكيه عن جميع أهل الملل وجميع أتباع الأنبياء، وهو مع هذا لا يمكنه أن ينقله عن عالم واحد، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا(8/96)
تابعيهم، ولا معه فيه آية ولا حديث، والمنصوص عن الأئمة المشهورين عند الأمة يناقض ذلك، ولهذا عاد فحكى عن أهل الحديث الذين سماهم مشبهة، أنهم يقولون بذلك وإن كان ذكره في معرض التشنيع عليهم ففي ذلك ما يبين أن أتباع الأنبياء تنازعوا في ذلك.
وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلابإبطاله، يقول منازعوه: إن الأمر في ذلك بالعكس، وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا يتم مع هذا القول، ولا يتم إلا بنقيضه، لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث، ويصير الفاعل فاعلاً بعد أن لم يكن، بدون سبب جعله فاعلاً، بل حقيقة هذا القول أنه صار قادراً بعد أن لم يكن بغير سبب، وصار الفعل ممكناً بدون سبب وهذا ممتنع في بدائه العقول.
وبذلك صالت الدهرية على أهل الكلام، الذين سلكوا هذه السبيل.
فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول، وظنوا أن هذا قول الرسل وأبتاعهم، اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول.
ثم من أحسن الظن بهم قال: فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور، إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض، فكذبوا لمصلحة الجمهور، فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء، وامتنع أن(8/97)
يستدلوا به على علم، وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء، ونصر ما جاؤوا به، فما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاؤوا به.
فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل، بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل.
ثم إنه يحكي عن اهل الحديث هذا القول، وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث، وتجد كثيراً من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي بكر بن عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به، وأظن ان أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك، وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه، وهذا لأن هذه أقوال مجمله، قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع، والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة، لا يفهمها إلا خواص الناس.
وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وصاروا يقولون: إنه منزه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والمقدار، والحد، ونحو ذلك.
ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات، وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به، وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه، ومباينته لهم، وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته، ونفي الصفات الخبرية: كالوجه، واليدين، ونحو ذلك،(8/98)
مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض.
ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة، مسألة افتقار الحادث إلى المحدث، فإن أبا الحسن لما قال: الدليل على أن للخلق صانعاً صنعه، ومدبراً دبره؟ واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم، فسر القاضي أبو بكر قوله بوجهين:
أحدهما: أنه يريد بالخلق: التقدير.
وكل جسم فله قدر، فيكون المعنى: ما الدليل على أن لكل جسم قدراً من الأقدار، قدره مقدر؟ لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري، ولا بنى كلامه على إرادته، وإنه لم يذكر دليلاً على ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون الخلق: بمعنى الإبداع والاختراع، وجعل الشيء شيء شيئاً عيناً بعد أن لم يكن كذلك.
وهذا هو الوجه الذي أراده، لكن اعترض عليه بعض المعتزلة، وأظنه القاضي عبد الجبار، بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق.
وأراد(8/99)
عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري، وتصحيح طريق شيوخه، وهو إثبات حدوث الأجسام أولاً، ثم إثبات المحدث بعد ذلك.
وليس الأمر كما ذكره عبد الحبار، بل الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمداً، مع علمه بها، كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر، وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة، وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان، لأن ذلك أمر مشهود معلوم، والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها.
لكن الأشعري لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام، فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة، فهو يقول إن فيها تطويلاً وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع، فلا يحتاج إليها ابتداء، ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها، بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال، فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له، وأن الأعراض حادثة النوع.
ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون، كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم، فالأمر عليه أيسر(8/100)
من إثبات من أثبت ذلك، بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها، وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين، كما سلك هذه الطريقة كثير من الأشعرية ومن وافقهم، فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات، لوكان في هذه الطرق شيء صحيح.
فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له: هو استدل بحدوث الإنسان، وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل، وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام، وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعاً ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك، ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع، فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام، مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك، فيقال لعبد الجبار: إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله، وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها، بل الذين ذموا ما ذموا منه، من أتباع السلف والأئمة، ذموا منها ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها، فالذي تطلبون منه من موافقتكم، هو الذي ينكره عليه السلف والأئمة، كما ينكرون ذلك عليكم.(8/101)
وفي الجملة، فإن كان طريقكم مذموماً فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به، وإن كان صحيحاً فهو قد سلكه في آخر الدليل، لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقراً إلى إثبات حدوث الأجسام، لعلمه بأن الأمر ليس كذلك، وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين، وسائر أهل الملل، فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل.
وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل، كما ذكره هذا المعتزلي، فالأمر كذلك.
ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك، بل جعل كون المحدث دالاً على المحدث أمراً مستقراً معلوماً بالفطرة، إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية.
وأما القاضي أبو بكر فأراد أن يجيب عن الأشعري بوجه آخر، فزعم أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر نظري لا ضروري، وأن الأشعري أثبت ذلك، وذكر أن إثباته لذلك من جهة تتضمن الفعل للفاعل، كتضمن الفاعل للفعل.
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا، ولا يحتاج كلامه إلى هذا، وإما نشأ الغلط من ظن القاضي أبي بكر أن العلم(8/102)
بافتقار المحدث إلى الفاعل أمر نظري، وليس الأمر كذلك، بل هو ضروري عند جماهير العقلاء، وإن كان نظرياً عند طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم.
والشيء قد يكون ضرورياً مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه، فلا منافاة بين كونه ضرورياً مستقراً في الفطر، وبين إمكان إقامة الدليل عليه.
كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق
فقال القاضي أبو بكر: (وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر، لأن كثيراً من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث، وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر، مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون، فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها، مع إنكارهم الصانع المصور، كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها، بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحاً)
قال: (وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث، أو قريباً من شطرها، يقع من غير محدث ولا فاعل أصلاً، وهو ثمامة بن(8/103)
أشرس النميري وشيعته، لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها، وهي مع ذلك حوادث وأفعال) .
قال: (وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة، لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم، وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته، وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة، ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة، مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الأعتراض، هو أن قال: كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق) .
قال: (وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا، وذهابه عن جهة الصواب فيه.
ثم نقول: فهب أن الأمر كما وصفته، ماالذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بخالق، ليس هو مما يعلم بالاضطرار، ولا يثبت بدرك الحواس، وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص، إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها، ادعت في هذا المذهب البديهة، وأن(8/104)
العلم يقع به عند كمال العقل، وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض، وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال، وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه، وأن له محدثاً سواه، وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق، فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال، فكإنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وما من أجله أجمعوا على ذلك، فما في هذا مما يعاب، لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ؟!
وأيضاً فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامه الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه.
وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين.
فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما، وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث، فلا يجب عليه ذلك، فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى) .
قال: (وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفي على من(8/105)
عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري، بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره.
وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية، وهو تعلق الفعل بالفاعل، وأن المخلوق لا بد له من خالق.
بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكراً مطلقاً، وجعلها مسلمة، ولم ينازع فيها من يعبأ فيها من يعبأ به، ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها.
وقول القاضي: إن كثيراً من الدهرية والفلاسفة يقولون: إنه محدث من غير محدث، فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف منهم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق، لا أنهم أنكروا الصانع، وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلاً ولم يثبتوا سبباً للحدوث.(8/106)
وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الاصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة، لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح.
فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك، كل ذلك ينزع إلى أصل واحد، وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث.
والفلاسفة القائلون بقدم العالم، كأرسطو وابن سينا وأمثالهما، جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم، لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه، فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها، لا يتأخر عنها شيء من معلولها، كما يقوله ابن سينا وأمثاله: إن الأول يحرك المتحركات، بمعنى أنها تتحرك للتشبه به، لا أنه أبدع حركتها، كما أنها لم يدعها عندهم، فلزم من(8/107)
ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت لا محدث، وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث، وقد بسط هذا في موضعه.
وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة، فهو من لوازم قوله، كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا: تحدث إرادة لا في محل بل إرادة، ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة، وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي، لا ينفي سبباً اقتضى حدوثها، وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار، ولكن لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولاً التزم لوازمه التي صرح لفسادها، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها، ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص، أو أن الممكن لا بد له من مرجح، أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث.
كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى
والتناقض الذي يلزم أولئك أكثر.
ولها أورد أبو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة أسولة لم يجب عنها بجواب صحيح، فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن(8/108)
لا بد له من سبب، فاعترض على ذلك بأنه: (لم قلتم: إن الممكن لا بد له من سبب؟.
ثم هنا نظران: أحدهما: أن نقول: أنتم في هذا المقام بين أمرين: إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر.
ودعوى الضرورة باطل لوجهين: أحدهما أنا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، وعرضنا أيضاً قولنا: إن الواحد نصف الأثنين، لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية.
وثانيهما: أن العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان ذلك ضرورياً لاستحال من العقلاء دفعه.
بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست: أحدها: أن القائلين بحدوث العالم، وهم المسلمون، يقولون: إن الله فعل في(8/109)
الوقت المعين، دون سائر الأوقات، لا لأمر يختص به ذلك الوقت.
ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية، يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الأوقات المذكورة، مع تساويها بأسرها، فيكون ذلك وقوعاً للممكن بلا سبب.
وثانيها: أن الذين يحيلون الدواعي والأعراض على الله تعالى، وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل، يقولون: أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص، من إيجاب، أو ندب، أو حظر، أو إباحة، مع كون سائر الوقائع مساوياً لها، فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص.
وثالثها: أن أكثر زعموا أن القادر، مع تساوى دواعيه إلى الشيء وضده، قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح، بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه، فإنه لا بد وأن يختار أحدهما دون الآخر، وزعموا أن العلم بذلك(8/110)
ضروري، وأن الجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين من كل الوجوه، فإنه لا بد وأن يختار أحدهما، بل يبتدىء بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب مختص يختص به ذلك الجانب، وكذلك النائم ينقلب من احد جنبيه على الآخر لا لمرجح، وادعوا الضرورة في هذه الصورة.
ورابعها: أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية، ومختلفة في الصفات الذاتية، وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة.
وخامسها: زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه، مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها، أو أسرع أو أبطأ مما وجدت، لكن التشبه حاصلاً لا عن مرجح.(8/111)
وسادسها: أنهم يقولون: الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك، مع كون ذلك الموضع مساوياً لسائر المواضع في الحقيقة والماهية، لكون الفلك عندهم بسيطاً، فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان العلم بذلك ضرورياً لاستحال ذلك، كما استحال أن يحكم بعضهم بكون الواحد أكثر من اثنين.
فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام، وأما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل، وأنتم ما ذكرتم ذلك الدليل.
ثم لو ذكرتموه فإنه ينتقض بالصور التي عددناها) .
وذكر أسولة أخرى.
ثم قال أبو عبد الله الرازي: (والجواب على منهجين: الأول: إجمالي، وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين: إحدهما:(8/112)
أن المحدث لا بد وأن يكون ممكناً، لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدوداً في شيء من الأوقات.
وثانيهما: أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح.
وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل، وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية.
وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية، وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات، فكذلك ما ذكرتموه) .
قال: (وهذا جواب قاطع للمنصف) .
قال: (والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل) .
إلى أن قال: (قوله: إذا ثبت كون المحدثات ممكنة، وجب(8/113)
استنادها إلى مؤثر.
قوله: تدعون فيه الضرورة أو النظر؟ قلنا: بل ندعي فيه الضرورة، فإنا أذا فرضنا إنساناً سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات، ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان: هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلاً؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك.
وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلاً، ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة مشيداً، فإنه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع، وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك، بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك، لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئاً لم يتوقعوا حصوله هناك، حملتم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع، فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية.
قوله: إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الأثنين، وعرضنا أيضاً أن الممكن(8/114)
لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الإ لمرجح، وجدنا الأول أظهر.
قلنا: هذا ممنوع، وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جلياً، وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء، كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء، وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية، وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية.
قوله: إن جمعاً من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان فساد ذلك ضرورياً لما قالوا به.
قلنا: إنهم لم يلزموا ذلك، بل غايته أن صار ذلك لازماً على مذاهبهم، وليس كل ما صار لازماً وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب.
والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه، وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب، فإنهم يحتالون(8/115)
في الجواب عن ذلك، سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة، وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري.
وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها، فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها.
قال: وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب، فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة) .
تعليق ابن تيمية
قلت: فهو إن سلك مسلك هؤلاء في بيان افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فمسلكه اطول وأضعف.
بل هذا المسلك الذي سلكه باطل، كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر.
وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص، أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره، فلا يترجح وجوده إلا بمرجح.(8/116)
أما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع، وأكثر العقلاء على نقيض ذلك، وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به، كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الإثبات، وغيرهم كـ القاضي أبي بكر وأتباعه، كـ أبي المعالي، والقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وغيرهم.
فالجمهور يقولون: عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب، بل ليس له من ذاته وجود، فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده نفي معدوماً.
وإذا قال القائل: عدم وجوده لعدم علة وجوده، كما أن وجوده لوجود علة وجوده.
قالوا له: أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه، كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضي لوجوده؟ أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه، ودليل على عدمه؟
الأول ممنوع، والثاني مسلم.
وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلاً، وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل، وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة، بل ليست مقتضية للوجود، فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده، ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب، لأن وجوده بدون سبب محال.
فإذا علمنا ان لا سبب يقتضي وجوده، علمنا عدم وجوده، فهذا(8/117)
من باب الاستدلاب وقياس الدلالة، لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج، والله أعلم.
وأيضاً فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح، كما ذكره من أن كفتي الميزان لا تترجح إحداهما على الاخرى إلا بمرجح، وأن هذا معلوم بصريح العقل.
وإذا كان كذلك، فطريقة المتكلمين من الذي قالوا: لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخص، كما قاله القاضي أبو بكر، والقاضي أبو يعلى، وأبو الحسين البصري، وأبو المعالي، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين - خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح.
كما فعل ذلك ابن سينا، والسهروردي المقتول، والرازي، والآمدي، وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح.
ومن المعلوم أن العلم يكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه، كما ذكروه في كفتي الميزان، فإما إذا قدرناهما متساويتين، لم يترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح.(8/118)
وكذلك الأوقات المتماثلة، إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه، كان ذلك التخصيص تخصيصاً لأحد المثلين على الآخر، والتخصيص ترجيح له عليه، فلا يد له من مخصص مرجح.
وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما، وإن كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم، فليس وجوده مماثلاً لعدمه، كتماثل الكفتين والوقتين، ولكن هما بالنسبة إليه جائزان، وهو قابل لهما.
فغاية ما يقال: إنه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر، فهما بالنسبة إليه متماثلان من هذا الوجه، فيكون ترجيح أحدهما مفتقراً إلى مرجح، ولكن عند التحقيق يظهر أنهما بالنسبة إليه ليسا متماثلين، وأنه ليس هنا حقيقتان ترجيح إحداهما على الأخرى، بل ليس له نفسه وجود أصلاً، فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم، لا يقال: إنه لا يستحق لا الوجود ولا العدم، بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن، الذي يقبل الوجود والعدم، علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته.
لسنا نقول: إن ذاته تستلزم العدم، بحيث يكون عدمها واجباً ووجودها ممتنعاً، فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته، لا حقيقة الممكن لذاته.
ولكن نقول: إن ذاته هي باعتبار النظر إليها فقط معدومة عدماً ليس واجباً، بل عدماً يمكن أن يتبدل بالوجود.(8/119)
ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن، فإنه كان معدوماً ثم صار موجوداً، فهو قابل للوجود والعدم.
ثم إنه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال: إن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح، كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح، بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلاً، ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم، أي لا يثبت له بذاته إلا العدم، لا أنه يجب له بذاته العدم، فالعدم ليس واجباً بذاته، بل هو ثابت بذاته.
وقولي: ثابت بذاته، ليس هو إخباراً عن شيء ثابت في الخارج وذات، فإن المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة، بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته، ولكن هو ممكن الوجود من غيره، فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجوداً لا في كونه معدوماً.
وإذا قال قائل: إن الممكن - أو المحدث - يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب.
قيل له: وعدم ذلك السبب الموجب: إما أن يكون واجباً، وأما أن يكون ممكناً، فإن كان واجباً، لزم أن يكون عدم كل ممكن واجباً، فتكون جميع الممكنات ممتنعة، لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب، وإذا كان معدوماً لعدم علته، وعدم علته واجباً، كان عدمه واجباً، وهذا معلوم الفساد بالبديهة.(8/120)
وإن قيل: إن عدم العلة ممكن، فإن كان معدوماً بنفسه، أمكن أن يكون الممكن معدوماً بنفسه لا بعلة، وهو المطلوب.
وإن كان معدوماً بعلة، كان القول في تلك العلة كالقول في الأخرى، ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللاً بعدم ممكن آخر.
وهذا باطل لوجوه: منها: أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا، بأولى من العكس.
فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر، سواء سمي فاعلاً أو علة، أو موجباً أو سبباً، أو ما سمي به.
فإذا قيل: عدم هذا الممكن لعدم مؤثره، وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره، كان كل منهما مساوياً للآخر في الافتقار إلى المؤثر، فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر، المفتقر عدماً إلى المؤثر، بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر، مع استوائهما في ذلك.
منها: إذا كان عدم هذا لعدم ذاك، وعدم ذاك لعدم آخر، فالعدم الثالث إن كان هو الأول، لزم الدور القبلي، وإن كان غيره، لزم التسلسل في العلل والمعلولات، وكلاهما ممتنع.
فهذا كله مما يببين أن عدم الممكن ليس مفتقراً إلى المؤثر، كافتقار(8/121)
وجوده إلى المؤثر، فليس ترجيح وجوده على عدمهه، كترجيح إحدى كفتي الميزان، وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر، فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح، ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا، ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلىهذه، بخلاف الوجود والعدم يالنسبة إلى الممكن، فإن ليس رجحان الوجود كرجحان العدم.
ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن، ليس هو المرجح للعدم، لا مثله، ولا من جنسه، فإن المرجح للوجود مؤثر موجود، والمرجح للعدم عدم المؤثر، وليس الوجود هو العدم، ولا مثله، ولا من جنسه، فليس المرجح لأحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر، ولا مثله، ولا من جنسه، ولا يمكن ذلك فيه، بخلاف المرجح لإحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث، فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته، أو ما يكون من جنس بالآخر.
وأيضاً فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الأخرى، ليست كترجيح الوجود على العدم، بل هي أقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت، كتخصيصه بقدر دون قدر، ووصف دون وصف، ومكان دون مكان، ونحو ذلك.
فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت، أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم.(8/122)
فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين، مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد ما لا يحتاج إليه، بل ربما كان فيه مضرة، خيراً من طريقة هؤلاء، الذي استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن.
ثم إن ابن سينا وأمثاله كانوا خيراً فيها من الرازي والآمدي وأمثالهما.
والرازي فيها خير من الآمدي، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.
وهذا لو قدر أن هذه الطريقة - طريقة ابن سينا ومن اتبعه كـ الرازي ونحوه - طريقة صحيحة، فكيف إذا كانت باطلة؟! كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج، مغاير للممكن أصلاً.
ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها.
ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع، ولو أثبت بها الصانع، لم يمكنه أن يجعله شيئاً غير الأفلاك، فضلاً عما يدعونه من نفي التركيب، الذي جعلوه دليلاً على نفي الصفات.
وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وأن الممكن لابد له من واجب، فاحتاجوا إلى شيئين: إلى حصر القسمة في الواجب والممكن، وأن الممكن يستلزم الواجب.
ولفظ (الواجب) فيه إجمال.
قد يراد به الموجود بنفسه الذي(8/123)
لا فاعل له، فتدخل فيه - إذا كان ذاتاً موصوفة بالصفات - ذاته وصفاته.
ويراد به القائم بنفسه مع ذلك، فتدخل فيه الذات دون الصفات.
ويراد به المبدع للممكنات، فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات.
ويراد به شيء منفرد، ليس بصفة ولا موصوف.
فهذا يمتنع وجوده، ولم يفهموا دليلاً على وجوده، فضلاً عن أن يكون واجب الوجود.
فإذا قالوا: نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم، وبالممكن ما تقبل ذاته العدم.
قيل لهم: أثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب.
ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث، التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى.
وهذا صحيح، فإن الحوادث مشهودة، وافتقارها إلى المحدث معلوم الضرورة.
لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك، فإن هذا إنما يثبت وجود قديم أحدث الحوادث.
والممكن عندهم يتناول ما يكون قديماً ومحدثاً، فالقديم الأزلي عندهم يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم.
وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء، وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطو وأصحابه، وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا، فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن، الذي يقبل الوجود(8/124)
والعدم لا يكون إلا محدثاً، لا يكون قديماً أزلياً، وأن ما كان قديماً أزلياً، لم يكن إلا واجباً ضرورياً يمتنع عدمه.
فهذا القول باطل، وإن قدر صحته، فلا يتمكن إثباته إلا بكلفة ونظر دقيق.
ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات، لا يتوقف على العلم بكون القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه، قد يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، فهم يقولون: إذا أثبتنا قديماً نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت أنه واجب الوجود لا ممكن الوجود، لأن القديم يحتمل الأمرين.
وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه كـ الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية وغيرها من كتبه.
فهؤلاء إذا قيل لهم أثبتوا واجب الوجود، الذي هو قسيم الممكن عندهم، والممكن عندهم يتناول القديم والحادث، لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم.
وهذا لا يمكنهم إثباته إلا بإثبات الحادث، الذي يكون موجوداً تارة معدوماً أخرى.
والحادث يسلتزم ثبوت القديم، والقديم عنده لا يجب أن يكون واجب الوجود، بل قد يكون ممكن الوجود، فهم لم يثبتوا: لا واجب الوجود، ولا ممكن الوجود، الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه.
ثم إذا قدر أنهم أثبتواوجود واجباً، فهم لم يقروا أنه واحد وأنه(8/125)
مغير للأفلاك، إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركباً، لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجباً.
ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب، بمعنى أنه منفرد، ليس بصفة ولا موصوف، وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً، مع أن الغرض أنه ليس بموصوف.
ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده، بل ولا على إمكانه، وإنما يقوم الدليل على امتناعه.
يراد به افتقار المفعول إلى فاعله، والمعلوم إلى علته الفاعلة، وإنما يراد به أنه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه، فيلزم من وجود الذات المتصفة بصفات، وجود الذات والصفات.
وهذا لا محذور فيه، وحقيقته أنه يلزم من كون الشيء موصوفاً كونه موصوفاً، ومن كونه مركباً كونه مركباً.
وهذا كلام صحيح، وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك، وقد بسط هذا فيغيره هذا الموضع.
وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم، وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر مما يتبين به بطلان كلامهم.
والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء.
وهذا كله مما يبين أن كل من كان إلى الإسلام أقرب، فإن عقلياته في الأمور الإلهية أصح من عقليات من كان على الإسلام أبعد منه، إلا حيث يكون قد اتبع في عقليانه من هو عن الإسلام أبعد منه.
هذا كله بين(8/126)
لمن تدبره، ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، وجد كلام متكلمي المسلمين خيراً من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم.
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه، لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة.
كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية
وقد قال ابن سينا في الإشارات: (ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من(8/127)
عدمه، من حيث هو ممكن.
فإن صار أحدهما أولى، فلحضور شيء أو غيبته، فوجود كل ممكن الوجود من غيره) .
فقوله: (ما حقه الإمكان فليس يثير موجوداً من ذاته) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها، فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه.
فإذا قيل: ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره، كان هذا من القضايا البينة، ولكن هذا لا يعرف، بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة، التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى، كما اعترف، هو وسلفه وسائر العقلاء، لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً.
وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث.
وأما استدلاله على ذلك بقوله: (فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن) فهذا لا يحتاج إليه، وهو متنازع فيه، وهو لم يقم عليه دليلاً، بل يقال: هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود، بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم، بل يقال: هذا باطل، فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله، يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله، وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء، وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه، لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده، وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء.
وقوله: (فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته) هو أيضاً مما لا يحتاج إليه ولا بينه، ولا هو مسلم، بل هو باطل، إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجوداً، فأما ما كان مستمراً على العدم، فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء، وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره، وإن صار العدم فلغيبة غيره، فيكون إنما عدم لغيبة سببه، وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين، وهو متنازع فيه، بل هو باطل، وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه، ودليل على عدمه، لا أنه الموجب لعدمه.
وكلام القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا(8/128)
الباب، هو أصرح في المعقول، بل هو صواب، وهذا خطأ، وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر، حيث استولوا على الواضح بالخفي.
وأما ابن سينا وأتباعه، كـ الرازي وغيره، فدليلهم باطل، ولم يثبتوا وجوداً واجباً، بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه، خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح، فإن أبا الحسين يقول: (الدليل على أن للمحدث محدثاً هو أنه لا يخول: إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث، فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه.
وإن حدث مع جواز أن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه)
فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت، إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت، وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات، والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات.
وأيضاً فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وإن كان ممكن الحدوث، بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا(8/129)
يحدث، لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه.
فقول أبي الحسين: (لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث، يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث.
فكانت هذه الطريقة، مع طولها، خيراً من طريقة ابن سينا والرازي وأمثالهما، لو كانت تلك صحيحة، من وجهين: أحدهما: أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض، أبين في المعقول من افتقار كل ممكن، فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث، قد نازع طوائف من الناس في ثبوته، وفي إمكان كونه معلولاً لغيره، ونحو ذلك.
بل عامة العقلاء على امتناعه، والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه، والعقل الصريح يدل على امتناعه، ولم يقيموا دليلاً على تحقيقه، ولا على افتقاره إلى واجب، وعلى إثبات واجب يكون قسيماً له.(8/130)
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه، لم ينازع هؤلاء، ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض، فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه، أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن، لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثاً؟ .
الثاني: أنه قال: (لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض، لم يقل: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح.
وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف، وهو بين في العقل ضروري فيه، بخلاف ما قاله أولئك، فإن فيه نزاعاً واضطراباً، وليس هو بينا في العقل، بل الصواب يقتضيه.
وكذلك أبو الحسين يقول دائماً: (ما كان موجوداً على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل) وهذا كلام صحيح، ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام، وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية، ليصير كلامه في الإلهيات مقرباً لجنس كلام متكلمي المسلمين، ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع(8/131)
والعقل، فيستدل لها على ما نازعوه فيه، مما وافقوا فيه دين المسلمين، وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية، مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه، فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة، فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك، فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين، وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم، كما قالوا للمعتزلة: أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم، ونفيتم الصفات بناء على ذلك، ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات.
فإذا قلتم: إنه حي عليم قدير، لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات، وهذا ممتنع.
وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات، وهي لازمة للأسماء، فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم، فيلزمكم نفي الأسماء، ولهذانظائر في كلامهم.
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين، من المعتزلة وأشباههم، أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص، كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت، وهذا مما جعله هؤلاء أصلاً لهم في إثبات العلم بالصانع.(8/132)
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب، وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح، لئلا يناقض قوله في قدم العالم، ويقول: إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق، هو وسلفه، من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثاً، وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضرورياً واجباً، لا يكون ممكن الوجود والعدم، وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء.
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث، جعله له حجة على قدم العالم، بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث، وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله، أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم، فإنه إذا كان العالم صادراً عن علة مستلزمة له، والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث.
وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب.
فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود، وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالممكن على الواجب، وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلاً.(8/133)
وذلك أعظم من قول أولئك: حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم: إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان، كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارناً لعلته في الزمان، وقابلوا لذلك قول المتكلمين، الذي قالوا: بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره.
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره، لا يقارنه، ولا يتراخي عنه، كما قال تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} .
ولهذا يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت، وعتقت العبد فعتق.
وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى، لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين.
وهم إذا قالوا: إن المكون مع التكوين، لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم، وهو خلاف المشاهدة.
فإن الأول إذا كان علة تامة، والعلة التامة يقارنها معلولها، وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديماً.
ولزمهم أيضاً أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها، وذلك في آن واحد، وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء.(8/134)
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة، التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه، هي غير طريقة سلفه الفلاسفة، بل هي طريقة محدثة.
وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام، ومن أصول سلفه الفلاسفة، والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك، لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص، وهذا حق.
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب، وهذا حق.
لكن قد ينازعونه في أن الممكن: هل يمكن أن يكون قديماً أم لا؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون: الممكن لا يكون إلا محدثاً وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك.
وأيضاً فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون: الموجود على طريق الجواز، ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل.
ويقولون: إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل، لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، وليس للقديم حال عدمية.
ولهذا يقولون: إن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال.
فصح أنه واجب الوجود في كل حال، فاستحال عدمه.(8/135)
وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوماً إلا بسبب.
وهذا مما نازعه فيه الجمهور، حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك.
وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين، رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد.
ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت.
فإن أبا حامد الغزالي ذكر ذلك في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم.
كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم
قال: (فنقول: النسا فرقتان: فرقة أهل الحق، وقد رأوا أن العالم حادث، وعلموا ضرورةً أن الحادث لا يوجد بنفسه، فافتقر إلى صانع، فعقل مذهبهم في القول بالصانع.
وفرقة أخرى هم الدهرية، وقد رأوا العالم قديماً، ثم كما هو عليه، ولم يثبتوا صانعه، ومعتقدهم مفهوم.
وإن كان الدليل يدل على بطلانه.(8/136)
فأما الفلاسفة فقد رأوا قديماً ثم أثبتوا مع ذلك له صانعاً) .
قال: (وها المذهب بوضعه متناقض، لا يحتاج إلى إبطال) .
رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت
قال ابن رشد الحفيد: (بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد، أكثر من المذهبين جميعاً.
وذلك أن الفاعل قد يلقى صنفين: صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه.
وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل، كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول، لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به، وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول، أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول، وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول، أي هما معاً، وهذا الفاعل أشرف(8/137)
وأدخل في باب الفاعلية من الأول، لأنه يوجد مفعوله ويحفظه.
والفاعل الآخر يوجد مفعوله، ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة، والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة، والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل، وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة، قالوا: إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم، وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم، فعلموا قياسهم هكذا: العالم فعل، أو شيء، وجوده تابع لفعل.
وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده، فأنتجوا من ذلك أن العلم له فاعل موجود بوجوده، فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثاً، قال: العالم حادث عن فاعل لم يزل قديماً وفعله قديم.
أي: لا أول له ولا آخر، لا أنه موجود قديم بذاته، كما تخيل لمن يصفه بالقدم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه، الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركاً غير متحرك، ويسمونه الأول.(8/138)
وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه.
وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود، إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود، فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول: لا قديم إلا هو، وليس هذا قول أرسطو وأتباعه، وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم.
كلام أرسطو وأتباعه
وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه:
(الوجه الأول)
أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلاً للحركة الفلكية، إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك، لا من حيث هو مبدع محدث للحركة.
ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه من غيره بالمحبة له والشوق، لا سيما إذا كان محباً للتشبيه به لا لذاته، كما يتشبه المأموم بإمامه، لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك، وإنما يكون علة غائية، لا علة فاعلية، فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلاً لشيء من الحوادث، كما قد بسط في موضعه.
وأرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئاً ولا يعلم شيئاً، ولا يريد شيئاً.
الوجه الثاني
أنه بتقدير أن يثبتوه محدثاً مبدعاً للحركة التي لا قوام(8/139)
للفلك والعالم إلا بها، كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله، فإنما يكون فاعلاً لما هو شرط في وجود العالم، لا يكون فاعلاً لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه، بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه، وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها.
وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعاً للعالم، ولاسيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوباً، فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب، الذي لا يقوم بدون تلك المحبة، بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعاً للمؤتم به، من جهة كونه يحتاج إلى الأئتمام به.
ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل، بل هذا يتضمن أن واجب الوجود - كالفلك عند أرسطو وأتباعه - يفتقر إلى شيء بائن عنه، وذلك يدل على فساد قولهم، فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين، وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه.
الوجه الثالث
إن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه، بل هو باطل، وأقصى ما يمكن أن يقال: يمكن وجوده لكن يكون ناقصاً.
ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها، إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها.(8/140)
الوجه الرابع
أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحو.
فيقال: إن ادعيت أن ما يفعل حركةً في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به، فهذا غير مسلم، لا يسما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوباً أو مؤتماً به، وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره.
ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف قائم به أعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به، وأن تغير ذات المؤلف إذا انتفض تأليفه، أبين من انتقاض ذلك المتحرك إذا والت حركته، فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلاً، ففاعل التأليف أولى أن يكون فاعلاً، وهذا أمر مشهود، ليس من جمع الأجزاء المتفرقة وجعلها شيئاً واحداً، كمن حرك الشيء الساكن، لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع، والماء للعطشان، والمرأة للرجل، والرجل للمرأة، فكيف إذا كان كتحريك الإمام للمؤتم به؟
وإن قال: إن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائماً، وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه، وهذا هو الوجه الذي قصده.
فيقال له: ليس في الشاهد أمر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائماً.
فقولك: إن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من(8/141)
المذهبين، وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه، وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول، لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به، وهذا الفاعل يخصه إن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول، وهذه حال المحرك مع الحركة، والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة.
فيقال لك: ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني، وإنما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول.
وإن قلت: إن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار.
فيقال لك: كون النفس وحدها هي المحركة للبدن، دون أن يكون هناك سبب للحركة، أمر لو كان حقاً لم يكن من المشاهدات.
وأيضاً فالنفس لا يقول عاقل: إنها هي الفاعلة للبدن.
وأيضاً فكل من النفس البدن شرط في حركة الآخر.
الوجه الحامس
أن يقال: نحن نسلم أن الفاعل، الذي نفتقر إليه المفعول دائماً، أكمل ممن لا يفتقر إليه إلا حال حدوثه.
لكن إذا قيل: إن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائماً، كان هذا قولاً صحيحاً، وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين.
بل لو قيل: إنه يفعل تأليف العالم دائماً، وأن تأليفه لا يقوم إلا به، كان هذا خيراً من قول سلفك: إنه يفعل حركة العالم دائماً، لو كانوا قائلين بذلك.
فكيف وحقيقة قولهم: إنه لا يفعل شيئاً؟.(8/142)
فأنت لو جعلته من الصنف الأول، من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركات.
لكن الفاعل الدائم، للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائماً، أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه، فإذا جعلته فاعلاً للتأليف، وهو محتاج إليه دائماً، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركة، فكيف ولم تجعلوه فاعلاً إلا من جهة كونه متشبهاً به فقط؟.
الوجه السادس
أن يقال: العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه، لا عين ولا صفة، فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم، غاية فعله تأليف تلك الأجسام، مع أن كثيراً من متكلمة الإثبات، كالأشعري ومن وافقه، يقولون: ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته، وما خرج عنه ليس فعله.
والقائلون بالتولد يقولون: بل ذلك التأليف فعله.
والقول الوسط: أن التألف حادث بسبب فعله القائم به، وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه، ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف، لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس(8/143)
والقوة التي جعلها الله فيها، وتلك لا حاجة إليه فيها، فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط.
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته، فليس له نظير، إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره، لا يقوم إلا بها، والمخلوق يحدثها دائماً، فليس هذا بمشاهد في الفاعلين، والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم، وإن لم يكن مطابقاً، ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى، ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله، لأنه موجود في العالم، وهو أقرب إلى الفاعل المطلق.
فقوله: (إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه، أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد) كلام صحيح، لكن ليس هو مطابقاً لقول إخوانه الفلاسفة، فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه، بل غاية ما جعلوه فاعلاً للحركة، ثم لم يجعلون فاعلاً لها إلا من جهة كونه(8/144)
علة غائية، لكون الفلك يقصد التشبه به، وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل.
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم.
ثم من قال من المتكلمين، المعتزلة ونحوهم، إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة، لكونهم أثبتوا فاعلاً حقيقة.
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة، الذي يقولون: إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء، فهذا أكمل من قولهم من كل وجه، وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه، وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه رباً فاعلاً، ومن جهة كونه إلهاً محبوباً معبوداً.
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظراً.(8/145)
بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
قال الغزالي: (فإن قيل: نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلاً مختاراً يفعل بعد أن لم يكن يفعل، كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط، والنساج والبناء، بل نعني به علة العالم، ونسميه المبدأ الأول، على معنى أنه لا علة لوجوده، وهو علة لوجود غيره، فإن سميناه صانعاً فبهذا التأويل.
وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب، فإنا نقول: العالم موجود، والموجود إما أن يكون له علة، وإما أن يكون لا علة له، فإن كان له علة، فتلك العلة لها علة ام لا علة لها؟
وهكذا القول في علة العلة، فإما ان تتسلسل إلى غير نهاية، وهو محال.
وإما أن تنتهي بالآخر إلى علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول.(8/146)
وإن كان العالم موجوداً بنفسه لا علة له.
فقد ظهر المبدأ الأول، فإما لم نعن به إلا موجوداً لا علة له، هو ثابت بالضرورة.
نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السماوات، لأنها عدد، ودليل التوحيد يمنعه، فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال: إنه سماء واحد أو جسم واحد، أو شمس، أو غيره، لأنه جسم، والجسم مركب من الهيولى والصورة، والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركباً، وذلك يعرف بنظر ثان.
والمقصود أن موجوداً، لا علة لوجوده، ثابت بالضرورة والاتفاق - وإنما الخلاف في الصفات - وهو الذي نعنية بالمبدأ الأول) .
قال الغزالي: (والجواب من وجهين: أحدهما: أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها.
وقولكم إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان، فيبطل ذلك عليكم في(8/147)
مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة.
الوجه الثاني: وهو الخاص بهذه المسألة، هو أن يقال: نثبت تقديراً أن هذه الموجودات لها علة، ولكن علتها علة، ولعلة العلة علة كذلك، وهكذا إلى غير نهايتة.
وقولكم: أنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها، لايستقيم منكم.
فإنا نقول: عرفتم ذلك ضرورةً بغير واسطة او عرفتموه بواسطة؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة، وكل مسلك ذكرتموه في النظر، يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها.
وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له، فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها؟ كما أن الزمان(8/148)
السابق له آخر، وهو الآن.
ولا أول له.
فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معاً في الحال، ولا في بعض الأحوال، والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي، فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان، فإنها لا تفنى عندكم، والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها، إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة، إلى غير نهاية، ثم كل إنسان مات، فقد بقي نفسه، وهو بالعدد غير نفس من مات قبله، ومعه، وبعده، وإن كان الكل بالنوع واحداً، فعندكم في الوجود، في كل حال، نفوس لا نهاية لأعدادها) .
قال: (فإن قيل: ليس لبعضها ارتباط ببعض، ولا ترتيب لها: لا بالطبع، ولا بالوضع، وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها، إذا كان لها ترتيب بالطبع، كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق(8/149)
بعض، أو كان بها ترتيب بالطبع، كالعلل والمعلولات، وأما النفوس فليست كذلك.
قلنا: هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه، فلم أحلتم.
أحد القسمين دون الآخر، وما البرهان المفرق؟.
وبم تنكرون على من يقول: إن هذه النفوس التي لا نهاية لها، لا تخلو عن ترتيب، إذ وجود بعضها قبل البعض، فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها، فإذا قدرنا وجود نفس واحدة، في كل يوم وليلة، كان الحاصل في الوجود الآن خارجاً عن النهاية، واقعاً على ترتيب في الوجود، أي بعضها بعد البعض.
والعلة غايتها أن يقال: إنها قبل المعلول بالطبع، كما يقال: إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان، فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني، فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي.
وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية، وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له؟.(8/150)
قال فإن قيل: البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية، أن يقال: كل واحدة من آحاد العلل، ممكنة في نفسها أو واجبة؟ فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة.
وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان، وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها.
قلنا: لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم، إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده، ويراد بالممكن ما لوجوده علة، فإن كان المراد هذا، فلنرجع إلى هذه اللفظة، ونقول: كل واحد ممكن: على معنى أن له علة زائدة على ذاته، والكل ليس بممكن: على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه، وأن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه، فهو ليس بمفهوم) .(8/151)
قال: (فإن قيل: فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود، وهو محال.
قلنا: إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه، فهو نفس المطلوب، فلا نسلم أنه محال.
وهو كقول القائل: يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث، والزمان عندهم قديم، وآحاد الذوات حادثة، وهي ذات أوائل، والمجموع لا أول له، فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل، وصدق ذوات أوائل على الآحاد، ولم يصدق على المجموع.
وكذلك يقال على كل واحد: إن له علة، ولا يقال: للمجموع علة، وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع، إذ يصدق على كل واحد أنه واحد، وأنه بعض، وأنه(8/152)
جزء ولا يصدق على المحجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن، أي له أول، والمجموع عندهم ما ليس له أول.
فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة المتغيرات، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها، ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال، وخرج قولهم إلى التحكم المحض.
فإن قيل: الدورات ليست موجودة في الحال، ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل، وما لا وجود له لا يوصف بالتنهاهي وعدم التناهي، إلا إذا قدر في الوهم وجودها، ولا يتعذر ما يقدر في الوهم، فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض، فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه، وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان، لا يبقى إلا نفوس الأموات، وقد ذهب(8/153)
بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان، وعند مفارقة الأبدان تتحد، فلا يكون فيه عدد، فضلاً عن ان يوصف بأنه لا نهاية لها، وقال آخرون: النفس تابع للمزاج، وإنما معنى الموت عدمها، ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم، فإذن لا وجود في النفوس إلا في أحياء، والأحياء الموجودون محصورون، ولا تنتهي النهاية عنهم، والمعدومون لا يوصفون أصلاً بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم، إذا فرضوا موجودين) .
قال: (والجواب أن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا والفارابي والمحققين منهم، إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه، وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل، ومن عدل(8/154)
عن هذه المسلك فيقول: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهو محال، وإن قالوا نعم، قلنا: إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه، اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها، فالدورة وإن كانت منقضية، فحصول موجود فيها، يبقى ولا ينقضي غير مستحيل، وبهذا التقدير يتقرر الإشكال، ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي، أو جني، أو شيطان، أوملك، أو ماشئت من الموجودات، وهو لازم على كل مذهب لهم، إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها) .
تعليق ابن تيمية
قلت: أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث، وقال: إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع، وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر، بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم.
كـ القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ممن جعل هذه المقدمة نظرية.(8/155)
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين.
أحدهما: أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب، ولكن لا يمكن نفي كونه جسماً من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات، وتلك مبناها على نفس التركيب، وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا.
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه، وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاماً بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب، قبل أن أقف على كلام أبي حامد، ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته.
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه، وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى.
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية(8/156)
المحضة، الذين يقولون: إن العالم واجب الوجود بذاته، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم: أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها، وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره.
وابن سينا والرازي والآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناءً على هذه المقدمة.
فكان ما ذكره أبو حامد إبطالاً لطريق هؤلاء كلهم.
والآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل، فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود، بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع.
وليس فيما ذكره أبو حامد والآمدي إبطال لطريقة المعتزلة، ومن وافقهم، على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص، فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات.
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل.
وأنتم تجوزونها في الحوادث، فجوزوها في العلل.
والناس لهم في هذا المقام قولان: أحدهما: قول من يبطل عدم(8/157)
النهاية فيهما جميعاً، مثل كثير من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم.
ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد، كقول جهم والعلاف.
وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد، لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية.
ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة، وقال العلاف ببطلان حركاتهم.
والثاني: قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار، كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، وهو قول طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة.
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية، هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع، كما قاله هؤلاء في الحوادث، بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري، وغيره من أهل الكلام، من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع، ثم سوى أبو حامد بين الأمرين.
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين، وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد، كان حكم الجميع حكم أفراده، وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد، لم يلزم أن يكون(8/158)
حكمها حكمه، فالأول مثل وصفها بالوجود، أو العدم، أو الوجوب، أو الامكان، أو الامتناع، فإذا قدر أشياء لا تناهى، كل منها موجود، فالكل أيضاً موجود.
ثم أن قدر وجود كل منها مقارناً للآخر، كان وجود الجميع مقارناً، وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقباً.
وإذا قدرت كل منها معدوماً فالكل أيضاً معدوم، وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معاً، وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر، كانت متعاقبة في العدم.
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب، وعدمها متعاقب.
فالجملة أيضاً موجودة على التعاقب، معدومة على التعاقب.
وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة، فالجملة ممتنعة، ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة، فالجملة أيضاً واجبة، فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي، ليس لشيء منها وجود من نفسه، بل كل منها مفتقر إلى غيره، فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة، كتناوله لكل من أفرادها، كما يتناول وصف الوجود والعدم، والوجوب والامتناع، للجملة بحسب تناوله للأفراد، فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة، لا تكون معدومة مع وجود كل منها،(8/159)
ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها، فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات، فهو أولى بالإمكان منها.
ولو قال قائل: فكيف تصفونها بالامتناع، مع كون كل منها ممكناً؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد؟
قيل له: نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج، ثم نحكم عليها بالامتناع، فإن هذا جمع بين النقيضين.
فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها، ولكن نقدر ذلك في الذهن، ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج، كالجمع بين النقيضين.
وأمثاله من الممتنعات، بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج، وكل منها ممكن.
وقيل: إن الجملة واجبة بنفسها، فهذا هو الممتنع، كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع، وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات، لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن.
وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر، لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها.
كالحوادث المستقبلة في الجنة.
فإن كلاً منها بعد غيره، وليست الجملة بعد غيرها، بل لا تزال(8/160)
إلى غير نهابة، وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء.
فحينئذ إذا قيل: بعد كل واحد غيره، كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد، ولكل واحد من أجزائها بعد.
ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد، وكذلك إذ قدر أنه لا أول للجملة، ولكل منها أول.
وكذلك إذا قيل: إن الجملة كل، وجميع، ومجموع، أومستدير، أومربع، أو مثلث، أو حيوان، أو إنسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلاً، ولا مدوراً، ولا حيواناً.
ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال: قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل، وأما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقاً، إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله.
لكن تبين خطؤهم من وجوه:
فساد مذهب الفلاسفة من وجوه
(الوجه الأول)
أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد، وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء، بل بتضمن وجود تمام علل(8/161)
ومعلولات لا تتناهي في آن واحد، ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد، وهذا مما يصرحون بامتناعه، مع قيام الدليل على امتناعه، وتضمن امتناع وجود حادث، ووجود الحوادث بلا مؤثر تام، وكل هذا ممتنع.
وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان، لا يتعقبها ولا يتراخى عنها، فيكون الأثر مع التأثير التام.
وكثير من المتكلمين يقولون: يجوز أن يتراخى.
والصحيح قول ثالث، وهو أن يتعقبه: لا يكون معه، ولا متراخياً عنه.
وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى.
وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود، بل يكون كل ممكن قديماً أزلياً، لوجود علته التامة في الأزل.
ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث، والأول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء، ويلزم أنه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها، فإنهم يقولون: لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته.
فيقال: وذلك التمام حادث، فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جراً، فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد.
وهذا ممتنع، كامتناع علل ومعلولات لاتتناهى في آن واحد، إذ لا فرق بين امناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها، إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة.(8/162)
ولهذا قالوا: لا يحدث حادث إلا بسبب حادث، فلو حدث عن القديم لا فتقر إلى حادث، والقول في الثاني كالقول في الأول، فيلزم أن لا يحدث شيء.
وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث، فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره، وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه، فيلزم أن لا يحدث شيء.
فالمتكلمون قالوا: القادر يفعل بدون سبب حادث، فقالوا: هذا محال.
وقالوا: تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها، فكان قولهم أشد بطلاناً.
الوجه الثاني
أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد، فإذا قدر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى، كما يقولونه في الأفلاك، فهذا ممتنع.
لأن كلاً منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية، مع أن أحدهما أكثر من الآخر، وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه، فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه، ويكون شيء آخر أكثر منه، وهذا ممتنع، كما امتنع مثل ذلك في الأبعاد.
(الوجه الثالث)
أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارناً له أزلاً وأبداً، وأن يكون القديم الأزلي مفعولاً ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء.
كلام ابن رشد رداً على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاماً، بعضه من باب(8/163)
الأسولة اللفظية وبعضه من باب الأسوله المعنوية، فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأول.
(هذا كلام مقنع غير صحيح، فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الأربع، أعني: الفاعل، والصورة، والهيولى، والغاية.
وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جواباً مختلاً، فإنهم كانوا يسألون عن أي علة أرادوا بقولهم: إن العالم له علة أولى، فإن قالوا: أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال، مفعوله هو فعله، لكان جواباً صحيحاً على مذهبهم، على ما قلنا غير معترض عليه.
ولو قالوا: أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضاً.
وكذلك لو قالوا: أردنا به السبب الصوري لكان معترضاً أن فرضوا صورة العالم قائمة به.
وإن قالوا: أردنا به صورة مقارنة للمادة، جرى قولهم على مذهبهم.(8/164)
وإن قالوا: صورة هيولانية، لم يكن المبدأ عندهم شيئاً غير جسم من الأجسام، وهذا لا يقولون به.
وكذلك إن قالوا: هو سبب على طريق الغاية، كان جارياً أيضا على أصولهم.
وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى، فكيف يصح أن يجعل جواباً للفلاسفة؟) .
وبسط الكلام بسطاً لا يرد على أبي حامد، فإنه قد علم أنه أراد بالعلة هنا العلة الفاعلة، لا الأقسام الثلاثة، وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى، ويقولون: كل ما سواه صادر عنه، فالذي ذكره تقرير مذهبهم - كما يقولونه - على أحسن وجه، فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية، وهو كون لفظاً مشتركاً، فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب، والخروج عن المقصود.
والاستفسار مع ظهور المقصود، نوع من اللد في الكلام، وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد، فقال على الوجه الأول، وأنه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسماً قديماً لا علة له، وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات، وقد أبطلة أبو حامد.(8/165)
قال ابن رشد: (يريد أنهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات، كان ذلك الأول عندهم ذاتاً بصفات، وما كان على هذه الصفة فهو جسم، أو قوة في جسم، ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الأجرام السماوية) .
قال ابن رشد: (وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة - يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة - يعني الأوائل - لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له، بمانسبة إليهم من الأحتجاج، ولا يزعمون أيضاً أنهم يعجزون عن دليل التوحيد، ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول.
وستأتي هذه المسألة فيما بعد) .
قلت: ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا، في نفي الصفات ونفي التجسيم.
وأنها ليست طريقة(8/166)
أوليهم، بنى نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس، وأنها ليست بجسم، واستدل بأضعف من دليلهم، وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية، وهي أن المركب لا بد له من مركب، والمؤلف لا بد له من مؤلف.
وهذا إنما يكون إذا أطلق هذا اللفظ على مسماه، باعتبار أن هناك مؤلفاً فعل التأليف، ومركبا فعل التركيب.
ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال، أو أراد به ما فيه اجتماع، وقال: إن ذلك واجب بنفسه، لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه، وهذا مبسوط في موضعه.
المقصود تبيين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه، وما أخذه عن المتكلمين، وكيف خلط أحدهما بالآخر.
قال ابن رشد: (قول أبي حامد: ولكن لعلتها علة، ولعلة العلة علة، وهكذا إلى غير نهاية، إلى قوله: وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها، شك تقدم الجواب عنه، حين قلنا: إن الفلاسفة لا تجوز عللاً ومعلولات لا نهاية(8/167)
لها، لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له، ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة، لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعاً وفي مواد لا نهاية لها، بل إذا كانت دوراً) .
قال: (وأما ما يحكيه عن ابن سينا: أنه يجوز نفوساً لا نهاية لها، وأن ذلك إنما يمتنع فيما له وضع، فكلام غير صحيح، ولا يقول به أحد من الفلاسفة، وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم، فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع، أعني القول لوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل.
ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال: إن النفوس متعددة بتعدد الأشخاص، وأنها باقية) .
قال: (وأما قوله: وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية، وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد؟!.
فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جداً، وذلك أن وضع(8/168)
الأجسام لا نهاية لها معاً يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل، وأن يكون بالفعل، وذلك مستحيل، والزمان ليس بذي وضع، فليس يلزم من وجود أجسام، بعضها فوق بعض إلى غير نهاية، وجود ما لا نهاية له بالفعل، وهو الذي امتنع عندهم) .
ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها، قال ابن رشد: (وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة، أول نقله إلى الفلسفة ابن سينا، على أنه طريق خير من طريق القدماء، لأنه زعم أنه من جوهر الموجود، وأن طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول، وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين، وذلك أن المتكلمين ترى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري، ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل، وأن العالم بأسره لما كان ممكناً، وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية، وهو قول جيد ليس فيه كذب، إلا ما وضعوه فيه: من أن العالم بأسره ممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه، فأراد ابن سينا أن يعمم هذه(8/169)
القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة، كما ذكر أبو حامد، وإذا سومح في هذه القضية، لم تنته به القسمة إلى ما أراد، لأن قسمة الموجود أولاً إلى ما له علة، وإلى ما لا علة له، ليس معروفاً بنفسه.
ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وإلى ضروري، فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي، أفضى إلى ممكن ضروري، ولم يفض إلى ضروري لا علة له، وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة، وأمكن أن نضع أن تلك لها علة، وأن يمر ذلك إلى غير نهاية، فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا عله له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية، وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، فلم يتبين بعد ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا يتبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى(8/170)
ضروري بغير علة، إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) .
قلت: فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها: أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنها طريق خير من طريق القدماء، لأنه زعم أنه من جوهر الوجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول.
قال: (وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين، وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري، ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل، وأن العالم بأسره لما كان ممكناً وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية) .
قال: (وهو قول جيد ليس فيه كذب، إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره بممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه، فأراد ابن(8/171)
سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة، كما ذكره أبو حامد) .
قلت: فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل، قول جيد، إذ ان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، والمحدث لا بد له من فاعل.
هذا أيضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء.
وأما قوله: (ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه.
فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية.
ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة) .
فإنه يقول: أولئك أرادوا بالممكن المحدث، وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث، فأراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة، حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية.
وهذا القول الذي ذكره ابن سينا، يظن من أخذ الفلسفة من كلامه، أنه قول أرسطو وأتباعه، وليس كذلك.
وإنما يذكر هذا عن برقلس.
ولهذا قال: الباري جواد وعلة جوده هو ذاته، فيكون جوده دائناً.
وهذا يوافق قول ابن سينا، ولا يوافق قول أرسطو، فإن الأول عنده لا فعل له: لا جوداً ولا غير جود، ولا إرادة، بل ولا يعلم ما سواه.
وقول ابن رشد: (إن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفاً بنفسه) .(8/172)
فيقال له: إن سلم أنه ليس معروفاً بنفسه، هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن: يقبل الوجود والعدم، بل إنه محدث وكل ما سواه فقير إليه، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن، وأنه ليس شيئاً موجوداً بنفسه غنياً عما سواه، قديماً أزلياً، إلا واحد.
وأدلة ذلك مذكورة في مواضع، وحينئذ فيحصل بذلك المقصود.
لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ونحوهم، سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو عن الأعراض الحادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها، فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته، ولا فاعل لشيء، بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء، بل هذا ممتنع، فلا يكون مقدوراً، فيلزم أنه صار قادراً بعد أن لم يكن، وفاعلاً، بل ومتكلماً بمشيئته بعد أن لم يكن، وأن الفعل صار ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، من غير تجدد شيء أوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان، إلى غير ذلك من اللوازم.
كما قد بسط في موضعه.
والسلف والأئمة كلهم ذموا الكلام المحدث وأهله، وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل، ويخالفون الكتاب والسنة وإجماع السلف، مع أن كلاهم جهل وضلال.
مخالف للعقل، كما هو مخالف للشرع، كما قد بسط في موضعه.(8/173)
والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا: قال ابن رشد: (وإذا سومح ابن سينا في هذه القضية: - وهو أن الممكن ما له علة - لم تنته به القسمة إلى ما أراد، لأن قسمة الوجود إولاً: إلى ما علة، وإلى ما لا علة له، ليس معروفاً بنفسه، ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري) .
قلت: أما تقسم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة، فهذا تقسم دائر بين النفي والإثبات، لا يمكن المنازعة فيه، كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما قوم بنفسه، وإلى ما لا قوم بنفسه، وإلى ما هو موجود بنفسه، وما ليس موجوداً بنفسه، ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات.
فهذا تقسيم حاصر، وإذ لا واسطة بين النفي والإثبات، وهما النقيضان.
كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضاً.
لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم: أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري، هو الذي ليس بيناً بنفسه، ولم يقيموا عليه دليلاً، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه، بل(8/174)
الدليل يدل على بطلانه.
ولهذا أظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم.
قال ابن رشد: (ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري، ولم يفض إلى ضروري لا علة به، وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة، وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة، وأن يمر ذلك إلى غير نهاية.
فلا ينتهي الامر إلى موجود لا علة له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود.
إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيه إلى غير نهاية) .
فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة، ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإذا أراد بالممكن: الممكن الحقيقي، وهو الحادث، وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة، فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث.
ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له، وهو واجب الوجود، لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين، بل لا بد من دليل بدل على ثبوتهما،(8/175)
وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة، كما لو قيل: الوجود ينقسم إلى ماهو ثابت، وإلى ما ليس بثابت، أو ينقسم إلى قديم وحادث، وما ليس بقديم ولا حادث، أو ينقسم إلى واجب وممكن، وما ليس بواجب ولا ممكن.
فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات، لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام.
وإذا قيل: ينقسم إلى معلول وغير معلول.
وقيل: المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضرورياً، كان غايته إذ أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث: إثبات القسمين: الضروري والحادث، أو إثبات ضروري معلول، ليس في إثبات ضروري ليس بمعلول، وهو واجب الوجود بنفسه، فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه، فكيف وليس فيه أيضاً إثبات ضروري معلول، وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري؟.
ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين، فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول، إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك، ولا استدل بالحدوث ألبته، وهو الممكن الحقيقي، وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه، وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم، وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن.(8/176)
فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه، قالوا: (والقديم - الذي سموه ممكناً - يفتقر إلى واجب بنفسه) .
وهذا ليس بيناً، وعامة العقلاء ينازعونهم فيه، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه.
فهذا الذي سموه ممكناً هو قديم أزلي ضروري الوجود، ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه، وهو أيضاً ليس بثابت، فلم يثبتوا هذا الممكن، ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن، فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن، ولا ما ادعوه من الواجب.
قال ابن رشد: (وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة) .
قلت: وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة، وما لا علة له، وسمى هذا الأول ممكناً، ثم قسم هذا الممكن إلى: الممكن الحقيقة - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول، وهو أن هذا الضروري الذي له علة، هو ضروري له علة.
وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم.
وحينئذ فيكون قد أثبت ضرورياً واجب الوجود معلولاً.
قال: وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولاً لعلة، أمكن أيضاً أن تكون تلك العلة، وإن كانت ضرورية واجبة(8/177)
الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جراً، ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل، لأن مضمونه إثبات أمور واجبتة ضرورة كل منها له علة، والجملة كلها واجبة ضرورة، مع كونها وكون كل منها معلولاً، وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر، إذا الممكن عندهم يكون ضرورياً واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولاً لغيره.
فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري، ويسمى ممكناً باعتبار أنه معلول، وإن كان ضرورياً واجب الوجود، لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل.
كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
وحقيقة الأمر أنهم قدروا أموراً متسلسلة، كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه، وكل منها معلول، وسموه باعتبار ذلك ممكناً، وقالوا: إنه يقبل الوجود والعدم.
وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة، فضلاً عن افتقارها كلها، لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم، ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل، ويعود الأمر إلى الممكن الذي أثبتوه، وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي: هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه؟
وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل، بل جميع العقلاء يقولون: إن هذا لا يفتقر إلى فاعل.
ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي والآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل، وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه، كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع.(8/178)
وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغير ذلك من كتبه.
وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن، وعنوا بالممكن ما له علة، وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه، فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب، فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل.
هذا حق، لكنه يدل على إثبات قديم أزلي، لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه.
ولما لم يثبتوا هذا الممكن، والواجب لا يثبت إلا بثبوته، لم يثبتوا لا واجباً ولا ممكناً، ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم، بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين.
وإن لم يثبت الممكن، فإنه إن كان الممكن ثباتاً فقد ثبت الواجب، وإن لم يكن ثابتاً فقد بقي القسم الآخر، وهو الواجب، لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات.
ونحن قلنا: الموجود: إما أن يكون له علة، وإما أن يكون لا علة له، والمعلول لا بد له من علة، فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب.
قيل لهم: هذا لا ينفعكم لوجهين:
احدهما: أنكم لم تثبتوا وجوداً لا علة له، ومجرد التقسيم لا يدل عليه، بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول.
وعلى هذا التقدير(8/179)
فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى، فلا يثبت لكم وجود لا علة له.
الثاني: أن يقال: هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب.
فمن قال: الوجود كله واحد، وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن، ولا قديم ومحدث، فقد وفى بموجب دليلكم، وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء.
ولما كان هذا منتهى كلامهم، صار السالكون لطريقهم نوعين:
نوعاً يقول: لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى، ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون: لا جواب عنه، كالآمدي وغيره.
ونوعاً يقول: الوجود كله واجب: قديمه ومحدثه، وليس في الوجود موجودان: أحدهما قديم، والآخر محدث، وأحدهما واجب والآخر ممكن، بل عني وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم، كما يقوله ابن عربي وأتباعه، كابن سبعين والقونوي.
فيتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم، الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد، الذي سلكه ابن سينا وأتباعه، في إثبات واجب الوجود.
فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب، بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره.
ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة، فإن انقسام الموجود إلى(8/180)
واجب: هو قديم أزلي، وإلى ممكن: هو محدث وجد بعد أن لم يوجد، معلوم بالضرورة بجميع العقلاء وعوامهم.
وصوفيتهم يقولون: الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان: أحدهما واجب قديم، والآخر ممكن محدث، فهؤلاء يجمعون بين النقيضين، حين يجعلون الوجود الواحد قديماً حادثاً ممكناً، معلولاً مفعولاً واجباً، وغير مفعول ولا معلول.
وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين، بل يشكون في رفع النقيضين، فلم يثبت عندهم وجود واجب، بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره.
ومعلوم أن الموجود مشهود، وأنه إما ممكن وإما واجب، فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما، أوثبوتا أحدهما، فهو في غاية السفسطة، كما أن من لم يثبتهما، بل جعل الجميع واجباً بنفسه قديماً أزلياً، وأنكر وجود الحوادث، فهو في غاية السفسطة.
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر.
وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد، فإنه مع تعظيمه للفلاسفة، وغلوه في تعظيمهم، وقوله: إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية، قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه، وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه، فإذا كان هذا فساداً فذاك بطريق الأولى.(8/181)
وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال: (وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة، وأمكن أن نضع أن تلك لها علة، وأن نمر ذلك إلى غير نهاية، فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن، الذي وضعه بإزاء ما لا علة له، الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية) .
قال ابن رشد: إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن، وهو المحدث بعد أن لم يكن، الذي يكون أن يكون موجوداً تارة ومعدوماً تارة أخرى، فإن هذا هو الممكن الحقيقي، فإذا أريد بالممكن هذا، وقيل: الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن، والممكن ما له علة، وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث، كان حقيقة الكلام: أنه ينقسم إلى قديم وحادث، كما قاله المتكلمون.
وحينئذ فهذه الممكنات - التي هي المحدثات - هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى، فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث، فإذا قدرنا وجود ما لاينتاهى من المحدثات، كان كل منها لا بد له من محدث، وكان مجموع المحدثات أعظم افتقاراً إلى محدث، فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقر واحد(8/182)
منها، وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لايتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة، وأن جيمعها مفتقر إلى محدث خارج عنها، والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديماً.
وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي، ولا معلول ضروري، كما قدره أولئك، حيث قدروا عللاً ومعلولات لا تتناهى، كل منها محدث وكل منها ممكن، مع أن الممكن قد يكون ضرورياً ممتنع العدم واجب الوجود، فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولاً، حتى يكون المجموع من ذلك معلولاً، وهذا ممتنع عليهم، حيث جمعوا بين النقيضين.
قال ابن رشد: (وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى تبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة معلول - كالأمر في الجملة الممكنة) .
قلت: فابن رشد ذكر أولاً أن الممكن، إن فهمنا منه: الممكن(8/183)
الحقيقي وهو المحدث، فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير.
وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه: إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود، يمتنع عدمها أزلاً وأبداً، ويقول مع ذلك: إنها ممكنة، يمعنى أنها معلولة - قال ابن رشد: فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير، كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول.
وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة، فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم، ويستدل بالبين على الخفي.
وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية.
وهي المحدثات.
ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل، وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات، لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم، إذا قدر تسلسلها.
الوجه الثاني: قال: (ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا، إي عن تقدير هذا، أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) .
ومعنى كلامه: أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة، فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكناً، وإن كان(8/184)
ضرورياً واجب الوجود، لكنه واجب بغيره، فيجب أولاً أن يثبتوا أن هاهنا ضرورياً يحتاج إلى علة، وهو الواجب بغيره، الذي قالوا: إنه واجب أزلاً وأبداً ضروري الوجود، لكنه واجب بغيره لا بنفسه، فلهذا سموه ممكناً.
قال: (ولم يبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضرورياً بغير علة، وهو الواجب بنفسه، ولو بين هذا أولاً كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) .
يقول: تبين أولاً أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلاً وأبداً، وهو مع ذلك معلول غيره.
لقيل: هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له، وحينئذ فنحتاج أن نقول: إنه يمتنع وجود علل ومعلولات، كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلاً وأبداً، فيكون التسلسل فيها باطلاً، كما كان التسلسل باطلاً في الممكن الحقيقي، وهو المحدث.
فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسة، كل منها محدث الآخر، ليس فيها قديم، فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي، لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل، وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه، فيكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم؟(8/185)
وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديماً أزلياً ضرورياً واجباً بغيره، وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلاً وأبداً، ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا، وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غيره سلفه.
وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن، الذي يمكن وجوده وعدمه، لا يكون إلامحدثاً، وأن الدائم القديم الأزلي لايكون إلا ضرورياً، لا يكون محدثاً.
وابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك، كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع، كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، من كتابه المسمى بالشفاء وغيره.
لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن، والممكن عندهم هو الحادث، سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم، وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي، ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع: من أن الممكن لا يكون إلا محدثاً.
وكان ما ذكره هؤلاء، وسائر العقلاء، دليلاً على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن، لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجوداً بنفسه إلى الله وحده، وأن كان ما سواه مفتقر إليه.
وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلاً لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه، وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلاً لما ذكره أرسطو وأتباعه، وابن رشد أيضاً،(8/186)
من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم، فإنه محتاج إلى غيره، وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول، لأنه لا قوام له إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا بالأول، فكان لا وجود له إلا بالأول، فامتنع أن يكون وجوده بنفسه، بل كان معلولاً بغيره، وما كان معلولاً بغيره لم بكن موجوداً بنفسه، بل كان ذلك الأول علة في وجوده، وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه، علم بصريح العقل أنه ليس موجوداً بنفسه، فلا يكون واجباً بنفسه، وما لم يكن واجباً بنفسه كان ممكناً، وكان محدثاً، كما قد بسط في مواضع.
إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد، وابن رشد يقول: إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وما كان أزلياً واجباً بغيره دائماً - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكناً، بل الممكن ما كان معدوماً يقبل الوجود، وأما ما لم يزل واجباً يغره فليس هو بممكن.
وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه، وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء، وأن طريقه التي أثبت به(8/187)
واجب الوجود، بناءً على هذا الأصل، إنما هو إقناعي لا برهاني، كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
(وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود، فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب، وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي، فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث) .
قال: (وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه) .
قال: (وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود، فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاج إلى الفاعل ظاهراً من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن) .(8/188)
قلت: وهذا الذي حكاه عنهم: من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثاً مركباً قد ذكره في غير موضع، وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة، كالأجسام العنصرية والمولدات، وأن القول بأن كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء، وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل، ثم عن العقل عقل ونفس وفلك، وهلم جراً إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء، بل هو قول ابن سينا وأمثاله.
وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات: أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم، فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها، ذكر أنه ليس قول القدماء، بل هو قول ابن سينا وأمثاله، وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم، هو أضعف من قول ابن سينا بكثير.
وعامة ما يذكر في واجب الوجود أن يكون شرطاً في وجود غيره، وأما كونه علة تامة لغيره ورباً ومبدعاً، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل، فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث، فطريقة أولئك تستلزم أن تكون(8/189)
الممكنات وجدت بغير واجب، أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر، إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد.
والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الاسلام، مع ما فيهم من البدعة والتقصير.
ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
وعدة أدلة بين بها فساد قولهم، قال ابن رشد: (إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة، لزمهم ضرورة أن يقال لهم: من أين كان في المعلول الأول كثرة؟ وكما يقولون: إن الواحد لا يصدر عنه كثير، كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد، فقولهم: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، يناقض قولهم: إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة، إلا أن يقولوا: إن(8/190)
الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول، فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة) .
قال: (والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر وابن سينا؟ لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة، لأنهم إذا قالوا: إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره، لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين: أعني صورتين.
فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول، وأيتهما التي ليست الصادرة؟) .
قال: وكذلك إذا قالوا فيه: إنه ممكن من ذاته واجب من غيره، لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود، فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود(8/191)
واجبة، إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضرورياً، وكذلك ليس في الطبائع الضرورة إمكان أصلاً، كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها) .
قال: (وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة، ليست جارية على أصولهم، وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي، فضلاً عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه: إن علومهم الإلهية ظنية) .
وقال أيضاً لما أراد أن يقرر قول أرسطو: إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم، والإمكان لا بد له من محل، وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل، فكل(8/192)
ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره، سميناه واجباً، فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفاً له، لأن الإمكان كالامتناع، وليس للامتناع محل في الخارج، ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين.
فقال ابن رشد: (هذه مغلطة، فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول، والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع، والذي يقال على المقبول بقابله الضروري، والذي يتصف بالإمكان الذي يقاله الممتنع، ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل، من جهة ما يخرج إلى الفعل، لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان، وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة، والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وذلك بين من حد الممكن، فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد،(8/193)
وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكناً من جهة ما هو معلوم، ولامن جهة ما هو موجود بالفعل، وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة.
ولذلك قالت المعتزلة: إن المعدوم ذات ما، وذلك أن العدم يضاد الوجود، وكل واحد منهما يخلف صاحبه، فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده، وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه.
ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجوداً، ولا نفس الوجود أن ينقلب عدماً، وجب أن يكون القابل لهما شيئاً ثالثاً غيرهما، وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود، فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير، ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضاً) وبسط الكلام في هذا.
وقال أيضاً في دليلهم المشهور على قدم العالم، وهو قولهم: (يستحيل صدور حادث من قديم مطلق، لأنا إذا فرضنا القديم ولم(8/194)
يصدر منه العالم مثلاً، فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح، بل كان وجود العالم ممكناً عنه إمكاناً صرفاً، فإذا حدث لم يخل: إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك، فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح: لم رجح الآن ولم يرجح قبل؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية، أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحاً) .
كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
قال ابن رشد: (هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل، وليس هو واصلاً موصل البراهين، لأن مقدماته هي عامة، والعامة قريبة من المشتركة، ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة، وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري، الممكن الأقلي، والذي على التساوي، وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي، وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته، لا من مرجح خارج عنه، بخلاف الممكن على التساوي.(8/195)
والإمكان أيضاً منه ما هو من الفاعل، وهو إمكان الفعل، ومنه ما هو من المنفعل، وهو إمكان القبول، وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء.
وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج، لأنه يدرك حساً في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية، وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية، لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها، ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك، وأنه ليس معروفاً بنفسه: أن كل متحرك فله محرك، وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته.
فإن هذا كله يحتاج إلي بيان، فلذلك فحص عنه القدماء.
وإما الإمكان الذي في الفاعل، فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج، لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل، قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيراً يحتاج إلى مغير، مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس، وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم) .(8/196)
قال: (والتغير أيضاً الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير: منها ما هو في الجوهر، ومنه ما هو في الكيف، ومنه ما هو في الكم، ومنه ما هو في الأين.
والقديم أيضاً: يقال على ما هو قديم بذاته، وقديم بغيره عند كثير من الناس، والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم، مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية، وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة.
وكذلك المعقولات: على العقل الذي بالقوة، ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز، وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض) .
قال: (وكذلك الفاعل أيضاً: منه ما يفعل بإرادة، ومنه ما يفعل بطبيعة.
وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحداً: أعني في الحاجة إلى المرجح، وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة، ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد) ؟(8/197)
قال: (وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها.
وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين، والغلط في واحد من هذه المبادي، هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات) .
قلت: المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن، وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا، والفارابي قبله.
وهذا ابن رشد، مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء، واختصاره لكلامهم، وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم، يذكر أن كثيراً من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين، ليس هو من قول قدمائهم.
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال: إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة.(8/198)
قال: وحينئذ فقول القائل: إن الموجود ينقسم إلى ما له علة، وإلى ما لا علة له، يحتاج إلى دليل.
قال: ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري.
فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلته، والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه، وهو ما كان معدوماً.
وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثاً، وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل.
قال: وإذا جعلنا الممكن ما له علة، كان التقدير: أن ما له علة فله علة، ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي.
فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو المسمى عندهم بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية، وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، حتى يقال: إنه لا بد أن ينتهي(8/199)
الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة، الممكنة.
قلت: ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد، فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوماً.
كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة، فإما كل ما يمتنع عدمه، فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم.
بل هذا واجب الوجود، سواء قيل: إنه واجب بنفسه.
أو واجب بغيره، وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلاً وأبداً، فكونه ممكناً يفتقر إلى دليل.
فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن، بهذا الاعتبار، لا بد له من دليل، كما ذكر ابن رشد.
بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده، فهذا يعلم أنه ممكن.
ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها، لا واجبة بنفسها.
وهذا وإن كان حقاً، لكن دليلهم عليه في غاية الضعف، فإنه مبين على أن كل جسم ممكن، ودليلهم عليه ضعيف جداً، كما قد بين في غير هذا الموضع، وقد بين ضعفه أبو حامد، ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق.
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكناً في اللغة، باعتبار أنه بنفسه لا(8/200)
يوجد.
لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً، فيسمى ممكناً باعتبار، ويسمى محدثاً باعتبار، والإمكان والحدوث متلازمان، وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكناً يمكن وجوده وعدمه، فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة.
وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي.
لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع.
والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع، بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه.
وأما ما يقدر واجباً بغيره دائماً، فذاك لا يسمى ممكناً بهذا الاصطلاح.
وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وهو كون الممكن ما له علة.
قال ابن رشد: فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري.
فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلة، وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث.(8/201)
قال: وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل.
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري، كما هو قول الجمهور.
فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث، فلا بد له من فاعل ليس بحادث، وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء، فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء، وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم، ثم بعد هذا كونه لا علة له.
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا: بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية، ممتنع عند جميع العقلاء.
وقد بين ذلك في موضعه.
وأما كون الممكن، الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود، هو معلول لغيره، فهذا ليس يبين أيضاً امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم، وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم، فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول، مع كونه واجباً قديماً أزلياً، فالقول في علته كقول فيه، فإذا قدر علل ومعلولات، كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها، لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير، ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها، إذ كان كل منها واجب له علة.
فإذا قيل: المجموع لا علة له، لم يظهر امتناع ذلك، كما يظهر امتناعه في المحدثات، ولكن كونه له(8/202)
علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر.
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله، وأنه صدر عن عقل، ثم عن العقل عقل ونفس وفلك، إلى العقل العاشر، كما هو معرف من مذهبهم وتقريره.
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم: (وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهما، ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية، ومبادىء الموجودات السماوية، موجودات مفارقة للمواد، هي المحركة للأجرام السماوية، والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها، والمحبة فيها، والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وأنها إنما خلقت من أجل الحركة.
وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي(8/203)
مفارقة للمواد، وأنها ليست بأجسام، لم يبق وجه به تحرك الأجسام، ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة، ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها، ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول، إلا أن المعلوم في مادة، والعلم ليس في مادة، وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة، وجب أن يكون جوهرها علماً، أو عقلاً، أو كيف شئت أن تسميها، وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد، من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة، التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب، وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسماً ولا قوة في جسم، وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات، وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها(8/204)
مرتبط بمبدأ أول فيها، ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود، وأقاويلهم مسطورة في ذلك.
فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده.
وما يظهر أيضاً من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية، مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها، مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات، وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس.
كما قال سبحانه: {وأوحى في كل سماء أمرها} ، وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيواناً ناطقاً) .
قال: (وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها(8/205)
عن بعض، فهو شيء لا يعرفه القوم، وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة، لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه، كما قال تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} ، وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض، وجميعها عن المبدأ الأول، وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول، والخالق والمخلوق، في ذلك الوجود، إلا هذا المعنى فقط، وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد، وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول، والصانع والمصنوع.
فلو تخيلت آمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة، وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور، فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول، وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف) .(8/206)
قال: (فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم، من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم، على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا) .
يعني ما ذكره ابن سينا.
قال: (وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم، فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها، فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده) .
قال: (وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا، ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية.
وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة، مع أنها معقولة، وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم، فهو لذيذ محبوب عند الجيمع) .
قال: (وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى، هو أن(8/207)
الإنسان إذا تأمل ما ها هنا، ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة، هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة، بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة.
ولذلك قال المتكلمون: إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم، فإذا حصل له هذا الأصل، وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة، فهو حيوان عالم.
وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس، وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة، يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة.
ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات، تولد أصل ثالث لا شك فيه، وهو أن السماوات أجسام حية مدركة، فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة، بها قوام ما ها هنا وحفظه، من الحيوان والنبات والجمادات، فذلك معروف بنفسه عند التأمل، فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل، لم يكن ها هنا فصول أربعة، ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة، لما كان نبات ولا(8/208)
حيوان، ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال، فكانت الأمطار، وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي، وفي الصيف بالعكس: أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا، وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد، الذي لها دائماً من موجود موجود، من المكان الواحد بعينه، تلفى للقمر ولجميع الكواكب، فإن لكلها أفلاكاً مائلة، وهي تفعل فصولاً أربعة في حركاتها الدورية.
وأعظم من هذه كلها، في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها، الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار.
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له، في غير ما آية.
مثل قوله سبحانه: {وسخر لكم الليل(8/209)
والنهار} الآية.
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب، ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة، ومن وجهات محدودة، ونحو حركات محدودة، وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية، ذوات اختيار وإرادة، ويزيده إقناعاً في ذلك أن يرى أن كثيراً من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا، لم تعدم بالحياة بالجملة، على صغر أجرامها، وخساسة أقدارها، وقصر أعمارهما، وإظلام أجسادها، وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك، التي لها دبرت ذاتها، وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام، لعظم أجرامها، وشرف وجودها، وكثرة أنوارها.(8/210)
كما قال سبحانه: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} الآية، وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا، علم على القطع أنها حية، فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه، فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية، الناطقة المختارة المحيطة بنا، ونظر إلى أصل ثالث، وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها، علم أنها مأمورة بهذه الحركات، ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات، وأن الآمر لها غيرها، وهوغير جسم ضرورة، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها، وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات، وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته، وأنه لولا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال، لأنها مدبرة ولا منفعة لها، خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه(8/211)
إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده، والآمر هو الله تعالى.
وهذا كله معنى قوله تعالى: {أتينا طائعين} .
) .
قال: (ومثال هذا في الاستدلال: لو أن إنساناً رأى جمعاً عظيماً من اناس، ذوي نطق وفضل، مكبين على أفعال محدودة، لا يخلون بها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم، وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال، وأن لهم آمراً هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة، للعناية بغيرهم المستمرة، هو أعلى قدراً منهم، وأرفع مرتبة، وأنهم كالعبيد مسخرين له.
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} .
وإذا اعتبر الإنسان أمراً آخر، وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة،(8/212)
له حركات خادمة لحركاته الكلية، ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي، كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضاً على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمراً خاصاً بهم، رقيباً عليهم، من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش: أن يكون منها جماعة جماعة، كل واحد منها تحت آمر واحد، وأولئك الآمرون، وهم المسمون العرفاء، يرجعون إلى أمير واحد، وهو أمير الجيش.
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء.
من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين، وترجع السبعة - أو الثمانية، على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول.
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه، سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم، وكيف ارتباط وجود سائر(8/213)
الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم، فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها، أعني قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه، وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول.
وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها، لا فيعرض من اعراضها، كحال السيد مع عبيده، بل في نفس وجودها، فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية.
وهذا هو معنى قوله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ، وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون(8/214)
من الموقنين} وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا، فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا، وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل، وإن كان يعترف بالوجود، فمن رام أن يشبه الوجودين: أحدهما بالفاعل، وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا، فهو شديد الغفلة، عظيم الزلة كثير الوهلة) .
قال: (فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية.
وفي إثبات الخلق لها، وفي أنه ليس بجسم، وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام، واحدها هي النفس) .
قال: (وأما إثبات وجوده من كونها محدثة، على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون، فعسير جداً والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه) .(8/215)
قلت: فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله.
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة، فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركاً لها، من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به، يحركها تحريك المحبوب لمحبه، بل تحريك المتشبه به للمتشبه، كتحريك الإمام للمؤتم، فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه، كتحريك الطعام للآكل، ولمرأة للجماع.
وأما هذا فقد جعله آمراً لها بالحركة، مسخراً لها بذلك، مكلفاً لها بذلك.
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك، كم يتشبه المؤتم بالإمام.
كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول
قال: والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق،(8/216)
والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة، وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام، فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك.
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات، فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبهاً به محبوباً لها كما ذكر أرسطو، فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها، وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود، وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى.
نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع، كما ليس ذلك في كلام أرسطو.
وفي باطل وتناقض من وجوه:
(الوجه الأول)
أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها، كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال: إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة(8/217)
الآمر، يعني الحركة كما ذكر أرسطو، وجعلها تارة مستغنية عنها، ولكنها كلفت بها لأجل السفليات، وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم، وهم غير محتاجين إليها.
الوجه الثاني
أن غاية ما في هذا أن يكون آمراً لها بالحركة، وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه، ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل، كما ذكره في أمر الملك لنوابه، وأمر القائد لجيشه.
وأمر السيد لعبيده.
الوجه الثالث
أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها، فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة؟.
الوجه الرابع
أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها، وأنه لا قوام لها إلا بالحركة، فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطاً في قوامها، ويكون فاعلاً لشرط من شروط وجودها، ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها، ولا أبدع أعيانها.
الوجه الخامس
أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك، وأن فيها عقلاً هو فوقها في الرتبة، والدليل الذي ذكره هذا، وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة، في إثبات العقول، إنما يدل على إثبات عقول(8/218)
هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها، من جنس العقل الموجود في نفوسنا، فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها، فلا دليل لهم على ذلك أصلاً.
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك، لذكرت ألفاظهم بأعيانهم، ليتبين لك ما ذكرته.
ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر، والجواهر أعراضاً، والصفة هي الموصوف، والموصوف هو الصفة.
وعلى هذا بنوا كلامهم، كما صرحوا به في غير موضع.
ومن هنا يظهر:
الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم، وجعلوا نفس العلم هو جوهراً قائماً بنفسه واجب الوجود.
وهذا من أعظم سفسطة في الوجود، وهو شر من كلام النصارى بكثير.
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة، وهو العقول التي جعلولها مبادىء، أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا.
ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم، لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون، كليات مجردة عن الأعيان، وهي المثل الأفلاطونية، وجعلوها أزلية أبدية، وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه، وقالوا: الكليات لا يكون(8/219)
وجودها منفكة عن الأعيان.
وهؤلاء ظنوا أيضاً أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضاً غلط، فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات، ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم، حتى في واجب الوجود قالوا: إنه هو العلم، وإنه العالم، وأن العلم هو القدرة، فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة، وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم، الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته، لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك، وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك، وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.(8/220)
وابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان، وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها، والمراد بأمره بالحركة: كونه محبوباً لها، أي تحب أن تتشبه به، لا أنها تحب ذاته، كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم، وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر، وكل واحد يأمر من دونه، وكلها ترجع إلى الآمر الأول.
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئاً من أعيان المأمورين: لا صفاتهم ولا أفعالهم، بل الملك الآمر له شعور بأمره، وطلب من المأمور، وأما كون الشيء محبوباً مشتاقاً إليه أو للتشبه به، فليس في هذا صدور أمر من أمر، ولا شعور بالمحب المشتاق، ولا طلب لفعل منه.
وابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها، بأنها لو كانت موجودة من ذاتها، أي قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير، وألا تطيعه، كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول، وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها.
لا في عرض من أعراضها.(8/221)
فيقال له: أنت لم تقرر أنه آمر لها، وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها، أي تحب التشبه به، وهب أنه آمر لها، فأنت لم تذكر دليلاً على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة، إلا قولك: (إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية) .
وهذه دعوى مجردة.
فلم لا يجوز أن يقال: تلك العبودية زائدة على الذات؟
وقولك: (إنها تقومت بالعبودية) : إن أردت تقومت.
بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها، فهذه دعوى أرسطو، وقد علم ما فيها.
وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة، بل يقتضي أن تكون الحركة شرطاً في وجودها.
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى، فهذا هو المطلوب، ولم تذكر عليه حجة.
وأيضاً فقولك: علم أن الآمر لها غيرها، وهو غير جسم، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها - كلام لا حجة فيه، لوجهين:
أحدهما: أنه مسخراً للعقول: ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة، فلماذا يلزم إذا كان مسخراً للأجسام، أن يكون من الأجسام(8/222)
المسخرة؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة، فلا يلزم أيضاً إذا قيل: هو قائم بنفسه، أو هو حي عليم قدير، أو هو جوهر، أو جسم أو ذات، أو غير ذلك، أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس.
الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون خارجاً عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه، وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها، وهو موصوف.
وهو آمر لموصوفات، وأمثال ذلك.
وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق، لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلاً للمأمور.
وأيضاً فإنك قلت: لو تخيلت أمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة.
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر، كما يقولون: لا توجد الأفلاك إلا بالحركة، وهي قبول الأمر، أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر، وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك.(8/223)
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته، أعظم من حاجة ما دونها إليها: فكيف يقال في هذا: لا يوجد إلا به؟ ويقال في ذلك: لا يوجد إلا بقبول الأمر؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها، كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار.
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلاً بإبداع ما في الأرض، وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم، كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح، وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس، وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب.
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة، وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل، أو محبوب منفصل يحب التشبه به، فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك.
ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك، لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه، وهم لم يقروا ذلك.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، لكن يمكن تقريره بأن يقال: إذا كان قوامها بحركتها، وقوام حركتها به، فقوامها به، وإذا كان قوامها(8/224)
به، امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها، لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره.
وإذا كان الفلك متحركاً بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود، فيكون ممكن الوجود بنفسه.
وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، فيجب أن يكون مفتقراً إلى مبدع فاعل، كما كان مفتقراً إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به.
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود.
لكن هم لم يذكروا هذا، وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكناً.
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم، لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكناً لا واجباً بنفسه بهذه الطريق، فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه، وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر.
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكناً مصنوعاً، صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه.
عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكناً، كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثاً، قال: (فإن قيل: إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود(8/225)
لم يكن له علة: لا خارجة عنه ولا داخلة فيه، فإن كانت له علة لكونه مركباً، كان باعتبار ذاته ممكناً، وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود) .
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه، وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة، وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية، فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار.
قال: (وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين) : واجب الوجود وممكن الوجود (فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة) (يعني العلة الفاعلة) وإثباتها، فكأنهم يقولون: إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها؟ فيقول الدهري: لا علة لها، فما المستنكر؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا، فنقول: إنه واجب وليس ممكناً.
وقولهم:(8/226)
الجسم لا يكون واجباً تحكم لا أصل له) .
قال ابن رشد: (قد تقدم من قولنا: إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة، وفهم من ممكن الوجود ما له علة، لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين، معترفاً بها، فإن للخصم أن يقول: ليس كما ذكر، بل كل موجود لا علة له.
لكن إذا فهم من واجب الوجود: الموجود الضروي، ومن الممكن: الممكن الحقيقي، أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له، وهو أن يقال: كل موجود فإما أن يكون ممكناً أو ضررياً، فإن كان ممكناً فله علة، فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن، تسلسل الأمر.
فيقطع التسلسل بعلة ضرورية، ثم يسأل في تلك العلة الضرورية: إذا جوز أيضاً أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة، فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل، وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة) .
قال: (وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات، وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو(8/227)
ضروري بغيره.
وأما: هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك، فأما مسلكه فهو مختل ضرورة، لأنه لم يقسم الموجود أولاً إلى الممكن الحقيقي والضروري، وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات) .
قال: (ثم قال أبو حامد مجيباً للفلاسفة في قولهم: إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته.
فإن قيل: لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء، وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء، وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة.
قلنا: ليكن كذلك، فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها، ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها، بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية، فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول، وقد أبطلنا عليهم، ولا سبيل لهم سواه) .
قال: (فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام، لا يصل(8/228)
لاعتقاد في الصانع أصلاً) .
قال ابن رشد: (هذا القول لازم لزوماً لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم، وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء، وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا، وقد قال: إن أشرف من طريقة القدماء، وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل، من أمور متأخرة، وهي الحركة والزمان.
وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود، ولو أفضت لكان ما قال صحيحاً، لكنها ليس تفضى) .
وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجوداً فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركباً من مادة وصورة، وبالجملة أن يكون له جزء، فإذا وضع موجوداً مركباً من أجزاء قديمة، من شأنها أن يتصل بعضها بعض، كالحال في العالم وأجزائه، صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود) .(8/229)
قال: (هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجوداً هو واجب الوجود، وقد قلنا نحن: إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية، ولا تفضى بالطبع إليه، إلا على النحو الذي قلنا، وأكثر ما يلزم هذا القول، أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسماً بسيطاً غير مركب من مادة وصورة، وهو مذهب المشائين، لأن من يضع مركبا قديماً من أجزاء بالفعل، فلا بد أن يكون واحداً بالذات، وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه، أعني بسيطاً ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحداً.
وكذلك يقول الإسكندر: إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم، كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض.
والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم، والرباط الذي بين أجزاء(8/230)
الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع، من قبل الرباط القديم، من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص، كالحال في العالم، فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره، كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان) .
قال: (وقد رأينا في هذا الوقت كثيراً من أصحاب ابن سينا، لموضع هذا الشك، تأولوا على ابن سينا هذا الرأي، وقالوا: إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقاً وقالوا: إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع، وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية.
قالوا: وإنما سماها فلسفة مشرقية، لأنها مذهب أهل المشرق، ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية، على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة) .
قال: (ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير ما مرة،(8/231)
وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها، وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها.
وتكلمنا أيضاً على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى، لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو، وكلا الطريقين صحيحة، لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو.
قال: (ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي، على ما أصف كانت حقاً، وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات: الوجود في الجوهر، والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر.
وهذه الطريقة هي أن نقول: إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوه فيه أصلاً: لا في الجوهر، ولا في غير ذلك من أنواع الحركات.
وما هكذا فليس بجسم.
مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه، وظهر منه أنه(8/232)
ممكن الوجود في الحركة التي في المكان، فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً: لا على حركة، ولا على غيرها، فلا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات.
وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلاً، ولا قوة في جسم، وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر: إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع، وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية) .
قلت: المقصود ذكر طرق هؤلاء، ومنتهى نظرهم ومعرفتهم، وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله، إنما تلقاه من طرق المتكلمين، كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة.
وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء، فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير، فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين، وطرق الفلاسفة والصوفية.
ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقاً، حتى نفقت على كثير من أهل الملل، بخلاف فلسفة القدماء، فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد.
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية، وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جداً، قليل(8/233)
الفائدة إذاكان صحيحاً، مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير، مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا.
وهوكما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود، مضمونه: أن الممكن الوجود، هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء: المحدث بعد عدم، يجب أن تتقدمه واجب الوجود، وهو القديم الذي لم يسبقه عدم.
وهذا هو بعينه قول المتكلم: إن المحدث مفتقر إلى قديم.
ثم قال: (وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوة فيه أصلاً، وليس بجسم) .
وهذا لم يذكر عليه دليلاً صحيحاً.
وقوله: (إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود) أي قديم في جوهره، (وأنه ممكن الوجود في الحركة) هو قول الفلاسفة الدهرية، الذي يقولون: إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة.
وهذا لا دليل له أصلاً، بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في(8/234)
قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك، بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلاً، وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك.
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله: يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً لا على حركة ولا غيرها، فلا يكون جسماً، أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة.
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل، فلم قال: إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسماً؟ يقال: غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكناً.
فيقال: كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه.
فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك.
فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان.
ثم يقال: بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم، وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركاً وإما أن لا يكون.
فإن لم يكن متحركاً كان محركاً لغيره بدون حركة فيه.
وهذا إما أن يكون ممكناً وإما أن يكون ممتنعاً.
فإن كان ممكناً بطل مذهبهم، وإن أمكن فالفلك نفسه: إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان واجباً بنفسه وحركته ممكنة، وهو محتاج في حركته(8/235)
إلى محرك منفصل، كان واجب الوجود بنفسه جسماً متحركاً بحركة تقوم به، يفتقر فيها إلى غيره.
وحينئذ فيمكن أن يقال: المحرك للفلك هو أيضاً جسم متحرك بحركة فيه، سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج.
وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى.
وإن قيل: إن الفلك ممكن الوجود، فلا بد له من الواجب، فيكون الواجب علة موجبة له.
فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك.
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل، وهو ممتنع.
وإن لم يكن علة تامة له، لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة.
وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم، وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل، فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب، إذ لا شيء له من نفسه.
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة، وهو أن الحركة الدائمة في الفلك، إذا كانت صادرة عن موجب، فالموجب لها: إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها، وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجباً بعد أن لم يكن.
وذلك التمام: إن كان له من نفسه كان متحركاً، وهو خلاف ما زعموه، وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه، مفقتراً في تمام فعله إلى غيره.(8/236)
وهذا أعظم عليهم: وهو أن يكون متحركاً بحركة من غيره.
وإذا قيل: نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب.
قيل: الفعل إذا كان قائماً في الواجب بنفسه، لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون مفتقراً في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته، بل كل ما سواه فقير إليه.
وأما على قولهم: فهم يقولون: إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال، ويقولون: إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئاً بعد شيء.
فيقال لهم: الفلك إن كان واجباً بنفسه، فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئاً بعد شيء، فامتنع أن يقولوا: إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال.
وإن كان الفلك ليس واجباً بنفسه، لم ممكن بنفسه، فهو صادر عن الأول: ذاته وصفاته وأفعاله.
فإذا قدر قديماً لزم أن يكون المقتضى التام له قديماً، والفلك الممكن قابل للحركة شيئاً بعد شيء، فلا بد له من واجب، والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها، فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئاً بعد شيء، فإذا قدر الفاعل الفلك، ففاعله الفلك ممكنة، فإذا حدثت شيئاً بعد شيء لم يكن(8/237)
لها بد من فاعل.
وحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع، فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمراً يتعلق بالواجب، وذلك من لوازم الواجب، لا يفتقر إلى غير الواجب، وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن، فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره، فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره.
وهذا قد بسط في موضع آخر، وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم، سواء قدر الفلك واجباً بنفسه، أو قدر ممكناً واجباً بغيره.
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة، فإما أن يكون طويلاً لا يحتاج إليه، أو ناقصاً لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصاً عظيماً إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم.(8/238)
وهذه الطرق التي أخدها، ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين.
وليس الأمر كذلك.
وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعال فيهم: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك.
والذي أحدثه الفلاسفة، كابن سينا وأمثاله، عن المعتزلة: منه ما هو صحيح، ومنه ما هو باطل.
فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون(8/239)
شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص.
والباطل نفي الصفات.
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين، ولم يقتصر على مجرد ما قالوه، بل وسع القول فيه، حتى وصله كلام سلفه الدهرية.
فالأول: وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص، ضم إليه: أن كل ممكن، وإن كان قديماً، لا يترجح إلا بمرجح، وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود.
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة، وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة.
والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث، بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك، ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن.
وابن سينا وافقهم على ذلك، فتناقضت عليه أصوله، وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم، فهو نفي الصفات، ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيماً، والتجسيم تركيباً، ويقولون: إن المركب لا بد له من مركب، فلا يكون مركباً، فلا يكون(8/240)
جسماً لأن الجسم مركب، فلا يقوم به صفة، لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم، ولا يكون فوق العالم، لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم.
ولا يرى في الآخرة، لأن الرؤية إنما تقع على جسم، أو عرض في جسم.
وكلامه مخلوق، لأن لو قام به الكلام لكان جسماً.
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول، وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك، فزاد في نفي الصفات عليهم، حتى كان أظهر تعطيلاً منهم، بل أبلغ تعطيلاً من الجهم رأس نفاة الصفات.
وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور: بعضها أصابوا في مخالفتهم، وبعضها أخطأوا في مخالفتهم، لكن الذي أصابوا فيه، منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم، لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم.
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كـ الإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيداً، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيداً، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم.(8/241)
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن أظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم.
فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم.
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناءً على نفي التجسيم والتركيب، فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد.
وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما(8/242)
يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه.
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه.
ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقاً ومعرفة وتوحيداً.
ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء.
وكلام ابن عربي، صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله، فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك.
وأيضاً فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقاً مبايناً للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه.
وإنما يعرف ذلك من كان ذكياً خبيراً بحقيقة مذهبهم، ومم كان كذلك فهو أحد رجلين: إمامؤمن عليهم: علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام، فذمهم وعاداهم.
وإما زنديق منافق: علم حقيقة(8/243)
أمرهم، وأظهرمن ما يظهرون، وكان من أئمتهم.
فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار.
والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره.
كلام ابن سينا في الإشارات
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء، يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم، وتبين له مقصودهم.
فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم، الذي قال في خاتمته: (أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق، وألقمتك نفي الحكم، في لطائف الكلم، فصنه عن المبتذلين والجاهلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والروية والسعادة، وكان صغاه مع الغاغة، أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن(8/244)
همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته، واستقامة سيرته، أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس، ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق، فآته ما سألك منه مدرجاً مجزأ مفرقاً، تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه، وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها، أن يجري فيما تؤتيه مجراك، متأسياً بك، فإن أذعت هذه العلم وأضعته، فالله بيني وبينك)
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له، كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له.
وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم.
والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه، لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته، سلك ما ذكرته لك عنه، كما قد ذكرنا في(8/245)
غير هذا الموضع، لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم.
قال في آخره: (فهذه هي المذاهب، وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً) .
والرازي لم يعرف وجه وصيته فقال: (إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد، فإنه يكون كلاماً أجنبياً عن مسألة الحدوث والقدم.
وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف، لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلاً، لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته، فسواء كان الواجب واحداً أو أكثر من واحد، لزم من كونه واجباً دوام آثاره وأفعاله.
وأما القائلون بالحدوث، فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية، فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد) .
قلت: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحدة لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا(8/246)
التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم: إخراج الحوادث كلها عن فعله.
وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه، وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة، وسموه أيضا توحيداً.
وهذا النفي الذي سموه توحيداً، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول.
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم، وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم: أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به، الذي يقولون: إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته.
وأيضاً فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا إنما يتم إذا ثبت موجوداً مجرداً لا صفة له ولا نعت، وإلا فإذا كان الخلق موصوفاً بصفات متنوعة: كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة،(8/247)
الرحمة، بأفعال متنوعة: كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحداً عندهم، بل كان مركباً وجسماً.
وحينئذ فيقال لهم: هذا الذي تسمونه واحداً لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو أمر يقدر في الأذهان، لا يوجد في الأعيان، وهو نظير الواحد البسيط، الذي يجعلون منه تتركب الأنواع، فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات، ويقولون: إنه منه تتركب الأنواع الموجودة، هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات، ويقولون: هو مبدأ الوجود.
وكلاهما لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو يقدره الذهن، كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان، وكما يقدر بعداً مجرداً ودهراً مجرداً ومادة مجردة، كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم.
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه: إما الواحد الكلي البسيط، الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها، وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات.
ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم، فبطل نفيهم للصفات، وبطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فبطل قولهم في الأفعال، فبطل ما قرروه في قدم العالم، وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة، حيث قالوا: كيف يصدر عنه ما لم يكن صادراً، من غير قيام أمر متجدد(8/248)
به؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم.
أيضاً فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه، بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات، فكان هذا عصمته التي لا بد له منها.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم، ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين، كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين.
والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه، فقال: (أوهام وتنبيهات.
قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته، واجب لنفسه، لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى: {لا أحب الأفلين} فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما) .(8/249)
قلت: وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه، ليس له موجب آخر.
وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية، وإليه يعود كلام محقيقهم، ولهذا كان أئمة الكلام القدماء، من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، كأبي على الجبائي وأمثاله، وكـ القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأمثالهما، لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول.
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته، فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة.
وقد حكي هذا القول عن برقلس، وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة، وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة، وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود، وأنه لايكون موصوفاً بصفات فتكون فيه كثرة، ولا يكون جسماً فتكون فيه كثرة، ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيباً كتركيب الجسم من أجزائه الحسية: الجواهر المفردة، ومن أجزائه العقلية: وهي المادة والصورة، ومن الذات والصفات، ومن العام والخاص، ومن الوجود والماهية.(8/250)
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين، بل وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة، فساد ما ذكروه في هذا التوحيد، وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيباً، وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلاً إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه، لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل، فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم.
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده، فضلاً عن إثبات أفعاله قال: (وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول.
ثم افترقوا: فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة.
وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين.
وأنت خبير باستحالة ذلك.
ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك.
وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم) .
فيقال له: الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء، يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين، فإن ما لم يكن معولاً كان واجباً لنفسه، فهؤلاء جنس واحد، حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من(8/251)
واحد.
ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها، ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء: أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد، فيقولون بالتعدد في الصانع.
وأولئك إذا أثبتوا أصلاً وطنية غير معلولة، فلا يجعلونها فاعلة صانعة، بل قابلة للفاعل، فهؤلاء يقولون: إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم، كابن زكريا المتطبب حيث قالوا: القدماء خمسة، وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى، فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس.
وكان ابن سينا ذكر هذا القول، وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة.
فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه، فإن هذا يقول: سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة.
وهذا يقول: سببه عشق النفس للهيولى، ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه، فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة.
وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره، كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة.
وحينئذ فيقال: مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه، والعالم مع ذلك محدث الصورة.
فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب، ولا يقولون بقدم العالم، ولا يقولون بأن طينته غير(8/252)
معلولة.
وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات، مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة، وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل، فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره، ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم، بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء، فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سبباً حادثاً، ويجعلون الفاعل معطلاً عن الفعل، ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث، ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها.
قال: (ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد، ثم افترقوا فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه، ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه، ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل، لأن كل واحد منها وجد، فالكل وجد، فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود.
قالوا: وذلك محال، وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معاً فإنها في حكم ذلك، وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال(8/253)
توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له، فتكون موقوفة على ما لا نهاية له، فيقطع إليها ما لا نهاية له.
ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال، وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟ ومن هؤلاء من قال: إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد، ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل، ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء) .
قال: (وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول، يقولون: إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية، وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئاً، أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلاً، وحال بخلافها، ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع، وأن(8/254)
تسنح جزافاً.
وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال، وكيف تسنح إرادة لحال تجددت، وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد، كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالاً واحدة مستمرة على نهج واحد، وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر، أو لأمر زال مثلاً لحسن من الفعل وقتاً ما، أو تيسر، أو وقت معين، أوغير ذلك مما عد، أو لقبح كان يكون له قد زال، أو عائق، أوغير ذلك كان فزال.
قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة.
فهذا الداعي(8/255)
ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال، وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال، وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره، فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه.
وأما كون غير المتناهي كلاً موجوداً ككون كل واحد وقتاً ما موجوداً فهو توهم خطأ، فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل، وإلا لكان يصح أن يقال: الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود، لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود، فيحمل الإمكان على الكل، كما حمل على كل واحد.
قالوا: ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوماً إلا شيء بعد شيء، وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل، ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم.
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له، أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له، فهو قول كاذب.
فإن معنى قولنا: كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفاً معاً بالعدم.(8/256)
والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول، وكذلك الاحتياج.
ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات، يصح أن يقال: إن الأخير كان متوقفاً على وجود مالا نهاية، أو محتاجاً إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له، بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية، ففي جميع الأوقات هذه صفته، لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد، فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها، وذلك محال، فهذا نفس المتنازع فيه: أنه ممكن أوغير ممكن، فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى؟ قالوا: فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أولياً وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوماً ذاتياً، إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير) .(8/257)
قال: (فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك) .
تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه، فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة، وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم، وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى، وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص، فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص، فينتفي التخصيص، فينتفي ما ذكروه من الحدوث.
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح، حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص.
وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع، هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود، لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود، فتخصيصه بالوجود دون العدم، وبالعدم دون الوجود، كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت.
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة(8/258)
جميعاً، وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه، والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه، فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل، فلما لم يطردوه نقض قولهم.
وحينئذ فيقال له: بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك، إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم.
فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين؟.
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية: التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحداً من القولين، فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك، فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضاً قولك؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسداً، وكذلك إن كان صحيحاً، فهو فاسد على كل تقدير.
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث.(8/259)
فيقال لك: وأنت تقول: إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث.
وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات، فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث، فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص.
وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص، وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث، فهم إن كان ما التزموه باطلاً فقد التزمت أضعافه، فيكون قولك أفسد.
وإن لم يكن باطلاً بطلت حجتك على إبطال قولهم، فتبين أن إبطالك لقولهم، مع اعتقادك لما تعتقده، باطل على كل تقدير، وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها، هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم، والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها، إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها، فأنت أعظم تناقضاً في عدم طردك لأصولك مطلقاً: صحيحها وفاسدها.
وبيان ذلك أنه قد قال: يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، ومايلزم من ذلك لزوماً ذاتياً وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير.(8/260)
فيقال له: إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، واللازمة من ذلك لزوماً ذاتياً، كما يقوله في لزوم الفلك عنه، وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها، فاللازم لهذه اللوازم: إما أن يكون لازماً لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، أو لازماً لها في حال دون حال.
فإن كان لازماً لها في كل الأوقات، وجب أن لا يحدث شيء، وأن لا يكون تغير أصلاً.
وإن كان لازماً لها في وقت دون وقت، فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات، والأمور الحادثة في الأوقات، حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت، وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث، لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث، لأن الأمور الكائنة عنه كوناً أزلياً، وما يلزمها لزوماً ذاتياً، نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته، لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته، لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفاً لحاله، ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر.
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه،(8/261)
فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث، بطل أصل الكلام.
وإن لم يجز ذلك، لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت، إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت، وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له.
فلا بد من أحد أمرين:
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة، فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط، وهذا أشد إبطالاً لقولهم.
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها، إلا لتخصيص لها بذلك، إذ لو اختصت دون تخصيصه، للزم الحدوث بلا محدث، وهو ممتنع.
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك، كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم.
وهذا أمر لا محيد لهم عنه، هو يبين بطلان قولهم بياناً ضرورياً لمن فهمه.
إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير.
وهذا يناقض ما قالوه.
فهم بين أمرين: إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير، لم يمكنهم(8/262)
إبطال قول المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب، بل بمجرد القدرة، أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة.
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير، بطل قوهم كله.
فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه، مختلف القدر والصفات، وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات.
وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم، سواء قالوا: هو صدر عن العقل الذي لا يتغير، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير، كما يقوله ابن رشد وأمثاله، أو صادر عن الواجب بتوسط العقل، كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله، أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير.
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة، وكانوا أكثر التزاماً للباطل الذي قرروا أنه باطل، وأبطلوا به قول المعتزلة.
وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلاً، لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها، فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها: لا بوسط ولا بغير وسط.
وتلك الحوادث لم تحدث(8/263)
عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة، فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث، وأن لا يكون الرب تعالى محدثاً لشيء من الحوادث.
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع، ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم، فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم: بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع.
فقال لهم: أنتم عطلتم الصانع دائماً عن صنع شيء من الحوادث، على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا، فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئاً من الخير والإحسان أزلاً وأبداً.
وأما صنعه اللوازم وجوده، فهذا أنتم منازعون فيه، وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه.
وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلاً وأبداً.
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع، فهذا ليس قولاً معروفاً لطائفة معروفة، بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع.
وهذا ضروري في العقل.
وعلى قولكم: الحوادث دائماً تحدث، وليس لها صانع، فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلاً.
وأيضاً فإن الحوادث مختلفة في(8/264)
صفاتها ومقاديرها.
كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة.
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره، وإن جاز ذلك بطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه، سواء كان صادراً عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول، أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة، فكيف ما قدروه، فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه.
وأيضاً فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة، وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة، كحادث الطوفان وأمثاله، بل إرسال موسى عليه السلام، وما تبع رسالته من الحوادث، وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وما تبع رسالته من الحوادث، وأمثال ذلك، هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان، فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، وقد قالوا لأجل هذا: يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم، وقالوا: العالم قديم لذلك، ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث، ما في ذلك القول وزيادات، فإن المعتزلة يقولون: التخصيص إنما وقع(8/265)
وقت إحداث العالم فقط، ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم.
وهؤلاء يقولون: لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب، مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة.
والأشعرية ونحوهم، وإن قالوا: إنه لا يزال يخص وقتاً دون وقت بحدوث الحوادث، من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة، التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة، فهم أطرد لقولهم من قولكم: إن نسبته إلى الأوقات واحدة، مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر، مع استواء نسبته إلى الأوقات.
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته، في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية.
وأيضاً فمعلوم أن الحركات مختلفة، والمتحركات مختلفة، وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس، بل لكل فلك، أو لكواكب كل فلك، حركة تخصه، فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت، ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب، على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت.
تعليق ابن تيمية
والجمهور من أهل الهيئة يقولون: المتحرك هو الأفلاك، وإن(8/266)
الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه، وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن، فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط، بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد، سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة.
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة، فهو جمع بين النقيضين، وقول متناقض.
وأما الصدور بواسطة، فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد، فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد، وإلا كان قولاً متناقضاً، فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة، فقدر صدر عنه أكثر من واحد، وإن لم يكن في الصادر كثرة، وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد، وهلم جراً، وهذا خلاف المشهود.
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم: إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه، وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل، وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك، أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل، وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك، أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا، وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا، أو مهما قالوه(8/267)
من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام، فهي مع كونها أقوالاً لا دليل عليها، وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب، بل والدليل يقوم على فسادها، فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم، فإن تلك الوجوه إما أن تكون أموراً وجودية أو عدمية، فإن كانت وجودية، فقد صدرت عن الأول، فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة، وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحداً بسيطاً، وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد.
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة، فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه، وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية، فلا يصدر عنه إلا واحد، وهلم وجراً.
وأيضاً فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان، كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية، كما بسط هذا في موضع آخر.
وإذا كان كذلك، فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية، وهي فعل الرب الدائم فعله، قول باطل لوجوه:
أحدها: أن الحركات ليست واحدة، بل حركات مختلفات وليس بعضها صادراً عن بعض.
فقول القائل: إنها واحدة قول باطل.
الثاني: أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة(8/268)
نوعاً واحداً أو أنواعاً مختلفة تحدث شيئاً بعد شيء، وإذا كان الأول علة تامة أزلية، كان مستلزماً لمعلوله، فلا يتأخر عنه شيء من معلوله، بل يكون معلوله كله أزلياً أبدياً دائماً بدوامه، إن أمكن مقارنة المعلول لعلته، لا يحدث منه شيء بعد شيء، فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية، لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها، وهو لا يكون بينه وبينها فصل، فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية.
الثالث: أن يقال: كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان، أمر لا يعقل وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن، كما يقدر الممتنعات.
وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم، فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها، وكان زمانهما واحداً، ولكن قد يكون الشيء مستلزماً لغيره ومقارناً له في الزمان، كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر، كحركة الخاتم واليد، لكن لا يكون الملزوم فاعلاً للازم، فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة.
ولكن لفظ (العلة) فيه إجمال واشتباه واشتراك، فقد يراد بها الملزوم الموجب، وقد يراد بها الفاعل.
والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له، لكن موجبه الذي هو(8/269)
مفعول له لا يعقل مقارنته له، لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئاً بعد شيء، فتكون المفعولات صادرة عنه شيئاً بعد شيء.
وهؤلاء أصلوا أصلاً فاسداً ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه، ولا يكون معلول إلا لعلة تامة.
وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم في قولهم: إن المؤثر التام يجوز، بل قد يجب، أن يتراخى عنه أثره، فقالوا: الباري كان في الأزل مؤثراً تاماً وتراخى عنه أثره.
فقال أولئك: بل يجب أن يقارنه أثره.
والصواب قول ثالث، وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون الأثر عقبه، لا مقارناً له، ولا متراخياً عنه.
كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق.
قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} ، فإذا كون شيئاً كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخياً عنه.
وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه.
وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثاً مسبوقاً بالعدم، فإنه إنما يكون عقب تكوينه له،(8/270)
فهو مسبوق بغيرهم سبقاً زمانياً.
وما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام.
وأما على قول هؤلاء، فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم.
منها: أنه لا يحدث في العالم شيء، فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان، وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط، لزم أن يكون كل ما سوى الله قديماً أزلياً.
ومنها: أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد.
وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء، وهو تسلسل علل ومعولات، أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها، فإنه كلما حدث حادث، فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه، وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك، فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى، أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد.
وإذا قالوا: كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم، لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني.
وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه.
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون: المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها، فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول.(8/271)
وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى.
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين، فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئاً فشيئاً عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع، كالحجر الهابط، وكالمسافر إلى بلد، فإنه يقطع المسافة شيئاً فشيئاً، والمقتضى لقطعه المسافة، وهو قصده تلك المدينة، قائم.
لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول.
فيقال لهم: هذا يدل على فساد قولكم، فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره، ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه، فليس هذا نظير قولكم، بل هو نظير قول من يقول: لم يزل يحدث شيئاً بعد شيء، وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول.
وهذا نظير قول من يقول: لم يزل متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء، فوجود الثاني، كالإرادة الثانية، والكلمة الثانية، والفعل الثاني، مشروط بانقضاء الأول، وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني.
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم(8/272)
البتة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو وحده الخالق لكل ماسواه، وكل ما سواه مخلوق، كما قال تعالى: {الله خالق كل شيء} .
وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام، أو حدوث العالم، بامتناع حوادث لا أول لها، ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة.
ولهذا كان أئمة أهل الكلام، كـ الرازي وغيره، يوفقونهم على فسادها، فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية كـ الأربعين ونهاية العقول وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها، كما تقدم تقريره، واعتراض إخوانه عليه، فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة، ويقرر وجوب دوام الفاعلية، وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب، وامتناع حدوثها في غير زمان، ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب، كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره.
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه، كـ الآمدي والأبهري والأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم، أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه، أو أخذوه هم من حيث أخذه هو.
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته، ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له، فأجدهم قد أخذوا ذلك(8/273)
الأعتراض أو الجواب، أخذو، من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي، فإنه أخذه من المطالب العالية.
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها، قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضاً.
ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم.
وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين، ومن المعتزلة والأشعرية، هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحاً لم يجيبوا عنه.
فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام، بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة.
وأنه جهل لا علم.
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك، واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك، فإن النظر: إما أن يكون ناظراً بنفسه حتى يتبين له الحق، أو يقلد المعصوم، فهذان طريقان علميان، وإما أن يكون محسناً للظن بشيوخ تقدموا، من شيوخ هذا الكلام المحدث، فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم.
فالسلف والأئمة عارضوهم، وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، والفلاسفة أيضاً عارضوهم وناقضوهم.(8/274)
وإذا قال القائل: هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام، ومثل الجهم بن صفوان، واتبعهم عليه مثل أبي علي وأبي هاشم، وعبد الجبار بن أحمد، وأبي الحسين البصري، وغيرهم.
ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام، وابن الهيثم وغيرهما، ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر، وأبي المعالي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، ابن الزاغوني، وأبي عبد الله المازري، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم، بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة، فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة، وإن كان أصلها مأخوذاً من الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وغيرهما.
قيل لمن قال هذا القول: الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين، إلا لما قام به من دين الإسلام، الذي كان فيه موافقاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام، والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول، فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله، وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمظهر لباطل من خالف الرسول، وما من أحد من هؤلاء، ومن هو أفضل منهم، إلا وله غلط في مواضع.(8/275)
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم، من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟
وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} ، فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئاً، وسل الله أن يلهمك ويهديك.
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي «أن الله تعالى قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» .
وقد ثبت في صحيح مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام(8/276)
من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ، فالضلال وقع في السمع والعقل، فإن أقواماً نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم، وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه، ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة، وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله، مما عرف بالنص والإجماع.
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة، ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات، وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول، بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث، وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها، وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد(8/277)
أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة، وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك، وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك.
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» ، وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله، بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول، ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ، وهو بعد في قطع هذه المسافة، فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس، حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه، فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار، لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع، لينظر في قوله وقول غيره، كما يفعل من نظر في أقوال النظار، فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى؟.
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس، وقد بلغه أن لبقراط وجالنيوس وأمثالهم فيها نصاً، لم ينبغ له أن يثبت القول فيها(8/278)
حتى يعرف ما قاله هؤلاء، مع جواز غلطهم في نفس الأمر، فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية؟.
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية، من الفلاسفة وغيرهم، أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل، لا بإظهار الحقائق، إذ لم يكن إلا ذلك، فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليداً لهم، بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه، هل يطابق قول هؤلاء، أم يورث علماً ضرورياً بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمداً أو خطأ: إما عناداً وإما ضلالاً؟ وهذا مبسوط في موضعه.
تعليق ابن تيمية
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم، في مسألة حدوث العالم ونحوها، استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق، التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم، ومخالفة نصوص الأنبياء،
وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء.
وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً،(8/279)
وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلاً، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلاً، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، بل يوافقها.
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً عقلياً يناقض هذا، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها، التي عجز المتكلمون عن حلها، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلاً ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن، ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثاً، لا يناقض ذلك، وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا: إن الله كان، ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئاً، بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعاً، لا مقدوراً له في الأزل، ثم إنه صار ذلك ممكناً مقدوراً بدون تجدد شيء، فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلاً.
ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم وأبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها، زاد الجهم: وبفناء العالم كله: الجنة(8/280)
والنار، فيكون الرب ما زال معطلاً من الكلام والفعال، صم لا يزال معطلاً من الكلام والفعال، وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جداً بالنسبة إلى الأزل والأبد، فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل، ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده، لكن هؤلاء، وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم، فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع، وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل، ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا.
وأما أولئك فقد يتأولون النصوص، أو يقولون: لها معنى لا نفهمه، ولا يقولون: إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل، بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه، فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل، وتارة في تأويل المنقول.
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه، ولكن يقولون كلاماً مضمونه أنه كذب للمصلحة، ولهذا سماهم المسلمون: ملحدين: فإنهم يلحدون في آيات الله، ولهذا يفضي بهم تأويل(8/281)
النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض، مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك.
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد، إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها، وإن كانوا متأولين في ذلك، فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل، ثم أمكنه ذلك بلا سبب، وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح، وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث، والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكناً بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم، بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثراً: إما أن يكون موجوداً في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن كان موجوداً لزم القول بأنه لم يزل فاعلاً، لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره، وإن لم يكن موجوداً امتنع وجوده بعد هذا، لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل، وإذا حصل وجب وجود الفعل.
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها، بأن(8/282)
يقولوا: المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته، أو إمكان الفعل وانتفاء المانع، وهو الأزل، أو حصول المصلحة.
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جواباً صحيحاً، فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به، والمعلوم يتبع الإرادة، فإن لم يكن المرجح ثابتاً في نفس الأمر، لم يكن العلم مرجحا.
وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين.
وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة، فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه، بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح.
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل، بل هو مخالف للشرع والعقل، فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له، وكذلك سائر ما ذكروه.
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح، وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها، فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه، وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح، فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه، والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصاً فتم.
والرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه، ثم يضعف هذا الجواب، وتارة يقول: بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من(8/283)
التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام، وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم، وأجود أجوبته المعارضة والنقض، وهو أنه يقول: هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم، وهو خلاف المشاهدة.
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل، فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك، ودليلهم لا يدل على ذلك، بل يدل على حصول مطلق الترجيح، لا على حصول ترجيح لممكنات معينة، ولا كل ممكن.
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم، فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين، كالعقول والنفوس والأفلاك.
ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك، بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئاً، فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه، لا مفعول له في الخارج، كان ذلك وفاءً بموجب دليلهم، وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلماً إذا شاء، كان وفاءً بموجب دليلهم.
وإذا قيل: إنه قامت به إرادات متعاقبة، كما قاله الأبهري، وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث، كان ذلك وفاءً بموجب دليلهم، إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، والمثبت لمطلق لا ثبت فعلاً معيناً ولا مفعولاً معيناً، فضلاً عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول.(8/284)
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم، وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثراً تاماً فيها، فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها، والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط، فلا يحدث حادث إلا منه، سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط، فلو كان المؤثر كما زعموه، من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري، لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها.
وهكذا الأمر في كل حال، وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة، فعنده يجب أن لا يكون علة تامة، فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم.
وإذا قالوا: حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه.
قيل لهم: هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد، كما في الشمس، وكما يقولونه في العقل الفعال.
فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد، وكل ما سواه من القوابل والمقبولات، والاستعدادات والإمدادات، فمنه لا من غيره، سواءً كان بوسط أو بغير وسط.(8/285)
وإذا كان كذلك، وكان حاله قبل إحداث كل حادث، كحاله قبل ذلك الحادث، امتنع أن يحدث منه شيء أصلاً: لا قابل ولا مقبول، ولا استعداد ولا إمداد.
فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلاً، فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئاً قط، بل ولا فعل شيئاً قط، بل حدثت الحوادث بلا محدث، فعلم أنه باطل.
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم، فقولهم بقدمه باطل.
ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة، بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه.
وأما أساطين القدماء، فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك، فهم قائلون بحدوث صورة العالم، ولهم في المادة كلام فيه اضطراب.
فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم، موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم.
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله، وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته.
وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول، من الأوائل والأواخر، كأبي البركات وغيره.
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه، ولا ابن سينا وأمثاله، على أن(8/286)
الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل، بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته، وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته: إرادة بعد إرادة.
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم، فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئاً بعد شيء، لا يقوم لهم دليل على أن شيئاً من مفعولاته لم يزل مقارناً له، إذ يمكن أنه فعل مفعولاً بعد مفعول.
وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله.
كما أخبرت بذلك الرسل.
فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأخبر أنه سبحانه: {استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} .
قال في الآية الأخرى: {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} .
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين، وأن السماء كانت دخاناً، وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار: أنه خلق السماء من(8/287)
بخار الماء، والبخار دخان الماء، كما أن دخان الأرض دخان.
وإن أريد بالدخان التراب فقط.
أو دخان التراب والماء، فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى، كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة، وأنه خلق الجان من مادة.
وثبت في الصحيح: صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .
وثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله به عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» .
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض» وفي رواية صحيحة: «ثم خلق(8/288)
السماوات والأرض» ، قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة، وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر.
وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء.
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض، وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء.
وكذلك في أول التوراة مثل هذا، سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض، وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء، وكانت الريح تهب على الماء، وذكر تفصيل خلق هذا العالم.
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجوداً قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام(8/289)
أخر فإن العرش أيضاً مخلوق، كما أخبرت بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون، فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا، لم يكونوا بقدم العالم، فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلاً، مع أنه في غاية الفساد.
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئاً، وأن الحوادث تحدث بلا محدث، بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود، وأنه ليس له مبدع.
وأرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها، واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية، فلا بد لها من غاية، وقال: إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه، والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق، بل ذاك لمحبته يتحرك إليه، فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به، كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه؟ فهكذا يقولون: أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى.
وقد بينا فساد قوله.
وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله، وما فيها من الفساد، في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل، ليس من دين المسلمين، كما أنه من خالف كتاب الله، وسنة رسوله، أو إجماع السابقين، ليس من دين المسلمين، فليس في دينهم الصحيح: لا ما يخالف صحيح المنقول، ولا ما يخالف صريح المعقول، ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول.(8/290)
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح، وأن هذا متفق عليه بين العقلاء، والله أعلم.
فصل
ثم إن الرازي، مع سلوكه المسلك المتقدم، ذكر أن هذه المتقدمة، أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، هي مقدمة ضرورية، وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك، فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها، والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعاً.
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث، فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه، وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم، فهو يبين أنه باطل، وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق: لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب.
ولكن قد ذكر أيضاً أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح.
وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء.(8/291)
وقد ذكر أن كثيراً من الطوائف يتنافضون، فيقولون بما يناقض هذه القضية، ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول: إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم، كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية.
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه، إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم: إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات، لا لأمر يختص به ذلك الوقت.
فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجوداً في كتاب الله أو سنة رسوله، أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين، ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم.
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها.
ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة.
وطوائف منهم ينازعون في ذلك، ويقولون: إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت، مع قولهم: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة، وقد علم النزاع في تسلسل الآثار، بل فيما(8/292)
يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها، وثبوت تسلسلها.
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء، فإن كان الممكن هو الحادث، كان كلاهما دليلاً على مدلول واحد.
القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه
وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث، فنقول: إذا كان ذلك ممتنعاً فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضاً.
بل هو أعظم امتناعاً لوجوه:
(الأول)
أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح، لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه، إذ لولا إمكان وجوده لما وجد، ولولا إمكان عدمه لما كان معدوماً قبل حدوثه، فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه، وذلك يفتقر إلى مرجح.
الثاني
أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص.
الثالث
أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح.
وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة، من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى(8/293)
المرجح، إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك.
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات، وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب، كانت طريقته أقوم، فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز، وهو الموجود الممكن، لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل، وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقاً لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح، وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه، ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح، كما سلك ابن سينا وأتباعه، كالسهروردي والرازي والآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء، حيث قالوا في موضع آخر: إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب، كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف.
ثم الذين استدلوا بذلك، ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل، كما فعل الجمهور، أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل، كما فعل ابن سينا ونحوه.(8/294)
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور، أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعاً، كما فعل الرازي ونحوه، وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك.
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي.
ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء، فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وابن عقيل، وأبي الحسن ابن الزاغوني، وأمثالهم، خير من طريقته.
كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم
وذلك أنه قال: (فإذا ثبت أن العالم محدث، فالدلالة على أن له محدثاً، هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث، وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث.
فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه، وإن حدث مع جواز أن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه.
وسندل على أنه عالم قادر، فصح قولنا) .
قال: (واستدل شيوخنا، رحمهم الله، على أن الأجسام تحتاج إلى محدث، بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث، لأجل أنه محدث، فكان حدوث(8/295)
كل محدث يحوجه إلى محدث، فإذا كانت الأجسام محدثه، احتاجت إلى محدث) .
قال: (والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث، هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث، وإن كرهناه، وكنا ممنوعين منه، فلما وقع بحسب قصدنا، وانتفى بحسب كراهتنا، علمنا أنه يحتاج إلينا.
والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أو لبقائه، أو لعدمه، فلو احتاج إلينا لأجل بقائه، لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني، ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه، لأن تصرفنا كان معدوماً قبل وجودنا، وقبل كوننا قادرين، فصح أنه احتاج إلينا ليحدث، ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا، وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه، فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة، هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا، وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة.
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم، حتى مثل أبي القاسم القشيري وأبي الوفاء بن عقيل، وبنوا ذلك على هذه.
وأما الطريقة التي ذكرها هو، وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن(8/296)
المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه، أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث.
وأبطل الأول، بأنه لو كان حدوثه واجباً، لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه.
وقد قال قبل هذا: إن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال، واستحال عدمه.
وهذا التقسيم لا يحتاج إليه، ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه، وذلك أن قول القائل: إما أن يحدث مع وجوب حدوثه، أو مع جواز حدوثه.
إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه، أو وجوبه بغيره.
فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع، بل يجوز أن يقال: المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه، أي وجد المقتضي التام لحدوثه، الذي يمتنع معه أن لا يحدث.
وهذا إذا قيل، فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضاً لا ينفي ذلك، فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع.
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجباً.
ويقولون: لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز، أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم، لا على وجه الوجوب.(8/297)
ويقولون: إن القادر المختار، سواء كان قديماً أو محدثاً، لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل، وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء.
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور، وفساد قولهم.
لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحاً أو فاسداً، فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع.
وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير، كان خيراً من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث، سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك، فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك.
وإما إن أراد القائل بقوله: إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث، مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه، فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل.
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى، وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجباً بنفسه، فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم.
والمحدث كان معدوماً، فيمتنع أن يقال إنه حادث، وهو واجب بنفسه.(8/298)
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديماً، فإن هذا نقيض هذا، إذ المعني بكونه محدثاً أنه ليس بقديم.
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديماً، والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديماً، أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه.
فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة، والثاني نازع فيه طائفة معروفة.
وأيضاً فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه، بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال، فامتنع عدمه.
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديماً، فهو أبين من هذا.
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال: إنه حدث، وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه، أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال.
وأبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية، التي مضمونها أن الوقتين متساويان.
فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص.
وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء، فإن المحدث اختص حدوثه بوقت، وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص.(8/299)
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه، وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين.
أما كونها خيراً وأقرب فظاهر، وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال.
وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال، يترتب عليه نزاع.
فإذا قال له القائل: بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال، لم يمكنه أن يقول: ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال، لأنه يقول له كما قلت: إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه، يخصص الحدوث بحال من حال، كذلك يقول: إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال.
فإن قال: المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال، بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء.
كان الجواب من وجوه:
أحدها: المنع، فإن هذه دعوى مجردة.
الثاني: أن يقال: لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضياً للحدوث إلا مع الوجوب، وإنه مادام اقتضاؤه جائزاً فإنه يمتنع الاقتضاء، وذلك(8/300)
لأنه إذا جاز أن يقتضى، وجاز أن لا يقتضى، كان كل من الأمرين ممكناً جائزاً، لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء، لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء، ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول، ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها، ولا وجود لشيء منه، وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له، وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا.
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب، وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم، ومسألة القدر، وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم.
لا سيما وأبو الحسين يقول: إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي، وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور، فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة: إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث، وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه.
الثالث أن يقال: هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى، وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى، وأنه يخص الحدوث بحال دون حال، فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى، فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى.
فإن قيل: ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه، فيلزم قدم الحوادث، بخلاف ما كان جائز الاقتضاء.(8/301)
قيل: هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازماً له، وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته، كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، كبرقلس وابن سينا وأتباعهما.
فإنهم يقولون: إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات، وما سواه معلول به، فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث، وهذا باطل قطعاً.
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله، إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه، لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته، كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء.
فيقال: إذا قدر أنه قادر مختار، وهو يحدث الحوادث، مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها، فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى.
وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته.
ولا يمكنهم أن يقولوا: القدرة والمشيئة لا تخص وقتاً دون وقت، لأن هذا ينقض قولهم.
فإنهم يقولون: إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض.(8/302)
ولو قال قائل: ذلك من غيرهم.
لقيل له: تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال، هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص.
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته.
أو يقال: إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب، ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد، إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه، وأما منازعه فيمكنه التزامها، ولا يتناقض قوله: لا عقلاً ولا شرعاً.
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولاً ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول، وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه، وأنه إذا صححه بذلك الطريق، كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده، أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك.
وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقاً مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان، إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها، وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته، فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها.
ونحن كثيراً ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئاً من النصوص غير محتاج إليها، بل مستغن عنها، ليتبين أن العلم بصدق(8/303)
الرسول، وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة، ليس موقوفاً على شيء من الطرق التي تناقض شيئاً مما جاء به، مع أنا نبين أيضاً أن تلك الطرق فاسدة، لكن بيان الاستغناء عنها في مقام، وبيان فسادها في مقام.
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولاً، ثم يعارضون بها النصوص ثانياً، فنحن نبين الغنى عنها، ثم نبين فسادها ثانياً، ثم نبين ثالثاً أن الطرق العقلية الصحيحة، وهي الأدلة السمعية متلازمان، فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر.
وهذا قدر زائد على عدم تنافيها، وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما.
وأيضاً فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع، فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع.
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول: إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك، يستلزم قدح الشرع في أصله.
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين، بل ذكر أولاً أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وأن ما قدم من الحوادث وأخر، لا بد له من مقدم ومؤخر، من غير أن يحتاج أن يقول: إن الحدوث: إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون غير واجب، وهذا أصح وأقرب وأبين.
ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من(8/304)
طريقة القاضي، فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث، ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت، والتخصيص لا بد له من مخصص، فإن هذا وإن كان صحيحاً فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا.
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين، أو تخصيصه بصفة دون صفة، هو موجود في نفس الحدوث، فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات، لا بد له من مخصص، ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل، ولو قدر أنه لم يحدث غيره، ولا يمكن حدوث غيره، وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث، فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه، من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس.
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس، حتى الصبيان، حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه.
وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال، دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء، وبيان(8/305)
ذاك بهذا، من باب بيان الأجلى بالأخفى.
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره، فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس، من حدوث الأعيان المحدثة، وحدوث الأعيان مشهود معلوم، لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث، وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه، وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام، وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة، وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف.
قالوا: فهذا هو الذي يشهد حدوثه، ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث، فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم، من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام، ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه، من أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان، وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات، كما ذكره الرازي وغيره، وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها.(8/306)
فمن قال: إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها، فقد ظهر خطؤه عقلاً لكل أحد، كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة.
فإنه من المعلوم بالاضطرار: أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ما دعوا أحداً من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق، ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة، بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق، ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث، الذي قد أغنى الله عنه، وظهر الغنى عنه لكل عاقل.
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلاً، هو ألطف من العلم بالغنى عنها.
ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير، قبل أن يظهر لهم فسادها.
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها، وفسادها، وطعن بعض أهلها في بعض، وإفسادها لمقدماتها، وبيان فسادها بصريح العقل، في غير هذا الموضع، ما ينبه على المقصود.
والمقصود هنا: التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث، والمفعول إلى الفاعل، وهو من العلوم الضرورية البديهية، وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله، من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت، لا بد له من مخصص.(8/307)
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله، أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله، من أن الحدوث: إما أن يكون على وجه الوجوب، أو على وجه الجواز.
وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه، لولا المقتضى لحدثه، أظهر مما ذكره ابن سينا، والرازي، وأمثالهما، من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه، ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه.
وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض.
وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر: أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار، وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها، ادعت في هذه المذهب البديهة.
كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
ثم يقال له: إن كان هذا حقاً، فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلاً على ذلك، بل جعل ذلك مسلماً، وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه(8/308)
لم يحدث نفسه.
ثم قال: (فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال، وأن له ناقلاً نقله من حال إلى حال، ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر) .
فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال، فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال، لا يعلم به أن له ناقلاً مدبراً إلا بأدلة تذكر، فهو لم يذكر تلك الأدلة، بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل.
وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه، فإنه لم يقم دليلاً: لا على حدوث الجسم، ولا على أن المحدث لا بد له من محدث.
ثم يقال: من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه، وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه، قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية، أو طائف من نظار المسلمين.
وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بفاعل، وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري، إنما قاله شرذمة لا(8/309)
يعتد بقولها، وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث، مع أنه لا يعلم أن أحداً من المشهورين بالعلم، طلب على هذا دليلاً، ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا، ولا في كتاب الله وسنة ورسوله، ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال.
أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه: من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر، فلا بد به من مرجح.
فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني، الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي.
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، هو أبده للعقل، وأرسخ في القلب، وأظهر عند الخاصة والعامة، مما قرره به، وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض، والتخصيص لا بد له من مخصص.
فالأول: إن لم يكن أقوى منه وأجلى، فليس هو دونه، وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلاً في أفراده.
لا سيما على أصل القاضي، وموافقيه من المعتزلة والأشعرية، فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض، بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص.
وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة، فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء.(8/310)
وإذا كانت النسبة مستوية، فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر، تخصيص بلا مخصص.
وإذا قالوا: الإرادة لذاتها تخصص مثلاً عن مثل بلا سبب، مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلاً، أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلاً، وقال: من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص.
وإذا قالت المعتزلة: القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح، كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد.
فمن كانت هذه الأقوال أقواله، وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث: أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان، فلا بد للتخصيص من مخصص، وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع، ويجعل ذلك بديهياً ضرورياً.
كيف يمكنه أن يقول: إن وجود الحوادث بلا محدث، والفعل بلا فاعل، والصنعة بلا صانع، ليس امتناعه بديهياً ضرورياً؟
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية، وجعل ما هو دونها بديهياً ضرورياً، تناقضت أقواله، وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله.
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن، فإنها في غاية السداد والاستقامة.(8/311)
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين: أحداهما: أن الإنسان محدث.
والثانية: أن المحدث لا بد له من محدث.
فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه، حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى.
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة، أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم.
وأما المقدمة الأولى: وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة، فإن حدوث الحوادث مشهود.
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى: إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها، أو صورتها لا مادتها، أمكنهم إثبات المحدث بناءً على ذلك، وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره، وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام.
وأما من أنكر ذلك، وهم جمهور العقلاء، فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة.
وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد، ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات، بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة، فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث، وما لا ينفك عن الحوادث فهو(8/312)
حادث.
وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداءً، وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري.
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري، كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم، كـ القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظرياً.
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها، لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص، وهذا عند هؤلاء ضروري، كافتقار الممكن إلى الواجب.
ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظرياً، وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا، وهي أقرب مما بعده.
فجاء من بعدهم، كـ الرازي، ضم إلى ذلك نفي الدور أيضاً، ثم هو والآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة، واستصعب ذلك على الآمدي، حتى قال: إنه عاجز عن تمشيها، وحل مايرد عليها، كما ذكرناه.
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع.
وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة، ويعدم أخرة، فهو سهل متيسر، معلوم ببدائه العقول.
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعاً وعقلاً، كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها، حتى آل الأمر(8/313)
بهم إلى الجهل العظيم، وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتاً ووجوداً، وأكثرها وأقواها أدلة، وأولاها بالعلم من كل معلوم، وأحقها بأن يكون مستقراً في الفطرة، دائم الحصول في القلوب، حاصلاً بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم.
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن، وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم، كـ القاضي أبي بكر وأمثاله، وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة، إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث.
وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض، أو قيل: إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق، كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة، وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة.
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية، القريبة الصحيحة، كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد، ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين، فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة، ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية.
تابع كلام الأشعري في اللمع
قال أبو الحسن: (فإن قال قائل: ما أنكرتم من أن تكون النطفة(8/314)
قديمة لم تزل؟ قيل له: لو كان ذلك كما ادعيتم، لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير، لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره، وأن يجري عليه سمات الحدث، لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة، لم ينفك عن سمات الحدث، وما لم يسبق المحدث كان محدثاً مصنوعاً، فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام) .
كلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر: (اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام، وذلك أن الذي عناه بقوله: لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير، وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها، كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة، وعن الحركة إلى السكون، وكاستصلابها بعد لينها، وافتراقها بعد اجتماعها، وما يلحقها من تعاقب الأكوان، وغير ذلك من التغيرات، لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلاً، وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعاً مثلاً أو مفتقراً، أومتحركاً أو ساكناً، أو على بعض هذه الصفات، لم يجز خروجه عنه، لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله: لنفسه، أو لعلة، أولا لنفسه ولا(8/315)
لعلة، أن لبطلان نفسه، أو لبطلان معنى، فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى، لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت، والخبر عن تعلقه بمخبر، وغير ذلك من وجوه الفساد، ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها، لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات، ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكناً أولى من تحصيله له متحركاً، ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجوداً به.
لأن القديم لا يجوز عدمه، ولأنه ليس بأن يكون متحركاً لعدم سكونه أولى من غيره، ممن يصح أن يكون متحركاً.
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها، ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها، أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات، وإلىما هو أبعد منها.
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة، ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه، ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون، أولى من غيره من الأجسام، لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه، وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضاً، فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام؟ وفي فساد ذلك: دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى.(8/316)
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه، ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه، ولا لعدم معنى قديم.
فلم يبق إلا وجهان: أحدهما: أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم.
فإن كان لم يزل ساكناً لنفسه، استحال تحركه بعد سكونه، لوجود نفسه في كلا الحالين.
ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه، مع وجود نفسه التي بها كان كذلك.
وإن كان لم يزل ساكناً لأجل معنى قديم، استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم، وإلا وجب تحركه وسكونه معاً.
فإذا استحال ذلك، واستحال عدم سكونه إذا كان قديماً، واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها، لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير، ولا اعتمال ولا تأثير، فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة، به يعلم حدوث سائر الأجسام، وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة.
وليس الأمر كذلك.
بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك، وحدوث أوائل ذلك، كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة،(8/317)
واتفاق العقلاء.
وهذا بخلاف الفلك، فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن.
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسماً: كالهاشمية والكرامية وغيرهم.
أو من لا يطلق الاسم، ولكن يقولون له: ما أثبته نسميه نحن جسماً، أو يجب أن يكون جسماً، كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة.
فإن قال بهذا، فالمفرق يقول: حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم، وكذلك حدوث ما أشبهها.
وأما حدوث كل ماسميته جسماً، فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل، وهو ضعيف على ما سنذكره.
فإن قال: أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة، التي منها تركبت النطفة وتألفت، أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة.
قيل له: الجواب من طريقتين:
أحدهما: أن يقال: هذا لا حاجة لك به.
الثاني: أن يقال: ما ذكرته ليس بصحيح.(8/318)
فأما الطريق الأول ففيه وجوه.
أحدها: أن العلم بحدوث ما يحدث، والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقراً إلى أن يعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثاً، كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثاً.
وإن قال: فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام.
قيل له: فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة، بل كان هذا تطويلاً.
إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة، به يثبت حدوث الإنسان ابتداء.
وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر، كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة، فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام، كان ذكر هذا ابتداءً أولى من التطويل، لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل.
وأيضاً، فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام، وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع، فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة، كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيراً: إما عدم العلم، أو حصول ضده(8/319)
من اعتقاد الباطل، فيكون ما جعل طريقاً إلى العلم والإيمان، موجباً لضده من الجهل والكفر.
والوجه الثاني: أن يقال: فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك، مبيناً على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة.
ومعلوم أن هذا لو كان صحيحاً، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يبنوا ذلك.
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطراباً لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه:
فقالت طائفة: إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ، وهي الجواهر المنفردة، وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية.
وقالت طائفة: بل فيها أجزاء لا نهاية لها، وهوالمذكور عن النظام.
وعليه انبنى القول بطفرة النظام.
ولهذا يقال: ثلاثة لا يعلم لها حقيقة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.
وقالت طائفة: بل هي مركبة من المادة والصورة، وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية، لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها.(8/320)
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ.
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا تتجزأ إلى غير غاية.
بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر، مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب.
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية، ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام، بل كل ما وجد يقبل الانقسام، لكنه يستحيل إلى جسم آخر، في حال تميز جانب منه عن جانب، فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع.
وأذكياء المتأخرين: مثل أبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي: كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد.
فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحداً أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان، باعتبار تركبه من الجواهر، أو المادة والصورة، حتى يثبت ذلك أولاً.
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من(8/321)
الأجسام، ليس موقوفاً على العلم بأنها مركبة هذا التركيب، الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء.
الوجه الثالث: أن يقال: حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة، وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار، وما يخرجه من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان.
فإذا قيل له: هذا لم يحدث، ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت، وجعل لها صفة غير تلك الصفة.
قال: أما ما تغيرت صفاته، كتغير الأبيض إلى السواد، والساكن إلى الحركة، والحامض إلى الحلاوة، والمفرق إلى الاجتماع، وتغير الجسم من شكل إلى شكل، كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله، وما يشبهه، يشهد فيه أن العين باقية، وإنما تغيرت صفاتها التي هي: الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والألوان والطعوم والأشكال.
بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة، والجنين الذي يخرج من بطن أمه، والفروج الذي يخرج من البيضة، فإن(8/322)
عاقلاً لا يقول: إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقياً، ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية، ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقياً.
ومن قال: إن هذا باق في هذا، كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه، وحلا بعض حموضته، وصار مدوراً بعد أن كان مسطحاً باق - فهو لا يتصور ما يقول، أو هو معاند مسفسط.
فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض.
وهذا أصل كل ضلال، وهو الجهل أو العناد، والعناد وصف المغضوب عليهم، والجهل وصف الضالين.
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة.
وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع.
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت، مثل أن تصير رماداً أو ملحاً ونحو ذلك.
ومثل كلامهم في باب الأيمان: فيما إذا حلف على فعل في جسم معين، فتغير ذلك الجسم المعين.
فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم، كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخاً، أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسراً، ونحوذلك.
وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه: مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجاً، أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعاً.(8/323)
قالوا: فهنا لا يحنث، لأنه زال اسمه، وزالت أجزاؤه.
وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم: كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً، أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً - فإنه يحنث عند جمهورهم: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي.
وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمراً.
وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل، فمنهم من قال: يحنث، وهو مذهب مالك، وهو المشهور من مذهب أحمد.
ومنهم من قال: لا يحنث، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وطائفة من أصحاب أحمد قالوا: لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث، كما في مسألة البيضة والفروج.
فقال لهم الأولون: عين المحلوف عليه باقية، فصار كمسألة الحمل، بخلاف البيضة إذا صارت فرخاً، فإن أجزاءها استحالت فصارت عيناً أخرى، ولم يبق عينها.
مع أن في هذه المسائل كلاماً ليس هذا موضعه، إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير، ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين.(8/324)
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها، وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها.
ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة، فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر: إذا تغيرت صفاته، مثل أن يجمد الدم والخمر، أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك، فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم.
وأما إذا استحالت العين: مثل أن يصير ذلك ملحاً أو رماداً أو نحو ذلك، ففيه نزاع مشهور.
والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة، كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلاً أنها تطهر.
وأما الطريق الثاني: وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول: قوله: (إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها) كلام مجمل، قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها.
وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له، سواء كان نوعها لازماً له أولم يكن لازماً لذاته، مثل الفعل والعمل، سواء سمي حركة أو لم يسم: كالإتيان(8/325)
والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة، وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس: هل يقوم بالقديم أم لا؟.
فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف، والأئمة من السلف والخلف، مع كثير من طوائف الكلام، وأكثر الفلاسفة: يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال، فيقول هؤلاء: قول القائل: أن القديم الحاصل على صفة، لا يجوز خروجه عنها، إن إراد به مواقع الإجماع: مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله، أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى، فهذا لا نزاع فيه.
وإن أراد به أعيان الحوادث، فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة، لم يجز خروجه عنها؟
وأما استدلال المستدل بقوله: لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه، أو لعلة، إلى آخر الكلام.
فيقال لك: ذلك الأمر الذي قام هو به، هو معنى من المعاني؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمراً آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين: بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك: قام به ذلك لمعنى.
قوله: وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى، والقديم يستحيل عدمه.
يقال له: قول القائل: القديم يستحيل عدمه، لفظ مجمل.
أتريد(8/326)
به: أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه، أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه؟ فإن أراد شيئاً من هذه المعاني، لم يكن له فيه حجة.
وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة، فهذا محل نزاع، ولا دليل على امتناع عدمه، ولم يعدم القديم هنا، بل النوع القديم لم يزل، ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له، كالأفعال المتعاقبة شيئاً بعد شيء.
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده، لم يكن قد عدم النوع، بل كان الكلام في كونه أزلياً كالكلام في كونه أبدياً، وكما أنه لا يزال، فلا يعدم النوع، وإن عدم ما يعدم من أعيانه، فكذلك القول في كونه لم يزل.
وأيضاً فيقال له: القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلاً، فكونه فعل أمر موجود أو معدوم؟.
فإن قال: إنه معدوم.
فهذا مكابرة للحس والعقل، فإن الفعل إذا كان أمراً عدمياً، فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل، لأن العدم المحض لا يكون فعلاً.
وإذا لم يكن فرق بين الحالين، وهو في حال ألا يفعل لا فعل، فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين، فيجب ألا يفعل مع كونه فعل، وهذا جمع بين النقيضين.(8/327)
وإن قال: كونه فعل أمر موجود، فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة، فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد، فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل، وإن تجدد شيء انتقض قوله: إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها.
فإن قيل: إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته، وذاك لم يزل.
قيل: هب أنك عنيت هذا، لكن دليلك يتناول هذا وغيره، ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه، لأن ما كان قديماً كان لمعنى، والقديم لا يزول.
فالأمر المتجدد المتحول الحادث، سواء سميته صفة أو حالاً أو حادثاً أو فعلاً، وسواء كان قائماً به أو بغيره، بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية.
فإن كان هذا حقاً وجب ألا يحدث شيء من الحوادث، فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطاً في وجودها، فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب.
وإن قال: لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها، وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل، فانتقضت حجته.
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته.
فيقال له: القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلاً، فإنه إذا كان غير فاعل، فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة، إلى آخر الكلام.(8/328)
وإن قال: فعله بعد أن لم يكن فاعلاً، ليس إلا مجرد وجود المفعولات، والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما، وهي عدمية.
فيقال له: فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك، ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد، وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية، والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية.
فإن قال: هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به، وهذا لا يجوز.
قيل له: هذه مصادرة على المطلوب، فإنك أنت لم تقم دليلاً على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به، بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك.
فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه، لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى، وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل: القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة، لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة.
وإذا كان العلم بالصانع موقوفاً على هذا الدليل، لم يكن هناك علم بالصانع، بل صار حقيقة الكلام: الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام، والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث، وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثاً، لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثاً.
فيكون منتهى الكلام: مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها(8/329)
بنفسها، مع ترك الدليل الواضح البين، الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق، ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها، ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء، لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة.
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام، في مثل هذا المقام، ويقولون: إنا نعلم بالاضطرار: أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق، بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق.
ويقولون: إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن، فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل، وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل، وأيضاً فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل.
عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر: (وأما قول أبي الحسن: إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث، وما لم يسبق المحدثات كان محدثاً مثلها - ففيه وجهان من الكلام:
أحدهما: أن نقول: إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون(8/330)
خروجاً من صفة قدم إلى صفة قدم، أو من صفة حدث إلى صفة حدث، أو من صفة قدم إلى صفة حدث، أو من صفة حدث إلى صفة قدم.
والأول باطل لوجهين:
أحدهما: أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه، وذلك لا يكون قديماً.
الثاني: أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم، والقديم لا يجوز عدمه) .
قال: (ويستحيل أن يكون التغيير خروجاً من حال حدث، لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين:
إما بحدوث تغيير القديم، أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه، ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفاً بعد أن لم يكن مستحقاً له.
وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها، وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثاً مثلها) .
قال: (ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه) .(8/331)
وقال: (وأما الوجه الآخر: فهو أن نقول: إنما أراد بقوله: إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها: وجب له من الحدث ما وجب لها، إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها، إذ قد فسد أن يكون موجوداً قبلها.
فإن كان وجد مع وجودها، وجب له من الحدث ما وجب لها، وإن كان وجد بعد وجودها، كان أولى بالحدوث، لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثاً) .
قال القاضي أبو بكر: (واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام، إذا علق على هذه النكتة، وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع:
أولها: الدلالة على إثبات الأعراض.
والثانية: الدلالة على حدوثها وأن لها أولاً تنتهي إليه.
والثالثة: أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها.
والرابعة: أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثاً مثلهاً) .
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك.
ولما قيل له: لم قلتم: إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث، ولا يوجد قبل أولها؟.(8/332)
قال: (لأدلة منها: أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها: أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق، وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة، كل شيء منها إلى جنب صاحبه، أوتكون متباينة متباعدة، كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه، وليس بين هذين منزلة.
فإن كانت متماسة، فذلك معنى الاجتماع، وإن كانت متباينة، فذلك هو معنى الافتراق) .
قال: (ومما يبين ذلك أيضاً: أنا لوجاز لنا وجود جسم خالياً من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والحياة والموت، والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، ولكان ذلك ممتنعاً، لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام.
وتفسير التعاقب: أن الشيء منها يوجد بعقب غيره) .
تعليق ابن تيمية
قلت: أما الاجتماع والافتراق: فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا.
وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره، فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته.
وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول: بأنه مركب من الأجزاء المفردة.
فيقول: تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة، وهذا ليس معلوماً بالبديهة ولا الحس، ولا يسلمه جمهور الناس.(8/333)
وأما الحياة والموت: فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك.
فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت: هل هو وجودي أو عدمي؟.
ثم من قال: إنه عدمي، يقول كثير منهم: إن هذين متقابلان، تقابل العدم والملكة.
وما لا يقبل الحياة والموت، كالجماد، لا يوصف بواحد منهما.
لكن القاضي وجمهور الناس، يردون على هؤلاء: بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا.
ويقولون: إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظياً.
ويقول القاضي وأكثر الناس: إن كل جسم فإنه يقبل الحياة.
لكن الذي يقال له: الجسم، لا يخلو من أن يكون حياً أو ميتاً، كما لا يخلو من أن يكون متحركاً أو ساكناً، واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت.
فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة، ولا يمكن اتصافه بضد ذلك.
وحينئذ: فلا يمكن أن يقال: إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك.
والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعاً ولا شخصاً، كما قد يقال مثل ذلك في الحركة.
تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر: (فإن قال قائل: فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث، وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم، متى لم يوجد قبل أول الحوادث، ولم زعمتم ذلك؟.(8/334)
قيل له: الدليل على هذا قريب واضح: وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال: إما أن يكون موجوداً قبل أولها، أو يكون موجوداً مع وجودها، أو يكون موجوداً بعدها.
فإذا بطل أن يكون الجسم عارياً عن الحوادث ومنفكاً من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان: إما أن يكون موجوداً مع وجودها، أو بعدها.
فإن كان موجوداً مع وجودها، ولوجودها أول: فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول، وحصوله عن عدم حكمها، وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقاً لها.
وإن كان موجوداً بعدها: كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها) .
فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع، وكلام أبي الحسن أجود، فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة، لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم.
وقول القاضي: إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة، فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولاً، وعلى حدوثها ثانياً - فليس كما قال.
بل الأشعري عدل عن هذه الطريق(8/335)
قصداً، كما ذكره في رسالة الثغر، وذم هذه الطريق وعابها.
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس، لا ينازع فيه عاقل سليم، سواء سمي ذلك تحول عرضاً أولم يسم، وسواء قيل: إن ذلك العرض مغاير للجسم، أوقيل ليس بمغاير له، وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها.
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة: وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث، بناءً على أن ما قامت به لم ينفك عنها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث.
وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور.
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك، حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك.
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين، لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة، بل ويقولون: إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة.
بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء، وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم، كما هو مذهب أهل الملل.
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم: إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة، بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة، ومع القول بإبطالها.
ويقولون: إن(8/336)
موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث، وأنه ليس في الوجود قديم، مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة.
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها، ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام.
وذلك قوله: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف.
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم، وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم.
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - أصل الدين.
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة، ويظنونها ضرورية، ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ، وما لا يسبق جنس الحوادث.
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ، فهو محدث بالضرورة، ولا ينازع في هذا عاقل.
فإن ما كان عينه حادثاً فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة، كما قرره.
لأنه إما بعده.
وما كان مع الحادث أو بعده فهو(8/337)
حادث بالضرورة.
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث، وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جراً، كما أنه يقارنه حادث بعد حادث، وفان بعد فان في الأبد، فيقدر ليس متقدماً على جنس الحوادث، ولا متأخراً عن جنس الحوادث والفانيات، فهذا محل نزاع: نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل، والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه.
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين: من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة، وجعلوها ضرورية.
واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث.
والأول ظاهر معلوم لكل احد.
وأما الثاني فليس كذلك.
فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول، وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله، وأنه به يردون على من خالف الملة، وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث، إلى هذه المقدمة.
وهي لفظ مجمل فيه عموم، وإطلاق أحد نوعيه بين.(8/338)
فإذا ذكروا ذلك النوع البين، ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية، والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر، وهم لم يبينوه.
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس، وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم، وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم، ولا على من يعلمونه ويخاطبونه، لكن اشتبه الأمر عليهم، فوقعوا في شبهات ظنوها بينات.
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم، الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات، ويغرقون في مثل هذه المجملات، ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب، والتقسيم المميز للصحيح من السقيم.
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة، الذين ذموا مثل هذا الكلام، وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام.
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى، وبحثوا معه، وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة.
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال: (فصل: فإن قال قائل من أهل الدهر، الذاهبين إلى أنه: لا حركة إلا وقبلها(8/339)
حركة، ولا حادث إلا وقبله حادث، لا إلى غاية: فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلاً، إذ كان لا أول لوجودها، ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية؟.
يقال له: أنكرنا ذلك لأمور: أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض، وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى، أن يكون محدثاً موجوداً عن أول، وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه، أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول، ولا كائن عن حدوث.
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم: إنها لم تزل موجودات شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل موجوداً فقديم غير مستفتح.
وقولنا: إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول، والجمع بين ذلك متناقض - محال.
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية، وهو قولنا: حوادث، ما هو موجود لا عن أول، وكائن عن عدم، فالموجود لا بحدوث، والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديماً لا محالة، كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي: الماء، والأرض، والنار، والهواء - قديمة عندكم، إذ كانت موجودة لا عن عدم، وكانت لا بحدوث، فواجب أن يكون الفلك قديماً لا أول لوجوده.(8/340)
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا: حوادث، ما هو كائن لا بحدوث، موجود لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضاً وهذه الأعراض موجودةً لا بحدوث، كائناً لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث غير قديم.
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول.
ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم.
فإن لم يجز هذا، ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم، الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم، وما هو موجود فيها بغير حدوث.
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم، وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه، لأن هذين الوصفين متناقضان.
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئاً قبل شيء لا إلى أول.
قال: (وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة.
والقديم لا يكون محدثاً، ولا مجموعاً من الحوادث، لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد، ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث.
فوجب أن للحوادث كلاً وجميعاً، وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه، وأن لم يسبقه ولم يكن قبله، فواجب أن يكون محدثاً مثله) .(8/341)
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة، وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة، وهي وسائر الأجسام، إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها، من الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغيير) .
قال: (وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه.
وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع، الذي هو عندهم أصل الدين، الذي جعلوه أصلاً لرد ما خالفه من النصوص النبوية، ولما خالفه من مذاهب الدهرية.
والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم: ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع، فإن قولكم: لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجوداً عن أول، أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه: أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه، ويراد به النوع المتعاقب شيئاً بعد شيء.
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث، فليس فيها شيء قديم، بل كل منها كائن بعد أن لم يكن.(8/342)
وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئاً بعد شيء، فليس له أول، وليس هو حادثاً، بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث.
وأنت لم تذكر دليلاً على امتناع هذه البتة، وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم، وهذا مسلم لا نزاع فيه.
وقلت: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ، قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح.
فيقال لك: كل واحد منها مستفتح مبتدأ.
ولكن لم قلت: إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح؟.
فإن هذا القائل يقول: إن الذي لم يزل، إنما هو الجنس المتعاقب شيئاً بعد شيء، وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل: إنه لم يزل.
فقول القائل: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ قد أتى الفراغ عليه، استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء.
يقال له: هم لا يقولون: إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ.
فإن ما لم يزل موجوداً شيئاً قبل شيء لا يكون إلا قديماً لم يزل، ولكن يقولون: إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ، وهذا لا يقولون فيه: إنه لم يزل موجوداً.
فالذي يقولون: إنه لم يزل، ليس هو الذي يقولون: إنه مستفتح(8/343)
مبتدأ.
وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات: إن كل واحد منها فان منقض، والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم.
كما قال تعالى: {أكلها دائم} ، وقال: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} .
فالجنس دائم لا نفاذ له، وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم.
ولما تفطن كثير من أهل الكلام، لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام، وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع، ميزوا بين النوعين، كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني، والشهرستاني، والرازي وغيرهم.
فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث، وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها.
فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه، وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع.
ولهذا جعل أبو الحسين وأبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنياً على أربع مقدمات: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وإثبات استلزام الجسم لها، واستحالة حوادث لا أول لها.
وجعلوا النتيجة: أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، فإن ذلك حينئذ يكون معلوماً بالضرورة، بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من(8/344)
الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم، حيث جعلوا المقدمات أربعاً: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وأثبات استلزام الجسم لها، والرابعة: أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وهذه هي النتيجة، وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث، لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا، واللفظ مجمل كما ترى.
لكن قد بين هؤلاء، كـ القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما الكلام على هذا الأصل.
وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر، فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث، والأجزاء التي هي الجواهر المفردة، ونحو ذلك جنساً.
ومنهم من يجعل ذلك دليلاً ثابتاً في المسألة، كما فعله ابن عقيل والقشيري وغيرهما.
وقد ذكرنا: أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم.
أحدها: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل.
وهذا قول أبي الهذيل والجهم بن صفوان.
وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار، واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك.
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين، ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا.
كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة، فإن هؤلاء يقولون: إن(8/345)
العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد، فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى، ثم تعاد فلا تفنى، والجهم يقول: تفنى فناءً لا تعاد بعده، وأبو الهذيل يقول: تفنى حركات أهل الجنة والنار.
والقول الثاني: قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل، لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد.
وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم.
والثالث: قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة.
لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء، وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون: لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد.
وأما من يقول بوجود قديمين متحركين، كمن يقول بقدم الأفلاك، فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية، مع أن إحداهما أكثر من الأخرى، فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه، وأن يكون قابلاً للزيادة، بخلاف الذين قبلهم، فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد، فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية، لم يلزم أن يكون قابلاً للزيادة.(8/346)
وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث؟ أقوال:
أحدها: أنه يجب أن يكون حادثاً مطلقاً.
والثاني: لا يجب أن يكون حادثاً.
والثالث: أنه كان محتاجاً إلى غيره وجب أن يكون حادثاً، وإن كان غنياً عن غيره لم يجب أن يكون حادثاً.
وأيضاً فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثاً، وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثاً.
وقد قرر هذا في موضع آخر.
ومن فهم ما ذكرناه، ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل.
ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة، وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل، وأكثر الفلاسفة، أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها.
ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول، ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل، وغايته إذا قيل: إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة، ومخاطرة عظيمة، ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب(8/347)
والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، ودلت عليه العقليات الصريحة، قابلهم من قال: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع.
وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم، فإن هذه عندهم فطرية ضرورية، أو مكتسبة بنوع من نظر العقل.
وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري، أو قد يكون ضرورياً، خلافاً لمن قال: إنه لا يحصل إلا بالنظر.
وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير.
ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول: إن أول الواجبات هو النظر، وأن المعرفة لا تحصل إلا به، قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر.
وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة: طريقة الأعراض، ثم رجعوا عن ذلك.
ويقولون: إن المعرفة نظرية، وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن.
وكثير من الناس كانوا يقولون أولاً بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة، وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام، وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وأنه أول واجب على العباد، ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك.
كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وأبو المعالي الجويني،(8/348)
والغزالي، والرازي، وغيرهم.
فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولاً الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة.
فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد -: (إذا ثبت صحة النظر ووجوبه، فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى) .
قال: (وقد قيل: إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى) .
قلت: هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره.
واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر، فقال: (أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية: خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها، وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى) .
قال: (وقد قيل: أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان) .(8/349)
قال: (وجه الأول: أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها، وأن الجواهر لم تسبقها، وإذا كان ذلك أول الواجبات، وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية) .
قال: (وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها: كتب الإيمان في قلوب المؤمنين) .
قال: (وقد قيل: أعظم النعم الدينية هي: خلق القدرة على الإيمان، والأول أشبه.
فإن أعظم الطاعات هو الإيمان، فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة، وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك.
ثم قالوا: - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافاً لمن قال: إن أول الواجبات المعرفة بالله، وخلافاً لمن قال: معرفة الله غير واجبة، وأن الواجب الإقرار به والتصديق له.
قال: (والدلالة على ما ذكرنا، أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه، كما أن من لا يعرف زيداً لا يمكنه أن يتقرب إليه.
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفاً بالمتقرب إليه، وليس بمشاهد لنا، ولا معلوم لنا ضرورة، فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه، فلما لم تتم المعرفة إلا به، وجب أن يكون واجباً، وإذا وجب علم أنه أول الواجبات) .
ثم قال: (فصل) : وإذا ثبت أن أول الواجبات، فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله، وهو حدوث الأشياء من الجواهر(8/350)
والأجسام، وإذا كانت محدثةً وجب أن يكون لها محدث، لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث، لم تتعلق الكتابة بكاتب، والضرب بضارب، لأن ذلك كله يبعد، إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها.
فلو جاز محدث لامحدث له، لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال.
وأيضاً، فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض، ويتأخر بعضها عن بعض، فلولا أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر،، لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخراً، وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدماً، فدل ذلك على أن لها مقدماً محدثاً لها، قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر) .
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي، عن علي بن سري السجستاني، عن الخطابي، وذكر أن بعض الناس اعترض عليها.
فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام، لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم.
وقال: (فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك) .(8/351)
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع، وحدوث العالم، لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز (وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه) .....
(وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ....) وقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ، وقوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} ، وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع) إلى آخر كلامه.(8/352)
قال القاضي: (وقد اعترض على هذا بعضهم فقال: هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره، لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض، وليس ذلك بمعجزات الأنبياء، وإنما هي الأجسام والأعراض) .
قال: (وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها، وهي محدثة في أنفسها، لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى.
وهذا شاهد على حدوثها، وعلى حدوث ما لا ينفك منها) .
قال: (ومعنى قوله: انقلابها فيها، انقلاب الجواهر في الأعراض، ومعناه تغيره من سواد إلى بياض، ومن حركة إلى سكون) .
قلت: قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر، فإنها تنقلب من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، ومن نوع إلى نوع: كالبياض والسواد، والحركة والسكون.
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ، فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا:(8/353)
أحدهما: المعجزات، بناء على أن الإقرار بالصانع فطري، أو على المعجزات يستدل بها على الخالق، وعلى صدق أنبيائه، كما ذكرنا في عصا موسى.
والطريق الثاني: أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة، كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية.
فقال: (وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة.
وقد نبههم الكتاب على ذلك، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة، الدالين على وجود الصانع الحكيم) .
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره.
قال: (وكقوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت}(8/354)
وبقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ، وما أشبه ذلك من خلال الأدلة، وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما يطول تتبعه واستقراؤه) .
قال: (فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه) .
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية، وهي أدلة عقلية.
والخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض، وأنها لازمة للأجسام.
وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها، ولكن بعض الناس ذكروا: أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، في قوله: {لا أحب الأفلين} ، قالوا: لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها.
وهذا باطل لوجوه:
بطلان استدلال الفلاسفة
أحدها: أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب.(8/355)
والثاني: أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك، لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب.
الثالث: أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل، فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده، بل المنافي هو الأفول.
الرابع: أن إبراهيم لم يكن معنياً بقوله: {هذا ربي} ، أنه رب العالمين، عل أي وجه قاله، ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم، وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه رباً لينال بذلك أغراضه، كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك.
وكان قومه من هؤلاء، لم يكونوا جاحدين للصانع، بل مشركين به.
ولهذا قال لهم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} .
وقال في آخر قوله: {إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} ، وقد بسط هذا في موضع آخر.(8/356)
والمقصود هنا: أن القاضي كان أولاً يقول بطريقة من يقول: إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام، ثم رجع القاضي عن ذلك، ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة، وقالوا: إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة، وإن كان النظر واجباً في غيرها من الطرق الصحيحة.
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله: (الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء، العالم بها قبل تكوينها، والقادر عليها قبل أنشائها، جاعل العلامات، وناصب الدلالات، ومبين الآيات، الآمر أولي الأبصار بالأفكار، وأولي الألباب بالاعتبار، أرسل الرسل بالإنذار، وأنزل الكتب بالأنوار، وباعث النبيين، ومنقذ العمين.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، أنزل عليه كتابه الهدى نوراً لمن التمسه، وضياءً لمن اقتبسه، ودليلاً لمن طبله، دلهم فيه على معاني حكمته، ولطيف صنعته، وبيان جلاله، أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه، وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لا معقب لأمره، ولا راد لفضله، تعالى عما يقول الجاحدون علواً كبيراً) .(8/357)
ثم قال: (وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركاً به، ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله: الآمر أولي الأبصار بالأفكار، وأولي الألباب بالاعتبار) .
قال: (وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته، وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب) .
قلت: وإيجاب النظر مطلقاً غير إيجاب النظر في الطريق المعين، طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام، فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين، الذي يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعونه، إذ كان معلوماً بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة، بل ولا دل على صحتها، بل ما أخبر به يناقض موجبها، وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلاً في معرفة الصانع وصفاته، وصدق رسله، فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله، كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولاً: إن المعرفة(8/358)
لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة، وهو أول الواجبات، لما ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، قالوا: - واللفظ للقاضي في الفطرة -: (ما الفطرة هنا؟ على روايتين عن أحمد:
كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة
أحداهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم، فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ومدبراً، وإن سماه بغير اسمه.
قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ، فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول) .
قال: (وليس الفطرة ها هنا الإسلام، لأمرين:
أحدهما: أن معنى الفطرة: ابتداء الخلقة.
ومنه قوله تعالى: {فاطر السماوات والأرض} ، أي مبتدئهما.
وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء، وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق، وجرت في فطرة المعقول، وهو استخراجهم ذريةً، لأن تلك حالة ابتدائهم، ولأنها لو كانت الفطرة هنا: الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه، ما دام طفلاً، لأنه مسلم، واختلاف(8/359)
الدين يمنع الإرث، ولوجب ألا يصح استرقاقه، ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه، لأنه مسلم) .
قال: (وهذا تأويل ابن قتيبة، ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد، وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة.
قال: (وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه، كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين) .
قال: (وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني، فقال: الفطرة الأولى التي فطر الله عليها، فقال له الميموني: الفطرة: الدين؟ قال: نعم) .
قال القاضي: (وأراد أحمد بالدين: المعرفة التي ذكرناها) .
قال: (والرواية الثانية: الفطرة هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه) .
قال: لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم، وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى، حمل للفطرة على الإسلام، لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان، والمؤمن مسلم) .
قال: (ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه، لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقاً لله، وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية) .(8/360)
قال: (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد، وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة، فقال: على الشقاوة والسعادة.
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال، أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة، قال: هي التي فطر الناس عليها: شقي أو سعيد.
وكذلك نقل حنبل عنه، قال: الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة) .
قال: (وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه) .
تعليق ابن تيمية
قلت: أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، وهي الدين.
وقد قال في غير هذا موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما، حكم بإسلامه.
واستدل بهذا الحديث: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
فدل على أنه فسر الحديث: بأنه يولد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرحاً به في الحديث: ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث.
وقوله في موضع آخر: يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك، فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها، وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها، كفعل الأبوين.
فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى.
والمولود ولد على الفطرة سليماً، وولد على أن هذه الفطرة السليمة(8/361)
يغيرها الأبوان، كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه.
كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، فبين أن البهيمة تولد سليمة، ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليماً، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضاً بقضاء الله وقدره.
وإنما قال الأئمة: ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة، لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله، بل مما فعله الناس، لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة، وكفره بعد ذلك من الناس.
ولهذا قالوا لـ مالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث، فقال: احتجوا عليهم بآخره.
وهو قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين.
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية، فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره، بل هو تهود وتنصر باختياره، لكن كانا سبباً في ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار، فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى، لأن الله، وإن خلقه مولوداً على الفطرة سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك.
كما في الحديث الصحيح: (إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع(8/362)
كافراً، ولو بلغ لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) .
فقوله: طبع، أي طبع في الكتاب، أي قدر وقضي، لا أنه كان كفره موجوداً قبل أن يولد، فهو مولود على الفطرة السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر، كما طبع كتابه يوم طبع.
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه، وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط.
فإن ذلك لا يقال فيه: طبع يوم طبع، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار «عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره، قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولادكم(8/363)
المشركين؟ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه» .
فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار، ثم الكفر طرأ بعد ذلك.
ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافراً وإما مسلماً على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه وسلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين.
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله: «أو ليس خياركم أولاد المشركون؟» معناه: لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا، فيكون النهي راجعاً إلى هذا المعنى من التجويز.
وليس هذا معنى الحديث، ولكن معناه: إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هؤلاء من أولاد المشركين، فإن آباءهم كانوا كفاراً، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمناً، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن.(8/364)
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضاً، ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} ، قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت صغيراً؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وفي الصحيح: قال الزهري: يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخاً، ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط، و «إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} » .
وفي الصحيح من رواية الأعمش: «ما من مولود يولد إلا وهو على(8/365)
الملة» .
وفي رواية أبي معاوية عنه: إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه، فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.
قال ابن عبد البر في التمهيد: (روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره، فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وعبد الرحمن الأعرج، وسعيد بن أبي سعيد، ومحمد بن سيرين) .
كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة
قال: (ورواه ابن شهاب، واختلف في إسناده، منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة، ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن(8/366)
أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة.
قال محمد بن يحيى الذهلي: كل هذه صحاح عن ابن شهاب، محفوظة) .
قال ابن عبد البر: (وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟، قال: نعم لأنه ولد على الفطرة) .
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث: (وقال آخرون: الفطرة ها هنا الإسلام، قالوا: وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل، وقد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، على أن قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام.
واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} .
وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قالوا: فطرة(8/367)
الله: دين الإسلام، لا تبديل لخلق الله، قالوا: لدين الله.
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عياض بن حمار المجاشعي، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً: ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب: إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حلالاً وحراما» الحديث.
قال: (وكذلك روى بكر بن مهاجر، عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث (حنفاء مسلمين) .
( ...
قال أبو عمر: روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله، عن عياض بن حمار، ولم يسمعه قتادة من مطرف، ولكن(8/368)
قال: حدثني ثلاثة: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، والعلاء بن زياد، كلهم يقول: حدثني مطرف، عن عياض، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» .
لم يقل: مسلمين، وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض، ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن قتادة بإسناده، وقال فيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» ولم يقل مسلمين) .
قال: (فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه، لأنه ذكر (مسلمين) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة، قصر فيه عن قوله: مسلمين، وزاد ثور بإسناده، والله أعلم) .
قال: (والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة أكثر من الإسلام) .(8/369)
قال: (وقد روي عن الحسن قال: الحنيفة: حج البيت، وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام، وكذلك روي عن الضحاك والسدي: (حنفاء) قال: حجاجاً، وعن مجاهد: (حنفاء) قال: متبعين) .
قال: (وهذا كله يدلك على أن الحنيفية: الإسلام) .
قال: (وقال أكثر العلماء: الحنيف: المخلص.
وقال الله عز وجل: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} وقال: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} .
فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى:
حنفاء: مسلمين.
قال الشاعر - وهو الراعي -:(8/370)
أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرةً وأصيلاً
عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلاً تنزيلاً
فهذا وصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمر واضح لا خفاء به) .
قال: (ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث: الإسلام - قوله صلى الله عليه وسلم «خمس من الفطرة» ويروى «عشرة من الفطرة» يعني فطرة الإسلام) .
قلت: الدلائل الدالة على أنه أراد: على فطرة الإسلام - كثيرة، كألفاظ الحديث التي في الصحيح، مثل قوله: (على الملة) ، (وعلى هذه الملة) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار: «خلقت عبادي حنفاء كلهم» وفي لفظ «حنفاء مسلمين» ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك، وهو أعلم بما سمعوا.
وأيضاً، فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام، لما سألوا عقب ذلك: (أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟) ، لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه.
والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير.(8/371)
وكذلك قوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها.
وأيضاً، فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه، ثم تجدع بعد ذلك، فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها.
وأيضاً، فإن الحديث مطابق للقرآن، لقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، وهذا يعم جميع الناس، فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة.
يبين ذلك أنه قال: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفاً هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في نظائره، ومثل قوله: {كتاب الله عليكم} ، وقوله: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} ، فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره، دل عليه الفعل المتقدم.
كأنه قال: كتب الله ذلك عليكم، وسن الله ذلك.
وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك: على إقامة الدين لله حنيفاً.
وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم.(8/372)
كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته، وهي الدين حنيفاً.
يقول: مستقيماً لدينه وطاعته.
فطرة الله التي فطر الناس عليها، يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها، ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا} وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة) .
قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) .
وروي (عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، قال: الإسلام، فمنذ خلقهم الله من آدم جميعاً يقرون بذلك.
وقرأ: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} .
فهذا قول الله، كان الناس أمة واحدة يومئذ، فبعث الله النبيين بعد) .(8/373)
وروي بإسناده الصحيح عن (ابن أبي نجيح عن مجاهد: فطرة الله، قال: الدين، الإسلام.
وقال (ثنا ابن حميد، ثنا يحيى بن واضح، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم، قال: مر عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص - وهو الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة: وهي الملة، والطاعة: وهي العصمة.
فقال عمر: صدقت) .
قال: حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية، ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه) .
قال: (وقوله {لا تبديل لخلق الله} : يقول: لا تغيير لدين الله، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل) .
ثم ذكر بإسناده الصحيح عن (ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لا(8/374)
تبديل لخلق الله.
قال: لدين الله) .
وروي عن (عبد الله بن إدريس، عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرمة، يسأله عن قول: {لا تبديل لخلق الله} ، فقال عكرمة: هو الخصاء.
فرجع إلى مجاهد فقال: أخطأ، لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين، ثم قرأ: {لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} ) .
وروي عن (وكيع، عن نصر بن عربي، عن عكرمة: لا تبديل لخلق الله: لدين الله) .
وروي أيضاً عن (حسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة: فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال: الإسلام، وكذلك روي (عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال: لدين الله) .
وروي (عن سعيد، عن قتادة: {لا تبديل لخلق الله} : أي لدين الله) .(8/375)
وكذلك روي (عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال سعيد بن جبير: {لا تبديل لخلق الله} ، قال: لدين الله) .
وكذلك عن (المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله {لا تبديل لخلق الله} ، قال: دين الله) .
وكذلك عن (وكيع، عن سفيان الثوري، ومسعر، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم النخعي: {لا تبديل لخلق الله} ، قال: دين الله) .
وكذلك عن (مغيرة، عن إبراهيم قال: لدين الله) .
وعن (عمرو بن أبي سلمة، سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} .
قال: لدين الله) .
وروي أيضاً عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه،(8/376)
وقال: لا تبديل لخلق الله.
وعن حميد الأعرج قال: قال عكرمة: الإخصاء، وعن حفص بن غياث، عن ليث، عن مجاهد قال: الإخصاء) .
تعليق ابن تيمية
قلت: مجاهد وعكرمة: روي عنهما القولان، إذ لا منافاة بينهما، كما قال تعالى: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} ، فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه، والخصاء وقطع الأذن أيضاً تغيير لخلقه.
ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» .
فأولئك يغيرون الدين، وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء، هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه، وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه.
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد، صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة.
فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام، والله لا يضل أحداً، ولكن أبواه يضلانه.
الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
والحديث حجة عليهم من وجهين:(8/377)
أحدهما: أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين: لم يولد أحد على الإسلام أصلاً، ولا جعل الله أحداً مسلماً ولا كافراً، ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر، وهذا أحدث لنفسه الإسلام، والله لم يفعل واحداً منهما عندهم، بلا نزاع بين القدرية، ولكن هو دعاهما إلى الأسلام، وأزاح علتهما، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان، فإن ذلك عندهم غير مقدور، ولو كان مقدوراً لكان ظلماً، وهذا قول عامة المعتزلة.
وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول: إنه خص المؤمن بداعي الإيمان، ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان، فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة، فهذا أحد الوجهين.
الثاني: أنهم يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فيستحيل.
أن تكون المعرفة عندهم ضرورية، أو تكون من فعل الله تعالى.
وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة، هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين؟ أو يغيرونها فيصيرون كفاراً؟.
وإن احتجت القدرية بقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم: أنتم(8/378)
تقولون: إنه لا يقدر: لا الله ولا أحد من مخلوقاته، على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك، بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما، فحينئذ لا حجة لكم في قوله: «فأبواه يهودانه» ...
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد.
فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك: دعوة الأبوين لهما إلى ذلك، وترغيبهما فيه، وتربيتهما عليه، ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه، وذكر الأبوين بناءً على الغالب، إذ لكل طفل أبوان، وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين، وقد يقع من غير الأبوين حقيقةً وحكماً.
عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور، قال: قال ابن المبارك: يفسره آخر الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر عن ابن المبارك، لم يزد شيئاً.(8/379)
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: (كان هذا القول عن صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد) .
هذا ما ذكره أبو عبيد.
قال ابن عبد البر: (أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان، أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل) .
قال: (وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن، فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه: إما لإشكاله عليه، أو لجهلة به، أولما شاء الله.
وأما قوله: إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا.
فإن كان أراد أن ذلك(8/380)
منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله، لأن المخبر بشيء، كان أو يكون، إذا رجع عن ذلك، لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطة فيما أخبر به، أو نسيانه.
وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه.
وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم، فقف عليه، فإنه أمر جسيم من أصول الدين.
وقول محمد بن الحسن: إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال، لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد) .
وروي بإسناده (عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ فقال رجل: أو ليس إنما هو أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه، ويهوده أبواه أو ينصرانه» .(8/381)
قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم بكر المزني، والعلاء بن زياد، والسري بن يحيى.
وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع، قال: وهو حديث بصري صحيح.
قال: وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب، «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة.
فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» .
قلت: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك، فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار.
فلا يحتج بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة) .
على نفي القدر كما احتجت به القدرية، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث.
وأما قوله محمد، فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا، فيحكم له بحكم الكفر في(8/382)
أنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم، وهذا حق.
لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين، فقال: هذا منسوخ، كان قبل الجهاد، لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يسترق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية، أمر ما زال مشروعاً، وما زال الأطفال تبعاً لأبويهم في الأمور الدنيوية.
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة.
وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك.
فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده.
فإن الله تعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئاً بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض.(8/383)
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه.
وهذا من قوله تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ، وقوله: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} ، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئاً فشيئاً بحسب حاجته.
ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.
قال ابن عبد البر: (وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: (كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة) يريد خلقةً مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك) .(8/384)
قالوا: (لأن الفاطر هو الخالق) .
قال: (وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار) .
قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف.
فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفاً، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته، حتى يسأل عمن مات صغيراً.
ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير.
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين.
قال: أليس خياركم أولدا المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل.
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.(8/385)
قال: (وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم) .
(قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة.
والفاطر المبدىء والمبتدىء، فكأنه قال: صلى الله عليه وسلم: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة، وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه.
واحتجوا بقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} .
وروي بإسناده إلى (ابن عباس قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا(8/386)
فطرتها، أي ابتدأئتها) .... (وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها) .
قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه.
ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها.
والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها.
وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقاً على الفطرة.
وأيضاً فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، على هذا القول، فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ، وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الصنائع، فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم.
وأيضاً فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه.
وأيضاً فقوله: (على هذه الملة) ، وقوله: (إني خلقت(8/387)
عبادي حنفاء) يخالف هذا.
وأيضاً فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنه من حين كان جنيناً إلى ما لا نهاية له من أحواله، على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.
وقد ثبت في الصحيح أنه: قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة، لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
قال ابن عبد البر: (قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين.(8/388)
قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.
قال ابن عبد البر: ما رسمه مالك في موطأه، وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا) .
قلت: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر، كما في الحديث الآخر: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) والطبع الكتاب، أي كتب كافراً كما قال: (فيكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) ، وليس إذا كان الله قد كتبه كافراً، يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء، وقد سبق في عمله أنها تجدع، كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة، لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له، يدل على أنه الفطرة عنده:(8/389)
الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه، فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإن كانوا معهما فهم على دينهما، وإن سبوا مع أحدهما، فعنه روايتان، وكان يحتج بالحديث.
كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل: (أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغاراً، وإن كانوا مع أحد الأبوين.
وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» ....
قال: وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبوية: إنهم يجبرونه على الإسلام) .
قال: (ونحن لا نذهب إلى هذا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه» ....(8/390)
قال الخلال: أنبأ عبد الملك الميموني قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال: إذا مات صلى عليه المسلمون.
قلت: يكره على الإسلام؟
قال: إذا كانوا صغاراً يصلون عليه أكره من يليه إلا هم، وحكمه حكمهم.
قلت: فإنه كان معه أبواه؟ قال: إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره، ودينه على دين أبويه.
قلت: إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» :
حتى يكون أبواه؟ قال: نعم.
قال: وعمر بن عبد العزيز نادى به؟ قال: فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم.
قلت: في الحديث كان معه أبواه؟ قال: لا، وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه) .(8/391)
قال الخلال: (ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله) .... (ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم.
قلت: لا يجبرون على الإسلام، إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟ قال: نعم) .
قال الخلال: (وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم.
وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس، وبعضهم قبل وبعد، والذي أذهب إليه: ما رواه الجماعة) .
وقال الخلال: (ثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط، فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته، ويدعا طفلين ولهما عم، ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها، وقالوا:(8/392)
إنهم قد كتبوا إليك.
فقال: أكره أن أقول فيها برأي.
دع حتى أنظر، لعل فيها عمن تقدم.
فلما كان بعد شهر عاودته، فقال: قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه وينصرانه....) ، هذا ليس له أبوان.
قلت: يجبر على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون، لقول النبي صلى الله عليه وسلم) ...
(وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال: قال أبو عبد الله: الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام، وذكر الحديث: «فأبواه يهودانه وينصرانه» ....
(ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان: هذا مسلم فيمكث خمس سنين، ثم يتوفى؟ قال: ذاك يدفنه المسلمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» ....
(وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من(8/393)
قوم، على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم، وما كان من أنثى فهي مشركة: يهودية أو نصرانية أو مجوسية؟ فقال: يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام، لأن آباءهم مسلمون.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» يردون كلهم إلى الإسلام) .
ومثل هذا كثير في أجوبته، يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافراً بأبويه، فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة: الإسلام، لم يكن بعدم أبويه يصير مسلماً، فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة.
ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.
قال الخلال: (أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه، معناه: أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغاراً؟ فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا.
فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول، وبما يكون بقوله.
قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها، وإلى أي شيء تذهب؟ قال: إيش أقول(8/394)
أنا؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى، ثم قال لي: والذي يقول: كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضاً إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها.
قلت له: فما الفطرة الأولى: هي الدين؟ قال لي: نعم.
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» .
قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرف قولك؟ قال: أقول: (إنه على الفطرة الأولى) .
فجوابه: أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام.
وأما جواب أحمد: أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة، الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه، فقال الخلال: (أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة، ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شقي أو سعيد) .(8/395)
وكذلك نقل عنه (الفضل بن زياد، وحنبل، وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة، قال: (الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة) .
وكذلك نقل: (عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة.
قال: على الشقاء والسعادة، فإليه يرجع على ما خلق) .
(وعن الحسن بن ثواب قال: سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين.
قلت: إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال: هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه، فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب، ارفع ذلك إلى الأصل.
هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة) .(8/396)
تعليق ابن تيمية
قلت: وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال، فكان أحمد يقف فيه، تارة يقف عن الجواب، وتارة يردهم إلى العلم، كقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وهذا أحسن جوابيه، كما، نقل محمد بن الحكم عنه، وسأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
ونقل عنه (أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين.
فقال: كان ابن عباس يقول: (فأبواه يهودانه وينصرانه) ، حتى سمع: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
فترك قوله.
قال أحمد: (وهي صحاح، ومخرجها كلها صحاح.
وكان الزهري يقول: من الحديث ما يحدث بها على وجوهها) .
وأما توقف أحمد في الجواب، (فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله: فأبواه يهودانه وينصرانه.
قال: الشأن في هذا، وقد اختلف الناس، ولم نقف منها على شيء أعرفه) .
وقال الخلال: (رأيت في كتاب لهارون المستملي، قال أبو عبد الله: إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم، فإنه أصل كل(8/397)
خصومه، ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به، قال: ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت، ونسكت، لا نقول شيئاً) .
(قال المروزي: قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين، فصاح به وقال: يا صبي، أنت تسأل عن هذا؟!) .
وكذلك نقل خطاب بن بشر، وحنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا، فنهاه، ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال: هم في النار.
ولكن طائفة من أتباعه، كالقاضي أبي يعلى وغيره، لما سمعوا جوابه بأنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي «عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها من غيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم في النار.
فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» .
فظن هؤلاء أن، أحمد أجاب بحديث خديجة، وهذا غلط على أحمد.
فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد، فضلاً عن الإمام أحمد.(8/398)
وأحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح، حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وهو في الصحيحين «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} » .
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين.
فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا، بعد أن كان يقول: هم مع آبائهم.
فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم.
وأبو هريرة نفسه، الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ثبت عنه ما رواه غير واحد، منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره، من حديث عبد الرازق: أنبأ معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه عن أبي هريرة قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسولاً: أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم يأتنا رسل؟ قال: وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل(8/399)